التفسير
بين أهل السُّنة والشيعة الاثني عشرية
إعداد:
السيد مختار
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } (1) , {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } (2) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } (3) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (4) { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (5)
__________
(1) - سورة الكهف:الآيتان 1-2
(2) - سورة الفرقان:الآية 1
(3) - سورة البقرة: الآية 2
(4) - سورة فصلت: الآية 42
(5) - سورة يوسف: الآية 111(1/1)
وبعد: لقد منَّ الله تعالى على الأمة المحمدية بأن أنزل عليهم القرآن الكريم أعظم كتبه والمهيمن عليها, وهو المصدر الأساسي لهذا الدين والنبع الصافي الذي تستمد منه الأمة منهجها وقوتها وحياتها وقوامها ووحدتها,ولقد سطرت القرون الثلاثة المفضلة الأولى من هذه الأمة أنصع صفحات التاريخ لقوة ارتباطهم وتمسكهم بهذا الكتاب الخالد.حتى حار أعداء الإسلام في قوة هذا الدين وقوة أتباعه الذين أزالوا أعظم امبراطوريتين وقتها:الروم والفرس , وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا القضاء على هذا الدين بقوة السلاح بعدما باءت محاولاتهم العسكرية بالفشل , لِما يتمتع به المسلمون من قوة الإيمان والتضحية في سبيل هذا الدين القويم, فلجأ هؤلاء الأعداء إلى محاربة هذا الدين بطريقة أخرى أنجع فائدة وأقل خسارة, وذلك بأن يدعي بعضهم الإسلام في الظاهر ثم ينخر في جسد الأمة كالسوس, ونشطت حركة هؤلاء الأدعياء في البلاد الإسلامية النائية عن العلم والعلماء, إذ كل دعوة هدّامة لا تفرخ إلا في البيئات الجاهلة التي حُرم أهلُها نورَ العلم الذي يطفيء كل فتنة, وادّعى كثير من هؤلاء التشيع لأهل البيت رضي الله عنهم, واندس في شيعتهم, لا حبًا لأهل البيت , وإنما بغضًا وحقدًا على الإسلام وأهله, ورغبة في القضاء عليه بعدما تهاوت أمامه امبراطوريات الكفر التي نشأ فيها معظم هؤلاء, وقد نجح هؤلاء الأدعياء في بعض أهدافهم, وشقوا عصا المسلمين, وساعدهم على ذلك أنهم خرجوا في حين فرقة بين المسلمين, ودائمًا في وقت الحروب والخلافات يجد أصحاب الدعوات الهدامة فرصةً سانحة لترويج أفكارهم, وقد وضعوا ألاف الأحاديث والآثار المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الأطهار لترويج أفكارهم التي أدت إلى انحراف أكثر الشيعة عن الجادة وعن المذهب الحقيقي لأهل البيت - رضي الله عنهم - الذي يزعمون الانتماء إليه.(1/2)
وفي عصرنا قد وجد العدو المتربص بالأمة في هذه الفِرقة وغيرها من الفرق الأخرى الخارجة عن سبيل الحق، وسيلة لإيقاع الفتنة في الأمة، وتمزيق شملها, واستباحة بَيْضتها, وهو يعد التقارير التي تهتم أبلغ الاهتمام بتاريخ وعقائد تلك الطوائف والفرق المختلفة, ويستثمر ذلك للوقوف في وجه الصحوة الإسلامية المتنامية التي يخشاها، ولذا فهو يغذي بعض هذه الطوائف، ويهيئ الوسائل لوصولها للقيادة والتوجيه لتخدم أغراضه .ولا شك أن بيان الحق في أمر هذه الفِرق فيه تفويت للفرصة أمام العدو لتوسيع رقعة الخلاف بين المسلمين .
وهذا البحث محاولةٌ منا لبيان أثر ما وضعه الكذابون- المنتسبون للشيعة والمدسوسون بينهم - من آثار وآراء في تفسير آيات الكتاب الحكيم فرَّقوا بها الأمة مخالفين بذلك المعنى الصحيح لهذه الآيات. وبيان كيف أن غلاة الشيعة تأثروا بذلك فقاموا بليّ عنق الآيات وتأويلها على غير معناها لتوافق هذه المرويات , وليقرروا بذلك معتقداتهم التي خالفوا فيها عامة المسلمين بما فيهم الشيعة الزيدية. ولقد صار مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مأوىً لأفكار ومعتقدات هؤلاء الغلاة بل صاروا أرباب المذهب خاصة بعد أن قامت لهم بعض الدول-على ندرتها- على مر العصور, وخفتت في المقابل أصوات القلة المعتدلة التى أرادت تنقية المذهب مما لصق به, وسنحاول بإذن الله تعالى بيان منهج أهل السنة في تفسير كتاب الله تعالى ومنهج الشيعة الاثنى عشرية في التفسير والرد على الشبه التي أوردوها, وذلك لبيان الحق من الباطل, ليتضح لكل منصفٍ يريد الحق ضعف حجتهم وزيف ما تمسكوا به . وفي بيان الحق زوال للشبهة واضمحلال للفُرقة و في اتباعه اجتماع للكلمة وتوحيد للأمة.
ورأيت أن أذكر- فيما بين يدي البحث - بعض ما يفيد و يعين على فهم ومعرفة ما في هذا البحث, ثم أقسم البحث إلى ثلاثة أقسام :
الأول: القرآن بين أهل السنة والشيعة الإمامية الاثنى عشرية.(1/3)
الثاني: التفسير بين أهل السنة والشيعة الإمامية الاثنى عشرية.
الثالث: أمثلة من التفسير لبعض الآيات التي بنى عليها الشيعة الإمامية الاثنى عشرية أحكامًا وعقائد خالفوا بها سائر المسلمين و تفسير أهل السنة لها.
هذا. وقد حرصت على أن يكون ما أنقله في هذا البحث من المصادر الموثوقة عند أصحابها من الفريقين, إذ من الإنصاف أن ننقل ما يدل على آراء وأفكار كل طائفة من كتبها الخاصة بها لا من كتب المخالفين لها, ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
بقلم
السيد مختار
بين يدي البحث
أولاً: معني السنة والشيعة في القرآن:
1- السنة تأتي في القرآن بمعني الطريقة كما قال تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }{الأحزاب:62}
وقال تعالى:{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً }{الإسراء:77}
ومعناها في اللغة أيضًا:الطريقة. قال لبيد:
من معشر سنَّتْ لهم آباؤهم....... لكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامها.
وعلى ذلك فسنة النبي هي طريقته التي مهدها للمسلمين ليسيروا عليها في دينهم.
وأما التعريف الاصطلاحي للسنة هو:"ما أُثر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير" وأضاف بعضهم صفاته الخَلقية والخُلُقية, (1) وأخذ الشيعة نفس التعريف من أهل السنة وغيروا فيه كلمة واحدة فقالوا: السنة ما أثر عن المعصوم من قول أو فعل أو تقرير, (2) وإنما ذكروا كلمة (المعصوم) بدلاً من كلمة (النبي) ليدخل بذلك في التعريف عندهم الأئمةُ الاثنى عشر إذ يدعون لهم العصمة.
__________
(1) -د.محمد أبو زهو/الحديث والمحدثون ص11:, د. محمد سليمان الأشقر/الواضح في أصول الفقه ص:87
(2) - أبو الفضل حافظيان البابلي/ رسائل في دراسة الحديث(1/126)- السيد حسن الصدر/نهاية الدراية ص:187(1/4)
2- الشيعة ، والتشيع ، والمشايعة في القرآن- وكذا في اللغة- تدور حول معنى المتابعة، والمناصرة، والموافقة بالرأي، والاجتماع على الأمر، أو الممالأة عليه. كما في قوله تعالى:{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ }{الصافات:83} فإبراهيم من شيعة نوح ويتابعه على منهجه.وقال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}{ القصص:15}أي استغاثه الإسرائيلي الذي من أنصاره وعلى دينه على الفرعوني الذي هو عدوه.
وقد جاءت بمعنى الطائفة أو الفرقة المجتمعة على رأيٍ ما أو دينٍ ما, كما في قوله تعالى:{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً }{مريم:69} وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}{الأنعام:159}.
ثانيًا: في الأحداث التاريخية في صدر الإسلام وردت لفظ الشيعة بمعناها اللغوي الصرف، وهو المناصرة والمتابعة، بل إننا نجد في وثيقة التحكيم بين الخليفة عليّ، ومعاوية - رضي الله عنهما - ورود لفظ الشيعة بهذا المعنى، حيث أطلق على أتباع عليّ شيعة، كما أطلق على أتباع معاوية شيعة، ولم يختص لفظ الشيعة بأتباع عليّ.
ومما جاء في صحيفة التحكيم : "هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما...... (ومنها): وأن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص. (1)
ثالثًا: والوقائع التاريخية تقول بأن لقب الشيعة لم يختص إطلاقه على أتباع عليّ إلا بعد مقتل عليّ - رضي الله عنه - كما يرى البعض (2) ، أو بعد مقتل الحسين كما يرى آخرون .
__________
(1) - الدينوري/ الأخبار الطوال ص: 194-196 ، وانظر: تاريخ الطبري: (5/53 – 54), وانظر أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية(1/38-39)
(2) - محمد أبو زهرة/ الميراث عند الجعفرية ص: 22(1/5)
يقول المسعودي (1) : وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة في الكوفة وتكونت حركة التوابين، ثم حركة المحتار (الكيسانية) وبدأت الشيعة تتكون وتضع أصول مذهبها.. وأخذت تتميز بهذا الاسم.
* ونستطيع القول أن الشيعة- شيعة علي رضي الله عنه- في بداية الأمر كانوا يُعرفون بالورع والاجتهاد، وكانوا يحبون أول الأمة،ويعرفون فضائلهم و قدرهم, فهذا شريك بن عبد الله حينما سأله سائل: أيهما أفضل أبو بكر أو عليّ؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي! فقال له: نعم من لم يقل هذا فليس شيعياً، والله لقد رقي هذه الأعواد عليٌّ رضي الله عنه ، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟والله ما كان كذاباً (2) .فانظر كيف نفى شريك التشيع عن من يخالف عليًا رضي الله عنه في تفضيل أبي بكر على غيره.
وفي كتب الشيعة:قال أبو عبد الله (جعفر الصادق) عليه السلام: "ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع والأمانة" (3) . وقال أبو جعفر: "لا تذهب بكم المذاهب فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل" (4)
__________
(1) - مروج الذهب ( 3/100)
(2) - ابن تيمية/منهاج السنة: (2/86 ) تحقيق د. محمد رشاد سالم
(3) - سفينة البحار: (1/733 )
(4) - أصول الكافي: (1/73 )(1/6)
وفي رواية جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال ، قال لي : ( يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت ؟ فوالله ما شيعتنا الا من اتقى الله و أطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر الا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدين ، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة ) إلى أن قال : ( يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تعالى إلا بالطاعة, وما معنا براءةٌ من النار, ولا على الله لأحدٍ من حجة, من كان لله مطيعًا ، فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصيًا ، فهو لنا عدو, وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع ) (1) .
فهؤلاء الشيعة كان دينهم هو التقوى لا التقية، والولاية لله الحق، لنبيه، لأهل بيته، ولصحبه، وللمؤمنين والمؤمنات كافة. أما أولئك الغلاة الذين دينهم التقية والنفاق وعداوة الصحابة وبغض بعض آل البيت والغلو في البعض الآخر فليسوا بشيعة بشهادة من تعتبرهم الشيعة أئمتها، ولهذا سماهم الإمام زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه بالرافضة، لا الشيعة.
رابعًا: روى أحمد وأبو يعلى (2) : عن علي رضي الله عنه قال: يهلك فيّ رجلان : مُحِبٌ مُطرٍ يفرط لي بما ليس في, ومبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني". فهذا الكلام يؤيد ما انقسم إليه الناس بشأن علي رضي الله عنه فقد انقسموا إلى طرفين متناقضين هالكين, ووسط على الحق. فالطرفان الهالكان هما:
__________
(1) - الكافي( 2 /74-75) ، الوسائل ( 11/ 184 )
(2) - رواه أحمد(1/160)/مسند علي( رقم1376 ) وأبو يعلى الموصلي(1/406)/مسند علي( رقم534 ) , مصنف ابن أبي شيبة (6/374- برقم 32134 )
* تنبيه: كثيرًا ما يكون الحديث مرويًا في أكثر من كتاب من كتب الحديث عند أهل السنة فأكتفي بالعزو لبعضها. وقد يكون للحديث أكثر من طريق أو رواية في الكتاب الواحد فأكتفي بذكر إحداها.(1/7)
الأول:بالغ في حبه وأفرط فيه بما ليس فيه وهم الرافضة, فزعموا أنه معصوم وأن عنده علم الأنبياء ,وعنده كل الكتب السابقة, بل منهم من رفعه فوق الأنبياء بل ادعوا أنه يعلم الغيب وأنه يأتي يوم القيامة فيدخل شيعته الجنة وأعداءه النار. ثم سحبوا هذه الصفات على أئمتهم من بعده. بل بلغ غلوهم أن قال الخوميني في كتابه (الحكومة الإسلامية ) (1) :فإن للإمام-أي:من الأئمة الاثنى عشر- مقامًا محمودًا ودرجةً ساميةً, وخلافةً تكوينيةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون, وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل.أهـ وفي أصول الكافي:عن أبي بصير عن أبي عبد الله (جعفر الصادق) قال: إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وَ عِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا وَ اللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ, قَال:َ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ, قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيُّ شَيْ ءٍ الْعِلْمُ ؟قَالَ: مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ, الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ, وَ الشَّيْ ءُ بَعْدَ الشَّيْ ءِ, إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (2) .
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ص 75,
(2) - أصول الكافي (1/240) وهذا منافٍ لقول الله تعالى:{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ }[النمل:65 ] وغير ذلك من الآيات الكثيرة.بل إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}[الأنعام:50] وقال {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [الأعراف:188 ](1/8)
الثاني: نقيض الأول وهم المبغضون له, وهم فريقان:أولهما الخوارج الذين خرجوا عليه وقاتلوه, بل وكفروه , وثانيهما النواصب الذين ناصبوه وأهل بيته العداء, وكان غالب ذلك بسبب السياسة والإمارة, مثل كثير من أمراء بني أمية وبني العباس ومن تابعهم على ذلك.
أما أهل السنة والجماعة فكانوا وسطًا بين المفرطين في الحب والبغض, فهم يحبون عليًا رضي الله عنه, ويتولونه, فهو من كبار الصحابة ومن الخلفاء الراشدين, ولكن لا يرفعونه فوق قدره. ويتبرأون ممن يبغضه, وممن يغالي فيه.
خامسًا:انحصرت طوائف الشيعة وفرقها الكثيرة - في زماننا - في ثلاث طوائف فقط وهم (1) :
1- الزيدية : وهم أقل طوائف الشيعة الثلاث عددًا الآن, وأكثرهم يسكنون اليمن, وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, وسُموا بالزيدية نسبة إليه وقد افترقوا عن الإمامية حينما سئل زيد عن أبي بكر وعمر فترضى عنهما فرفضه قوم فسموا رافضة.. وسُمي من لم يرفضه من الشيعة زيدية لاتباعهم له, وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين بعد المائة (2) .
__________
(1) -أنظر:د.ناصر بن عبد الله القفاري/أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية(1/96-97)
(2) - منهاج السنة( 1/35 ) ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري(1/136-137)(1/9)
والزيدية يوافقون المعتزلة في العقائد وهم فرق: منهم من يقترب من أهل السنة كثيراً وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي الفقيه القائلون بأن الإمامة في ولد علي – رضي الله عنه -، ويقول ابن حزم: "إن الثابت عن الحسن بن صالح هو أن الإمامة في جميع قريش، ويتولون جميع الصحابة إلا أنهم يفضلون علياً على جميعهم". (1) ومنهم من لم يحمل من الانتساب إلى زيد إلا الاسم وهم الجارودية أتباع أبي الجارود وهم روافض في الحقيقة يقولون: إن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غير عليّ (2) .
__________
(1) - انظر: ابن حزم/ الفصل ( 2/266 )
(2) -و قال السيد البجنوردي(من الشيعة) في كتابه القواعد الفقهية(5/65) :
إن أبا الجارود: زياد بن منذر زيدي ينسب إليه الجارودية وسُمى سرحوبًا, وسماه بذلك أبو جعفر عليه السلام, وسرحوب: اسم شيطان أعمى يسكن البحر, وكان أبو الجارود مكفوفًا أعمى القلب ، هكذا ذكره العلامة قدس سره في الخلاصة , وقد قيل في حقه أنه كان كذابا كافرًا "أهـ – وقد ذكره ابن عراق في الوضاعين وقال: زياد بن المنذر أبو الجارود عن أبى الطفيل وغيره. قال ابن حبان: رافضى يضع المثالب والمناقب ".أهـ تنزيه الشريعة(1/60)لابن عراق.ط:دار الكتب العلمية.(1/10)
2- الإسماعيلية : وهم من الشيعة الإمامية ولكنهم قالوا: الإمام بعد جعفر هو إسماعيل بن جعفر، ثم قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنكروا إمامة سائر ولد جعفر، ومن الإسماعيلية انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم، وللإسماعيلية فرق متعددة وألقاب كثيرة تختلف باختلاف البلدان , ومذهبهم فهو كما يقول الغزالي وغيره: "إنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض". أو كما يقول ابن الجوزي: "فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث"، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم. ولهم مراتب في الدعوة، وحقيقة المذهب لا تعطى إلا لمن وصل إلى الدرجة الأخيرة، وقد اطلع على أحوالهم وكشف أستارهم جملة من أهل العلم كالبغدادي الذي اطلع على كتاب لهم يسمى: "السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأكبر" ورأى من خلاله أنهم دهرية زنادقة يتسترون بالتشيع، والحمادي اليماني الذي اندس بينهم وعرف حالهم وبين ذلك في كتابه: "كشف أسرار الباطنية" ، وابن النديم الذي اطلع على "البلاغات السبعة" لهم وقرأ البلاغ السابع ورأى فيه أمراً عظيماً من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها.. وغيرهم، ولهم نشاطهم اليوم، كما لهم كتبهم السرية. قال أحدهم: "إن لنا كتباً لا يقف على قراءتها غيرنا ولا يطلع على حقائقها سوانا" (1)
__________
(1) - مصطفى غالب/ الحركات الباطنية في الإسلام: ص 67، وانظر: أبو حاتم الرازي الإسماعيلي/ الزينة: ص 287 «ضمن كتاب الغلو والفرق الغالية»، ابن الجوزي/ تلبيس إبليس: ص 99 , فضائح الباطنية للغزالي ص:37 , أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ص:97(1/11)
3- الاثنى عشرية: وهي أكبر الطوائف اليوم، وهم جمهور الشيعة فهم يزيدون عن 120 مليونًا أي نحو 75% من شيعة العالم,بحيث إذا اطلق لفظ الشيعة حاليًا فإنما يعنيهم, وكذلك إذا أطلق لفظ الشيعة الجعفرية أو الإمامية أو الرافضة.وأكثرهم يسكنون إيران والعراق وبعض المناطق من البلاد المجاورة لهما ,والحق أن مصادر الاثنى عشرية في الحديث والرواية قد استوعبت معظم آراء الفرق الشيعية المختلفة التي خرجت في فترات التاريخ المختلفة,إن لم يكن كلها, فأصبحت هذه الطائفة هي الوجه المعبر عن الفرق الشيعية الأخرى.
وظهور اسم (الاثنى عشرية) كان بلا شك بعد ميلاد فكرة الأئمة الاثنى عشر، والتي حدثت بعد وفاة الحسن العسكري-إمامهم الحادي عشر- الذي توفي سنة260ه, ,حيث أنه قبل وفاة الحسن لم يكن أحد يقول بإمامة المنتظر- إمامهم الثاني عشر- ولا عرف من زمن علي رضي الله عنه ودولة بني أمية أحدٌ ادعى إمامة الاثنى عشر .ومن المعلوم أن الحسن العسكري لم ينجب (1) فادعى بعض الكذبة أنه أنجب طفلاً قبل موته بخمس سنوات,واسمه محمد وهو الملقب بالمهدي المنتظر أو القائم أو الإمام الغائب.
وفيما يلي بيان بأسماء الأئمة الاثنى عشر عندهم وألقابهم، وكناهم،وسنة ميلاد كل إمام ووفاته:
م ... اسم الإمام ... كنيته ... لقبه ... سنة ميلاده ووفاته
2 ... علي بن أبي طالب ... أبو الحسن ... المرتضى ... 23 قبل الهجرة، 40 بعد الهجرة
3 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... الزكي ... 2-50هـ
4 ... الحسين بن علي ... أبو عبدالله ... الشهيد ... 3-61هـ
5 ... علي بن الحسين ... أبو محمد ... زين العابدين ... 38-95هـ
6 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الباقر ... 57-114هـ
7 ... جعفر بن محمد ... ابو عبدالله ... الصادق ... 83-148هـ
8 ... موسى بن جعفر ... أبو إبراهيم ... الكاظم ... 128-183هـ
9 ... علي بن موسى ... أبو الحسن ... الرضا ... 148-203هـ
10 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الجواد ... 195-220هـ
11 ... علي بن محمد ... أبو الحسن ... الهادي ... 212-254هـ
12 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... العسكري ... 232-260هـ
__________
(1) - انظر:منهاج السنة: ( 4/87 )(1/12)
محمد بن الحسن ... أبو القاسم ... المهدي ... يزعمون أنه ولد سنة 255أو256هـ وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ ، وغيبة كبرى سنة 329هـ ويقولون بحياته إلى اليوم. وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً .
سادسًا: سبب التسمية بالرافضة:
يقول أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر" (1)
وخطَّأ ابن تيمية هذا القول وذكر أن الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك" (2) . وهذا الرأي لابن تيمية يعود لرأي الأشعري، لأنهم ما رفضوا زيداً إلا لما أظهر مقالته في الشيخين وإقراره بالخلافة لهما.وإنما رجح ابن تيمية رأيَّه مراعاةً للتاريخ.
وقد جاءت بعض الأحاديث بتسميتهم بالرافضة وضعف كثير من العلماء أسانيدها, ولكن أخرج الطبراني(رقم 12998) - بإسناد حسن كما يقول الهيثمي - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حبنا أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، قاتلوهم فإنهم مشركون" (3)
وروى أبو يعلى في مسنده(6749) بسنده عن محمد بن عمرو الهاشمي عن زينب بنت عليٍّ عن فاطمة بنت محمد رضي الله عنها قالت : نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عليٍّ فقال : هذا في الجنة, وإن من شيعته قومًا يعلمون الإسلام, ثم يرفضونه, لهم نبز, يسمون الرافضة, من لقيهم فليقتلهم فإنهم مشركون (4) ".
__________
(1) - أبو الحسن الأشعري/ مقالات الإسلاميين: ( 1/89)
(2) - ابن تيمية/منهاج السنة: (1/34-35 (
(3) - - مجموع الزوائد: (10/22)، وانظر الحديث في المعجم الكبير للطبراني: ( 12/242)، و في إسناده الحجاج بن تميم وهو ضعيف (انظر: تقريب التهذيب:1/152)
(4) - مسند أبي يعلى(12/116). وقال محققه حسين سليم: إسناده صحيح.(1/13)
وقد نبَّه الإمام ابن تيمية إلى كذب الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة (1) ، لأن اسم الرافضة لم يعرف إلا في القرن الثاني، و هذا لا يكفي في الحكم بكذب الأحاديث، إذ لو صحت أسانيدها لكانت من باب الإخبار بما سيقع في المستقبل ، ويكون قد أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما سيكون من ظهور الروافض، كما أوحى الله إليه بشأن ظهور فرقة الخوارج .
وفي كتب الشيعة: أن الله هو الذي سماهم بهذا الاسم, فقد جاء بعضهم إلى أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه، فقالوا له:(إنا قد نُبِزنا نَبزًا أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا، واستحلت له الولاةُ دماءَنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قالوا: نعم، فقال: لا والله ما هم سموكم . ولكن الله سماكم به) (2) .
ومن الطريف أنهم أرادوا تحسين اسم الرافضة الذي وصفهم به أهل السنة والشيعة الزيدية فوضعوا في ذلك خبرًا يبيّن أن أول من سُمِّي به سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام: ففي التفسير المنسوب إلى الإمام أبي الحسن العسكري (3)
__________
(1) - منهاج السنة: ( 1/36)
(2) - الكافي: ( 5/34 )
(3) - تفسير العسكري : ص 310 – 312(1/14)
قال: وقيل للصادق عليه السلام : إن عمارًا الدهني شهد اليوم عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادة ، فقال له القاضي : قم يا عمار فقد عرفناك . لا تقبل شهادتك ، لأنك رافضي . فقام عمار وقد ارتعدت فرائصه ، واستفرغه البكاء . فقال له ابن أبي ليلى : أنت رجل من أهل العلم والحديث ، إن كان يسوءك أن يقال لك " رافضي " فتبرأ من الرفض ، فأنت من إخواننا . فقال له عمار : يا هذا ما ذهبت والله حيث ذهبت ، ولكني بكيت عليك وعلي : أما بكائي على نفسي فإنك نسبتني إلى رتبة شريفة لست من أهلها ، زعمت أني رافضي ، ويحك لقد حدثني الصادق عليه السلام " أن أول من سمي الرافضة: السحرة الذين لما شاهدوا آية موسى عليه السلام في عصاه آمنوا به , ورضوا به , واتبعوه ورفضوا أمر فرعون ، واستسلموا لكل ما نزل بهم ، فسماهم فرعون الرافضة لما رفضوا دينه " . فالرافضي من رفض كلَّ ما كرهه الله تعالى, وفعل كل ما أمره الله ، فأين في الزمان مثل هذا ؟ فإنما بكيت على نفسي خشية أن يطلع الله تعالى على قلبي ، وقد تقبلت هذا الاسم الشريف على نفسي ، فيعاتبني ربي عز وجل ويقول : يا عمار أكنت رافضًا للأباطيل ، عاملاً للطاعات كما قال لك ؟ فيكون ذلك تقصيرًا بي في الدرجات إن سامحني ، وموجبًا لشديد العقاب علي إن ناقشني ، إلا أن يتداركني مواليّ بشفاعتهم . وأما بكائي عليك ، فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي ، وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله تعالى أن صرفت أشرف الأسماء إلى أن جعلته من أرذلها كيف يصبر بذلك على عذاب الله ، وعذاب كلمتك هذه ؟ ! فقال الصادق عليه السلام : لو أن على عمار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين لمحيت عنه بهذه الكلمات : وإنها لتزيد في حسناته عند ربه عز وجل حتى يجعل كل خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرة.أهـ(1/15)
سابعًا: قد تجد فيما ننقله من بعض تفاسيرهم ,بل وفي أشهر كتب الأصول والفروع المعتمدة عندهم, من الروايات ما لا يخفى كذبها على كل ذي فطرة سليمة ,ويستنكرها كل عاقل, مما يؤكد استحالة صدورها عن أهل البيت رضي الله عنهم , وهذا يؤكد صدق قول علماء الجرح والتعديل من أهل السنة: إن الشيعة الروافض هم من أكذب الناس على الرجال, وخاصة على أئمتهم.
قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول :قال أشهب بن عبد العزيز سئل مالك رحمه الله عن الرافضة فقال: لا تكلمهم ولا تروي عنهم فإنهم يكذبون.
وقال أبو حاتم الرازي حدثنا حرملة قال سمعت الشافعي رحمه الله يقول: لم أرَ أحدا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن أهاب سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعيةً إلاّ الرافضة فإنهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكًا- هو شريك بن عبد الله قاضي الكوفة- يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا.
وقال معاوية سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين. يعني أصحاب المغيرة بن سعيد الرافضي الكاذب (1) .
بل من تتبع ترجمة كثير من رواتهم في كتب الرجال عندهم كرجال الكشي والحلي وغيرهما, وجدهم مجروحين عندهم. حتى أنه قد ورد في رجال الكشي:عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (ما أنزل الله سبحانه آية في المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع) (2) .وقال: (إن ممن ينتحل هذا الأمر لمن هو شرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا) (3)
__________
(1) - أنظر هذه الأقوال في منهاج السنة (1/59-62), وذكرها عن ابن بطة في الإبانة الكبرى وغيره.
(2) - رجال الكشي ص: 254 .وبحار الأنوار(65/166)
(3) - رجال الكشي ص: 252.وبحار الأنوار(65/166)(1/16)
وقد كثرت شكاوى الأئمة عندهم من كثرة الكذابين عليهم ,فقد جاء في كتاب جامع أحاديث الشيعة:عن رجال الكشي بسنده إلى محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن: أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا, فما الذي يحملك على رد الأحاديث . فقال حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول لا تقبلوا علينا حديثًا إلا ما وافق القرآن والسنة, أو تجدون معه شاهدًا من أحاديثنا المتقدمة فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبى, فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد ( ص ) (1) فإنّا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السلام , ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه السلام متوافرين فسمعت منهم, وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله ( ع ) . وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه السلام, لعن الله أبا الخطاب , وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون في هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه السلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة (2) .
__________
(1) - من الرموز المختصرة عندهم: ص= صلى الله عليه وسلم, ع= عليه السلام, قده= قدس سره وهكذا..
(2) 2-السيد البروجردي/ جامع أحاديث الشيعة(1/262-263)- وانظر تنقيح المقال(1/174)(1/17)
وفيه أيضًا عن ابن سنان قال: قال أبو عبد الله ( ع ): إنَّا أهل بيت صادقون, لا نخلو من كذاب يكذب علينا, فيسقط صدقُنا بكذبه علينا عند الناس , كان رسول الله صلى الله عليه وآله أصدق البرية لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه, وكان أمير المؤمنين (ع) أصدق من برء الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه- بما يفترى عليه من الكذب- عبد الله بن سبأ لعنه الله , وكان الحسين بن علي عليهما السلام قد ابتلى بالمختار ثم ذكر أبو عبد الله عليه السلام الحارثَ الشامي وبنان , كانا يكذبان على علي بن الحسين عليهما السلام , ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعًا والسرى وأبا الخطاب ومعمرًا وبشارًا الأشعري وحمزة البربري وصائد النهدي, فقال: لعنهم الله , إنا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي , كفانا الله مؤنة كل كذّاب وأذاقهم حر الحديد " (1)
وذكر المجلسي في بحار الأنوار:عن رجال الكشي- بسنده- عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول : كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي عليه السلام ويأخذ كتب أصحابه ، و كان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي عليه السلام ، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثوها في الشيعة ، فكل ما كان في كتب أصحاب أبي عليه السلام من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم (2) .
__________
(1) - جامع أحاديث الشيعة (13 / 580) وبحار الأنوار (2/217-218)
(2) - بحار الأنوار (2/250)(1/18)
ولذلك تجد المتأخرين منهم قد زادوا في الكتب المعتمدة عندهم أبوابًا وكتبًا لم تكن عند السابقين , فزيد في كتاب الكافي وكتاب تهذيب الأحكام للطوسي وغيرهما الكثير مما لم يكتبه مصنِّفو هذه الكتب , ومنهم من يقر بذلك , وقد ذكر ذلك أحد المعتدلين منهم وهو السيد حسين الموسوي في كتابه (لله ثم للتاريخ) فقال:"إن كتاب الكافي هو أعظم المصادر الشيعية على الإطلاق، فهو موثق من قبل الإمام الثاني عشر المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط ، إذ لما ألف الكليني كتاب الكافي عرضه على الإمام الثاني عشر في سردابه في سامراء، فقال الإمام الثاني عشر سلام الله عليه (الكافي كافٍٍ لشيعتنا) (انظر مقدمة الكافي 25).
قال السيد المحقق عباس القمي: (الكافي هو أجل الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية والذي لم يعمل للإمامية مثله)، قال المولى محمّد أمين الاسترابادي في محكي فوائده: (سمعنا من مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه) (الكنى والألقاب 3/98).
ولكن اقرأ معي هذه الأقوال:
قال الخوانساري: (اختلفوا في كتاب الروضة الذي يضم مجموعة من الأبواب هل هو أحد كتب الكافي الذي هو من تأليف الكليني أو مزيد عليه فيما بعد؟) (روضات الجنات 6/118).
قال الشيخ الثقة السيد حسين بن السيد حيدر الكركي العاملي المتوفى (1076هـ): (إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة عليهم السلام) (روضات الجنات 6/114).
بينما يقول السيد أبو جعفر الطوسي المتوفى (460هـ).
(إن كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً) (الفهرست 161).(1/19)
يتبين لنا من الأقوال المتقدمة أن ما زيد على الكافي ما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر، عشرون كتاباً وكل كتاب يضم الكثير من الأبواب، أي أن نسبة ما زيد في كتاب الكافي طيلة هذه المدة يبلغ 40% عدا تبديل الروايات وتغيير ألفاظها وحذف فقرات وإضافة أخرى فمن الذي زاد في الكافي عشرين كتاباً؟ .. أيمكن أن يكون إنساناً نزيهاً؟؟
وهل هو شخص واحد أم أشخاص كثيرون تتابعوا طيلة هذه القرون على الزيادة والتغيير والتبديل والعبث به؟؟!!
ونسأل: أما زال الكافي موثقاً من قبل المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط؟؟!!
ولنأخذ كتاباً آخر يأتي بالمرتبة الثانية بعد الكافي وهو أيضاً أحد الصحاح الأربعة الأولى، إنه كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي مؤسس حوزة النجف، فإنّ فقهاءنا وعلماءنا يذكرون على أنه الآن (13590) حديثاً، بينما يذكر الطوسي نفسه مؤلف الكتاب -كما في عدة الأصول- أن تهذيب الأحكام هذا أكثر من (5000) حديث، أي لا يزيد في كل الأحوال عن (6000) حديث، فمن الذي زاد في الكتاب هذا الكم الهائل من الأحاديث الذي جاوز عدده العدد الأصلي لأحاديث الكتاب؟ مع ملاحظة البلايا التي رويت في الكافي وتهذيب الأحكام وغيرهما، فلا شك أنها إضافات لأيد خفية تسترت بالإسلام، والإسلام منها بريء، فهذا حال أعظم كتابين فما بالك لو تابعنا حال المصادر الأخرى ماذا نجد؟؟ ولهذا قال السيد هاشم معروف الحسني:
(وضع قصاص الشيعة مع ما وضعه أعداء الأئمة عدداً كثيراً من هذا النوع للأئمة الهداة) وقال أيضاً:
((1/20)
وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد أن الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم) (الموضوعات 165، 253) وقد اعتذر بذلك الشيخ الطوسي في مقدمة التهذيب فقال: (ذاكرني بعض الأصدقاء بأحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا) ورغم حرص الطوسي على صيانة كتابه إلا أنه تعرض للتحريف كما رأيت." أهـ (1)
__________
(1) - حسين الموسوي/ لله ثم للتاريخ: ص 96-98(1/21)
* ولقد قام آية الله البرقعي في كتابه (كسر الصنم) بنقد أحاديث كتاب الكافي الذي هو عمدة مذهبهم وأصح الكتب عندهم, فبيّن أن رجال الكافي ليسوا بمرضيين في المذهب الشيعي الاثنى عشري نفسه ، فهم بين شاكٍ في دينه أو مذهبه ، وبين لص فاسق متهم في دينه وعدالته ، أو معهود عنه تأليف الروايات والأخبار لقلب الدين وقذفه وتنقيص القرآن واتهامه ، أو واضع لأحاديث تضحك الثكلى كحديث سلسلة الحمار (1) ، وبعملية نقد يسيرة إذا عمدة المذهب يتهاوى لا كصنم يحتاج إلى تحطيم وكسر بل كرماد تناثر بأقل نسمة هواء , فضعّف معظم ما في الكتاب إما بالطعن في سنده أو بالنكارة في متنه لمخالفته للقرآن وصحيح الآثار, وقد أكثر من نقل تضعيف شيخهم المجلسي لكثير منها. فالمجلسي قام في كتابه (مرآة العقول) بتضعيف ما يقارب من ثلثي أحاديث الكافي, وجاء من بعده البهبودي فضعف أيضًا كثيرًا مما وثقه أو صححه المجلسي وانتقى من الكافي ما رآه صحيحًا فلم يصح عنده إلا نحوًا من مجلد وسمى كتابه (صحيح كتاب الكافي) , وبذلك تعلم خطأ أولئك الذين بنوا مذهبهم على كتاب لم يسلم منه من النقد - من بعض محققيهم- إلا القليل.
__________
(1) - جاء في أصول الكافي( 1/237) : عن أمير المؤمنين - عليه السلام - إن غُفيراً- حمار رسول الله صلى الله عليه وآله- قال له: بأبي أنت وأمي - يا رسول الله- إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه: (أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمارٌ يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار). وأقول:أي حمار هذا الذي كان جده الثالث في عصر نوح عليه السلام؟ والحمير قصيرة العمر , ثم أليس من سوء الأدب أن يقول الحمار للنبي:بأبي أنت وأمي؟.(1/22)
وأنه لا عبرة بقول الكليني - صاحب الكافي - وهو يمدح كتابه في المقدمة :» وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد, ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (1) «وكذا قول عبد الحسين شرف الدين في كتابه المراجعات: » وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم وفروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان وهي: الكافي, والتهذيب, والاستبصار, ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها والكافي أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها« (2) .وهذا الذي قاله صاحب المراجعات- لا يمثل رأيه وحده بل هو ما أطبق عليه علماء الاثنى عشرية.فإذا كان هذا حال أعظم كتبهم فما ظنك بما هو دونه , و لذلك فلا يغتر أحد بما يجده في تفاسيرهم من الروايات المنكرة عن الأئمة والتي يعتمدون عليها في تفسير كتاب الله تعالى.
__________
(1) - مقدمة الكافي ص: 7.
(2) - المراجعات:ص: 335 مراجعة رقم 110. طبع دار صادق ببيروت. و صاحب كتاب المراجعات هذا من شيوخهم المبجلين, وهو من الغلاة , وافترى على شيخ الأزهر - في عصره- الشيخ البشري رحمه الله وادعى كذبًا بأنه راجعه في كثير من المسائل التي زعم أن الشيخ البشري لا يعلمها – مع أن أصغر طلبة الأزهر الشريف يعلمها - حتى علّمها له هذا الدَّعي فأقر بها شيخ الأزهر رحمه الله وصار شيعيًا. وقد بين الدكتور السالوس كذب هذا الدعيّ وافتراءه على شيخ الأزهر في كتابه( المراجعات المفتراه على شيخ الأزهر البشري) وانظر موسوعته الرائعة(مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع).(1/23)
*واعلم أن أكثر من تعرض للكذب عليه ,بل وللطعن والغمز واللمز- في كتب الشيعة- الإمامان محمّد الباقر وابنه جعفر الصادق رضي الله عنهما وعلى آبائهما، فقد نسبت إليهم أغلب المسائل كالقول بالتقية والمتعة واللواطة بالنساء وإعارة الفرج و.. و.. إلخ وهما بريئان من هذا كله. (1)
__________
(1) - لله ثم للتاريخ: ص 34
* تنبيه: أهل السنة يجلون ويوقرون الإمامين محمد الباقر وابنه جعفر الصادق فهما من علماء أهل السنة وأئمة السلف- ولا يدعون لهما العصمة فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين- وكان من أقرانهما من هو أكثر منهما علمًا, وكانا أهلأً للخلافة رضي الله عنهما, وقد أخذ العلم الصحيح عنهما طائفة من علماء أهل السنة,وإليك نبذة مختصرة عنهما:
فالإمام الباقر هو محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، رضى الله عنهم، السيد القريشى الهاشمى المدنى:أبو جعفر ، سمى بالباقر لأنه بقر العلم، أى شقه , ولد سنة ست وخمسين, وأمه أم عبد الله بنت حسن بن على بن أبى طالب. ، وهو تابعى جليل، إمام، بارع، مجمع على جلالته، معدود فى فقهاء المدينة وأئمتهم، سمع جابرًا، وأنسًا، وسمع جماعات من كبار التابعين كابن المسيب، ومحمد بن الحنفية، وغيرهما.
روى عنه أبو إسحاق السبيعى، وعطاء بن أبى رباح، وعمرو بن دينار، والأعرج، وهو أسن منه، والزهرى، وربيعة، وخلائق آخرون من التابعين وكبار الأئمة. وروى له البخارى ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم توفى سنة أربع عشرة ومائة. وهو ابن ثلاث وسبعين. أنظر ترجمته في طبقات ابن سعد (5/320 - 324)، وتاريخ ابن معين (2/531)، والتاريخ الكبير (1/183)، وحلية الأولياء (3/180 - 192)، وربيع الأبرار (4/328)، وصفة الصفوة (2/108 - 112)، وتذكرة الحفاظ (1/124، 125)، وسير أعلام النبلاء (4/401 - 409) برقم (158)، والبداية والنهاية (9/309 - 312)، والوافى بالوفيات (4/102، 103) وغيرذلك.
والإمام أبو عبد الله جعفر الصادق :هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالصادق هو فقيه حجَّة. أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ولذلك كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين.
وروى عن أبيه والزهري ونافع وابن المنكدر وعطاء بن أبي رباح. وروى عنه ابنه موسى الكاظم والسُّفيانان:الثوري وابن عيينة وأيضًا شعبة ويحيى القطان و الإمام مالك وآخرون ولد سنة ثمانين ومات سنة ثمان وأربعين ومائة.
وقال الذهبي رحمه الله في "السير" (6/255): " الإِمَامُ ، الصَّادِقُ ، شَيْخُ بَنِي هَاشِمٍ ، أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرَشِيُّ ، الهَاشِمِيُّ ، العَلَوِيُّ، النَّبَوِيُّ ، المَدَنِيُّ ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ . وكان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهراً وباطناً، هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبعداً لهم" أ.هـ.
ومن أراد المزيد فعليه بالرجوع إلى السير"، و"تهذيب التهذيب ( 2/103-105 ) والوافي بالوفيات(4/27-28) وشذرات الذهب" (1/20). وغيرها. والله الموفق.(1/24)
ثامنًا: الشيعة الاثنى عشرية يسمون أهل السنة في كتبهم بالعامة أو بالنواصب وقد جاء في دائرة المعارف الشيعية ما نصه: الخاصة في اصطلاح بعض أهل الدارية: الإمامية الاثنا عشرية، والعامة: أهل السنة والجماعة" (1) .
و قال السيد نعمة الله الجزائري:وإنّ من علامات الناصبي: تقديم غير علي عليه في الإمامة (2) .
__________
(1) - دائرة المعارف الشيعية: 17/122.
(2) - أنظر له كتاب الأنوار النعمانية (2/206-207 ): فقد سمّى أهل السنة بالنواصب ثم حكم عليهم فقال:: إنهم كفار أنجاس بإجماع علماء الشيعة الإمامية، وإنهم شر من اليهود والنصارى، وإن من علامات الناصبي :تقديم غير عليٍّ عليه في الإمامة) وفي كتاب (لله ثم للتاريخ :ص:87 ) قال حسين الموسوي: وفي جلسة خاصة مع الإمام - يعني الخوميني- قال لي: سيد حسين, آن الأوان لتنفيذ وصايا الأئمة صلوات الله عليهم، سنسفك دماء النواصب ونقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، ولن نترك أحداً منهم يفلت من العقاب، وستكون أموالهم خالصة لشيعة أهل البيت، وسنمحو مكة والمدينة من وجه الأرض لأن هاتين المدينتين صارتا معقل الوهابيين، ولا بد أن تكون كربلاء أرض الله المباركة المقدسة، قبلة للناس في الصلاة وسنحقق بذلك حلم الأئمة عليهم السلام، لقد قامت دولتنا التي جاهدنا سنوات طويلة من أجل إقامتها، وما بقي إلا التنفيذ!!.أهـ بل تأمل معي كلام أبو القاسم الخوئي وهو من أعلم علمائهم في العصر الحديث وممن ينسبون إلى الاعتدال حيث يقول: "فالصحيح الحكم بطهارة جميع المخالفين للشيعة الاثنى عشرية وإسلامهم ظاهرًا بلا فرق في ذلك بين أهل الخلاف وبين غيرهم, وان كان جميعهم في الحقيقة كافرين , وهم الذين سميناهم بمسلم الدنيا وكافر الآخرة !!» (كتاب الطهارة للخوئي2/87). ولا شك أن ّأقوال وآراء وكتب هؤلاء الغلاة وأمثالهم – وهم كثير-هي سبب كل فتنة ومحنة وتمزيق ألَمََ بهذه الأمة.(1/25)
وعلى ذلك فكل أهل السنة والشيعة الزيدية هم نواصب عندهم لأنهم أقروا بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان قبل علي رضي الله عنهم أجمعين.
تاسعًا: أهل السنة والجماعة هم أحق الناس بأهل البيت وأكثر الناس حُبًّا لهم, لذا يذكرون أن حب أهل البيت دين وإيمان, بل يذكرون الأمر بوجوب محبة أهل البيت في كتب العقائد عندهم للتنبيه على أهميته , وفي ذلك أبلغ ردٍّ على الشيعة حيث يسمونهم بالنواصب (1) .
__________
(1) - قال الإمام الطحاوي في عقيدته: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد بريء من النفاق"أهـ (شرح الطحاوية ص: 420)
ويقول الإمام ابن تيمية في ( العقيدة الواسطية ) :" ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم ( غدير خم ) :" أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي" [ رواه مسلم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم للعباس عمه - وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم - ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) [ رواه أحمد والترمذي وفي سنده يزيد بن أبي زياد (ضعيف)]، وقال صلى الله عليه وسلم ( إنَّ الله اصطفى بنى إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بنى هاشم,واصطفاني من بني هاشم"[رواه مسلم] ويتوَلَّوْن أزواجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّهات المؤمنين، ويؤمنون بأنَّهنَّ أزواجُه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها، أمُّ أكثر أولاده، وأوَّل مَن آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنها، التي قال فيها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (فضلُ عائشة على النساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام)[متفق عليه]، ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يُبغضون الصحابةَ ويَسبُّونَهم، وطريقةِ النَّواصب الذين يُؤذون أهلَ البيت بقول أو عمل "أهـ [العقيدة الواسطية بشرحهاللشيخ محمد خليل هراس ص153].
وقال ابن تيمية رحمه الله في رسالة ( فضل أهل البيت وحقوقهم ) (ص:39-41) "... وأما العالم العادل فلا يقول إلا بالحق ولا يتبع إلا إياه، ولهذا من يتبع المنقول الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه وأئمة أهل بيته، مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وابنه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة، ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجد ذلك جميعه متفقاً مجتمعاً في أصول دينهم وجماع شريعتهم، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف، ممن ينتصب لعداوة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبخسهم حقوقهم ويؤذيهم، أو ممن يغلو فيهم غير الحق ، ويفتري عليهم الكذب، ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم " أهـ ،
و لا يخفى أن كتب الحديث ودواوين السنة مليئة بفضائل أهل البيت ووجوب محبتهم. وقد صرح الأئمة البيهقي والبغوي والشافعي وغيرهم بأن محبة آل البيت من فرائض الدين ، وللإمام الشافعي في حب آل البيت الطاهرين شعر كثير ومنه:
يا أهلَ بيت رسول الله حبكم * فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَه
كفاكم من عظيم القدر أنكم * من لا يصلي عليكم لا صلاة له
ويقول ابن كثير في التفسير(4/112-113) : ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخرًا وحسبًا ونسبًا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه ، وعليّ وأهل بيته وذريته ، رضي الله عنهم أجمعين.أهـ(1/26)
وحبهم لأهل البيت هو الحب الحقيقي الذي جاء به الشرع الحنيف بلا غلوٍ ولا تقصير (1) , ولذلك لا ينقلون عن أهل البيت من الآثار والأخبار إلاّ ما صحَّ عنهم حتى يحفظوا لهم مكانتهم السامية ولا يدنسوها بالأخبار الكاذبة التي تسيء إليهم وإلى مكانتهم, بخلاف الشيعة الذين أساءوا إليهم بما ينقلونه في كتبهم من الأخبار الكاذبة التي تُظهر أهل البيت أحيانًا بالغرور والكبر أو بالحقد على الصحابة وسائر المسلمين, وازدرائهم,أو بالتورط في كثيرٍ من الفتاوى والأحكام الشاذة التي تخالف ما عليه الأمة, بل وينقلون عنهم كثيرًا من الآثار التي لا يقبلها عقل سليم,ويستحيل ورودها عن أهل البيت وهم أهلُ العلم والفضل الأطهارُ المبرؤن من مثل ذلك, رضي الله عنهم .
__________
(1) - الغلو:هو تجاوز الحد .(أنظر:المصباح المنير ص:452) والغلو في الدين مذموم ومنهي عنه قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}{النساء:171}وفي سنن ابن ماجة( 3020) وغيره عن ابن عباس أن النبي قَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ , فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" وفي صحيح البخاري(3/1271-رقم 3261) وغيره, قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ, فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" فانظر كيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه خشية الغلو فيه صلى الله عليه وسلم, وهو سيد الناس, فما بالك بمن دونه؟(1/27)
عاشرًا:عندما نتعرض لتفسير بعض الآيات كأمثلة للمقارنة بين تفسير أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية, أهتم بذكر ما صحَّ من أسباب النزول لبعض هذه الآيات, إذ أن معرفة سبب النزول للآية معين على فهمها , ويدخل في تفسيرها دخولاً أوليًا , وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقررٌ عند العلماء.وكثيرًا ما تجد في تفاسير الشيعة روايات يدَّعون أنها أسباب النزول لآيات معينة, وهي روايات ضعيفة أو موضوعة,وقد يحتجون بوجودها في بعض كتب التفسير عند أهل السنة,فيقولون هذه الرواية:رويت من طرق عند العامة- أهل السنة- والخاصة, وهذا كلام لا يَغترُّ به إلاّ جاهل, إذ ليست كل الكتب تهتم بصحة الرواية, وهم يفرحون بورودها في تلك الكتب التي لا يعتني أصحابها بصحة الرواية من ضعفها,بل ينقلون الغثَّ والسمين بدون تمييز أو نقد للروايات.
حادي عشر: عند ذكرنا لتفسير هذه الآيات – كأمثلة- سنقوم إن شاء الله بالرد على الشبه التي يوردونها,إذا كانت هذه الشبه تستند على أدلة من آيات قرآنية, أو أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فُهمت على غير وجهها, أما الشبه التي مستندها قراءات شاذة,أو أحاديث ضعيفة أو موضوعة-لا تثبت عند علماء الحديث - كأكثر ما في كتبهم, فهذه لا نعبأ بها إذ يكفي في الرد عليها ضعفها أو بطلانها.
ثاني عشر:لا شك أن كتب التفسيرعند الفريقين : أهل السنة , والشيعة الاثنى عشرية كثيرة جدًا, ولقد رجعت إلى كثيرٍ منها , ولكن لم أكثر النقل في هذا البحث إلاَّ من أوثق كتب التفسير عند كلٍّ منهما: فمن تفاسير أهل السنة نقلت من تفاسير كلٍّ من الطبري والبغوي وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير والرازي والشوكاني والألوسي والشنقيطي والسعدي وغيرهم وكذا من بعض التفاسير الميسرة .(1/28)
ومن تفاسير الشيعة نقلت من: تفسير علي بن إبراهيم القمي (1) ، الذي قالوا عنه بأنه أصل أصول التفاسير عندهم (2) ووثق رواياته شيخ مشايخهم المعاصرين الذي يلقبونه "بالإمام الأكبر" وهو أبو القاسم الخوئي، فقال: "ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم القمي الذي روى عنهم في تفسيره مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين" (3)
وكذلك تفسير العياشي (4) الذي قال فيه شيخهم المعاصر - محمد حسين الطباطبائي: "أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور، فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألف عام إلى يومنا هذا-ما يقرب من أحد عشر قرنًا- بالقبول من غير أن يذكر بقدح، أو يغمض فيه بطرف" (5)
__________
(1) - شيخ المفسرين عندهم ,وهو من الغلاة الزنادقة الذين يقولون بأن القرآن مُحرَّف ويكفرون الصحابة وغير ذلك من البلايا التى ستظهر لك من خلال هذا البحث.فلا تغتر بثنائهم على مشايخهم فسيظهر لك حالهم بعد.
(2) - مقدمة تفسير القمي: ص :10
(3) - أبو القاسم الخوئي/ معجم رجال الحديث: 1/63. والقمي عندهم ثقة في الحديث ، ثبت معتمد - [رجال النجاشي: ص 197] كان في عصر الإمام العسكري، وعاش إلى سنة (307ه( ] مقدمة تفسير القمي: ص: 8] وقد قال الذهبي وابن حجر عنه وعن تفسيره هذا: "رافضي جلد, وله تفسير فيه مصائب".[انظر: ميزان الاعتدال: (3/111)، ولسان الميزان: (4/191)]
(4) - العياشي هو محمد بن مسعود أبو النضر، عاش في أواخر القرن الثالث، وهو عندهم جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالروايات-[الطوسي/ الفهرست: ص 163 –165].
(5) - الطباطبائي/ مقدمة الكتاب ص:4 وقال: أجمع كل من جاء بعده من أهل العلم على جلالة قدرة وعلو منزلته وسعة فضله ، و أطراه علماء الرجال متسالمين على أنه ثقة عين صدوق في حديثه من مشايخ الرواية.(1/29)
وتفسير فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي (1) ، من شيوخهم في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع .
وكذا تفسير التبيان للطوسي، شيخ الطائفة عندهم ، ومجمع البيان للطبرسي وهما من أجل كتب التفاسير عندهم.
و تفسير الصافي لشيخهم محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني الملقب عندهم بفيلسوف العلماء (2) , والتفسير الأصفى له أيضًا,
وتفسير نور الثقلين لشيخهم ومحدِّثهم الحويزي (3) .
__________
(1) - وقد وثقه شيخهم المجلسي فقال: "أخبار تفسير فرات موافقة لما وصل إلينا من الأحاديث المعتبرة" [بحار الأنوار: 1/ 37، وانظر في بيان أنه من مصادرهم المعتبرة عند القدامى والمعاصرين: مقدمة تفسير فرات، لمحمد علي الأوردبادي.].والحق أن تفسير فرات ليس فيه القول بإمامة الاثنى عشر-عندهم- ولا بعصمتهم, ولذلك عده الكثير من الزيدية لا من الاثنى عشرية, ولكنه يكثر الرواية عن أبي عبد الله جعفر الصادق وأبيه محمد الباقر .وامتلأ كتابه بالروايات المنكرة أيضًا.
(2) - الذي يصفونه بـ "العلامة المحقق، المدقق، جليل القدر، عظيم الشأن" [الأردبيلي/ جامع الرواة: 2/42.] وانظر مقدمة المحقق لتفسير الصافي.
(3) - الذي وصفه عالمهم محمد حسين الطباطبائي- صاحب تفسير الميزان- بقوله: ومن أحسن ما جمعته أزمنة المجاهدة بعواملها وخَطََّته أيدي التحقيق بأناملها في هذا الشأن - أو هو أحسنه - هو كتاب نور الثقلين لشيخنا الفقيه المحدث البارع الشيخ عبد على الحويزي ثم الشيرازي قدس الله نفسه وروح رمسه, الذي جاد به عصر أساطين الحديث وجهابذة الرواية وهو النصف الأخير من القرن الحادي عشر من الهجرة تقريبا الذي سمح بمثل مولانا المجلسي صاحب البحار ومولانا الفيض صاحب الوافي وشيخنا الحر العاملي صاحب الوسائل وسيدنا السيد هاشم البحراني صاحب البرهان رضوان الله عليهم أجمعين.
ولعمري انه الكتاب القيم الذي جمع فيه مؤلفه شتات الأخبار الواردة في تفسير آيات الكتاب العزيز وأودع عامة الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة والطهارة سلام الله عليهم ". جاء ذلك في التقريظ الذي كتبه بتاريخ 15 من ذي الحجة 1382هـ كما في مقدمة تفسير نور الثقلين ( ج 1 – المقدمة ص 3)(1/30)
ومن التفاسير الحديثة تفسير الميزان للطباطبائي وتفسير البيان للخوئي وهما لعالمين من أجل علمائهم في العصر الحديث, وغير ذلك من كتب التفسير عندهم التي رجعت إليها، وسأذكرها عند النقل منها.
القسم الأول
القرآن بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية
* تعريف القرآن :
هو كلام الله تعالى المعجز المُنَزَّلُ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه العربي, المُتعَبَّدُ بتلاوته, المكتوبُ في المصاحف, المنقول بالتواتر,المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس. (1)
وبهذا التعريف يخرج كلُّ ما كان كلامًا لله تعالى وليس قرآنًا كالتوراة والإنجيل والزبور,والأحاديث القدسية, ويخرج بذلك أيضًا ترجمات معاني القرآن إلى لغات العجم, وكذلك التفسير المتضمن لمعاني القرآن بلغة العرب, فكل ذلك ليس قرأنًا.
* فضل تعلم القرآن ودراسته :
قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }{البقرة:121}
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }[فاطر:29]
وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } {النحل:89}
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}{ص:29}
__________
(1) - محمد علي الصابوني/التبيان في علوم القرآن.ص:10, د. محمد سليمان الأشقر/الواضح في أصول الفقه ص:72(1/31)
وقال تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }{المائدة:15-16}
وفي صحيح البخاري(4739) وغيره عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
وفي صحيح مسلم (2699) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".
وروى الترمذي (2910) وصححه عن مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَال سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ".
وروى أحمد(6799) والترمذي(2914) وغيرهماعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا" وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/32)
وفي الكافي: قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن، أو يكون في تعليمه) (1) .وأيضًاعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ: (الْقُرْآنُ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ وَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً) (2) .
* اعتقاد الشيعة الاثنى عشرية في القرآن الكريم:
انفرد الشيعة الاثنى عشرية عن سائر المسلمين بالنسبة للقرآن بما يلي:
1- قولهم: إن القرآن وعلم القرآن عند الأئمة، وقد اختصوا بمعرفته لا يشركهم فيه أحد، والأئمة قد فوضوا في أمر هذا الدين، كما فوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم حق التشريع. تقول كتب الشيعة عن الأئمة: "إن الله عز وجل.. فوض إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7.]. فما فوض إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - قد فوضه إلينا" (3) .
وقال أبو عبد الله - كما تزعم كتب الشيعة -: " لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإلى الأئمة. قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء : 105.]. وهي جارية في الأوصياء" (4)
وفي تفسير فرات: ".. إنّما على الناس أن يقرأوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا" (5)
__________
(1) - أصول الكافي(2/607 ).
(2) - أصول الكافي(2/ 609)
(3) - أصول الكافي: ( 1/266 )
(4) - أصول الكافي: (1/268 )
(5) - تفسير فرات ص:258(1/33)
وزعمت أيضاً كتب الشيعة أن أبا جعفر قال: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر - رضي الله عنه -: "بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم - إلى أن قال:- ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به" (1)
وقال الفيض الكاشاني في مقدمة تفسيره: المقدمة الثانية:(في نبذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت عليهم السلام) :
روي في الكافي بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي (2) قال سمعت أمير المؤمنين يقول:- وساق الحديث إلى أن قال : ما نزلت آية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله ولا علمًا أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي بما دعا, وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحدٍ قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه, وحفظته فلم أنس منه حرفًا واحدًا ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علمًا وفهمًا وحكمة ونورًا . فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي مذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه أو تتخوف عليّ النسيان فيما بعد . فقال : لست أتخوف عليك نسيانًا ولا جهلا .
ورواه العياشي في تفسيره والصدوق في إكمال الدين بتفاوت يسير في ألفاظه .
وزيد في آخره :
__________
(1) - الكافي، كتاب الروضة: (8/312) وسائل الشيعة: (18/136)، تفسير الصافي: (1/21-22) ، البرهان في تفسير القرآن: (1/18)، بحار الأنوار (24/237-238 )
(2) - لا يعني سكوتي عن أحاديثهم أو إيرادها أنها صحيحة , كلا , فهم قلَّما يسلم لهم إسناد ولو تتبعنا ذلك لطال الأمر, ولكني أنقل كلامهم كما هو.(1/34)
وقد أخبرني ربي أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي . فقال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فقلت ومن هم ؟ قال : الأوصياء مني . إلى أن يَرِدوا عليّ الحوض كلهم هادين مهديين لا يضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه بهم ينصر أمتي وبهم تمطر وبهم يدفع عنهم البلاء وبهم يستجاب دعاؤهم فقلت : يا رسول الله سمِّهم لي . فقال : ابني هذا ووضع يده على رأس الحسن ثم ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين ثم ابن له يقال له علي, وسيولد في حياتك فأقرأه مني السلام, ثم تكملة إثني عشر من ولد محمد صلى الله عليه وآله, فقلت له: بأبي انت وامي فسمهم لي فسماهم رجلاً رجلاً, فقال : فيهم والله يا أخا بني هلال مهدي أمة محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلأ كما ملئت ظلمًا وجورًا والله إني لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام وأعرف أسماء آبائهم وقبائلهم .
وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزل الله ، إلاّ علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام . وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء .
وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى : {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }[العنكبوت:49] قال : هم الأئمة .(1/35)
وبإسناده عنه عليه السلام قال : قد ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة والنار وخبر ما كان وما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي, إن الله تعالى يقول : ( فيه تبيان كل شيء ) (1) .
أقول : الولادة المشار إليها تشمل الولادة الجسمانية والروحانية فإن علمه يرجع إليه كما أن نسبه يرجع إليه فهو وارث علمه كما هو وارث ماله (2) ، ولهذا قال : وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه كذا وكذا , يعني وأنا عالم بذلك كله.أهـ (3)
2- قولهم بأن القرآن ليس حجةً إلا بقيِّم (هو أحد الأئمة الاثنى عشر):
__________
(1) - هذه ليست آية من القرآن !! وهذه الرواية في الكافي (1/61) مما يدل على أن واضعي هذه الروايات جهلة بالقرآن.
(2) - الأنبياء لا يورثون مالاً , وإنما يورثون العلم – كما سيأتي بعد- ولو ورثوا مالاً- كما يقول الشيعة الإمامية- لكان العباس أولى بباقي تركة النبي صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه لأنه أقرب فهو عم النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) - تفسير الصافي : المقدمة (1/19-20).(1/36)
وهذا مخالف للقرآن- ولما أجمع عليه سائرالمسلمين- فالله تعالى يقول - لمن طلب آية تدل على صدق الرسول -: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] فالقرآن العظيم هو الشاهد والدليل والحجة، والمسلمون مأمورون بالرجوع إلى القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط عند الاختلاف, وليسوا مأمورين بالرجوع إلى الأئمة, ولكن أهل الأهواء لم يرجعوا إليهما، ولو رجعوا إليهما لزال الاختلاف ، وإنما هجروا القرآن وتركوه . ورجحوا الأخبار المذهبية على القرآن ، وذلك خلافاً لقول الله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى: 10] وقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ النساء: 95] ، ولكنهم يقولون إن القرآن لا يدفع الخلاف فارجعوا إلى الإمام .فهذا شيخ الشيعة الذي يسمونه بـ"ثقة الإسلام" (الكليني) يروي في كتابه الكافي "... أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم: وأن علياً كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله" (1) وقد انتقل علم القرآن من علي إلى سائر الأئمة الاثنى عشر، كل إمام يعهد بهذا العلم إلى من بعده، حتى انتهى إلى الإمام الثاني عشرالغائب .
__________
(1) - أصول الكافي: (1/188)(1/37)
ولا يخفى مخالفة هذا لصريح نصوص القرآن التي تبين أن القرآن حجة بذاته وعلى كل المكلفين تدبر آياته ومعرفة أحكامه والاهتداء بها ولزوم الأخذ بما يفهم من ظاهرها.كقول الله تعالى: { هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:138] . وقوله تعالى :{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }[الدخان:58 ] . وقوله تعالى : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }[القمر:17] " . وقوله تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء:82]. إلى غير ذلك من الآيات .
ونرى أن علماء الشيعة الاثنى عشرية قسمان:إخباريون يعتمدون على الأخبار, وأصوليون يعتمدون على الاستنباط والاجتهاد وإعمال العقل.
فالإخباريون لا يجوزون العمل بظاهر القرآن.
والأصوليون يقولون بحجية ظواهر القرآن, ولكن لا يجوزون الاستقلال في العمل بظواهر القرآن إلا بعد الرجوع إلى الأخبار الواردة عن الأئمة.
وقد قال الخوئي في تفسيره بوجوب العمل بما في القرآن ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره- وقد ذكر بعض الآيات الدالة على ذلك - ثم قال: ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه :
1- أن القرآن نزل حجة على الرسالة ، وأن النبي - ص - قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ومعنى هذا : أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره ، ولو كان القرآن من قبيل الالغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته ، ولم يثبت لهم إعجازه ، لانهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه ، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الايمان به .
2 - الروايات المتضافرة الآمرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبي في المسلمين ، فإن من البين أن معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به ، والعمل بما يشتمل عليه ، ولا معنى له سوى ذلك .(1/38)
3 - الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب ، وأن ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار ، أو أنه باطل ، أو أنه زخرف ، أو أنه منهي عن قبوله ، أو أن الأئمة لم تقله ، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب ، وأنه مما تفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب . ومن هذا القبيل الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب الله ورد ما خالفه منها .
4 -استدلالات الأئمة - ع -على جملة من الأحكام الشرعية وغيرها بالآيات القرآنية. أهـ (1)
3- قولهم بأن جُلَّ القرآن نزل في أئمتهم ومن والاهم وفي أعدائهم:
إنّ الإمامية الإثنى عشرية، قرروا أن الإقرار بإمامة علىّ ومَن بعده من الأئمة والتزام حبهم وموالاتهم، وبُغض مخالفيهم وأعدائهم، أصل من أصول الإيمان، بحيث لا يصلح إيمان المرء إلاّ إذا حصل ذلك، مع الإقرار بباقى الأصول، كما قرروا وجوب طاعة الأئمة، واعتقاد أفضيلتهم على الخلائق أجمعين.
قرر الإمامية هذا كله، ثم أخذوا ينزلون نصوص القرآن على ما قرروه، بل وزادوا على ذلك فقالوا: إنّ كل آيات المدح والثناء وردت فى الأئمة ومَن والاوهم، وكل آيات الذم والتقريع وردت فى مخالفيهم وأعدائهم (2) ، بل ويدَّعون ما هو أكثر من ذلك فيقولون: إن جُلَّ القرآن أُنزِل فى الإرشاد إليهم، والإعلان بهم، والأمر بموافقتهم، والنهى عن مخالفتهم.
__________
(1) - أبو القاسم الخوئي/البيان في تفسير القرآن ص:264-265
(2) - أنظر مقدمة تفسير القمي للمحقق ص:21 وستأتي فيما بعد (هامش ص 143).(1/39)
وجاءت بعض رواياتهم بتقسيمٍ لكتاب الله تجعل فيه نصيب الأئمة وأعدائهم ثلث القرآن، إلا أنها لم تجعل للأئمة وأعدائهم إلا ثلث القرآن لا جله، تقول الرواية: "نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (1) و تأتي رواية ثانية يزيد فيها نصيب الأئمة ومخالفيهم من الثلث إلى النصف؛ تقول الرواية: "نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام" (2) وقد تفطن بعضهم لهذا فوضع رواية أخرى بنفس النص السابق، إلا أنه زاد فيها: "ولنا كرائم القرآن"
وقد أشار إلى ذلك صاحب تفسير الصافي فقال: "وزاد العياشي: ولنا كرائم القرآن" (3) ولا شك في كذب هذه الروايات و تأتي بعض رواياتهم لتقول: "إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم" (4) .وهذا يعني أنه ليس للأئمة ذكر صريح في القرآن.وهذه الرواية هي الموافقة لما في القرآن الكريم.
* حفظ الله تعالى للقرآن ,واعتقاد كلٍّ من: أهل السنة والشيعة الإمامية في ذلك.
أولاً : اعتقاد أهل السنة في ذلك:
__________
(1) - أصول الكافي: (2/627)، البرهان: ( 1/21) تفسير الصافي: (1/24 )
(2) - أصول الكافي: (2/627 )، البرهان: (1/21)
(3) - تفسير الصافي: (1/24 )
(4) - أصول الكافي: (2/627)(1/40)
أجمع أهل السنة والمسلمون جميعًا على صيانة كتاب الله عز وجل من التحريف والزيادة والنقص فهو محفوظ بحفظ الله له قال تعالى :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9 ] وقال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:41- 42 ] وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [ القيامة:17-19] ولا يوجد في كتب أهل السنة المعتمدة روايةٌ واحدة صحيحة تخالف هذا المعتقد وقد ذكر مفسرو أهل السنة عند قوله سبحانه :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} أن القرآن محفوظٌ من أي تغيير أو تبديل أو تحريف, انظر في ذلك: تفسيرالبغوي , والقرطبي, و النسفي , و تفسير الخازن , و ابن كثير , والبيضاوي,والبحر المحيط لابن حيان ، والألوسي ، وصديق خان ، الشنقيطي وغيرهم من المفسرين .
وصرح كبار علماء السنة أن من اعتقد أن القرآن فيه زيادة أو نقص فقد خرج من دين الإسلام .
وهذه العقيدة عند أهل السنة من الشهرة والتواتر بحيث أنها لا تحتاج إلى من يقيم أدلة عليها بل هذه العقيدة من المتواترات عند المسلمين .
قال القاضي عياض - رحمه الله : ( وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول { الحمد لله رب العالمين } الى آخر { قل أعوذ برب الناس } أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع مافيه حق وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامداً لكل هذا أنه كافر (1) .
__________
(1) ،2– القاضي عياض/ الشفاء : (ص: 1102 - 1103).(1/41)
ونقل القاضي عياض عن أبي عثمان الحداد أنه قال : (جميع من ينتحل التوحيد متفقون على أن الجحد لحرف من التنزيل كفر ) (1) .
ويقول القاضي أبو يعلي : والقرآن ما غير ولا بدل ولا نقص منه ولا زيد فيه خلافاً للرافضة القائلين أن القرآن قد غير وبدل وخولف بين نظمه وترتيبه - ثم قال- إن القرآن جمع بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم وأجمعوا عليه ولم ينكر منكر ولا رد أحد من الصحابة ذلك ولا طعن فيه ولو كان مغيراً مبدلاً لوجب أن ينقل عن أحد من الصحابة أنه طعن فيه ، لأن مثل هذا لايجوز أن ينكتم في مستقر العادة .. ولانه لو كان مغيراً ومبدلاً لوجب على علي رضي الله عنه أن يبينه ويصلحه ويبين للناس بياناً عاماً أنه أصلح ما كان مغيراً فلما لم يفعل ذلك بل كان يقرأه ويستعمله دل على أنه غير مبدل ولا مغير (2) .
قال ابن قدامة : ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر (3) .
ويقول ابن حزم : القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفرٌ صريح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) (4) .وقال أيضًا - في الجواب عن احتجاج النصارى بدعوى الروافض تحريف القرآن -:وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليسوا من المسلمين (5) .
__________
(2) - المعتمد في أصول الدين ص 258.
(3) - ابن قدامة / لمعة الاعتقاد " ص 19 .
(4) - ابن حزم/ الفصل في الملل والنحل " ص: 40.
(5) - " الفصل " ( 2/80 ).(1/42)
قال الفخر الرازي عند قوله سبحانه : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، وإنا نحفظ ذلك الذكرمن التحريف والزيادة والنقصان - إلى أن قال : إن أحداً لو حاول تغيير حرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا هذا كذب وتغيير لكلام الله حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له الصبيان أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا .. واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير إما في الكثير منه أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصوناً من جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملاحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات (1) .
وقال ابن تيمية : وكذلك - أي في الحكم بتكفيره - من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت ، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لاخلاف في كفرهم (2)
والشواهد في هذا المجال لا تحصى كثرة وهي موجودة في مواضعها في كتب التفسير وعلوم القرآن والحديث والعقيدة والأصول وغيرها.
ثانيًا:اعتقاد الشيعةالاثنى عشرية في ذلك :
* يقول شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمي (ت381ه( صاحب من لا يحضره الفقيه.. وهو واحد من أهم كتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث، يقول: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد وهو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك... ومَن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب" (3) .
هذا قول شيخهم الملقب عندهم بالصدوق، ويؤيده في قوله هذا آخرون من شيعته.
__________
(1) - الفخر الرازي/ مفاتيح الغيب (19/160-161).
(2) - ابن تيمية/ الصارم المسلول ص 586 . - دار الكتب العلمية - بيروت
(3) - الاعتقادات ص:84(1/43)
* ويقول المفيد (ت413ه(-الذي يلقبونه بركن الإسلام وآية الله الملك العلاّم-: "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الطاعنين فيه من الحذف والنقصان" (1) ويقول: "واتفقوا - أي الإمامية - على أن أئمة الضلال - يعني بهم كبار صحابة رسول صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنه ورضوا عنه ، وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة قبل علي رضي الله عنهم- خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم" (2) ويقول بما قاله مفيدهم طائفة كبيرة من شيوخهم.
هذان-كما ترى- قولان مختلفان ومتعارضان صدرا من شيخين من شيوخهم يجمعهما وحدة الزمان والمكان، ويتفقان في الهوية المذهبية، بل إن هذا المفيد هو تلميذ لابن بابويه القمي. فمن نصدق منهما؟ وأي القولين يعبر عن مذهب الشيعة؟ ونجد أن تلميذين من تلامذة المفيد ومن أكبر شيوخ الشيعة - وهما الطوسي، وابن المرتضى - يقولان بما قاله ابن بابويه وأن مذهب أهل التحقيق من الشيعة إنكار هذه الفرية - كما سيأتي -، وكل قول من هذين القولين يؤيده جناح من الشيعة، بل يدعي حيناً أن لا قول للشيعة سواه وغيره افتراء على الشيعة وكذب.. والتعرف على الحقيقة وسط هذا الركام من الأقوال المتعارضة والمتناقضة ليس بسهل المنال.خاصة مع أناس يدينون بالتقية.
والحاصل انقسام الشيعة في قضية حفظ القرآن وادعاء تحريفه إلى قولين:
الأول: قول جمهور الشيعة بالتحريف ونذكر منهم :
* علي بن إبراهيم القمي
فقد قال في مقدمة تفسيره (3) :
__________
(1) - أوائل المقالات: ص:81
(2) - أوائل المقالات: ص: 46
(3) - تفسير القمي (1/10) تصحيح وتعليق وتقديم : السيد طيب الموسوي الجزائري.(1/44)
وأما ما هو على خلاف ما أنزل الله فهو قوله : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[ آل عمران : 110] فقال أبو عبد الله عليه السلام لقاريء هذه الآية : ( خير أمة ) يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين بن علي عليهم السلام ؟ فقيل له :وكيف نزلت يا ابن رسول الله؟ فقال : إنما نزلت : ( كنتم خير أئمة أخرجت للناس ) ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ومثله آية قرئت على أبي عبد الله عليه السلام: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان:74 ] فقال أبو عبد الله عليه السلام : لقد سألوا الله عظيمًا أن يجعلهم للمتقين إمامًا (1) . فقيل له : يا ابن رسول الله كيف نزلت ؟ فقال : إنما نزلت : ( الذين يقولون من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعل لنا من المتقين إماما ) وقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ{[ الرعد:11] فقال أبو عبد الله : كيف يحفظ الشيء من أمر الله وكيف يكون المعقب من بين يديه فقيل
له : وكيف ذلك يا ابن رسول الله ؟ فقال : إنما نزلت ( له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله ) ومثله كثير .
__________
(1) - إنما أراد الله تعالى أن يعلمنا علو الهمة وأن نسأله علو المرتبة, لأن من طلب العلو سيجتهد ليبلغ ذلك. كما دلنا على ذلك أيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:" فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ, فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ , فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ و فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ" رواه البخاري(2581) وأحمد (21073) وغيرهما.(1/45)
ثم قال أيضًا (1) :
وأما ما هو محرف فهو قوله : (( لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون (2) )) وقوله :(( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي فإن لم تفعل فما بلغت رسالته (3) )) وقوله : (( إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم (4) )) وقوله : (( وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم أي منقلب ينقلبون (5) )) وقوله : (( ولو ترى الذين ظلموا آل محمد حقهم في غمرات الموت (6) ))أهـ .
* و الملقب بثقة الإسلام عندهم: محمد بن يعقوب الكليني ذكر في كتابه الكافي روايات كثيرة تدل على التحريف, منها :
1 - عن جابر قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزل الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام (7) .
__________
(1) - تفسيرالقمي(1/10-11)
(2) - الآية هكذا: {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } [النساء:166]
(3) 4- الآية هكذا : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة : 67]
(4) - الآية هكذا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} [النساء : 168]
(5) - الآية هكذا:{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء: 227]
(6) - الآية هكذا:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}[ الأنعام : 93]
* ملاحظة : كلمة (( في علي )) (( آل محمد )) ليستا في القرآن .
(7) - أصول الكافي ( 1 / 228).(1/46)
2 - عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام انه قال : ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء (1) .
3 - قرأ رجل عند أبي عبد الله { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:105] فقال ليست هكذا هي, إنما هي (والمأمونون) فنحن المأمونون (2) .
4 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله "ع" قال : إن عندنا لمصحف فاطمه "ع" وما يدريك ما مصحف فاطمه "ع" ؟ قال : قلت : وما مصحف فاطمه "ع" ؟ قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد : قال: قلت هذا والله العلم (3) .
5 - عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله "ع" قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) إِلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ آيَةٍ (4) .
لاحظ أن عدد الآيات في الرواية الخامسة تبين أن القرآن الذي تدعيه الشيعة أكثر من القرآن الحقيقي الذي معنا- وعدد آياته (6236) آية- بثلاث مرات على التقريب , فيكون المقصود عندهم هو مصحف فاطمة رضي الله عنها كما جاء في الرواية الرابعة.
* ومنهم:محمد بن مسعود المعروف بـ ( العياشي ) فقد روى في تفسيره: عن أبي عبد الله انه قال " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين (5) ." (6) ..وروى أيضاً عن أبي جعفر " أنه قال لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص منه ، ما خفى حقنا على ذي حجي ، ولو قد قام قائمنا فنطق صدقه القرآن (7) .
*ومنهم نعمة الله الجزائري حيث قال (8) :
__________
(1) - المصدر السابق : ( 1/ 229).
(2) - أصول الكافي : (1/ 424 ).
(3) - أصول الكافي : (1/240)
(4) - أصول الكافي : (2/ 634) .
(5) - أي مذكور أسماء الأئمة في القرآن .
(6) - تفسير العياشي ج 1 ص 25 منشورات الأعلمي - بيروت ط 91 .
(7) - المصدر السابق .
(8) - في كتابه الأنوار النعمانية(2/357 ، 358 ) .(1/47)
إن تسليم تواترها { القراءات السبع } عن الوحي الآلهي وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا ، مع أن أصحابنا رضوان الله عليهم قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها, نعم قد خالف فيها المرتضى والصدوق والشيخ الطبرسي وحكموا بأن ما بين دفتي المصحف هو القرآن المنزل لاغير ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل.. والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة منها سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها (1) أهـ.
* ومنهم أبو الحسن العاملي حيث قال:
" اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة الآتية وغيرها أن هذا القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء من التغييرات ، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيرا من الكلمات والآيات " (2) . وقال أيضًا : " وعندي في وضوح صحة هذا القول- تحريف القرآن وتغييره - بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار ، بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة " (3) .
* و أيضًا محمد باقر المجلسي :
__________
(1) - وهذا الكلام من الجزائري يعني أن قولهم ( أي المنكرين للتحريف ) ليس عن عقيدة بل لأجل مصالح أخرى .
(2) - المقدمه الثانية لتفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار ص: 36 وطبعت هذه كمقدمه لتفسير البرهان للبحراني .
(3) - نفس المرجع السابق(1/48)
في معرض شرحه لحديث هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر ألف آية " قال عن هذا الحديث : " موثق ، وفي بعض النسخ عن هشام بن سالم موضع هارون بن سالم ، فالخبر صحيح . ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى ، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً ، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر ؟ (1) " أي كيف يثبتون الإمامة بالخبر إذا طرحوا أخبار التحريف ولم يثبتوها بالخبر؟ لأنه إذا كانت أخبار التحريف غير موثوق بها مع كثرتها وتواترها عندهم لأمكن كذلك طرح أخبار الإمامة كذلك إذ ليست أخبارها أكثر ولا أقوى من أخبار التحريف.
* وقال سلطان محمد الخراساني الجنابذي :
قال : " اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد يقع شك " (2) .
..
* والعلامة سيد عدنان البحراني : " بعد أن ذكر الروايات التي تفيد التحريف في نظره قال: الأخبار التي لا تحصى كثيرة وقد تجاوزت حد التواتر ولا في نقلها كثير فائدة بعد شيوع القول بالتحريف والتغيير بين الفريقين وكونه من المسلمات عند الصحابه والتابعين بل وإجماع الفرقة المحقة (3) وكونه من ضروريات مذهبهم وبه تضافرت أخبارهم " (4) .
* وأيضًا العلامة المحقق -عندهم -الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي .
__________
(1) - مرآة العقول الجزء الثاني عشر ص 525 .
(2) - الجنابذي/تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة ص 19 , مؤسسة الأعلمي.
(3) - يعني الشيعة فهم يحسبون أنهم الفرقة المحقة.
(4) - مشارق الشموس الدريه منشورات المكتبة العدنانية " البحرين " ص 126 .(1/49)
وهذا العالم عدد الأدلة الدالة على نقصان القرآن ، ونذكر بعض هذه الأدلة كما قال هذا العالم الشيعي .
1 - نقص سورة الولاية (1) .
2 - نقص سورة النورين (2) .
3 - نقص بعد الكلمات من الآيات (3) .
ثم قال إن الإمام علياً لم يتمكن من تصحيح القرآن في عهد خلافته بسبب التقية ، وأيضاً حتى تكون حجة في يوم القيامة على المحرفين ، والمغيرين (4) .
*وقال الخوميني (5) :
إن تهمة التحريف التي يوجهها المسلمون إلى اليهود والنصارى إنما تثبت على الصحابة" (6)
__________
(1) - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغه مؤسسة الوفاء - بيروت ج 2 المختار الاول ص214.وقد اطلعت على هذه السورة المزعومة وهي مليئة بالأخطاء التي لا يقع في مثلها عربي, بالإضافة إلى ابتذال أسلوبها.
(2) - المصدر السابق ص 217 .
(3) - المصدر السابق ص 217 .
(4) - المصدر السابق ص 219 .وانظر إلى تعليله السقيم الذي لا يقبله شرع ولا عقل.أليس ولي الأمر مسئول عن رعيته أمام الله تعالى وعن إصلاح شأنها وإقامتها على شرع الله فكيف يتخلى علي رضي الله عنه عن ذلك؟.
(5) - آية الله الخوميني عظيمهم في هذا العصر ومؤسس دولتهم المعاصرة.
(6) - أنظركتابه كشف الأسرار ص:114(1/50)
وبارك الخوميني غيره من كبار علمائهم المعاصرين دعاء (صنمي قريش) وينصح بترديده وهذا الدعاء يشتمل على لعن أبي بكر وعمر-وهما المقصودان عندهما بصنمي قريش- وبنتيهما, واتهامهما بتحريف كتاب الله تعالى, بل قال حسين الموسوي في كتابه (1) :" وكان الخوميني يقول هذا الدعاء بعد صلاة الصبح كل يوم" ونكتفي بذكر مقدمه الدعاء " اللهم صل على محمد وآل محمد والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيها وإفكيها وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وصيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك ، وقلبا دينك وحرفا كتابك (2) ... اللهم العنهم بكل آية حرفوها (3) ....
* واعلم أنه قد كانت روايات وأقوال الشيعة في التحريف متفرقة في كتبهم السالفة التي لم يطلع عليها كثير من الناس حتى أذن الله بفضيحتهم على الملأ ، عندما قام النوري الطبرسي - أحد علمائهم الكبار - في سنة 1292هـ وفي مدينة النجف حيث المشهد الخاص بأمير المؤمنين بتأليف كتاب ضخم لإثبات تحريف القرآن وسماه ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) وقد ساق في هذا الكتاب حشداً هائلاً من الروايات لإثبات دعواه في القرآن الحالي أنه وقع فيه التحريف .
وقد اعتمد في ذلك على أهم المصادر عندهم من كتب الحديث والتفسير ، واستخرج منها مئات الروايات المنسوبة للأئمة في التحريف . وأثبت أن عقيدة تحريف القرآن هي عقيدة علمائهم المتقدمين .
وقد قسم كتابه هذا إلى ثلاث مقدمات وبابين .
__________
(1) - لله ثم للتاريخ ص: 87
(2) 8- وهذا الكلام طعن في القرآن الكريم والمقصودون في الدعاء هم ابو بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم.
(3) 9- وقد ورد توثيق مجموعة من علمائهم لهذا الدعاء منهم الخوميني والخوئي في كتاب (تحفة العوام مقبول جديد) باللغه الاوردية لمؤلفه منظور حسين (ص442) .(1/51)
المقدمة الأولى : عَنوَن لها بقوله (في ذكر الأخبار التي وردت في جمع القرآن وسبب جمعه ، وكونه في معرض النقص ، بالنظر الى كيفية الجمع ، وأن تأليفه يخالف تأليف المؤمنين ).
المقدمة الثانية : جعل عنوانها ( في بيان أقسام التغيير الممكن حصوله في القرآن والممتنع دخوله فيه ) .
المقدمة الثالثة : جعلها في ذكر أقوال علمائهم في تغيير القرآن وعدمه (1) .
ولعل هذه العناوين تنبأ عما تحتها من جرأة عظيمة على كتاب الله الكريم بشكل لم يسبق له مثيل .
وسأكتفي بنقل ما أورده النوري الطبرسي في المقدمة الثالثة من أسماء علمائهم القائلين بالتحريف . قال : "المقدمة الثالثة ( في ذكر أقوال علمائنا رضوان الله عليهم أجمعين في تغيير القرآن وعدمه) فاعلم أن لهم في ذلك أقوالاً مشهورها اثنان :
الأول : وقوع التغيير والنقصان فيه وهو مذهب الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي – شيخ الكليني - في تفسيره . صرح بذلك في أوله وملأ كتابه من أخباره مع التزامه في أوله بألا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته .
ومذهب تلميذه ثقة الاسلام الكليني رحمه الله على مانسبه اليه جماعة ، لنقله الأخبار الكثيرة والصريحة في هذا المعنى .
وبهذا يعلم مذهب الثقة الجليل محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات... وهذا المذهب صريح الثقة محمد بن إبراهيم النعماني تلميذ الكليني صاحب كتاب (الغيبة) المشهور ، وفي (التفسير الصغير) الذي اقتصر فيه على ذكر أنواع الآيات وأقسامها ، وهو منزلة الشرح لمقدمة تفسير علي بن إبراهيم .
وصريح الثقة الجليل سعد بن عبد الله القمي في كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه) كما في المجلد التاسع عشر من البحار ، فإنه عقد بابا ترجمته (باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عز وجل مما رواه مشائخنا رحمة الله عليهم من العلماء من آل محمد عليهم السلام ) ثم ساق مرسلا أخبارا كثيرة تأتي في الدليل الثاني عشر فلاحظ .
__________
(1) - فصل الخطاب : ص 1 .(1/52)
وصرح السيد علي بن أحمد الكوفي في كتاب (بدع المحدثة) ، وقد نقلنا سابقا ما ذكره فيه في هذا المعنى ..
وهو ظاهر أجلة المفسرين وأئمتهم الشيخ الجليل محمد بن مسعود العياشي ، والشيخ فرات بن إبراهيم الكوفي ، والثقة النقد محمد بن العباس الماهيار ، فقد ملئوا تفاسيرهم بالأخبار الصريحة في هذا المعنى .
وممن صرح بهذا القول ونصره الشيخ الأعظم : محمد بن محمد النعمان المفيد :
ومنهم شيخ المتكلمين ومتقدم النوبختيين أبو سهل إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت صاحب الكتب الكثيرة التي منها (كتاب التنبيه في الإمامة ) قد ينقل عنه صاحب الصراط المستقيم . وابن أخته الشيخ المتكلم ، الفيلسوف ، أبو محمد،حسن بن موسى ، صاحب التصانيف الجيدة ، منها : كتاب (الفرق والديانات).
والشيخ الجليل أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت صاحب كتاب (الياقوت) الذي شرحه العلامة ووصفه في أوله بقوله (شيخنا الأقدم وإمامنا الأعظم) .
ومنهم إسحاق الكاتب الذي شاهد الحجة - عجل الله فرجه ..
ورئيس هذه الطائفة الشيخ الذي قيل ربما بعصمته ، أبو القاسم حسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ، السفير الثالث بين الشيعة والحجة صلوات الله عليه .
وممن يظهر منه القول بالتحريف : العالم الفاضل المتكلم حاجب بن الليث ابن السراج كذا وصفه في (رياض العلماء) .
وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ الجليل الأقدم فضل بن شاذان في مواضع من كتاب (الإيضاح) . وممن ذهب اليه من القدماء الشيخ الجليل محمد بن الحسن الشيباني صاحب تفسير (نهج البيان عن كشف معاني القرآن ) (1) .
__________
(1) - فصل الخطاب : ص 25-26 .(1/53)
أما الباب الأول : فقد خصصه الطبرسي لذكر الأدلة التي استدل بها هؤلاء العلماء على وقوع التغيير والنقصان في القرآن . وذكر تحت هذا الباب اثني عشر دليلا استدل بها على مازعمه من تحريف القرآن . وأورد تحت كل دليل من هذه الأدلة حشداً هائلاً من الروايات المفتراه على أئمة آل البيت الطيبين (1) .
أما الباب الثاني : فقد قام فيه الطبرسي بذكر أدلة القائلين بعدم تطرق التغيير في القرآن ثم رد عليها ردا مفصلاً (2) .
.
ونخلص مما سبق إلى أن:
1- كبار علمائهم يقولون: إن الروايات التي تطعن في القرآن الكريم متواترة ومستفيضة.
2- و يقولون : القول بتحريف ونقصان القرآن من ضروريات مذهب الشيعة الإمامية.
3- ويقولون : الشيعة الإمامية مجمعون على أن القرآن محرف , ومن خالف فإنما قال ذلك تقية.
القول الثاني: قول بعض المحققين منهم بعدم تحريف القرآن:
وقد تقدم ذكر بعضهم ,وهم: السيد المرتضي والصدوق والطوسي والطبرسي. وهو قول كثير من المعاصرين, وقال السيد الخوئي – وكان كبير علماء الحوزة العلمية بالنجف – بهذا القول, وادعى أن هذا هو المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم, وأبطل القول بالتحريف ورد على شبههم وأطال في ذلك في تفسيره حيث قال (3) :
المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم - ص - ، وقد صرح بذلك كثير من الأعلام:
__________
(1) - فصل الخطاب : ص 35 .
(2) - فصل الخطاب : ص 357 , و انظر كتاب الشيعة وتحريف القرآن للمؤلف محمد مال الله .
(3) - أبو القاسم الموسوي الخوئي/البيان في تفسير القرآن (ص:200-226) دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان(1/54)
منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية . ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وصرح بذلك في أول تفسيره " التبيان " ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى ، واستدلاله على ذلك بأتم دليل .
ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره " مجمع البيان " ، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه " كشف الغطاء " وادعى الإجماع على ذلك ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه " العروة الوثقى " ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين . ومنه المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه.
ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره " آلاء الرحمن " .
وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم . منهم شيخ المشايخ المفيد ، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي ، والمحقق القاضي نور الله ، وأضرابهم .
وممن يظهر منه القول بعدم التحريف : كل من كتب في الإمامة من علماء الشيعة وذكر فيه المثالب ، ولم يتعرض للتحريف ، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره .
وجملة القول : أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف . نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة ، وجمع من علماء أهل السنة (1) إلى وقوع التحريف .
* وقال الخوئي في الرد على دعوى تحريف الخلفاء للقرآن:
إن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين ، بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله وسلم وإما من عثمان بعد انتهاء الأمر إليه ، وإما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الأول من الخلافة ، وجميع هذه الدعاوى باطلة .
__________
(1) - هذا يهتان عظيم وكذب على أهل السنة , يدلسون به على القراء ليداروا به عورة مذهبهم.(1/55)
أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر وعمر ، فيبطلها أنهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين ، وإنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، لأنه لم يكن مجموعًا قبل ذلك ، وإما أن يكونا متعمدين في هذا التحريف ، وإذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما وإما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك ، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة : أما احتمال عدم وصول القرآن إليهما بتمامه فهو ساقط قطعًا ، فإن اهتمام النبي - ص – بأمر القرآن بحفظه ، وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله - ص - وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظًا عندهم ، جمعًا أو متفرقًا ، حفظًا في الصدور ، أو تدوينًا في القراطيس ، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها ، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز ، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن ؟ حتى يضيع بين الناس ، وحتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين ؟ وهل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن بل كاحتمال عدم بقاء شئ من القرآن المنزل ؟ .
على أن روايات الثقلين المتضافرة " المتقدمة " دالة على بطلان هذا الاحتمال ، فإن قوله - ص - : " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي " لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره ، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ،(1/56)
بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن ، وجمعه في زمان النبي - ص - لأن الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات ، ولا على المحفوظ في الصدور . - وسنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم - ، وإذا سلم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده - صلى الله عليه واله وسلم - فلماذا لم يهتم بذلك النبي - صلى الله عليه واله وسلم - بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن ؟
فهل كان غافلاً عن نتائج هذا الإغفال ، أو كان غير متمكن من الجمع ، لعدم تهيؤ الوسائل عنده ؟ ! ومن الواضح بطلان جميع ذلك .
وأما احتمال تحريف الشيخين للقرآن - عمدًا - في الآيات التي لا تمس بزعامتهما ، وزعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه ، إذ لا غرض لهما في ذلك ، على أن ذلك مقطوع بعدمه ، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ؟
وهلاّ احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه ؟
وهلا ذكر ذلك أمير المؤمنين (ع) في خطبته الشقشقية المعروفة، أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدمه ؟
ولا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك ، واختفاء ذلك عنا ، فإن هذه الدعوى واضحة البطلان .
وأما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدًا ، في آيات تمس بزعمامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه ، فإن أمير المؤمنين - عليه السلام - وزوجته الصديقة الطاهرة - عليها السلام - وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة ، واحتجوا عليهما بما سمعوا من النبي - ص - واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجوا عليه بحديث الغدير وغيره ، وقد ذكر في كتاب الاحتجاج : احتجاج اثني عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة ، وذكروا له النص فيها ،(1/57)
وقد عقد العلامة المجلسي (بحار الانوار ج 8 ص 79 ) بابًا لاحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في أمر الخلافة، ولو كان في القرآن شئ يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، ولاسيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير ، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى علي - عليه السلام - دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور .
وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الأولى :
1 - لأن الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئًا ، ولا في إمكان من هو أكبر شأنًا من عثمان .
2 - ولأن تحريفه إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية ، ولا تمس زعامة سلفه بشئ ، فهو بغير سبب موجب ، وإن كان للآيات التي ترجع إلى شئ من ذلك فهو مقطوع بعدمه ، لأن القرآن لو اشتمل على شئ من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان .
3 - ولأنه لو كان محرفا للقرآن ، لكان في ذلك أوضح حجة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنًا ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج .
4 - ولكان من الواجب على علي - عليه السلام - بعد عثمان أن يرد القرآن إلى أصله ، الذي كان يقرأ به في زمان النبي - ص - وزمان الشيخين ولم يكن عليه في ذلك شئ ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده وأظهر لحجته على التائرين بدم عثمان ، ولا سيما أنه - عليه السلام - قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان . وقال في خطبة له : " والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق " ( انظر نهج البلاغة : فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان ) .(1/58)
هذا أمر علي في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرفًا ، فيكون إمضاؤه - عليه السلام - للقرآن الموجود في عصره ، دليلا على عدم وقوع التحريف فيه .
وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدعها أحد فيما نعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أن الحجّاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر ، والشام ، والحرمين ، والبصرة والكوفة ، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف . وأما المصاحف الأخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة .
وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ، وخرافات المجانين والأطفال ، فإن الحجّاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعًا ، وأصغر قدرًا من أن ينال القرآن بشئ ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ؟
ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟
وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ، وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج ، وانتهاء سلطته ؟ .(1/59)
وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القران ؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله ، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شئ يمس بني أمية ، لاهتم معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة ، وأعظم نفوذًا ، ولاستدل به أصحاب علي - عليه السلام - على معاوية ، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ ، وكتب الحديث والكلام ، وبما قدمناه للقارئ ، يتضح له أن من يدعي التحريف يخالف بداهة العقل ، وقد قيل في المثل : حدث الرجل بما لا يليق ، فإن صدق فهو ليس بعاقل .
ثم قال الخوئي:
وهنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لا بد لنا من التعرض لها ودفعها واحدة واحدة :
الشبهة الأولى : أن التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل ، وقد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة والسنة : أن كل ما وقع في الأمم السابقة لا بد وأن يقع مثله في هذه الأمة، فمنها ما رواه الصدوق في " الإكمال " عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : " قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : كل ما كان في الأمم السالفة ، فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة " .
ونتيجة ذلك : أن التحريف لا بد من وقوعه في القرآن ، وإلاّ لم يصح معنى هذه الأحاديث .
وأجاب على هذه الشبهة من أربعة أوجه نذكر منها وجهًا واحدًا وهو قوله :(1/60)
إن كثيرًا من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الأمة ، كعبادة العجل ، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة ، وغرق فرعون وأصحابه ، وملك سليمان للإنس والجن ، ورفع عيسى إلى السماء وموت هارون وهو وصي موسى قبل موت موسى نفسه ، وإتيان موسى بتسع آيات بينات ، وولادة عيسى من غير أب ، ومسخ كثير من السابقين قردة وخنازير ، وغير ذلك مما لا يسعنا إحصاؤه ، وهذا أدل دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات ، فلا بد من إرادة المشابهة في بعض الوجوه .(1/61)
وعلى ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن ، وإن أقاموا حروفه كما في الرواية التي تقدمت في صدر البحث ، ويؤكد ذلك ما رواه أبو واقد الليثي : " أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما خرج إلى خيبر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم . فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سبحان الله , هذا كما قال قوم موسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً}[الأعراف:138] ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم " (1) فإن هذه الرواية صريحة في أن الذي يقع في هذه الأمة ، شبيه بما وقع في تلك الأمم من بعض الوجوه (2) .
__________
(1) - رواه أحمد(5/218 برقم:21950 ) والترمذي(4/475 برقم2180) وقال:حديث حسن صحيح.
(2) - ويمكن أن يقال: إن من هذه الوجوه تحريف الشيعة لمعاني الآيات وتأويلها تأويلاً باطنيًا, وكذا زيادة بعض الكلمات في بعض الآيات ككلمة(علي) و(آل محمد) ثم يدعون أن الآية نزلت هكذا, أليس مثل هذا يكون تحريفًا, ومثل هذا حدث لمن سبقنا من الأمم في كتبهم, وقد أثر فيها لأن الله تعالى لم يتكفل بحفظها وإنما كُلف أحبارهم بذلك كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء }[المائدة:44] أما القرآن فقد تكفل الله تعالى بحفظه ولم يترك حفظه للعلماء ولا غيرهم قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر:9] لذلك لم يؤثر في القرآن مثل هذه المحاولات البائسة للتحريف.(1/62)
الشبهة الثانية : أن عليًا عليه السلام كان له مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه ، وأن مصحفه عليه السلام كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بأيدينا ، ويترتب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين علي عليه السلام وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه ، وذكر بعض الروايات الدالة على ذلك ثم قال:
والجواب عن ذلك : أن وجود مصحف لأمير المؤمنين - عليه السلام - يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه ، وتسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته ، كما أن اشتمال قرآنه - عليه السلام - على زيادات ليست في القرآن الموجود ، وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن ، وقد أسقطت منه بالتحريف ، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل ، وما يؤول إليه الكلام ، أو بعنوان التنزيل من الله شرحًا للمراد (1) ... إلخ
الشبهة الثالثة : أن الروايات المتواترة عن أهل البيت - ع - قد دلت على تحريف القرآن فلا بد من القول به :
__________
(1) - هذا الاحتمال(الثاني) الذي ذكره الخوئي غلط واضح إذ كيف يدعي أن الله أنزل من السماء تفسيرًا أوشرحًا للمراد وكان هذا الشرح المنزل عند عليّ, إن هذا فيه اتهام مستتر للصحابة بأنهم أخفوا الشرح المنزل, وبذلك ينقض الخوئي نفسه في دفاعه عن عدم التحريف , و يفسر لنا وصيته عند موته لتلاميذه .وستأتي.(1/63)
والجواب : أن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه ، وتوضيح ذلك : أن كثيرا من الروايات ، وإن كانت ضعيفة السند ، فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري ، الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه ، وأنه يقول بالتناسخ ، ومن علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب ، وأنه فاسد المذهب" ثم ناقض الخوئي نفسه بعد ذلك فقال:إلاّ أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك ، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل روايةٍ بخصوصها .أهـ المراد من كلام الخوئي (1) .
... جمع القرآن
كيف جمع القرآن في العهدين: عهد النبوة, وعهد الخلفاء الراشدين؟.
جمع القرآن على نوعين:
__________
(1) - ومع قول الخوئي بعدم التحريف , تجده يوثق علي بن إبراهيم القمي الذي له غلو في القول بالتحريف , باعتراف علمائهم , { أنظر توثيقه ورواته في معجم رجال الحديث للخوئي: 1/63 } فبم نفسر ذلك؟ وبم تسقط عدالة الراوي عندهم , إن لم تسقط عدالة من يعتقد تحريف القرآن؟إن أهل السنة يسقطون عدالة الراوي بمجرد أن يرتكب فعلاً من خوارم المروءة وإن كان صالحاً سليم المعتقد, فما بالك بفاسد المعتقد , أضف إلى ما سبق أيضًا ما ذكره حسين الموسوي تلميذ الخوئي في كتابه لله ثم للتاريخ (ص:77) حيث قال: ولهذا قال الإمام الخوئي في وصيته لنا وهو على فراش الموت، عندما أوصانا كادر التدريس في الحوزة :(عليكم بهذا القرآن حتى يظهر قرآن فاطمة)أهـ فالرجل يعتقد إذاً بوجود قرآن فاطمة المختفي مع القائم(المهدي) كما يزعمون.(1/64)
الأول: الجمع في الصدور:عن طريق الحفظ والاستظهار.وهذه الأمة المباركة قد فضلها الله تعالى بهذه الخاصية التي لم تكن لغيرها,حتى أنهم كانوا قبل الإسلام يحفظون الأشعار والأحساب والأنساب, ويستظهرونها, بل تجد منهم الجم الغفير الذي يحفظ المعلقات العشر على كثرة أشعارها وصعوبة حفظها.فلما نزل القرآن تبادر إليه الصحابة وتداعت الهمم لحفظه, بما لم يحصل لغيره, حتى حَفِظه في حياة النبي الكثير منهم, ويكفي أن تعرف أنه قد قتل من الحفاظ سبعون ببئر معونة في حياته صلى الله عليه وسلم ومثلهم يوم اليمامة بعد موته بقليل.هذا بخلاف الجم الغفير الذي لم يقتل.وكان الصحابة يتلون القرآن آناء الليل وأطراف النهار, حتى أنه كان يسمع لهم دويٌّ كدويّ النحل.وكان مَن يمر بمنازلهم يسمع ذلك, ففي الصحيحين:البخاري(3991) ومسلم(2499) عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ, وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ, وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ"
الثاني: الجمع في السطور:(1/65)
وذلك عن طريق الكتابة والنقش. فقد كان لرسول الله كتابٌ للوحي كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته, مبالغة في تسجيله وتقييده, وزيادةً في التوثيق والضبط, حتى تؤيد الكتابةُ الحفظ, ويعضد المسطورُ ما حفظ في الصدور, ومن كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم :الخلفاء الراشدين الأربعة, وزيد بن ثابت وأبي بن كعب, ومعاذ بن جبل, ومعاوية بن أبي سفيان. وغيرهم من الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم أجمعين. وكان من الصحابة من يكتب ما نزل من القرآن في مصحف لنفسه كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما .وفي الصحيحين وغيرهما (1) عن قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ: أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ, قُلْتُ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي".
__________
(1) - رواه أحمد(13972) والبخاري(3599) ومسلم (2465)والترمذي(3794) وابن حبان(7130) وغيرهم.(1/66)
فبالحفظ والكتابة معًا جُمع القرأن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأيضًا في عهد أبي بكر وعثمان.ولكن لم يكن جمع القرآن في السطور(بالكتابة) في حياة الرسول في مصحف واحد على نحو ما هو الآن في الترتيب وإنما كان يجمع ويكتب ما نزل من القرآن إلى يومها, وذلك لأن القرآن لم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم جملة واحدة بل كان ينزل مفرقًا, وأيضًا كانت بعض الآيات معرضةً للنسخ, وقد تنزل آية متأخرة ويكون ترتيبها في سورة متقدمة, وأيضًا لم يتكامل نزول القرآن إلا في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم, فيصعب لكل ذلك أن يجمع القرآن في مصحف واحد على الترتيب الأخير.فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, زالت الموانع السابقة من جمع القرآن في مصحف واحد, بل وتوفر من الدواعي ما يعضد جمعه في مصحفٍ واحد كقتل القراء والتنازع الذي حدث بسبب الاختلاف في القراءات.وخوف الفتنة على من يأتي بعد الصحابة خاصة بعدما اتسعت بلاد الإسلام.
* جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
وكان السبب فيه قتل سبعين من قراء القرآن يوم اليمامة فاختار الصديق لهذه المهمة زيد بن ثابت لأمانته وضبطه وعلمه وذكائه, ولأنه كان من كتاب الوحي وأيضًا قد حضر العرضة الأخيرة التى بين فيها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ما نسخ من القرآن, وترتيب الآيات والسور على النحو الأخير.ولنترك صحيح البخاري(4701) يبين لنا القصة:عن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:(1/67)
أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ, وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ, قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ ,و قَالَ زَيْدٌ :قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ, وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ, فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ, قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ, فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ, حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ }حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ, فَكَانَتْ(1/68)
الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ,ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ,ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" وفي رواية له:" مع خزيمة أو أبي خزيمة"
وليس المقصود بقول زيد في هذا الحديث: (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ) أنها لم تكن محفوظة لأن زيدًا نفسه كان يحفظها وكذاغيره ,وإنما أراد الكتابة لأنه كان يجمع بين الحفظ والكتابة زيادةً في الاحتياط.
وقد انتهج زيد بن ثابت في جمع القرآن خطة رشيدة في غاية الدقة والإحكام على ما رسمه له الصديق رضي الله عنه. فلم يكتف بما حفظه بنفسه ولا بما سمعته أذنه من النبي ولا بما كتبه هو, بل ظل يستقصي ويتتبع آخذاً على نفسه أن يعتمد في جمع القرآن على مصدرين معًا:
أولاً: ما كان محفوظًا في الصدور
ثانيًا: ما كان مكتوبًا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم .
وبلغ من شدة حرصه على أنه كان لا يقبل شئًا من المكتوب إلا بعد أن يشهد عليه شاهدان عدلان أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك ما رواه ابن أبي داود أن عمر بن الخطاب قَدِمَ فقال:من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأت به, وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعُسب, وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتى يشهد شهيدان", وما رواه أيضًا ابن أبي داود- في المصاحف- أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيءٍ من كتاب الله فاكتباه" قال السخاوي: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
أهم مزايا مصحف أبي بكر الصديق:
أولاً:التحري الدقيق التام والتثبت الكامل.
ثانيًا: لم يُسجل في المصحف إلاّ ما ثبت عدم نسخ تلاوته.
__________
(1) - التبيان في علوم القرآن ص:63(1/69)
ثالثًا:إجماع الصحابة عليه,و تواتر ما سجل فيه من الآيات القرآنية.
رابعًا:شموله للقراءات التي نقلت بالنقل الثابت الصحيح. (1)
هذا وقد كان لبعض الصحابة مصاحف خاصة بهم كما سبق أن بينا, وروي أنه كان لعلي بن أبي طالب أيضًا مصحف خاص به كتبه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة , ولكن كلّ هذه المصاحف كانت تحتوي على الناسخ والمنسوخ, ولم يثبت لها التواتر ولا إجماع الصحابة كما هو الحال في المصحف الذي أمر بجمعه أبو بكر رضي الله عنه.
ولذلك أصبح جمع القرآن منقبة خالدة للصديق أبي بكر ومن أهم أعماله رضي الله عنه, وأيضًا لزيد بن ثابت. وقد روى غير واحد من الأئمة منهم وَكِيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين " (2) .
*جمع القرآن في عهد عثمان :
وكان سببه ما نشأ من النزاع والشقاق بسبب اختلاف القراءات وذلك حيث اتسعت الفتوحات الاسلامية وتفرق الصحابة في الأمصار وكان بين بعضهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءات وصار كل واحد منهم يعلم تلاميذه بقراءته.فدبّ الخلاف والنزاع بسبب ذلك. فجمع عثمان أعلام الصحابة واستشارهم في ذلك, فأجمعوا أمرهم على أن يستنسخ أمير المؤمنين مصاحف عديدة ويرسل بها إلى الأمصار ليأخذوا بها ويتركوا ما سواها, فأتى بالصحف التي جمع فيها أبو بكر القرآن وكانت عند حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها, وأمر بجمع القرآن ونسخه وأرسل إلى كل مصر بنسخة, وأمر بإحراق أي مصحف آخر سوى هذه المصاحف التي أرسل بها وأجمع الصحابة على ما فيها وبذلك قضى على الفتنة.
__________
(1) - التبيان في علوم القرآن ص:64
(2) -إسناده صحيح.ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 156) وابن أبي داود في المصاحف (ص 11).(1/70)
روى البخاري(4702) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ, فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ , فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ".(1/71)
ومما سبق يتضح جلياً مدى عناية الصحابة بجمع القرآن, وأن هذا الكتاب الكريم جمع وحفظ بدقة وعناية لم ينلها كتاب قبله ولا بعده, وقد اعترف غير المسلمين من المستشرقين وغيرهم بذلك.ومع هذا تجد أكثر الشيعة الإمامية يتهمون الصحابة بالتواطؤ أثناء جمع القرآن على حذف الآيات التي فيها الأمر بولاية أهل البيت وأنهم الأوصياء على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم,إلى آخر ذلك الهذيان من القول بتحريف القرآن, والقول بأن عليًا رضي الله عنه هو الذي جمع القرآن الحقيقي كله, وتركه مع الأوصياء بعده.مع أن عليًا رضي الله عنه قال:"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر ..." ولكنهم أعماهم الهوى عن اتباع الحق, فكم من المسائل والأقوال التي خالفوا فيها عليًا رضي الله عنه, وسيأتي أمثلة على ذلك فيما بعد , وهم يزعمون اتباعه والولاء له والإئتمام به, وكذبوا, فما أتباعه ومحبوه الحقيقيون إلا من اتبع الحق وهم أهل السنة والجماعة, أما هؤلاء فسيتبرأ منهم علي رضي الله عنه يوم القيامة كما سيتبرأ المسيح عليه السلام ممن ادعوا محبته واتباعه وهم على غير شريعته الصافية التي جاء بها من عند الله تعالى.وسأورد لك طرفًا من كلامهم:
في مقدمة تفسير الصافي للفيض الكاشاني:المقدمة السادسة
(في نُبذ مما جاء في جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويل ذلك ) قال:
روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بإسناده عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام يا علي إن القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق علي عليه السلام فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال : لا أرتدي حتى أجمعه . قال : كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه .(1/72)
وفي الكافي: عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السلام قال : قلت له : جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم فقال: لا , اقرأوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم .
أقول : يعني به صاحب الأمر عليه السلام (1) .
وبإسناده عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا أستمع حروفًا من القرآن ليس على مايقرؤها الناس . فقال أبو عبد الله عليه السلام : كف عن هذه القراءة وإقرأ كما يقرأ الناس , حتى يقوم القائم عليه السلام, فإذا قام قرأ كتاب الله تعالى على حده, وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام , وقال : أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه ، فقال لهم هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقد جمعته بين اللوحين, فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن, لا حاجة لنا فيه, فقال : أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدًا إنما كان عليَّ أن اخبركم حين جمعته لتقرءوه .
وبإسناده عن البزنطي قال : دفع أبو الحسن عليه السلام مصحفًا وقال : لا تنظر فيه, ففتحته (2) وقرأت فيه: { لَمْ يّكُن الَّذِينَ كَفَرُوا}[البينة:1] فوجدت فيه اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال: فبعث إليّ , ابعث إليّ بالمصحف " أهـ (3) .
* القراءات المتواترة:
قال السيوطي في الإتقان :
__________
(1) - يعني القائم ( المهدي) إمامهم الثاني عشر الغائب.
(2) - أنظر كيف خالف أمر إمامه ولم يؤتمن على وصيته ! فكيف يثقون برواية أمثال هؤلاء؟
(3) -تفسير الصافي المقدمة السادسة ( ص40-41 )(1/73)
المشتهرون بإقراء القرآن من الصحابة سبعة : عثمان، وعليّ، وأُبيّ، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأَبو الدَّرداء، وأَبو موسى الأَشعري. كذا ذكرهم الذهبيّ في [طبقات القراء]. قال : وقد قرأَ على أُبيّ جماعةٌ من الصِّحابة، منهم أَبو هريرة وابنُ عباس وعبد الله بن السائب، وأَخذ ابنُ عباس عن زيدٍ أيضاً، وأَخذ عنهم خلْق من التابعين.
فممّن كان بالمدينة: ابن المسيَّب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا يسار، ومُعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القاريء، وعبد الرحمن بن هُرمز الأَعرج، وابن شهاب الزهريّ، ومسلم بن جُندَب، وزيد بن أَسلم .
وبمكة : عبيد بن عُمير، وعطاء بن أَبي رباح، وطاوس، ومجاهد، وعِكْرمة، وابن أَبي مُليكة .
وبالكوفة: علقمة، والأَسود، ومسروق، وعُبيدة، وعمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، والرَّبيع بن خُثَيْم، وعمرو بن ميمون، وأَبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وزر بن حُبيش، وعبيد بن نُضَيلة، وسعيد بن جُبير، والنَّخعيّ والشَّعبيّ .
وبالبصرة : أَبو العالية، وأَبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمرُ، والحسن، وابن سيرين، وقتادة .
وبالشام : المغيرة بن أَبي شهاب المخزوميّ صاحب عثمان، وخليفة بن سعد صاحب أَبي الدرداء.
ثم تجرَّد قوم، واعتنوْا بضبط القراءة أَتمَّ عناية، حتى صاروا أَئِمَّةً يُقتَدى بهم ويُرحَل إليهم .
فكان بالمدينة : أَبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نَصَاح، ثم نافع بن أَبي نعيم .
وبمكة : عبد الله بن كَثير، وحميد بن قيس الأَعرج، ومحمد بن مُحيصن.
وبالكوفة : يحيى بن وثَّاب، وعاصم بن أَبي النَّجود، وسليمان الأَعمش، ثم حمزة ثم الكسائي .
وبالبصرة : عبد الله بن أَبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأَبو عمرو بن العلاء، وعاصم الجُحْدَريّ، ثم يعقوب الحضْرميّ .(1/74)
وبالشام : عبد الله بن عامر، وعطيَّة بن قيس الكلابيّ، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثمَّ يحيى بن الحارث الذماريّ، ثمَّ شُريح بن يزيد الحضرمي ّ.
واشتهر من هؤلاء في الآفاق الأَئمة السبعة :
1- نافع ، وقد أَخذ عن سبعين من التابعين، منهم أَبو جعفر.
2- وابن كثير، وأَخذ عن عبد الله بن السائب الصحابيّ.
3- وأبو عمرو، وأَخذ عن التابعين .
4-وابن عامر ، وأَخذ عن أَبي الدَّرداء، وأَصحاب عثمان .
5- وعاصم ، وأَخذ عن التابعين .
6- وحمزة ، وأَخذ عن عاصم والأَعمش والسَّبيعيّ ومنصور بن المعتمر وغيره .
7- والكسائي : وأَخذ عن حمزة وأَبي بكر بن عيَّاش.
ثم انتشرت القراءات في الأَقطار، وتفرَّقوا أُمماً بعد أُمم ، واشتهر من رواة كلّ طريق من طرق السبعة راويان :
فعن نافع : قالون وورش، عنه .
وعن ابن كثير : قُنْبل والبزيّ، عن أَصحابه عنه .
وعن أبي عمرو: الدوري والسّوسيّ، عن اليزيديّ، عنه .
وعن ابن عامر : هشام وابن ذكْوان عن أَصحابه، عنه .
وعن عاصم: أبوبكر بن عياش , وحفص,عنه.
وعن حمزة: خلف وخلاّد,عن سليم, عنه.
وعن الكسائي : الدُّوري، وأَبو الحارث .
ثم لمَّا اتَّسع الخرْق وكاد الباطل يلتبس بالحق، قام جهابذة الأُمة، وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزَوا الوجوه والروايات، وميَّزوا الصحيح والمشهور والشاذَّ بأُصولٍ أَصَّلوها، وأَركان فصَّلوها .
فأَوَّل من صنَّف في القراءات أَبو عبيد القاسم بن سلام، ثم أَحمد بن جُبير الكوفيّ، ثم إسماعيل بن إسحاق المالكيّ صاحب قالون، ثم أَبو جعفر بن جرير الطبري، ثم أَبو بكر محمد بن أَحمد بن عمر الداجوني، ثم أَبو بكر بن مجاهد، ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أَنواعها، جامعاً ومفرداً، وموجزاً ومسهباً ، وأَئمة القراءات لا تحصى.(1/75)
وقد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أَبو عبد الله الذهبي، ثم حافظ القراءات أَبو الخير بن الجزري .أهـ (1)
وفي مقدمة تفسير التبيان للطوسي – شيخ طائفة الاثنى عشرية - قال:
واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد ، على نبي واحد ، غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرَّاء وأن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ، وكرهوا تجويد قراءة بعينها بل أجازوا القراءة بالمُجاز الذي يجوز بين القرَّاء ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر, وروى المخالفون لنا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ( نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ ).أهـ (2)
فوائد ذات صلة:
الأولى: أُنزل القرآن على سبعة أحرف كما ثبت في السنة الصحيحة, فقد روى الشيخان: البخاري(3047) ومسلم(819) وغيرهما:عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
__________
(1) - السيوطي/ الإتقان في علوم القرآن (1/204 -206 )
(2) - الطوسي/التبيان في تفسير القرآن(1/7)(1/76)
وفي الصحيحين:البخاري(4754) ومسلم(818) وغيرهما-أيضًا- أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال:سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ, فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ, فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ, فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ, اقْرَأْ يَا هِشَامُ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ, ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ, فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ, إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ, فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ".(1/77)
وفي صحيح مسلم(821) وغيره عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام , فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ, فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ, وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ, ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ, فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ, وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ, ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ, فَقَالَ:أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ , وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ, ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا ". (1)
وهذه الأحرف السبعة التي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه القراءة بها للتخفيف على أمته , لا تعني القراءات السبعة المتواترة المذكورة أعلاه, كما قد يتوهم البعض,وإنما هي أعم منها فتشمل كل القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت من القراءات السبعة أو العشرة أو غيرها.
الثانية : أركان القراءة الصحيحة:
__________
(1) - وفي كتب الشيعة مثل هذه الرواية:كما في كتاب الخصال للشيخ الصدوق( ص:358 ), وخاتمة المستدرك للميرزا النوري (1/347) وبحار الأنوار(82/65).وعندهم-أيضًا- من الروايات ما يكذب ذلك ويبين أن القرآن أنزل على وجه واحد.وهذه سمة غالبة لروايات الشيعة الإمامية تراها متناقضة.(1/78)
الأول :موافقتها لوجه من أوجه اللغة العربية, كقراءة ابن عامر لقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }{الأنعام:137} فقرأها ببناء الفعل(زين) للمجهول, ورفع (قتل) على أنه نائب فاعل, ونصب (أولادهم) مفعول للمصدر, وجرّ(شركائهم) مضافًا للمصدر.ولقد ثبت أن(شركائهم)مرسوم بالياء في المصحف الذيس أرسله عثمان إلى الشام.وقد أنكر بعض النحاة هذه القراءة بحجة أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه لا يكون إلا بالظرف وفي الشعر خاصة, ولكن القراءة متواترة فلا تحتاج إلى ما يسندها من كلام العرب, بل تكون هي حجة يُرجع إليها ويُستشهد بها.
الثاني:موافقتها للرسم العثماني ولو احتمالاً, كالقراءتين بإثبات الألف وبحذفه في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }{الفاتحة:4} وبالإفراد والجمع لكلمة (أماناتهم) في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }{المؤمنون:8} وقد تكون القراءة ثابتة في بعض المصاحف العثمانية دون بعض كقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}{التوبة:100} بزيادة لفظ (من) لثبوته في المصحف الذي أرسله عثمان إلى مكة دون غيره من المصاحف.
الثالث:صحة سندهاعن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال زيد بن ثابت:القراءة سنة متبعة.
وإلى هذه الأركان الثلاثة يشير الإمام ابن الجزري في طيبة النشر بقوله:
فكلُّ ما وافقَ وجهَ نحو ِ...... وكان للرَّسْمِ احتمالاً يَحوي
وصَحَّ إسنادًا هو القرآنُ ...... فهذه الثلاثةُ الأركانُ
وحيثما يَختلُّ ركنٍ أثبِتِ ...... شذوذَهُ لو أنّهُ في السبعةِ(1/79)
وعلى هذا فإن اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة كانت القراءة شاذة ولا يجوز القراءة بها (1) .
الفائدةالثالثة: ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن المصاحف العثمانية التي أرسل بها عثمان إلى الأمصار مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة, جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام (2) .
الرابعة: روى القراءة عن عاصم كثيرٌ ولكن أشهرهم : حفص بن سليمان, وأبو بكر شعبة بن عياش ولقد أقرأ عاصمٌ حفصًا بقراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الإمام الأول من الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة الاثنى عشرية, وأقرأ شعبة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه, فقد روي عن حفص أنه قال:قلت لعاصم: إن أبا بكر شعبة يخالفني في القراءة, فقال: أقرأتك بما أقرأني به أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وأقرأت شعبة بما أقرأني به زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه" (3)
وأيضًا حمزة بن حبيب الزيات الكوفي أخذ القرآن عن سليمان الأعمش ، وحمران بن أعين, وأيضًا عن جعفر الصادق بن محمد الباقر وهو الإمام السادس عند الشيعة الاثنى عشرية, وفي هذا رد على الشيعة الاثنى عشرية حيث زعموا أن أئمتهم عندهم قرآن يختلف عن الذي عند سائر المسلمين.
* النسخ في القرآن:
__________
(1) - عطية قابل نصر/غاية المريد في علم التجويد ص: 18-19 بتصرف, وانظر:طيبة النشر في القراءات العشر للإمام ابن الجزري بتحقيق محمد تميم الزعبي ص:32 ط دار الغوثاني بدمشق
(2) - التبيان في علوم القرآن للصابوني ص: 244
(3) - غاية المريد ص: 24(1/80)
النسخ: هو رفع الشارع حكمًا من أحكامه بخطاب متأخرٍ عنه,وبذلك يتبين الفرق بين النسخ والتخصيص, فالنسخ يكون فيه النصان الناسخ والمنسوخ غير مقترنين زمانًا, بل يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ. كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كما في سورة البقرة , ونسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين كما في سورة الأنفال , ونسخ الصدقة في آية النجوى بالآية التي تليها في سورة المجادلة.
والنسخ واقع في الشريعة الإسلامية لحِكَمٍ، منها التدرج و التيسير.
وقد أَجمع المسلمون على جوازه، وأَنكره اليهود ظناً منهم أَنه بَداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له رأي جديد ، وهو باطل، لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة ، بل الله جل وعلا يشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين له ، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة . فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم ، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة . كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه ، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه ، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء ، لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له ، على وفق ما سبق في العلم الأزلي. فكذا الأَمر والنهي كما هو واضح .
ولا يقع النسخ إلاَّ في الأَمر والنَّهي، ولو بلفظ الخبر. أَما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أَدخل في كتب النسخ كثيراً من آيات الإِخبار والوعد والوعيد (1) .
__________
(1) -السيوطي/ الإتقان(3/60 ) , الشيخ محمد أبو زهرة/أصول الفقه:ص:172 ,الأشقر/ الواضح في أصول الفقه ص:82(1/81)
والأدلة على وقوع النسخ في القرآن: قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{البقرة:106} وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }{النحل:101} وقوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7}
ومن علماء الشيعة الاثنى عشرية قال الخوئي في تفسيره:
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإن جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى ، وهذا مما لا ريب فيه . وإنما الكلام في أن يكون شئ من أحكام القرآن منسوخا بالقرآن ، أو بالسنة القطعية ، أو بالإجماع ، أو بالعقل "أهـ (1)
هل يُنسخ القرآن بالسُّنة؟
والجواب:قد اختلف العلماء في ذلك :
فقيل : لا يُنسخ القرآن إلاَّ بقرآن، لقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. قالوا : ولا يكون مثل القرآن وخيرًا منه إلاَّ قرآن.
وقيل: بل ينُسخ القرآن بالسنَّة، لأَنها أَيضًا من عند الله، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [النجم : 3-4].
والثالث : إذا كانت السنَّة بأَمر الله من طريق الوحْي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. حكاه ابن حبيب النيسابوريّ في تفسيره .
__________
(1) - البيان في تفسير القرآن (ص:285).(1/82)
وقال الشافعي ّ: حيث وقع نسخ القرآن بالسنَّة، فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنَّة بالقرآن معه سنَّة عاضدة له؛ ليتبيَّن توافق القرآن والسنَّة (1) .
و قد ذهب كثير من المحققين إلى أن السنة غير المتواترة لا تنسخ القرآن, وقالوا: إن ما ورد من الأمثلة من السنة الناسخة للقرآن يمكن بالتتبع إثبات أن مع هذه السنة قرأنًا عاضدًا لها, كآية الوصية مثلاً نسخت بآيات المواريث مع الحديث الصحيح:" إنّ الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث (2) " وكذا آية: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }{النساء:15} ليست منسوخة بحديث:"خُذوا عَنِي, خُذوا عني, قد جَعَلَ اللهُ لهُنَّ سَبيلاً. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ,وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (3) " ولكن الآية جعلت للإمساك غايةً مبهمة فجاءت السنة وبيَّنت تلك الغاية.وقيل:إن الآية منسوخة بآية سورة النور.
* والنسخ في القرآن على ثلاثة أَضرب :
__________
(1) - السيوطي/ الإتقان (3/60 ).
(2) - رواه أحمد(17702) والترمذي (2121 ) وصححه, وأبو داود (2870) والنسائي(3641)وغيرهم.
(3) - رواه أحمد(22718) ومسلم(1690)وأبو داود(4415) والترمذي(1434) وابن ماجة(2550).(1/83)
أَحدها : ما نسخ تلاوته وحكمه معاً .وهو قليل, ويستدل له بقول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} . ومثّلوا له بقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ (1) " . فقول" عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ" نُسخ حكمًا وتلاوة.
الضرب الثاني : ما نسخ تلاوته وبقي حكمه ، ومثّلوا له بقول عائشة رضي الله عنها(في الحديث السابق): " ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ" فهذا نُسخت تلاوته وبقي حكمه عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه.
وقد تكلموا في قولها : (وهنَّ مما يقرأُ من القرآن): فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك .
وأُجيب بأَن المراد: قارب الوفاة، أَو أَنَّ التلاوة نُسِخت أَيضًا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلاَّ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتُوُفِّي وبعض الناس يقرؤُها .
وقال أَبو موسى الأَشعريُّ : نزلت ثم رفعت .
__________
(1) - رواه مالك (1270) ومسلم (1452) وغيرهما.(1/84)
ومثلوا لهذا الضرب أيضًا بآية الرجم فقد بقي حكمها ونسخت تلاوتها: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ وَقَدْ قَرَأْتُهَا" الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ" رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ" (1) .
وقد أَورد بعضهم فيه سؤالاً وهو : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاَّ أبقيَت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟
وأَجاب صاحب الفنون: بأَنَّ ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأُمَّة في المسارعة إِلى بذل النفوس بطريق الظنِّ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأَيسر شيء، كما سارع الخليل إبراهيم إلى ذبح ولدِه بمنام، والمنام أَدنى طريق الوحي (2) .
__________
(1) - صحيح:رواه ابن ماجة(2553) وغيره,والحديث في الصحيحين بدون ذكر الآية المنسوخة.
(2) -السيوطي/ الإتقان(3/72 )(1/85)
* وقد أنكر الخوئي في تفسيره (1) هذين الضربين من النسخ, ويُرَد على الخوئي بمفهوم قول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} وبأن من طائفته من أقر بذلك كالطوسي والطبرسي وغيرهما, ثم ادّعى الخوئي أن القول بهذا النسخ نوع من القول بوقوع التحريف في القرآن,وهذه مغالطة واضحة , فالفرق واضح بين الاثنين, إذ التحريف يكون من فعل البشر, وليس بوحي, فلا يستند إلى دليل شرعي, أما النسخ فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى, لذلك لا يؤخذ النسخ من العقل ولا من أقوال الأئمة أوغيرهم من العلماء والمفسرين , بل لابد فيه من النص الموحى به قرأنًا كان أو سنةً عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك لا يوجد في التحريف كما هو معلوم (2) .
__________
(1) - البيان (ص:285)
(2) - قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان(2/447 ) : لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة . لأن الله جلَّ وعلا يقول : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ] - وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع ، وكذلك لا نسخ بالإجماع . لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم : لأنه ما دام حياً فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم ، ولا حجة معه في قول الأمة ، لأن اتِّباعه فرض على كل أحد ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع :
وهو الاتفاق من مجتهدي ... الأمة من بعد وفاة أحمد
وبعد وفاته ينقطع النسخ . لأنه تشريع ، ولا تشريع البتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما - أشار في مراقي السعود أيضاً بقوله في النسخ :
فلم يكن بالعقل أو مجرد ... الإجماع بل ينمى إلى المستند
وقوله « بل ينمى إلى المستند » يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصاً منسوخٌ بالإجماع ، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع ، لا بنفس الإجماع . لما ذكرنا من منع النسخ به شرعاً . وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق . أهـ(1/86)
الثالث:ما نُسِخ حكمه وبقيت تلاوته.
وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليلٌ جداً، وإنْ أَكثر الناسُ من ذكر الآيات فيه.
وقد تتبع الإمام ابن جرير الطبري الآيات التي يمكن أن يقال إنها منسوخة فوجهها توجيهاً سديداً، وبقي عنده قرابة إحدى عشرة آية فقط هي منسوخة الحكم قطعاً لتغير الحكم اللاحق عن السابق بنصٍ من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، وهي معروفة عند أهل الاختصاص في علوم القرآن .
قال السيوطي : إن الذي أَورده المكثرون أَقسام :
قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه. وذلك مثل قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة، الآية: 3]. {أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} [البقرة، الآية: 254]. ونحو ذلك.
قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك هو باقٍ:
أَمَّا الأُولى: فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإِنفاق، وذلك يصلح أَن يفسّر: بالزكاة، وبالإِنفاق على الأَهل، وبالإِنفاق في الأُمور المندوبة كالإِعانة والإِضافة. وليس في الآية ما يدلُّ على أََنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية: يصلحُ حملها على الزكاة، وقد فسّرت بذلك.
وقوله في البقرة: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة، الآية: 83]. عدَّه بعضهم من المنسوخ بآية السيف. وقد غَلَّطه ابن الحصَّار بأَنَّ الآية حكاية عمَّا أَخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر لا نَسخ فيه، وقسْ على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ ، ومنه قوله تعالى {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]. وغير ذلك من الآيات التي خُصَّت باستثناء أَو غاية ، وقد أَخطأَ من أَدخلها في المنْسوخ.(1/87)
ومنه قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة، الآية: 221]. قيل إنَّه نُسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } [المائدة، الآية: 5]. وإنما هو مخصوص به .
وقسم رَفع ما كان عليه الأَمر في الجاهلية أَو في شرائع مَنْ قبلنا، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعيَّة القصاص والدِّيَة، وحَصْر الطَّلاق في الثلاث. وهذا عدم إدخاله في قسم الناسخ أَقرب، ووجَّهوه: بأَنَّ ذلك لوعُدّ في الناسخ لعُدّ جميع القرآن منه، إذ كلُّه أَو أَكثره رافع لما كان عليه الكفار وأَهل الكتاب .
إذا علمت ذلك: فقد خرج من الآيات التي أَوردها المكثرون الجمّ الغفير، مع آيات الصفح والعفو، إن قلنا إن آية السيف لم تنسخها، وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير.أهـ (1) .
و قال الخوئي :
ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول : إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة :
1 - إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة ، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه السلام (2) وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا ، فإن ثبت في مورد فهو المتبع ، وإلا فلا يلتزم بالنسخ ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 - إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ ، ومبينة لرفعه ، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه ، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى .
__________
(1) -السيوطي/ الإتقان(3/63-64 ) باختصار
(2) - قوله :(المعصوم) لا يقصد الخوئي به النبي صلى الله عليه وسلم وحده فهذا اللفظ عند الشيعة- وهو منهم- يدخل فيه الأئمة الاثنى عشر أيضًا فهم يقولون بعصمتم وبحقهم في نسخ الآيات.وهذا باطل.(1/88)
3 - إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ، ولا مبينة لرفعه ، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة .
والتحقيق : أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن ، كيف وقد قال الله عز وجل : " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4 : 82 " .
ولكن كثيرًا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة ، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات ، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة ، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا كانت إحدى الآيتين قرينةً عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى ، كالخاص بالنسبة إلى العام ، وكالمقيد بالإضافة إلى المطلق ، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها ، ومنشأ هذا قلة التدبر ، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي ، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه ، ولكن إطلاقه - بعد ذلك - مبني على التسامح لا محالة .أهـ (1)
هذا.. وقد يقع النسخ في السُّنة أيضًا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" [رواه مسلم( 977) وابن حبان(5391 ) عن بريدة].
وهنا يبرز لنا سؤال هام: ما علاقة السُّنة بالقرآن؟
السنة من حيث علاقتها بالقرآن على أربعة أنواع (2) :
النوع الأول: بيان التقرير:
__________
(1) -البيان ( ص:286-287)
(2) - الواضح في أصول الفقه ص:88-90 بتصرف(1/89)
وهو أن تأتي السنة بحكم موافق ومطابق للحكم الوارد في القرآن, مساوٍ له في المعنى ولم تزد عنه, سواء كانت قولية أم فعلية.
فالقولية: كأمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بصيام رمضان وإتمام الحج وذلك موافق للقرآن.
والفعلية: أن الله أمر في الوضوء بغسل الوجه , والكفين إلى المرفقين, ومسح الرأس, وغسل الرجلين إلى الكعبين, ففعل النبي ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى, وتعلم الصحابة منه ذلك.
النوع الثاني: بيان التفسير:
وهو أن يأتي الحكم أو القول في القرآن مجمل, لا يُدرى المراد منه تفصيلاً, فتأتي السنة فتبين التفصيل.ومثال ذلك أن الله تعالى أمر بالصلاة ولكن لم يبين عدد الصلوات , ولا عدد الركعات, ولا كيفياتها, ولا أوقاتها ,ولا كل شروطها, فجاءت السنة ببيان كل ذلك وتفصيله,وكذلك جاءت بتفصيل أحكام الزكاة ومناسك الحج وغير ذلك مما جاء مجملاً غير مفصلٍ في القرآن.
ومنه ما جاء في القرآن عامًا فخصصته السّنة كآية المحرمات من النساء , فجاءت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
فالسنة عمومًا تبين مجمل القرآن وتخصص عامّه وتقيد مطلقه,وهذا كله من بيان التفسير.
الثالث:بيان التبديل:
وهو أن تأتي السنة بحكم متأخر مخالف أو معارض لما ذُكر في القرآن , على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما, فتكون ناسخة له, وهذا يثبته بعض العلماء وينكره كثير من المحققين,كما بيّنا ذكره سابقًا .(1/90)
الرابع:أن تأتي السنة بحكم جديد, مستقلة به, ليس له ذكر في القرآن ,وهو حجة أيضًا, بدلالة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم, وبدلالة قول الله تعالى:{ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} {النساء:113} فالحكمة شيء آخر غير الكتاب , ولا تكون إلا السُّنة, وقال تعالى:{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}{النور:54} وقال {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}{الحشر:7} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ, أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ, وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا, وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ"[ رواه أحمد( 17213) - بسند صحيح - وأبو داود (4604) وغيرهما ].
وإنما ذكرنا ذلك لتعلم خطأ أولئك الذين يتركون الحق في تفسير جملة من الأيات – كما يفعل كثيرٌ من مفسري الشيعة الاثنى عشرية- بدعوى أن الأحاديث التي وردت بشأنها أحاديث آحاد لا تقوم بها حجة. ويفسرون الآيات بمنأى عن هذه الأحاديث.
القسم الثاني
التفسير بين أهل السنة والشيعة الإمامية
معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما :(1/91)
* التفسير في اللغة: هوالإيضاح والتبيين قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان:33] فقولنا: فسَّر بمعنى: بيَّن ووضح, وكلامٌ مفسر: أي واضح ظاهر.
وأما التفسير في الاصطلاح: فهوعلمٌ يُعرف به فهم كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى اله عليه وسلم, وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمِه (1) , أو: هو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية.
* و أما التأويل لغةً: فهو من الأَوْل بمعنى الرجوع, فكأن المفسِّر أرجع الآية إلى ما تحتمله من المعاني.
ويرى بعض العلماء أن التأويل مرادفٌ للتفسير, حتى قال صاحب القاموس: أوَّلَ الكلام تأويلاً وتأوله بمعنى: دبَّره وقدَّره وفسَّره, ومنه قوله تعالى:{ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ }[آل عمران:7]
أما في الاصطلاح: فهو عند المتقدمين بمعنى التفسير, فيقال:تفسير القرآن, ويقال:تأويل القرآن, بمعنىً واحد. فتفسير الطبري سماه " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " ، وعند تفسير الآيات الكريمة يقول : القول في تأويل كذا ، أو اختلف أهل التأويل ، أو اتفق أهل التأويل ... إلخ .
وذهب فريقٌ من العلماء إلى أن بين التفسير والتأويل فرقًا جليًا, وقد اشتهر هذا عند المتأخرين.
فالتفسير عندهم هو المعنى الظاهر من الآية الكريمة وأما التأويل فهو ترجيح بعض المعاني المحتملة من الآية الكريمة التي تحتمل عدة معانٍ (2) (.وليس هذا الترجيح بقطعي بل هو ترجيح بالأظهر والأقوى.
__________
(1) - هذا تعريف الزركشي كما في البرهان ص:12
(2) - التبيان في علوم القرآن للصابوني ص:74(1/92)
أما التأويل في أصول الفقه فيعنون به صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنىً آخر لدليل يقترن به لاستحالة حمل اللفظ على ظاهره شرعًا وعقلاً. قال ابن تيمية " التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدِّثة والمتصوفة ونحوهم : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف.. .أهـ (1) (
وقد يطلق على التفسير أيضاً: المعنى ؛ فالفراء ـ مثلاً ـ سمى تفسيره " معاني القرآن " ، وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن التأويل فقال : التأويل والمعنى والتفسير واحد ، وقال مثل هذا ابن الأعرابي (2) (
وروى عن ابن مسعود أنه قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن (3) .
* أقسام التفسير:
1- التفسير بالرواية أوالتفسير بالمأثور.
2- التفسير بالدراية أوالتفسير بالرأي.
3- التفسير بالإشارة أوالإشاري.
ومن نظر إلى كتب التفاسير من أهل السنة أو الشيعة أو غيرهما يجد منها ما يشتمل على أحد هذه الأقسام ومنها ما يشتمل على اثنين ومنها ما يشتمل على الثلاثة أقسام.وإنما ترتفع قيمة التفسير كلما كان يحتوي على صحة الرواية وقوة الدراية, مع سلامة العقيدة والبعد عن الهوى, وتهبط بعكس ذلك.
* ما هو التفسير المأثور؟
__________
(1) - دقائق التفسير من تفسيرالإمام ابن تيمية ص:109-110 وقال الفخر الرازي محمد بن عمر بن الحسين (ت 606) في كتابه أساس التقديس ص:222: - ( التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح ، مع قيام الدليل القاطع عن أن ظاهره محال) ونلحظ عند الرازي أن التأويل (الذي بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره) لا يلجأ إليه إلا إذا دعت الحاجة ، واستحال قبول المعنى الظاهر.
(2) - راجع لسان العرب ، مادتى " فسر " و " أول " .
(3) - انظر تفسير الطبري (1/ 80 ) .(1/93)
يشمل التفسير المأثور ما جاء فى القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نُقِل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نُقِل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.
وإنما أدرجنا فى التفسير المأثور ما رُوِىَ عن التابعين - وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأى - لأننا وجدنا كتب التفسير بالمأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذِكْر ما رُوِىَ عن النبى صلى الله عليه وسلم وما رُوِىَ عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نُقِل عن التابعين فى التفسير كالحسن البصري وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم ومجاهد وقتادة وغيرهم.
أما تفسير القرآن بالقرآن. أو بما ثبت من السُّنَّة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف فى قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف. ولا يجد الشك إليه سبيلاً.
وأما ما لم تصح نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم لطعنٍ في السند أو المتن فذلك مردود غير مقبول.(1/94)
وأما تفسير القرآن بما يُروى عن الصحابة أو التابعين، ففيه ما ثبت عنهم بالسند الصحيح , وفيه ما نقل عنهم بالسند الضعيف, بل وفيه ما نسب إليهم كذبًا وليس من كلامهم. وقيض الله تعالى من العلماء مَن بيّن الصحبح من السقيم, وإن كان صحيحها وسقيمها لا يزال خليطاً فى كثير من الكتب التى عَنِىَ أصحابها بجمع شتات الأقوال ولم يكن عندهم مَلَكة التحري. ولذلك ستجد كثيرًا ما يذكر بعض مفسري الشيعة آثارًا –لا تثبت- ثم يحتجون بأنها موجودة في كتب أهل السنة ليعمُّوا على القاريء الأمر فيظن صحة ما ذكروه لمجرد أنه مذكور في بعض التفاسير عند أهل السنة, وليست العبرة بعدد من رواه وإنما العبرة بصحة السند إلى قائله, فكم من الأحاديث والآثار ليس لها إلا طريق واحد ولكنها صحيحة لأنها استوفت شروط الصحة المعروفة عند المُحَدِّثين, وكم من حديثٍ تعددت طرقه ولا قيمة لها لأن جميع طرقه لا تخلو من كذاب أو متهم بكذب, بل من المعلوم عند المحدثين أن الحديث الذي كثرت طرقه ولكن لا تخلو من كذاب أو متهم, فإن كثرة الطرق لا تقويه بل تزيده ضعفًا على ضعفه لتوارد الكذابين عليه . بخلاف الحديث الذي ليس في طرقه وضاع أومتهم بكذب فهذا قد يتقوى بكثرة الطرق.
هل فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن الكثير من معانى القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يُبيِّن كل معانى القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير، قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله" (1) .
__________
(1) -تفسير الطبري (1/75)(1/95)
وبدهى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذى لا يُعزر أحد بجهله، لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التى لم يُطلع الله عليها نبيه، وإنما فسَّر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المغيبات التى أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم، وفسَّر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء يرجع إلى اجتهادهم، كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، وما إلى ذلك من كل ما خفى معناه والتبس المراد به (1) .
* الصحابة المفسرون:
ومن الصحابة المفسرين الخلفاء الراشدون الأربعة, و ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير ، وعائشة وابن عمر وأنس وجابر وغيرهم , وهم بين مقلٍ ومكثر.
فمن الصحابة المكثرين في التفسير: عبد الله بن عباس وهو أكثرهم ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له, فقد روى الإمام أحمد والطبرانى وغيرهما عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: " اللهُمَّ فَقهه في الدين وعَلِّمْهُ التأويل " (2) .
__________
(1) -الذهبي/ التفسير والمفسرون( 1/42)
(2) - رواه أحمد (2397 ) بسند قوي على شرط مسلم,والطبراني في الكبير(10614)والأوسط (1422) , وابن حبان(7055 ) وصححه الأرنؤوط, وفي البخاري(143) بلفظ " اللهم فقهه في الدين"(1/96)
ثم عبد الله بن مسعود ثم علي بن أبي طالب ثم أُبَيّ بن كعب رضي الله عنهم أجمعين. وكان عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أكثر من كذب الناس عليهما في التفسير , لكونهما من آل البيت ,فيكون المنسوب إليهما أولى بالقبول والرّواج, وأيضًا لظروف سياسية ومذهبية فمن أراد إرضاء خلفاء بني العباس وضع أثرًا ونسبه إلى ابن عباس, وكذلك فعل الشيعة مع علي رضي الله عنه وأهل بيته.
* طرق التفسير عن ابن عباس:
روُِي عن ابن عباس رضى الله عنه فى التفسير ما لا يُحصَى كثرة، وتعددت الروايات عنه، واختلفت طرقها، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله تعالى إلا ولابن عباس رضى الله عنه فيها قول أو أقوال، الأمر الذى جعل نُقَّاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التى جاوزت الحد وقفة المرتاب، فتتبعوا سلسلة الرواة فعدَّلوا العُدول، وجرَّحوا الضُعفاء، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفاً. وأرى أن أسوق هنا أشهر الروايات عن ابن عباس، ثم أُبيِّن مبلغها من الصحة أو الضعف، لنعلم إلى أى حد وصل الوضع والاختلاق على ابن عباس رضى الله عنه. وهذه هى أشهر الطرق (1) :
أولها: طريق معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وهذه هى أجود الطرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد رضى الله عنه: "إن بمصر صحيفة فى التفسير رواها علىّ بن أبى طلحة، لو رحل رجل فيها مصر قاصداً ما كان كثيراً". وقال الحافظ ابن حجر: "وهذه النسخة كانت عند أبى صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علىّ ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهى عند البخارى عن أبى صالح، وقد اعتمد عليها فى صحيحه فيما يُعلِّقه عن ابن عباس".وفي الحقيقة لم يسمع علي بن طلحة من ابن عباس وإنما أخذها علي عن مجاهد عن ابن عباس. ولكن أسقط علي مجاهدًا وهو ثقة,فلم يضر, وحسبك بتفسير مجاهد عن ابن عباس.
__________
(1) -السيوطي/ الإتقان (4/207-209) ,د.الذهبي/ التفسير والمفسرون(1/59-61)(1/97)
وكثيراً ما اعتمد على هذه الطريق ابن جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبى صالح. ومسلم صاحب الصحيح وأصحاب السنن جميعاً يحتجون بعلىّ بن أبى طلحة.
ثانيها: طريق قيس بن مسلم الكوفى، عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيراً ما يُخَرِّج منها الفريابى والحاكم فى مستدركه.
ثالثها: طريق ابن إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهى طريق جيدة وإسنادها حسن, وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبى حاتم كثيراً، وأخرج الطبرانى منها فى معجمه الكبير.
رابعها: طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، تارة عن أبى مالك، وتارة عن أبى صالح عن ابن عباس. وإسماعيل السدى مُختلَف فيه، وهو تابعى شيعى. وقال السيوطى: "روى عن السدى الأئمة مثل الثورى وشعبة، لكن التفسير الذى جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدى" وابن جرير يُورد فى تفسيره كثيراً من تفسير السدى عن أبى مالك عن أبى صالح عن ابن عباس، ولم يُخَرِّج منه ابن أبى حاتم شيئاً، لأنه التزم أن يُخَرِّج أصح ما ورد.
خامسها: طريق عبد الملك بن جريج، عن ابن عباس، وهى تحتاج إلى دقة فى البحث، ليُعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما روى ما ذُكِرَ فى كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز فى روايته الصحيح من غيره.(1/98)
سادسها: طريق الضحاك بن مزاحم الهلالى عن ابن عباس، وهى غير مرضية، لأنه وإن وَثَّقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة، لأنه روى عنه ولم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبى روق، عن الضحَّاك، فضعيفه لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيراً ابن جرير وابن أبى حاتم. وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفاً، لأن جويبر شديد الضعف متروك، ولم يُخَرِّج ابن جرير ولا ابن أبى حاتم من هذه الطريق شيئاً، إنما خرَّجها ابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان.
سابعها: طريق عطية العوفى، عن ابن عباس، وهى غير مرضية، لأن عطية ضعيف. وهذه الطريق قد أخرج منها ابن جرير، وابن أبى حاتم كثيراً.
ثامنها: طريق مقاتل بن سليمان الأزدى الخراسانى، وهو المفسِّر وقد ضَعَّفوه، وقالوا: إنه يروى عن مجاهد وعن الضحاك ولم يسمع منهما. وقد كذَّبه غير واحد، ولم يُوثِّقه أحد، وقد سُئل وكيع عن تفسير مقاتل فقال: "لا تنظروا فيه، فقال السائل: ما أصنع به؟ قال: ادفنه" - يعنى التفسير وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبنى أن أروى عن مقاتل بن سليمان شيئاً.(1/99)
تاسعها: طريق محمد بن السائب الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وهذه أوهى الطرق. والكلبى مشهور بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع كما قال عدى فى الكامل، وقد أجمعوا على ترك حديثه، وأنه لا يُكتب حديثه، واتهمه جماعة بالوضع. وممن يروى عن الكلبى، محمد بن مروان السدى الصغير، وقد قالوا فيه: إنه يضع الحديث، وذاهب الحديث متروك، ولهذا قال السيوطى فى الإتقان: "فإن انضم إلى ذلك - أى طريق الكلبى - رواية محمد بن مروان السدى الصغير، فهى سلسلة الكذب"، وقال السيوطى أيضاً فى كتابه الدر المنثور (1) : "الكلبى: اتهموه بالكذب وقد مَرِضَ فقال لأصحابه فى مرضه: كل شيء حدثتكم عن أبى صالح كذب.. ومع ضعف الكلبى فقد روى عنه تفسيره من هو مثله أو أشد ضعفاً، وهو محمد بن مروان السدى الصغير" وكثيراً ما يخرج من هذه الطريق الثعلبى والواحدى.
هذه هى أشهر الطرق عن ابن عباس، صحيحها وسقيمها، وقد عرفت قيمة كل طريق منها، ومَن اعتمد عليها فيما جُمِع من التفسير عن ابن عباس رضى الله عنه.
* طُرق التفسير عن عبد الله بن مسعود:
وهو من العلماء في التفسير، ويكفينا ما جاء في صحيحي البخاري (3548) ومسلم(2464) من فضله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ":استقرؤوا القرآن من أربعة: من عبدِ الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حُذيفَة، وأُبيِّ بن كعب، ومُعاذِ بن جَبَل ".
وروى الإمام مسلم ( 2461 ) من حديث أبي الأحوص قَالَ: كنا في دار أبي موسى مع نفر من أصحاب عبدالله . وهم ينظرون في مصحف ، فقام عبدالله ، فقال أبو مسعود : ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم . فقال أبو موسى : أما لئن قلت ذاك ، لقد كان يشهد إذا غبنا ، ويؤذن له إذا حُجبنا " أي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
__________
(1) - السيوطي/ الدر المنثور ( 6 /423)(1/100)
وروى البخاري ( 4716 ) ومسلم ( 2463 ) عن ابن مسعود أنه قال:" والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" ، ولذلك كان من أعلم الناس بالتأويل، ومن أقلِّ الصحابة نقلاً عن أهل الكتاب الإسرائيليات.
وثمة مرويات كثيرة عنه في التفسير، منها: ما يشترك مع عبد الله بن عباس، ومنها ما ينفرد بها.
ما يشترك فيه ابن مسعود مع ابن عباس في أسانيد التفسير
يشترك عبد الله بن مسعود مع عبد الله بن عباس في بعض أسانيد التفسير مثل: رواية عطاء بن السائب عن سعيد عنهما، وكذلك السدي يروي عنهما بواسطة مختلفة، عن ابن مسعود بواسطة مُرة بن شراحيل الهمداني، وعن ابن عباس بواسطة أبي مالك وأبي صالح .
ومن طريق السُّدي عن مرة عن ابن مسعود أكثر تفسير ابن مسعود، وفيها غرائبُ ومنكراتٌ .
أصح أسانيد التفسير عن ابن مسعود:
أولاً:أصح الأسانيد عن عبد الله بن مسعود: ما يرويه أبو الضُّحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود.
ثانيًا: ثم ما يرويه الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، وهو صحيح وقد أخرجها البخاري في الصحيح .
ويأتي بعدها ما تقدم ذكره من الأسانيد، وجملةٌ منها في عِداد الواهي والمنكر .
ومن يعتني بفقهه من أصحاب ابن مسعود، كعلقمة والأسود وأبي الأحوص والشعبي وعَبيدة بن عمرو السَّلماني والربيع بن خُثيم، وغيرهم لهم مرويات عنه في التفسير، وهي في غاية الصحة، ومثلهم النخعي، وإن لم يدرك ابن مسعود، وبين هؤلاء الكبار: علقمة والأسود والنخعي قرابةٌ وصلةٌ، تزيد قوة لأسانيدهم ومتانةً لها، فعلقمة عمّ أم النخعي، والأسود خال إبراهيم، وعلقمة عم الأسود، والقرابة في الأسانيد قرينة لشدة الضبط، ومعرفة مقاصد المتحدث، وأشد سبراً لحاله من غيره .
* طرق التفسير عن علىّ ومبلغها من الصحة:(1/101)
وهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية في التفسير، لا لقلةٍ في معرفتهم به، بل لتقدُّم وفاتهم، وسلامة لسان أهل عصرهم، وقد تأخر الأمر بعلي رضى الله عنه حتى احتاج الناس للتفسير , ومكانته في العلم معروفة فعن أبي الطفيل قال: شهدت عليًا يخطب, وهو يقول: سلوني, فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم, وسلوني عن كتاب الله , فوالله ما مِن آية إلا وأنا أعلم: أبليلٍ نزلت أم بنهار, أم في سهلٍ أم في جبل (1) ".
وقد كثرت الرواية فى التفسير عنه ،وفيها ما يُقبل وما يُستنكر ، الأمر الذى لفت أنظار العلماء النُقَّاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه بالبحث والتحقيق، ليميزوا ما صح من غيره.
__________
(1) - أنظر:الإتقان في علوم القرآن للسيوطي(4/204)(1/102)
وما صح عن علىّ فى التفسير قليل بالنسبة لما وُضِع عليه، ويرجع ذلك إلى غُلاة الشيعة، الذين أسرفوا فى حُبِّه فاختلقوا عليه ما هو برئ منه، إما ترويجاً لمذهبهم وتدعيماً له، وإما لظنهم الفاسد أن الإغراق فى نسبة الأقوال العلمية إليه يُعلى من قدره، ويرفع من شأنه العلمي. والحق أن كثرة الوضع على علىّ رضى الله عنه أفسدت الكثير من علمه, كما روى مسلم في مقدمة صحيحه بسنده عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: لَمَّا أَحْدَثُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ:قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَيَّ عِلْمٍ أَفْسَدُوا " وبسنده عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ:كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا, وَيُخْفِي عَنِّي, فَقَالَ: وَلَدٌ نَاصِحٌ, أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الْأُمُورَ اخْتِيَارًا وَأُخْفِي عَنْهُ, قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ, وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَلَّ ". وبسنده عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَحَاهُ إِلَّا قَدْرَ, وَأَشَارَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ " وبسنده عن أبي بكربْنَ عَيَّاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يَصْدُقُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ إِلَّا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (1) " . ومن أجْل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يروونه عنه إلا على ما كان من طريق الأثبات من أهل بيته، أو من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلمانى وشُريح، وغيرهما.
وهذه أهم الطرق عن علىّ فى التفسير (2) :
__________
(1) - أنظرهذه الآثار في مقدمة صحيح مسلم(1/12)
(2) - د. الذهبي /التفسير والمفسرون ( 1/68 )(1/103)
أولاً: طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلمانى، عن علىّ. طريق صحيحة، يُخَرِّج منها البخارى وغيره.
ثانياً: طريق ابن أبى الحسين، عن أبى الطفيل، عن علىّ. وهذه طريق صحيحة، يُخرِّج منها ابن عيينة فى تفسيره.
ثالثاً: طريق الزهرى، عن علىّ زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علىّ. وهذه طريق صحيحة، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار السابقتين نظراً لما ألصقه الضعفاء، والكذَّابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.
* طرق التفسيرعن أُبي بن كعب:
ويكنى أُبيُّ بن كعب رضي الله عنه أبا المنذر، شهد العقبة وبدراً، وكان أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وهو من أشهر كُتَّاب الوحي و من الأئمة في علوم القرآن ومعرفتها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم-كما في صحيح مسلم (2464) وغيره -:" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ ..وذكر منهم: أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ ..".
ويدل على رسوخ باعه في قراءة كتاب الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يقرأ القرآن عليه، ففي الصحيحين:البخاري (3598 )ومسلم (799) من حديث أنس رضي الله عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أُبيِّ: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } [سورة البيِّنة:1] قال: وسمَّاني؟ قال: نعم، فبكى ) وفي رواية للبخاري(4676): ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال أُبيٌّ: آلله سماني لك؟ قال: الله سماك لي، فجعل أُبيٌّ يبكي ".(1/104)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وأقرؤهم لكتاب الله أبَيُّ بن كعب (1) " .
وقد كثرت الرواية في كتب التفاسير عن أبيّ بن كعب، وتعددت الرواية عنه، وقد وضع عليه بعض الرواة كثيراً من الروايات التي لم تثبت عنه.
وأصح الطرق إليه رضي الله عنه طريقان:
الأول: طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية رُفيْع بن مِهران، عن أُبي بن كعب، وإن كان فيها ضعفٌ، لكنها في التفسير صحيحةٌ، لأنها نسخة كبيرة منقولة، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيراً، وكذا أخرج الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده منها شيئاً.
الطريق الثاني: طريق وكيع عن سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الفضيل بن أبيّ بن كعب ، عن أبيه، وهذه الطريق خرَّج منها الإمام أحمد أيضًا في "مسنده" .
طبقات التابعين المفسرين
* التفسير عن التابعين وأتباعهم (2) :
__________
(1) - حديث صحيح , وهو بتمامه قد رواه أحمد (12927), والترمذي (3791) وصححه, وابن حبان(7131) وغيرهم, عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر, وأشدهم في أمر الله عمر, وأصدقهم حياء عثمان, وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب, وأفرضهم زيد بن ثابت, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, ألا وإن لكل أمة أمينًا, وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" . قال أبو حاتم : هذه ألفاظ أطلقت بحذف الـ ( مِن ) منها يريد بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ارحم أمتي ) أي : مِن أرحم أمتي وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأشدهم في أمر الله ) يريد : مِن أشدهم ومِن أصدقهم حياء ومِن أقرئهم لكتاب الله ومِن أفرضهم ومن أعلمهم بالحلال والحرام , يريد أن هؤلاء مِن جماعة فيهم تلك الفضيلة, وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار : أنتم أحب الناس إليَّ , يريد مِن أحب الناس, من جماعة أحبهم وهم فيهم .
(2) - محاضرة للشيخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي ألقيت عام 1427هـ.(1/105)
وهم على طبقات: طبقة المكيين، وطبقة المدنيين وطبقة العراقيين.
وأعلمُ أهل التفسير أهلُ مكة، خاصة أصحاب ابن عباس منهم؛ كسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح؛ لسلامة لسانهم وتأخر ورود العُجْمَة إليهم، ثم أصحاب ابن مسعود في الكوفة، وأهل المدينة.
يقول سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء. وهم مَكِّيُّون .
ويليهم في التفسير طبقة المدنيين:
منهم :زيد بن أسلم: تابعي كبير القدر، وعنه ابنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ويروي تفسيرَ عبدالرحمن: عبد الله بن وهب وغيرُه، وأخذ تفسيرَه عن أبيه " زيد بن أسلم "، لكنه لا يعزوه إلى أبيه إلا في القليل، وإذا قال المفسرون: " قال : ابن زيد "، فالمراد به عبد الرحمن .
وعبد الرحمن، وإن كان ضعيف الحديث، إلا أنه إمامٌ في التفسير.
وممن أخذ التفسير عن زيد: مالك بن أنس .
ومنهم: أبو العالية رُفيع بن مِهْران :
وهو مدنيٌّ، ثمَّ بصري، وقد أخذ التفسير عن ابن عباس، وهو من رواة أبي بن كعب، وراوية تفسيره الربيع بن أنس، وعن الربيع أبو جعفر ، وتقدم الكلام حول هذا الإسناد .
ثم إن الربيع ليس من المفسرين، بل من النَّقَلَة،والرُّواة، وجل ما يرويه هو عن أبي العالية.
ومن المدنيين: محمد بن كعب القرظي، وأكثر تفسيره هو من طريق أبي مَعْشَر، ومن طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب، وكلاهما – موسى وأبو معشر – ضعيف، ونحو شطر تفسير القُرظي من طريقهما .
لكن يقول يحيى بن معين : " اكتبوا عن أبي مَعشر عن محمد بن كعب خاصة "؛ لأنه يروي عنه التفسير، وهي نسخة، ويُغتفر في التفسير ما لا يُغتفر في غيره، ثم إن أبا معشر مختصٌّ بمحمد بن كعب، والاختصاص قرينةٌ على المعرفة والضبط، هذا مع أن أبا معشر ضعيف الحديث .
ويليهم طبقة المفسرين العراقيين :
منهم : مسروق بن الأجدع، روى عنه الشعبي وأبو وائل، وهو من الرواة عن ابن مسعود .(1/106)
ومنهم: قتادة بن دِعامة السَّدوسي: أكثر التابعين تفسيراً بعد مجاهد، بل أكثر من نصف تفسير التابعين بالإطلاق عنهما، وتفسيره جُلُّه صحيح، أكثره يرويه عنه سعيد بن أبي عروبة، والبقية يرويه عنه معمر بن راشد الأزدي، وهم ثقات حُفَّاظ.
وثمة شيء آخر يسير جدًّا يرويه غير سعيد ومعمر، وهو صحيح بالجملة أيضًا، ولا يحمل قولي: إن قوله صحيح كله، فيقف الإنسان على بعض المرويات من غير طريق معمر، وغير طريق سعيد بن أبي عروبة، فيجد فيه ضعفاً، ولكن بالسَّبْر فإن جميع تفسير قتادة صحيح، ولا يوجد لديه قولٌ شاذٌ.
وقتادة لم يرو عن أحد من الصحابة إلا عن أنس سماعاً، كما قاله أحمد، وصحَّحَ سماعه من ابن سَرْجَس أبو زرعة، وصحَّحَ سَماعه من أبي الطفيل ابن المديني .
وقد أخذ قتادة عن الحسن البصري التفسير والفقه والوعظ وغيره، وهو من أكبر شيوخه، وقد أكثر في تفسيره من الوعظ كالحسن، وأكثرُ تفسيره لا يعزوه لأحد، بل يفسِّرُ القرآن بما يعلمه.
وله معرفة بالناسخ والمنسوخ أكثر من كثير من التابعين من أهل طبقته.(1/107)
ومنهم الحسن البصري: وهو من كبار أئمة السلف، متساهل بالنقل، والإرسال، ويميل في التفسير إلى الوعظ ، وما يروى عنه في التفسير في آيات العذاب والوعد والوعيد أكثر من غيره، وتفسيره يكاد يخلو من الأحكام، وهو أكثر من نُقل عنه أقوالٌ شاذة من مفسري التابعين- والله أعلم-، والسبب في ذلك: أن الحسن البصري قد تشبَّث به المعتزلة ونسبوه إليهم، وأكثروا من النقل عنه، ولقِلَّة عناية المعتزلة بالأسانيد والرواية,إذ لا يعتدُّون بها مجردةً، وإنما بالعقل، فلذلك لم ينقوا الأسانيد عن الحسن، وإنما تشَبَّثوا بالحكايات التي تُوافق أصولهم، ولذلك يُنسب في كتب المعتزلة في التفسير إلى الحسن ما لا ينسب إلى غيره من الغرائب والمفردات، ولذلك يجب أن يحذر الإنسان مما يُحكى عن الحسن البصري من شذوذات في التفسير مما لا يوافق غيره، ولا بد من النظر إلى الأسانيد، ويشدِّد في مرويات الحسن ما لا يشدَّد في غيرها، سيَّما وهو يرى الرواية بالمعنى ويكثر منها .
وراوية تفسيره: قتادة، فقد روى عنه نحو ثلث تفسيره، ورواه عنه مَعمَر بن راشد، وبقية تفسيره متفرِّق في الرواة .
ومنهم : عطاء الخراساني :
وهو بصريٌّ أقام بخراسان، وإليها نُسب، صدوقٌ، في حفظه سوء، وقد تقدم الكلام على طرق التفسير إليه في حديث ابن عباس رضي الله عنه .
ومنهم : مُرَّة بن شراحيل الهمداني:
كان عابداً صالحاً لكثرة عبادته. قيل له: مُرَّة الطيب، ومُرَّة الخير، أخذ عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب وروى عن ابن مسعود، وغيره، وروى عنه الشعبي والسدي وغيرهم، وقد تقدم الإشارة إليه.
مَنْ يشابه المكيين قوة في التفسير:
وثَمَّة جملةٌ من المفسرين من غير المكيين من يقاربهم في التفسير؛ كطاووس بن كيسان اليماني، وقد روى عنه ابنه عبدالله وروى عنه شيئاً مجاهد بن جبر، وكذلك عمرو .(1/108)
وكذلك عامر الشعبي، وله تفسيرٌ يسيرٌ حسنٌ، وأجودُ تفسيره: ما يعتمد فيه على أشعار العرب، فقد كان أحفظ التابعين للشعر .
ومن طبقات المفسرين ممن هم بعد أولئك:
إبراهيم النخعي: وهو جليل القدر، لم يسمع من أحدٍ من الصحابة، وإنما عدَّه بعض الأئمة من جملة التابعين؛ لرؤيته عائشة رضي الله عنها، وله في التفسير يدٌ، وخاصةً في تفسير آيات الأحكام، وهو أكثر التابعين في ذلك على الإطلاق.
راوية حديثه مُغيرة بن مِقْسَم فقد روى نحو شطرِ تفسيرِه، وروى كذلك منصور بن المعتمر شيئاً ليس بالقليل عنه.
وتفسيره المنقول عن ابن مسعود صحيحٌ، إذا صح إليه السند، وغالبه صحيح، وأما تفسيره من تلقاء نفسه فيما يوافق اللسان العربي، فهو دون أقرانه مرتبةً، وقد كان يلحَنُ في كلامه .
و السُّدي الكبير:
وتفسيره جَمْعٌ، كما جمع ابن إسحاق السيرة، وهو ثقة في نفسه، إلا أنه لم يسمع من ابن عباس ولا ابن مسعود .
وتقدم الكلام على من روى عنه وأسانيده إلى ابن عباس وابن مسعود.
ومنهم: الضَّحاك بن مُزاحِم الهلالي :
وهو من كبار مفسري التابعين، وجُل تفسيره من طريق جُويبر بن سعيد عنه، وجويبر ضعيف جداً، لكن روايته من كتاب، وحديث الضحاك عن ابن عباس مرسل، أخذه من سعيد بن جبير، وتفسير الضحاك - ما لم يخالف - مقبول حسن .
ويروي عبيدالله بن سليمان عن الضحاك التفسير أيضاً، وهو ضعيف أيضاً .
ومنهم: مقاتل بن سليمان :
وهو في نفسه ضعيفٌ واهٍ، وقد أدرك الكبار من التابعين، وهو فصيح اللسان سيّء المذهب، يؤخذ من تفسيره ما وافق اللسان العربي، وله شذوذات في التفسير كثيرة .
وروى تفسير مقاتل هذا عنه أبو عِصْمَة نُوحُ ابن أبي مريم الجامع، وقد رموه بالكذب، ورواه أيضاً عن مقاتل هذيلُ بن حبيب، وهو ضعيف لكنه أصلح حالاً من أبي عصمة .
ومنهم: مقاتل بن حيان:
من طريق محمد بن مزاحم عن بكير بن معروف عنه، ومقاتل هذا صدوق .(1/109)
وأبو صالح باذام: لا يعتد بقوله في التفسير، وليس له معرفة فيه، وكان مجاهدٌ ينهى عن تفسيره، وزجره الشعبي حينما فسَّر القرآن؛ إذ كيف يفسره وهو لا يحفظه .
* واعلم أن جملة تلك الأسانيد لهؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم منثورةٌ في كتب التفسير المسنَدَة، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه " أسباب النزول": " ومدار أسانيد التفسير عن الصحابة وعن التابعين تُوجَد في الكتب الأربعة: ابن جرير الطبري وعبد بن حُميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ". قال: " وقليلٌ ما يُشذُّ عنها ". وهذا صحيح, فمن تأمل الكتب المصنفة في الأسانيد، وجد أنه لا يكاد يوجد من ألفاظ التفسير مما لا يوجد في هذه الكتب، وإن وقع التغاير في بعض الألفاظ قد يكون دخله بعض الغلط والتصحيف، ولا سيَّما في ذلك العصر، فلم يكن حدث في الخطِّ وقتئذٍ شَكْلٌ ولا نَقْطٌ .
وقد يُروى بعض التفسير عن عبد الله بن عباس، أو مجاهد بن جبر، بلفظٍ مشابهٍ رسماً مغايرٍ معنى، وهذا بسبب عدم نقط الكتب، فسبق لفظ في ذهن الناسخ على لفظ , وينبغي أن يتنبَّه لأمثال هذه المسائل.
ونستطيع أن نُرجِعْ أسباب الضعف فى رواية التفسير المأثور إلى أُمور ثلاثة:
أولها: كثرة الوضع فى التفسير. ويرجع الوضع فى التفسير إلى أسباب متعددة: منها التعصب المذهبى، فإنَّ ما جَدَّ من افتراق الأُمة إلى شيعة تطرَّفوا فى حب علىّ، وخوارج خرجوا عليه وحاربوه ونواصب ناصبوه العداء ، فنسب الشيعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وإلى علىّ وغيره من أهل البيت - رضى الله عنهم - أقوالاً كثيرة من التفسير تشهد لمذهبهم. كما وضع الخوارج والنواصب كثيراً من التفسير الذى يشهد لمذهبهم، ونسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، وكان قصد كل فريق من نسبة هذه الموضوعات إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه الترويج للمروي.(1/110)
هذا وقد دخل فى الإسلام مَن تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له من الفرس واليهود وغيرهم من الشعوبيين ممن امتلأت قلوبهم حقدًا على الإسلام وأهله بعدما رأوْا زوال دُوَلهم أمام هذا الدين العظيم، وعلموا أنهم لن يستطيعوا القضاء عليه بالقوة , فتظاهروا بالدخول فيه للكيد له وتضليل أهله، وأغلبهم أظهر التشيع والحب لآل البيت حتى يخفي على الناس بواطنهم ولا يفطن لهم أحد ,فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.
ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه.
من يتصفح كتب التفسير بالمأثور يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد يدور على أربعة أشخاص، هم: عبد الله بن سلام الصحابي الجليل ، وكعب الأحبار ثقة من كبار التابعين كان من اليمن فسكن الشام أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم في خلافة أبي بكر, ووهب بن منبه اليماني الصنعاني ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين أخو همام بن منبه, وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج,وهو رومي الأصل, أحد الأعلام عاصر صغار التابعين , وكان ثقة فقيهًا فاضلاً, إلاّ أنه كان يرسل ويدلس , ولكن إذا وجد شيءٌ فيما ذكروه – أنكره العلماء- فليس من قِبَلهم ولكن بسبب مَن دونهم في السند أو بسبب الكتب التي أخذوا منها لأننا نعلم أن الكتب السابقة قد وقع فيها التحريف.
وممن أكثر من التابعين من الرواية عن أهل الكتاب: السُّدي، ومحمد بن كعب القرظي، وسعيد بن جبير وأبو العالية رفيع بن مهران؛ ، ويوجد شيئٌ يسير عند مجاهد بن جبر كما قال أبو بكر بن عياش:" قلت للأعمش: ما هذه المخالفة في تفسير مجاهد بن جبر؟ فقال: إنه يأخذ شيئاً من أهل الكتاب.
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، وهى :(1/111)
القسم الأول: ما يُعلم صحته بأن نُقِل عن النبى صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحاً، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحاً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند البخارى أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثانى: ما يُعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا القسم نتوقف فيه، فلا نؤمن به ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايته، لما رواه البخاري(4215) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا:{ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الآية".
ثالثها: حذف الأسانيد.
وهذا السبب يكاد أن يكون أخطر الأسباب جميعاً، لأن حذف الأسانيد جعل مَنْ ينظر فى هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها، وجعل كثيراً من المفسِّرين ينقلون عنها ما فيها من الإسرائيليات والقصص المخترع على أنه صحيح كله، مع أن فيها ما يخالف النقل ولا يتفق مع العقل.
* * *
هذا.. وكان التفسير بالمأثور بعد عصر التابعين وتابعيهم قد دون كثيرًا منه رواة الحديث , فالبخاري – مثلاً- قد ذكر في صحيحه كتابًا وسماه (كتاب التفسير) وذكر فيه الأحاديث الواردة في تفسير بعض الآيات وكذلك الآثار عن مفسري الصحابة والتابعين وكذا فَعَل غيرُه من أصحاب الصحاح والسنن , ثم دونت بعد ذلك كتب خاصة بالتفسير بالمأثور, ومن أشهرها:
1- جامع البيان في تفسير القرآن للإمام ابن جريرالطبري(ت 310)(1/112)
2- بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي ( ت 373 هـ)
3- الكشف والبيان عن تفسير القرآن لأبي اسحاق الثعلبي (ت 427هـ)
4- تفسير معالم التنزيل لمحيي السنة أبي محمد حسين البغوي (ت 510هـ)
5- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (ت546هـ)
6- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (ت 774هـ )
7- الجواهر الحسان في تفسير القرآن لعبد الرحمن الثعالبي (ت 876هـ)
8- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للحافظ جلال الدين السيوطي (ت911هـ)
وهذه التفاسير- عدا الأخير- لم تقتصر على التفسير بالمأثور بل منها ما ذكرت مع ذلك أوجه القراءات ووجوه الإعراب والمسائل الفقهية واللغوية وغيرذلك ,وإنما أدرجها العلماء في كتب التفسير بالمأثور لأنه الغالب عليها.
أما السيوطي في الدر المنثور فقد اكتفى بجمع ما يُروى من الأحاديث والآثارعن السلف في التفسير, مما ورد في صحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود ومسند أحمد ومما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا وغيرهم ممن تقدمه من المفسرين. فجمع الصحيح وغير الصحيح ,ولم يرجح أو يعقب بشيء.
وأما تفسير أبي الليث السمرقندي يذكر كثيرًا من أقوال الصحابة والتابعين غير أنه لا يذكر الأسانيد.
وأما الثعلبي- رحمه الله مع صلاحه وديانته- فهو مولعٌ بالقصص والأخبار, وقد ملأ تفسيره بالغث والسمين, وأكثر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة حتى أنه ذكر كثيرَا من الأحاديث التي وضعها الشيعة كذبًا على عليّ رضي الله عنه.
وجاء الإمام البغوي من بعده فاختصر تفسير الثعلبي وهذَّبه, وأضاف عليه فوائد في تفسيره المسمى (معالم التنزيل).
وتفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي حسن في بابه, وهو أجود من التفاسير السابقة واختصره أبو عبد الرحمن الثعالبي الجزائري, وأضاف إليه بعض الأحاديث والفوائد القليلة من كتب الآخرين في تفسيره المسمى(الجواهر الحسان).(1/113)
وأفضل هذه التفاسير على الإطلاق تفسيرا الطبري وابن كثير رحمهما الله تعالى:
أما ابن جرير الطبري فهو إمام المفسرين من أهل السنة وتفسيره من أجل التفاسير , يذكر الوجه في تفسير الآية ثم يذكر من قال بهذا الوجه من الصحابة والتابعين, ويذكر الأحاديث والآثار الواردة في ذلك بأسانيدها كاملة. ويرجح بين الأقوال, وغالب من جاء بعده نقل منه وانتفع به.
قال عنه السيوطي:
وله التصانيف العظيمة ، منها : " تفسير القرآن " ، وهو أجل التفاسير ، لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء قاطبة ، منهم النووى في تهذيبه ، وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية ، ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده .. إلخ (1) .
وقال السيوطي في الإتقان : " . . . وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، ثم ابن أبى حاتم ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ابن حبان ، وابن المنذر ، في آخرين ، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم ، وليس فيها غير ذلك ، إلا ابن جرير ؛ فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ،والإعراب ، والاستنباط ، فهو يفوقها بذلك ". (2) .
__________
(1) 1 - انظر طبقات المفسرين للسيوطي : ص 95 ، 96 . والإتقان (4/213)
2- الإتقان للسيوطي (4/212).(1/114)
ونقل الذهبى وابن كثير وابن حجر قول الخطيب في تاريخه- عن الطبري- حيث قال: كان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله . وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره : فكان حافظاً لكتاب الله ، عارفاً بالقراءات ، بصيراً بالمعانى ، فقيهاً في أحكام القرآن ، عالماً بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، ناسخها ومنسوخها ، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في " أخبار الأمم وتاريخهم " ، وله كتاب : " التفسير " لم يصنف مثله ... إلخ (1)
وكذلك تفسيرالقرآن العظيم للحافظ ابن كثير من أفضلها وأجودها لتحريه الآراء والأحاديث الصحيحة والتنبيه على الضعيفة ما أمكن, وهو يكثر النقل ممن سبقه كابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما وهو يمتاز بملكة التحري والتدقيق لسعة علمه بالحديث والرجال كما أنه يذكر الأراء الفقهية ومناقشتها باختصار , ويفصل فيما لابد منه.وقال صاحب كتاب التفسير والمفسرون:هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطي في ذيل (تذكرة الحفاظ) والزرقاني في( شرح المواهب): إنه لم يؤلف على نمطه مثله .أهـ (2)
__________
(1) 3- الخطيب البغدادي/ تاريخ بغداد(2/161),ابن كثير/البداية والنهاية (11 / 142) ، والذهبي/سير أعلام النبلاء(14/269) وابن حجر/لسان الميزان: (5 / 101 ).
(2) - التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي (1/176)(1/115)
وقد ذكر ابن كثير في مقدمة تفسيره أحسن طرق التفسير والتزم بها وسار على نهجها, فقال: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير ؟ ( فالجواب ) أن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أُجْمِل في مكان فإنه قد بُسِط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحةٌ للقرآن وموضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن . قال الله تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء:105] وقال تعالى : {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[النحل:64] وقال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل:44] ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنِّي أوتيت القرآنَ ومثله معه " (1) يعني السنة . والسنة أيضا تنزل عليهم بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلي القرآن وقد استدل الامام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك . والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه, فإن لم تجده فمن السُّنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " فبم تحكم ؟ قال بكتاب الله ، قال فإن لم تجد ؟ قال: بسنة رسول الله ، قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي .
__________
(1) - رواه أحمد (17213 ) بسند صحيح عن المفدام بن معدي كرب رضي الله عنه. وقد تقدم.(1/116)
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " (1) وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه.وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماءهم وكبراءهم كالائمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم....ثم ذكر ابن كثير بعد ذلك تفسير التابعين ..ثم التفسير بالرأي المبني على العلم لا الهوى...إلخ (2)
ما موقف الشيعة الاثنى عشرية من التفسير بالمأثور؟
عند الشيعة الإمامية الاثنى عشرية تفاسير كثيرة عنيت بالتفسير بالمأثور كالتفسير المنسوب للعسكري وتفسير القمي والعياشي وتفسير نور الثقلين للحويزي وتفسير الصافي للفيض الكاشاني وتفسير البرهان لهاشم البحراني وكثيرغيرهم , ولكنهم لا ينقلون إلاّ عن قلةٍ من الصحابة , وكذا رواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليست كثيرة كأهل السنة, وإنماغالب رواياتهم في التفسير بالمأثور عن أئمة أهل البيت- رضي الله عنهم- الذين يقولون بعصمتهم.
__________
(1) - رواه أحمد (22060 ) وأبو داود (3592)والترمذي (1327) وفي سنده جهالة.
(2) - تفسير ابن كثير(1/3)(1/117)
ولما رأى الإمامية الاثنى عشرية أنفسهم أمام كثرة من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام كثرة من الروايات المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وفى تلك الأحاديث وهذه الآثار ما يخالف تعاليمهم مخالفةً صريحة، كان بدهياً أن يتخلص القوم من كل هذه الروايات، إما بطريق ردها، وإما بطرق تأويلها. والرد عندهم سهل ميسور، ذلك لأن الرواية إما أن تكون قولاً لصحابى، وإما أن تكون قولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق صحابى، وهم يُجرِّحون معظم الصحابة، بل ومنهم من يكفرونهم لمبايعتهم أبا بكر وعمر وعثمان.
وأما التأويل فباب واسع .. وهم أهله وأربابه.
فمثلاً نجدهم يردون الأحاديث الكثيرة والآثار التى ثبتت فى تحريم نكاح المتعة ونسخ حِلَّه، ولا يقبلون الأحاديث التي تثبت غسل القدمين رغم تواتر الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم, بدعوى أنها أحاديث آحاد وتخالف القرآن, مع أنها ليست آحاد, بل موافقة للقرآن, كما نجدهم يردون أحاديث المسح على الخفين ويقولون: إنها من رواية المغيرة بن شعبة رأس المنافقين عندهم، ثم نجدهم يُسلِّمون صحة الرواية جدلاً ولكنهم يتأوَّلونها فيقولون: إنَّ الخف الذى كان يلبسه النبى صلى الله عليه وسلم كان مشقوقاً من أعلى، فكان يمسح على ظاهر قدمه من هذا الشق .. وظاهر أنّ هذا تأويل بارد متكلف.
وأحيانًا يذكرون من الأحاديث والآثار ما كان موافقًا لآرائهم وأكثره ضعيف السند ,ثم يقولون :وقد جاءت الرواية بذلك من طريق العامة-أي: أهل السنة- ليدلسوا على الناس.
وإن كان بعض المفسرين منهم يذكر آراء جملة من الصحابة ويروى عنهم ، وهؤلاء قلة ، أما أكثرهم فإنهم يطعنون في الصحابة الكرام ، وإذا نظرنا في كتاب تنقيح المقال في أحوال الرجال ، وهو من أشهر كتب الجرح والتعديل عندهم ، ولمؤلفه عبد الله المامقانى منزلة وأى منزلة ! إذا نظرنا في هذا الكتاب-على سبيل المثال - وجدنا الآتى :(1/118)
عثمان بن عفان الأموى خليفة العامة ـ أي عامة المسلمين غيرهم ـ ضعيف.
عبد الله بن عمر بن الخطاب : خبيث ، ضعيف .
عبد الرحمن بن عوف من أضعف الضعفاء .
المغيرة بن شعبة : في غاية الضعف .
معاوية بن أبى سفيان : زندقته أشهر من كفر إبليس .
نعمان بن بشير الأنصارى : من أضعف الضعفاء .
خالد بن الوليد : صحابى لعين.. وهكذا !! (1)
فهم في الحقيقة لا يقبلون أقوال الصحابة، ولا يثقون بروايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهذا أكبر الأثر في انحراف منهجهم ,لأن الصحابة هم الذين عاصروا نزول القرآن وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم فنقلوا لنا الكتاب والسنة, فمن أين نأخذهما إن لم نأخذهما من الذين عاصروا ذلك, لذلك قلما تجد لهؤلاء الشيعة إسناد متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.فلما طُعن عليهم بذلك, لأنهم أخذوا دينهم ممن لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم , لجأوا إلى القول بعصمة الأئمة حتى يكون قول الإمام حجة كقول النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك بنوا معظم دينهم على أقوال الأئمة عندهم, والروايات الواردة عنهم,وبذلك تسنَّى للكذابين والوضاعين أن ينسبوا إليهم كثيرًا من الأقوال الشاذة,حيث استغلوا أفكار الجمهور الساذجة، وقلوبهم الطيبة الطاهرة، وحبهم لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراحوا يضعون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، ويضمنونها ما يرضى ميولهم المذهبية، وأغراضهم السيئة الدنيئة.
والذى عليه الشيعة إلى اليوم، أنهم لا يأخذون الحديث إلا ممن كان شيعياً، ولا يقبلون تفسيراً إلا ممن كان شيعياً، ولا يثقون بشىء مطلقاً إلا إذا وصل لهم من طريق شيعى!! وبهذا حصروا أنفسهم فى دائرة خاصة، حتى كأنهم هم المسلمون وحدهم، فإن عاشوا وسط السنيين فباطنهم لأنفسهم, وظاهرهم للتقية.
ما معنى التفسير بالرأي؟
__________
(1) 1- راجع ترجمة هؤلاء وغيرهم في الكتاب المذكور(1/119)
يُطلق الرأى على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه: أصحاب الرأى: أى أصحاب القياس.
والمراد بالرأى هنا "الاجتهاد" وعليه فالتفسير بالرأى، عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم فى القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها، واستعانته فى ذلك بالشعر الجاهلى , ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن, وعلم القراءات, وعلم أصول الدين،وعلم أصول الفقه, وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسِّر .
فالتفسير بالرأى قسمان: قسم جارٍ على موافقة كلام العرب، ومناحيهم فى القول، مع موافقة الكتاب والسُنَّة، ومراعاة سائر شروط التفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه، وعليه يُحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأى.
وقسم غير جارٍ على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط التفسير، وهذا هو المذموم المنهي عنه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد (2069) ,والترمذي(2951) وحسنه, والنسائي في الكبرى( 8085) -واللفظ له- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار" وهو الذى يرمى إليه كلام ابن مسعود إذ يقول: " ستجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع ، وإياكم والتنطع ".(1/120)
وكلام عمر إذ يقول: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأوَّل القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس المُلْك على أخيه"، وكلامه إذ يقول: "ما أخاف على هذه الأُمَّة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بَيِّن فسقه، ولكنى أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوَّله على غير تأويله". وما تفرقت الأمة وخرجت الخوارج وغلاة الشيعة إلا بسبب تأويل القرآن على غير وجهه. فكل هذا الذم وارد فى حق مَن لا يُراعى فى تفسير القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة، جاعلاً هواه رائده، ومذهبه قائده، وهذا هو الذي يُحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأى.
وقد قال ابن كثير - بعد أن ساق الآثار عَمَّن تحرَّج من السَلَف من القول فى التفسير - : فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السَلَف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما مَن تكلَّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حَرَج عليه، ولهذا رُوِى عن هؤلاء وغيرهم أقوال فى التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلِّموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، هذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سُئِل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] .. ولما جاء فى الحديث الذي روي من طرق: "مَنْ سُئِلَ عن علم فكتمه أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار" (1) .
وبذلك قد علمنا أن التفسير بالرأى قسمان: قسم مذموم غير جائز، وقسم ممدوح جائز، وتبين لنا أن القسم الجائز محدود بحدود، ومقيَّد بقيود (2) .
__________
(1) 1- صحيح: رواه أحمد(7561) والترمذي(2649) وحسنه, وأبو داود(3658) وغيرهم
(2) 2- د.الذهبي/التفسير والمفسرون (1/189) , وانظر مقدمة تفسير ابن كثير(1/6) ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص:31-32(1/121)
ومن أشهر الكتب في التفسير بالرأي: تفسير فخر الدين الرازي المسمى (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير),وقد ملأه بعلم الكلام مما أنزل من رتبته ,ومع ذلك قد تجد فيه بحوثًا قيمة لا تجدها عند سواه.
وتفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) وهو ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل وسط في التأويلات يذكر وجوه الإعراب والقراءات,يتضمن دقائق علم البديع والإشارات.
وتفسير النيسابوري(غرائب القرآن ورغائب الفرقان) وهو مختصر وتهذيب لتفسير الرازي,
وتفسير أبي السعود(إرشاد العقل السليم)وهو تفسير دقيق يحتاج لفهمه الخاصة من أهل العلم.
وتفسير أبي حيان( البحر المحيط) يجمع فنون العلوم من نحو وصرف وبلاغة وأحكام فقهية وتفسير الزجاج والجلالين, وغير ذلك كثير.
قال السيوطي في الإتقان:
ثم صنَّف بعد ذلك قوم برعوا في علوم، فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفنِّ الذي يغلب عليه:
فالنحويّ: تراه ليس له همٌّ إلا الإِعراب وتكثير الأَوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافيّاته؛ كالزَّجَّاج والواحدي في [البَسيط] وأَبي حيّان في [البحر] و [النهر] .
والأَخباري: ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها، والإِخبار عَمَّن سلف، سواء كانت صحيحة أَو باطلة، كالثعلبيّ .
والفقيه: يكادُ يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أُمّهات الأَولاد، وربما استطرد إلى إقامة أَدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية، والجواب عن أَدلة المخالفين، كالقرطبي .
وصاحبُ العلوم العقلية - خصوصاً الإِمام فخر الدين - قد ملأَ تفسيره بأَقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شيء إلى شيء؛ حتى يقضيَ الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية. قال أَبو حيان في [البحر] : جمَع الإِمام الرازيّ في تفسيره أَشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير؛ ولذلك قال بعض العلماء : فيه كلّ شيء إلاَّ التفسير .(1/122)
والمبتدع: ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد؛ بحيث إنه متى لاحَ له شاردة من بعيد اقتنصَها، أَو وجد موضعاً له فيه أَدنى مجال سارع إليه .
قال البُلقينّي : استخرجْتُ من (الكشاف) (1) اعتزالاً بالمناقيش، من قوله تعالى في تفسير:{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. وأَيّ فوز أَعظَم من دخول الجنة! أَشار به إلى عدم الرؤية (2) .
والملحد، فلا تسأَل عن كفره وإلحاده في آيات الله، وافترائه على الله ما لم يقله، كقول بعضهم في: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف : 155]: ما على العباد أَضرّ من ربهم.أهـ (3)
وكثير من التفاسير جمع بين الرواية والدراية, نذكر على سبيل المثال:
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) وهو كتاب جليل القدر يذكر في تفسير الآية العديد من المسائل ولكن يغلب عليه الطابع الفقهي و يتوسع كثيرًا في المسائل الفقهية, ويذكر كثيرًا من الآحاديث الصحيحة والضعيفة,ولا يبين ضعفها.
وتفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وهو كتاب دقيق يجمع بين الرواية والدراية ويختم كل سورة بما ورد في فضلها من الآحاديث غير أنه لم يتحر الصحيح منها.
__________
(1) - يعني: تفسير الكشاف للزمخشري المعتزلي
(2) - يعني:عدم رؤيةالمؤمنين لله تعالى يوم القيامة وسيأتي بيان ذلك والرد عليه مفصلاً فيما بعد.
(3) - الإتقان (4/ 212-2132)(1/123)
وتفسير الشوكاني (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير) وهو يبدأ في تفسير المجموعة من الآيات بالدراية ثم بعد ذلك يذكر ما ورد فيها من الروايات ويعتمد غالبًا فيها على الدر المنثور للسيوطي, وقد عده صاحب كتاب (التفسير والمفسرون) من تفاسير الزيدية وأراه لم يصب في ذلك, فالشوكاني كان زيديًا ولكنَّه بعد أن تبحر في علوم الشريعة وبزغ نجمه لم يعد يتبع مذهبًا معينًا بل ذم التقليد, وتفسيره يتجلى فيه الحرب على التقليد والمقلدة كلما سنحت له الفرصة بذلك, وأصبح ينصر مذهب أهل السنة ويسير مع الدليل حيث سار.ومصنفاته شاهدة بذلك .
* وأيضًا غالب التفاسير الحديثة تجمع بين التفسير بالرواية والتفسير بالرأي مع تبسيط المعنى وسهولة العبارة وحذف أسانيد الرواية وغالبها مستفاد من تفاسير الطبري والقرطبي وابن كثيررحمهم الله تعالى.
* ومن التفاسير التي جمعت بين الرواية والدراية ممن سننقل عنهم من الشيعة: تفسير التبيان للطوسي ومجمع البيان للطبرسي وتفسير كنز الدقائق للملا ميرزا محمد المشهدي تلميذ الكاشاني صاحب تفسير الصافي وقد تأثر به كثيرًا, وتفسير الميزان للطباطبائي والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل لناصر الشيرازي والبيان للخوئي ,والتفسيرالمبين لمحمد جواد مغنية والتفسير الكاشف له وغيرهم.
ما معنى التفسير الإشاري؟
التفسير الإشاري هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره ,لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم أو العارفين بالله ممَّن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم,أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الفتح الرباني, مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهرالمراد من الآيات الكريمة. (1) وهذا علم وهبي يُنال بالتقي والاستقامة والصلاح لقوله تعالى:{ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ }{البقرة:282}.
__________
(1) 3- الصابوني/ التبيان ص:191(1/124)
وهذا النوع من التفسير اختلف العلماء فيه, فمنهم من أجازه ومنهم من منعه حتى لا يكون مدعاة للتفسير بالهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية فيكون ذلك زندقةً وإلحادًا.
واستدل المجيزون بما رواه البخاري في صحيحه (4686) عند تفسير سورة النصر: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1] فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا, وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا, فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا , قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ, قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }[النصر:3] فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ ". فهذا الفهم من ابن عباس لم يفهمه بقية الصحابة الموجودين,وإنما فهمه عمر وابن عباس فقط.(1/125)
واستدلوا أيضًا بالحديث الذي في الصحيحين: البخاري (454) ومسلم (2382):عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ, فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ, فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا" فأبو بكر فهم بطريق الإشارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد المُخَيَّر ولم يفهم ذلك باقي الحاضرين.
ولقد بالغ قوم في التفسير بالإشارات والخواطر وفتنوا بذلك حتى ظنوا أنّ ما جاء في الكتاب والسنة ما هو إلاّ سوانح وواردات, وشطحوا مع تخيلاتهم , ولم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولا قوانين اللغة التي نزل بها القرآن, وخيّلوا للناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله تعالى وأخذوا عنه بلا واسطة,وأسقطوا التكاليف الشرعية بتأويلاتهم الباطلة,فهدموا الدين وأتوا على بنيانه من القواعد.(1/126)
والحق أن هذا التفسير قد خاض فيه الكثير من أهل البدع والضلالات و جَرَّ على الإسلام والمسلمين كثيرًا من الانحرافات, لذا تجد أكثر المشتغلين به من الصوفية (1) والباطنية وغيرهم ممن حاد عن طريق سلف هذه الأمة المباركة, وقليلٌ جدًا مَن أتى بإشارات مقبولة لا تتعارض مع ظاهر الآيات القرآنية.وقد عني الألوسي في تفسيره (روح المعاني) بذكر بعض الإشارات المقبولة في الآيات التي يقوم بتفسيرها بعد أن يذكر أولاً أقوال السلف وآراءهم في تفسيرها دراية ورواية. فتفسير الألوسي هذا جامع لكل أقسام التفسير, وهو خلاصة لما سبقه من التفاسير.
وقد أكثر سلطان محمد الجنابذي الشيعي الصوفي في تفسيره (بيان السعادة في مقامات العبادة) من التفسير الإشاري والتأويل الباطني والقضايا الفلسفية وللمفسر كثيرٌ من الإشارات والتأويلات والرموز كتفسير الصدّ عن سبيل اللّه بالصدّ عن سبيل الولاية .
* شروط قبول التفسير الإشاري:
وضع بعض العلماء شروطًا لقبول التفسير الإشاري وهي (2) :
1- عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم القرآني الكريم. كقول بعض الشيعة الإمامية الباطنية أن المقصود بالبقرة في قوله تعالى:{ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}{البقرة:67} هي عائشة أم المؤمنين, قبحهم الله.وكذا في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ }{النازعات:6-7} قالوا:الراجفة:الحسين, والرادفة:أبوه علي رضي الله عنهما.
2- عدم ادعاء أنه المراد وحده دون الظاهر.
__________
(1) 3- كتفسير ابن عربي وحقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي وتفسير الكشف والبيان للنيسابوري
(2) 3- الصابوني/ التبيان في علوم القرآن ص:197 بتصرف(1/127)
3- ألاّ يكون التأويل بعيدًا سخيفًا لا يحتمله اللفظ. كتفسير الشيعة الباطنية لقوله تعالى:{ وورث سليمان داود}{النمل:16} بأن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورث النبي صلى الله عليه وسلم.
4- ألاّ يكون له معارضٌ شرعيٌ أو عقليٌ.
5- ألاّ يكون فيه تشويش على أفهام الناس.وفي البخاري ( 127) قال علي رضي الله عنه:" حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ, أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" . وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه(1/10): عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ".
وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري ويكون من التفسير بالهوى, ومن الإلحاد في آيات الله تعالى.وهو عين ما يفعله الباطنية وسائر الملاحدة إذ يرون أن الظاهر غير مرادٍ أصلاً وإنما المراد الباطن الذي يفسرون به الآيات, وقصدهم من هذا نفي الشريعة وإبطال الأحكام, وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }{فصلت:40}.
قال السيوطي في الإتقان :
وأَما كلام الصوفيّة في القرآن فليس بتفسير.
قال ابنُ الصلاح في فتاويه : وجدت عن الإِمام أَبي الحسن الواحديّ المفسّر، أَنَّه قال : صنَّف أَبو عبد الرحمن السُّلميّ [حقائق التفسير] فإن كان قد اعتقد أَن ذلك تفسير فقد كفر .(1/128)
قال ابن الصلاح : وأَنا أَقول : الظنّ بمن يوثَق به منهم - إذا قال شيئاً من ذلك - أَنَّه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهبَ الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنيّة، وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن؛ فإنَّ النظير يُذكر بالنظير، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك، لما فيه من الإِيهام والإِلباس .
وقال النسفيّ في عقائده : النّصوص على ظاهرها، والعدول عنها إلى معان يدّعيها أَهلُ الباطن إلحادٌ .
قال التفتازاني في شرحه : سُمِّيت الملاحدة باطنيّة لادّعائهم أَنَّ النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معان باطنيّة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكليّة .
قال : وأَما ما يذهب إليه بعض المحققين من أَنَّ النُّصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق، تنكشف على أَرباب السلوك، يمكن التطبيق بينَها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإِيمان، ومحض العرفان .
وسئل شيخ الإسلام سراج الدين البلقينيّ عن رجل قال في قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة، الآية: 255]. إنَّ معناه : من ذل ّ: أَيْ من الذلّ. ذي: إشارة إلى النفس، يشفَ: من الشفا جواب (مَنْ). عُ: أَمر من الوَعْيِ، فأَفتى بأَنه مُلحِد. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي? آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} [فصلت، الآية: 40]. قال ابن عباس : هو أَن يوضع الكلام على غير موضعه، أَخرجه ابن أَبي حاتم.(1/129)
فإن قلت : فقد قال الفريابيّ : حدّثنا سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولِكلِّ آية ظهر وبَطْن، ولكلّ حرف حدّ، ولكل حَدّ مطلع". (1)
وأَخرج الدّيلميّ من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً: "القرآن تحت العرش، له ظهر وبطن يحاجّ العباد ".
وأَخرج الطبرانيّ وأَبو يعلَى والبزَّار وغيرهم، عن ابن مسعود موقوفاً: " إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حدّ، ولكل حدّ مطلع" .
قلت : أَمّا الظهر والبطن ففي معناه أَوجه :
أَحدها : أَنَّك إذا بحثت عن باطنها وقِسْتَه على ظاهرها، وقفت على معناها .
والثاني : أَنَّ ما من آية إلا عمل بها قوم؛ ولها قوم سيعملون بها، كما قال ابن مسعود، فيما أَخرجه ابن أَبي حاتم .
الثالث : أَن ظاهرها لفظها، وباطنها تأْويلها .
الرابع : قال أَبو عبيد : وهو أَشبهها بالصواب - إن القصص التي قصَّها الله تعالى عن الأُمم الماضية وما عاقبهم به: ظاهرها الإِخبار بهلاك الأَوّلين، إنما هو حديث حَدَّث به عن قوم. وباطنها وعظ الآخرين، وتحذيرهم أَن يفعلوا كفعلهم، فيحلّ بهم مثل ما حل بهم .
وحكَى ابن النقيب قولاً خامساً : إنَّ ظهرَها ما ظهر من معانيها لأَهل العلم بالظَّاهر، وبطنها ما تضمنته من الأَسرار التي أَطلع الله عليها أَرباب الحقائق .
ومعنى قوله: "ولكل حرف حدّ" أَي منتَهى، فيما أَراد الله من معناه. وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب .
ومعنى قوله: "ولكل حدّ مطلع" : لكل غامض من المعاني والأَحكام مطلع يُتوصّل به إلى معرفته، ويُوقف على المراد به . وقيل: كلّ ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة .
__________
(1) - حديث ضعيف مرسل, أرسله الحسن ومرسل الحسن ضعيف عند علماء الحديث. و ما ورد مرفوعًا بهذا المعنى لم يصح.بل هو منافٍ لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }[القمر:17](1/130)
وقال بعضهم : الظاهر التّلاوة والباطن الفهم، والحد أحكام الحلال والحرام، والمطلع الإِشراف على الوعد والوعيد . أهـ (1)
وقال الغزالي في الإحياء في فصل الذكر والتذكير وهو يتكلم عن الشطح عند الصوفية:
وأما الطاعات فيدخلها ما ذكرناه من الشطح, وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة, فهذا أيضًا حرام وضرره عظيم. ومن أمثلة تأويل هذه الطامات:
قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{طه:24} إنه إشارة إلى قلبه,وقال هو المراد بفرعون, وهو الطاغي على كل إنسان.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}{القصص:31} أي:كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه.
__________
(1) - السيوطي/ الإتقان (4/194-197)(1/131)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"تسحّروا فإن في السحور بركة (1) " فسّروا السحور بأنه الاستغفار في الأسحار, وأمثال ذلك حتى ليحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره, وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء, وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعًا, كتنزيل فرعون على القلب, فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده,وبعضها يُعلم بطلانه بغالب الظن, وكل ذلك حرام وضلالة, وإفسادٌ للدين على الخلق. ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات, مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ, يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع-أي الكذب- على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كمن يضع في كل مسألة يراها حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك ظلمٌ وضلال, ودخول في الوعيد "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (2) بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم, لأنه مبطلٌ للثقة بالألفاظ, وقاطعٌ طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية. أهـ (3)
وقد ذكر الخوئي في تفسيره :( تأويل آية السجود بالكشف) قال الحسن بن منصور : " لما قيل لإبليس : اسجد لآدم ، خاطب الحق فقال : ارفع شرف السجود عن سري إلا لك في السجود حتى أسجد له ، إن كنت أمرتني فقد نهيتني ، فقال له : فإني أعذبك عذاب الأبد ، فقال : أو لست تراني في عذابك لي ؟ فقال : بلى ، فقال : فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب, افعل بي ما شئت " . تفسير ابن روزبهان الصفحة 21 طبعة الهند . أقول : فلتقر عيون أصحاب الكشف - ابن روزبهان وأمثاله - بهذه المكاشفة ونظائرها المخالفة لحكم العقل ، وصريح القرآن ، وضرورة الدين .أهـ (4)
__________
(1) - البخاري(1823) ومسلم(1095) والنسائي(2146) وأحمد(11968) وغيرهم.
(2) - حديث متواتر: رواه البخاري(110 ) ومسلم(3) والترمذي(2659 ) وأحمد(9305 )وغيرهم.
(3) - ذكره الصابوني في التبيان في علوم القرآن ص:199-200
(4) - البيان في تفسير القرآن/التعليقة ( 21 ) ص: 474(1/132)
وقال السيوطي في كتابه الإتقان تحت عنوان:( غرائب التفسير ):
َ
ألف فيه محمود بن حمزة الكرمانيّ كتاباً في مجلدين، سماه [العجائب والغرائب] ضمَّنه أَقوالاً - ذكرت في معاني الآيات - مُنكرة، لا يحل الاعتماد عليها ولا ذكرها إلاَّ للتحذير منها .
من ذلك من قال في {حم? ع?س?ق?} : إنَّ الحاء حرْب عليّ ومعاوية، والميم ولاية المروانية، والعين ولاية العبَّاسية، والسين ولاية السّفيانية، والقاف قدوة مهدي. حكاه أَبو مسلم، ثم قال : أَردت بذلك أَن يُعلَم أَنَّ فيمن يدَّعي العلم حَمْقَى .
ومن ذلك قول من قال في {ال?م?} معنى (أَلف) ألف الله محمداً فبعثه نبياً، ومعنى (لام) لامه الجاحدون وأَنكروه، ومعنى (ميم) مِيَم الجاحدون المنكرون، من الموْم وهو البرْسام.
ومن ذلك قول من قال في: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة، الآية: 179]: إنَّه قصص القرآن، واستدلَّ بقراءة أَبي الجوزاء : (ولكم في القَصَص) وهو بعيد، بل هذه القراءة أَفادت معنى غير معنى القراءة المشهورة، وذلك من وجوه إعجاز القرآن، كما بيَّنته في [أَسرار التنزيل] .
ومن ذلك ما ذكره ابن فُورَك في تفسيره في قوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . إن إبراهيم كان له صديق، وصفه بأَنه (قلبه) أَي ليسكن هذا الصديق إلى هذه المشاهدة إذا رآها عياناً .قال الكرمانيّ : وهذا بعيد جداً .
ومن ذلك قول من قال في: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة، الآية: 286]: إنه الحُب والعشق، وقد حكاه الكواشيّ في تفسيره .
ومن ذلك قولُ مَنْ قال في:{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [العلق، الآية: 3].إنه الذَّكَر إذا انتصب .(1/133)
ومن ذلك قول أبي معاذ النحوي في قوله تعالى: {الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} : يعني إبراهيم {ناراً} أَي نوراً، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} [يس: 80]. تقتبسون الدين.أهـ (1)
* ما العلوم التي يحتاجها المفسر؟
يحتاج المفسر لكتاب الله تعالى إلى أنواع من العلوم والمعارف التي يجب أن تتوفر فيه حتى يكون أهلاً للتفسير وإلا كان داخلاً في الوعيد الشديد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لمن يفسر القرآن برأيه وهواه , وقد عدها السيوطي خمسة عشر علمًا (2) كما ذكرها في كتابه الإتقان, ويمكن إيجازها فيما يلي:
1- معرفة أصول الدين.
2- معرفة أصول الفقه ( من خاص وعام ومجمل ومفصل...إلخ)
3- معرفة اللغة العربية وقواعدها( علم النحو, والصرف, وعلم الاشتقاق)
4- معرفة علوم البلاغة (علم المعاني,والبيان, والبديع)
5- معرفة أسباب النزول.
6- معرفة الناسخ والمنسوخ.
7- معرفة علم القراءات.
8- علم الموهبة.ولا يتأتى إلاّ لمن يعمل بما يعلم.
قال السيوطي: ولعلك تستشكل علم الموهبة, وتقول:هذا شيْ ليس في قدرة الإنسان, وليس كما ظننت من الإشكال, والطريق في تحصيله أرتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.أهـ (3)
* ما الآداب التي ينبغي أن يتصف بها المفسر ؟
__________
(1) - الإتقان (4/202-203)
(2) - أنظرها كاملة في الإتقان (4/185-188)
(3) - الإتقان (4/ 188)(1/134)
قال الزركشي في البرهان:اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا أو هو على ذنب أو غير متحقق بالإيمان أو ضعيف التحقيق أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وموانع بعضها آكد من بعض. ذكره السيوطي في الإتقان ثم قال :قلت : وفي هذا المعنى قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }[الأعراف:146]. قال سفيان بن عيينة " يقول أنزع عنهم فهم القرآن" أخرجه ابن أبي حاتم "أهـ (1) .
من هذا القول الجامع يمكن أن نستخلص جملة آداب يتعين على المفسر التحلي بها وهي :
1- صحة الاعتقاد .
2- التجرد عن الهوى.
3- حسن النية .
4- حسن الخلق .
5- التواضع ولين الجانب .
6- الزهد في متاع الدنيا، حتى يكون عمله خالصًا لله تعالى .
7- الامتثال لأمور الشرع، والانتهاء عن نواهيه, وسلوك سبيل التوبة.
8- عدم الاعتماد في التفسير على أهل البدع والضلالة.
9- يتعين عليه أن لا يستكين إلى معقوله، وأن يجعل من كتاب الله قائدًا.
فائدة: على المفسر: أن يجري مع الآية حيث تجري، ويكشف معناها حيث تشير، ويوضح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيماً حين تشتمل الآية على الحكمة، وخلقياً حين ترشد الآية إلى الأخلاق، وفقيهاً حين تتعرض للفقه، واجتماعياً حين تبحث فى الاجتماع، وشيئاً آخر حين تنظر في أشياء أُخر (2) .
موقف الشيعةالزيدية من التفسير
لم يقع بين الزيدية من الشيعة، وبين جمهور أهل السُنَّة خلاف كبير مثل ما وقع من خلاف بين الإمامية وجمهور أهل السُنَّة، والذى يقرأ كتب الزيدية يجد أنهم أقرب فرق الشيعة إلى مذهب أهل السُنَّة، وما كان بين الفريقين من خلاف فهو خلاف لا يكاد يُذكر.
__________
(1) - الإتقان (4/ 188)
(2) - مقدمة تفسير البيان ص:12(1/135)
يرى الزيدية: أنّ علياً أفضل من سائر الصحابة، وأولى بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنّ كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخى خرج للإمامة صحّت إمامته، ووجبت طاعته، سواء أكان من أولاد الحسن، أم من أولاد الحسين، ومع ذلك فهم لا يتبرأون من الشيخين، ولا يكفرونهما، بل يجوِّزون إمامتهما، لأنه تجوز عندهم إمامة المفضول مع وجود الفاضل، كما أنهم لم يقولوا بما قالت به الإمامية من التقيَّة، والعصمة للأئمة، واختفائهم ثم رجوعهم فى آخر الزمان. وغير ذلك من خرافات الإمامية ومَن على شاكلتهم.
وكل الذى نلحظه على الزيدية، أنهم يشترطون الاجتهاد فى أئمتهم، ولهذا كثر فيهم الاجتهاد. والذى يقرأ كتاب "المجموع" للزيدية يرى أنّ كل ما فيه من الأحاديث مروية عن زيد بن علىّ زين العابدين، عن آبائه من الأئمة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه بعد ذلك حديث يُروى عن صحابى آخر من غير أهل البيت رضى الله عنهم.
كما نلاحظ على الزيدية أيضاً أنهم تأثروا إلى حد كبير بآراء المعتزلة ومعتقداتهم، ويرجع السر فى هذا إلى أن إمامهم زيد بن علىّ، تتلمذ على واصل بن عطاء، ولذلك تجدهم يولون تفسير الكشاف عناية خاصة لأن الزمخشري الذي صنفه كان معتزليًا.
إذن فلا نطمع بعد ذلك أن نرى للزيدية أثراً مميزاً، وطابعاً خاصاً فى التفسير كما هو للإمامية، لأن التفسير إنما يتأثر بعقيدة مفسِّره، ويتخذ له طابعاً خاصاً واتجاهاً معيّناً، حينما يكون لصاحبه طابع خاص واتجاه معين، وليست الزيدية - بصرف النظر عن ميولهم الاعتزالية - بمنأى بعيد عن تعاليم أهل السُنَّة، وعقائدهم، حتى يكون لهم فى التفسير خلاف كبير. ومن قرأ تفسير الأعقم,وتفسير الثمرات اليانعة وغيرهما أدرك ذلك.
موقف الإسماعيلية الباطنية من التفسير(1/136)
إنَّ الإسماعيلية - من الشيعة الإمامية- تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق (1) ،
__________
(1) - انقسمت الشيعة الإمامية بعد موت جعفر الصادق –الإمام السادس عندهم- إلى فرقتين: إحداهما اختارت ابنه موسى الكاظم إمامًا سابعًا وهم الاثنى عشرية .
والثانية: اختارت أخاه الأكبر إسماعيل بن جعفر إمامًا سابعًا وهم الإسماعيلية , فيسمون لذلك بالإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، وبالسبعية : نسبة إلى الإمام السابع . وانشقت الإسماعيلية إلى فرقتين كذلك :
الفرقة الأولى : نادت بإمامة مبارك - مولى إسماعيل بن جعفر الصادق - فسموا بالمباركية ، وعنهم انشقت فرقة الخطابية الغالية المنتسبة لأبي الخطاب الأسدي ، الذي غالى في تأليه آل البيت ، وادعى النبوة .
والفرقة الثانية: ساقت الإمامة من محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي ، وهنا أوقفت طائفة الدروز الإمامة عند الحاكم بأمر الله ، وقالوا برجعته ، وساق بقية الإسماعيليين الإمامة إلى المستنصر بالله الخليفة الفاطمي(العبيدي)، وهنا انشقوا بدورهم إلى فرقتين هما :
أ - الإسماعيلية النزارية ( الاسماعيلية الشرقية) : - وهم حاليًا الأغاخانية أتباغ أغا خان - ، وهم الذين اعتقدوا إمامة نزار بن المستنصر ، وطعنوا في إمامة المستعلي (أحمد بن المستنصر) ، وقد نقل كبير دعاتهم : الحسن بن الصباح الدعوة إلى فارس ، وكون دولة النزارية ، التي عرفت باسم دولة :( الحشاشين ) التي لعبت دورًا سياسيًا كبيرًا في إيران ، والهند ، والشام ، وأفغانستان .
ب – الإسماعيلية المستعلية ( الاسماعيلية الغربية ) : وهم الذين قالوا بإمامة : أحمد بن المستنصر ، الملقب بـ المستعلي، ويعرفون باسم: البهرة ، وقد انشقوا كذلك إلى فرقتين هما:البهرة الداوودية،والبهرة السليمانية .أنظر:كتاب طائفة البهرة تأويلاتها الباطنية للدكتور سامي عطا حسن (ص: 5 )(1/137)
وهم يُلقَّبون بالباطنية أيضاً لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره، أو لقولهم بالإمام الباطن المستور.
وقال الشهرستاني: لزمهم لقب الباطنية لحكمهم بأن لكل ظاهرٍ باطنًا, ولكل تنزيل ٍ تأويلاً (1) .
وقال يحيى بن حمزة العلوي(من الشيعة الزيدية):إنهم لقبوا بالباطنية لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللُّب من القشر,واعتقدوا أنه من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح منه,وأن الجهال هم المنكرون للباطن (2) .
وقد ظهرت بوادر هذه الفتنة، ونبتت نواة هذه الطائفة: زمن المأمون، وبيد جماعة جمع بينهم سجن العراق، هم: عبد الله بن ميمون القدّاح، وكان مولى جعفر بن محمد الصادق، ومحمد بن الحسين المعروف بذيذان، وجماعة كانوا يدعون "الجهاربجة".
اجتمع هؤلاء النفر، فوضعوا مذهب الباطنية وأسسوا قواعده، فلما خلصوا من السجن ظهرت دعوتهم، ثم استفحل أمرها، واستطار خطرها إلى كثير من بلاد المسلمين. وما زالت لها بقية إلى يومنا هذا بين كثير ممن يدّعون الإسلام.
والحق أن هذه الطائفة لا يمكن أن تكون داخلة فى عداد طوائف المسلمين (3) . وإنما هى فى الأصل جماعة من المجوس رأوا شَوْكة الإسلام قوية لا تُقهر، وأبصروا عزة المسلمين فتية لا تُغلب ولا تُكسر، فاشتعلت بين جوانحهم نار الحقد على الإسلام والمسلمين، ورأوا أنه لا سبيل لهم إلى الغلب على المسلمين بقوة الحديد والنار، ولا طاقة لهم بالوقوف أمام جيشهم الزاخر الجرّار، فسلكوا طريق الاحتيال الذى يوصلهم إلى مآربهم وأهوائهم، ليطفئوا نور الله بأفواههم، وخفى على هؤلاء الملاحدة أنّ الله متم نوره ولو كره الكافرون.
__________
(1) - الملل والنحل للشهرستاني(1/192)
(2) - يحيى العلوي/الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص:23 بتحقيق النشار وفيصل عون.وهذا الكتاب من أصول كتب الزيدية بجانب الرد على الباطنية.
(3) - التفسير والمفسرون ( 2/174)(1/138)
الغرض الأول الذى تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه: هو العمل على هدم الشرائع عموماً، وشريعة الإسلام على الخصوص!! فكان لزاماً عليهم وقد قاموا يحاربون الإسلام - أن يُعملوا معاول الهدم فى ركن الإسلام المكين، وهو القرآن الكريم، ولم يجدوا معولاً أنجع ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من معول التأويل والميل بالآيات القرآنية إلى غير ما أراد الله.
كتب عبيد الله بن الحسن القيروانى إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنانى رسالة طويلة جاء فيها: "... وإنى أوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وتدعوهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة فى السماء، وإبطال الجن فى الأرض، وأوصيك أن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بَشرٌ كثير، فإنَّ ذلك عون لك على القول بقدَم العالَم" (1) .
رأى هذا الزعيم الباطنى أن التشكيك فى القرآن خيرمعين لهم على تركيز عقائدهم، ورأى رأيه أهل الباطن جميعًا فقالوا: " للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللُّب إلى القشر، والمتمسك بظاهره معذَّب بالشقشقة فى الكتاب، وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره، وتمسكوا فى ذلك بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13].
فانظر إليهم كيف وضعوا هذه القاعدة لفهم نصوص القرآن الكريم، ثم اعجب ما شاء الله لك أن تعجب من استدلالهم بهذه الآية الكريمة على قاعدتهم التى قَعَّدوها؟ ولستُ أدرى ما صلة هذه الآية بتلك القاعدة والآية واردة فى شأن من شئون الآخرة ينساق إلى فهمه كل مَن يمر بالآية بدون كلفة ولا عناء.
على هذه القاعدة السابقة جرى القوم فى شرحهم لكتاب الله تعالى، فكان من تأويلاتهم ما يأتى:
__________
(1) - التفسير والمفسرون( 2/178)(1/139)
"الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام، و "التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذى هو الحُجَّة، و "الصلاة" عبارة عن الناطق الذى هو الرسول بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، و "الغُسْل" تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام"، و "الزكاة" عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، و "الكعبة" النبى، و "الباب" علىّ، و "الصفا" هو النبى، و "المروة" علىّ، و "الميقات" الإيناس، و "التلبية" إجابة الدعوة، و "الطواف بالبيت سبعاً" موالاة الأئمة السبعة، و "الجنة" راحة الأبدان من التكاليف، و "النار" مشقتها بمزاولة التكاليف.
وفي قوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }[محمد:15 } تأوَّلوا أنهار الجنة فقالوا: {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ} أى معادن العلم .. اللَّبن: العلم الباطن، يرتفع به أهلها، ويتغذون به تغذياً تدوم به حياتهم اللطيفة، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلَّم، كما أن حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللَّبن من ثدى الأم. و {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ} هو العلم الظاهر. و {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.(1/140)
كذلك تجد الباطنية يرفضون المعجزات، ولا يعترفون بها للرسل، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحى من الله، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون فى السماء مَلَك وفى الأرض شيطان، وأنكروا آدم والدجّال، ويأجوج ومأجوج، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام آيات من القرآن تّكذِّب دعواهم هذه، فتخلصوا منها بمبدأهم الذى ساروا عليه فى تفسيرهم وهو إنكار الظاهر والأخذ بالباطن، وأوّلوا هذه الآيات بما يتفق ومذهبهم، فتأوّلوا "الملائكة" على دعاتهم الذين يدعون إلى بدعتهم. وتأوّلوا "الشياطين" على مخالفيهم. وتأوّلوا كل ما جاء فى القرآن من معجزات الأنبياء عليهم السلام .(1/141)
ومن اطلع على كتب البهرة من الإسماعيلية وجدهم كأسلافهم من الإسماعيليين القدامى يذهبون إلى أن لكل شيئ ظاهر محسوس تأويلاً باطنيًا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم ، وهم : الأئمة ، وهؤلاء الأئمة يودعون هذا العلم الباطن لكبار الدعاة بقدر مخصوص ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ؛ فقالوا : إن التأويل الباطن من عند الله ، خص به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خص بالتنزيل ، فكذلك علي - رضي الله عنه - قد خص بالتأويل ، واستدلوا على ذلك بقصة نبي الله موسى – عليه السلام – مع الخضر العبد الصالح المذكورة في سورة الكهف ، وكيف أن موسى – عليه السلام - وهو نبي مرسل من أولي العزم ، لم يمنحه الله علم الباطن ، بينما منح هذا العلم إلى الرجل الصالح (1) ، وهو ليس بنبي مرسل .
__________
(1) - ذهب جمهور العلماء إلى نبوة الخضر عليه السلام لأدلة كثيرة فلتراجع في كتب التفسير, وأظهرها قوله لموسى:{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }[الكهف:82] مما يؤكد أنه فعل ما فعل بأمرٍ من الله تعالى, وبوحي منه سبحانه مما يدل على نبوته. وفي حديث موسى والخضرعليهما السلام قال الخضر لموسى:" يَا مُوسَى إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ "رواه البخاري(122 ) ومسلم(2380 )والترمذي(3149 )وغيرهم.وانظر تفسير الشوكاني(3/304) وابن كثير(3/102)ومعالم التنزيل للبغوي(5/197) وزاد المسير لابن الجوزي (5/128) .(1/142)
وهكذا كان التأويل الباطن إلى علي – كرم الله وجهه - ، وقد أورثه الأئمة من ذريته بأمر من الله ، وعلى ذلك فالأئمة هم الذين يدلون الناس على أسرار الدين ، وليس لأحد غيرهم هذا الحق الذي جاءهم بأمر من الله تعالى ، ولكن ليس لهم أن يطلعوا أحدًا على أسرار هذا الدين إلا لمن يستحق ذلك فقط .
وبالرغم من قولهم : إن التاويل من عند الله ، نراهم مرة أخرى يقولون : إن التأويل من خصائص حجة الإمام أو داعي دعاته ، ومع ذلك نجد تأويلاتهم تختلف باختلاف شخصية الداعي الذي إليه التأويل . وباختلاف موطنه ، وزمن وجوده .
فإذا قرأنا تأويلات ( الداعي ابن منصور اليمن ) قبل ظهور الدولة الفاطمية بالمغرب ، نجد أنها تميل إلى الغلو ، ولا تختلف في مضمونها عن تاويلات الفرق الغالية المندثرة ، وتأويلات دعاة فارس تختلف عن تأويلات الدعاة الذين كانوا بالقرب من الأئمة بالمغرب ، ففيها التأليه الصريح للأئمة ، وفيها طرح الفرائض الدينية ، فتأويل الصلاة عندهم هو : الإتجاه القلبي للإمام.
وتأويل الصوم هو : عدم إفشاء أسرار الدعوة ، وتأويل الحج هو : زيارة الإمام . وهكذا ينتهي بهم التأويل في فارس إلى طرح كل أركان الدين . بخلاف ما كان عليه الأمر في المغرب إذ لم يصرحوا بهذه الآراء إلا في كتبهم السرية .
فمثلا: قال الداعي بالمغرب في تأويل قوله تعالى : {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:1-3 ] إن الفجر هو : على بن أبي طالب ، وكل إمام بعده . وأن الشفع والوتر هما : الحسن والحسين. ولكن الداعي في مصر في عصر الدولة العبيدية(الفاطمية) أوَّلَ هذه الآية بأن الفجر هو : المهدي المنتظر ،أي : قائم الأئمة وخاتمهم ، لأنه يظهر بعد انتشار الضلال ، كما أن الفجر يأتي بعد شدة الظلام .(1/143)
وبعد انتقال الدعوة من مصر إلى اليمن وأصبحت تعرف بالدعوة الإسماعيلية الطيبية ، عادت التأويلات الباطنية مرة أخرى إلى الغلو ، مع أن دعاة اليمن أخذوا أكثر تأويلاتهم عن دعاة مصر . وبسبب دخول الأئمة دور الستر ، وعدم وجود دولة للطائفة ، عاد الإسماعيلية إلى التقيّة والسرية ، بحيث لا يسمح إلا لكبار الدعاة فقط بمعرفة أسرار التأويل . وظل الأمر على ذلك إلى الآن عند طائفة البهرة بفرعيها الداودي والسليماني (1) .
__________
(1) - انظر : د. محمد كامل حسين/ طائفة الإسماعيلية ، ص 162-165 ، باختصار . والحبيب الفقي/ التأويل أسسه ومعانيه في المذهب الإسماعيلي ، ص 9-53. والداعي الإسماعيلي جعفر بن منصور اليمن / كتاب الكشف ، ص 66 . والداعي إدريس عماد الدين القرشي/ زهر المعاني ، ص 299 .(1/144)
كما أوَّلوا قوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[البقرة:106] بقولهم : لا خلاف بين أهل التأويل (1) أن الآية مََثل الإمام ، ويعني بقوله : ( ما ننسخ من آية ) : أي : نؤخر من شخص قد وسم بوسم يوهم فيه الإمامة ، ويعني بقوله : ( أو ننسها ) أي : ننقل من إمام حقيقي إلى دار الكرامة ، فإن النسخ هو إبطال حكم متقدم بإثبات حكم متأخر ، وهو مثال تصور الشخص المتوهمة إمامته ، والنسيان هو : انتقال الشيئ من مقر الحفظ ، وهو مثل انتقال الإمام إلى دار الكرامة. وقوله : ( نأت بخير منها ) أي : نأت بإمام الحق ، وهو خير من الشخص المتوهمة إمامته ، ومما يؤيد هذا قول الله تعالى : {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة:61]، فإنه أشار عند جميع أهل التأويل بقوله ( خير ) إلى الوصي ، أو إلى الإمام الحق ،وبـ ( الذي هو أدنى ) إلى الشخص الذي يتوهم أنه إمام وليس بإمام .
__________
(1) - أنظر كيف يدلس على القاريء ويزعم أن أهل التأويل متفقون على ما يقول هذا الباطني, وهذا دأبهم , ولم يقل أحدٌ بذلك سوى هؤلاء الباطنية.فالآية عند المفسرين فيها رد على الذين يطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته, كاليهود وغيرهم, ويقولون: ما بال هذا النبي يأمر قومه بأمر ثم يبدله بعد ذلك؟ فردّ الله تعالى عليهم بقوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي ما نغير حكم آية من القرآن و نؤخرها إلا أتينا بما هو خير منها. وذلك لمصلحة الناس وإظهار الدِّين. وكل هذا من الله. القادر على كل شيء والذي له ملك السماوات والارض، يتصرف فيه كيف يشاء، وحسب مصلحة عباده. أنظر تفسير الطبري(2/471) والبغوي (1/133-134) وابن كثير (1/149) والشوكاني(1/126) وتفسير القطان(1/55)والسعدي ص:58(1/145)
ويريد بقوله تعالى : ( أو مثلها ) أي : يخلف إمام حق بإمام حق مثله ، من عنصره وأصله ، فإن الأئمة في معنى الإمامة متماثلون ، وفي حقيقة التأييد والعصمة متشاكلون . وجعل بإزاء نسخ الآية : الإتيان بما هو خير ، وبإزاء نسيانها : الإتيان بما هو مثلها . فهل بقي بعد فهم هذا في فعل الأئمة ريب ..؟ أو يكون على وجه حكمتهم اعتراض بحضرة أو غيب ..؟ يا هؤلاء أما تعلمون أنكم إلى الإمام الحاضر في الإستضاءة بتعليمه وإرشاده ، وتحصيل المعارف التي لا تحصل إلا من جهته ، وتلومون أهل الظاهر في الاستبداد بآرائهم ، والسكون إلى أهوائهم ، فكيف تأتون إلى أعظم الأمور قدرا ، وأخفاها علما ، وهي الإمامة ، تحكمون فيها آراءكم ، وتتبعون فيها أهواءكم ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، والخسران المبين... (1)
ونقول : إن هذه التأويلات فاسدة ، لأنها مخالفة لمنطق اللغة ، وضوابط التفسير التي أجمع عليها ثقات العلماء والمفسرين ، ولا يوافق عليها النقل الصحيح ، ولا العقل الصريح ، فهؤلاء اعتقدوا أشياءً في أذهانهم ، وآمنوا بمذاهب وأفكار معينة ، وأرادوا إخضاع آيات القرآن لها ، لتدل على مزاعمهم ، فهم حرفوا ألفاظه عن مظانها اللغوية ، وأخرجوا الآيات عن نسقها وسياقها ، وخالفوا قواعد التفسير ، فكان فعلهم هذا أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل أو التفسير ، بل هو تلاعب بمعاني آيات القرآن ، وإخراج لها عن معانيها الحقيقية ، وهذا ما يهدف إليه هؤلاء الغلاة .
__________
(1) - رسالة:الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية(من كتب البهرة): تصحيح آصف بن علي ص 20-21.(1/146)
والبهرة (1) كبقية الإسماعليين ، بل كبقية الغلاة الذين حفلت بهم كتب المقالات والفرق ، أوَّلوا كل شيئ.
وإذا نظرنا إلى تفسير ( مزاج التسنيم ) لمفسر البهرة السليمانية : ضياء الدين إسماعيل بن هبة الله نجد أنه أوَّل العقائد ، والأسماء والصفات ، والعبادات ، وقصص القرآن ، فأخذ يقول ما لا يفهم ، أو لا يفهم ما يقول .. وأكتفي بذكر مثال علي تأويلات البهرة الإسماعليين للصلاة .. إذ استقصاء تأويلاتهم لا يتسع لها مثل هذا البحث ..
قال ضياء الدين إسماعيل بن هبة الله الإسماعيلي في تأويل قوله تعالى : {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الحج:78] .( فأقيموا الصلاة ): أي الدعوة إلى الميم ( محمد – صلى الله عليه وسلم ) .(وآتوا الزكاة ): سلموا لأمر الفاطر ( أي : فاطمة ) ( واعتصموا بالله ) : يعني العين ( أي : علي )، ( هو مولاكم ) : ولي أمركم في السابق واللاحق . (فنعم المولى ) : يعني بتدبيره لكم . (ونعم النصير ) : يعني باحتجابه بكم ، وإلهامه لكم ، وإقداركم على ما تريدون في تدبير الخلق ، فافهموا يا معشر المؤمنين ما سيق إليكم من هذه الحكم ذات السر المصون!! (2)
وقال في تأويل قوله تعالى : {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ }[ إبراهيم:37] يعني : الدعوة الظاهرة (3) .
__________
(1) - في تقرير أعده السفير المصري بنيودلهي بالهند ، بناءً على طلب من وزارة الأوقاف المصرية بخصوص طائفة البهرة قال فيه : ( إن البهرة يعتقدون طقوسًا وشعائر منافية لأبسط تعاليم الإسلام ، منها : السجود بين يدي الزعيم ( الداعي ) وقد أوردته صحيفة المسلمون في عددها رقم ( 230 ) الصادر بتاريخ ( 30يونية – 6 يوليو سنة 1989م ) .
(2) - ضياء الدين السليماني/ تفسير مزاج التسنيم ، ص 260 .
(3) - المرجع السابق : ص 101 .(1/147)
وقال في تأويل قوله تعالى :{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }[المؤمنون:9] يعني : يحافظون على الاتصال بالطاعة للحدود ، لكي يتصلوا بهم بالانضمام (1) .
وقال الداعي إدريس عماد الدين في تأويل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }[الجمعة:9 ] يعني : إذا نودي للصلاة ، وهي الدعوة إلى علي ،( من يوم الجمعة ) أي : من محمد الجامع للشرائع ( فاسعوا إلى ذكر الله ) أي : أطيعوا محمدًا في علي ، والنص عليه .(وذروا البيع ) أي : ذروا البيعة لغيره!! (2) .
وفي قوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }[البقرة:3] قال الداعي جعفر بن منصور اليمن : (الصلاة): الحسين والأئمة من ولده ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) : هي الزكاة المؤداة إلى أهلها (3) .
وفي تأويل قوله تعالى : {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى }[القيامة:31]: قال: الصلاة : الطاعة للوصي ، وللأئمة الذين اصطفاهم الله من ولده (4) .
ولو تتبعنا تأويلات بقية الدعاة للصلاة ، لوجدناهم يتلاعبون بآيات القرآن الكريم حسب أهوائهم وأغراضهم ، ويتعارضون ويتناقضون في تأويل الشيئ الواحد ، مع زعمهم المستمر بأن تأويلاتهم مأخوذة عن إمامهم المعصوم.
هذا ... ومما زعمته الباطنية: أنّ مَن عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأوّلوا فى ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].. وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
__________
(1) - المرجع السابق : ص 363 .
(2) - الداعي إدريس عماد الدين/ زهر المعاني ، ص 15 .
(3) - الداعي جعفر بن منصور اليمن/ كتاب الكشف ، ص 38 .
(4) - المرجع السابق : ص 44 .(1/148)
وقد يدور سؤال بخلد القارئ هو: كيف نجزم بنسبة هذه التأويلات كلها إلى الباطنية مع وجود التناقض والاختلاف بين بعض المعانى التى نقلت عنهم للفظ الواحد؟ أليس هذا دليلاًً على عدم صحة كل ما يُنسب إليهم؟ والحق أن السؤال وارد، ولكنه مدفوع بما ذكره الغزالى من أنّ " سر هذا الاضطراب راجع إلى أنهم كانوا لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال، فلذلك تختلف كلمتهم ويتفاوت نقل المذهب عنهم (1) ".
ويرجع ذلك أيضًا إلى أن باب التأويل واسع ولا ضوابط للغلاة في تأويلاتهم ، فمن النادر أن يتفقوا في تأويلاتهم للشيئ الواحد ، مما يدل على أن كل واحد يؤول بما شاء له الهوى ، وحسب انحراف مزاجه أو اعتداله . لذا وضع علماء الإسلام ضوابط للتاويل المقبول ، كي لا تتخذ المذاهب الضالة والتيارات الهدامة من التأويل سندًا ووسيلة لخدمة أغراضها ، ولبث الفوضى الفكرية ، والإجتماعية ، والدينية .
هذا.. وقد تولدت في العصور الحديثة فرق أخرى من الباطنية كالبابية (أو البهائية) والقاديانية وكل منهما تؤوِّل القرآن تأويلاً يوافق معتقداتها.
فائدة:
قرر علماء الشريعة أن الأصل عدم التأويل ، وأن التأويل خلاف الأصل ، ولا يعدل عن الأصل إلى خلافه إلا بدليل . وعلى هدي من هذا الأصل ، وحفاظا على نصوص الشريعة من نزعات الهوى ، وضعوا شروطا للتأويل ، ولم يعتبروا التأويل صحيحًا مقبولاً إلا بتوفر هذه الشروط ، وإلا فهو تأويل فاسد مردود . ومن أهم هذه الشروط ، ما يلي (2) :
__________
(1) - أنظر: التفسير والمفسرون( 2/185),والغزالي/ فضائح الباطنية ص:8 وانظر ص:13,ود. سليمان السلومي/ أصول الإسماعيلية ص:478-482 وأيضًا ص:649-650
(2) -انظر : الشاطبي/الموافقات ، (4/ 105-118). ود. محمد سلام مدكور/ المدخل للفقه الإسلامي ، ص 286-291. - د. محمد أديب الصالح : تفسير النصوص ( 1/381).
د. محمد فتحي الدريني/ المناهج الأصولية ، ص 76-77 ، والشوكاني/ إرشاد الفحول ص 177(1/149)
أولاً : أن يكون المتأول ممن توفرت فيه شروط الاجتهاد ، عالما بأسباب التأويل ومجالاته ، ملمًا بمدلولات الألفاظ ، ومقاصدها ، عالمًا بروح الشريعة الإسلامية وأدلتها ، وله دراية بأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ . ، فإن فقد هذا الشرط في المؤول ، لم يكن أهلاً للتأويل .
ثانيًا : أن يكون المعنى الذي أوّل إليه اللفظ ، من المعاني التي يحتملها اللفظ نفسه ، وإنما يكون اللفظ قابلا للمعنى الذي يُصرف إليه إذا كان بينه وبين اللفظ نسب من الوضع اللغوي ، أو عرف الاستعمال أو عادة الشرع فقد جرت عادة الشرع على تخصيص العام في كثير من نصوصه (1) ، مثل قصر الوجوب في كلمة ( الناس ) في قوله تعالى : {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران:97] على المكلفين ،دون الصبيان والمجانين. كذلك تقييد المطلق (2) ،
__________
(1) - العام : هو اللفظ الذي يستغرق جميع ما يصلح له من الأفراد ، وتخصيص العام : هو قصر اللفظ على بعض أفراده ، أو صرف العام عن عمومه . انظر : د. وهبة الزحيلي/أصول الفقه الاسلامي ، (2/ 243، 254)
(2) - المطلق : هو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع ، ولم يتقيد بصفة من الصفات ، كقوله تعالى في آية الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [ سورة المجادلة:3] والرقبة واقعة على صفات متغايرة ، من كفر ، وإيمان ، وذكورة ، وأنوثة ، وصغر ، وكبر . أما المقيد : فهو اللفظ الواقع على صفات قيد ببعضها ، كقوله تعالى في كفارة القتل { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ سورة النساء:92] ، فاسم الرقبة : واقع على المؤمنة والكافرة ، فلما قيدها هنا بالإيمان ، كان مقيدا من هذا الوجه . انظر د. وهبة الزحيلي : أصول الفقه : (1/ 208 – 254 )..(1/150)
جرت به عادة الشرع ، واللغة لا تأباه، فقد قام الدليل على تقييد ( الوصية ) المطلقة في قوله تعالى:{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء:11] بالثلث في قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "الثُّلُثُ, وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ, إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " [رواه البخاري(1233) وغيره] . فالعام إذا صرف عن العموم ، وأريد به بعض أفراده بدليل ، فهو تأويل صحيح ، لأن العام يحتمل الخصوص ، وحين يراد به بعض أفراده ، فقد أُوِّلَ إلى معنى يحتمله. والمطلق إذا صرف عن الشيوع ، وحمل على المقيد بدليل فهو تأويل صحيح . أما إذا كان المعنى الذي صرف إليه اللفظ من المعاني التي لا يحتملها اللفظ نفسه ، ولا يدل عليها وجه من وجوه الدلالة ، فلا يكون التأويل صحيحًا مقبولاً . وعلى هذا ، فإن التأويل لا يدخل في النصوص الدالة على أحكام أساسية تعتبر من العقائد وقواعد الدين ، ولا تتغير بتغير الزمن : كالإيمان بالله تعالى ، وملائكته ، وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وكذلك النصوص الدالة على أحكام هي من أمهات الفضائل ، وقواعد الأخلاق التي تقرها الفطر السليمة ، ولا تستقيم حياة الأمم بدونها ،كالوفاء بالعهد ،والعدل ، وأداء الأمانة ، والمساواة أمام الشريعة وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والصدق ، والنصوص التي تحرم أضدادها من : الكذب ،والخيانة ، وعقوق الوالدين ، والنصوص التي اقترن بها ما يفيد التأبيد وغيرها من القواعد الأساسية ، التي لا تحتمل تأويلاً ولا نسخًا ، منذ أوحي بالنصوص التي تقررها.(1/151)
ثالثًا: أن لا يتعارض التأويل مع نصوص قطعية الدلالة ، لأن التأويل منهج من مناهج الاستدلال والاستنباط الاجتهادي الظني ، والظني لا يقوى على معارضة القطعي ، كتأويل القصص الوارد في القرآن الكريم ، بصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ أخرى يصيرها خيالية لا واقع لها ، وهذا التأويل معارض لصريح الآيات القاطعة التي تدل على أن لها واقعًا تاريخيًا.
رابعًا:أن يستند التأويل إلى دليلٍ صحيحٍ يدل على صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره ، وأن يكون هذا الدليل راجحًا على ظهور اللفظ في مدلوله ، لأن الأصل هو العمل بالظاهر ، إلا إذا قام دليل على أن المراد باللفظ هو المعنى الذي حمل عليه ، فالعام مثلا على عمومه ، ولا يقصر على بعض أفراده إلا بدليل ، والمطلق على إطلاقه ، ولا يعدل عن إطلاقه الشائع إلى تقييده إلا بدليل يدل على إرادة هذا القيد ، وظاهر الأمر الوجوب فيعمل به حتى يقوم الدليل على الندب أو الإرشاد أو غيرهما ، والنهي ظاهره التحريم ، فيعمل به حتى يدل الدليل على العدول عنه إلى الكراهة مثلاً. ويشترط في الدليل أن يكون صحيحًا مُعتبرًا شرعًا من كتاب أو سنة أو إجماع، ويرشد إلى تحديد إرادة الشارع في النصوص المتعارضة .
موقف الشيعة الاثنى عشرية من التفسير(1/152)
للإمامية الإثنى عشرية معتقدات يدينون بها، وينفردون بها عمن عداهم من طوائف الشيعة. فحاولوا أن يقيموا هذه العقائد على دعائم من نصوص القرآن الكريم، وأن يدافعوا عنها بكل سبيل. وبمراجعة التفسير عندهم ، أصوله وكتبه ، ترى أن أهم هذه العقائد:عقيدتهم في الإمامة إذ لها أكبر الأثر في وضع الأصول ، وفى تناولهم لكتاب الله تعالى ، ولعل بيان هذا الأثر كافٍ شافٍ في مجال التفسير المقارن بين السنة والشيعة , وهم يرون أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحى عند جمهورهم ؛ حيث يقولون بأن الأئمة لا يوحى إليهم كالنبى صلى الله عليه وسلم ، وإنما يقوم الإلهام مقام الوحى في عصمة الإمام وعدم خطئه .
فحيث لا يوجد أثر لعقيدتهم في الإمامة يصبح تفسيرهم كتفسير غيرهم ، وبقدر وجود هذا الأثر بقدر افتراق تفاسيرهم عمن سواهم.
أولاً: موقفهم من الأئمة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
وإذا استعرضنا هذه المعتقدات وجدنا أن أهمها يدور حول أئمتهم، فهم يلقون على الأئمة نوعاً من التقديس والتعظيم، ويرون أن الأئمة هم أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحُجَّة الله البالغة على مَن فوق الأرض ومَن تحت الثرى ويرون أنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين.(1/153)
ولما كان الإمام عندهم فوق أن يُحكم عليه، وفوق الناس فى طينته وتصرفاته، فإنّا نراهم يعتقدون بأن له صلة روحية بالله تعالى كتلك الصلة التى للأنبياء والرسل، وأنه مُشَرِّع ومُنَفِّذ، وأنَّ الله قد فوَّض النبى والإمام فى الدين، ويروون عن الصادق أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ فَقَالَ::{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ :{وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7] وَ قَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ثُمَّ قَالَ: وَ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وَ ائْتَمَنَهُ, فَسَلَّمْتُمْ وَ جَحَدَ النَّاسُ, فَوَ اللَّهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا وَ أَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا وَ نَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ, مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا " (1) .
وحيث أن الله تعالى خلق النبى وكل إمام بعده على أحسن أدب وأرشد عقل، فلا يختار النبى ولا الإمام إلا ما فيه صلاح وثواب، ولا يخطر بقلب النبى ولا بقلب الإمام ما يخالف مشيئة الله وما يناقض مصلحة الأمة. فيفوِّض الله تعيين بعض الأمور إلى رأى النبى ورأى الإمام مثل الزيادة فى الفرض ومثل تعيين النوافل من الصلاة والصيام، وذلك إظهاراً لكرامة النبى والإمام، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحى، ثم لم يكن الاختيار إلا بالإلهام، وله فى الشرع شواهد: حرَّم الله الخمر، وحرَّم النبى كل مسكر فأجازه الله، وفرض الله الفرائض ولم يذكر الجد، فجعل النبى للجد السدس، وكان النبى يُبشِر ويُعطِى الجنة على الله , ويُجيزه الله.
__________
(1) - الكافي (1/265)(1/154)
وأيضاً فوَّض الله إلى النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أمور الخلق، وأمور الإدارة والسياسة من التأديب والتكميل والتعليم، وواجب على الناس طاعتهم فى كل ذلك، قالوا: وهذا حق ثابت دلّت الأخبار عليه.
وأيضاً فوَّضهم الله تعالى فى البيان، بيان الأحكام والإفتاء وتفسير آيات القرآن وتأويلها، ولهم أن يبيّنوا ولهم أن يسكتوا، ولهم فوق ذلك البيان كيفما أرادوا وعلى أى وجه شاءوا تقيَّة منهم وعلى حسب الأحوال والمصلحة. والتفويض بهذا المعنى يَدَّعون أنه حق ثابت لهم، والأخبار ناطقة به وشاهدة عليه. وقد سأل ثلاثة من الناس جعفرالصادق رضي الله عنه عن آية واحدة فى كتاب الله فأجاب كل واحد بجواب، أجاب ثلاثة بأجوبة ثلاثة،كما ذكر صاحب الكافي (1) , واختلاف الأجوبة فى مسألة واحدة يقع-عندهم- إما على سبيل التقيَّة وإما على سبيل التفويض.
وهناك نوع آخر من التفويض يثبتونه للنبى والأئمة، ذلك هو أن النبى أو الإمام له أن يحكم بظاهر الشريعة، وله أن يترك الظاهر ويحكم بما يراه وما يلهمه الله من الواقع وخالص الحق فى كل واقعة، كما كان لصاحب موسى فى قصة الكهف، وكما وقع لذى القرنين.
وأيضًا الأئمة عندهم حجة على الأمة ,وهذا مخالف للقرآن فالله تعالى لم يجعل أحدًا حجة على الناس بعد الرسل قال تعالى:{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}{النساء:165}.
__________
(1) - الكافي (1/265-266)(1/155)
ثم كان من توابع هذه العقيدة التى يعتقدونها فى أئمتهم أن قالوا بعصمة الأئمة، وقالوا بخروج الإمام الثاني عشر الغائب في السرداب مرة أخرى ومعه مصحف فاطمة وكل الكتب السماوية,وهوالمهدى المنتظر، وقالوا بالرجعة، وقالوا بالتقيَّة، وهذه كلها عقائد رسخت فى أذهانهم وتمكنت من عقولهم، فأخذوا بعد هذا ينظرون إلى القرآن الكريم من خلال هذه العقائد ففسروا القرآن وفقاً لها، وفهموا نصوصه وتأوَّلوها حسبما تمليه عليهم العقيدة ويزينه لهم الهوى ... وهذا تفسير بالرأى المذموم، تفسير من اعتقد أولاً، ثم فسّر ثانياً بعد أن اعتقد.
ثانيًا: تأثر الإمامية الإثنى عشرية بآراء المعتزلة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
هذا وإن الإمامية الإثنى عشرية لهم فى نصوص القرآن التى تتصل بمسائل علم الكلام نظرة تتفق إلى حد كبير مع نظرة المعتزلة إلى هذه النصوص نفسها ولم يكن بينهم وبين المعتزلة خلاف إلا فى مسائل قليلة، ويظهر أن هذا الارتباط الوثيق الذى كان بين الفريقين راجع إلى تتلمذ الكثير من شيوخ الشيعة وعلمائهم لبعض شيوخ المعتزلة، كما يظهر لنا جلياً أن هذا الارتباط فى التفكير شيء قديم غير جديد، فالحسن العسكرى، والشريف المرتضى، وأبو على الطبرسى، وغيرهم من قدماء الشيعة، ينظرون هذه النظرة الاعتزالية فى تفاسيرهم التى بأيدينا، بل إننا نجد الشريف المرتضى فى أماليه يحاول محاولة جدية أن يجعل علياً رضى الله عنه معتزلياً أو رأس المعتزلة على الأصح، وليس من شك فى أن هذه النظرات الاعتزالية كان لها أثر كبير فى تفاسيرهم، وسنقف على شىء من ذلك إن شاء الله تعالى عند التعرض لتفسير بعض آيات الصفات ورؤية المؤمنين لله في الآخرة كما في سورة القيامة .
ثالثًا: تأثرهم فى تفاسيرهم بمذاهبهم الفقهية والأصولية:
إنَّ الشيعة لهم فى الفقه وأصوله آراء خالفوا بها مَن سواهم، فمثلاً نجدهم يذكرون أن أدلة الفقه أربعة وهى: الكتاب، والسُنَّة، والإجماع، ودليل العقل.(1/156)
أما الكتاب فلهم رأى فيه كما سبق.
وأما السُنَّة فهم غير أمناء عليها ولا ملتزمين بما صح منها.
وأما الإجماع فليس حُجَّة بنفسه، وإنما يكون حُجَّة إذا دخل الإمام المعصوم فى المجمعين، أو كان الإجماع كاشفاً عن رأيه فى المسألة، أو كان الإجماع عن دليل معتبر، فهو فى الحقيقة داخل فى الكتاب أو السُنَّة.
وأما دليل العقل عندهم فلا يدخل فيه القياس، ولا الاستحسان، ولا المصالح المرسلة، لأن ذلك كله ليس حُجَّة عندهم.
وفى الفقه لهم مخالفات يشذون بها (1) ، فمثلاً تراهم يقولون: إنّ فرض الرجلين فى الوضوء هو المسح دون الغسل، ولا يجوِّزون المسح على الخفين، وجوَّزوا نكاح المتعة، وجوَّزوا أن تورث الأنبياء، ولهم مخالفات فى نظام الإرث، كإنكارهم للعول والتعصيب مثلاً ، ولهم مخالفات كثيرة غير ذلك فى مسائل الاجتهاد.وسنذكر بعض الأمثلة على ذلك من آيات القرآن وتفسيرها.
ولهذا كان طبيعياً أن يقف الإمامية الإثنى عشرية من الآيات التى تتعلق بالفقه وأصوله موقفاً فيه تعصب وتعسف. حتى يستطيعوا أن يُخضعوا هذه النصوص ويجعلوها أدلة لآرائهم ومذاهبهم. كما كان طبيعياً، أن يتأوَّلوا ما يعارضهم من الآيات والأحاديث. بل ووجدناهم أحياناً يزيدون فى القرآن ما ليس منه ويدّعون أنه قراءة أهل البيت، وهذا إمعان منهم فى اللجاج، وإغراق فى المخالفة والشذوذ.
موقفهم من التفسير الباطني :
__________
(1) - التفسير والمفسرون(2/21)(1/157)
إن التفسير عند الشيعة الاثنى عشرية له وجوه: ظاهرة، وباطنة، والجميع معتبر.ولا يعلم باطن القرآن إلاّ الأئمة (1) ,ولذلك قامت كثير من مصادرهم في التفسير على المنهج الباطني في التأويل الذي استقته من أبي الخطاب وجابر الجعفي والمغيرة بن سعيد وغيرهم من الغلاة وذلك لإرساء عقائدهم التي انفردوا بها عن سائر المسلمين ولم يكن لها ذكر في القرآن ,فأرادوا تقريرها بالتفسير الباطني للقرآن. ولما رأوْا هذه التأويلات غير عاقلة قام شيوخهم بنسبة هذه التأويلات أو التحريفات لأئمة أهل البيت لتحظى بالقبول عند الناس.
قال أبو عبد الله جعفر الصادق - كما يزعمون -:" إن قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفهم ذلك شيئاً، ولا إيمان بظاهر إلا بباطن، ولا باطن إلا بظاهر" (2)
ومن نصوصهم في هذه المسألة: "أن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن" (3) . جاء في أصول الكافي للكليني ما نصه: ".. عن محمد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاً –أي: موسى الكاظم- عن قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33.]. قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق" (4) .
__________
(1) - وهم يتفقون مع الإسماعيلية في ذلك.وفي غيره كالتقية والرجعة وعصمة الأئمة,وذلك لأن مذهب الإمامية الاثنى عشرية ضم غالب أفكار مذاهب الشيعة الأخرى حتى أنك لا تكاد ترى قولاً لفرقة منهم إلا وجدت مثله عند الاثنى عشرية .
(2) - بحار الأنوار(69/97)
(3) - تفسيرالصافي: (1/59)
(4) - أصول الكافي: (1/374) , تفسير العياشي: (2/16)(1/158)
وعن جابر الجعفي قال: "سألت أبا جعفر عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألت ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لي: يا جابر: إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (1)
و رواياتهم جاءت على نفس المنهج كما تدل على ذلك رواية صاحب الكافي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] قال: "... عن عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله: إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، قال عبد الله بن سنان: فأتيت أبا عبد الله - عليه السلام - فقلت: جعلت فداك، قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك. قال: قلت: جعلت فداك، إن ذريحاً المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح" (2)
__________
(1) - تفسير العياشي: (1/11) ، البرهان في تفسير القرآن: (1/20-21)، تفسير الصافي: ( 1/29) , بحار الأنوار: ( 92/95)
(2) - فروع الكافي: ( 4/549) , تفسير الصافي: ( 3/376) , الحويزي/ تفسير نور الثقلين: ( 3/ 492) , تفسير البرهان: ( 3/88-89 ) , بحار الأنوار: (24/360)(1/159)
ففي هذا النص - الذي أورده صاحب الكافي، وغيره - التصريح بأن للقرآن معاني ظاهرة تقال لعامة الناس، وله معانٍ باطنة لا تذكر إلا للخاصة ممن يستطيع احتمالها، وهم قلة لا توجد " فمن يحتمل ما يحتمل ذريح". ؟!
و يلاحظ أن بعض تفاسير الشيعة لم تذكر هذا التأويل، أو ذاك، وإنما ذكرت ما ظهر من الآية و يوافق اللغة أو ما جاء عن السلف، ولكن قد لا يعني هذا مخالفتهم لذلك التأويل الباطني لأنهم يقولون بأن لكل آية معنى باطناً ومعنى ظاهراً، والكل مراد، فقد يكتفي بعضهم بذكر الظاهر وحده، أو الباطن فقط ، أو يذكر الوجهين جميعاً.
ونحن نقول: إن التأويل الذي يتفق وظاهر النص، وسياق القرآن، ولغة العرب، وما أثر من السلف، وما اتفق عليه جماعة المسلمين هو الذي يعتقد صدوره عن أمثال محمد الباقر، وجعفر الصادق وغيرهما من أئمة العلم والدين واللغة، وأن تلك التأويلات الباطنية التي لا تستند إلى أصل معتبر من نقل أو عقل أو لغة, من التفسير المذموم بالرأي والهوى , وهي من وضع زنادقة أرادوا الإساءة إلى كتاب الله ودينه، وإلى أهل البيت رضي الله عنهم، قال أحد الشيعة لإمامه - كما في رجال الكشي -: "جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ فقال: وأي الاختلاف؟. فقال: إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم.. فقال: أبو عبد الله أجل هو كما ذكرت أن الناس أولعوا بالكذب علينا، وإني أحدث أحدهم بالحديث، فلا يخرج من عندي، حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا، وكلٌ يحب أن يدعى رأساً" (1) .
__________
(1) - رجال الكشي: ص: 135-136، بحار الأنوار: (2/246)(1/160)
واعلم أن تفسير القرآن لا يمكن أن يكون علمًا سريًا لا يتحمله إلا خاصة الناس، وإلا كيف يحاسب الله الناس على شيءٍ لا يعلمونه, والله سبحانه أنزل كتابه لعباده كافة لا لفئة معينة، ويسّره للناس, قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }{القمر:17} وحثّ الجميع على تدبر آياته فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }{ص:29} وذم المعرضين عن فهمه والتدبر في آياته فقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }{محمد:24}.
ولا يخفى أن هذه التأويلات الباطنية هي من باب الإلحاد في كتاب الله تعالى وآياته وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40.]. قال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه وذلك بالانحراف في تأويله (1) .
* أثر التفسير الباطنى فى تلاعبهم بنصوص القرآن :
ولقد كان من نتائج هذا التفسير الباطنى للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطرباً بالغاً ومجالاً رحباً، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة، فأخذوا يتصرَّفون فى القرآن كما يحبون، وعلى أى وجه يشتهون بعد ما ظنوا أنّ العامة منهم قد انخدعت بأوهامهم وسلَّموا بأفكارهم ومبادئهم.
__________
(1) - تفسير الطبري ( 24/123)، فتح القدير( 4/520)(1/161)
فقالوا - مثلاً -: إنّ من لطف الله تعالى أن يشير بواسطة المعانى الباطنة لبعض الآيات إلى ما سيحدث فى المستقبل من حوادث، ويعدون هذا من وجوه إعجازه، ثم يُفرِّعون على هذه القاعدة ما يشاؤه لهم الهوى، وما يزينه فى أعينهم داعي العقيدة وسلطانها، فيقولون مثلاً فى قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19]، إنه إشارة إلى أنّ هذه الأُمَّة ستسلك سبيل مَن كان قبلها من الأمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء. (1)
كذلك مكَّن لهم القول بباطن القرآن من أن يقولوا: إنَّ اللفظ الذى يُراد به العموم ظاهراً كثيراً ما يراد به الخصوص بحسب المعنى الباطن، فمثلاً لفظ: "الكافرين" الذى يراد به العموم، يقولون: هو فى الباطن مخصوص بمن كفر بولاية علىّ.
كما مكَّنهم أيضاً من أن يصرفوا الخطاب الذى هو مُوجَّه فى الظاهر إلى الأمم السابقة أو إلى أفراد منها، إلى مَن يصدق عليه الخطاب فى نظرهم من هذه الأمة بحسب الباطن، فمثلاً قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] يقولون فيه: قوم موسى فى الباطن هم أهل الإسلام.
ولقد مكنَّهم أيضاً من أن يتركوا أحياناً المعنى الظاهر ويقولوا بالباطن وحده، كما فى قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 74-75]، فالظاهر غير مراد عندهم، ويقولون: عنى بذلك غير النبى، لأن مثل هذا لا يليق أن يكون موجهاً للنبى عليه الصلاة والسلام، وإنما هو مَعنىٌّ به مَن قد مضى، أو هو من باب: "إياكِ أعنى واسمعى ياجارة". (2)
__________
(1) - أنظر مقدمة المحقق لتفسير القمي ص:19 نقلاً عن كتاب الاحتجاج, الصافي (5/306)
(2) - تفسير العياشي (1/10)(1/162)
كذلك مكَّنهم هذا المبدأ من إرجاع الضمير إلى ما لم يسبق له ذكر، كما فى قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، حيث يفسرون: "أو بدله" بمعنى أو بدِّل عليًا (1) . ومعلوم أنّ علياً لم يسبق له ذكر، ولم يكن الكلام مسوقاً فى شأن خلافته وولايته.
ومما ساغ لهم أن يقولوه بعد تقريرهم لمبدأ القول بالباطن: إنَ تأويل الآيات القرآنية لا يجرى على أهل زمان واحد، بل عندهم أنّ كل فقرة من فقرات القرآن لها تأويل يجرى فى كل آن، وعلى أهل كل زمان، فمعانى القرآن على هذا متجددة. حسب تجدد الأزمنة وما يكون فيها من حوادث. بل وساغ لهم ما هو أكثر من ذلك فقالوا: إنّ الآية الواحدة لها تأويلات كثيرة مختلفة متناقضة، وقالوا: إنّ الآية الواحدة يجوز أن يكون أولها فى شىء وآخرها فى شىء آخر. ولا شك أن باب التأويل الباطنى باب واسع يمكن لكل مَن ولجه أن يصل منه إلى كل ما يريد.
* مخلصهم من تناقض أقوالهم فى التفسير:
إنّ الإمامية الاثنى عشرية، أحسوا بخطر موقفهم وتحرجه عندما جوَّزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير, مع التناقض والاختلاف بين هذه التفاسير. فأخذوا يموِّهون على العامة ويضللونهم، فقرروا من المبادئ ما أوجبوا الاعتقاد به أولاً على الناس ليصلوا بعد ذلك إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق الحرج، فكان من هذه المبادئ التى قرروها وأوجبوا الاعتقاد بها ما يأتى (2) :
أولاً: أن الإمام مفوَّض من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن .
ثانياً: أنه مفوَّض فى سياسة الأمة.
ثالثاً: أن له أن يأخذ بالتقيَّة.
وكل واحد من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصًا للخروج من هذا التناقض الذى وقع فى تفاسيرهم التى يروونها عن أئمتهم.
__________
(1) - الكافي (1/419), بحار الأنوار(23/210), تفسير القمي (1/309), تفسير نور الثقلين( 2/296)
(2) - التفسير والمفسرون ( 2/25 )(1/163)
* ونرى أن الشيعة الاثنى عشرية-كما هو واضح من تفاسيرهم وكتبهم- ليسوا سواءً . فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة ، ومنهم من ينشد الاعتدال نسبيًا، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال .
وعلى سبيل المثال: قد ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ، وتفسير العياشى ، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة : تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على ، ومن بايعوهم ، وتحرف القرآن الكريم نصًا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل .
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى ، الكتاب الأول في الحديث عندهم ، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها زيغًا وضلالاً .(1/164)
و في القرن الخامس بدأ اتجاه التفسير عندهم يحاول التخلص من تلك النزعة المغرقة في الغلو والتأويل الباطني؛ حيث بدأ شيخ الطائفة عندهم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 460ه( يؤلف لهم كتاباً في تفسير القرآن يستضيء في تأليفه بأقوال أهل السنة، ويأخذ من مصادرهم في التفسير، ويحاول فيه أن يتخلص أو يخفف من ذلك الغلو الظاهر في تفسير القمي والعياشي وفي أصول الكافي وغيرها، وينهج منهجًا فيه شيء من الاعتدال ، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته ، ويحاول جاهدًا صيانة كتاب الله العزيز نصًا ومعنىً, ومع ذلك نراه يدافع عن عقيدته في تفسير بعض الآيات الكريمة, وهو وإن كان يدافع عن أصول طائفته ويقرر مبادئهم المبتدعة، إلا أنه لا يهبط ذلك الهبوط الذي نزل إليه القمي ومن تأثر به. وقد قال في مقدمة تفسيره:" من المفسرين من حمدت طرائقه ، ومدحت مذاهبه ، كابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وغيرهم . ومنهم من ذمت مذاهبه ، كأبي صالح ، والسدي والكلبي وغيرهم . هذا في الطبقة الأولى . وأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه ، وتأول على ما يطابق أصله ، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحداً منهم ، بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة : إما العقلية ، أو الشرعية..."أهـ (1)
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى ذلك حيث قال عن تفسيرالطوسي: فما في تفسيره من علم يستفاد إنما هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة"أهـ (2) .
__________
(1) - الطوسي/ التبيان ( 1/6 ) و قد ذكر أحد علماء الشيعة -وهو النوري الطبرسي - أن كتاب «التبيان» للطوسي إنما وضع على أسلوب التقية والمداراة للخصوم, أنظر فصل الخطاب: ص 35
(2) - منهاج السنة: ( 6/379 )(1/165)
والطوسي مع ذلك قد يترك تفسير من قال عنهم إنهم مُدحت مذاهبهم كابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وغيرهم إذا تعارض هذا التفسير مع ما تعتقده طائفته كما في تفسيره لقول الله تعالى (وأولي الأمر منكم)[النساء:59] ففسرها بالأئمة من آل محمد (1) .
والإمامية الاثنى عشرية بعد الطوسي منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة كالفيض الكاشاني في تفسيره (الصافي) وهاشم البحراني في تفسيره(البرهان) وأمثالهما,ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي وارتضى منهجه،كالفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره( مجمع البيان) , فقد أشار إلى ذلك في مقدمة تفسيره حيث قال: ".. إلاَّ ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق ويلوح عليه رواء الصدق.. وهو القدوة أستضيء بأنواره وأطأ مواقع آثاره" (2) .إلاّ أن الطبرسي في تفسيره قد يكون أكثر غلوًا من الطوسي في تقرير عقيدته من القرآن.
ومن مفسري الشيعة من أخذ نصيبًا من منهج الغلاة ونصيبًا ممن ينشد الاعتدال.
__________
(1) - التبيان ( 3/237 ) ونحوه الطبرسي في المجمع (3/114)
(2) - مجمع البيان: (1/33)(1/166)
ولكن ما يدعو للعجب حقًا أننا نجد كثيرًا ممن ينشدون الاعتدال منهم يقع في التناقض الواضح, وأكثر أصحاب التفاسير الحديثة من هذا القسم وإن كانوا يتفاوتون فيما بينهم تفاوتًا طفيفًا , فهم يقبلون روايات وأقوال جملة من الصحابة ، كأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر و المقداد بن عمرو و سلمان الفارسي وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري (مروي عنه نسبة كبيرة من أحاديث الكافي ومن لا يحضره الفقيه) وحجر بن عدي وأسماء بنت عميس والأرقم بن أبي الأرقم ومصعب بن عمير وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وخباب بن الأرت وعبد الله بن العباس والفضل بن العباس ومحمد بن أبي بكر والحارث بن المطلب ومالك بن نويرة . وذلك بغض النظر عن صحة الإسناد إليهم أو ضعفه .http://ar.wikipedia.org/wiki/?¥? ولا يعني ذلك أنهم يقبلون روايات هؤلاء المذكورين من الصحابة على إطلاقها, كلا, فهم يردون الأحاديث والآثار التي تخالف مذهبهم وما عندهم في مصادرهم وإن كانت في أعلى درجات الصحة, وهم يقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل ، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره ، لا يُقبل ، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب .ومع ذلك تراهم يقررون سائر معتقداتهم ويدافعون عنها, ويشيدون ببعض الغلاة , كالقول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح ، وهو الذي كَفَّر الصحابة وقال بتحريف القرآن تنزيلاً وتأويلاً ، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وكذلك يثنون على الكافي و تفسير العياشي وكُتب المجلسي والنوري الطبرسي وتفسيرالصافي وغيرهم من الغلاة الذين يقولون بتحريف القرآن وبتكفير معظم الصحابة,وهذا تناقض واضح جلى بلا شك !! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو!, وهذا ما جعل البعض يقول : إنهم سواء ولكنهم يلجأون إلى التقية.(1/167)
(1)
القسم الثالث
أمثلة من التفاسير لبعض الآيات التي بني عليها الشيعة أحكام وعقائد تخالف أهل السنة:
(( أمثلة من تفسير ما استدلوا به على وجوب الإمامة لعليٍّ مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ))
1- المائدة:55-56
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
والمعنى:
إنما ولايتكم - أيها المؤمنون - لله ورسوله وأنفسكم، ممن يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم خاضعون لله. ومن يتخذ الله ورسوله والمؤمنين أولياءه ونصراءه، فإنه يكون من حزب الله، وحزب الله هم المنتصرون الفائزون.
أما الشيعة الإمامية فيسمون هذه الآية بآية الولاية ويزعمون أنها نصٌ في ولاية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.وأنها تدل على أنه وأهل بيته المذكورون عندهم هم الأئمة, ومن سواهم فإمامته باطلة.
قال الفيض الكاشاني في تفسيره :
{ (55) إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }.
__________
(1) - ووجدنا طائفة قليلة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض ، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة ، وذلك مثل كتاب كسر الصنم ، والمقصود بالصنم كتاب الكافى ، وكتاب لله ثم للتاريخ ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو ، وما كتبه أحمد الكاتب ، وموسى الموسوي ، وغيرهم . ولكن ليس لأحدٍ من هؤلاء تفسير.فيما أعلم.وهؤلاء المعتدلون متهمون وممقوتون عند سائر علماء الإمامية الآخرين.(1/168)
في الكافي: عن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية :يعني أولى بكم أي أحق بكم وبأموركم من أنفسكم وأموالكم الله ورسوله والَّذِينَ آمنوا يعني عليّاً وأولاده الأئمّة إلى يوم القيامة, ثم وصفهم الله فقال:( الّذين يقيمون الصَّلاةِ ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ) وكان أمير المؤمنين عليه السلام في صلاة الظهر وقد صلّى ركعتين وهو راكع وعليه حلّة قيمتها ألف دينار وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطاه إيّاها وكان النّجاشي أهداها له فجاء سائل فقال: السلام عليك يا وليّ الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم تصدّق على مسكين فطَرَحَ الحلّة إليه وأومأ بيده إليه أن أحملها فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الآية وصيرّ نعمة أولاده بنعمته فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النّعمة مثله فيتصدّقون وهم راكعون والسّائل الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام من الملائكة والّذينْ يسألون الأئمّة من أولاده يكونون من الملائكة.
وعنه عن أبيه عن جدّه عليهم السَّلام في قوله عزّ وجلّ { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا }
[النحل: 83] قال: لمّا نزلت { إنّما وليّكم الله } الآية اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم في مسجد المدينة فقال بعضهم: إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن آمنّا فانّ هذا ذلّ حين يسلّط علينا علي بن أبي طالب عليه السلام, فقالوا: قد علمنا أنّ محمّداً صلىّ الله عليه وآله وسلم صادقٌ فيما يقول ولكنّا نتولاّه ولا نطيع عليّاً فيما أمرنا, قال: فنزلت هذه الآية (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) يعني ولاية عليّ وأكثرهم الكافرون بالولاية.
وعنه عليه السلام أنّه سئل الأوصياء طاعتهم مفروضة فقال: نعم هم الّذين قال الله: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] وهم الّذين قال الله { إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا } الآية.(1/169)
وفي الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث فقال المنافقون: فهل بقي لربّك علينا بعد الذي فرض علينا شيء آخر يفترض فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره فأنزل الله في ذلك { {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}[ سبأ:46] يعني: الولاية (1) , فأنزل الله { إنّما وليّكم الله ورسوله } الآية وليس بين الأمّة خلاف إنّه لم يؤتِ الزّكاة يومئذ أحد منهم وهو راكع غير رجل واحد ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط.
إلى أن قال: والأخبار مما روته العامة والخاصة في أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة جدّاً ونقل في (المجمع) عن جمهور المفسّرين أنهّا نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين تصدق بخاتمه في ركوعه وذكر قصته عن ابن عباس وغيره ويمكن التوفيق بين ما رواه في الكافي أنّ المصدّق به كان حلة وبين ما رواه غيره واشتهر بين الخاصة والعامة أنه كان خاتماً بأنّه لعلّه تصدّق في ركوعه مرّة بالحلّة وأخرى بالخاتم والآية نزلت بعد الثانية وفي قوله تعالى {ويؤتون} إشعار بذلك لتضمنه التكرار والتجّدد كما أنّ فيه إشعار بفعل أولاده أيضاً.أهـ (2)
ولا يخفى تهافت هذا الكلام وبطلانه من وجوه:
__________
(1) - الآية لا شأن لها بالولاية بل هي تعظ كفار مكة ليتفكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: : {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[سبأ:46] والسورة نزلت في مكة(أي: قبل الهجرة كما هو معروف), وهم يقولون أن الولاية نزلت فرضيتها بعد حجة الوداع مباشرة.
(2) - تفسير الصافي (2/44-46)(1/170)
الأول: أن القصة التي ذكروها في تصدق علي رضي الله عنه على السائل وهو راكع باطلة وليس لها سند صحيح, يريدون بذلك مدح علي, فإذا بهم يذمونه بعدم الخشوع في الصلاة, والله تعالى يقول:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ "{ المؤمنون:1-2} مع أن عليًا غنيٌّ عن كذبهم هذا بما مدحه به الرسول صلى الله عليه وسلم, ألم يكن من الأولى أن ينتظر عليٌّ حتى ينتهي من صلاته ثم يتصدق على السائل ,وبذلك يحافظ على خشوعه وهو من رؤس الخاشعين, وهل كان السائل تاركًا للصلاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يذهب لراكعٍ يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة ؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأٍ جسيم ٍكهذا ؟وهل كان علي رضي الله عنه يؤخر أداء الزكاة حتى يأتي مستحقها ليطلبها منه, ولا يبادر هو بإخراجها؟
ومع ذلك فقد ذكر ابن جرير الطبري أن سبب نزول هذه الآية أنه لما خانت بنو قينقاع الرسول صلى الله عليه وسلم ذهبوا إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرادوه أن يكون معهم فتركهم وعاداهم وتولى الله ورسوله فأنزل الله عز وجل هذه الآية (1) .
الثاني: ليس في الآية مدح لمن يعطي الزكاة وهو راكع, وإلاّ صار مستحبًا لكل إنسان أن يؤدي الزكاة وهو راكع, ولم يقل بذلك أحد. بل معنى الركوع في الآية الخضوع والتذلل والاستسلام لله رب العالمين ,كما في قوله تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } {المرسلات:48} و قد ذكر الله في نفس الآية إقامة الصلاة وهي تعني أداء ركوعها وسجودها وأداء سائر أركانها وسننها, مع الخشوع , على أكمل وجه.
وقال إبن كثير -رحمه الله تعالى- :
__________
(1) - تفسير الطبري ( 10/424)(1/171)
وأما قوله { وَهُمْ رَاكِعُونَ} فقد توهم البعض أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } – يعني أنهم يؤتون الزكاة والحال أنهم راكعون , ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح, وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى- وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية قد نزلت فيه وأن مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه". ثم ذكر ابن كثير الآثار التي رُويت عن عليٍّ وأنها نزلت فيه وبين ضعفها جميعاً ثم قال : ( وليس يصح منها شيء بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها ) .أهـ (1)
الثالث:الآية جاءت بلفظ الجمع, وعلي رضي الله عنه واحد, فيفهم منها أنها تعم كل المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم مستسلمون لأمر الله خاضعين له,إذ لا يذكر الجمع ويراد به المفرد إلاّ بقرينة ,ولا قرينة هنا , وأما القول بأنها في علي وباقي الأئمة الاثنى عشر من بعده فهذا تحريف للآية وتعسف لا دليل عليه.
الرابع: من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لانطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا ، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء, ولا يختص بذلك علي رضي الله عنه والأئمة عندهم .
__________
(1) - تفسير ابن كثير (2/72-73)(1/172)
الخامس: ليس في الآية ما يدل على خلافة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم, -لو فرضنا أنها نزلت في علي رضي الله عنه على قول من قال ذلك- بل غاية ما فيها الأمر بمحبته ونصرته وتوليه, ونحن نتولاه ونحبه ونترضى عنه , فهو مولى المؤمنين, وهناك فرق بين المولى والوالي , ولو كانت الآية يفهم منها خلافة علي وإمامته بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الصحابة أبا بكر بالخلافة بعد رسول الله وتركوا عليًا مخالفين بذلك أمر الله تعالى, وهم أفضل الأمة وأولاها باتباع الحق.ثم نقول لو كانت الإمامة بالنص كما يزعمون لماذا تنازل عنها الحسن رضي الله عنه لمعاوية ؟! , إما أن نقول: إن فعله خطأ وأنه خالف بذلك أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وإما أن نقول أنه لا يوجد نص, والأمر شورى, وهذا هو الصحيح .
السادس:إذا كانت الآية تدل على الولاية والإمامة لعلي لأنها نزلت فيه كما يقولون ,كان للمخالفين أن يقولوا بمثل ذلك لعبادة بن الصامت أيضًا, لأن الآية نزلت فيه, ونحن نقول: إن الآية لا تدل على هذا المعنى مطلقًا,وإنما الآية عامة في الأمر بأن يتخذ المؤمنون بعضهم بعضًا أولياءً ونصراء .(1/173)
السابع:ومما يؤكد أن الآية عامة في تولي المؤمنين بعضهم البعض, السياق الذي نزلت فيه الآيات ,حيث قال الله تعالى في أول هذه الآيات: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } المائدة:51} لذا قال ابن جرير الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلاَّ الله ورسوله والمؤمنون، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً.أهـ (1)
وقال الطبري: حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر، قال: سألته عن هذه الآية: { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ } قلنا: من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا , قلنا: بلغنا أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب، قال: عليٌّ من الذين آمنوا (2) ".
__________
(1) - تفسير الطبري (10/424)
(2) - تفسير الطبري (10/425-426) برقم(12212) وهذا الأثرإسناده قوي إلى أبي جعفر.(1/174)
والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين ، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى :- " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا"[النساء:89] وقوله سبحانه: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " [التوبة:71]
الثامن : أما دعواهم بأن الولاية المذكورة في الآية غير عامة بل هي خاصة وهي ولاية التصرف لأن كلمة (إنما) تفيد الحصر، والولاية بمعنى النصرة عامة، فجوابه: أننا لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة،لأن ذلك ينافي سياق الآيات التي قبلها والتي بعدها, ولا نسلم أن كلمة { إِنَّمَا } للحصر بالمعنى الخاص الذي أرادوه,والدليل عليه قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء } [يونس: 24] ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [محمد: 36] ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها. وبذلك يتضح خطأ من زعم منهم أنها للحصر- بالمعنى الذي أرادوه- وأبطل بسبب ذلك خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ,بل لو سلمنا أنها للحصر- كما يزعمون- لبطلت خلافة من جاء بعد عليٍّ كما بطلت خلافة من جاء قبله فتبطل بذلك خلافة الحسن والحسين وأئمة أهل البيت عندهم أيضًا , هذا إذا كانت الآية نزلت في علي , فكيف ولم يثبت ذلك.(1/175)
* ولقد رد الفخر الرازي في تفسيره على الذين ادعوا أن هذه الآية خاصة في عليّ رضي الله عنه وأنها دليل على إمامته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن هذه الولاية هي ولاية المتصرف(الإمام) وليست ولاية الناصر والمحب فقال رحمه الله:"
لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب، ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف. ثم نجيب عما قالوه فنقول: الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه:(1/176)
الأول: أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى، أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } [المائدة: 51] وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً، ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم، ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال: إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون، والظاهر أن الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة, كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة، وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مؤمنين } [المائدة: 57] فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء، ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة، فكذلك الولاية في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ } يجب أن تكون هي بمعنى النصرة، وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ } ليس إلا بمعنى الناصر والمحب، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام، لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط، ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه.(1/177)
الحجة الثانية: أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال، أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف، والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين، فلا بدّ وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد، ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها.
الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله { وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنه مجاز لا حقيقة، والأصل حمل الكلام على الحقيقة.
الحجة الرابعة: أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله:{ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [المائدة: 54] إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر، فلو دلّت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين، وذلك باطل، فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن علياً هو الإمام بعد الرسول.(1/178)
الحجة الخامسة: أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل، وليس للقوم أن يقولوا: إنه تركه للتقية فإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير، وخبر المباهلة، وجميع فضائله ومناقبه، ولم يتمسك ألبتة بهذه الآية في إثبات إمامته، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله.
الحجة السادسة: هب أنها دالة على إمامة علي، لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال: لأن علياً ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن علياً سيصير إماماً بعد ذلك، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت، فإن قالوا: الأمة في هذه الآية على قولين: منهم من قال: إنها لا تدل على إمامة علي، ومنهم من قال: إنها تدل على إمامته، وكل من قال بذلك قال: إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل، فالقول بدلالة الآية على إمامة علي لا على هذا الوجه، قول ثالث، وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول: ومن الذي أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول، فإن من المحتمل، بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي، فإن السائل يورد على ذلك الاستدلال هذا السؤال، فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقروناً بذكر هذا الاستدلال.(1/179)
الحجة السابعة: أن قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } لا شك أنه خطاب مع الأمة، وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله، وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييباً لقلوب المؤمنين وتعريفاً لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار، وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصراً له ومعيناً له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة، ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة، فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معاً.
الحجة الثامنة: أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله:
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54] فإذا حملنا قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } على معنى المحبة والنصرة كان قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } يفيد فائدة قوله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } وقوله:{ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [المائدة: 54] يفيد فائدة قوله { يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة: 55] فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى، فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف.أهـ (1)
2- المائدة:3
{
__________
(1) - الفخر الرازي/تفسير مفاتيح الغيب( 12/30-31 )(1/180)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
والمعنى:
حرَّم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل لحم الميتة - وهى كل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعى -، وأكل الدم السائل، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير الله عليه عند ذبحه، وما مات خنقاً، و التى ضربت حتى ماتت، وما سقط من علو فمات، وما مات بسبب نطح غيره له، وما مات بسبب أكل حيوان مفترس منه. وأما ما أدركتموه وفيه حياة مما يحل لكم أكله وذبحتموه فهو حلال لكم بالذبح. وحرَّم الله عليكم ما ذبح قربة للأصنام، وحرم عليكم أن تطلبوا معرفة ما كتب فى الغيب بواسطة القرعة بالأقداح. وتناول شئ مما سبق تحريمه ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله. ومن الآن انقطع رجاء الكفار فى القضاء على دينكم، فلا تخافوا أن يتغلبوا عليكم، واتقوا مخالفة أوامرى. اليوم أكملت لكم أحكام دينكم، وأتممت عليكم نعمتى بإعزازكم وتثبيت أقدامكم، واخترت لكم الإسلام ديناً. فمن ألجأته ضرورة جوع إلى تناول شئ من المحرمات السابقة ففعل لدفع الهلاك عن نفسه غير منحرف إلى المعصية، فإن الله يغفر للمضطر ما أكل، دفعاً للهلاك، وهو رحيم به فيما أباح له (1) .
__________
(1) - تفسير المنتخب ص:144(1/181)
واعلم أن اليوم المشار إليه في قوله تعالى { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } هو يوم عرفة, وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المباركة ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد (188)- بسند صحيح على شرط الشيخين- : عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال: قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة".
قال السعدي في تفسيره :
امتن-عز وجلّ- على عباده بقوله:{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ}
واليوم المشار إليه يوم عرفة، إذ أتم الله دينه، ونصر عبده ورسوله، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك.
فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره، يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشون، ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع - لم يحج فيها مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ْ} أي: فلا تخشوا المشركين، واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم، ورد كيدهم في نحورهم.
{(1/182)
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ْ} بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علومٍ غير علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } الظاهرة والباطنة { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أي: اخترته واصطفيته لكم دينًا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرًا لربكم، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.أهـ (1)
وخطَّأ ابن كثير قول من قال:إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع، .وكذا من قال أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خُم حين قال لعلي: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وأنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني: مرجعه عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع،إذ أعقب ابن كثير ذلك بقوله: ولا يصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، رضي الله عنهم، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله.أهـ (2)
أما الشيعة يقولون: إن الآية نزلت بعد منصرف النبي من حجة الوداع وبعد أن نصب عليًا إمامًا للناس من بعده:
قال القمي:
__________
(1) - عبد الرحمن بن ناصر السعدي/ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص: 216
(2) - تفسير ابن كثير (2/14)(1/183)
وقوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال: ذلك لما نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام , وأما قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } فإنه حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الله الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل { اليوم أكملت لكم دينكم } بكراع الغميم فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة.أهـ (1)
قال الطبرسي في مجمع البيان:
{ اليوم أكملت لكم دينكم } قيل فيه أقوال أحدها: أن معناه أكملت لكم فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما أنزلت وبياني ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم وكان ذلك يوم عرفة عام حجة الوداع عن ابن عباس والسدي واختاره الجبائي والبلخي قالوا: ولم ينزل بعد هذا على النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الفرائض في تحليل ولا تحريم وأنه مضى بعد ذلك بإحدى وثمانين ليلة, فإن اعترض معترض فقال: أكان دين الله ناقصاً وقتاً من الأوقات حتى أتمَّه في ذلك اليوم فجوابه أن دين الله لم يكن إلا في كمال كاملاً في كل حال ولكن لما كان معرضاً للنسخ والزيادة فيه ونزول الوحي بتحليل شيء أو تحريمه لم يمتنع أن يوصف بالكمال إذا أمن من جميع ذلك فيه كما توصف العشرة بأنها كاملة ولا يلزم أن توصف بالنقصان لما كانت المائة أكثر منها وأكمل.
وثانيها: أن معناه اليوم أكملت لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام تحجّونه دون المشركين ولا يخالطكم مشرك عن سعيد بن جبير وقتادة واختاره الطبري قال: لأن الله سبحانه أنزل بعده { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } قال الفراء: وهي آخر آية نزلت وهذا الذي ذكره لو صحّ لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف.
__________
(1) - تفسير القمي (1/162) وانظر تفسير نور الثقلين(1/588-589)(1/184)
وثالثها: أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم كما تقول الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه عن الزجاج.
والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وسلم علياً (ع) علماً للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع قالا: وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة .أهـ (1)
__________
(1) - تفسير مجمع البيان للطبرسي(3/273-274)(1/185)
قلت : ذكر الطبرسي أن الآية نزلت يوم عرفة كما هو عند أهل السنة , ثم بعد ذلك ذكرالرأي الموافق لمذهبهم أنها نزلت بعد أن نصب عليّاً علمًا للأنام , وأن إمامة عليٍّ آخر فريضة أنزلها الله تعالى,ولا يخفى بطلان مذهبهم في ذلك.لأننا نقول: إن الأية أثبتت كمال الدين وتمام النعمة بدون أي ذكر فيها لأمر إمامة علي رضي الله عنه, فمن أين جاءوا بهذا ؟ وها هي الآية بين أيدينا في كتاب الله تعالى , ليس فيها ثمة ذكر لعليٍّ ولا للإمامة , ولكنها بينت بعض المحرمات فقال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ javascript:Open_Menu()} وبعد أن ذكر هذه المحرمات بيّن أن الدين قد كمل والنعمة قد تمت ,فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} َ إذًا قد اكتمل الدين بدون بيان أمر الإمامة الذي يزعمونه, ولو كانت الإمامة من أركان هذا الدين -كما يزعمون- لبيّنها الله في هذه الآية أو في غيرها بيانًا واضحًا لا لبس فيه, وهذه هي آخر آية ذُكرت فيها أحكام شرعية تبين الحلال والحرام ,وما نزل بعدها ليس فيه بيان لأحكام شرعية.فلما كمل الدين بدون ذكرها علمنا كذب دعوى هؤلاء. ولذلك في حجة الوداع هذه استشهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على تبليغ الدين, وشهدوا على ذلك, كما ثبت في صحيح مسلم(1218): عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال في خطبة الوداع: " أيها الناس، إنكم مسئولون عَنّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه الى السماء وينكسها إليهم ويقول: اللهم هل بلّغت ".(1/186)
ولم يكن حديث :"من كنت مولاه فعلي مولاه" قد قيل بعد, وإنما قيل بعد انصراف الناس من الحجيج, وعودة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار في اتجاه المدينة حتى وصل إلى مكان ماء يسمى غدير خُم وهو قريب من الجحفة بين مكة والمدينة .فقال هذا الحديث.فقد اكتمل الدين إذاً قبل هذا الحديث, وشهد الصحابة على ذلك كما بيَّنا.
هذا, والحديث ليس فيه ما يدل على ولاية علي رضي الله عنه بمعنى الإمامة والخلافة.
هذه الحادثة أخرجها الإمام مسلم في صحيحه (2408)من حديث زيد بن أرقم قال : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّر,َ ثُمَّ قَال:َ أَمَّا بَعْدُ, أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ, فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ, ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي. فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ(الراوي عن زيد) :وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ :نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ .قَالَ وَمَنْ هُمْ ؟قَالَ :هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ نَعَمْ " .(1/187)
جاءت زيادات لهذا الحديث عند أحمد والنسائي في الخصائص والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك المكان : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) وجاءت كذلك زيادات أخرى منها ( اللهم والي من ولاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار ) يمكننا أن نقسم هذا الحديث إلى أربعة أقسام .
القسم الأول : ما جاء في حديث مسلم وهو صحيح مسلمٌ به, وليس فيه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) .
القسم الثاني : الزيادة خارج مسلم وهي التي عند الترمذي وأحمد والنسائي في الخصائص وغيرهم و فيها زيادة ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) (1) . وهي صحيحة , وإن كان هناك من ضعفها كإسحاق الحربي وابن تيمية وابن حزم وغيرهم.
القسم الثالث : زيادة أخرى عند أحمد وغيره وهي ( اللهم والي من ولاه وعاد من عاداه) (2) .
فهذه إختلف فيها أهل العلم , هناك من حَسَّنها من أهل العلم والأكثر على تضعيفها.
القسم الرابع: وهي زيادة (وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار ) وهذه لم تصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الحديث يستدلون به على خلافة عليّ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة بدلالة ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) قالوا: المولى هو الحاكم والخليفة. وعلى ذلك فعليّ هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة .
وكلمة(المولى) كما يقول ابن الأثير تُطلق على : الرب والمالك والمنعم والناصر والمحب و الحليف والعبد والمعتق وابن العم والصهر. فما الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم يريد بها الخلافة؟.
__________
(1) - سنن الترمذي(3713) مسند أحمد (950 -22995) , النسائي في الخصائص خصائص علي رقم 79 , مستدرك الحاكم (4577- 6272) .
(2) - أحمد(950 - 18502) والحاكم (4601) وجوَّد ابن كثير أحد أسانيد أحمد كما في البداية والنهاية (5/189) وذكر طرق الحديث.(1/188)
لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد ذلك لأتى بكلمة صريحة واضحة ولا يأتي بكلمة تحتمل عدة معاني ..و لماذا لم يقل: علي هو الخليفة من بعدي ؟.هل كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تختلف أمته من بعده؟ ولو كانت الكلمة تعني الخلافة لفهم منها الصحابة ذلك ولما بايعوا أبا بكر وتركوا عليًّا مخالفين بذلك أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومما يؤكد أنها لا تعني الحاكم أو الخليفة أن الله تعالى ذكرها بمعنى آخر في قوله تبارك وتعالى { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }[ سورة الحديد: 15 ] سمى النار مولىً للكافرين, وذلك لشدة الملاصقة وشدة اللُحمة والقرب , ثم إن الموالاة وصفٌ ثابت لعلي رضي الله عنه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه فهو في زمن النبي مولى وبعد وفاة النبي مولى والآن هو مولانا رضي الله عنه وأرضاه, وكل المؤمنين بعضهم أولياء بعض كما قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ }[المائدة:55] .
إذًا لفظ المولى الذي يستدلون به على إمامة علي رضي الله عنه وأرضاه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نرى لا دلالة فيه أبداً . ولذلك تجد عالمهم النوري الطبرسي يقول : ( لم يصرح النبي لعلي بالخلافة بعده بلا فصل في يوم غدير خم وأشار إليها بكلام مجمل مشترك بين معانٍ يُحتاج إلى تعيين ما هو المقصود منها إلى قرائن أهـ (1)
ولتمام الفائدة نذكر سبب ورود حديث: ( من كنت مولاه فعلي مولاه):
__________
(1) - فصل الخطاب ص: 205 - 206(1/189)
بدايةً: لابد أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان راجعاً في سفره من مكة إلى المدينة بعد أن أنهى حجه صلوات الله وسلامه عليه , رحلة السفر كما هو معلوم تستغرق ما بين خمسة إلى سبعة أيام وكان من عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر أن يمشي ليلاً ويرتاح نهارًا , فأثناء راحته عند غدير خم قال هذا الكلام لا يريد به الخلافة وإنما يريد به رفع غضب بعض الصحابة على عليّ رضي الله عنه,فأراد أن يبين لهم أن من يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فليحب عليًّا ولا يحمل له ضغينة.
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد خلافة عليّ لحرص على أن يقول هذا في يوم عرفه والحجاج كلهم مجتمعون , حتى إن غدر أهل المدينة شهد له باقي المسلمين من غير أهل المدينة , هم يقولون النبي كان خائفاً أن يُرَد قوله إذا بلّغ هذه الخلافة!!, حتى نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }[المائدة:67] , فهل يخاف من أهل المدينة أن يردوا قوله, ثم يترك الناس كلهم في الحجيج ويخاطب أهل المدينة فقط !! ما هذا التناقض ؟
ثم لماذا يخاف النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ؟! وهم الذين تركوا أموالهم وأولادهم وديارهم وهاجروا في سبيل الله , وهم الذين قاتلوا في سبيل الله , الذين شاركوا في بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر وحنين وفتح مكة وتبوك , قد بذلوا المُهَج والأموال في سبيل الله سبحانه وتعالى , وسارعوا وتنافسوا في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلبية أوامره , ثم بعد ذلك يخاف النبي صلى الله عليه وسلم منهم ألاّ يقبلوا أمره بخلافة عليّ رضي الله عنه ! هل يُعقل هذا؟.
قال أهل العلم: إنما خص النبي أهل المدينة لسببين :(1/190)
السبب الأول : قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج كان في المدينة وكان قد أرسل خالد بن الوليد إلى اليمن في قتال , فانتصر خالد بن الوليد في جهاده وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر, وأنّ عندنا غنائم فأرسل إلينا من يخَمِّس هذه الغنائم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى اليمن ليخمس الغنائم ثم أمره أن يدركه في مكة في الحج , ذهب علي إلى اليمن و قُسم الغنائم ثم أخذ امرأة من السبي فدخل عليها – يعني جامعها – فغضب بعض الصحابة كبريدة بن الحصين لذلك , فذهب إلى النبي في المدينة صلوات الله وسلامه عليه وأخبره بما حدث من علي, مع العلم بأن عليًّا له نصيبٌ في الخمس لأنه من ذوي القربى ,ونصيبه أكثر من هذه الجارية التي أخذها, والحديث في صحيح البخاري (4093) عن بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ, وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا , وَقَدْ اغْتَسَلَ, فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا, فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ فَقُلْتُ :نَعَمْ قَالَ: لَا تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ".وفي رواية أحمد (22995) قال صلى الله عليه وسلم لبريدة:" مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ".(1/191)
السبب الثاني : عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى اليمن » ، قال أبو سعيد : فكنت ممن خرج معه ، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا ، فكنا قد رأينا في إبلنا خللاً ، فأبى علينا ، وقال : إنما لكم منها سهم كما للمسلمين . قال : فلما فرغ عليّ وانطلق من اليمن راجعًا, أمَّر علينا إنسانًا, وأسرع هو فأدرك الحج ، فلما قضى حجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم » ، قال أبو سعيد : وقد كنّا سألنا الذي استخلفه ما كان عليٌّ منعنا إياه ، فَفَعل ، فلما جاء عرف في إبل الصدقة أن قد رُكبت ، رأى أثر المركب ، فذمَّ الذي أمَّره ولامه ، فقلت أنا : إن شاء الله إن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق .(1/192)
قال : فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أفعل ما كنتُ حَلفتُ عليه ، فلقيت أبا بكر خارجًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف معي ورحَّب بي وسألني وسألته ، وقال : متى قدمت ؟ قلت : قدمت البارحة ، فرجع معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فقال : هذا سعد بن مالك بن الشهيد ، قال : « ائذن له » ، فدخلت فحييتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءني وسلم عليَّ وسألني عن نفسي وعن أهلي فأحفى المسألة ، فقلت له : يا رسول الله ، ما لقينا من عليٍّ من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق ، فانتبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه, حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، وكنت منه قريبًا ثم قال : « سعد بن مالك الشهيد , مَه ، بعض قولك لأخيك علي ، فوالله لقد علمت أنه أحسن في سبيل الله » ، قال : فقلت في نفسي : ثكلتك أمك سعدَ بن مالك ، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ، وما أدري ، لا جَرَمَ, والله لا أذكره بسوء أبدًا سرًا ولا علانية " (1)
__________
(1) - رواه البيهقي في دلائل النبوة (5/495). وقال ابن كثير:إسنادٌ جيد على شرط النسائي أخرجه البيهقي وغيره.(1/193)
مما سبق يتضح أن عليًا رضي الله عنه لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب تضييقه عليهم ومنعه إياهم استعمال إبل الصدقة واسترجاعه منهم الحُلل التي أطلقها لهم نائبه, لذلك -والله أعلم- أراد النبي صلى الله عليه أن يبرأ ساحة علي رضي الله عنه ويبين عدالته وفضله وأمانته وأن الحق معه, فقام في الناس خطيبًا فَبَرَّأَ ساحته , ورفع من قدره, ونبه على فضله, ليزيل ما وقر في قلوب كثير من الناس وكان ذلك يوم الأحد بعدما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من حجته وتفرغ من مناسكه ,وهو في طريقه متجهًا إلى المدينة بغدير خُمّ . وذكر نحو هذا ابن كثير في البداية والنهاية (1) .
3-المائدة:67
{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
والمعنى:
يا أيها الرسول، بلّغْ الناس جميعاً بكل ما أوحى الله إليك، ولا تخشَ في ذلك أحداً, ولا تخفْ مكروهاً، فإن كتمت شيئًا مما أمرت بتبليغه تكن قد خالفت أمر ربك. إن الله يحفظك من مكائد الناس ويمنعك من أذاهم وفتكهم.
قال القرطبي :
__________
(1) - ابن كثير/البداية والنهاية (5/185)(1/194)
فيه مسئلتان:الأولى ـ قوله تعالى: { يَـ?أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }. قيل: معناه أَظهِر التبليغ؛ لأنه كان في أوّل الإسلام يخفيه خوفاً من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يَعصِمه من الناس. وكان عمر رضي الله عنه أوّل من أظهر إسلامه وقال: لا نَعبد الله سِراً؛ وفي ذلك نزلت:{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64] فدلت الآية على ردّ قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من أمر الدين تَقِيَّة، وعلى بطلانه، وهم الرَّافضة، ودّلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُسِرَّ إلى أحد شيئاً من أمر الدِّين؛ لأن المعنى بَلِّغ جميع ما أُنزل إليك ظاهراً، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم.
قال ابن عباس: المعنى بَلِّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمتَ شيئاً منه فما بلَّغتَ رِسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العِلم من أمته ألاّ يكتموا شيئاً من أمر شريعته، وقد علِم الله تعالى من أمرِ نبيه أنه لا يكتم شيئاً من وَحْيه؛ وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: " من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: { يَـ?أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (1) ". وقبّح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى الله إليه كان بالناس حاجة إليه.
__________
(1) - صحيح مسلم(177)(1/195)
الثانية : قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } دليل على نبوّته؛ لأن الله عزّ وجلّ أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العِصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئاً مما أَمَره الله به. وسبب نزول هذه الآية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً تحت شجرة فجاء أعرابي فاخْتَرَطَ سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: «الله»؛ فذُعِرت يدُ الأعرابي وسقط السيف من يدِه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دِماغه " ؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عِياض في كتاب الشّفاء قال: وقد رُوِيت هذه القصة في الصحيح، وأن غَوْرَث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدّم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ }[المائدة: 11] مستوفى، وفي «النساء» أيضاً في ذِكر صلاة الخوف.(1/196)
وفي صحيح ومسلم " عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبلَ نَجْدٍ فأدركَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العِضَاهِ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلَّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يَستظِلُّون بالشجر، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صَلْتاً في يده فقال لي: من يمنعك مني ـ قال ـ قلت: الله, ثم قال في الثانية: من يمنعك مني ـ قال ـ قلت: الله قال: فشام السيفَ فها هو ذا جالس» " ثم لَمْ يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) ، وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لمّا بعثني الله برسالته ضِقت بها ذَرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية " وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عماه إن الله قد عَصَمني من الجن والإنس فلا أحتاج إلى من يَحرسني " (2)
__________
(1) - صحيح مسلم(843)
(2) - باطل.أخرجه الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما.(1/197)
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدّم أنّ هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أنّ هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح " عن عائشة قالت: سهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمه المدينَة ليلةً فقال:«ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خَشْخَشة سِلاح؛ فقال: «من هذا»؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك»؟ فقال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام (1) " وفي غير الصحيح " قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: «من هذا»؟ فقالوا: سعد وحُذَيْفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غَطيطهُ ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبَّة أدَمَ وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عَصَمني الله» (2) . وقرأ أهل المدينة: «رِسَالاَتِهِ» على الجمع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: «رِسَالَتَهُ» على التوحيد ـ؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبْيَن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئاً فشيئاً ثم يُبيِّنهُ؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34].
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي لا يرشدهم وقد تقدّم.
وقيل: أََبْلِغ أنت فأما الهِداية فإلينا. نظيره { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ } [المائدة: 99] والله أعلم.أهـ (3)
__________
(1) - رواه الشيخان: البخاري(6804) ومسلم(2410) واللفظ له.
(2) - رواه الترمذي( 3046) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي, وكذا الحاكم(3221 ) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) - تفسير القرطبي (6/212-215)(1/198)
وعند الشيعة يرون أن هذه الآية نزلت لتأمر الرسول بأن يبلغ الصحابة بإمامة عليٍّ:
قال القمي:
قوله: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } قال: نزلت هذه الآية في علي { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } قال: نزلت هذه الآية في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة.... ثم ذكرالقمي أخبارًا مركبة من حقٍ وباطل, ثم افترى على الصحابة فقال: فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة تعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً فأنزل الله على نبيه في ذلك:{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف: 79-80].
ولا يخفى كذب وبطلان هذا الكلام وإنما أراد الله أن يفضحه ويظهر كذبه لتجرُّئه على الصحابة, فالآيات التي ذكرها مكية-أي نزلت قبل الهجرة- باتفاق العلماء , وقد زعم أنها نزلت في هذا الموقف في حجة الوداع.....ثم تمادى القمي في باطله فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنه أمير المؤمنين- يعني عليًا- وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، يقعده الله يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياء ه الجنة وأعدائه النار!! فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده: قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال, وقال ها هنا ما قال, وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله.......(1/199)
فحدثني أبي عن مسلم بن خالد عن محمد بن جابر عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع يا ابن مسعود قد قرب الأجل ونعيت إليّ نفسي فمن لذلك بعدي؟ فأقبلت أعد عليه رجلاً رجلاً، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: ثكلتك الثواكل فأين أنت عن علي بن أبي طالب ,لم لا تقدمه على الخلق أجمعين، يا ابن مسعود إنه إذا كان يوم القيامة رفعت لهذه الأمة أعلام، فأول الأعلام لوائي الأعظم مع علي بن أبي طالب والناس أجمعين تحت لوائه ينادي منادٍ: هذا الفضل يا ابن أبي طالب.أهـ (1)
وقال الطوسي في التبيان:
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها - قال محمد بن كعب القرظي، وغيره: إِن أعرابيا هم بقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه.
الثاني - أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يهاب قريشاً فأزال الله - عز وجل - بالآية تلك الهيبة. وقيل كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) حراس بين أصحابه، فلما نزلت الآية قال الحقوا بملاحقكم، فان الله عصمني من الناس.
الثالث - قالت عائشة: إِن المراد بذلك إِزالة التوهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كتم شيئاً من الوحي للتقية.
الرابع - قال أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما السلام): إِن الله تعالى لما أوحى الى النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه.
والآية فيها خطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) وإِيجاب عليه تبليغ ما أنزل اليه من ربه وتهديد له إِن لم يفعل وأنه يجري مجرى إِن لم يفعل ولم يبلغ رسالته. أهـ (2)
__________
(1) - تفسير القمي (1/171- 175)
(2) - التبيان للطوسي (3/587-588)(1/200)
وأقول: قد تكلمنا على بطلان ما ادعاه هؤلاء الشيعة بشأن إمامة عليٍّ رضي الله عنه, وأنها فرضت من الله تعالى,وأن النبي أمر بتبليغها,بما فيه الكفاية وأغنانا عن إعادته هنا,ولكن نحب فقط هنا أن ننوه على أمرٍ واحد,وهو أنهم يقولون أن الإمامة-إمامة عليّ وسائرالأئمة الاثنى عشر- فرض وركن من أركان الإسلام, بل هي أعظم من الصلاة والزكاة والصيام والحج, وأن من لم يؤمن بها فهو كافر ومن أهل النار, فقد جاء في كتاب الكافي ج2 /كتاب الإيمان والكفر/ بَابُ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ (1) ما يلي:
1- عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الصَّوْمِ وَ الْحَجِّ وَ الْوَلَايَةِ, وَ لَمْ يُنَادَ بِشَيْ ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ .
2- عَنْ عَجْلَانَ أَبِي صَالِحٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَوْقِفْنِي عَلَى حُدُودِ الْإِيمَانِ فَقَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ صَلَوَاتُ الْخَمْسِ وَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ حِجُّ الْبَيْتِ وَ وَلَايَةُ وَلِيِّنَا وَ عَدَاوَةُ عَدُوِّنَا وَ الدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِينَ .
3- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الصَّوْمِ وَ الْحَجِّ وَ الْوَلَايَةِ وَ لَمْ يُنَادَ بِشَيْ ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ, فَأَخَذَ النَّاسُ بِأَرْبَعٍ وَ تَرَكُوا هَذِهِ يَعْنِي الْوَلَايَةَ .
__________
(1) - الكافي (2/18)(1/201)
4- عَنِ الصَّادِقِ ( عليه السلام ) قَالَ: أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ, وَ الزَّكَاةُ , وَ الْوَلَايَةُ, لَا تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا بِصَاحِبَتَيْهَا .
5- عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَال:َ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الْحَجِّ وَ الصَّوْمِ وَ الْوَلَايَةِ. قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وَ أَيُّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْوَلَايَةُ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ وَ الْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ ".
فهل يُعقل أن تكون الولاية بهذه الأهمية ولم يأت لها ذكر صريح في القرآن الكريم. فالله تعالى ذكر أركان الإسلام في القرآن ذكرًا صريحًا لا يحتمل التأويل ولا الالتباس, فجاءت الآيات تأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت صريحةً واضحة, حتى لا يخفى على مسلم شأنها لتتم عليه الحجة فيعاقب على تركها, فأين الآية أو الآيات الصريحة في شأن الولاية حتى يعاقب الله تعالى من لم يمتثل بها, ولقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يؤدي إلى الكفر أو العذاب ولم نجد لمن جحد إمامة عليٍّ في القرآن ذكر ولا عقوبة صريحة.فهل سيعاقب الله تعالى عباده على شيء لم يوضحه أو يبينه لهم بيانًا شافيًا ولم يحذرهم من تركه تحذيرًا جليًا؟.{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد}[ق:37] نعوذ بالله من اتباع الهوى.
فوائد ذات صلة:(1/202)
الأولى: يرى جمهور المسلمين وجوب نصب إمام ليقوم بتنفيذ أحكام الله , ويرعى مصالح المسلمين ويقوم بأمرهم وفق شرع الله تعالى,ويرى أهل السنة أن الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار الأمة من أهل الحل والعقد, وينتصب الإمام بنصبهم , كما أنها تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته, ولم يقصد بذلك هوى ,وأنه تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل, والأدلة على ذلك كثيرة من كتاب وسنة وعمل صالح الأمة (1) .
الثانية: الإمامة عند الاثنى عشرية تتلخص فيما يلي:
1- أنها ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان المرء إلاّ به.وقد سبق ذكر الروايات بذلك. وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق : " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء . واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
وقال المفيد- شيخ الطوسي- : " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار" (3)
__________
(1) - الفصل في الملل والنحل4/3-11, الملل والنحل 1/146.وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة مقدمة المحقق ص: 24
(2) -رسالة الاعتقادات له ص: 76
(3) - الشيخ المفيد/أوائل المقالات ص:349 وذكره أيضًا المجلسي في بحار الأنوار: ( 23/390 ) تأييدًا لرأيه.(1/203)
2- يرون أن الإمامة منصب إلهى فالإمام يختاره الله كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه, فالإمام عندهم منصوص عليه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من إمام معصوم. وجاء في الكافي عن أبي عبد الله قال"... وَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) : مَنْ مَاتَ وَ لَا يَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً , وَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ كَانَ عَلِيّاً ( عليه السلام)... ثُمَّ كَانَ الْحَسَنَ ( عليه السلام ) ثُمَّ كَانَ الْحُسَيْنَ ( عليه السلام ) ...ثُمَّ كَانَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ثُمَّ كَانَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَبَا جَعْفَرٍ.. .. والْأَرْضُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِمَامٍ .. (1)
3- الإمام معصومُ وجوبًا من الكبائر والصغائر كالنبي, إلاّ أنه لا يوحى إليه ولكنه ملهمٌ مُحَدَّث.ويرى بعضهم أن معه ملك يسدده ويرشده ويعلمه. (2)
قال محمد جواد مغنية :إن الإمام يتعين بالنص من النبي, ولا يجوز لنبي إغفال النص على خليفته وتفويض الأمر إلى اختيار الأمة, وأن يكون الإمام معصومًا عن الكبائر والصغائر, وأن النبي قد نص بالخلافة على علي بن أبي طالب دون سواه وأنه أفضل الخلق على الإطلاق (3) .أهـ (4)
__________
(1) - أصول الكافي (2/ 20)
(2) - انظر: أصول الكافى : باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (1/271-272) وباب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (1/273-274)
(3) - لا يخفى ما في قوله عن علي رضي الله عنه أنه(أفضل الخلق على الإطلاق) من الغلو.
(4) - من كتابه: الشيعة والحاكمون ص:12–الطبعة الرابعة –بيروت- دار التعارف(1/204)
4- لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ، ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة . فلا تخلو الأرض-عندهم- من إمام معصوم,هو أحد الاثنى عشر المنصوص عليهم عندهم, وآخرهم هو الحجة القائم الإمام الغائب ,صاحب الزمان, المهدي محمد بن الحسن العسكري.
.(1/205)
ثالثًا:جاء في الكافي:عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله ) شَرَائِعَ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى ( عليهم السلام ) التَّوْحِيدَ وَ الْإِخْلَاصَ وَ خَلْعَ الْأَنْدَادِ وَ الْفِطْرَةَ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ وَ لَا رَهْبَانِيَّةَ وَ لَا سِيَاحَةَ أَحَلَّ فِيهَا الطَّيِّبَاتِ وَ حَرَّمَ فِيهَا الْخَبَائِثَ وَ وَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا الصَّلَاةَ وَ الزَّكَاةَ وَ الصِّيَامَ وَ الْحَجَّ وَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحَلَالَ وَ الْحَرَامَ وَ الْمَوَارِيثَ وَ الْحُدُودَ وَ الْفَرَائِضَ وَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ زَادَهُ الْوُضُوءَ وَ فَضَّلَهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَ الْمُفَصَّلِ وَ أَحَلَّ لَهُ الْمَغْنَمَ وَ الْفَيْ ءَ وَ نَصَرَهُ بِالرُّعْبِ وَ جَعَلَ لَهُ الْأَرْضَ مَسْجِداً وَ طَهُوراً وَ أَرْسَلَهُ كَافَّةً إِلَى الْأَبْيَضِ وَ الْأَسْوَدِ وَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ أَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَ أَسْرَ الْمُشْرِكِينَ وَ فِدَاهُمْ ثُمَّ كُلِّفَ مَا لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سَيْفٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي غَيْرِ غِمْدٍ وَ قِيلَ لَهُ فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ." (1)
فالرواية-كما هو واضح- فيها ذكر ما أعطاه الله لنبيه من الشرائع بما فيها أركان الإسلام وفرائضه وليس فيها أي ذكرٍ للولاية -أهم الأركان عندهم - فكيف أغفلتها وذكرت ما دونها ؟.
__________
(1) -.الكافي: ( 2 /17)(1/206)
رابعًا: يرى جمهور المسلمين أن الإمامة تكون بالاختيار ويشترطون للخلافة الراشدة ، خلافة النبوة ، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى ، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة (1) وللخوارج رأي خاص في الإمامة : فالإمام-عندهم- لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين ، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم . ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور ، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه ، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله . ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور (2) .
واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة.ففي صحيح البخاري(6/ 2611) - في كتاب الأحكام - جعل باباً بعنوان" الأمراء من قريش " ، ومما آخرجه فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " (3) وقوله صلوات الله عليه: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان " (4) .
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم (3/ 1449) نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش " ، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" الناس تبع لقريش في هذا الشأن " (5) وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان" .
__________
(1) - انظر تاريخ المذاهب الإسلامية (1/ 109) ، والفرق بين الفرق ص 210 –212.
(2) - د. علي أحمد السالوس / مع الشيعة الاثنى عشرية (1/39-40)
(3) - البخاري(6720)
(4) - البخاري(6721) ومسلم (1820)
(5) - الحديث متفق عليه:رواه البخاري(3305) ومسلم(1818)(1/207)
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا ، منها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ إِلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ لِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ " (1) واحتج بهذا أبو بكر- كما في البخاري وغيره- على الأنصار يوم السقيفة فقال:" لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " (2) ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر ، ولكن سرعان ما أقروا بذلك فبايعوا أبا بكر- ما عدا سعد بن عبادة فلم يبايع- وبايعوا من جاءوا بعده من قريش .فهذه الروايات الصحيحة لم تقصر الإمامة على أهل البيت,رضي الله عنهم, وإنما جعلتها في قريش عامة ما أصلحوا. ولو كانت خاصة بأهل البيت, أو نص النبي على أحدٍ منهم ما خالف الصحابة ذلك.ولما بايع عليٌ أبا بكر رضي الله عنه.
__________
(1) 3-مسند أحمد: ( رواية رقم 4380 ) وأيضًا مسند أبي يعلى (5024) وقال محققه:اسناده صحيح. .و انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/93: 109 ، والفرق بين الفرق ص 210 –212
(2) 4- رواه البخاري(6442) وأحمد(391) وابن حبان في صحيحه(413) وغيرهم .(1/208)
بل إن في كتب الشيعة الإمامية أنفسهم ما يؤكد أن الإمامة بالاختيار وليست بالنص– ولكنهم يأخذون ما يوافق هواهم- في الرسالة السادسة من نهج البلاغة: أن عليًا رضي الله عنه قال: إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأنصار، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً " (1)
وقال كذلك لمن جاءه يطلبه أن يكون خليفة قال : ( دعوني والتمسوا غيري فإننا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن تركتموني فإني كأحدكم ولعلي أسمعُكم وأطوعُكم لمن وليتموه أمركم, وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) (2)
وهذاالنص من علي رضي الله عنه يثبت أن الإمامة بالاختيار لا بالنص كما تزعم الشيعة الإمامية, وكان الأولى بهم اتباع رأيه لو كانوا صادقين في موالاته. ومما يؤكد ذلك أيضًا ما ذكروه في كتب التاريخ كمروج الذهب ، وكتاب الحكومة في الإسلام والكتب الكثيرة الأخرى ، عندما طُعن علي رضي الله عنه اجتمع الناس حوله وقالوا : من نبايع بعدك . فقال لكم الخيار ... الذي ترونه صالحا.ً قالوا : نبايع ابنك الحسن . قال الخيار لكم .أو قال: لا آمركم ولا أنهاكم.أنتم أبصَر (3) .
.
__________
(1) -نهج البلاغة ص: 337 , وبشرح الشيخ محمد عبده(3/7) وذكره المجلسي في البحار(33/76)
(2) - نهج البلاغة ص: 336 ., وبشرح الشيخ محمد عبده(1/181) وبحار الأنوار(32/8)
(3) - أنظر: من مصادر الشيعة:نهج السعادة للمحمودي ص:733 ,ومن أهل السنة:البداية والنهاية لابن كثير(7/299 )(1/209)
وكتب الحسين رضي الله عنه لأهل الكوفة : إذا بايع أهل العقل والكبار منكم مسلم بن عقيل وطلبتموني سآتي إليكم.إذن فالإمامة والقيادة عند الحسين رضي الله عنه تكون باختيار العقلاء ، وأصحاب الحل والعقد.
خامسًا: أول من قال بالوصيِّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًا وأعلن إسلامه وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في علي مثل ذلك . و قد جاء فيكتب الشيعة ما يؤكد ذلك:
قال الكشّى : " ذكر بعضٌ أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليًا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلو ! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في على رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على !! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة : أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية !! " (1) وجاء مثل ذلك في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي ، وسعد بن عبد الله القمي ، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى (2) .
__________
(1) 1- رجال الكشي ص71 .
(2) 2- وانظر أيضا ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى (2/184 )، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234 .(1/210)
أما الحديث الذي ذكروه في كتبهم ويستدلون به على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الأئمة الاثنى عشر إمامًا عندهم, وذكر أسماءهم , فهو حديث باطل مكذوب, ولذلك خالفهم فيه جميع فرق الشيعة الأخرى, ومن يراجع كتب الفِرَق يجد ظاهرةً عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام ، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق. فلو كان الإمام منصوصًا عليه, فلماذا اختلفوا كل هذا الاختلاف في تعيين الأئمة؟,ولماذا أرسل الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه ولديه للانضمام إلى محمد المهدي بن عبد الله بن حسن عندما دعا لنفسه بالإمامة و خرج على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي, أما كان يعرف جعفر الصادق أنه الإمام المنصوص عليه وأن ابنه موسى الإمام من بعده.(1/211)
بل فيما صحّ من الأحاديث ما يثبت أن عليًّا لم يعرف أنه الإمام والخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم, وكذلك لم يعرف العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري(5911) بسنده: عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا, فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ عَبْدُ الْعَصَا, وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ, وَإِنِّي لَأَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ, فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ, فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا, قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْنَعُنَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا, وَإِنِّي لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا (1) ".
__________
(1) - ورواه أيضًا البيهقي في سننه (16350) ثم قال عقِبه: وفي هذا - وفيما قبله- دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا بالنص عليه.أهـ(1/212)
وهذ يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص لعلي بالخلافة , فلو أوصى له النبي بالخلافة يوم غدير خم -كما يزعمون- لما قال العباس له هذا الكلام ولما رد عليه عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بما ردّ, وخاصةً أن هذا الحديث في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم وقبيل وفاته مباشرة, أي بعد حديث الغدير بأكثر من شهرين.ويؤكد ذلك أيضًا ما رواه البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ, إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ, قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ (1) ".
- وقد أقر علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا بعده,ولم يعهد لعليٍّ ولا لغيره بالإمارة, وذلك فيما رواه الحاكم - وهو من أئمة الحديث الذين فيهم تشيع – في المستدرك ( 4558 ) بسنده عن عمرو بن سفيان قال : خطبنا عليٌَّ يوم الجمل ، فقال : أين مروحي القوم ؟ قال : قلنا هم صرعى حول الجمل ، قال : فقال : « أما بعد ، فإن هذه الإمارة لم يعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها عهدًا يتبع أثره ، ولكنا رأيناها تلقاء أنفسنا ، استخلف أبو بكر فأقام واستقام ، ثم استخلف عمر فأقام واستقام ، ثم ضرب الدهر بجرانه»
__________
(1) - البخاري(2882) والدارمي(2356) والطبراني في الأوسط (2/339)(1/213)
– وأخرج الحاكم أيضًا في المستدرك(4467) بسنده عن أبي وائل قال : قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا تستخلف علينا ؟ قال : « ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف (1) ، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا ، فسيجمعهم بعدي على خيرهم ، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم » [وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد , ووافقه الذهبي , وأخرجه البيهقي في سننه(16350)].
(( تفسير ما استدلوا به على عصمة الأئمة من القرآن))
1- البقرة:124
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
والمعنى:
واذكروا إذ اختبرالله تعالى إبراهيم عليه السلام بتكاليف، فقام بها على أتم وجه، فقال له: إنى جاعلك للناس إماماً يتبعونك ويقتدون بك، فطلب إبراهيم من ربه أن يجعل من ذريته أئمة كذلك يُقتدى بهم، فأجابه بأن هذا لن يصل إليه منهم الظالمون، وأشار أنه سيكون من ذريته الأبرار والفجار. (2)
__________
(1) 1- كان من المستقر والمعلوم عند الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا بعده لا عليًّا ولا أبا بكر ولا غيرهما وإنما ترك الأمرلاختيار الأمة. كما هو واضح من هذا الخبر ومن غيره كما في خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قيل له -عند موته- كما في الصحيحين : أَلَا تَسْتَخْلِفُ , قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي, أَبُو بَكْرٍ, وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر قوله هذا , بل سكتوا إقرارًا منهم.
(2) - تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص:61, صفوة التفاسير للصابوني (1/93) وابن كثير(1/164).(1/214)
أما الشيعة الاثنى عشرية فمنهم من زعم أن الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم عليه السلام هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه, وهو أنه قال: يا رب اسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم الا تبت علي فتاب عليه إنه هو التَّواب الرّحيم وأن المقصود بقوله (فأتمهن): يعني أتمهنّ إلى القائم إثني عشر إماماً . (1)
قال الفيض الكاشاني:
{ (124) وَإِذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فأتَمّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } ، القمّي: هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمّها إبراهيم عليه السلام وعزم عليها وسلم فلما عزم قال تبارك وتعالى ثواباً لما صدق وسلم وعمل بما أمره الله {إني جاعلك للناس إماماً} فقال إبراهيم{ ومن ذريتي} قال جل جلاله{ لا ينال عهدي الظالمين} أي لا يكون بعهدي إمام ظالم ثم أنزل عليه الحنيفيّة وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة في الرأس وخمسة في البدن فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر والسّواك والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وقلم الأظافر والغسل من الجنابة والطهور بالماء فهذه الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه السلام فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
__________
(1) -أنظر مجمع البيان للطبرسي(1/375),كنز الدقائق للمشهدي(1/332)وغيرهما.وكثيرًا ما ينقل الفيض الكاشاني في تفسيره عمن سبقوه كما ترى.فيغنينا عن ذكر أقوالهم.(1/215)
وفي الخصال: عن الصادق عليه السلام قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه وهو أنه قال: يا رب اسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم إلا تبت علي فتاب عليه إنه هو التَّواب الرّحيم. فقيل له: يا ابن رسول الله فما يعني بقوله عز وجل: {فأتمهمّن} قال: يعني أتمهنّ إلى القائم اثني عشر إماماً تسعة من ولد الحسين عليهم السلام.
والعياشي مضمراً قال: أتمهن بمحمد وعلي والأئمة من ولد علي عليهم السلام قال وقال إبراهيم: يا رب فعجّل بمحمد وعليّ ما وعدتني فيهما وعجّل بنصرك لهما.
وفي الكافي:عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبياً وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً, فلما جمع له الأشياء قال: إني جاعلك للناس إماماً قال فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين, قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ.
وعنه عليه السلام :مَن عَبَد صنماً أو وثناً لا يكون إمامًا.
أقول: وفيه تعريض بالثلاثة حيث عَبَدوا الأصنام قبل الإسلام (1) .
في العيون عن الرضا عليه السلام في حديث طويلٍ:إن الإمامة خصّ الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرَّفه بها وأشاد بها ذكره فقال عز وجل:{ إني جاعلك للناس إماماً} فقال الخليل عليه السلام سروراً بها {ومن ذريتي} قال الله عز وجل: {لا ينال عهدي الظالمين} فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة.أهـ (2)
وقال الطوسي:
__________
(1) - يقصد أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
(2) - الصافي(1/186-187)(1/216)
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصومًا من القبائح، لأن الله تعالى نفى أن ينال عهده ـ الذي هو الإمامة ـ ظالم، ومن ليس بمعصوم فهو ظالم: إما لنفسه، أو لغيره. فإن قيل: إنما نفى أن يناله ظالم ـ في حال كونه كذلك ـ: فأما إذا تاب وأناب، فلا يسمى ظالماً، فلا يمتنع أن ينال. قلنا: إذا تاب لا يخرج من أن تكون الآية تناولته ـ في حال كونه ظالمًا ـ فإذا نفي أن يناله، فقد حكم عليه بأنه لا ينالها، ولم يفد أنه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها، فيجب أن تحمل الآية على عموم الأوقات في ذلك، ولا ينالها وإن تاب فيما بعد. واستدلوا بها أيضا على أن منزلة الإمامة منفصلة من النبوة، لأن الله خاطب ابراهيم (ع) وهو نبي، فقال له: إنه سيجعله إمامًا جزاءً له على إتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات، ولو كان إمامًا في الحال، لما كان للكلام معنى، فدل ذلك على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوة. وإنما أراد الله أن يجعلها لإبراهيم (ع) وقد أملينا رسالة مقررة في الفرق بين النبي، والإمام، وأن النبي قد لا يكون إماما على بعض الوجوه، فأما الإمام فلا شك أنه يكون غير نبي. وأوضحنا القول في ذلك.أهـ (1)
و قال شيخ الشيعة – في زمنه – المجلسي – (المتوفى سنة 1111هـ) : "اعلم أنّ الإماميّة اتّفقوا على عصمة الأئمّة – عليهم السّلام – من الذّنوب – صغيرها وكبيرها – فلا يقع منهم ذنبٌ أصلاً لا عمدًا ولا نسيانًا ولا لخطأ في التّأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه ولم يخالف فيه-أي في الإسهاء- إلاّ الصدوق محمد بن بابويه وشيخه ابن الوليد فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لمصلحةٍ في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام, لا السهو الذي يكون من الشيطان" (2) .
ولنا هنا تعليقات:
__________
(1) - تفسير التبيان للطوسي (1/449)
(2) - بحار الأنوار: (25/209)، وانظر: مرآة العقول: ( 4/352).(1/217)
الأولى: أن لفظ إمام يقصد به النبي أولاً, وقد يقصد به غيره ممن يؤتم به. لذلك جعل الله تعالى النبوة بعد إبراهيم عليه السلام في ذريته.كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }[الحديد :26 ] فالإمامة والقيادة للأنبياء وهو أمر واقع لكل الأنبياء ، لأن الأنبياء يقودون الناس للهداية عن طريق الوحي الإلهي ,قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } {الأنبياء:73}.
الثانية: ليس في الآية ما يدل على أن الله جعل ابراهيم عليه السلام نبيًا ثم رسولاً ثم خليلاً ثم بعد ذلك إمامًا, وإنما كلُّ نبي إمامُ قومه يهديهم طريق ربهم.ولقد بالغ بعض الغلاة منهم بسبب هذا القول الذي ادعوه حتى رفع مقام الإمامة فوق النبوة.
الثالثة: ليس في الآية أي ذكرٍ ولا دليل على إمامة الأئمة الاثنى عشر- فضلاً عن عصمتهم- دون غيرهم حسب ما يذكرونه, ولا يخفى تهافت هذا الكلام الذي لا يساوي المداد الذي كُتب به.وقد بين الله تعالى أن عباد الرحمن يقولون:{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان:74] و قال تعالى عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[السجدة:24].(1/218)
الرابعة: بطلان ادعاء الشيعة الاثنى عشرية بأن الإمامة لا تجوز لمن كان ظالمًا ثم تاب , ولا من كان مشركًا ثم أسلم, وقصدهم بذلك إيطال إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم, لأنهم كانوا مشركين ثم أسلموا, وحجتهم أن الله تعالى قال في هذه الآية: ( لا ينال عهدي الظالمين), والشرك ظلم لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }{لقمان:13} و لا يخفى أن المقصود من الآية خروج من يتلبس بالظلم حال إمامته, أو عند اختياره للإمامة, إذ لا يعقل إمامة الفاسق للمتقين, وهو مردود الشهادة. ومعلومٌ أنّ من كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغةٍ أوعرفٍ أوشرع, إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً, وإلا لجاز أن يقال: صبيٌّ لشيخ , ونائمٌ لمستيقظ ، وجائعٌ لشبعان، وبالعكس، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حلف أنْ لا يُسَّلم على كافر فسَلَّم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل ذلك بسنين متطاولة أن يحنث, ولا يقول بذلك أحد (1) . ومن المعروف أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع فيه. ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يقتل ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله، وتاب بعد ذنوبه، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فمن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أفضل من أولادهم الذين ولدوا مسلمين كما ذكر ذلك القرآن، وهل يُشَبِّه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل.
__________
(1) - أنظر تفسير(روح المعاني) للألوسي ( 1 /377 )(1/219)
ومما يؤكد ذلك: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتولى أبو بكر الإمامة في الصلاة, في مرض موته, ولا يستطيع أحد من المبتدعة إنكار ذلك. فأمّ أبو بكر الصحابة وفيهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم,وهم خير الأمة فعُلِم أن إمامهم أفضلهم وأنه لا تقتصر الإمامة على أهل البيت.
الخامسة : استدل الشيعة بهذه الآية على عصمة الأئمة الاثنى عشر عندهم, وليس في الآية ما يدل على ذلك, لما سبق, ولاختلاف السلف في معنى العهد على أقوال:
قال ابن عباس والسدي: إنه النبوة، قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} "أي نبوتي".
وقال مجاهد: الإمامة، أي لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به، فها هو يقصد إمامة العلم والصلاح والاقتداء، لا الإمامة بمفهوم الشيعة الاثنى عشرية.
وقال قتادة وإبراهيم النّخعي وعطاء والحسن وعكرمة: لا ينال عهد الله في الآخرة الظّالمين فأمّا في الدّنيا فقد ناله الظّالم فأمن به وأكل وعاش.. قال الزّجّاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظّالمين؛ أي: لا أؤمنهم من عذابي. والمراد بالظّالم: المشرك.
وقال الربيع بن أنس والضحاك، عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} يقول: ليس كلّ ذرّيتك يا إبراهيم على الحقّ.(1/220)
وحتى على تقدير أن معناها الإمامة فقط فلا دليل فيها على عصمة الأئمة عندهم وإلا لقيل بعصمة الأئمة من غيرهم كعصمة أبي بكر مثلاً, أو عصمة من ذكرهم الله تعالى - من بني إسرائيل- في الآية السابقة:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }{السجدة:24}, وهم لا يقولون بذلك, ونحن كذلك, وإن قالوا لابد أن يكونوا من ذرية إبراهيم عليه السلام, لزمهم أن يقولوا بعصمة أبناء الحسن والحسين وغيرهم من أئمة أهل البيت, وهم لا يقولون بذلك. بل خصوا بها الأئمة الاثنى عشر فقط.
ثم إنه لا يمكن أن يقال بأنّ غير الظّالم معصوم لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو.. إلخ كما هو مفهوم العصمة عند الشيعة، إذ يكون قياس مذهبهم من سها فهو ظالم ومن أخطأ فهو ظالم.. وهذا لا يوافقهم عليه أحد, ولا يتّفق مع أصول الإسلام، فبيْن إثبات العصمة، ونفي الظّلم فرق كبير؛ لأنّ نفي الظّلم إثبات للعدل، لا للعصمة الشّيعيّة.
كما أن استدلالهم هذا يؤدي إلى أن جميع المسلمين وكذلك الشيعة وأهل البيت – إلا من تعتقد الشيعة عصمتهم – جميعهم ظلمة لأنهم غير معصومين.
2- الأحزاب:32-34
{ يانِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً*وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }
والمعنى الإجمالي للآيات:(1/221)
يا نساء النبي ليس هناك جماعة من النساء تساويكن في الفضل والكرامة، لأنكن أَزواج خاتَم النبييّن، وأمهات المؤمنين، وهذه منزلةٌ عظيمة لم يتشرّف بها أحدٌ من النساء غيركن.ثم نهاهنّ الله تعالى عن الهزل في الكلام إذا تكلمن أوخاطبهنّ الناس، حتى لا يطمع فيهنَّ منْ في قلبه نِفاق، ثم أمَرَهنّ ان يقُلن قولاً معروفا بعيداً عن الريبة.ثم أمرهن أن يلزمن بيوتَهن، ولا يخرجن منها إلاّ لضرورة أو حاجة شرعية, وأن لا يظهِرن شيئًا مما أمرن بستره من البدن, ولا يظهرن زينتهن ومحاسنَهن كما يفعل أهل الجاهلية الاولى. ثم أمرهنّ بأهم أركان الدين وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، و طاعة الله ورسوله.
وهذه الأوامر والنواهي التي ذكرها الله تعالى لأجل أن يُذهب عنكُن كلَّ دَنَس وإثمٍ-أنتن وسائرأهلَ بيت النبي الكريم- ويجعلكم طاهرين مطهَّرين. ثم أمرهن بتعلُّم القرآن وتعليمه لغيرِهن، وأن يستوعبن ما يقول الرسولُ الكريم من الحكمة المبثوثة في سُنَّته، لأن الناس سيهرَعون إليهن ليأَخذوا منهنَّ ما سمعنَه منه صلى الله عليه وسلم.
* أما تفاسير الشيعة الإمامية :
فهي تتفق مع تفاسير أهل السنة في المعنى العام لهذه الآيات إلاّ في جزءٍ من الآية( 33) وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} كعادتهم في اجتثاث جزء من الآية وتفسيره بما يتفق مع عقيدتهم بمعزل عن بقية الآيات والسياق الذي يقع فيه هذا الجزء, وليس هذا من الإنصاف بل اتباع للهوى. فهم يرون أن هذا الجزء من الآية نزل في أهل الكساء خاصة وهم النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم, ولا يدخل فيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ادعوا بعد ذلك أن هذه الآية تدل على عصمة الأئمة الاثنى عشر من آل البيت دون سواهم.
قال القمّي:(1/222)
ثمّ انقطعت مخاطبة نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وخاطب أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } , ثم عطف على نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال {واذكرن ما يتلى..} ثم عطف على آل محمد صلوات الله عليهم فقال :{إنّ المسلمين..} الآية.
قال الفيض الكاشاني:
وعن الباقر عليه السلام: نزلت هذه الآية في رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليّ ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وذلك في بيت أمّ سلمة زوجة النبيّ صلّى الله عليه وآله فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ثم ألبسهم كساء له خيبريّاً ودخل معهم فيه ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني اللّهمّ أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً فقالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله قال: أبشري يا أمّ سلمة فإنّك على خير .
وعن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام :إنّ جهّالاً من الناس يزعمون أنّه إنّما أراد الله بهذه الآية أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وقد كذبوا وأثموا وأيمن الله , ولو عنى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله لقال: ليذهب عنكنّ الرّجس ويطهّركنّ تطهيراً, وكان الكلام مؤنّثاً كما قال: {اذكرن ما يتلى في بيوتكنّ} {ولا تبرّجن} و{لستنّ كأحد من النساء}.
والعيّاشي: عن الباقر عليه السلام ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء ثم قال: إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً من ميلاد الجاهلية.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال: يعني الأئمّة عليهم السلام وولايتهم, من دخل فيها دخل في بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله (1) .
نقول وبالله التوفيق:
__________
(1) - تفسير الصافي(4/186-187)(1/223)
أما زعمهم أن أهل البيت هم أصحاب الكساء فقط , وهم المعنيون بالآية, فليس صوابًا لما يلي:
أولًا: سياق الآيات يدل دلالة قاطعة على أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} يشمل نساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتسق ما قبلها من الآيات مع ما بعدها, ولا ينكر هذا من يفهم لغة العرب.أما ادعاؤهم أنها لو كانت تتحدث عن نساء النبي لقال الله (عنكنّ) و(يطهركنّ) بنون النسوة لا بميم الجمع,فنقول: إنها جاءت بالميم ليدخل معهن غيرهن من سائر أهل البيت,فالرسول صلى الله عليه وسلم داخلٌ معهن من باب أولى فهو رأس أهل بيته, كما قال تعالى عن زوجة إبراهيم: { قَالُو?اْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } {هود:73}فخاطبها في آخر الآية بالميم لدخول ابراهيم معها (1) .
__________
(1) - ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن زوجة الرجل يُطلق عليها اسم الأهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله تعالى في موسى : { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } [ طه : 10 ] . وقوله : { سَآتِيكُمْ } [ النمل : 7 ] . وقوله : { لعلي آتِيكُمْ } [ طه : 10 ] . والمخاطب امرأته كما قاله غير واحد ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا.[أنظر:أضواء البيان(6/238)](1/224)
والمتتبع لآيات القرآن يجدها تصف الزوجة بالأهل كما في الآية السابقة وفي قوله عز وجل :" إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ"[العنكبوت:33] وقوله تعالى:" فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ"[القصص:29] ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب عليه السلام .
وفي السُّنة ما يؤكد أن زوجاته صلى الله عليه وسلم من أهل البيت.قال البيهقي في سننه(2/150):روينا عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قبض" ... وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت:" إنّا كنّا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار إنما هو التمر والماء " وأشار أبو عبد الله الحليمى إلى أن اسم أهل البيت للازواج تحقيق واسم الآل لهن تشبيه بالنسب وخصوصًا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن اتصالهن به غير مرتفع وهن محرمات على غيره في حياته وبعد وفاته فالسبب الذى لهن به قائم مقام النسب. (1) أهـ
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " . [ متفق عليه:البخاري ( 5999) ومسلم(407)].
__________
(1) - سنن البيهقي(2/150).(1/225)
وكذلك بما رواه البيهقي في سننه( 2686) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " (1) (
وروى الإمام البخاري ( 4515) بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : " بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما قال لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة " (2) (
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (3) (
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير,كما ترى.
ثانيًا: إنّ عليًا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دخلوا في آل البيت بدلالة حديث الكساء وذلك لما غطاهم النبي صلى الله عليه وسلم به ثم تلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}, ونحن نقر بذلك, وليس معنى هذا أنهم هم المعنيون بالآية فقط دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون في تفاسيرهم- لما سبق ذكره .
__________
(1) - سنن البيهقي(2/151), ورواه أبو داود(982) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير( 5626 )
(2) - صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ... " .
(3) - انظر مادة(أهل) في معاجم اللغة .(1/226)
وهذا الحديث روته السيدة عائشة رضي الله عنها-كما في صحيح مسلم(2424)- وهي التي يزعمون أنها كانت تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1) وأنها تبغض أهل البيت وتعاديهم , ولعل ذلك أبلغ ردٍّ على كذبهم عليها وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها, قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ:{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }.
وأيضًا روته السيدة أم سلمة والصحابي واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما:كما فى مسند أحمد(26551) ومستدرك الحاكم(3558) والطبراني في الكبير(2666) وغيرهم: عن أم سلمة قالت : في بيتي نزلت : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : « هؤلاء أهل بيتي »{ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه, وقال الذهبي:على شرط مسلم »
__________
(1) - في البحار للمجلسي(2/217) يروون-كذبًا-عن الإمام جعفر الصادق أنه قال:ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة , وأنس بن مالك , وامرأة " قال المجلسي:يعني عائشة!!.(1/227)
وفي رواية أحمد:" ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا , اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْبَيْتَ فَقُلْتُ وَأَنَا مَعَكُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ, إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ".
وفي رواية للطبراني(726) " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَالَ:إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
وفي رواية للبيهقي في سننه(2683):" قال: بلى ان شاء الله تعالى" ثم قال البيهقي(2/150): قال أبو عبد الله ( الحاكم): هذا حديث صحيحٌ سنده, ثقاتٌ رواته.قال الشيخ(البيهقي):وقد روى في شواهده ثم في معارضته أحاديث لا يثبت مثلها وفي كتاب الله البيان لما قصدناه في إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الآل ومراده من ذلك أزواجه أو هن داخلات فيه "أهـ.
وروى أحمد(17029) والحاكم(3559)- واللفظ له- وغيرهما: عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، قال : جئت أريد عليا رضي الله عنه ، فلم أجده فقالت فاطمة رضي الله عنها : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه فاجلس فجاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل ودخلت معهما ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنا وحسينا فأجلس كل واحد منهما على فخذه وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ، ثم لف عليهم ثوبه وأنا شاهد فقال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا): اللهم هؤلاء أهل بيتي » «وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ».(1/228)
وفي رواية عند ابن حبان (6976) بسند صحيح والطبراني في الكبير(رقم 2670) والبيهقي في سننه (2690) بلفظ:" اللهم هؤلاء أهلي, اللهم أهلي أحق, قال واثلة: قلت يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي, قال واثلة رضى الله عنه: إنها لمن أرجى ما أرجو".
وقال البيهقي (2/152) : بعدما ذكر إسنادًا آخر لهذه الزيادة:" هذا إسناد صحيح وهو إلى تخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به وكأنه جعل واثلة في حكم الأهل تشبيها بمن يستحق هذا الاسم لا تحقيقًا, والله اعلم"أهـ.(1/229)
ثالثًا: إن معنى أهل البيت لا يقتصر على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعلي والحسن والحسين وأمهما رضي الله عنهم أجمعين بل من حرموا الصدقة هم من أهل بيته وهم :آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (2404) عن يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ, قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا,رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ, وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ, لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا, حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَقَدُمَ عَهْدِي وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا, وَمَا لَا فَلَا تُكَلِّفُونِيهِ, ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ, وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ, فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ, ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي(1/230)
أَهْلِ بَيْتِي, فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ, وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ قَالَ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ, قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ" .
فبني هاشم وبني المطلب- الذين حرموا الصدقة- كلهم من آل البيت.
* أما زعمهم بأن قوله تعالى: ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) دليل على عصمتهم لأن من أذهب الله عنه الرجس وطهره فهو معصوم,ومن ثمّ قالوا بعصمة الأئمة الاثنى عشر.
فهذا باطلٌ من وجوه :(1/231)
الأول: الإرادة المذكورة في الآية يقصد بها الإرادة الشرعية, وهي إرادة ما يحبه الله ويرضاه, ,كما في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } }{النساء:26-28} فالله عز وجل يريد أن يتوب على الناس جميعًا و يريد الهداية للناس ولكن هل تاب على الناس جميعًا ,أم من الناس مؤمن وكافر؟ فهذه إرادة شرعية-أي:أراد من الناس شرعًا أن يتوبوا ويهتدوا- فمنهم من استجاب ومنهم من أعرض,كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }{التغابن:2} وهذا بخلاف الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, كما فهموا هم من الآية, الإرادة القدرية نافذة لا اختيار فيها للعبد,كما في قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً }{ يونس:99 }(1/232)
ومما يؤيد أن المقصود بالإرادة المذكورة في الآية التي يحتجون بها هي الإرادة الشرعية-لا القدرية- دعاء النبي لأهل بيته بأن يذهب عنهم الرجس, كما في بعض روايات حديث أم سلمة قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس" (1) فإذا كان الله قد أذهب عنهم الرجس قدرًا فلماذا يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم,ومما يؤكد نفس المعنى-الإرادة الشرعية- قوله تعالى في آخرآية الوضوء: { وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }{المائدة:6},
وهذا ما فهمه أيضًا الشيعة الزيدية لذلك لا يقولون بعصمة أحدٍ من أصحاب الكساء غير النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) - كما في رواية لأحمد (26551) والترمذي (3787 ) ومسند أبي يعلى(7021) ورجاله رجال الصحيح, وكما ذكره الشيعة عن الباقر.
(2) - في تفسير الأعقم الزيدي(2/40) بيَّن أن إذهاب الرجس يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه حيث قال: يعني إنما يُذهب بأمره ونهيه فيأمركم بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والرجس الإِثم الذي نهى الله عنه، قيل: الشيطان والشرك، وقيل: كل قبيح.أهـ
وفي تفسير الكشاف(3/261) للزمخشري المعتزلي قال:ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ، ووعظهنّ ، لئلا يُقارفُ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم ، ولتصوّنو عنها بالتقوى . واستعار للذنوب : الرجس ، وللتقوى : الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما المحسنات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و { أَهْلَ البيت } نصب على النداء . أو على المدح . وفي هذا دليل بيّن على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته"أهـ.(1/233)
ونحن نعتقد أن الله أذهب الرجس عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعن سائر آل بيته, وأنه تعالى استجاب دعوة نبيه, ولكن هذا لا يعني عصمتهم, ويؤيد ذلك-أيضًا- الآتي بعد.
الثاني: التطهير حاصلٌ لغير أهل البيت كما في قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{التوبة:103} وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى? أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }{المائدة:6} فهل يعني ذلك عصمة من اتصف بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين.(1/234)
الثالث: إذهاب الرجس وحصول التطهير قد حدث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كما أخبر الله تعالى بذلك فقال: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }{الأنفال:11} فهل يعني ذلك عصمة كل هؤلاء (1) .إنه لا يشترط العصمة لأحدٍ لمجرد أن زكَّاه الله تعالى وطهّره وأذهب عنه الرجس ,إنما العصمة مقترنة بالنبوة, فلا عصمة لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) - عثمان الخميس/ حقبة من التاريخ ص:201-202
(2) - القرآن دل دلالة صريحة لا لبس فيها على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[النجم3-4] فأين ما يدل في القرأن على عصمة الأئمة دلالة صريحة؟ وما استدلوا به ليس صريحًا في ذلك, ولا يدل على ذلك أصلاً, وقد علمت تفسيره الحق, لذلك لم يقل بعصمة الأئمة أحد غير الشيعة الإمامية فقط , أما الشيعة الزيدية وسائر الطوائف مثل أهل السنة في ذلك , والأئمة أنفسهم جاء عنهم-في كتب الشيعة الاثنى عشرية- ما يفيد ذلك. ففي الكافي(2/75): عن جعفر الصادق قال: (ما معنا براءة من النار). وفي تفسير الأمثل لناصر الشيرازي (10/521-522): يقول الأصمعي: " كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حنونا لرجل يناجي ربه . بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب ..وقد تعلق بأستار الكعبة ، وكان يقول في مناجاته : يا سيدي ومولاي ، نامت العيون وغابت النجوم ، وأنت ملك حي قيوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها وحجابها ، وقد خلا كل حبيب بحبيبه ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنا سائلك, ببابك مذنب فقير ، خاطئ مسكين ، جئتك أرجو رحمتك يا رحيم ، وأن تنظر إلي بلطفك يا كريم ! ثم أنشد :
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم .....يا كاشف الكرب والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا..... وعين جودك يا قيوم لم تنم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف.....فمن يجود على العاصين بالنعم
هب لي بجودك فضل العفو عن سرف .....يا من أشار إليه الخلق في الحرم.
ثم رفع رأسه إلى السماء وناجى : إلهي, سيدي ومولاي ! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنة عليَّ ، وإن عصيتك بجهلي فلك الحجة عليَّ . ورفع رأسه ثانية إلى السماء مناجيًا بأعلى صوته : يا إلهي وسيدي ومولاي ، ما طابت الدنيا إلا بذكرك ، وما طابت العقبى إلا بعفوك ، وما طابت الأيام إلا بطاعتك، وما طابت القلوب إلا بمحبتك ، وما طاب النعيم إلا بمغفرتك . يضيف الأصمعي أن هذا الشاب واصل مناجاة ربه حتى أغمي عليه ، فدنوت منه وتأملت في مُحيَّاه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين ، فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيرًا ، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه ، فتح عينيه وقال : من الذي شغلني عن ذكر مولاي ؟ قلت : إنك من بيت النبوة ومعدن الرسالة . ألم تنزل فيكم آية التطهير ؟ ألم يقل الله فيكم : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا . نهض الإمام السجاد(زين العابدين) وقال : يا أصمعي ! هيهات هيهات ! خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيًا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا . ألم تقرأ القرآن ؟ ألم تسمع كلام الله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ .أهـ ويؤكد ذلك ما رواه ابن شهرآشوب في كتابه المناقب: عن طاووس اليماني عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه قال : " خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدًا حبشيًا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا "[ تفسير الأمثل(10/521) ونور الثقلين(3/562)](1/235)
بعد أن وضح ذلك جليًا تبين خطأ من تمسك بعصمة الأئمة الاثنى عشر واستدل بذلك على أحقيتهم بالإمامة بناءً على هذه الآية المباركة.
وإذا كانوا يخصون أهل البيت بمن ذكروا في حديث الكساء فقط فما الدليل على أنه في أبنائهم, دون سائر أبناء أهل البيت؟ ولماذا أولاد الحسين دون أولاد الحسن؟ ولماذا بعض أبناء الحسين دون سائر إخوانهم؟ ليس لهذا التقسيم عند القوم مستند ولا دليل من كتابٍ ولا سنة , اللهم إلاّ روايات لا أصل لها وضعها لهم الكذابون (1) , وما أكثر ما كانوا يكذبون على أهل البيت رضي الله عنهم , كما ذكر أهل البيت أنفسهم - وهم بيت الصدق- أن من شيعتهم من يكثر الكذب عليهم.
3- النساء:59
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
والمعنى:
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعَملوا بشرعه, استجيبوا لأوامر الله تعالى ولا تعصوه, واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به , وأطيعوا ولاة أمركم في غير معصية الله, فإن اختلفتم في شيء بينكم, فأرجعوا الحكم فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, إن كنتم تؤمنون حق الإيمان بالله تعالى وبيوم الحساب. ذلك الردُّ إلى الكتاب والسنة خير لكم من التنازع والقول بالرأي، وأحسن عاقبة ومآلا.
__________
(1) - اختيار أبناء الحسين دون أبناء الحسن رضي الله عنهما يدلل على الأيدي الخفية للفرس لأن الحسين رضي الله عنه كانت تحته بنت كسرى وأنجب منها فرأوا أن أولاده أحق بالملك من غيرهم .(1/236)
وأما معنى قوله { وأُولي الأمر منكم } فللمفسرين من أهل السنة والشيعة الزيدية والمعتزلة وغيرهم فيه قولان (1) :
أحدهما: أنهم الأُمراء عن أبي هريرة وابن عباس- في إحدى الروايتين- وميمون بن مهران والسُدّي واختاره ابن جرير الطبري.
والآخر: أنهم العلماء عن جابر بن عبد الله وابن عباس - في الرواية الأُخرى- ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة. واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: 83] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام.
قال الألوسي:
وحَمَلَه كثيرٌ ـ وليس ببعيد ـ على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز.أهـ (2)
وقال الشوكاني:
__________
(1) - أنظر: تفسير الطبري (8/498-499) والبغوي (2/239) والبيضاوي(1/ 206) تفسير أبي السعود(2/104) وانظر:الكشاف(1/536) للزمخشري المعتزلي, وتفسير الأعقم(1/117) من الزيدية.وكلاًمن تفسير أطفيش(2/118) والهواري(1/242) من الخوارج الإباضية.
(2) - تفسير الألوسي ( 5/ 66)(1/237)
لما أمر سبحانه القضاة، والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عزّ وجلّ هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر هم: الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد: طاعتهم فيما يأمرون به، وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله، ومجاهد: إن أولي الأمر، هم: أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك. وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، والراجح القول الأوّل.أهـ (1)
أما الشيعة الاثنى عشرية فعندهم أن المقصود بأولي الأمر:هم الأئمة الاثنى عشر.
قال في تفسير الصافي:
__________
(1) - فتح القدير للشوكاني ( 1/ 481 )(1/238)
وفي الإِكمال عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رض) قال لما نزلت هذه الآية قلت :يا رسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أولي الأمر الذين قرنهم الله طاعتهم بطاعتك فقال هم حلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن ابي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي صلوات الله عليهم المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرئه مني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي محمد وكنيي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي صلوات الله عليهم، ذاك الذي يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان, قال جابر:فقلت له يا رسول الله فهل لشيعته الإِنتفاع به في غيبته فقال أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان تجلاها سحاب, يا جابر :هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله, فاكتمه الا عن أهله.
والأخبار في هذا المعنى في الكتب المتداولة المعتبرة لا تحصى كثرة.أهـ (1)
وأما الطبرسي في المجمع فقد ذكر نفس القولين السابقين للمفسرين ثم قال:
__________
(1) - الصافي (1/464) وانظر تفسير كنز الدقائق (2/494) والعياشي(1/249-253)(1/239)
وأما أصحابنا فإنهم رووا عن الباقر والصادق (ع) أن أُولي الأمر: هم الأئمة من آل محمد أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحدٍ على الإطلاق إلاَّ من ثبتت عصمته وعلم أن باطنه كظاهره وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل في الأُمراء ولا العلماء سواهم جَلَّ الله عن أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل لأنه محال أن يطاع المختلفون كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه، ومما يدلّ على ذلك أيضاً أن الله تعالى لم يقرن طاعة أُولي الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته إلاَّ وأولو الأمر فوق الخلق جميعاً كما أن الرسول فوق أُولي الأمر، وفوق سائر الخلق، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم واتفقت الأُمة على علوِّ رتبتهم وعدالتهم.أهـ (1)
* وأما قوله تعالى{ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول } معناه: فإن اختلفتم في شيء من أُمور دينكم فردّوا التنازع فيه إلى كتاب الله وسنة الرسول، وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة- لا إلى غيرهما- كما قال تعالى { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }{ الشورى:10 } فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال.
ولقد غلا الطبرسي فقال: ونحن نقول: الرد إلى الأئمة- يقصد الأئمة الاثنى عشر- القائمين مقام الرسول بعد وفاته هو مثل الرد إلى الرسول في حياته لأنهم الحافظون لشريعته وخلفاؤه في أُمته فجَرَوْا مجراه فيه .أهـ (2)
وتوسط الطباطبائي فقال:
__________
(1) - مجمع البيان (3/114)
(2) - مجمع البيان (3/ 114-115)(1/240)
وأما أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي, وإنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم, ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول فقال: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }...
إلى أن قال:
ومن هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا -أن يضعوا حكماً جديداً, ولا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب والسُنّة, وإلاَّ لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسُنّة والرد إلى الله والرسول معنى على ما يدل عليه قوله:{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً }[الأحزاب: 36]، فقضاء الله هو التشريع وقضاء رسوله إما ذلك وإما الأعم, وإنما الذي لهم: أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية, وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامة.
وبالجملة: لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع, ولا عندهم إلاَّ ما لله ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسُنّة لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الرد بقوله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } أهـ (1) .
فوائد ذات صلة:
__________
(1) - تفسير الميزان للطباطبائي (4/ 388-389).(1/241)
الأولى: سبب نزول الآية:روى الجماعة إلا ابن ماجة عن ابن عباس: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ } قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية (1) ، وروى الإمام أحمد والشيخان: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شيء، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قال: فهمّ القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال لهم: " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف (2) " .
__________
(1) - رواه أحمد(3124) والبخاري(4308) ومسلم(1834) وأبو داود(2624) والترمذي(1672) والنسائي(4194) وغيرهم.
(2) - أحمد(622) والبخاري(6726) ومسلم(1840) وأبو داود(2625) والنسائي(4205) وغيرهم.(1/242)
الثانية: كرر الفعل (أطيعوا) وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناءاً بشأنه عليه الصلاة والسلام, وأيضًا لقطع توهم أنه لا يجب امتثال ما جاء في السنة و ليس في القرآن, وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثمّ لم يكرر الفعل في قوله سبحانه: { وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ } إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك تعلم خطأ الطباطبائي حين قال: فللَّه تعالى إطاعة واحدة, وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة, ولذلك قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.أهـ (1)
وكذا خطأ من ادعى منهم أن الأمر بطاعة أولي الأمر دليلٌ على عصمتهم محتجًا بأنّ الله لا يأمر بطاعة المخطيء.ويردُّه أن الله لم يجعل لأولي الأمر-في الآية- طاعة مطلقة مستقلة بل هي مقيدة بطاعة الله ورسوله.ولم يأت في القرآن الكريم-ولا في السنَّة- استقلالٌ بالطاعة المطلقة إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }[المائدة:92]
وقوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }[النور:54]
وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33]
وقوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[التغابن:12]
وقوله تعالى:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }[الحشر:7]
__________
(1) - تفسير الميزان للطباطبائي (4/ 389).(1/243)
الثالثة: يجب على المسلم السمع والطاعة للأمراء- في المعروف- لأن في ذلك مصلحة الأمة وفي ضده مفسدة عظيمة ومضرَّة بالغة, فإذا أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة إذ لا طاعة لأحدٍ – كائنًا من كان- في معصية الله عزّ وجلّ.وجاءت أحاديث كثيرة تؤكد ذلك وتبين ما على الرعية تجاه أمرائهم.نذكر منها:
- ما أخرجه البخاري(6725)ومسلم(1839) وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة ".
- وأخرج أحمد (1065) وابن أبي شيبة(33709) وابن حبان(4568) وغيرهم- بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم- عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى ".
- وروى البخاري(6647) ومسلم(1709) وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان "
- وفي مسند أحمد(12147) وصحيح البخاري (661) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ".
- وفي صحيح مسلم (1837) وسنن ابن ماجة(2862) وغيرهما:عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف".
- وفي مسند أحمد(16697) وصحيح مسلم( 1838)- واللفظ له- عن أم الحصين رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع وهو يقول: " لو استعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب الله عز وجل، فاسمعوا له وأطيعوا " .(1/244)
- وروى أحمد (6503) ومسلم (1844)- واللفظ له- والنسائي(4191) وابن ماجة(3956) وغيرهم :عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر " ، قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُو?اْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُو?اْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله".(1/245)
- وأخرج الطبراني في الأوسط(6/247) والدارقطني في سننه(2/55) وابن جرير: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البرّ ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم ".
- وفي الصحيحين: البخاري(3268) ومسلم(1842):عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون " قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: " أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم " .
- وروى أحمد(2487) والبخاري(6646) ومسلم(1849) وغيرهم:عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى من أميره شيئاً فكرهه، فليصبر، فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية " .
الرابعة: استدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب، وبإطاعة الرسول العمل بالسُّنَّة، وبالرد إليهما القياس, لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئاً وراء ذلك، وقد علم من قوله سبحانه: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع. (1)
* * *
((
__________
(1) -تفسير الألوسي(5/ 66-67)(1/246)
أمثلة من تفسير بعض الآيات التي- بزعمهم- نزلت في فضل الأئمة ومن والاهم وذم أعدائهم, وأن للأئمة كرائم القرآن (1) ))
1- البقرة:143
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
والمعنى الإجمالي للآية:
__________
(1) - قال محقق تفسير القمي في مقدمته( ص:21-22) : كل ما ورد في القرآن من المدح كناية وصراحة فهو راجع إلى محمد وآله الطاهرين ، وكل ما ورد فيه من القدح كذلك فهو لأعدائهم أجمعين السابقين منهم واللاحقين ويحمل عليه جميع الآيات من هذا القبيل وإن كان خلافا للظاهر لأن أسلوب البيان وحفظه عن النقصان يقتضي الكناية وهي أبلغ من التصريح وألطف ، فلا مشاحة فيها بعد ورود دليل قاطع من العقل!! والنقل ، ولا ينكره إلا من كان دأبه على المكابرة والدجل.أهـ ولست أدري أي عقل هذا الذي يقبل تحريف معاني القرآن وصرفها عن ظاهرها.نعوذ بالله من اتباع الهوى, واعلم أن كثيرًا ممن لا يقولون بتحريف القرآن أو نقصانه صراحة– كأكثر مشايخهم المعاصرين- يلجأون إلى مثل هذا القول الذي قاله هذا المحقق و يزعمون أن القرآن جاء بالكناية في شأن الأئمة ولم يأت بالتصريح لأنه لو جاء بالتصريح لأسقط الصحابة هذا التصريح وحذفوه من القرآن.ولا يخفى على كل عاقل أنهم لجأوا إلى هذا القول لعجزهم عن إثبات إمامة أئمتهم الاثنى عشر أوعصمتهم من القرآن الكريم.إذ ليس في القرآن آية واحدة تصرح بما يقولون فلجأوا إلى القول بالكناية.(1/247)
ولهذه المشيئة-المذكورة في الآية السابقة- هديناكم إلى الطريق الأقوم، وجعلناكم أمة عدولاً خياراً بما وفَّقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقررى الحق بالنسبة للشرائع السابقة، وتكونوا شهداء على الناس من سائر الأمم,وعلى أن أنبياءهم قد أبلغوهم رسالات الله, ويكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم .
أما القبلة إلى بيت المقدس والتي شرعناها لك حيناً من الدهر ثم أمرناك أن تتحول عنها فإنما جعلناها امتحانا للمسلمين، ليتبين منهم من يطيع أوامر الله ويتبع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن يغلب عليه هواه فيضلّ عن سواء السبيل.
ولقد كان الأمر بالتوجه الى بيت المقدس ثم التحول إلى الكعبة شاقاً إلاّ على الذين وفقهم الله إلى الإيمان. والله رؤوف بعباده، لأنه ذو رحمة واسعة فلا يُضيع عمل عامل من عباده.
قال الشنقيطي:
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الآية.
أي: خياراً عدولاً. ويدل لأن الوسط الخيار العدول قوله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
[آل عمران: 110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
قوله تعالى: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }.
لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو الآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر أنه شهيد عليهم في الآخرة، وذلك في قوله:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثا }[النساء: 41-42].
قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ } الآية.(1/248)
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا:{ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }[آل عمران: 154]
فقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } بعد قوله: { وَلِيَبْتَلِيَ } دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه. ومعنى { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى وقوله: { مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } أشار إلى أن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله مخاطباً له: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } الآية. لأن هذا الخطاب له إجماعاً.
قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }.
أي صلاتكم إلى بيت المقدس على الأصح، ويستروح ذلك من قوله قبله: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } الآية. ولا سيما على القول باعتبار دلالة الاقتران، والخلاف فيها معروف في الأصول.أهـ (1)
أما الشيعة الاثنى عشرية فيرون أن الشهداء والعدول هم الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت وأنهم فقط هم المعنيون بذلك في الآية المباركة:
قال القمي:
__________
(1) - الشنقيطي/تفسير أضواء البيان( 1/46)(1/249)
أما قوله: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } يعنى أئمة وسطاً أي عدلاً وواسطة بين الرسول والناس والدليل على أن هذا مخاطبة للأئمة عليهم السلام قوله في سورة الحج { ويكون الرسول شهيداً عليكم } يا معشر الأئمة { وتكونوا - أنتم - شهداء على الناس } وإنما نزلت { وكذلك جعلناكم أئمة وسطاً }أهـ (1) .
وقال الفيض الكاشاني في تفسيره (الصافي) :
{ (143) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً } القمّي: أئمة { وَسَطاً } قال أي عدلاً واسطة بين الرسول والناس.
أقول: فالخطاب للمعصومين عليهم السلام خاصة { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ } يعني يوم القيامة
{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } في الكافي والعياشي عن الباقر عليه السلام: نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه وسمائه. وفي حديث ليلة القدر عنه عليه السلام : وايم الله لقد قضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم علينا ولنشهد على شيعتنا وليشهد شيعتنا على الناس.
أقول: أراد بالشيعة خواص الشيعة الذين معهم وفي درجتهم كما قالوا شيعتنا معنا وفي درجتنا, لئلا ينافي الخبر السابق والأخبار الآتية، وفي شواهد التنزيل عن أمير المؤمنين عليه السلام :إيّانا عني بقوله{ لتكونوا شهداء على الناس} فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه ونحن الذين قال الله (وكذلك جعلناكم أمّة وسَطاً) .
والعياشي :عن الباقر عليه السلام نحن نمط الحجاز, قيل: وما نمط الحجاز؟ قال: أوسط الأنماط إن الله يقول {وكذلك جعلناكم أمّة وسَطاً} قال: إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصّر.
__________
(1) -تفسير القمي (1/63) وانظر تفسير كنز الدقائق (1/361)(1/250)
وفي المناقب: عنه عليه السلام: إنما أنزل الله (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيداً عليكم!!) قال: ولا يكون شهداء على الناس إلا الأئمة والرسل, فأمّا الأمّة فإنه غير جائز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل.
أقول: لعل المراد بهذا المعنى أنزل الله , وقد مضى في دعاء إبراهيم ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك وقد عرفت هناك أن الأمة بمعنى المقصود سميت بها الجماعة لأن الفرق تؤمها.أهـ (1)
فوائد ذات صلة:
الأولى: سبب نزول الآية: روى البخاري(4216) وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }".
الثانية: فسّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله:(أمة وسطًا) بمعنى (عدلاً) فلا يجوز لأحدٍ- كائنًا من كان- أن يعدل عن تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم, فقد روى أحمد(11083)والبخاري(6917) والترمذي(2961) وغيرهم:عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: «عدلاً».
الثالثة: لما جعل الله هذه الأمة وسطاً، خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى:
{
__________
(1) - الصافي (1/196-197)(1/251)
هُوَ اجتباكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } [الحج: 78]
الرابعة: جاء في السنة أحاديث كثيرة تبين فضل هذه الأمة على غيرها, وأنهم شهداء على الناس, نذكر منها:
- ما ورد في روايات الحديث السابق الذي رواه أحمد (11301) والبخاري( -4217- 6917) والترمذي (2961) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله: { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: والوسط: العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم " .
وفي رواية للإمام أحمد ( 11575) وابن ماجة( 4284 ) بسند صحيحً: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله عز وجل: { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال: عدلاً { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ".(1/252)
- وروى الإمام أحمد( 139) و البخاري( 2500) والترمذي( 1059 ) والنسائي( 1934) عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة، فوافقتها وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرت به جنازة، فأثني على صاحبها خيراً، فقال: وجبت وجبت، ثم مر بأخرى، فأثني عليها شراً، فقال عمر: وجبت.فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة " قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: فقال: " وثلاثة " قال: فقلنا: واثنان؟ قال: " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد".
الخامسة:قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلّي إلى بيت المَقْدس , وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } قال: صلاتكم . فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيةٍ وقول وعملٍ. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قولَ المُرْجِئة: إن الصلاة ليست من الإيمان (1) .
__________
(1) -تفسير القرطبي( 2/140 ), ومعنى قول الإمام مالك أن في الآية رد على المرجئة,لأنهم يرون أن العمل ليس من الإيمان.وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانًا وهي من العمل.(1/253)
السادسة: لا يعني خيرية الأمة ووسطيتها وعدالتها عدالة كل فردٍ فيها , بل منها الفاسق الذي لا تقبل شهادته, وقد يكون في آحاد الأمم السابقة من هو خير من آحاد هذه الأمة, وإنما نالت الأمة خيريتها باعتبار العموم, فنسبة العدول والأخيار في هذه الأمة يفوق كل الأمم, بل إن القرون الثلاثة الأولى المفضلة من هذه الأمة هم أفضل الناس على الإطلاق بعد النبيين, كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ( 3594) والبخاري( 2509) ومسلم (2533) والترمذي(3859) وابن حبان( 7222) وغيرهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ". وأكثر أهل الجنة من هذه الأمة كما روى أحمد (3661) والبخاري( 6163) ومسلم (221) وابن ماجه(4283) وابن حبان (7245) وغيرهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: قُلْنَا :نَعَمْ, فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقُلْنَا :نَعَمْ, قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ , فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِ مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَذَاكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ" .(1/254)
وروى أحمد(23052)- بسند صحيح- وكذا ابن أبي شيبة(7/426) والدارمي(2835) والترمذي(2546) وابن ماجة (4289) وغيرهم عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، هذه الأمة منها ثمانون صفًا "وفي مسند أحمد(9069) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:{ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: { ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الْآخِرِينَ }فَقَالَ: أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمْ النِّصْفَ الْبَاقِي"[ قال شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره].يؤيد ذلك ما يلي:
2- آل عمران:110
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
والمعنى:
أنتم - يا أمة محمد - أفضل أمة خلقها الله تعالى لنفع الناس، ما دمتم تأمرون بالطاعات وتنهون عن المعاصى، وتؤمنون بالله إيماناً صحيحاً صادقاً، يصدق هذا الوصف على الذين خوطبوا به أولاً، وهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وعلى من جاء بعدهم ممن تحققت فيه هذه الصفات, ولو صدق أهل الكتاب فى إيمانهم مثلكم لكان خيراً لهم مما هم عليه، ولكن منهم المؤمنون كعبد الله بن سلام، ورهطه، وأكثرهم خارجون عن حدود الإيمان وواجباته.
وقال ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى:{ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }[البقرة: 143] أي: خياراً
{(1/255)
لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ }[البقرة: 143] الآية.أهـ (1)
قال القرطبي في تفسيره:
روى الترمذيّ عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جدّه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: " أنتم تُتمّون سبعين أُمَّة أنتم خيرها وأكرمها عند الله " (2) وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام. وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بَدْراً والحُديبِيّة. وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم. وقيل: هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ كما تقدّم في البقرة. وقال مجاهد: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } على الشرائط المذكورة في الآية. وقيل: معناه (كنتم) في اللوح المحفوظ. وقيل: كنتم مُذْ آمنتم خيرَ أمَّةٍ. وقيل: جاء ذلك لتقدّم البشارة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته. فالمعنى كنتم عند من تقدّمكم من أهل الكتب خيرَ أمّةٍ. وقال الأخفش: يريد أهل أمّةٍ، أي خير أهل دين؛ وأنشد:
حلفتُ فلم أتْركْ لنفسك رِيبة ًـ وهلْ يأْثَمَنْ ذو أمَّةٍ وهو طائعُ
وقيل: هي كان التامّة، والمعنى خُلِقْتم ووُجِدتُم خيرَ أمّةٍ. «فخير أمّة» حال. وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمّةٍ. وأنشد سيبويه:
وجِيرانٍ لنا كانوا كرامِ
ومثله قوله تعالى:{ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }[مريم: 29].
وقوله:{ وَاذْكُرُو?اْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ }[الأعراف: 86]. وقال في موضع آخر:
{
__________
(1) -تفسير ابن كثير(1/391)
(2) - الترمذي(3001) وحسنه, والحاكم(6987) وقال:صحيح الإسناد.وحسنه الألباني.(1/256)
وَاذْكُرُو?اْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ }[الأنفال: 26]. وروى سفيان عن مَيْسَرة الأشجعيّ عن أبي حازم عن أبي هريرة { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: تجرّون الناس بالسلاسل إلى الإسلام. قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمّة. وعلى قول مجاهد: كنتم خيرَ أمّةٍ إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمَّةٍ محمد صلى الله عليه وسلم خير أمَّةٍ لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أَفْشَى. أهـ (1)
وأما الشيعة الإمامية فيرَوْن أن هذه الأفضلية المذكورة في الآية ليست للأمة المحمدية وإنما هي للأئمة من أهل البيت, وقد نزلت فيهم :
قال الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ } الكون فيها يعمّ الأزمنة غير متخصص بالماضي كقوله تعالى وكان الله غفوراً رحيماً { أُخْرِجَتْ } أظهرت { لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } استئناف بيّن به كونهم خير أمة أو خبر ثان لكنتم { وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ } يتضمن الإِيمان بكل ما يجب أن يؤمن به لأن الإِيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإِيمان بكل ما أمر أن يؤمن به وانما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله وتصديقاً به واظهاراً لدينه.
القمّي: عن الصادق عليه السلام أنه قرأ عليه{ كنتم خير أمة} فقال: خير أمة يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي صلوات الله وسلامه عليهم فقال القارئ: جعلت فداك كيف نزلت فقال نزلت: {كنتم خير أئمة أُخرجت للناس}ألا ترى مدح الله لهم{ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
__________
(1) - تفسير القرطبي (4/148 )(1/257)
والعياشي :عنه عليه السلام قال في قراءة عليّ: (كنتم خير أئمة (1) أُخرجت للناس) قال هم آل محمد.
وعنه عليه السلام: إنما نزلت هذه الآية على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فيه وفي الأوصياء خاصة, فقال:{ أنتم خير أئمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} هكذا والله نزل بها جبرائيل, وما عنى بها إلا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام .أهـ (2)
أما الطوسي في تفسيره فقد نحا نحو أهل السنة في التفسير ثم فى النهاية أضاف ما يعتقده كسائر طائفته أن المقصود بها الأئمة المعصومين عندهم فقال:
وليس في الآية ما يدل على أن الإجماع حجة على ما بيناه في أصول الفقه. وتلخيص الشافي، وجملته أن هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد به جميع الأمة، لأن أكثرها بخلاف هذه الصفة , بل فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. ومتى كان المراد بها بعض الأمة، فنحن نقول أن في الأمة من هذه صفته، وهو من دل الدليل على عصمته.أهـ (3)
__________
(1) - هذا تحريف واضح لكتاب الله تعالى , وعلي رضي الله عنه بريء من هذه القراءة المحرفة التي ليست في كتاب الله تعالى, بل رواية حفص عن عاصم-المكتوبة الآن في المصاحف والمحفوظة في الصدور- هي ما كان يقرأ بها علي رضي الله عنه فقد سبق أن بيَّنا أن عاصمَا أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) - الصافي (1/370-371)
(3) - التبيان للطوسي(2/558)(1/258)
ونقول للطوسي: لم يقل أحد إن جميع الأمة يتصفون بما ذكر في الآية المباركة من صفات الخيرية, ولكن هذا لا ينفي خيرية هذه الأمة وأنها أفضل الأمم عند الله تعالى لأن المتصفين بهذه الصفات من هذه الأمة أكثر بكثير ممن اتصف بها من أي أمةٍ أخرى, بل من اتصف بها من هذه الأمة وحدها أكثر ممن اتصف بها من الأمم السابقة مجتمعة, لذا استحقت هذه الخيرية دون غيرها من الأمم, والأمة التي نالت هذه الخيرية كيف يعقل أن تقتصر صفات الخيرية المذكورة في الآية على عدد قليل هم الأئمة الاثنى عشر؟ مع أن الأمم السابقة فيها من المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ما يفوق هذا العدد أضعافًا مضاعفة,فما بالك بخير أمة؟ وقد ذكرنا فيما مر قريبًا بعض الأحاديث الواردة في فضل هذه الأمة التي سيكون ثلثا أهل الجنة منها إن شاء الله تعالى.
3- التوبة:105
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
والمعني:(1/259)
قل لهم أيها الرسول: اعملوا لِدُنياكم وآخرِتكم ولا تقصّروا في عمل الخير وأداء الواجب. إن ربّكم يعلم كل أعمالكم، وسيراها هو والرسول والمؤمنون، فيزِنونها بميزان الإيمان ويشهدون بمقتضاها. فالمؤمنون يعلمون صلاح العبد أو فساده من خلال عمله و سيرته في الدنيا, ويشهدون له بذلك . كما في الحديث المتفق عليه [البخاري(1301) ومسلم(949)] عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُالُ:مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ, ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا, فَقَالَ, وَجَبَتْ, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ:" هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ"
ثم ترجعون بعد الموتِ الى الله الذي يعلم سِركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم. (1)
قال الشوكاني:
قوله: { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } فيه تخويف وتهديد: أي إن عملكم لا يخفى على الله، ولا على رسوله ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمال الخير، وأخلصوا أعمالكم لله عزّ وجلّ، وفيه أيضاً ترغيب وتنشيط، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيراً أو شرّاً رغب إلى أعمال الخير، وتجنب أعمال الشرّ، وما أحسن قول زهير:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
__________
(1) - أنظر تفسير القطان(2/166) الطبري(14/462-463) والبغوي(4/92) والنسفي(1/462)(1/260)
والمراد بالرؤية هنا: العلم بما يصدر منهم من الأعمال، ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال: { وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي: وستردّون بعد الموت إلى الله سبحانه، الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه، وما تخفونه وما تبدونه. وفي تقديم الغيب على الشهادة: إشعار بسعة علمه عزّ وجلّ، وأنه لا يخفى عليه شيء، ويستوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردّهم إليه فقال: { فَيُنَبّئُكُمْ } أي: يخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده.أهـ (1)
أما الشيعة الاثنى عشرية فزعموا أن الأعمال تعرض على أئمتهم.وأنهم- فقط- المقصودون بقوله تعالى(المؤمنون) في الآية.وهذا تخصيص بلا دليل ولا مخصص إلاّ اتباع الهوى.وتحريف للكلم عن مواضعه وزعموا أنها نزلت (المأمونون) وليست(المؤمنون) . ثمّ لماذا تُعرض الأعمال على أئمتهم ؟ والله تعالى يقول لنبيه الذي هو أفضل الخلق { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } {آل عمران:128}
قال القمي:
حدثني أبي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } المؤمنون ها هنا الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم.
وعن محمد بن الحسن الصفار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أعمال العباد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروا فليستحيي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح،
__________
(1) - فتح القدير للشوكاني(2/400)(1/261)
وعنه صلوات الله عليه وآله قال: ما من مؤمن يموت أو كافر يوضع في قبره حتى يعرض عمله على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى أمير المؤمنين عليه السلام وهلم جرا إلى آخر من فرض الله طاعته فذلك قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }.أهـ (1)
وقال الطوسي:
وروي في الخبر أن أعمال العباد تعرض على النبي صلى الله عليه وآله في كل اثنين وخميس فيعلمها، وكذلك تعرض على الأئمة عليهم السلام فيعرفونها، وهم المعنيون بقوله { والمؤمنون } أهـ (2)
و قال الفيض الكاشاني:
( وَقُلِ اعْمَلُواْ } ما شئتم { فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمؤْمِنُونَ } خيراً كان أو شرّاً.
في الكافي والعياشي: عن الباقر عليه السلام أنّه ذكر هذه الآية فقال: هو والله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وعن الصادق عليه السلام: أنّه سُئل عن هذه الآية فقال والمؤمنون هم الأئمة عليهم السلام. والقميّ عنه عليه السلام مثله.
وفي الكافي :عنه عليه السلام قال: إيّانا عنى, وعنه عليه السلام أنّه قرأ هذه الآية فقال: ليس هكذا هي, إنّما هي: والمأمونون, فنحنُ المأمونون.أهـ (3) .
__________
(1) - تفسير القمي(1/304) وانظر: تفسير العياشي(2/109) ونور الثقلين(2/262) وبحار الأنوار(23/340)
(2) - التبيان للطوسي(5/295)
(3) - تفسير الصافي(2/373 )(1/262)
وأقول: لا يخفى على عاقل تهافت هذا القول الذي يزعمونه, بل و معارضتة لصريح القرآن الذي يبين أن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون كلّ ما يفعله أقوامهم لا في حياتهم ولا بعد موتهم صلوات الله عليهم أجمعين, قال تعالى:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }{المائدة:109} وقال عيسى (1)
__________
(1) - يجوز أن ينسب القول من القرآن إلى قائله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور أعلاه , وكما قالت أم المؤمنين عائشة في قصة الإفك:" وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }[سورة يوسف:] ".رواه مسلم(4674) وغيره..(1/263)
عليه السلام:{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }{المائدة:117} وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ, فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ(أي:عيسى عليه السلام):{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فتأمل معنى (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك), بل وأظهر من ذلك: أنه كان في المدينة بعض المنافقين ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم مما يؤكد أنه لم يطلع على أعمالهم, مع أنه كان يعاشرهم, كما قال تعالى:{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } {التوبة:101} .فإذا كان هذا مع الأنبياء فما الظن بمن دونهم.
4- الإسراء:71
{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.
والمعنى:
اذكر أيها النبي لقومك يوم ندعو كلَّ قومٍ بإمامهم وهو كتابهم الذي فيه أعمالهم أوندعوهم باسم إمامهم وزعيمهم وقد يكون إمام هدىً كالأنبياء أو إمام ضلالة كفرعون ، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه وهم السعداء فأولئك يقرأون كتابهم مسرورين ، ولا ينقص من أجرهم شيء مهما كان قليلاً لا قيمة له كالفتيل وهو الخيط الضئيل الذي على نواة التمر.(1/264)
* ولكن نرى كتب الشيعة الإثنى عشرية تحصر أئمة الهدى بعد النبي صلى الله عليه وسلم في أئمتهم الاثنى عشر فقط ,وغيرهم أئمة جور وضلال . ولننقل تفسير الآية من أحد تفاسيرهم التي تنقل أقوال بعض علمائهم ومفسريهم الآخرين:
قال الفيض الكاشاني في تفسيره:
{ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ } بمن ائتّموا به من نبيّ أو وصّي أو شقي.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام قال بإمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه.
والقمّي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية قال: يجيء رسول الله صلىَّ اللهُ عليه وآله وسلم في قومه وعليّ عليه السلام في قومه, والحَسَن عليه السلام في قومه, والحُسين عليه السلام في قومه, وكلّ من ماتَ بين ظهرانيّ قوم جاؤا معه.والعياشي ما يقرب من معناه.
وفي الكافي والعياشي: عن الباقر عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلّهم أجمعين فقال أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمّة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذّبون ويظلمهم أئمّة الكفر والضلال وأشياعهم فمن والاهم واتبعهم وصدّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني , ومن ظلمهم وكذّبهم فليس منّي ولا معي وأنا منه بريء.
وفي المجالس: عن الحسين عليه السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إمام دعا إلى هدىً فأجابوه إليه, وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها, هؤلاء في الجنّة وهؤلاء إلى النار, وهو قوله تعالى: { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى : 7]
والعياشي: عن الصادق عليه السلام سيدعى كل أناس بإمامهم أصحاب الشمس بالشمس وأصحاب الَقمَر بالقمر وأصحاب النار بالنار وأصحاب الحجارة بالحجارة.(1/265)
وفي المحاسن: عنه عليه السلام أنتم والله على دين الله ثمّ تلا هذه الآية ثم قال: عليّ عليه السلام إمامنا ورسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إمامنا وكم من إمام يجيء يوم القيامة يلعن أصحابه ويلعنونه.
وفي المجمع: عنه عليه السلام ألا تحمدون الله إذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إلى من يتولّونه وفزعنا إلى رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم وفزعتم إلينا فإلى أين ترون أين نذهب بكم؟ إلى الجنة وربّ الكعبة, قالها ثلاثاً { فَمَنْ أُوْتِيَ كَتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } مبتهجين بما يرون فيه { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء والفتيل المفتول الذي في شقّ النّواة."أهـ (1)
وأقول: كلمة"إمام" من الألفاظ المشتركة التي تحتمل أكثر من معنى.منها الإمام بمعنى القائد المتبوع,وهذا قد يكون إمام هدى كالأنبياء ومن سار على نهجهم من الخلفاء والمتبوعين,وقد يكون إمام ضلالة كفرعون وأمثاله.
وقد يكون الإمام بمعني الكتاب كما سمى الله تعالى كتاب موسى"إمامًا ورحمة"[ سورة هود آية:17]
وفي كتب الشيعة: قال سيدنا علي في الصحيفة العلوية ( أشهد أن القرآن إمامي ) وكذلك في نهج البلاغة اعتبر القرآن إماماً .
ولكن معنى الإمام في هذه الآية المباركة هو كتاب الأعمال ,أي السجل الذي تُسجل فيه الأعمال بقرينة جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه } كما في بقية الآية, وقد سمى الله تعالى سجل الأعمال بالإمام المبين كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }{ سورة يس:12}.
قال الشنقيطي:
قوله تعالى: { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ }.
قال بعض العلماء: المراد " بإمامهم " هنا كتاب أعمالهم.
__________
(1) - تفسير الصافي (3/206-207)(1/266)
ويدل لهذا قوله تعالى: { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي? إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس:12]، وقوله: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[الجاثية:28].
وقوله:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ }[الكهف:49] الآية، وقوله:
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }
[الإسراء:13] واختار هذا القول ابن كثير. لدلالة آية " يس " المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن.
وعن قتادة ومجاهد: أن المراد " بإمامهم " نبيهم.ويدل لهذا القول قوله تعالى:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[يونس:47]،وقوله:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيداً }وقوله:{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤلاء }[النحل:89] الآية، وقوله:{ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ }[الزمر:69] الآية.
قال بعض السلف: وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم: { بِإِمَامِهِمْ } أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. وممن قال به: ابن زيد، واختاره ابن جرير.(1/267)
وقال بعض أهل العلم: { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى:{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [القصص:41] الآية. وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.
فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمون فتيلاً.
وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله:{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ }[الحاقة:19] - إلى قوله -{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ }[الحاقة:25] وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.
وقول من قال: إن المراد " بإمامهم " كمحمد بن كعب " أمهاتهم " أي يقال: يا فلان بن فلانة - قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً: " يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ".أهـ (1)
* * *
((تفسير آية المباهلة (2) التي يفضلون بها عليًّا على سائر الصحابة بل سائر الناس))
* آل عمران:59-61
{
__________
(1) - أضواء البيان (3/ 177)
(2) - المباهلة: أي الملاعنة, يقال : بَهَله الله:أي لعَنه.أنظر:معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية (3/204) والمعجم الوسيط (بهل) (1/76)(1/268)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }
والمعنى الإجمالي للآيات:
قد ضلَّ قوم فى أمر عيسى، فزعموا أنه ابن الله لأنه ولد من غير أب، فقال الله لهم: إن شأن عيسى فى خلقه من غير أب كشأن آدم فى خلقه من تراب من غير أب ولا أم، فقد صوَّره وأراد أن يكون فكان بشراً سوياً.
هذا البيان فى خلق عيسى هو الصدق الذى بيَّن الواقع بإخبار رب الوجود فدم على يقينك، ولا تكن من الشاكين.
فمن جادلك - يا أيها النبى - فى شأن عيسى من بعد ما جاءك من خبر الله الذى لا شبهة فيه، فقل لهم قولا يظهر علمك اليقينى وباطلهم الزائف: تعالوا يدع كل منَّا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه، ثم نضرع إلى الله أن يجعل غضبه ونقمته على من كذب فى أمر عيسى من كونه خلق من غير أب وأنه رسول الله وليس ابن الله. (1)
وبالرجوع إلى كتب التفاسير لتفسيرهذه الآيات نستنتج ما يلي (2) :
__________
(1) - المنتخب ص:80
(2) - أنظر تفسير الطبري(6/473-481) والبغوي (2/48) وصفوة التفاسير(1/206) وابن كثير(1/367-368) وتفسيرالشوكاني(1/346-348) وفيه:أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} الآية قال:فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده.(1/269)
أولاً: ذكرت كتب التفاسير والسِيَر أن الآيات من أول السورة إلى آية المباهلة نزلت في وفد نجران من النصارى.وقالوا :إن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم.
ثانيًا: في الآيات فضيلةٌ ومنقبة ظاهرة لمن جاء بهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته وقد روى مسلم (2404) عن سعد بن أبي وقاص لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي". ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وأهل السُّنة يثبتون فضائله وفضائل غيره من الصحابة رضي الله عنهم, وهذا من إنصافهم, بخلاف الشيعة الإمامية فهم لا يذكرون فضائل الصحابة وخاصة كبار الصحابة كبقية العشرة المبشرين بالجنة ويظهرون مناقب علي رضي الله عنه سواء ما صح منها أم لم يصح, بل ويبالغون في الاستنباط منها, حتى بلغ الضلال ببعضهم أن زعم أن هذه الآية تبين أن عليًا أفضل من كل الأنبياء إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم,بدعوى أنه المقصود بكلمة(أنفسنا) ونفس النبي صلى الله عليه أفضل من أنفس سائر الأنبياء فيصير عليٌّ كذلك.وهذا غلو ممقوت, وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره إلى من قال ذلك ورد عليه (1) .
__________
(1) - تفسير الرازي ( 8/ 87), وقد سمعت ورأيت أحد مشايخ الشيعة الاثنى عشرية على الشاشة المرئية يفضل علي بن أبي طالب على المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي هو من أولي العزم الخمسة من الرسل (نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام) وهم أفضل الرسل على الإطلاق.فانظر كم بلغ بهم الغلو , سبحانك هذا بهتان عظيم.(1/270)
ثالثًا: منقبة لعبيدة بن الجراح رضي الله عنه, إذ لما امتنع وفد نجران عن المباهلة خوفًا من انتقام الله منهم,طلبوا المصالحة والنزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم , ورضوا بالجزية, طلبوا أن يرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمينًا من أصحابه فأرسل أبا عبيدة عامر بن الجراح, فقد روى البخاري (4119) وغيره عن حذيفة رضي الله عنه، قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عَقِبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: " لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين " فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا أمين هذه الأمة ".
رابعًا: خوف وفد نجران من المباهلة دليلٌ على أنهم يشكون في عقيدتهم,وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم صادق, ولو باهلوا لأصابتهم اللعنة. كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد(2225) , والترمذي(3348) وصححه, وأبو يعلى(2604) عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل قبحه الله: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته، قال: فقال: " لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً " .
خامسًا: { ندع أَبْنَاءَنَا } دليل على أن أبناء البنات يسمَّون أبناءً , وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها إلى المباهلة.(1/271)
قال القرطبي: قال كثير من العلماء: إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهَلَ { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } وقوله في الحسن: " إن ابني هذا سيد " مخصوص بالحسن والحسين أن يسمَّيا ابنيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيرهما؛ لقوله عليه السلام: " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي " (1) ولهذا قال بعض أصحاب الشافعيّ فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابنٍ وولد ابنة: إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة؛ وهو قول الشافعيّ. أهـ (2) .
ومن الشيعة قال الفيض الكاشاني:
{
__________
(1) - حسن بشواهده, رواه أحمد(18950 )عن المسور بن مخرمة, والحاكم (4684) عن عمر , وصححه , وقال الذهبي:منقطع , ورواه البزار في مسنده عن عمر(274 ) وقال:وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن زيد بن أسلم عن عمر مرسلاً, ولا نعلم أحدًا قال : عن زيد عن أبيه إلا عبد الله بن زيد وحده.
وصححه الألباني في صحيح الجامع(4189)
(2) - تفسير القرطبي ( 4/93)(1/272)
فَمَنْ حَاجّكَ } من النصارى { فِيْهِ } في عيسى عليه السلام { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } من البيّنات الموجبة للعلم { فَقُلْ تَعَالَوْا } هَلمّوا بالرأي والعزم { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ } أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه واعزّه أهله والصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها وإنّما قدّمهم على النفس لأن الرّجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا, والبهلة بالضم والفتح: اللعنة, واصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار, والصرار خيط يشدّ فوق الخلف لئلا يرضعها ولدها { فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } عطف فيه بيان، روي أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم- وما ترى؟ فقال:والله لقد عرفتم نبوتّه ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما بَاهَل قومٌ نبياً إلا هلكوا فان أبيتم إلاّ ألف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا, فآتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقد غدا محتضناً الحسين عليه الصلاة والسلام آخذاً بيد الحسن, وفاطمة عليهم السلام تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمِّنوا, فقال اسقفهم: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله, فلا تباهلوا فتهلكوا, فأذعنوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبذلوا له الجزية, ألفي حلّة حمراء وثلاثين درعاً من حديد ,فقال: والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر, كذا روته العامة, وهو دليل على نبوّته وفضل من أتى بهم من أهل بيته وشرفهم شرفاً لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي عليه السلام كنفسه .أهـ (1)
و قال الطوسي:
__________
(1) - الصافي (1/343)(1/273)
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين (ع) كان أفضل الصحابة من وجهين:
أحدهما - أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعاً على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله (1) .
والثاني - أنه (صلى الله عليه وسلم) جعله مثل نفسه بقوله: { وأنفسنا وأنفسكم } لأنه أراد بقوله: { أبناءنا } الحسن والحسين (ع) بلا خلاف. وبقوله: { ونساءنا ونساءكم } فاطمة (ع) وبقوله: { وأنفسنا } أراد به نفسه، ونفس علي (ع) لأنه لم يحضر غيرهما بلا خلاف، وإذا جعله مثل نفسه، وجب ألا يدانيه أحد في الفضل، ولا يقاربه. ومتى قيل لهم أنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين (ع) مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا أفضل الصحابة. قال لهم أصحابنا: إن الحسن والحسين (ع). كانا بالغين مكلفين، لأن البلوغ وكمال العقل لا يفتقر إلى شرط مخصوص، ولذلك تكلم عيسى في المهد بما دل على كونه مكلفاً عاقلاً، وقد حكيت ذلك عن إمام من أئمة المعتزلة مثل ذلك. وقالوا أيضاً أعني أصحابنا: إنهما كانا أفضل الصحابة بعد أبيهما وجدهما، لأن كثرة الثواب ليس بموقوف على كثرة الأفعال، فصغر سنهما لا يمنع من أن يكون معرفتهما وطاعتهما لله، وإقرارهما بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وقع على وجه يستحق به من الثواب ما يزيد على ثواب كل من عاصرهما سوى جدهما وأبيهما. وقد فرغنا الكلام في ذلك واستقصيناه في كتاب الإمامة.أهـ (2)
فوائد ذات صلة:
__________
(1) - وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه صحيح العقيدة مأمون الباطن, ولذلك اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لصحبته في الهجرة , فلو لم يكن مأمون الباطن لما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة لأنه قد يغدر به ويدل المشركين عليه.
(2) - التبيان (2/485-486)(1/274)
الأولى: الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد , فلا يعني اختيارهم في المباهلة أحقيتهم بالإمامة مِن غيرهم ، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها ، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام ، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل ، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا و لاتتعرض للخلافة على الإطلاق ، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى ، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه . وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة ، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة .
قال الزمخشري (1) ( : " فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه . وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم . وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها .وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام"أهـ
__________
(1) 2- تفسير الكشاف (1/434 )(1/275)
وقال الطباطبائي (من الشيعة) : " والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله(ص) وبين رجال النصارى ، لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمئنان الداعى بصدق دعواه ، وكونه على الحق ، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم ، فتراه يقيهم بنفسه ، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم ، وفى سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم . ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم " (1) ( .
الثانية: القول بأن الإمام عليًّا يساوى الرسول صلى الله عليه وسلم غلو لا يقبله الإمام علي رضي الله عنه نفسه ، ويجب ألا يذهب إليه مسلم ، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره .
الثالثة: عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليًا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :هذا خطأ ، وإنما هذا مثل قوله : "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا "[النور:12]
وقوله تعالى :"فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ "[البقرة:54] ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ" [القرة:84 ] فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً" أهـ (2) (.
وذكر نفس المعنى الطوسي شيخ طائفتهم في تفسيره (عند تفسير آية 12 من سورة النور) فقال : " هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم – خيراً ، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم محنة ، فكأنه جرى على جماعتهم وهو كقوله : " فسلموا على أنفسكم " وهو قول مجاهد ... . إلخ " (3)
__________
(1) 1 - تفسير الميزان للطباطبائي (3/223) .
(2) 1 - أنظر:مع الشيعة الاثنى عشرية في الأصول والفروع للدكتور السالوس(1/70)? .
(3) - التبيان للطوسي (7/416) .(1/276)
الرابعة: كما وردت مناقب لعلي رضي الله عنه من هذه الآية ومن أحاديث صحيحة كثيرة ,فقد وردت مناقب أكثر منها لأبي بكر رضي الله عنه في القرآن والسنة الصحيحة. ولو فرضنا-جدلاً- أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية ، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل ، لأن المفضول بصفة عامة قد يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين ، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه قال ابن قيم الجوزية تحت عنوان : " تولية الرسّول صلى الله عليه وسلم الأنفع على من هو أفضل منه " : وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه يولى الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه ، كما ولَّى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو ، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار . وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له : ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا, وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي, لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ ) (1) . وأمَّر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، لأنه كان يقصد أخواله بنى عذرة ، فعلم أنهم يطيعونه ما لايطيعون غيره للقرابة .... إلخ (2)
وعمومًا: مهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة ، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا .
(( أمثلة من تفسير بعض الآيات التي يقولون فيها بأن الأمة ظلمت آل البيت وتبين موقفهم من الصحابة))
1- النساء:165-169
{
__________
(1) - رواه مسلم (1826 ) وأبو داود (2868 ) والنسائي (3667) وابن حبان(5564) وغيرهم.
(2) - - انظر: أعلام الموقعين لابن القيم( 1/114 -115).(1/277)
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلا?ائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيداً * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
والمعنى:
لقد بعثنا هؤلاء الرسل جميعاً، مبشرين من آمن بالثواب، ومنذرين من كفر بالعقاب، حتى لا يكون للناس على الله حُجة يتعللون بها بعد إرسال الرسل، والله قادر على كل شئ، غالب لا سلطان لأحد معه، حكيم فى أفعاله.
لكن إذا لم يشهدوا بصدقك ويؤمنوا بما جئت به، فالله يشهد بصحة ما أنزل إليك، لقد أنزله إليك مُحكماً بمقتضى علمه، والملائكة يشهدون بذلك، وتغنيك - أيها الرسول - شهادة الله عن كل شهادة. ثم بين تعالى أن الذين كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يصدقوه فيما جاء به، ومنعوا الناس عن الدخول فى دين الله، قد بعدوا عن الحق بُعداً شديداً.
وبين تعالى أن الذين كفروا وظلموا أنفسهم بالكفر. وظلموا الرسول بجحد رسالته، وظلموا الناس، إذ كتموهم الحق، لن يغفر الله لهم ما داموا على كفرهم، ولن يهديهم طريق النجاة، وما كان من شأنه - سبحانه - أن يغفر لأمثالهم وهم فى ضلالهم (1) .
قال السعدي في تفسيره :
{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
__________
(1) - تفسير المنتخب ص:140-141(1/278)
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به، وأنه { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه، أي: فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده.
ويحتمل أن يكون المراد: أنزله صادرًا عن علمه، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه، وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟" ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه.
فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وكفى بالله شهيدا.أهـ (1)
في تفاسير الشيعة:
قال الفيض الكاشاني في(الصافي):
{ (165) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فيقولوا لولا أرسلت الينا رسولاً فينبهنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم { وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً } لا يغلب فيما يريده { حَكِيماً } فيما دبر.
{ (
__________
(1) - تيسير الكريم الرحمن ص:211(1/279)
166) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ } قيل لما نزلت إنا أوحينا اليك قالوا ما نشهد لك بهذا فنزلت { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } بأنك مستأهل له { وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ } أيضاً { وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً } وإن لم يشهده غيره.
القمّي :عن الصادق عليه السلام إنما أنزلت( لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي) في الآية.
{ (167) إنَّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً } لأنهم جمعوا بين الضلال والإِضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الإِنقلاع عنه.
{ (169) إلاَّ طََريقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً }.
في الكافي والعياشي عن الباقر عليه السلام قال نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا (إن الذين كفروا وظلموا آل محمد -صلوات الله عليهم- حقهم لم يكن الله..) (الآية).
والقمّي: قرأ أبو عبد الله (إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم) ..الآيةأهـ (1)
ولا يخفى ما في كلامهم من باطل وادعاء تحريف القرآن وإثبات لقراءة باطلة للآية لم يذكرها أحد من القراء. ويكفي في بيان باطلهم أن الطوسي والطبرسي فسرا هذه الآيات بنحو تفسير أهل السنة ولم يهبطا إلى ما هبط إليه هؤلاء. (2)
2- الأنعام:93
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى? إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلا?ئِكَةُ بَاسِطُو?اْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُو?اْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }
والمعنى:
__________
(1) - الصافي (1/522-523)
(2) - أنظر:التبيان للطوسي (3/396-397), وتفسير جوامع الجامع للطبرسي(1/463-464)(1/280)
ليس أحد أكثر ظلماً ممن اختلق الكذب على الله، أو قال: تلقيت وحياً من الله، دون أن يكون قد تلقى شيئاً من الوحى. وليس أحد كذلك أشد ظلماً ممن قال: سآتى بكلام مثل ما أنزله الله! ولو تعلم حال الظالمين، وهم فى شدائد الموت. والملائكة ينزعون أرواحهم من أجسادهم فى قسوة وعنف، لرأيت هوْلاً رهيباً ينزل بهم! ويقال لهم حينئذ: الآن تبدأ مجازاتكم بالعذاب المذل المهين، جزاء ما كنتم تقولون على الله غير الحق، وجزاء استكباركم عن النظر والتدبر فى آيات الله الكونية والقرآنية.
قال ابن كثير:
يقول تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شركاء أو ولداً، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ } قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ } أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي؛ مما يفتريه من القول؛ كقوله تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ }
[الأنفال: 31] الآية، قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَى? إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي: في سكراته، وغمراته، وكرباته، { وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو?اْ أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب، كقوله:
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى }[المائدة: 28] الآية،
وقوله:{ وَيَبْسُطُو?اْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّو?ءِ }[الممتحنة:2] الآية،
وقال الضحاك وأبو صالح: باسطو أيديهم، أي: بالعذاب؛ كقوله:
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }[الأنفال: 50](1/281)
ولهذا قال: { وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو?اْ أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب لهم، حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: { أَخْرِجُو?اْ أَنفُسَكُمُ } وذلك أن الكافر إذا احتضر، بشرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة، حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: { أَخْرِجُو?اْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } الآية، أي: اليوم تهانون غاية الإهانة؛ كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.أهـ (1)
وفي تفاسير الشيعة الاثنى عشرية يعترفون بالمعنى الظاهر ولكنَّ كثيرًا منهم يلجأ إلى التأويل الباطني ليقرر أنها في الذين ظلموا آل محمد حقهم في الولاية:
قال القمي (بعد أن ذكر أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي السرح) :
ثم حكى عز وجل ما يلقى أعداءُ آل محمد عليه وآله السلام عند الموت فقال: { ولو ترى إذ الظالمون - آل محمد حقهم - في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } قال: العطش { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } قال: ما أنزل الله في آل محمد تجحدون به .أهـ. (2)
* قال سلطان الجنابذي في (تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة):
{
__________
(1) - تفسير ابن كثير (2/160-161)
(2) - تفسير القمي(1/211)(1/282)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ } نزول الآية مشهور وفى التّفاسير مسطور، من أنها فى عبد الله بن أبى سرح...... لكن المقصود والتّأويل في أعداء علىّ (ع) حيث ادّعوا الخلافة لأنفسهم ويجرى فى من نصب نفسه للمحاكمة بين الخلق أو للفتيا وبيان أحكامهم من غير نصٍّ وإجازة من الرّسول (ص) بلا واسطةٍ أو بواسطة، فإنّ حكم مثله وفتياه افتراء على الله ولو أصاب الحقّ فقد أخطأ وليتبوّأ مقعده من النّار وليست الإجازة الإلهية بأقل من الإجازة الشّيطانيّة الّتى عليها مدار تأثيرات مناطرهم ونفخاتهم ولذلك ورد عنهم (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه إلا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ، إشارة إلى مجلس القضاء وليس الوصىّ إلا من نصّ المنصوص عليه على وصايته، وكانت سلسلة الإجازة بين الفقهاء كثّر الله أمثالهم والعرفاء رضوان الله عليهم مضبوطة محفوظة وكان لهم كثير اهتمام بالإجازة وحفظها، حتّى أنهم كانوا لا يتكلّمون بشيءٍ من الأحكام ولا يحكمون على أحدٍ بل لا يقرأون شيئاً من الأدعية والأوراد من غير إجازة،
وقد نقل العيّاشى عن الباقر (ع) فى تفسير الآية انّه قال: من ادّعى الإمامة دون الإمام.
{(1/283)
وَلَوْ تَرَى? إِذِ الظَّالِمُونَ } للإمام أو لأنفسهم بالافتراء على الله بقرينة ما يأتى من قوله{ بما كنتم تقولون على الله غير الحقّ}، إشارة إلى الافتراء, وبقرينة { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } إشارة إلى الانحراف عن الأوصياء والظّلم لهم، فالمعنى لو ترى إذ الظّالمون للإمام أو لأتباعه أو لأنفسهم أو للخلق بادّعاء الإمامة او الحكومة بين النّاس والفتيا لهم من غير إجازة { فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } وشدائدها الّتى تغمر عقولهم وتدهشهم بحيث يغشى عليهم { وَالْمَلا?ئِكَةُ بَاسِطُو?اْ أَيْدِيهِمْ } لقبض أرواحهم قائلين { أَخْرِجُو?اْ أَنْفُسَكُمُ } غيظاً عليهم { الْيَوْمَ } متعلّق باخرجوا أو بتجزون والجملة جزء مقول الملائكة أو استئناف من الله كأنّه صرف الخطاب عن الرّسول (ص) وخاطبهم بنفسه وقال اليوم { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فالويل لمن أعرض عن المنصوصين وادّعى الرّأى والفتيا لنفسه من غير نصٍّ من المنصوصين.أهـ
3- النساء:137
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }
والمعنى:
إن الإيمان إذعان مطلق وعمل مستمر بالحق، فالمترددون المضطربون ليسوا بمؤمنين، فالذين يؤمنون ثم يكفرون، ثم يؤمنون ثم يكفرون، وبهذا يزدادون كفراً، ما كان الله غافراً لهم ما يفعلون من شر، ولا ليهديهم إلى الحق، لأن غفران الله يقتضى توبةً وإقلاعاً عن الشر، وهدايته تكون لمن يتجهون إلى الحق ويطلبونه. (1)
قال الألوسي:
{
__________
(1) - المنتخب ص:135(1/284)
إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي، وعن مجاهد وابن زيد: أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان ثم ارتدوا ثم أظهروا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلى الله عليه وسلم في البر والبحر، وعن الحسن: أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة فيكفرون ثم يظهرون ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى:{ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }[آل عمران: 72]،(1/285)
وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزيز، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفراً بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل. وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثاً، ثم قرأ هذه الآية وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال: يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الإستتابة إذ لا منفعة.(1/286)
وعليه فالمراد من قوله سبحانه: { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلاً وإن تابوا، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور: المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه, فإن من تكرر منهم الإرتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة , لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريداً للغفران لهم، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه. وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخبر هو الفعل.أهـ (1)
أما الشيعة الإمامية فيرَوْن أن الآية في الصحابة الذين آمنوا ببيعة علي فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بتركهم مبايعة علي رضي الله عنه , وعلى رأس هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
قال الفيض الكاشاني:
{ إنَّ الّذِينَ آمَنُوا } كاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وكالمنافقين آمنوا بمحمد { ثُمَّ كَفَرُوا } ثم عبد اليهود العجل وارتد المنافقون { ثُمَّ آمَنُوا } عادوا إلى الإيمان { ثُمَّ كَفَرُوا } كفر اليهود بعيسى وارتد المنافقون مرة أخرى { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً } بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وتمادوا في الغي وأصروا عليه حتى ماتوا.
__________
(1) - روح المعاني ( 5 / 170-171 )(1/287)
القمّي :نزلت في الذين آمنوا برسول الله إقراراً لا تصديقاً ثم كفروا لما كتبوا الكتاب فيما بينهم أن لا يردوا الأمر في أهل بيته أبداً فلما نزلت الولاية وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الميثاق عليهم لأمير المؤمنين عليه السلام آمنوا إقراراً لا تصديقا,ً فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كفروا فازدادوا كفراً.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام قال :هما والثالث والرابع وعبد الرحمن وطلحة وكانوا سبعة (الحديث) وذكر فيه مراتب إيمانهم وكفرهم.
وعن الصادق عليه السلام: نزلت في فلان وفلان وفلان, آمنوا برسول الله في أول الأمر ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية, حيث قال من كنت مولاه فعليّ مولاه, ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام حيث قالوا له بأمر الله وأمر رسوله فبايعوه ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم يقروا بالبيعة ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعوه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق فيهم من الإِيمان شيء،
وفي رواية أخرى عنهما عليهما السلام: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر قال وازدادوا كفراً حتى لم يبق فيه من الإِيمان شيء. وفي أخرى: من زعم أن الخمر حرام ثم شربها ومن زعم أن الزنا حرام ثم زنى ومن زعم أن الزكاة حق ولم يؤدها { لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } إلى الجنة لأن بصائرهم عميت عن الحق فلا يتأتى منهم الرجوع إليه.أهـ (1)
قال الجنابذي في بيان السعادة:
{
__________
(1) - الصافي (1/510)(1/288)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } مفهوم الآية عامّ وتنزيلها خاصٌّ، فانّ المراد بها المنافقون الّذين آمنوا بمحمّد (ص) يعنى أسلموا { ثُمَّ كَفَرُواْ } بتعاهدهم على خلافه فى مكّة { ثُمَّ آمَنُواْ } حين قبلوا قوله فى الغدير وبايعوا مع علىّ (ع) بالخلافة { ثُمَّ كَفَرُواْ } بتخلّفهم عن جيش أسامة حال حياته { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } بتشديدهم لآل محمّد (ص) { لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } لأنهم ارتدّوا عن الفطرة بقطعهم الفطرة الإنسانية فلا رجوع لهم بالتّوبة ولا سبيل لهم إلى دار الرّاحة، فانّ الفطرة الإنسانية هي السّبيل إلى دار الرّاحة فلا يتصّور لهم مغفرة ولا هداية، لأنّ المرتدّ الفطري لا توبة له .أهـ
و لنا هنا ملاحظات:
الأولى: كثيرًا ما يؤلون معنى آيات الشرك والكفر -عندهم - بترك الولاية والإمامة كما هو واضح في تفسيرهم للآية التي معنا وأمثالها .
وقال صاحب مرآة الأنوار: " فعلى هذا جميع المخالفين مشركون" (1) وقال: "إن الأخبار (أخبار الشيعة) متضافرة في تأويل الشرك بالله، والشرك بعبادته بالشرك في الولاية والإمامة" (2) ولذلك حكموا على معظم صحابة رسول الله بالردة لمبايعتهم لأبي بكر دون علي.
__________
(1) - أبو الحسن الشريف/ مرآة الأنوار: ص 202
(2) - نفس الموضع من المصدر السابق.(1/289)
و قد جاء في الكافي: "عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [لاحظ أنه جمع آيتين من سورتين على أنهما آية واحدة، مما يشير إلى أن واضع هذه الأساطير، ومفتريها على أهل البيت أحد الزنادقة الجهلة بالقرآن؛ حيث إن قوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من سورة آل عمران : 90، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ..} إلخ من سورةالنساء : 137.]. قال: نزلت في فلان وفلان وفلان آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وآله - في أول الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية.. ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - ثم كفروا حيث مضى رسول الله - صلى الله عليه وآله - فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء (1) .
الثانية: المقصود من قول الشيعة :الأول والثاني والثالث, هم :أبو بكر وعمر وعثمان, وكذا :فلان وفلان وفلان, فلا يصرحون بأسمائهم تقية, وصرح بأسمائهم المجلسي شيخ الدولة الصفوية الرافضية فقد خفف من التقية لما صارت لهم دولة.
الثالثة: نراهم يذكرون في تفسيرهم للآيات روايات عن الأئمة موافقة لما يذكره مفسرو أهل السنة , وتتفق مع الظاهر المراد من هذه الآيات وليس فيها ثمة طعن على أحد من الصحابة الكرام,ولكنهم يتركونها كعادتهم ويأخذون الروايات التي على نقيضها, وليس هذا سبيل من ينشد الحق.
4- النساء:49-55
{
__________
(1) - أصول الكافي: (1/420)، تفسير العياشي: (1/276)، البرهان: ( 1/421)، ، بحار الأنوار: (23/375)(1/290)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }
المعنى الإجمالي للآيات:
الآيات نزلت في أهل الكتاب كما هو ظاهر من السياق (1) , وهم الذين يزكون أنفسهم بقولهم:نحن أبناء الله وأحباؤه, وقد فضحهم الله عز وجل في في غير موضع من كتابه الكريم ومنه هذا الموضع, وقد روي في سبب نزول هذه الآيات عدة روايات- كما رواها الطبري في تفسيره- تدور كلها على كعب بن الأشرف وحيُيّ بن أخطب، وهما من زعماء وأحبار اليهود المناوئين للنبيّ والإسلام. وخلاصتها: أن كعباً وحييَّ بن أخطب ذهبا في جماعة من الأحبار الى مكة ليحالفوا قريشاً على حرب النبي، فأجابتهم قريش: أنتم أهل كتاب وأنتم أقربُ الى محمد. ونحن لا نأمن مكركم حتى تسجدوا لآلهتنا. ففعلوا، ثم سألتهم: أدينُ محمد خير أم ديننا؟ فقال اليهود: بل دينكم، وأنتم أهدى منه وممن تبعه. فأنزل الله تعالى هذه الآيات. ومعناها:
__________
(1) - قال الشوكاني في تفسيره(1/477) اتفق المفسرون على أن المراد:اليهود(1/291)
ألم تر يا محمد الى اليهود الذين أوتوا حظاً من عِلم الكتاب يؤمنون بالجبت:وهو كل ما عبد من دون الله, وقيل: هو السحر. والطاغوت: كل باطل من معبودٍ وغيره، وقيل: الشيطان والكاهن ونحوه. ثم يقولون للكفار إنهم أرشدُ طريقةً في الدين من الذين اتبعوا محمداً. كل ذلك حتى يُرضوا المشركين ويحالفوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وطردهم من رحمته، ومن يخذله الله فلن تجد من ينصره أو يحميه.
ثم ينتقل سبحانه من توبيخهم على فِعلتهم المنكرة تلك الى توبيخهم على حسَدهم وبُخلهم وأثَرتهم، فيقول: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ..... } فيا عجباً، إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبدٍ من عباده بشيء من عنده إذا لم يكن يهودياً! فهل هم شركاؤه سبحانه، حتى يكون لهم نصيب في ملكه! لو كان لهم ذلك لضنّوا وبخلوا أن يعطوا الناس نقيرًا،وهو النقطة التي في ظهر النواة, وهو أتفهُ الأشياء وأقلها.
وقوله تعالى: { أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } أَمْ: بمعنى بل كسابقتها, لتبين انتقال اليهود من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإِنكار, ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة، وهو المراد من الناس (1)
__________
(1) - وقال ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير(2/140): وفي المراد بـ(الناس) هاهنا أربعة أقوال:
أحدها:النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عطيّة عن ابن عباس. وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل .
والثاني : النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والثالث : العرب ، قاله قتادة . والرابع : النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، ذكره الماوردي .
وفي الذي (آتاهم الله من فضله) ثلاثة أقوال:أحدها : إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد ، روي عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أنه النبوّة ، قاله ابن جريج ، والزجاج . والثالث : بعثة نبيِّ منهم على قول من قال : هم العرب .(1/292)
, وقوله تعالى { فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب } كصحف ابراهيم والتوراة والزبور والإنجيل { والحكمة } و هي السُّنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم صائب سديد, والملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهما السلام, كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون محمداً والمسلمين؟ والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل (1) .
* أما تفاسير الشيعة فتجد منهم من أقحم في الآيات أبا بكر وعمر وعثمان وذمهم بأنهم هم الذين يزكون أنفسهم, ومنهم من قال: إن الجبت والطاغوت هما أبو بكر وعمر, وزعم أن الآيات تتحدث عنهم وعن كل من غصب آل محمد صلى الله عليه وسلم حقهم في الإمامة والخلافة ونحو ذلك مما تراه في تفسير القمي والعياشي وكثيرًا ممن نقل عنهم وأخذ من رواياتهم, مع ملاحظة تضارب الروايات عندهم فمنها ما يوافق روايات أهل السنة ومنها ما يخالفها, ومن مفسريهم من فسَّر على ما يقتضيه سياق الآيات وكأنه لم يقنع بمثل هذه الروايات التي تخالف ظاهر النص القرآني .
وأما الطبرسي فنهج في تفسيره لهذه الآيات نهج أهل السنة ثم بعد ذلك أدخل وجهًا من مذهبهم فقال: وثانيها: أن المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم وآله .عن أبي جعفر (ع) والمراد بالفضل فيه النبوة وفي آله الإمامة .
__________
(1) - أنظر تفسير الطبري (8/ 460-470) والبغوي(2/233-236) وتفسيرالقطان(1/301) وأيسر التفاسير لأبي بكرالجزائري(1/271) وزاد المسير لابن الجوزي(2/138-140 ) والبحر المحيط (4/162-165) وابن كثير(1/511-513) والشوكاني(1/477-479) صفوة التفاسير(1/281-282).(1/293)
وفي تفسير العياشي بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (ع): يا أبا الصباح نحن قوم فرض الله طاعتنا, لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه: { أم يحسدون الناس } الآية .أهـ (1)
وقال الفيض الكاشاني:
{ (49) أَلَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا :نحن أبناء الله وأحباؤه, وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى, كذا في المجمع عن الباقر عليه السلام. (2)
والقمّي قال: هم الذين سموا أنفسهم بالصديق والفاروق وذي النورين (3) .
{ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } لأنه العالم بما ينطوي عليه الإِنسان من حسن أو قبح دون غيره { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة.
{ (50) أُنظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ } في زعمهم أنهم أبناء الله وازكياء عنده { وَكَفَى بِهِ } بالإِفتراء { إثْماً مُبِيِناً }.
{ (51) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ }.
__________
(1) - مجمع البيان(3/109) وانظر البحار للمجلسي( 35/425) وتفسير نور الثقلين (1/492).
(2) - وهذا يوافق ما عليه أهل السنة.
(3) - وهذا باطل وزور كما لا يخفى.فالآيات في أهل الكتاب, وكثير من الروايات عندهم تقر بذلك.وهؤلاء الذين ذكرهم القمي هم أكابر الصحابة لم يزكوا أنفسهم بل زكاهم الله تعالى ورسوله والمؤمنون . بل إن القمي نفسه ذكر في تفسيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر- وهما في الغار-: أنت الصديق. وستأتي قريبًا عند قوله تعالى:{ إلا تنصروه فقد نصره الله...}[التوبة:40]. ولا يعني هذا أننا نحتج برواياتهم أو نعتقد صحتها ,كلا, بل نظهر خطأهم وتناقض كلامهم ورواياتهم.(1/294)
القمّي قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركوا العرب أديننا أفضل أم دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا: بل دينكم أفضل (1) .
قال: وروي أيضاً أنها نزلت في الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم أجميعن حقهم وحسدوا منزلتهم.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام الجبت والطاغوت: فلان وفلان.
أقول: الجبت في الأصل: اسم صنم, فاستعمل في كل ما عبد من دون الله تعالى, والطاغوت: يطلق على الشيطان وعلى كل باطل من معبود أو غيره { وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا } لأجلهم وفيهم { أَهَؤُلاءِ } إشارة إليهم { أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } أقوم ديناً وأرشد طريقاً.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام يقولون لأئمة الضلال والدعاة إلى النار هؤلاء أهدى من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
{ (52) أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }.
{ (53) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } إنكار يعني ليس لهم ذلك { فَإِذَا لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً } يعني لو كان لهم نصيب في الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيراً.
في الكافي: عن الباقر عليه الصلاة والسلام أم لهم نصيب من الملك: يعني الإمامة والخلافة, قال: ونحن الناس الذين عنى الله, والنقير النقطة التي في وسط النواة.
__________
(1) - هذا الوجه الذي ذكره القمي يذكره مفسرو أهل السنة, وهو مقبول, ولكن انظر كيف يتبعه بالأقوال الأخرى الشاذة المدسوسة التي لا يقبلها سواهم ويجعلونها تفسيرًا للآية ويتركون الصواب مخالفين بذلك سائر المسلمين!(1/295)
أقول: لعل التخصيص لأجل أن الدنيا خلقت لهم (1) !! , والخلافة حقهم, فلو كانت الأموال في أيديهم لانتفع بها سائر الناس ولو منعوا عن حقوقهم لمنع سائر الناس فكأنهم كل الناس,
وقد ورد:" نحن الناس, وشيعتنا أشباه الناس, وسائر الناس نسناس!!".انتهى كلام الكاشاني (2)
* * *
5- التوبة:40
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
والمعنى:
يا أيها المؤمنون، إن لم تنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله كفيل بنصره، كما أيَّدَه ونصره حينما اضطره الذين كفروا إلى الخروج من مكة. وليس معه إلا رفيقه أبو بكر، وكان ثانى اثنين، وبينما هما فى الغار مختفين من المشركين الذين يتعقبونهما خشى أبو بكر على حياة الرسول، فقال له الرسول مطمئناً: لا تحزن فإن الله معنا بالنصر والمعونة. عند ذلك أنزل الله الطمأنينة فى قلب صاحبه، وأيَّد الرسول بجنود من عنده، لا يعلمها إلا هو سبحانه. وانتهى الأمر بأن جعل شوكة الكافرين مفلولة ودين الله هو الغالب، والله متصف بالعزة فلا يقهر، وبالحكمة فلا يختل تدبيره (3)
__________
(1) - وهذا باطل , ولا دليل عليه, بل خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته وتوحيده قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات : 56]
(2) - الصافي(1/459) وانظر تفسير كنز الدقائق(2/479)
(3) -تفسير المنتخب ص:266(1/296)
والآية لاشك تحمل فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك واضحٌ في قوله تعالى(ثاني اثنين) وقوله (إذ يقول لصاحبه) وقوله( إن الله معنا) والضمير العائد علي أبي بكر في قوله تعالى (فأنزل الله سكينته عليه) ولكن لأن الشيعة الاثنى عشرية يبغضون أبا بكر رضي الله عنه أرادوا أن يجردوه من كل فضيلة,كما سترى في تفاسيرهم عند ذكر كل واحدة من هذه الأربع التي ذكرتها, بل أطالوا النفس لكي يثبتوا أن الضمير في قوله تعالى(فأنزل الله سكينته عليه) يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى أبي بكر (1) ,ولو كان عندهم شيء من الإنصاف لقالوا بجواز عودة الضمير على أبي بكر لأنه أقرب مذكور وأحوج إلى السكينة, كما أجازوا عودته على النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن لا يريدون للصدِّيق فضيلة, ويأبى الله ذلك, فرفع ذكره عند المؤمنين ,فصار أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القمي:
قوله: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } فإنه حدثني أبي عن بعض رجاله رفعه إلى أبي عبد الله قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله في الغار قال لفلان( يعني أبا بكر): كأني أنظر إلى سفينة جعفر في أصحابه يقوم في البحر وأنظر إلى الأنصار محتسبين في أفنيتهم فقال فلان وتراهم يا رسول الله قال نعم. قال: فأرنيهم فمسح على عينيه فرآهم - فقال في نفسه: الآن صدّقتُ أنك ساحر- فقال له رسول الله: أنت الصدِّيق , وقوله: { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } قول رسول الله صلى الله عليه وآله { والله عزيز حكيم }.
وقال الفيض الكاشاني:
{ (
__________
(1) - أنظر:تفسير الميزان الطباطبائي (9 / 222-226), تفسير شبر (ص:204) , تفسير الأمثل للشيرازي(6/59) وغيرهم.(1/297)
40) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ } إن تركتم نصرته فسينصره الله كما نصره { إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ اثْنَيْنِ } لم يكن معه إلاّ رجل واحد { إذْ هُمَا فِي الغَارِ } غار ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة { إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } وهو أبو بكر { لاَ تَحْزَنْ } لا تخف { إنَّ اللهَ مَعَنَا } بالعصمة والمعونة.
في الكافي :عن الباقر عليه السلام أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أقبل يقول لأبي بكر في الغار اسكن فانّ الله معنا وقد أخذته الرّعدة وهو لا يسكن فلمّا رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حاله قال له تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون وأريك جعفراً وأصحابه في البحر يغوصون؟ قال: نعم, فمسحَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدّثون ونظر إلى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون فأضمر تلك الساعة أنّه ساحر { فَأنْزَلَ اللهُ سَكِينَتهُ } أمنته التي تسكن إليها القلوب { علَيْهِ }.
في الكافي: عن الرضا عليه السلام أنّه قرأها (على رسوله) قيل له هكذا نقرؤها وهكذا تنزيلها.
والعياشي: عنه عليه السلام أنّهم يحتجون علينا بقول الله تعالى { ثاني اثنين اذ هما في الغار } وما لهم في ذلكَ من حجّة, فوالله لقد قال الله (فأنزل الله سكينته على رسوله) وما ذكره فيها بخير (1) . قيل: هكذا تقرؤنها؟ قال هكذا قرأتها.
وعن الباقر عليه السلام{ فأنزل الله سكينته على رسوله }قال ألا ترى أنّ السكينة إنّما نزلت على رسوله.
وفي الجوامع: نسب القراءة إلى الصادق عليه السلام أيضاً.
{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة قد سبق فيه كلام في تفسير{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ }[الآية: 30 ] في سورة الأنفال.
{
__________
(1) - أنظر كيف يأتون بقراءات غير صحيحة وينسبونها لأهل البيت زورًا ليدللوا على آراءهم الباطلة.(1/298)
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى }.العياشي: عن الباقر عليه السلام هو الكلام الذي يتكلم به عتيق. والقميّ ما في معناه.
{ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا }.القميّ: هو قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ,وقيل: هي التوحيد أو دعوة الإِسلام.
أقول: المستفاد ممّا سبق في سورة الأنفال أنّ كلمتهم ما كانوا يمكرون به من إثباته أو قتله أو إخراجه وكلمة الله نصره وغلبته عليهم { وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } في أمره وتدبيره.أهـ (1)
قال الطوسي:
وليس في الآية ما يدل على تفضيل أبي بكر، لأن قوله { ثاني اثنين } مجرد الإخبار أن النبي صلى الله عليه وآله خرج ومعه غيره، وكذلك قوله { إذ هما في الغار } خبر عن كونهما فيه، وقوله { إذ يقول لصاحبه } لا مدح فيه أيضاً، لأن تسمية الصاحب لا تفيد فضيلة ألا ترى أن الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر:{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ }{الكهف:37}
__________
(1) - الصافي (2/344-345)(1/299)
وقد يسمون البهيمة بأنها صاحب الانسان كقول الشاعر (وصاحبي بازل شمول) وقد يقول الرجل المسلم لغيره: أُرسل اليك صاحبي اليهودي، ولا يدل ذلك على الفضل، وقوله { لا تحزن } إن لم يكن ذمّاً فليس بمدح بل هو نهي محض عن الخوف، وقوله { إن الله معنا } قيل: إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله، ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة، لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد ، كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح لا تفعل إن الله معنا يريد أنه متطلع علينا، عالم بحالنا. والسكينة قد بينا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وآله بما بيناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلى الله عليه وآله فأين موضع الفضيلة للرجل لولا العناد، ولم نذكر هذا للطعن على أبي بكر بل بينا أن الاستدلال بالأية على الفضل غير صحيح.أهـ (1)
ولا يخفى تعسف الطوسي في تفسير الآية حتى لا يذكر لأبي بكر فضيلة. وهذا التعسف ظاهر بقوة عند قوله: ( { لا تحزن } إن لم يكن ذمّاً فليس بمدح بل هو نهي محض عن الخوف، وقوله { إن الله معنا } قيل: إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله، ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة، لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد!!)
قال الفخر الرازي:
دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه:
الأول: أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع، لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره، لخافه من أن يدل أعداءه عليه، وأيضاً لخافه من أن يقدم على قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة، دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره.
__________
(1) - التبيان (5/222-223)(1/300)
الثاني: وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر، فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة، وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين.
الثالث: أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هو فما سبق رسول الله كغيره، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم.(1/301)
الرابع: أنه تعالى سماه { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } فجُعِل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار، والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل، فكان هو رضي الله عنه { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين، ولما توفي دفن بجنبه، فكان ثاني اثنين هناك أيضاً، وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال: كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله:{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ }[المجادلة: 7] ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن، فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى.
والجواب: أن هذا تعسف بارد، لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره، فأين أحد الجانبين من الآخر؟(1/302)
والوجه الخامس: من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام " ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " ولا شك أن هذا منصب عليٌّ، ودرجة رفيعة.
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلياً، وفاطمة، والحسن والحسين، كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة، فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم، فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون، فقال رحمه الله: لكم ما هو خير منه بقوله: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل.
والوجه السادس: أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل. قال الحسين بن فضيل البجلي: من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافراً، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } هو أبو بكر، وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له، اعترضوا وقالوا: إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن، وهو قوله:{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ }[الكهف: 37].
والجواب: أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال، وهو قوله: { أَكَفَرْتَ } أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة؟(1/303)
والوجه السابع: في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر. قوله: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ولا شك أن المراد من هذه المعية، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد، لزمهم إدخال الرسول فيه، وإن حملوها على محمل رفيع شريف، لزمهم إدخال أبي بكر فيه، ونقول بعبارة أخرى، دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين، لقوله تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }
[النحل: 128] والمراد منه الحصر، والمعنى: إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين.
والوجه الثامن: في تقرير هذا المطلوب أن قوله: { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار، وذلك منصب في غاية الشرف.
والوجه التاسع: أن قوله: { لاَ تَحْزَنْ } نهى عن الحزن مطلقاً، والنهي يوجب الدوام والتكرار، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت.
والوجه العاشر: قوله: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ومن قال الضمير في قوله: { عَلَيْهِ } عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه:
الوجه الأول: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر، لأنه تعالى قال: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } والتقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن، وعلى هذا التقدير: فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر، فوجب عود الضمير إليه.(1/304)
والوجه الثاني: أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.
والوجه الثالث: أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال: إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه، فقال لصاحبه لا تحزن، ولما لم يكن كذلك، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة، وهو قوله: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر.
فإن قيل: وجب أن يكون قوله: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } وهذا لا يليق إلا بالرسول، والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه، فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول.(1/305)
قلنا: هذا ضعيف، لأن قوله: { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله: { فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر، وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال.
الوجه الحادي عشر: من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر " وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر به أبا بكر ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر، فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين، ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين، فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه، ليعرفوا أن الرسول هو هو، فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم: " اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم " ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم.(1/306)
الوجه الثاني عشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر، والأنصار ما رأوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا أبا بكر، وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر، وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا: لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر، فلو قدرنا أنه توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر، وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر، وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر.أهـ (1)
وأقول : لا يحتاج أبو بكر رضي الله عنه منا إلى ثناءٍ عليه بعد ما ذكره الله تعالى في هذه الآية المباركة , وأيضًا قد نزل فيه قول الله تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُو?اْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُو?اْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } {النور:22} وذلك لما كان مسطح بن أثاثة-ابن خالة الصديق- ممن خاض في حادثة الإفك ,وكان فقيرًا وينفق عليه أبو بكر,فلما نزلت براءة أم المؤمنين عائشة من السماء في سورة النور أقسم أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه,بسبب أنه خاض مع من خاض,فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة,التي وصف أبا بكر فيها بأنه من أولي الفضل والسعة,وحثه على أن يعود بالصدقة على مسطح, فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب- يا ربنا - أن تغفر لنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً (2) .
__________
(1) - تفسير الفخر الرازي ( 16/ 65-69)
(2) - أنظر تفسير القرطبي (12/172) و تفسير السعدي(تيسير الكريم الرحمن) ص:561(1/307)
وقوله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } {الليل:17-21}
قال ابن كثير: وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها؛ فإن لفظها العموم، وهو قوله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } ولكنه مقدم الأمة، وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ولم يكن لأحد من الناس عنده منّة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود، وهو سيد ثقيف، يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك، وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإن كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟ ولهذا قال تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }.أهـ (1)
وحسبه أيضًا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيه,وسأكتفي بذكر بعضها:
__________
(1) - تفسير ابن كثير (4/521)(1/308)
1- في الصحيحين :عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ:نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (1)
2- وفي الصحيحين (2) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ, فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ:" نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ
__________
(1) - البخاري(1798) ومسلم(1027) والترمذي(3674)والنسائي(3183) وغيرهم.
(2) - البخاري(1798) ومسلم(1027) والترمذي(3674)والنسائي(2238) وابن حبان(3419)(1/309)
3- وفي صحيح مسلم(1028) وابن خزيمة(2131) وغيرهما:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"
4- وهو أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمنَّ الناس عليه, ففي الصحيحين وغيرهما (1) :عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ, فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا, قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ, لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ".
__________
(1) -البخاري(3691) ومسلم(2382) والترمذي(3660) وابن حبان(6861)(1/310)
5- ووصفه النبي بأنه أخوه وصاحبه, ففي مسند أحمد(4182) وصحيح مسلم (2383) وغيرهما:عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي وَقَدْ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا".
وفي رواية لأحمد(3880) و مسلم (2383) والترمذي (3655) وغيرهم: أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ".قَالَ أَبُو عِيسَى-الترمذي-: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ, وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ.أهـ
- بل وفي حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه ما يدل بوضوح على هذه المكانة العظيمة التي لم تكن لسواه و أكدها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في آخر حياته وقبل وفاته صلى الله عيه وسلم بخمس ليالٍ فقط ففي صحيح مسلم(532) وغيره عن جُنْدَبٌ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ".(1/311)
6- وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحق من يخلفه في أمته من بعده (1) :
- ففي الصحيحين وغيرهما[البخاري(3459) ومسلم (2386) وابن حبان(6656)]:عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ أَبِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ" .
- وفي الصحيحين [البخاري(646) ومسلم(420)]عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري قَالَ:مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ, قَالَ :مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, فَعَادَتْ, فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ, فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
__________
(1) - ليس في هذه الأحاديث نص على إمامة أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم , فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحدٍ بعينه, وإنما هي مجرد إشارات على تفضيل أبي بكر, وأن الأمة لن تختار سواه , وهو ما حدث بالفعل , ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.(1/312)
- وفي صحيح مسلم(2387) وابن حبان(6598) والطبراني في الأوسط(6571):عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى , وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ".
7- والصحابة يعرفون فضله, ويقدرونه, فقد روى أحمد في مسنده (133) - بسند جيد - ورواه النسائي (777 ) والحاكم(4423) وصححه: عن عبد الله بن مسعود ، قال : " لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِير, فَأَتَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟ فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ".
8- ونذكر من فضائل أبي بكر وعمر على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم:(1/313)
- ما رواه البخاري(3482) ومسلم(2389):عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ, قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي, فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ, فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ, فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ, وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ, وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا".
- وما رواه أحمد (835) - بسند صحيح- عَنِ أَبُي جُحَيْفَةَ الَّذِي كَانَ عَلِيٌّ يُسَمِّيهِ وَهْبَ الْخَيْرِ قَالَ:قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَبَا جُحَيْفَةَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى, قَالَ وَلَمْ أَكُنْ أَرَى أَنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ, قَالَ: أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَبَعْدَهُمَا آخَرُ ثَالِثٌ وَلَمْ يُسَمِّهِ" .(1/314)
- وفي صحيح البخاري(3468)وسنن أبي داود(4629): قال محمد بن الحنفية لأبيه علي بن أبي طالب: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ, قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ,وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ, قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (1) .
9- وفي كتب الشيعة الاثنى عشرية ما يؤكد ذلك لمن أراد الحق :
__________
(1) - انظر: منهاج السنة: ( 7/511) و ذكر أيَصا في نفس الموضع أن عليًّا رضي الله عنه قال : لا يبلغني عن أحدٍ أنه فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته جلد المفتري.(1/315)
- فقد جاء نصٌ عظيم في كتاب نهج البلاغة - الذي يعتقدون صحة كل ما فيه- يهدم هذا النص كلّ ما بنوه وزعموه عن عداوة وصراع بين عليٍّ والشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم. يقول علي رضي الله عنه في أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما على اختلاف بين شيوخ الشيعة في ذلك : "لله بلاءُ فلان (1) . فلقد قَوََّمَ الأوَد (2) , وداوى العَمَد (3) , وأقام السّنّة. وخلف الفتنة (4) ، ذهبَ نَقيَّ الثّوب ، قليلَ العَيْب، أصاب خيرها وسبق شرّها، أدّى إلى الله طاعته واتّقاه بحقّه" (5) .ولوضوح النص قال ميثم البحراني- وهو شيعي- في شرحه "واعلم أن الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً فقالوا: إن هذه الممادح التي ذكرها في حق أحد الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهم وأخذهما لمنصب الخلافة، فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه ، وإما أن يكون إجماعنا خطأ ". ثم ذهب إلى تأويل الكلام بما لا يستقيم ويتنافى مع أخلاق علي رضي الله عنه الذي لا يداهن في الحق (6) ."
- و في كتاب شرح نهج البلاغة : قال علي (رضي الله عنه) :
:
__________
(1) - أي: عمله الحَسَن في سبيل الله (أنظر: شرح نهج البلاغة: 4/97 لميثم البحراني )
(2) - وهو كناية عن تقويمه لاعوجاج الخلق عن سبيل الله إلى الاستقامة. (مثيم البحراني/ شرح نهج البلاغة: 4/97)
(3) - العمد بالتّحريك: العلّة. انظر: صبحي الصّالح في تعليقه على نهج البلاغة ص:671
(4) - أي:تركها خلفًا لا هو أدركها ولا هي أدركته (نفس المصدر السّابق).
(5) - نهج البلاغة: ص:350 - تحقيق صبحي الصّالح
(6) - ميثم البحراني/ شرح نهج البلاغة (4/98)(1/316)
"و إنا لنرى أبا بكر أحق بها - أي بالخلافة - إنه لصاحب الغار. و إنا لنعرف سِنَّه. و لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصلاة خلفه و هو حي " (1) .
- وفي الروضة من الكافي(8/101) في حديث أبي بصير و المرأة التي جاءت إلى أبي عبد الله تسأل عن (أبي بكر وعمر) فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته أنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم (2) .
6- الفتح:29
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
والمعني:
__________
(1) - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(2/50) دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1959م.وقد رواه الحاكم في المستدرك(3/70 - برقم4422)- بسند جيد- وقال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) - وقال حسين الموسوي: لما سألت الإمام الخوئي عن قول أبي عبد الله للمرأة بتولي أبي بكر وعمر، قال: إنما قال لها ذلك تقية!!. وأقول للإمام الخوئي: إن المرأة كانت من شيعة أهل البيت، وأبو بصير من أصحاب الصادق - عليه السلام - فما كان هناك موجب للقول بالتقية لو كان ذلك صحيحاً، فالحق إن هذا التبرير الذي قال به أبو القاسم الخوئي غير صحيح.أهـ من كتاب لله ثم للتاريخ ص: 29(1/317)
محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار، متراحمون، متعاطفون فيما بينهم، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرًا، يرجون بذلك ثوابًا عظيمًا من الله ورضوانًا عميمًا، علامتهم خشوعٌ ظاهرٌ فى وجوههم من أثر الصلاة كثيرًا، ذلك هو وصفهم العظيم فى التوراة، وصفتهم فى الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه، فآزره، فتحول من الدقة إلى الغلظ، فاستقام على أصوله، يُعجب الزراع بقوته، وكان المؤمنون كذلك، ليغيظ الله بقوتهم الكفار، وعد الله هؤلاء الصحابة الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة تمحو جميع ذنوبهم، وأجرًا عظيمًا وهو الجنة.
فالآية المباركة تتضمن ما يلي (1) :
1- ثناء الله تعالى على أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بالثناء العاطر، وشهادته لرسوله بصدق الرسالة فقال { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } قال أبو السعود: أي يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة قال المفسرون: وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم:{ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً }[التوبة: 123]
2- المثل الذي ضربه الله تعالى في الإنجيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم كالزرع يظهر في أول نباته رقيقاً ضعيفاً متفرقاً، ثم ينبت بعضه حول بعض، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد وتعجب جودته أصحاب الزراعة، العارفين بها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في أول الإسلام في قلة وضعف ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة حتى بلغوا ما بلغوا.
وما تضمنته الآية الكريمة من المثل المذكور جاء موضحاً في آيات من كتاب الله تعالى كقوله
{
__________
(1) - أنظر:صفوة التفاسير للصابوني ( 3/ 227-228 ), أضواء البيان في تفسير القرآن للشنقيطي (7/ 398)(1/318)
وَاذْكُرُو?اْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ }[الأنفال: 26] الآية. وقوله تعالى:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ }[آل عمران: 123] وقوله تعالى:{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ }
[المائدة: 3] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
3- وعد اللهِ تعالى للصحابة في الآخرة بالمغفرة التامة والأجر العظيم والرزق الكريم في جنات النعيم، اللهم أرزقنا محبتهم يا رب العالمين.
في تفسير الجلالين:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم } أي الصحابة و(من) لبيان الجنس لا للتبعيض لأنهم كلهم بالصفة المذكورة { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } الجنة وهما لمن بعدهم أيضاً كما في آيات. أهـ (1)
ومن تفاسير الاثنى عشرية:
قال الطبرسي في المجمع:
قال سبحانه: { محمد رسول الله } نص سبحانه على اسمه ليزيل كل شبهة, تم الكلام هنا, ثم أثنى على المؤمنين فقال { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } قال الحسن: بلغ من تشددهم على الكفار أن كانوا يتحرزون من ثياب المشركين حتى لا تلتزق بثيابهم وعن أبدانهم حتى لا تمس أبدانهم وبلغ تراحمهم فيما بينهم إن كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه ومثله قوله { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }[المائدة: 54] { تراهم ركعاً سجداً } هذا إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي يلتمسون بذلك زيادة نعمهم من الله ويطلبون مرضاته...إلى أن قال الطبرسي :
__________
(1) - تفسير الجلالين :ص 683 الناشر : دار الحديث – القاهرة- الطبعة الأولى.(1/319)
ثم قال سبحانه { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي وعد من أقام على الإيمان والطاعة { منهم مغفرة } أي ستراً على ذنوبهم الماضية { وأجراً عظيماً } أي ثواباً جزيلاً دائماً.أهـ (1)
قال الطوسي في تفسيره التبيان:
{ وعد الله الذين آمنوا } يعني من عرف الله ووحده وأخلص العبادة له وآمن بالنبي صلى الله عليه وآله وصدقه { وعملوا } مع ذلك الأعمال { الصالحات منهم } قيل: إنه بيان يخصهم بالوعد دون غيرهم. وقيل يجوز أن يكون ذلك شرطاً فيمن أقام على ذلك منهم، لأن من خرج عن هذه الأوصاف بالمعاصي فلا يتناوله هذا الوعد { مغفرة } أي ستراً على ذنوبهم الماضية { وأجراً } أي ثواباً { عظيماً } يوم القيامة.أهـ (2)
وقال الطباطبائي في تفسيره الميزان:
وقوله: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } ضمير { منهم } للذين معه، و { من } للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والأجر العظيم بالإِيمان حدوثاً وبقاء وعمل الصالحات.أهـ (3)
__________
(1) - مجمع البيان ( 9/212-213)
(2) - التبيان (9/338)
(3) - الميزان ( 18/301)(1/320)
* فأنت ترى أن في الأية مدحًا لأصحاب النبي كما هو ظاهر, لذلك ترى تفاسير الشيعة الاثنى عشرية تتفق مع تفاسيرأهل السنة في ذلك, فظاهر الآية يجبرهم على ذلك , ولكن لسوء اعتقاد أكثرهم في جُلّ الصحابة ذهبوا إلى آخر كلمات في الآية ليفسروها بما يتفق مع أهوائهم فصدق فيهم قول الله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} { آل عمران:7} فذكروا في تفاسيرهم أن كلمة (من) في قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } للتبعيض , بمعنى أن وعد الله بالمغفرة والجنة يتحقق لبعض الصحابة دون بعض , حتى يخرجوا بذلك كل من رضي بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان بعد النبي صلى الله عليه وسلم ,بناءً على عقيدتهم أن الخليفة بعد النبي هو علي بن أبي طالب فتآمر الصحابة- بزعمهم- لغصب الخلافة من عليٍّ, وإعطائها لأبي بكر, وبذلك أخرجوهم من وعد الله لهم في هذه الآية, مع أن الثناء في أول الآية لعموم الصحابة حيث قال: (والذين معه) ولم يقل: ( وبعض الذين معه) , فانظر ماذا يصنع الهوى بصاحبه؟.
وقد ذكر أهل السنة في تفاسيرهم أن كلمة (مِن) في الآية ليست للتبعيض كما يزعم هؤلاء , بل هي على معنيين (1) :
الأول: لبيان الجنس والمثل , أي أن وعد الله متحقق لهم ومن هو مثلهم, كما في قول الله تعالى: { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ }{الحج:30} فلا يقول عاقل أن من هنا تبعيضية وإلاّ كان المعنى فاجتنبوا بعض الأوثان ولا تجتنبوا بعضها.وهذا باطل. وإنما (من) هنا لبيان الجنس والمثل فيكون المعنى اجتنبوا الرجس من جنس الأوثان عموماً, أو اجتنبوا الرجس من أمثال هذه الأوثان.
__________
(1) - تفسير القرطبي(16/230-231)(1/321)
الثاني: كلمة (مِن) هنا للتوكيد.فيكون المعنى : وعدهم الله تعالى كلهم مغفرة وأجرًا عظيما, كما يقول العربي: قطعت منالثوب قميصًا, ويريدُ قطعت الثوب كله قميصًا, وكما في قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينًَ } {الإسراء:82} فليس معنى الآية أن بعض القرآن شفاءٌ للمؤمنين وبعضه ليس شفاءً.وإنما المعنى:القرآن كله شفاءٌ للمؤمنين , فكلمة(من)هنا مؤكدة للكلام.
ومما سبق بيانه يتضح أن معنى (منهم) في الآية المباركة -التي نحن بصدد تفسيرها- هي لبيان الجنس والمثل, أي من أمثالهم, أو للتأكيد عليهم رضي الله عنهم أجمعين.
ويؤيد ذلك سياق الآية فهي مدح لكلهم ليس فيها ذمٌ لبعضهم , فزكى ظاهرهم بالسجود والركوع والتذلل له فقال(تراهم ركعاً سجّداً) وزكى باطنهم فقال: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) فبان بذلك مخالفتهم التامة لما عليه المنافقون من خبث الباطن والطوية كما في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُو?اْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } {النساء:142} بل إن قوله تعالى في مدح الصحابة: { تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } يدل على الاستمرار. ويؤيد ذلك أن الله مًكَّن لهم في الأرض واستخلفهم فيها لأنهم حققوا ما وعد الله به المؤمنين في قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }{ النور:55}.(1/322)
إنَّ من تدبر كتاب الله تعالى بإنصاف وعدم اتباع للهوى عرف فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ,وأنهم خير أتباعٍ لخير نبي صلى الله عليه وسلم, فما رزق نبي بأصحابٍ أعانوه على دعوته ونشر دينه كما رزق نبينا صلى الله عليه وسلم,إن الله تبارك وتعالى أثنى عليهم في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}{الحديد:10} أي الذين أنفقوا من قبل الفتح والذين أنفقوا من بعد الفتح كلهم وعدهم الله تبارك وتعالى الحُسنى , وماذا يترتب على وعد الله تبارك وتعالى بالحسنى؟ يترتب عليه الجنة كما قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}{الأنبياء:101-102} , وأخبر الله تعالى بأنه رضي عنهم وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً, وذلك واضح جليٌّ في قول الله تبارك وتعالى فيهم : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهْارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبََدًا ذَلكَ الفوْزُ العَظِيمُ}{التوبة:100} , و لنتدبر قول الله تعالى: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا(1/323)
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}{الحشر:8-9} , و قول الله تبارك وتعالى:{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}{الفتح: 18} فانظر كيف زكى الله تعالى فعلهم(إذ يبايعونك) وزكى باطنهم(فعلم ما في قلوبهم) لذلك نالوا رضا الله ,ونزول السكينة والفتح القريب, وكانوا ألفًا وأربعمائة أو ألفًا وخمسمائة,وقال ابن عباس: قد أخبرنا الله عز وجل في القرآن أنه رضي عن أصحاب الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فهل أخبرنا أنه سخط عليهم بعد ذلك؟ (1) " .
وأقول:هل من يرضى عنه الله يمكن أن يكون منافقًا؟ إن الله تعالى لا يرضى إلا عن المؤمنين لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان و ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة, فالله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم ولا يرضى الله عن قوم يعلم أنهم سيُختم لهم بالنفاق والكفر والعياذ بالله .
إن من أبرز صفات المنافقين في كتاب الله جل وعلا أنهم أجبن الناس , يخافون على أنفسهم ويخافون الموت ولذلك تجدهم مذبذبين كما قال الله جل وعلا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء }[النساء 143] فهل هذه الصفات هي صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين باعوا أنفسهم وأشتروا الجنة و الذين ضحوا بالأوطان والأموال وأغلى ما يملكون وبذلوا كل شيء في سبيل الله تبارك وتعالى,وهم الذين قاتلوا المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , وهم الذين فتحوا البلاد , فتحوا الهند والسند وفتحوا الشام ومصر
__________
(1) - رواه الحاكم في المستدرك(3/143-رقم4652) والنسائي في الكبرى(5/112-رقم8409).(1/324)
وفتحوا العراق وبلاد فارس, وكسروا شوكة الروم,ونشروا الدين وعلت راية التوحيد في كثير من جنبات الأرض على أيديهم , ثم يقال عنهم – بعد ثناء الله عليهم ورضاه عنهم-أنهم باعوا دينهم من أجل الدنيا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.. ولم يبق على الإسلام إلا ثلاثة!! وقيل أربعة , وقيل غير ذلك (1) .
__________
(1) - يروون عن أبي جعفر كذبًا أنه قال : كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة ".[ تفسير العياشي (1/199) و البحار للمجلسي (22/333) ].
-وأيضًا في كتاب الكافي: عن حمران قال : قلت لأبي جعفر "ع" ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها ؟ . فقال : ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ قال . فقلت بلى . قال : المهاجرون والأنصار ذهبوا ... إلا ثلاثة " [الكافي (2 / 244)]
- وذكر الكشي صاحب كتاب معرفة أخبار الرجال(رجال الكشي رقم 24 ) بسنده عن أبي بكر الحضرمي : "قال أبوجعفر الباقر عليه السلام: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان وأبوذر والمقداد، قال: قلت: فعمار؟ قال: قد كان حاص حيصة ثم رجع، ثم قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، وأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض.... وأما أبوذر فأمره أمير المؤمنين بالسكوت ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم فأبى إلا أن يتكلم فمر به عثمان ، فأمر به ، ثم أناب الناس بعد ، وكان أول من أناب أبو ساسان الأنصاري وأبو عمرة وشتيرة وكانوا سبعة فلم يكن يعرف حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلا هؤلاء السبعة ". [ بحار الأنوار(28/239) ]
- و قالوا : إن الرسول ابتٌلِيَ بأصحاب قد ارتدوا من بعده عن الدين إلا القليل.
السيد مرتضى الحسيني الفيروز آبادي النجفي "كتاب السبعة من السلف" المكتبة الثقافية " ص 7 .
- أما موقفهم من أبي بكر وعمر وعثمان وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة : فقد ذكر المجلسي مبينًا عقيدة الاثنى عشرية حسب رأيه : "وعقيدتنا (الشيعة) في التبرؤ: أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، والنساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم، وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرؤ من أعدائهم". حق اليقين، لمحمد الباقر المجلسي، ص519 ، وقال المجلسي : « الأخبار الدالة على كفر أبي بكر وعمر وأضرابهما وثواب لعنهم والبراءة منهم أكثر من أن يذكر في هذا المجلد أو في مجلدات شتى وفيما أوردناه كفاية لمن أراد الله هدايته إلى الصراط المستقيم» (بحار الأنوار30/399).
حتى العباس وعقيل وهما من أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بني هاشم لم يسلما من الطعن فقد ذكر محمد باقر المجلسي "أنه يثبت من أحاديثنا أن عباسًا لم يكن من المؤمنين الكاملين وأن عقيلاً كان مثله (في عدم كمال الإيمان)" . كتاب حياة القلوب،ج2، ص866 ، وكذلك أيضًا قال المجلسي: "روى الإمام محمد الباقر عن الإمام زين العابدين عليه السلام بسند معتمد أن هذه الآية (من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)، فقال الإمام زين العابدين : نزلت في حق عبدالله بن عباس وأبيه". حياة القلوب، ج2، ص865 ,وانظر مستدرك سفينة البحار لعلي الشاهرودي(7/448).(1/325)
و في تفسير العياشي(1/199) بسنده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قبض صار الناس كلهم أهل جاهلية الا أربعة: علىّ والمقداد وسلمان وأبو ذر ، فقلت : فعمار ؟ فقال : إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شئ فهؤلاء الثلاثة" . ولست أدري أين ذهبت العقول؟. أنكذب كتاب الله عزّ وجلّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه, ونصدق روايات الكذابين والزنادقة الذين يريدون هدم الدين وتمزيق الأمة؟.
وفي السُّنة أحاديث كثيرة تبين فضائل الصحابة نذكر منها:
1- ما رواه البخاري( 3470) ومسلم(2540)عن أبي سعيد الخدري ورواه مسلم(2541)- واللفظ له- عن أبي هريرة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي, لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي, فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ".
2- في الصحيحين :البخاري(2509) ومسلم(2533)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ".
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ "[ صحيح:رواه أحمد(14820) وأبو داود(4653)والترمذي(3860) وصححه].(1/326)
4- روى مسلم (2531) وغيره عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ: فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ: أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ, قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ, وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ, فَقَالَ: النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ, فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ, وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي, فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ, وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي, فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ".
5- وروى مسلم(2532) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ, ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ, ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ ".(1/327)
6- عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقَالَ:" لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ :{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا }[ مريم:71] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَهْ, { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا }[مريم:72] "[ صحيح:رواه أحمد(27087) وغيره].(1/328)
7- وفي الصحيحين: البخاري(2845) ومسلم(2494) وغيرهما عن عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ- كاتب علي- يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا قَالَ فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ قُلْنَا لَهَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ قَالَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ , يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا , وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ , فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي , وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ, فَقَالَ صلى الله عليه(1/329)
وسلم: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " .
وأما الأثار فنذكر فقط منها:
1- قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى خلقه فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح" (1) .
2- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان مستنا فليستن بمن قد مات, أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كانوا خير هذه الأمة, أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا, وأقلها تكلفًا, قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم, ونقل دينه, فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم , فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم" (2) .
3- وفي كتب الشيعة الاثنى عشرية ما يؤكد ذلك ,نذكر منها:
- ما في بحار الأنوار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني" (3) .
- وفي كتاب الكافي:عن ابن حازم قال: قلت لأبي عبد الله.. فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد صلى الله عليه وسلم أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا (4) ".
- وفي نهج البلاغة وغيره (5) :
__________
(1) - حلية الأولياء(1/375) بسند صحيح.
(2) - الحلية (1/305-306) بسند صحيح.
(3) - بحار الأنوار: ( 22/ 305 )
(4) - أصول الكافي: (1/65)، بحار الأنوار:( 2/228)
(5) - نهج البلاغة(1/190) بشرح الشيخ محمد عبده , وانظر: الأمالي للشيخ المفيد(ص:197) ومستدرك الوسائل(4/467) وخاتمة المستدرك (1/211).
ومعنى ركب المعزى: جمع ركبة موصل الساق من الرجل بالفخذ , وخص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة أي أنهم لطول سجودهم بطول سهودهم وكأن بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم عن النوم والاستراحة.(1/330)
أن علي بن أبي طالب وَصَف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لشيعته فقال : لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فما أرى أحداً يشبههم منكم , لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم , ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكَب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب .
- وفي الصحيفة السجادية (ص: 43 ) - وذكره في خاتمة المستدرك (1) - جاء في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بعد أن قام بالدعاء والصلاة على أتباع الرسل قال:" ...اللهم وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله خاصة , الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته ، يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر وتعلقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات ، إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك ، وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم " .
__________
(1) - خاتمة المستدرك للميرزا النوري (1/211 )(1/331)
- وفي بحار الأنوار:عن موسى الكاظم بن جعفر الصادق رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أمنة لأصحابي، فإذا قُبِضت دنا من أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمّتي، فإذا قٌبِضَ أصحابي دَنَا من أمّتي ما يوعدون، ولا يزال هذا الدّين ظاهرًا على الأديان كلّها ما دام فيكم من قد رآني" (1) .
ولكن الشيعة كعادتهم تركوا روايات مدح الصحابة, وأوَّلوها على أهوائهم , وأخذوا روايات الذم.
فوائد ذات صلة:
الأولى: أجمع أهل السنة والجماعة على عدالة كل الصحابة , للآيات الكثيرة التي أثنى الله عليهم بها في كتابه, وللأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم وقد ذكرنا طرفًا منها.
مع الاعتراف بالتفاوت بينهم في المنزلة,وذلك لا يضر, فالرسل الذين هم أفضل البشر يتفاوتون في المنزلة قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ }{البقرة:253} والصحابة يخطئون ويصيبون,ولكن خطأهم يكون عن اجتهادٍ منهم لا عن تعمد, وهوقليل ,إذا ما قورن بما أصابوا فيه, وهم ليسوا بمعصومين, فلا عصمة لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر العسقلاني:اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة.أهـ (2)
وقال الخطيب البغدادي: على أنه لو لم يرد من الله عز وجلّ ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه- يقصد الأدلة من الكتاب والسنة على عدالتهم وفضلهم-لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المُهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين- القطع على عدالتهم والاعتقاد على نزاهتهم, وأنهم أفضل من المعدِّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين.أهـ (3)
__________
(1) - بحارالأنوار: (22/ 309-310 )
(2) - الحافظ ابن حجر/ الإصابة في تمييز الصحابة (1/17)
(3) -الخطيب البغدادي/الكفاية في علم الرواية ص: 96(1/332)
وكذا نقل العراقي وابن الصلاح وابن كثير وغيرهم الإجماع على عدالة الصحابة.
الثانية: قال أبو زرعة الرازي: « إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحابُ رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (1) .
الثالثة:قال القرطبي: روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } حتى بلغ { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }. فقال مالك: مَن أصبح من الناس في قلبه غيظٌ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية(يعني مالك:ليغيظ بهم الكفار)؛ ذكره الخطيب أبو بكر.
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رَبِّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ } الآية. وقال:{ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }[الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادةَ لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى:{ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ }[الأحزاب:3 2]. وقال:{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ـ إلى قوله ـ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }[الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل:
{
__________
(1) - الكفاية في علم الرواية ص:49(1/333)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ـ إلى قوله ـ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
[الحشر: 9] . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم"أهـ (1) .
الرابعة: قال الشعبيّ: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سُئلت اليهود: مَن خير أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل مِلَّتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل مِلتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمِروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. ذكره القرطبي (2) .
الخامسة: اعلم أن أهل البيت رضي الله عنهم كانت تربطهم بالصحابة, وتربط الصحابة بهم, علاقات طيبة تسودها المودة والمحبة, ولم يكن بينهم أحقاد أو ضغائن كما يدّعي الشيعة الاثنى عشرية في كتبهم , ويذكرون روايات كاذبة عن أهل البيت في ذلك, نعم عندهم روايات عن أهل البيت تمدح الصحابة , ولكن أكثر رواياتهم تذم الصحابة, فأخذوا بروايات الذم,وتركوا روايات المدح وزعموا أن أهل البيت رضي الله عنهم قالوها تقية.
وسأذكر بعض الأمثلة التي تؤكد حسن العلاقة بينهم:
1-زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه أم كلثوم ورُقيَّة لعثمان بن عفان,واحدة بعد وفاة الأخرى.
2- زوّج أيضًا ابنته زينب للعاص بن الربيع.
3- زوَّج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
4- وتزوج علي بن أبي طالب أسماء بنت عُميس أرملة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
5- محمد بن أبي بكر الصديق هو ربيب عليّ أي تربَّى عنده مع أمه أسماء بنت عميس.
6- تزوج عليٌّ رضي الله عنه من أمامة بنت العاص بن الربيع بعد وفاة خالتها فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
__________
(1) - تفسير القرطبي(16/231)
(2) - تفسير القرطبي(18/26)(1/334)
7- وتزوَّج محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
ولذلك كان ابنه جعفر الصادق رضي الله عنه يقول: وَلَدني أبو بكر مرتين (1) ,لأن أمُّه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمُّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
8- أبان بن عثمان بن عفان تزوج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
9- وسكينة بنت الحسين بن علي تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام.
وغير هذا كثير فالزواج بينهم كثير جدًا والعلاقة حميمة .
__________
(1) - ذكرها المجلسي في البحار(92/651) فهل يستطيع أحد من الشيعة إنكار نسبه هذا ؟؟ وإن أنكروا أنه قال هذا الكلام , لكن لا يستطيعون إنكار الزواج نفسه, فهل سيتزوج أحد من أهل البيت رضوان الله عليهم من أعدائهم وخصوصاً أبي بكر وهو مغتصب الخلافة كما يزعمون !!و قد جاء ما يؤكد ذلك أيضًا: في كتاب مقاتل الطالبيين للأصفهاني( تحت اسم : عبد الله بن محمد..) يقول: وعبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أخو جعفر بن محمد , أمهما جميعاً أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر . وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر لأم ولد.أهـ. وفي الكافي (1/472) : باب مَوْلِدِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ( عليه السلام ) قال الكليني: وُلْدِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) سَنَةَ ثَلَاثٍ وَ ثَمَانِينَ وَ مَضَى فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَ أَرْبَعِينَ وَ مِائَةٍ وَ لَهُ خَمْسٌ وَ سِتُّونَ سَنَةً وَ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي الْقَبْرِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ أَبُوهُ وَ جَدُّهُ وَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) وَ أُمُّهُ أُمُّ فَرْوَةَ بِنْتُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَ أُمُّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.أهـ(1/335)
10- علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمَّي أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان. فهل كان يداهنهم ويتقيهم وهو الشجاع الأَبيُّ؟
11- وكذلك الحسن سمَّي أبا بكر.
12- وعلي بن الحسين سمَّي عُمر.
13- وموسي بن جعفر سمَّي موسي وعائشة.فما حملهم على اختيار هذه الأسماء إلا المودة بينهم.
وسأذكر بعض الأمثلة التي تبين كيف كان يُجِلُّ الصحابة أهلَ البيت وكيف يعاملونهم:
1- قال أبو بكر رضي الله عنه لعليٍّ رضي الله عنه: والذي نفسي بيدِه لَقرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ من قرابَتِي. رواه البخاري(3508) ومسلم(1759).
2- وعن ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ارقُبُوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. رواه البخاري(3509) وغيره.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: يخاطِبُ بذلك الناسَ ويوصيهم به والمراقبةُ للشيء: المحافظةُ عليه، يقول: احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تُسيئوا إليهم. أهـ (1) .
3- وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب فقال: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقِنا، قال: فيُسقَوْن". رواه البخاري(964) وغيره.
4- وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله تعالى عنهما: والله لإِسلاَمُك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطاب لو أسلَمَ ,لأنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. (2)
__________
(1) - فتح الباري(7/63)
(2) - تاريخ الطبري(2/331) والسيرة النبوية لابن هشام(4/25) وغيرهما, وعند الشيعة ذكره المجلسي في كتابه بحار الأنوار(21/104),والطبرسي في تفسيره مجمع البيان (10/471) والأميني في كتابه الغدير(10/77).(1/336)
5- وقال ابن تيمية رحمه الله: إنَّ عمر بنَ الخطاب رضي الله عنه لَمَّا وضع ديوان العَطاءِ كتب الناسَ على قَدْرِ أنسابِهم فبدأ بأقربِهم فأقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا انقضت العربُ ذكر العَجَم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بَنِي أُميَّة ووَلَدِ العباس إلى أن تغيَّر الأمرُ بعد ذلك. أ هـ (1) .
6- وقال الذهبي في ترجمة العبَّاس: كان العبَّاسُ إذا مرَّ بعمر أو بعثمان وهما راكبان نزلاَ حتى يُجاوِزهما إجلالاً لعمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهـ (2) .
7- وفي الطبقات لابن سعد عن سَعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّه قال: ما رأيتُ أحضَرَ فهْماً ولا أَلَبَّ لُبًّا ولا أكثرَ علماً ولا أوسَعَ حِلْماً من ابن عباس، ولقد رأيتُ عمر بنَ الخطاب يدعوه للمعضلات. أهـ (3) .
8- وفي صحيح البخاري(3506) بإسناده إلى الشعبي: «أنَّ ابنَ عمر رضي الله عنهما كان إذا سلَّم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابنَ ذي الجناحين».
9-وفي طبقات ابن سعد: عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنَّ عمر بن عبدالعزيز رحمه الله- وهو من التابعين وكان خليفة أمويًا عادلاً راشدًا- قال لها: «يا ابنة عليّ , والله ما على ظهر الأرض أهلُ بيت أحبُّ إليَّ منكم، ولأَنتم أحبُّ إليَّ مِن أهل بيتِي» (4) .
7- التحريم:1-5
{
__________
(1) - كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1/446)
(2) - أنظر كتابيه:سير أعلام النبلاء(2/93) وتاريخ الإسلام(3/377)
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد(2/369)
(4) - الطبقات الكبرى لابن سعد(5/334)(1/337)
ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }
وللمفسرين في هذه الآيات أقوال (1) :
__________
(1) - أنظر تفسير ابن كثير ( 4/386-389) والقرطبي (18/138-149) والتفسير لعبد الله شحاته(14/5939) وغير ذلك مما هو مذكور.بالإضافة إلى تفاسير الشيعة.(1/338)
الأول: أنها نزلت في شأن مارية أم ولده إبراهيم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّمها على نفسه إرضاءً لحفصة وعائشة رضي الله عنهما.وهذا السبب مذكور في معظم تفاسير أهل السنة والشيعة,ويؤيده ما رواه النسائي في سننه(3959)- في باب الغَيْرة- بسند صحيح, و الحاكم(3824) وصححه: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }إِلَى آخِرِ الْآيَةِ" , وقد روي من عدة طرق مرسلاً عن بعض التابعين بالتصريح باسم الأََمَة وهي مارية أم إبراهيم.
الثاني:أنها نزلت في تحريمه العسل على نفسه إرضاءً لهما.وهو ما رجحه القرطبي وابن كثير وغيرهما.
وهذا السبب مذكور في تفاسير أهل السنة والشيعة أيضًا ويؤيده:
ما رواه أحمد(25894) والبخاري(4966) ومسلم(1474) والنسائي(3421) وغيرهم: عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ:: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ, أَكَلْتَ مَغَافِيرَ, فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ, فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ, وَلَنْ أَعُودَ لَهُ, فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ } لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ } لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا".(1/339)
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ إلى زوجته حفصة أن أبا بكر وعمر سيتوليان الخلافة بعده,وحذرها من إفشاء هذا السر فأخبرت به عائشة,وهذا مشهور في كتب الشيعة (1) , وذكره بعض مفسري أهل السنة, ولكن لا يصح هذا. بل الوارد في الأحاديث الصحيحة ما ذكرناه سابقًا من تحريم العسل على نفسه وحدَّث حفصة بذلك وأمرها ألاّ تخبر بذلك أحدًا كما جاء فى بعض الروايات .
والروايات بذلك أقوى وأصح سندًا رواها البخاري ومسلم وغيرهما
أو ما قاله لحفصة في شأن جاريته وأنه حرّمها على نفسه وأمرها أن تكتم عنه فأخبرت بذلك عائشة . ويؤيده ما رواه الهيثم بن كليب في مسنده:عن ابن عمر عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: " لا تخبري أحداً، وإن أم إبراهيم علي حرام " فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: " فوالله لا أقربها " قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال: فأنزل الله تعالى: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }"ذكره ابن كثير فى تفسيره وقال: هذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج"أهـ (2) .
__________
(1) -والشيعة يذكرون ذلك وهو حجة عليهم حيث فيه دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بذلك , وإقراره له , لو كانوا يعقلون! , وليس لهم أن يحتجوا بضعف الحديث عندنا لأنهم لا يأخذون بتضعيف علماء الحديث من أهل السنة , فلماذا يقبلون تضعيف علمائنا لهذا الحديث ولا يقبلونه في مواضع أخرى , فإما أن يقبلوا تضعيف علمائنا لهذا الحديث ولغيره من الأحاديث التي بنى عليها الشيعة كثيرًا من مذهبهم أو يردوا الكل.
(2) - تفسير ابن كثير (4/386)(1/340)
ثم نجد من مفسري الشيعة من زعم أن أبا بكر وعمر لما علما من بنتيهما بأنهما سيليان الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم تآمرا على قتله بدس السم له, سبحانك هذا بهتان عظيم , أيقتلانه لأنه بَشَّر بخلافتهما؟ هل يقول هذا عاقل؟ سأكتفي بنقل مثال واحد من تفاسيرهم:
قال الفيض الكاشاني:
{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
القمّي: عن الصادق عليه السلام قال: اطّلعت عائشة وحفصة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو مع مارية فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله والله ما أقربها بعد فأمره الله أن يكفّر عن يمينه
وروي أنّه خلا بمارية في يوم حفصة أو عائشة فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرّم مارية فنزلت وقيل شرب عسلاً عند حفصة فواطأت عائشة وسودة وصفيّة فقلن له إنّا نتنسّم منك ريح المغافير فحرّم العسل فنزلت ويأتي تمام الكلام فيه.
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ } قد شرّع لكم تحليلها وهو حلّ ما عقدته بالكفارة { وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ } متولي اموركم { وَهُوَ الْعَلِيمُ } بما يصلحكم { الْحَكِيمُ } المتقن في أفعاله وأحكامه.
{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ } أخبرت به { وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ } وأطلع الله النبيّ على الحديث أي على إفشائه { عَرَّفَ بَعْضَهُ } عرّف الرسول بعض ما فعلت { وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ } عن إعلام بعضٍ تكرّماً وقرىء بالتخفيف.
في المجمع: واختار التخفيف أبو بكر بن أبي عيّاش وهو من الحروف العشرة التي قال إنّي أدخلتها في قراءة عاصم من قراءة عليّ بن أبي طالب عليه السلام حتّى استخلصت قراءته يعني قراءة عليّ عليه السلام.
{(1/341)
فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } القمّي: كان سبب نزولها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان في بعض بيوت نسائه وكانت مارية القبطية تكون معه تخدمه وكان ذات يوم في بيت حفصة فذهبت حفصة في حاجة لها فتناول رسول الله صلّى الله عليه وآله مارية فعلمت حفصة بذلك فغضبت وأقبلت على رسول الله فقالت يا رسول الله في يومي وفي داري وعلى فراشي فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وآله منها فقال: كفى فقد حرّمت مارية على نفسي ولا أطأها بعد هذا أبداً وأنا أفضي إليك سرّاً إن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين, فقالت: نعم ما هو؟ فقال: إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي ثمّ بعده أبوك, فقالت { مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك وأخبرت عائشة أبا بكر فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء ولا أثق بقولها, فاسأل أنت حفصة, فجاء عمر إلى حفصة فقال: ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة فأنكرت ذلك وقالت ما قلت لها من ذلك شيئاً, فقال لها عمر: إنّ هذا حقّ فأخبرينا حتى نتقدّم فيه, فقالت: نعم, قد قال رسول الله. فاجتمعوا أربعة على أن يسمّوا رسول الله صلّى الله عليه وآله , فنزل جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله بهذه السورة قال {وأظهره الله عليه} يعني: أظهره الله على ما أخبرت به وما همّوا به من قتله. {عرف بعضه} أى خبرها, وقال: لم أخبرت بما أخبرتك .{وأعرض عن بعض} قال: لم يخبرهم بما يعلم ممّا همّوا به من قتله.(1/342)
وفي المجمع :قيل إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله خلا في بعض يوم لعائشة مع جاريته أمّ إبراهيم مارية القبطيّة فوقفت حفصة على ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لا تعلمي عائشة ذلك وحرّم مارية على نفسه فأعلمت حفصة عائشة الخبر, واستكتمتها إيّاه, فأطّلع الله نبيّه على ذلك وهو قوله (وَإِذْ أَسَرّ النبيّ الى بعض ازواجه حديثاً) يعني حفصة ولمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض: أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي.
قال: وقريب من ذلك ما رواه العيّاشي عن أبي جعفر عليه السلام إلاّ أنّه زاد في ذلك أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر.
{ إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ } خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة في المعاتبة { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الواجب من مخالصة الرسول بحبّ ما يحبّه وكراهة ما يكرهه { وَإِنْ تَظاهَرَا عَلَيْهِ } وإن تتظاهرا عليه بما يسوؤه وقرىء بالتخفيف.
في المجمع والأمالي :عن ابن عبّاس أنّه سأل عمر بن الخطاب من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال عائشة وحفصة.
وفي الجوامع :رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قرأ ( وإن تظاهروا عليه).
أقولُ: كأنّه أشرك معهما أبويهما (1) .
{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } فلن يعدم من يظاهره فانّ الله ناصره وجبرئيل رئيس الكرّوبيّين قرينه وعليّ بن أبي طالب أخوه ووزيره ونفسه { وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } مظاهرون.
القمّي: عن الباقر عليه السلام قال: صالح المؤمنين هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
__________
(1) - أنظر ماذا يقول على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.(1/343)
وفي المجمع عنه عليه السلام قال: لقد عرّف رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً أصحابه مرّتين: أمّا مرّة فحيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه, وأمّا الثانية لما نزلت هذه الآية {فانّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد عليّ عليه السلام وقال: يا أيّها الناس هذا صالح المؤمنين, وقالت أسماء بنت عميس: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وآله يقول وصالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
قال: ووردت الرواية من طريق العام والخاص أنّ المراد بصالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. .أهـ (1)
الرابع: قوله تعالى:{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }.
ومعنى { فَرَضَ } هنا:شرع، والتَّحِلة: مصدر بمعنى التحليل، والمراد بها الكفارة.
والمعنى: قد شرع الله - تعالى - لكم تحليل الأيمان التى عقدتموها، عن طريق الكفارة، لأن اليمين إذا كانت فى أمر لا يحبه الله تعالى فالعدول عنها أولى وأفضل. ففي صحيح مسلم(1650):عن أبي هريرة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها وليكفر عن يمينه"
وقد اختلف العلماء فى التحريم الذى كان من النبى - صلى الله عليه وسلم - أكان بيمين أم لا.
وظاهر الآية يؤيد القول بالإِيجاب لقوله - تعالى -: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } لأن هذه الجملة الكريمة تشعر بأن هناك يمينا تحتاج إلى كفارة .
__________
(1) -- الصافي(5/193-195) وانظر تفسير نور الثقلين(5/370-372) والميزان (19/331-332)(1/344)
قال ابن كثير : ومن ههنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرَّم جاريته أو زوجته أو طعاماً أو شراباً أو ملبساً أو شيئاً من المباحات، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة، وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا حرَّم عينيهما، أو أطلق التحريم فيهما، في قولٍ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة، أو عتق الأمة، نفذ فيهما.أهـ (1)
الخامس:أن الله عاتب حفصة وعائشة على صنيعهما ودلّهما على التوبة إليه تعالى لذا بدأ بها لعلمه بأنهما سيتوبا, ثم هددهما -إن بقيا على تظاهرهما على النبي صلى الله عليه وسلم- بأن الله ناصره ومعينه وكذا جبريل كبير الملائكة, وصالحو المؤمنين والملائكة كلهم مؤيد له وناصرومعين, وإنما خص جبريل بالذكر مع أنه من الملائكة لشرفه وعلو مكانته فهو أمين الوحي وأشرفهم ذو قوة عند ذي العرش مكين, وكذا هدد الله تعالى جميع نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا طلقهن النبي صلى الله عليه وسلم لتقصيرهن في حقه سيبدله الله خيرًا منهن لأن التي طلقت قد نزلت مكانتها, ولا تستحق أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا أمًا للمؤمنين بسبب إصرارها على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم, ولذا سيكون البديل للنبي صلى الله عليه وسلم خيرًا منها.
__________
(1) - تفسير ابن كثير(4/387)(1/345)
السادس: أن المقصود بقوله (وصالح المؤمنين) العموم: أي كلّ مؤمن صالح, والمراد بالصالح -عند كثير من المفسرين- الجنس الشامل للقليل والكثير، وأريد به الجمع هنا، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر، ولذا عم بالإضافة، ويجوز أن يكون اللفظ جمعًا، وكان القياس أن يكتب ـ وصالحو ـ بالواو إلا أنها حذفت خطاً تبعاً لحذفها لفظًا، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ } [الإسراء: 11]. و{ يَدْعُ الدَّاعِ } [القمر: 6]. و{ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ }[العلق: 18]{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ }{ص:21} (1) .
__________
(1) - تفسير روح المعاني للألوسي ( 28/153)(1/346)
أما تفاسير الشيعة فأجمعت على أن المقصود بذلك هو علي بن أبي طالب كعادتهم في إضافة كل فضيلة في القرآن إلى علي رضي الله عنه, ونحن لا ننكر فضائله رضي الله عنه, , ولكن بالروايات الصحيحة لا بالروايات الضعيفة أو التي لا أصل لها , فهو رضي الله عنه غني عن الكذب لأجله, فمناقبه كثيرة , ويدعون أن تفاسير أهل السنة تقول أنها في علي , ونحن نقول منهم من قال:هي في عمر خاصة, كسعيد بن جبير والحسن, ومنهم من قال: هي في أبي بكر وعمر, وهم كثير,. فقد أخرج الطبراني في «الأوسط»( 820). عن ابن عمر. وابن عباس قالا: نزلت { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } في أبي بكر. وعمر، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة. وميمون بن مهران. وغيرهما، وأخرج الحاكم (4433) وصححه عن أبي أمامة, والطبراني في الكبير(10477) وغيره عن ابن مسعود " عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر. وعمر " ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وأن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهاية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيراً في قلوب بنيتهما وتوهيناً لأمرهما. (1)
ومنهم من قال :هى في علي, وقيل:هي في الأنبياء وقيل غير ذلك ,والصواب أنها للعموم , ويدخل فيه بطريق الأولى أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم.
السابع: قال الفخر الرازي:
__________
(1) - روح المعاني ( 28 /154 )(1/347)
والمراد بالجمع في قوله تعالى: { قُلُوبُكُمَا } التثنية، قال الفراء: وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح إثنان إثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين، فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين، وقد مر هذا... وقال: { ظَهِيرٍ } أي فوج مظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعوان له وظهير في معنى الظهراء، كقوله:{ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً }[النساء: 69]
قال الفراء: والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير، قال أبو علي: وقد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى:{ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ }[المعارج: 10، 11].....
وقال: وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال: { مُسْلِمَاتٍ } أي خاضعات لله بالطاعة { مُؤْمِنَاتٍ } مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات { قَانِتَاتٍ } طائعات، وقيل: قائمات بالليل للصلاة، وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات، فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار، وقرىء (سيحات)، وهي أبلغ وقيل للصائم: سائح لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: سائحات مهاجرات، ثم قال تعالى: { ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار، فالذكر على حسب ما وقع، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ليس على حسب الشهوة والرغبة، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى أهـ (1)
الثامن: قوله (صغت قلوبكما) أي مالت إلى المعصية, وليس كما يقول بعض الشيعة الاثنى عشرية: قد صغت قلوبهما:أي نافقت ومالت إلى الكفر .وهذا بناءً على مذهبهم في بغض عائشة وحفصة ولعنهما ووالديهما صباح مساء,واتهامهم بالنفاق, ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
__________
(1) -تفسير الرازي ( 30 /44- 45 )(1/348)
نقول: معنى (صغت) أي مالت,ولا يستلزم من ذلك أنها مالت إلى الكفر , بل المعنى أن قلوبهما مالت عن الحق في هذا الفعل, وهو ميل قلوبهما عن الواجب من مخالصة رسول الله عليه الصلاة والسلام بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. و كيف يقعا في الكفر أو النفاق وهما من أزواج النبي وأمهات المؤمنين الذين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يستبدل بهن أحدًا فقال تعالى: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً }{الأحزاب 52} , كل ما هنالك أنهما وقعا في هذا الفعل بسبب الغَيْرة ,والغيرة أمر طبيعي بين النساء , خاصة إذا كان للرجل أكثر من زوجة وكلّ منهن تريد أن تحظى بالنصيب الأوفر عنده,ولا يخفى على أحد ما يقع بين الضرائر.(1/349)
وكان الصحابة يعلمون أن عائشة أحب نساء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة, فحزن بعض نسائه صلى الله عليه وسلم لذلك, فكلمته زوجه أم سلمة في ذلك, ففي سنن النسائي(3950) بسند صحيح عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمْنَهَا أَنْ تُكَلِّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ, وَتَقُولُ لَهُ إِنَّا نُحِبُّ الْخَيْرَ كَمَا تُحِبُّ عَائِشَةَ, فَكَلَّمَتْهُ, فَلَمْ يُجِبْهَا, فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كَلَّمَتْهُ أَيْضًا, فَلَمْ يُجِبْهَا, وَقُلْنَ: مَا رَدَّ عَلَيْكِ؟ قَالَتْ: لَمْ يُجِبْنِي, قُلْنَ: لَا تَدَعِيهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْكِ أَوْ تَنْظُرِينَ مَا يَقُولُ, فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كَلَّمَتْهُ, فَقَالَ: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ, فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَّا فِي لِحَافِ عَائِشَةَ".(1/350)
وأرسلن فاطمة رضي الله عنها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمه في ذلك, وتارة أخرى أرسلن زينب رضي الله عنها. روى مسلم(2442) عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي, فَأَذِنَ لَهَا, فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ, وَأَنَا سَاكِتَةٌ, قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ بُنَيَّةُ, أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَتْ: بَلَى, قَالَ:فَأَحِبِّي هَذِهِ, قَالَتْ: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ, وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقُلْنَ لَهَا: مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ, فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا, قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(1/351)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ, وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى, مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا, تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ, قَالَتْ: فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا, وَهُوَ بِهَا , فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ, قَالَتْ: ثُمَّ وَقَعَتْ بِي , فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ , وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ, هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا؟ قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ, قَالَتْ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَبَسَّمَ: إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ".(1/352)
وروى البخاري(4832) مسلم(2438) واللفظ له: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ, فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ, فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ , فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ".
فهل كان الله عزّ وجلّ يدلس على رسوله حتي يزوجه بها وهو يعلم أنها ستكفر بعد ذلك, أو أنها ستعاديه وتعادي أهل بيته؟ حاشا لله . وليحذر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوع في زوجاته أمهات المؤمنين قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُو?اْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } {الأحزاب:53}.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة- وهي زوجته-: "لا تؤذيني في عائشة". وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } {الأحزاب:57-58}
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } {التوبه:61}(1/353)
فلا يجوز لأحدٍ أن يقع في إحداهن , وقد زكاهنّ الله تعالى فقال:" {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }{الأحزاب:33-34} وقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } {الأحزاب:6} فهل يجوز لمسلم أن يسيء الأدب مع أمِّه, وقد أجمع المسلمون قاطبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى وحفصة وعائشة من زوجاته لم يفارقهما, بل قد قُبِضت روحه الشريفة وهو بين سَحْر عائشة ونَحْرها رضي الله عنها. فقد جاء في الصحيحين:البخاري(1323) ومسلم(2443) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ, فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَدُفِنَ فِي بَيْتِي" .
وفي صحيح البخاري(2933): عن عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي, وَبَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي, وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ, قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ فَضَعُفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ, فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ".
وهذا من فضائلها رضي الله عنها وفضائلها كثيرة نذكر منها:(1/354)
- ما رواه البخاري (3230- 3559) ومسلم(2431- 2446) وغيرهما عَنْ أبي موسى الأشعري, و عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" .
- وروى أيضًا البخاري (3045) ومسلم(2447) وغيرهما عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ, فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ, تَرَى مَا لَا أَرَى, تُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
- وروى أحمد(17844) والبخاري(3462) ومسلم(2384) والترمذي(3885) وغيرهم:عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ, فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ, قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا, قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ عُمَر, فَعَدَّ رِجَالًا ".
- وروى الترمذي(3890) وصححه الألباني,وابن ماجة(101) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ عَائِشَةُ, قِيلَ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ أَبُوهَا" .
- وفي مستدرك الحاكم(6743) وصحيح ابن حبان(7096) وغيرهما- بسند صحيح- عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله مَن أزواجك في الجنة ؟ قال : « أما إنك منهن » قالت : فخيَّل لي أن ذاك أنه لم يتزوج بكرًا غيري".وقال الحاكم: صحيح الإسناد , ووافقه الذهبي.(1/355)
- وفي مستدرك الحاكم(6754) وغيره عن أنس ، رضي الله عنه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : يا محمد ، طلقت حفصة وهي صوَّامة قوَّامة ، وهي زوجتك في الجنة ، فراجعها (1) " وروى البزار في مسنده ( 1401) نحوه عن عمار بن ياسر.
-وفيه أيضًا(6753)- وكذا رواه الطبراني في الكبير(934)- عن قيس بن زيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ، فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون ، فبكت وقالت : والله ما طلقني عن شبع ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : « قال لي جبريل عليه السلام : راجع حفصة ، فإنها صوَّامة قوَّامة ، وإنها زوجتك في الجنة » (2) .
التاسع: لم يذكر الله تعالى واو العطف بين الصفات المذكورة في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِلَهُ أَزْواجَاً خَيْراً مِنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِناتٍ قَانِتَاتٍ تائِباتٍ عَابِداتٍ سِائِحَاتٍ } للتنصيص على اجتماع هذه الصفات في كلٍّ منهن, وذكر واو العطف بعدها في قوله تعالى: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } لتنافى الوصفين، إذ الثيبات لا يوصفن بالأبكار، قال في «الكشاف»: إنهما صفتان متنافيتان، لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات. فلم يكن بد من الواو. (3)
__________
(1) - وسكت عنه الذهبي في التلخيص, وهو حسن بشواهده.
(2) - وسكت عنه الذهبي في التلخيص, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(9/393) :رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وحسنه الألباني: انظر حديث رقم ( 4351 ) في صحيح الجامع.
(3) - تفسير الكشاف للزمخشري (4/128) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ط سنة1966(1/356)
وروى البخاري( 4632): عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ:{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ }فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
وهذه من الموافقات لعمر رضي الله عنه وهو المُحَدَّث الملهَم (1) , وفي رواية أخري عند أحمد(157) والبخاري(393) أيضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }{البقرة:125}وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ, وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ:{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ }فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
__________
(1) - روى البخاري(3282)عن أبي هريرة,و مسلم(2398) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ ".(1/357)
وروى مسلم(1479) وغيره:عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ:لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ, قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ, وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ فَقُلْتُ لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ, قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ, عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ ,قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ, أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّكِ وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ, فَقُلْتُ لَهَا أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ, فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ, وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ, فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ(1/358)
يَقُلْ شَيْئًا, ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا, ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ, وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ قَالَ مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا, قُلْتُ: بَلَى, قَالَ وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ(1/359)
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ ,وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ- وَأَحْمَدُ اللَّهَ- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ:{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ }
{ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }(1/360)
وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ :لَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ, أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ ,فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ, وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا, ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْتُ فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ,قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ, فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }{النساء:83} فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ".
* * *
(( مثال من تفسير الآيات التي استدلوا بها على عقيدة البداء))
* الذاريات:54-55
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
والمعنى:(1/361)
فأعرضْ عن هؤلاء المعاندين، فما أنت بملوم على عدم استجابتهم. ودُم على التذكير والموعظة، فإن الذكرى تزيد المؤمنين بصيرة وقوة يقين.
قال القرطبي:
قوله تعالى: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي أعرض عنهم واصفح عنهم { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } عند الله , لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }. وقيل: نسخ بآية السيف. والأوّل قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عنهم { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } أي: ليس يلومك ربك على تقصيرٍ كان منك { وَذَكِّرْ } أي بالعِظة فإن العِظة { تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }. قتادة: «وَذَكِّرْ» بالقرآن { فَإِنَّ الذِّكْرَى } به { تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }. وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.أهـ (1)
وعند الشيعة الإمامية:
قال القمي:
همّ الله جل ذكره بهلاك أهل الأرض فأنزل الله على رسوله { فتول عنهم } يا محمد { فما أنت بملوم }.
ثم بدا لله في ذلك فأنزل عليه { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وهذا رد على من أنكر أن لله البداء والمشيئة.أهـ (2)
وقد فسرها الفيض الكاشاني نحو تفسير أهل السنة فقال:
{(54) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كرّرت عليهم الدعوة فأبوا إلاّ الإصرار والعناد { فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ. (3)
{ (
__________
(1) - تفسير القرطبي (17/44) وانظر تفسير الطبري (22/442) و معالم التنزيل للبغوي(7/380) وصفوة التفاسير للصابوني(3/258) وتفسير ابن كثير(4/238) والشوكاني والألوسي غيرهم.
(2) - تفسير القمي (2/330-331) وانظر بحار الأنوار (9/239)
(3) - نفس ما في تفسير البيضاوي (5/241) وهو ينقل منه في بعض الموضع و لكن لا يعزو إليه لأنه من أهل السنة.(1/362)
55) وَذَكِّرْ فِإنَّْ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فإنّها تزداد بصيرة.
ثم ذكر بعد ذلك ما في كتبهم فقال:
في الكافي عن الباقر والصادق عليهما السلام: أنّهما قالا: إنّ الناس لما كذّبوا رسول الله صلّى الله عليه وآله همّ الله تعالى بإهلاك أهل الأرض إلاّ عليّاً فما سواه بقوله (فتولّ عنهم فما أنت بملوم) ثم بدا له فرحم المؤمنين ثم قال لنبيّه صلّى الله عليه وآله (وذكّر فانّ الذّكرى تنفع المؤمنين) والقمّي مثله.
وفي العيون عن الرضا عليه السلام: أراد هلاكهم ثم بدا لله فقال... وذكّر الآية.
وفي المجمع: عن عليّ عليه السلام: لمّا نزلت فتولّ عنهم لم يبق أحد منّا إلاّ أيقن بالهلكة فلمّا نزل- وذكّر الآية- طابت أنفسنا.أهـ (1)
وأقول لكل عاقل:هل يجوز أن نقول:همّ الله بكذا أو أراد كذا ثم بدا له شيءٌ آخر وهو كذا ففعله أو أمر به؟! كما يزعم القمي وكما في بعض الروايات التي في الكافي وغيره عن الباقر والصادق والرضا رضي الله عنهم كذبًا وزورًا , وهل من نَسَب مثل هذا القول-الذي فيه انتقاص لله تعالى ووصفه بعدم كمال العلم- لأهل البيت الطاهرين يمكن أن يكون محبًا لهم , أم هم مدسوسون عليهم لينفروا الناس عنهم , وجاءوا بهذه العقيدة الباطلة-عقيدة البداء-من أسلافهم اليهود. فاليهود هم الذين قالوا بالبداء, وقد أفاد شيخهم المفيد بأن جميع الفرق الإسلامية تخالف الشيعة الإمامية في ذلك المعتقد (2) .
أما الخوئي - في تفسيره - فأراد أن يحسّن صورة مذهبه في عقيدة البداء فبيّن أن هذه اللفظة أطلقت على سبيل المشاكلة, فقال:
__________
(1) - الصافي(5/74)
(2) - حيث ذكر عقيدتهم في البداء والرجعة وتحريف القرآن ثم قال :وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية والمرجئة وأصحاب الحديث على خلاف الإمامية في جميع ما عددناه.أهـ أوائل المقالات ص:46(1/363)
البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية هو من الإبداء " الإظهار " حقيقة ، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والإطلاق بعلاقة المشاكلة .
وقد أطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة .
روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة ، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأعمى وأقرع ، بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الابرص . . . "
وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية ، كقوله تعالى : " الآن علم الله أن فيكم ضعفا " (1) .
وقوله تعالى :{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً }[الكهف:12 ]
وقوله تعالى : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[الكهف:7 ].
وما أكثر الروايات من طرق أهل السنة في أن الصدقة والدعاء يغيران القضاء .
أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الأنباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها : أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق ، فذلك يدل أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني " الحتمي " من أقسام القضاء المتقدمة .
وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء ، فإن الله لا يكذب نفسه ولا نبيه . ومتى ما أخبر المعصوم بشئ معلقا على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه ، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدل على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء .
والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء ، وتعلقت المشيئة الإلهية بخلافه . فإن الخبر - كما عرفت - منوط بأن لا تخالفه المشيئة .
__________
(1) - هكذا كُتبت, وهو تصحيف, والصواب قوله تعالى:{ {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [الأنفال:66](1/364)
وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال : " دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه ، فقال لي : يا عمرو إني مفارقكم ، ثم قال : سنة السبعين فيها بلاء . . . فقلت : بأبي أنت وأمي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء ؟ قال : نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء " . . وذكر آية يمحو الله . . . "أهـ (1)
ونقول وبالله التوفيق:
البداء قد يأتي بمعني: الظهور بعد الخفاء كما في قوله تعالى:{ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ }{الزمر:47}
ويأتي بمعني: نشأة رأي جديد كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }{يوسف:35}
__________
(1) - تفسير البيان للخوئي (ص:393)(1/365)
والبداء بكلا المعنيين محالٌ في حق الله تعالى إذ يستلزم الجهل وعدم العلم الكامل, تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.فهو سبحانه العليم الحكيم, يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, وقد أحاط بكل شيءٍ علمًا, قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }{الأنعام:59} وقال تعالى:{ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }{الطلاق:12} وقال تعالى في أهل النار الذين يطلبون الرجعة إلى الدنيا للإيمان والعمل الصالح:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }{الأنعام:28}فهو سبحانه يعلم أنهم إن عادوا إلى الدنيا سيعودون إلى الكفر والمعاصي.فهذه الآية المباركة وكذا قوله تعالى:{ {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ }{الأنفال:23}الآيتان تدلان على أن الله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
وفي صحيح مسلم(2653): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "
فلما تقرر من نصوص القرآن المُحكَمة ومن السنة الصحيحة أن الله يعلم ما كان وما سيكون ولا يخفى عليه شيءٍ سبحانه وتعالى لزم من ذلك تأويل الآيات التي يفهم من ظاهرها غير ذلك كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }{محمد:31}(1/366)
وقوله:{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } {آل عمران:140}
وقوله تعالى : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً }{ الكهف : 12 } ونحو ذلك من الآيات.
فيلزم تفسير معنى (لنعلم) و( ليعلم) وكل ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه, بأن المراد :
لتعلموا أنّا نعلم.
أو المراد: لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً بعد علمنا السابق أنه سيوجد.
أو المراد بالعلم :الرؤية. أي يعلم الله علم مشاهدة. (1)
فوائد ذات صلة:
الأولى : ذكر القمي عقيدة البداء هذه في تفسيره كما ذكر غيرها من العقائد الباطلة ثم جاء -كالعادة- تلميذه الكليني (ت328 أو 329ه( الملقّب عندهم بثقة الإسلام فأرسى أسس هذا المعتقد عند الاثنى عشريّة حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان "باب البداء" وذكر فيه ستّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة.
وجاء من بعده ابن بابويه (ت381ه( وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان "باب البداء" وذلك في كتاب "الاعتقادات" الذي يسمى عقيدة الإمامية (2) و فعل مثل ذلك في كتابه "التوحيد" (3)
وقد اهتمّ شيخهم المجلسي (ت1111ه( بأمر البداء وبوّب له في كتابه بحارالأنوار بعنوان "باب النّسخ والبداء"، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة (4)
__________
(1) - ومن راجع تفاسير بعضهم كالطوسي والطبرسي وجدهم يفسرون هذه الآيات بمثل هذا الذي ذكرته.
(2) - الاعتقادات: ص:89
(3) - التوحيد: ص:331
(4) - بحار الأنوار ( 4/92-129)(1/367)
ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس لها ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنها-كما يزعمون- من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائمًا,لا يفتر عنها, كما وردت بذلك رواياتهم فقالوا:عن الصادق أو أبيه "ما عُبد الله بشيء مثل البداء" (1) " وعن الصادق "وما عُظم الله بمثل البداء" (2) "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه" (3) « وما بعث الله نبيًا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء" (4)
الثانية: جاء عند الشيعة من الروايات ما يبين أنهم ينفون عن الله تعالى الجهل كما في الكافي في باب البداء (5) ذكر الروايات (9 ,10 ,11) بسنده : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ: مَا بَدَا لِلَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا كَانَ فِي عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ ".
و عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ :إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ "
وعَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْ ءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: لَا. مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاهُ اللَّهُ, قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ مَا كَانَ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ اللَّهِ؟ قَالَ :بَلَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ" .
__________
(1) - الكافي( 1/146) ، كتاب التوحيد، باب البداء .و بحار الأنوار(4/107)، كتاب التوحيد، باب البداء و ابن بابويه/ التوحيد، باب البداء: ص332،
(2) - الكافي( 1/146)
(3) - الكافي ( 1/148) والتوحيد لابن بابويه: ص334، بحار الأنوار( 4/108 ).
(4) - الكافي ( 1/148) التوحيد لابن بابويه: ص334، بحار الأنوار( 4/108)
(5) - الكافي ( 1/148)(1/368)
فالقول بالبداء- وإن قالوا أنه لا يتنافى مع علم الله تعالى- إلا أنه يتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب . ولذلك قالوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِنَّ لِلَّهِ عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ ,وَ عِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلَائِكَتَهُ وَ رُسُلَهُ وَ أَنْبِيَاءَهُ , فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ ". (1) وزعموا أن الأئمة يعطون علم الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض إلا ما يشترط فيه البداء" (2)
إن الذين وضعوا هذه العقيدة إنما أرادوا بها تغطية الأخبار الغيبية الكاذبة التي ينسبونها لأهل البيت بحيث إذا وقع الأمر في المستقبل على خلاف ما أخبروا به قالوا:هذا من البداء, فقد بدا لله تعالى تغيير ما يقتضي ذلك. جاء في البحار في باب البداء "عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: يا أبا حمزة إن حدثناك بأمر أنه يجيء من هاهنا فجاء من هاهنا، فإن الله يصنع ما يشاء، وإن حدثناك اليوم بحديث وحدثناك غدًا بخلافه فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت" (3)
__________
(1) - الكافي ( 1/147) وكيف يخبر الله تعالى أنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة قد يدخلها التغيير , و يخبرون بها الناس ثم تأتي على خلاف ما أخبروا فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين المضلين؟
(2) - تفسير القمي( 2/290) و بحار الأنوار( 4/101)
(3) - بحار الأنوار ( 4/119)، تفسير العياشي( 2/217)، تفسيرالبرهان( 2/299).(1/369)
وكانت روايات الشّيعة في حياة جعفر الصّادق تتحدّث بأخبار تنسبها لجعفر أنّ الإمامة ستكون بعد موته لابنه إسماعيل، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان،حيث مات إسماعيل قبل موت أبيه فكانت معضلة قاصمة لهم، ففزعوا إلى عقيدة البداء لمعالجة هذه المعضلة فنسبوا روايات لجعفر تقول: "ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني.. إذ اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي" (1) وحدث بسبب ذلك أكبر انشقاق باق إلى اليوم في المذهب الشّيعي الإمامي، فخرجت طائفة منهم ثبتت على القول بإمامة إسماعيل وهم الإسماعيليّة، واستجاب لهذا التّأويل طائفة الاثنى عشريّة الذين قالوا بإمامة موسى دون إسماعيل.
وبهذه الحيلة يستروا كذبهم إذا أخبروا بخلاف الواقع.ولذلك لو سقطت عقيدة البداء لانتقض مذهب الاثنى عشرية من أصله، لأن أخبارهم ووعودهم التي لم يتحقق منها شيء تنفي عنهم صفة الإمامة بمفهومهم.
وهذا سر مغالاة شيوخهم بأمر البداء، ودفاعهم عنه، وجعله من أعظم العبادات.
الثالثة: صنفٌ من الشيعة يقر بالبداء كعقيدة ويحاول أن يجد له تأويلاً مقبولاً.ففسره بعضهم بالنسخ، وهذا جهل, فإنّ الله سبحانه تنزه عن أن يوصف بالبداء؛ لأن البداء ينافي إحاطة علم الله بكل شيء، ولم يتنزه عن النسخ (2) ؛ لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانًا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق في علم الله تعالى، وإن كان رفعه لهذا الحكم بداء بالنسبة لنا, فليس في النسخ تغيير لما في علم الله الأزلي. قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
__________
(1) - التّوحيد لابن بابويه: ص336، وانظر مثل هذا المعنى في أصول الكافي (1/327).
(2) - قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[البقرة:106](1/370)
ولكن شيخ الطائفة الطوسي يسلك في تأويل البداء طريقًا أسلم ، حيث يقول: "قوله:( بدا لله فيه) معناه:( بدا من الله فيه)، وهكذا القول في جميع ما يروي من أنه بدا لله في إسماعيل معناه أنه بدا من الله، فإن الناس كانوا يظنون في إسماعيل بن جعفر أنه الإمام بعد أبيه، فلما مات علموا بطلان ذلك" (1)
هذا تأويل الطوسي، ولا شك بأن البداء إذا كان للخلق بأن يقع لهم ما لم يحتسبوا، فليس فيه ما يمس العقيدة الإسلامية.كما في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47.]
وقد أيد هذا أحد مراجع الشيعة في هذا العصر وهو محمد حسين آل كاشف الغطا فقال: "البداء وإن كان في جوهر معناه هو ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله جل شأنه وأي ذي حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا: (بدا لله) أي بدا حكم الله أو شأن الله" (2)
ولكن المطلع على رواياتهم لا يرى أنها تتفق مع هذا التأويل، إذ تدل على نسبة البداء إلى الله لا إلى الخلق، ولذلك اعتذر أئمتهم عن الإخبار بالمغيبات خشية البداء.ولذلك قال محمد بن النعمان ( المفيد ) : اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة , وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف, واتفقوا على إطلاق البداء في وصف الله تعالى (3) .
الثالثة: حاول شيوخ الشيعة – كعادتهم – البحث في كتاب الله عن سند لدعواهم.
وكأنه لم يكفهم أن نسبوا هذه الفرية إلى الله ، حتى زعموا أن كتاب الله أثبت فريتهم، فتعلقوا بقوله سبحانه: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39.].
__________
(1) - الغيبة للطوسي: ص55.
(2) - الدين والإسلام: ص173
(3) - أوائل المقالات ص 46 .(1/371)
ويلحظ أن أول من استدل بهذه الآية على فرية البداء هو المختار بن أبي عبيد لما أرسل قائده أحمر بن شميط لقتال جيش مصعب بن الزبير وأخبره بأنه سينتصر ولكنه هزم شر هزيمة وقُتل سنة 67هـ فاعتذر المختار بأن الله وعده النصر ثم بدا له غير ذلك واحتج بهذه الآية المباركة, وتابعه على ذلك شيوخ الشيعة، ووضعت الروايات في ذلك وأُسندت لبعض علماء آل البيت لتحظى بالقبول (1) .
واستدلالهم بهذه الآية على أن المحو والإثبات بداء شطط في الاستدلال، وتعسف بالغ، ذلك أن المحو والإثبات بعلمه وقدرته وإرادته سبحانه، من غير أن يكون له بداء في شيء، وكيف يتوهم له البداء وعنده أم الكتاب، وله في الأزل العلم المحيط .قال تعالى{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59.]، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3]. وقال تعالى:{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}[ سبأ:22] وحملة العرش يقرون بأنه تعالى وسع كل شيء علمًا كما حكى عنهم القرآن في قوله:{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً }[غافر:7] وأمثالها من الآيات، وتوهم البداء لله تكذيب لكل هذه الآيات.
__________
(1) - أنظرأصول مذهب الشيعةالإمامية الاثنى عشرية ص:935(المجلد الثاني), ومع الشيعة الاثنى عشرية للسالوس (1/315)(1/372)
الرابعة: ذكر أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]
قال علي رضي الله تعالى عنه: يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى:{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ }[يس: 31] ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه:{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ } [المؤمنون: 31]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } يقول: يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب.
قال مجاهد: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} إلا الحياة والموت والسعادة والشقاوة فإنَّهما لا يتغيَّران .وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
وقال عكرمة: يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى:
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ }[الفرقان: 70] وقال ابن جبير: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره، وقال: يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله.
وقيل المعنى: يمحو الله ما يشاء من شرائع ومعجزات، ويحل محلها ما يشاء ويثبته وعنده أصل الشرائع الثابت الذى لا يتغير، وهو الوحدانية وأمهات الفضائل، وغير ذلك (1) .
__________
(1) - أنظر:تفسير الطبري(16/477-485) وتفسير البغوي(4/324-325) وابن كثير (2/533-534) والألوسي(13/169-171) والمتخب(ص: 361)(1/373)
قال ابن كثير: ومعنى هذه الأقوال: أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، هو الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر " (1) ، ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري به.
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر (2) . وفي حديث آخر: " إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض (3) "أهـ (4)
وزيادة عُمر من وصل رحمه ليست من باب البداء-كما يتوهم الشيعة- بل صلة الرحم سبب لطول العمر، والله قدر الأجل وقدر سببه فهو سبحانه قدّر – مثلاً- أن فلانًا عمره خمسون عامًا ولكنه سيصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى سبعين عامًا، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدَّر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدّر أن فلانًا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا. وكل ذلك مكتوب في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يتغير ولا يتبدل ما فيه.
__________
(1) - مسند أحمد(22491) وابن ماجة(4022) والحاكم (1814) وصححه, وحسنه الألباني إلا قوله(وإن الرجل ليحرم...) فضعفها.
(2) - كما في البخاري(1961) ومسلم(2557) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سَّره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه"
(3) - روى الحاكم(1813) وصححه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:" لا يغني حذر من قدر, و الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل , وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة" .
(4) - تفسير ابن كثير(2/534)(1/374)
والمعنى الإجمالي: يمحو الله - تعالى - ما يشاء محوه، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، وينسخ ما ينبغي نسخه ويثبت ما تقتضيه حكمته, ويمحو سيّئات التائب ويثبت الحَسنات مكانها, ويمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتاً, أو يثبت ما رآه في صميم قلب عبده, ويمحو قرناً ويثبت آخرين, وغير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه . وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وهو اللوح المحفوظ عن المحو
والتبديل وهو جامع للكلّ: ففيه إثبات المثبت وإثبات الممحّو ومحوه وإثبات بدله.
* * *
(( مثال من تفسير ما يستدل به الشيعة الاثنى عشرية على عقيدة الرجعة عندهم ))
* القصص: 85
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي? أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
والمعنى:إن الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك تلاوته والعملَ بما فيه - لمعيدُك الى الأرض التي تحبها وأخرجت منها، وهي مكة؛ لأن معاد الرجل بلده حيث يتصرف في البلاد ثم يعود إليه, أو: إن المعادَ يوم القيامة ليسألك عمّا افترض عليك كما قال تعالى:{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ }،أو: لرادك إلى الجنة, وقيل :الموت,(1/375)
قال ابن كثير: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم كما فسر ابن عباس سورة:{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }[النصر: 1] إلى آخر السورة، أنه أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعِي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب، ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم، ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: { لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين: الإنس والجن، ولأنه أكمل خلق الله، وأفصح خلق الله، وأشرف خلق الله على الإطلاق.أهـ (1)
ثم تبين الآية: فقل لهم يا محمد :ربي أعلم بمن جاء بالهدى, وما يستحقه من الثواب والنصر والتمكين في الأرض، وبمن هو في ضلال مبين، وما يستحقه من القهر والاذلال والعذاب المهين.
أما في تفاسير الشيعة:
قال القمي:
أما قوله: { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فإنه حدثني أبي عن حماد عن حريز عن أبي جعفر عليه السلام قال: سئل عن جابر فقال: رحم الله جابراً, بلغ من فقهه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } يعني الرجعة. قال وحدثني أبي عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن عبد الحميد الطائي عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين عليه السلام في قوله: { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } قال: يرجع إليكم نبيكم صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام.أهـ (2)
__________
(1) - تفسير ابن كثير (3/417)
(2) - تفسير القمي (2/147)(1/376)
فانظر كيف فسر الآية بهواه وجعلها دليلاً على إثبات الرجعة عندهم, ثم أتى بما ليس له ذكر في الآية فأدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والأئمة من آل البيت رضي الله عنهم أجمعين, مع أن الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ,فانظر ماذا يفعل الهوى بصاحبه، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
تنبيه:لم يقنع الطوسى ومن نحا نحوه من المفسرين , بهذا المسلك المخالف لسياق الآيات و للعقل السليم ففسّر الآية كتفسير أهل السنة,فقال الطوسي:
وقوله { إن الذي فرض عليك القرآن } خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يقول الله له: إن الذي أوجب عليك الامتثال بما يضمنه القرآن وأنزله عليك { لرادك إلى معاد } قال الحسن: معناه إلى المرجع يوم القيامة. وقال مجاهد: إلى الجنة. وقال ابن عباس: إلى الموت. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إلى مكة. والأظهر من الأقوال: لرادك إلى معاد في النشأة الثانية إلى الجنة. وأكثر أقوال المفسرين انه أراد إلى مكة قاهراً لأهلها.أهـ (1) .
وقال الطباطبائي: وروى القمي في تفسيره عن حريز عن أبي جعفر عليه السلام وعن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين عليه السلام أن المراد به الرجعة, ولعله من البطن دون التفسير.أهـ (2)
والحق أن عقيدة الرجعة لم يقل بها أحدٌ من المسلمين إلا هذه الطائفة ولم يجدوا لهم دليلاً يستندون عليه فلجأوا إلى التأويل الباطني لبعض أيات القرآن الكريم.
وقد كان لابن سبأ اليهودي – كما تنقل ذلك كتب الشيعة، والسنة على السواء – دور التأسيس لمبدأ الرجعة، إلا أنها رجعة خاصة بعلي، كما أنه ينفي وقوع الموت عليه أصلاً كحال الاثنى عشرية مع مهديهم الذي يزعمون وجوده.
__________
(1) - التبيان (8/183)
(2) - الميزان(16/95)(1/377)
لكن يبدو أن الذي تحمل كبر نشره، وتعميم مفهومه وتأويل آيات من القرآن فيه هو جابر الجعفي حتى امتدحته روايات الشيعة بفقهه في أمر الرجعة, كما سبق بيانه , وجابر الجعفي متهم عند السنة والشيعة (1) فقد أخرج الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/12) قال: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرًا يَقُولُ: لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ يَزِيدَ الْجُعْفِيَّ فَلَمْ أَكْتُبْ عَنْهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالرَّجْعَةِ .
وروى أيضًا(1/12) بسنده عن سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يُحَدِّثُ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مَا أَسْتَحِلُّ أَنْ أَذْكُرَ مِنْهَا شَيْئًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا.أهـ
__________
(1) - جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي، توفي سنة (127ه(، قال ابن حبان: كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ. كان يقول: إن علياً يرجع إلى الدنيا، وروى العقيلي بسنده عن زائدة أنه قال: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النسائي وغيره: متروك. وقال يحيى: لا يُكتب حديثه ولا كرامة، قال ابن حجر: ضعيف رافضي.
(انظر: ميزان الاعتدال: 1/379-380، تقريب التهذيب 1/154، الضعفاء للعقيلي: 1/191-196).
وقال محمد المظفر (من شيوخ الشيعة المعاصرين) : "روي عن الباقر خاصة سبعين ألف حديث.. وقيل: إنه ممن انتهى إليه علم الأئمة". (محمد المظفر/ الإمام الصادق ص 143). ولكن في رجال الكشي عند ترجمته لجابر الجعفي. قال زرارة: سألت أبا عبد الله – عليه السلام - عن أحاديث جابر فقال: "ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة، وما دخل عليَّ قط" (رجال الكشي: ص 191) وهذه شهادة منهم تثبت كذب جابر في مروياته عن الصادق وأبيه.(1/378)
وجاء القمي في تفسيره – ومن تابعه- ودافع عن هذه العقيدة الباطلة وأتى بالآيات التي تتحدث عن الرجوع في اليوم الآخر وغيرها وفسرها على غير معناها وسلك بها المسلك الباطني في التأويل- كما ذكر الطابطبائي- وأتى بالروايات الكاذبة المنسوبة لأهل البيت التي تؤيد معتقده, وأنكر القمي على الذين ينكرون هذه العقيدة وهم سائر المسلمين.ورد عليهم بباطله فقال في مقدمة تفسيره:(1/379)
وأما الرد على من أنكر الرجعة فقوله " ويوم نحشر من كل أمة فوجًا "[النمل: 83.] قال: وحدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام قال ما يقول الناس في هذه الآية "ويوم نحشر من كل أمة فوجا" قلت: يقولون إنها في القيامة, قال ليس كما يقولون, إن ذلك في الرجعة, أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجًا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة قوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ". وقوله: " وحرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون" فقال الصادق عليه السلام كل قرية أهلك الله أهلها بالعذاب ومحضوا الكفر محضًا لا يرجعون في الرجعة وأما في القيامة فيرجعون. أما غيرهم ممن لم يهلكوا بالعذاب ومحضوا الكفر محضًا يرجعون. قال : وحدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:{ وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} قال: ما بعث الله نبيًا من لدن آدم إلى عيسى عليه السلام إلاّ أن يرجع إلى الدنيا فينصر أمير المؤمنين ( ع ) وهو قوله " لتؤمنن به " يعني رسول الله" ولتنصرنه" يعني أمير المؤمنين ومثله كثير وما وعد الله تبارك وتعالى الأئمة عليهم السلام من الرجعة والنصرة فقال: " وعد الله الذين آمنوا منكم ( يا معشر الأئمة ) وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " فهذا مما يكون إذا رجعوا إلى الدنيا وقوله " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض "فهذا كله مما يكون في الرجعة.أهـ (1)
__________
(1) - تفسير القمي (1/24-25)(1/380)
وسنتعرض للرد على ما استدل به هو وأمثاله مما قد يُشتبه أمره على من لا علم عنده, وأما ما هو ظاهر البطلان- كأكثر أدلتهم التي لا يقبلها عقل- فلا يحتاج إلى رد.وحتى يتضح أمر هذه العقيدة عندهم لا بد من التعرض لما يأتي:
أولاً: قالوا في تعريف الرجعة: إنها رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وعودتهم إلى الحياة بعد الموت في صورهم التي كانوا عليها (1)
والراجعون إلى الدنيا عند الاثنى عشرية ثلاثة أصناف:
الأول: الأئمة الاثنى عشر، حيث يخرج المهدي من مخبئه، ويرجع من غيبته، وباقي الأئمة يحيون بعد موتهم ويرجعون لهذه الدنيا.
الثاني: ولاة المسلمين الذين اغتصبوا الخلافة – في نظرهم – من أصحابها الشرعيين (الأئمة الاثنى عشر) فيبعث خلفاء المسلمين وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان.. من قبورهم ويرجعون لهذه الدنيا – كما يحلم الشيعة – للاقتصاص منهم بأخذهم الخلافة من أهلها فتجري عليهم عمليات التعذيب والقتل والصلب.
الثالث: عامة الناس، ويخص منهم: من محض الإيمان محضًا، وهم الشيعة عمومًا، لأن الإيمان خاص بالشيعة، كما تتفق على ذلك رواياتهم وأقوال شيوخهم , ومن محض الكفر محضًا، وهم كل الناس ما عدا المستضعفين وهم كما يقول المجلسي: ضعفاء العقول مثل النساء العاجزات والبله وأمثالهم، ومن لم يتم عليه الحجة ممن يموت في زمن الفترة، أو كان في موضع لم يأت غليه خبر الحجة فهم المرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، فيرجى لهم النجاة من النار (2) .
__________
(1) - أوائل المقالات للمفيد: ص51,ص:95, وانظر في هذا الموضوع كتاب(الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) للحر العاملي
(2) - بحار الأنوار: ( 8/ 363 )، والاعتقادات للمجلسي: ص100(1/381)
ثانيًا: زمن الرجعة العامة هو كما يذكر شيخهم المفيد وغيره "عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام" ورجوعه من غيبته (1) ، ولكن بعض شيوخهم يقول: إن الرجعة العامة غير مرتبطة بأمر ظهور المهدي. فالظهور قبل الرجعة و مبدأ الرجعة من رجوع الحسين إلى الدنيا" فبعض رواياتهم تقول "أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، الحسين بن علي عليه السلام" (2)
وقد ذكرت بعض رواياتهم أن الرجعة تبدأ بعد هدم الحجرة النبوية وإخراج الجسدين الطاهرين للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – في زعمهم وأمانيهم – حيث جاء في أخبارهم أن منتظرهم يقول: "وأجيء إلى يثرب، فأهدم الحجرة، وأخرج من بها وهما طريّان، فآمر بهما تجاه البقيع وآمر بخشبتين يصلبان عليهما فتورقان من تحتهما، فيفتتن الناس بهما أشدّ من الأولى، فينادي منادي الفتنة من السماء: يا سماء انبذي، ويا أرض خذي فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض إلا مؤمن (أي: شيعي) ثم يكون بعد ذلك الكرة والرجعة" (3)
ثالثًا:الغرض من الرجعة هو انتقام الأئمة والشيعة من أعدائهم وهم سائر المسلمين من غير الشيعة ما عدا المستضعفين (4) .
كذلك يتحقق في الرجعة حساب الناس على يد الحسين: يقول أبو عبد الله: "إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي عليه السلام، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة وبعث إلى النار" (5) .
__________
(1) - أوائل المقالات: ص95
(2) - بحار الأنوار: (53/39 )
(3) - بحار الأنوار: (53/104-105 )
(4) - الإيقاظ من الهجعة: ص:58
(5) -بحار الأنوار، باب الرجعة: ( 53/43 )(1/382)
رابعًا:في الرجعة يتحول صفوة الخلق وهم أنبياء الله ورسله إلى جند لعلي رضي الله عنه كما يقول هؤلاء الأفاكون حيث قالوا: "لم يبعث الله نبيًا ولا رسولاً إلا ردّ جميعهم إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين" (1) . وكما روى القمي في الرواية السابق ذكرها عن جعفر الصادق رضي الله عنه في قوله تعالى: {وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} قال: ما بعث الله نبيا من لدن آدم إلى عيسى عليه السلام إلا أن يرجع إلى الدنيا فينصر أمير المؤمنين ( ع ) وهو قوله " لتؤمنن به " يعني رسول الله و"لتنصرنه" يعني أمير المؤمنين"
خامسًا: تنتهي الرجعة بالنسبة للشيعة بالقتل لمن مات من قبل، وبالموت لمن قتل، وهذه النهاية إحدى أغراض الرجعة فهم يقولون في أخبارهم: "ليس أحد من المؤمنين قتل إلا سيرجع حتى يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى يقتل" (2) .
سادسًا: كانت عقيدة الرجعة سرًا من أسرار المذهب الشيعي وقد وجدت في كتب الاثنى عشرية التواصي بكتمان أمر الرجعة، حيث روت بعض كتب الشيعة عن أبي جعفر قال: "لا تقولوا الجبت والطاغوت, ولا تقولوا الرجعة، فإن قالوا لكم فإنكم قد كنتم تقولون ذلك فقولوا: أما اليوم فلا نقول" (3)
وفي رواية أخرى ينسبونها للصادق: "لا تقولوا الجبت والطاغوت وتقولوا الرجعة، فإن قالوا: قد كنتم تقولون؟ قولوا: الآن لا نقول، وهذا من باب التقية التي تعبد الله بها عباده في زمن الأوصياء" (4)
هذه تعميمات سرية، تتبادلها الخلايا الشيعية، وحتى تعطيها الصفة الشرعية أسندتها لبعض علماء آل البيت، للتغرير بالأتباع من الجهال.
سابعًا:استدلالهم على الرجعة:
__________
(1) -بحار الأنوار ( 53/41 )
(2) - تفسير البرهان: ( 3/211 ) و تفسير الصافي: (4/76) و بحار الأنوار: (53/40 )
(3) - بحار الأنوار: (53/39 )
(4) -بحار الأنوار: (53/115-116)(1/383)
لم يجد شيوخ الشيعة في كتاب الله سبحانه دليلاً صريحًا على ثبوت الرجعة التي ينفردون بالقول بها عن سائر المسلمين.. فلجأوا كعادتهم إلى التأويل الباطني للآيات التي استدلوا بها، وتعسفوا أيما تعسف في هذا السبيل، حتى أصبح استدلالهم حجة عليهم، ودليلاً على زيف معتقدهم، وبرهانًا على بطلان مذهبهم. فتراهم يتعلقون بكل آيات اليوم الآخر المتضمنة لرجوع الناس لربهم ليجعلوها في عقيدتهم في الرجعة كما هو دأبهم في تحريف معنى الآيات.
وحتى تتبين هذه الحقيقة نستعرض -غير ما ذكرنا-أقوى أدلتهم وأشهرها – حسب نظرهم -.
* يرى القمي شيخ المفسرين عندهم أن من أعظم الأدلة على الرجعة قوله سبحانه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95.]؛ حيث يقول: "هذه الآية من أعظم الأدلة على الرجعة؛ لأن أحدًا من أهل الإسلام لا ينكر أن الناس كلهم يرجعون يوم القيامة من هلك ومن لم يهلك" (1)
__________
(1) -تفسير القمي: ( 2/76 )(1/384)
مع أن الآية حجة عليهم، فهي تدل على نفي الرجعة إلى الدنيا؛ إذ معناها كما صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد: حرام على أهل كل قرية أهلكوا بذنوبهم أنهم يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة (1) وهذا كقوله سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31.]، وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50.]، وزيادة "لا" هنا لتأكيد معنى النفي من "حرام"، وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هوالصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى وهي حياتهم الدنيا (2) ويمكن أن يكون المعنى (لا يرجعون) أي لا يتوبون (3) .
وإذا كان المقصود من الآية إثبات الرجعة فهي رجعة للناس ليوم القيامة بلا ريب .ومن المفسرين من يذهب لهذا ويرى أن الآية لتقرير الإيمان بالبعث، وهي تتمة وتقرير لما قبلها وهو قوله تعالى: { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] فتكون "لا" فيها على بابها، وهي مع "حرام" من قبيل نفي النفي، فيدل على الإثبات.
والمعنى: وحرام على القرية المُهلَكة عدم رجوعها إلى الآخرة، بل واجب رجوعها إلى الآخرة للجزاء، فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء (4)
وتخصيص امتناع رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}؛ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم .
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير: ( 3/205 ) وصفوة التفاسير للصابوني (2/275)
(2) -تفسير القاسمي: ( 11 /293)
(3) -تفسير الصابوني (2/275) ومحمع البيان للطبرسي (7/113)
(4) - فتح القدير: (3/426 ) و تفسير القاسمي: ( 11/293)(1/385)
* ومن أشهر الآيات التي يستدل بها الإمامية على الرجعة- أيضًا– قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل: 83.]. والآية كما يقول المفسرون في يوم الجزاء والحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين (1) .إلا أن هؤلاء من الشيعة يجعلونها في عقيدتهم في الرجعة .قال الطبرسي: "استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول "من" في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47.]" (2)
أما كون "من (الأولى) للتبعيض فهذا شائع" (3) لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي: ويوم يجمع من كل أمة من أمم الأنبياء، أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا وهذا لا يدل على مسألة الرجعة إلى الدنيا بعد الموت بحال من الأحوال، ولكن الشيعة تتعلق بكل آيات اليوم الآخر المتضمنة لرجوع الناس لربهم لتجعلها في عقيدتهم في الرجعة كما هو دأبها.
وتخصيص المكذبين بهذا الحشر لا يدل على ما يزعمون؛ لأن هذا حشر للمكذبين للتوبيخ والعذاب، بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق (4) .
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري( 20/17) وتفسير البغوي( 3/430) وزاد المسير لابن الجوزي( 6/82)،و البحر المحيط لأبي حيان( 7/98 )،و تفسير ابن كثير( 3/389) و فتح القدير للشوكاني (4/153-154 ) وغيرها.
(2) -تفسير مجمع البيان للطبرسي: (7/405)
(3) - البحر المحيط لأبي حيان: ( 7/98)
(4) - فتح القدير للشوكاني(4/154) , روح المعاني للألوسي(20/26 ).(1/386)
أما «من» الثانية فهي بيانية جيء بها لبيان "فوجًا" (1) .ولهذا فإن صاحب التفسير المبين وهو أحد مفسري الشيعة المعاصرين أدرك ضلال قومه في هذا التأويل فقال في تفسير الآية: «من» هنا بيانية وليست للتبعيض, تمامًا كخاتم من حديد، والمعنى: أن في الأمم مصدقين ومكذبين بآيات الله وبيناته، وهو يحشر للحساب والجزاء جميع المكذبين بلا استثناء، وخصهم بالحشر مع أنه يعم الجميع؛ لأنه تعالى قصد التهديد والوعيد. أهـ (2) .
* وأما استدلالهم على الرجعة بقوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلّىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }{آل عمران:81-82} فهو استدلال باطل فليس في الآية ما يدل على الرجعة كما هو واضح . وإني لأعجب كيف يفهم القمي وأمثاله أن الضمير في(لتنصرنه) يعود على علي رضي الله عنه ولم يسبق له أي ذكر في السياق, هذا- بلا ريب- ينبيء عن جهلٍ بلغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم, إن الضمير في كلٍ من:( لتؤمنن به) و (لتنصرنه) يعود على الرسول المذكور في الآية والذي أخذ الله الميثاق على النبيين بالإيمان به ونصره.
والآية عند المفسرين لها تفسيران (3) :
الأول: وهو الموافق لظاهر الآية، وحاصله: أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر، وينصره، قال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً .
__________
(1) - روح المعاني (20/26) .
(2) - محمد جواد مغنية/ التفسير المبين: ص:441
(3) - تفسير ابن كثير(1/377-378) وفتح القدير (1/356) والتبيان للطوسي (2/513) وغيرهم.(1/387)
الثاني:أخذ الله الميثاق على كل نبيٍّ بالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته إن بعث وهو حي ,أخرج ابن جرير، عن عليّ قال: لم يبعث الله نبياً آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث، وهو حيّ ليؤمنن به، ولينصرنه، ويأمره، فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ } الآية.وهو المروي عن ابن عباس أيضًا.
قال ابن كثير:وفي بعض الأحاديث «لو كان موسى وعيسى حيَّيْن لما وسعهما إلا اتباعي» فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين, هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد, لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم, ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس, وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده, وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له, والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.أهـ (1)
* ومن الآيات التي يتأولونها في الرجعة قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17.] الآيات؛ حيث جاء في تفسير القمي {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} قال: هو أمير المؤمنين، قال: ما أكفره أي ماذا فعل وأذنب حتى قتلوه.." {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} [عبس: 21، 22.] قال: في الرجعة {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23.]، أي لم يقض أمير المؤمنين ما قد أمره، وسيرجع حتى يقضي ما أمره" (2)
فيلاحظ هنا عدة أمور:
__________
(1) - تفسير ابن كثير (1/378)
(2) - تفسير القمي ( 2/405)(1/388)
1 ـ أوّل شيخهم القمي "الإنسان" في قوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} بعلي بن أبي طالب – مع أن الآية معناها: لُعٍن الإنسان , وهي لجنس الإنسان المكذب الكافر ، وقوله (ما أكفره): تعني ما الذي حمله على الكفر والتكذيب بالمعاد , وتحتمل أن تكون بمعنى :ما أشد كفره , أو ما ألعنه " (1)
فهل وضع مثل هذا التأويل للإساءة لأمير المؤمنين من طرف خفي، أم أن مخترع هذا النص أعجمي جاهل بلغة القرآن وإنما كتب ما أملاه عليه تعصبه وزندقته؟!
على أية حال فهذا التأويل يدل على مدى إفلاس أصحاب هذا الاعتقاد في العثور على ما يدل على مبدئهم.
2 ـ أوّل قول الله سبحانه: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} وهي نص صريح في البعث والنشور أوله بالرجعة، وهذا فضلاً عن أنه تحريف لمعاني القرآن، فإنه يصرف من يصدق بهذه الروايات عن الإيمان باليوم الآخر إلى هذه العقيدة المبتدعة، ولهذا يلاحظ أن طوائف من غلاة الشيعة أنكرت الإيمان باليوم الآخر وقالت بالتناسخ (2) .
3 ـ جعلت هذه الروايات الغرض من الرجعة أن عليًا لم يقض ما أمره الله به.
وهذا بهتان كبير في حق أمير المؤمنين وأنه قد تخلى عن أوامر الله سبحانه، ليقضيها في الرجعة، فهل أرادوا بهذا تشبيهه بالمشركين الذين ابتعدوا عن شرع الله سبحانه فعندما عاينوا العذاب تمنوا الرجعة.. فكم أساء هؤلاء إلى أهل البيت.
* ومن الآيات التي جعلوها في الرجعة قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران : 185.]؛ حيث قالوا في تأويلها: "لم يذق الموت من قتل، ولابد أن يرجع حتى يذوق الموت" (3)
__________
(1) - تفسير الطبري( 24/222) وتفسير ابن كثير (4/471)والتبيان للطوسي(10/271) وغيرهم.
(2) -انظر: الفرق بين الفرق: ص272، وعبد الرحمن الوكيل/ البهائية: ص45 (الهامش).
(3) - تفسير العياشي ( 1/210 ) وبحار الأنوار( 53/71 )(1/389)
فهذه الرواية تجعل الرجعة لجميع الناس حتى يتحقق لكل أحد منهم موت وقتل – كما يعتقدون – بينما هم قالوا بأن الرجعة خاصة بمن محض الإيمان، ومحض الكفر – كما سلف – كما أن هذا التأويل يحمل جهلاً بلغة العرب التي نزل بها القرآن؛ حيث عدّ القتل ونحوه ليس من قبيل الموت الذي تنص عليه الآية وهذا مبلغ علمهم.
وهكذا يتعلق الشيعة بآيات كثيرة يؤولونها بمثل هذا التأويل الباطني، وتسابق شيوخهم كعادتهم في الإكثار من هذه التأويلات، والتي أسندوها للآل رضي الله عنهم حتى تكتسب الرواج عند الأتباع.
ثامنًا: قال الطبرسي : تأوَّل جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافى التكليف .... لأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها ، وإنما المعول في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده أهـ (1)
فأشار الطبرسي – وغيره- بأن المعول في ثبوتها إجماع الإمامية عليها.
ويلاحظ على هذا الاستدلال ما يلي:
أن الإجماع غير حجة عند الشيعة , فكيف يجعلونه عمدة ثبوت عقيدة الرجعة ؟! لكن لعلهم يعدّون عدم وجود مخالف من الشيعة في أمر الرجعة دليلاً على دخول المعصوم مع المجمعين فيكون الإجماع حجة بهذا الاعتبار، لأن حجة الإجماع عندهم إنما هو بكشفه عن قول المعصوم.
لكن الشيعة الزيدية ينقلون روايات عن أئمة أهل البيت تبين براءتهم من عقيدة الرجعة وتعارض روايات الإمامية.فكيف يجزم الإمامية بنسبة الرجعة إلى الأئمة والنقل عنهم مختلف بين فرق الشيعة نفسها ؟! بل إن من الإمامية من أنكر الرجعة وأول أخبارهم برجوع دولة الشيعة وقد حكاه الطبرسي , فأين بعد هذا إجماع الشيعة، وأين صدق النقل عن الأئمة؟!
__________
(1) - تفسير مجمع البيان للطبرسي: (7/405-406) وانظر: نور الثقلين( 4/101) و بحار الأنوار( 53/127)(1/390)
ثم إن الصحابة بما فيهم أمير المؤمنين علي لم يؤثر عنهم شيء في خرافة الرجعة، كما اتفقت على ذلك مصادر أهل السنة والشيعة الزيدية، ولو وجد شيء من ذلك لعرف واشتهر.
تاسعًا: القول بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت فيه مخالفة صريحة لنص القرآن، وقول باطل بدلالة آيات عديدة من كتاب الله سبحانه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100.]. فقوله سبحانه في هذه الآية:{وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} صريح في نفي الرجعة مطلقًا.
وقال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31.]. وقال سبحانه: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44.].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12.].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27-28.].(1/391)
فهؤلاء جميعًا يسألون الرجوع عند الموت، وعند العرض على الجبار جل علاه، وعند رؤية النار فلا يجابون، لما سبق في قضائه أنهم إليها لا يرجعون ولذلك عدّ أهل العلم القول بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت من أشد مراحل الغلو في بدعة التشيع.
قال ابن حجر: التشيع محبة علي-رضي الله عنه- وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغالٍ في الرفض، وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو.أهـ (1)
وقد جاء في مسند أحمد (1265)- بسند جيد- أن عاصم بن ضمرة - وكان من أصحاب علي رضي الله عنه- قال للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن عليًا يرجع. قال الحسن: كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذاك ما تزوج نساؤه، ولا قسَّمنا ميراثه".
والقول بالرجعة بعد الموت إلى الدنيا لمجازاة المسيئين وإثابة المحسنين ينافي طبيعة هذه الدنيا وأنها ليست دار جزاء {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران، آية: 185.]. (2)
* * *
(( تفسير الآية التي يستدلون بها على عقيدة التقية ))
* آل عمران:28
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
والمعني:
__________
(1) - أنظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري: ص:459
(2) - أنظر : أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ص:909(المجلد الثاني), وموسوعة (مع الشيعةالاثنى عشرية في الأصول والفروع)(1/318)(1/392)
يحذّرُ الله تعالى المؤمنين من اتخاذ الكافرين أولياء-أي:نصراء وأحباء وأصدقاء، فالله سبحانه وتعالى نبّهنا في الآية السابقة أن نلتجىء اليه، وأفهمنا ان كل شيء بيده، فهو- سبحانه وتعالى - وحده, مالك الملك، ويعز ويذل، وبيده وحده الخير والخلق والرزق، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم، متجاوزين نصرة المؤمنين؛ لأن فى هذا خذلاناً للدين وإيذاءً لأهله، وإضعافاً للولاية الإسلامية، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شئ، ، ولا يجوز للمؤمن أن يَرضَى بولاية الكافرين إلا مضطرًا، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم. وعلى المؤمنين أن يكونوا فى الولاية الإسلامية دائماً وهى ولاية الله، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته بأن يتولَوْا أعداءه, فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة. وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه فى الدنيا ولا فى الآخرة (1) .
قال القرطبي:
فيه مسألتان:
الأولى: قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء؛ ومثله:{ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ }[آل عمران: 118] وهناك يأتي بيان هذا المعنى.
ومعنى { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء؛ مثل { وَاسْأَلِ لْقَرْيَةَ }[يوسف: 82]. وحكى سيبويه «هو مِني فرسخين» أي من أصحابي ومعي.
ثم استثنى وهي:
__________
(1) -المنتخب ص:75(1/393)
الثانية: فقال: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقِية في جِدّة الإسلام قبل قوّة المسلمين؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوّهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يُقتل ولا يأتي مَأْثَما. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: «إلاّ أن تَتَّقُوا منهم تَقِيَّةً» وقيل: إن المؤمن إذا كان قائماً بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبُه مطمئن بالإيمان. والتقِية لا تحِل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم. ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلّب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في «النحل» إن شاء الله تعالى. وأمالَ حمزة والكسائي «تقاة»، وفخم الباقون؛ وأصل «تقاة» وُقَيَة على وزن فُعَلَة؛ مثل تُؤَدَة وتُهَمة، قلبت الواو تاء والياء ألفاً. وروى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرِياً تقياً وكان له حِلف من اليهود؛ فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبيّ الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدوّ. فأنزل الله تعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسِر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في «النحل».أهـ (1) .
وفصل الألوسي في المسألة في تفسيره روح المعاني فقال (2) :
__________
(1) - تفسير القرطبي (4/52-53)
(2) - الألوسي/روح المعاني (3/ 121-125)(1/394)
وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلاً أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفاً يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالباً سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضاً موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد قطعاً، ومما يدل على أنها رخصة ـ ما روي عن الحسن ـ " أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ قالها ثلاثاً، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئاً له.(1/395)
وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه (1) "
وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى:{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضاً إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضاً من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(6/473- رقم: 33037)(1/396)
وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة, وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم, لكفّ أَذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم, ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع.-وذكر أحاديثًا ضعيفة-ثم قال: وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ,وأنا عنده ,فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة ـ أو أخو العشيرة ـ ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه " (1) وفي «البخاري» عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم " وفي رواية الكشميهني " وإن قلوبنا لتقليهم " وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة " ونضحك إليهم " إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس: وهم الخوارج والشيعة.
أما الخوارج: فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلاً ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحداً لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان.
__________
(1) - رواه أحمد (24152) والبخاري (5780) ومسلم(2591) والترمذي(1996) وغيرهم.(1/397)
وأما الشيعة: فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحياناً وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضاً ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت «من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي»، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضاً، وفي أفضلية التقية من سني واحد ـ صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن ـ خلاف أيضاً، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز ـ بل وجوب ـ إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلاً أصيلاً عندهم وأسسوا عليه دينهم ـ وهو الشائع الآن فيما بينهم ـ حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.(1/398)
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضاً فضلها الذي زعموه , ففي كتاب «نهج البلاغة» الذي هو أصح الكتب ـ بعد كتاب الله تعالى ـ في زعمهم: أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13] بأكثركم تقية؟ا
وفيه أيضاً أنه كرم الله تعالى وجهه قال: « إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها, والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي, ويقين من ربي,وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج » . وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين، وروى العياشي: عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء , فقال: أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته بذلك.
فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق (1) .
إلى أن قال الألوسي: فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه , سبحان الله تعالى، هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضاً: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان:
__________
(1) - هذه الروايات عند الشيعة- ولا تصح عندنا- وذكر الألوسي رحمه الله لهذه الروايات من كتبهم لا يعني اعتقاده صحتها, بل هو يحتج عليهم بما في كتبهم التي يعتقدون صحتها ليبين أنهم يتقولون على أئمتهم بما يخالف ما في كتبهم.(1/399)
الأول: الخوف على النفس وهو منتفٍ في حق حضرات الأئمة بوجهين:
(أحدهما): أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في «الكافي»، وعقد لها باباً وأجمع عليها سائر الإمامية.
(وثانيهما): أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص , فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين.
القسم الثاني: خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائماً في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أرادوه قوله تعالى في حقهم:{ الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }[الأحزاب: 39] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67] إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني: حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه"انتهى كلام الألوسي رحمه الله.
ومن تفاسير الشيعة الإمامية الاثنى عشرية:
قال الطبرسي في مجمع البيان:(1/400)
قوله { ومن يفعل ذلك } معناه من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين { فليس من الله في شيء } أي ليس هو من أولياء الله , والله بريء منه, وقيل ليس هو من ولاية الله تعالى في شيء وقيل ليس من دين الله في شيء ثم استثنى فقال { إلا أن تتقوا منهم تقاة } والمعنى إلا أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين, فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه, ومداراتهم تقية منه, ودفعًا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك.
وفي هذه الآية دلالة على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس.
وقال أصحابنا: إنها جائزة في الأَحوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح وليس تجوز من الأَفعال في قتل المؤمن ولأَن يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين , قال المفيد: أنها قد تجب أحياناً وتكون فرضاً ويجوز أحياناً من غير وجوب وتكون في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً ومعفواً عنه متفضلاً عليه بترك اللوم عليها.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي (قده) ظاهر الروايات تدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس وقد روي رخصة في جواز الإِفصاح بالحق عنده.....وقال:
فعلى هذا تكون التقية رخصة والإِفصاح بالحق فضيلة.
وقوله { ويحذركم الله نفسه } يعني إياه فوضع نفسه مكان إياه , ومعناه: ويحذركم الله عقابه على اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين وعلى سائر المعاصي وذكر " نفسه " لتحقيق الإِضافة كما يقال احذر الأَسد :أي صولته وافتراسه دون عينه.
{ إلى الله المصير } معناه: وإلى جزاء الله المرجع , وقيل: إلى حكمه.أهـ (1)
وقال الفيض الكاشاني في تفسيره(الصافي):
{
__________
(1) - الطبرسي/مجمع البيان (2/273-274)(1/401)
إِلاَّ أَنْ تَتّقُوْا مِنْهُمْ تُقَاةً } إلا أن تخافوا من جهتهم خوفاً أو أمراً يجب أن يخاف منه ,وقرئ (تقيّة) منع من موالاتهم ظاهراً أو باطناً في الأوقات كلها إلا وقت المخافة فان إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة كما قيل: كن وسطاً وامش جانباً.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنون عليه السلام في حديث: وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فان الله يقول:{ لا يتخذ المؤمنون..} الآية , قال: وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك وان تترك التقيّة التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك, معرض لزوال نعمك ونعمهم, مذلّهم في أيدي أعداء دين الله وقد أمرك الله تعالى بإعزازهم.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول " لا إيمان لمن لا تقيّة له " ويقول: قال الله:( إلا أن تتّقوا منهم تقاة).
وفي الكافي عنه عليه السلام قال: التقيّة ترس الله بينه وبين خلقه.
وعن الباقر عليه السلام قال :التقيّة في كل شيء يضطر إليه ابن آدم وقد أحل الله له, والأخبار في ذلك مما لا تحصى.أهـ (1)
قال الطباطبائي في تفسيره(الميزان):
قوله تعالى: { إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } , الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.
والاستثناء منقطع, فإن التقرب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولي ظاهراً من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء لأن الخوف والحب أمران قلبيان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب, فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام, كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمّار وأبويه ياسر وسميّة وهي قوله تعالى:
{
__________
(1) -الصافي (1/ 325 )(1/402)
مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106].
وبالجملة: الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة, والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين, ولا هم لشارعه إلاَّ ظهور الحق وحياته, وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها, وإنكار ذلك مكابرة وتعسف, وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي, وفي الكلام على قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلاَّ من أكره وقلبه مطمئن بالإِيمان }....
إلى أن قال: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جداً ربما بلغت حد التواتر, وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.أهـ (1)
وأقول:
__________
(1) - تفسير الميزان (1/153)(1/403)
لا خلاف في مشروعية التقية بالضوابط السابق ذكرها وهذا متفق عليه بين أهل السنة والشيعة, ولكن توسع فيه الشيعة الإمامية توسعًا لا يستساغ, وجعلوه فضيلة يثابون عليها, وأصبح الكثير منهم يستحل الكذب والنفاق بدعوى التقية, وبلا مبرر شرعي , حتى أنك تجد الآن منهم من يأتي على الفضائيات من علمائهم وكبرائهم فتسمع منه كلامًا حسنًا يخالف ما يقولونه فيما بينهم وما هو مسطور في كتبهم ومذكراتهم ,وهذا ما جعل الكثير ممن لا يعرفهم جيدًا يُخدع بهم , كمن انخدع بالخوميني ودولته في باديء الأمر, وكذا حسن نصر الله وحزبه اللبناني الموالي لإيران, وما ذلك إلا لاستخدام القوم لمبدأ التقية, التي جعلوها عبادة يتقربون بها إلى الله تعالى ويروون عن أهل البيت رضوان الله عليهم في ذلك أخبارًا كثيرة كاذبة , منها ما رووه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:" من ترك التقية قبل خروج قائمنا- أي: المهدي- فليس منا" (1) .
وعن علي بن محمد قال:"لو قلت:إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقًا" (2) .
وعن الصادق قال:"عليكم بالتقية فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره" (3) .
وعن الرضا قال:"لا دين لمن لا ورع له ولا إيمان لمن لا تقية له, وإن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية" (4) .
__________
(1) - اثبات الهداة (3/477)
(2) - وسائل الشيعة:(11/466) للحر العاملي
(3) - وسائل الشيعة: (11/466)
(4) - نفس المصدر السابق وانظر:إكمال الدين للصدوق وإعلام الورى للطبرسي.(1/404)
وفي الكافي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَ غَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ :(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) قَالَ بِمَا صَبَرُوا عَلَى التَّقِيَّةِ وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قَالَ: الْحَسَنَةُ التَّقِيَّةُ , وَ السَّيِّئَةُ الْإِذَاعَةُ (1) .
وفيه:عَنْ أَبِي عُمَرَ الْأَعْجَمِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ):يَا أَبَا عُمَرَ إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ فِي التَّقِيَّةِ, وَ لَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ, وَ التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْ ءٍ إِلَّا فِي النَّبِيذِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (2) ..
وفيه: عَنْ حَبِيبِ بْنِ بِشْرِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا وَ اللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْ ءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ التَّقِيَّةِ, يَا حَبِيبُ إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ اللَّهُ, يَا حَبِيبُ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ وَضَعَهُ اللَّهُ (3) ..
__________
(1) -الكافي (2/217) باب التقية ح1
(2) - الكافي (2/217) باب التقية ح2
(3) - الكافي (2/217) باب التقية ح4(1/405)
وهذا الخوميني يقول: وليعلم أن المستفاد من تلك الروايات صحة العمل الذي يؤتى به تقية, سواء كانت التقية لاختلاف بيننا وبينهم- يعني أهل السنة- في الحكم,كما في المسح على الخفين, والإفطار لدى السقوط , أو في ثبوت الموضوع الخارجي كالوقوف بعرفات اليوم الثامن لأجل ثبوت الهلال عندهم" (1) .وقال أيضًا:"ثم إنه لا يتوقف جواز التقية بل وجوبها على الخوف على نفسه أو غيره,بل الظاهر أن المصالح النوعية صارت سببًا لإيجاب التقية من المخالفين, فتجب التقية وكتمان السر لو كان مأمونًا وغير خائف على نفسه"أهـ (2) . فانظر رحمك الله كيف تساهل في إيجاب التقية حتى مع الأمن وعدم الخوف.
بل وصل الأمر بعلمائهم أنهم كلما وجدوا قولاً مرويًا عندهم من أقوال أئمة أهل البيت في تولِّي أبي بكر وعمر أو في فضل الصحابة وصدقهم حملوا ذلك على أنهم قالوه تقية , وكلما وجدوا أمرًا عقائديًا أو حكمًا فقهيًا عند أئمتهم يوافق أهل السنة ويخالف معتقدات الشيعة الإمامية تأولوا ذلك بأن الأئمة قالوه تقية, وهكذا بدعوى التقية ردّوا كل فضيلة ,وكل علمٍ صحيح, ولم يبق عندهم مُعتَمَدًا إلا مادسّه لهم الكذابون وزائغوا العقيدة في رواياتهم.ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
* * *
(( أمثلة من التفسير تبين تأثرالشيعة الاثنى عشرية بآراء المعتزلة ))
1- الأنبياء: 2
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }
والمعنى:
ما يأتيهم شيءٌ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول– أيةً بعد آية وسورة بعد سورة- فيه عظةٌ لهم وتذكير إلا استمعوه وهم في لهوٍ وشغلٍ عنه.
__________
(1) - الرسائل للخوميني: (2/196)
(2) - الرسائل: ( 2/201)(1/406)
وليس في الآية ما يدل على أن القرآن مخلوق, كما توهمه بعض من أوحى لهم الشيطان بهذا من المعتزلة (1) و من ثأثر بهم من بعض طوائف الشيعة (2) وغيرهم, فجَرّوا على الأمة محنة شديدة حينًا من الدهر عُذِّب بسببها أئمة كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ,فصبروا حتى محيت الفتنة وزالت المحنة, والحمد لله.
ومن تفاسير الشيعة المحدثين:
قال الطباطبائي:
__________
(1) - قال عبد الجبار – من المعتزلة- في شرح الأصول الخمسة: "وأما مذهبنا في ذلك (أي في القرآن) فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو مخلوق محدث" [شرح الأصول الخمسة: ص 528، وانظر: المحيط بالتكليف ص 331.].
(2) - وقد عقد شيخ الشيعة في زمنه المجلسي في كتابه بحار الأنوار( 92/ 117-121): في كتاب القرآن بابًا بعنوان: "باب أنّ القرآن مخلوق" أورد فيه إحدى عشرة رواية، وكثير من هذه الروايات تخالف ما ذهب إليه، ولكنهم يؤولونها .
ويقول آية الشيعة محسن الأمين: "قالت الشّيعة والمعتزلة: القرآن مخلوق" [أنظر:أعيان الشّيعة (1/461)].
ويذهبون إلى هذا بناءً على إنكارهم لصفة الكلام لله وزعمهم أن الله سبحانه "يوجِد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلم موسى، وكجبرائيل حين أنزل بالقرآن" [أعيان الشيعة( 1/453)].
وقد جاء في تفسير العياشي: "عن الرضا أنه سئل عن القرآن فقال:... إنه كلام الله غير مخلوق.." [تفسير العياشي: 1/8.].ولكنهم يؤولون ذلك بقولهم: غير مخلوق أي غير مكذوب, ولا يعني به أنه غير محدث. [انظر: التوحيد لابن بابويه القمي ص225، البحار( 92/119)].(1/407)
والمراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية ومنها القرآن الكريم، والمراد بإتيانه لهم نزوله على النبي وإسماعه وتبليغه، ومُحدث بمعنى جديد وهو معنى إضافي وهو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإِنجيل والإِنجيل كان ذكراً جديداً أتاهم بعد التوراة وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.
وقال:
واستدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثاً غير قديم، وأولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله وهو لا ينافي قدمه في نفسه, وظاهر الآية عليهم, ثم ذكر الطباطبائي بحثًا في معنى حدوث الكلام وقدمه.. ثم توصل إلى:
أن القرآن الكريم إن أُريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دالّ على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثاً ولا قديماً. نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام والقرآن.
وإن أُريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شيء حق قديماً بقدمه, فالقرآن قديم :أي علمه تعالى به قديم , كما أن زيداً الحادث قديم أي علمه تعالى به.
ومن هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن وحدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالّة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، وإن أراد به أنه في علمه تعالى, وبعبارة أُخرى :علمه تعالى بكتابه قديم, فلا موجب لإِضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شيء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.(1/408)
على أنه لا موجب حينئذ لعدّ الكلام صفة ثبوتية ذاتية أُخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه ولو صحَّ لنا عدّ كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور والبطون والعظمة والبهاء والنور والجمال والكمال والتمام والبساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
والذي اعتبره الشرع وورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: { تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلَّم الله }
[البقرة: 253]، وقوله:{ وكلَّم الله موسى تكليماً }[النساء: 164]، وقوله:{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه }[البقرة: 75]، وقوله:{ يحرّفون الكلم عن مواضعه }
[المائدة: 13]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاماً نفسياً قائماً بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي وأنشد في ذلك قول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
والكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.
ففيه: أنه إن أُريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم ولم يكن أمراً يزيد عليه وصفة مغايرة له وإن أُريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.
وأما ما أُنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه ولا يضرّنا، والأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.أهـ (1)
وقال الخوئي:
__________
(1) - أنظر تفسير الميزان للطبطبائي(14/ 247-250 )(1/409)
وقد حدثت هذه المسألة - حدوث القرآن وقدمه - بعد انشعاب المسلمين شعبتين: أشعري وغير أشعري. فقال الأشاعرة بقدم القرآن، وبأن الكلام على قسمين: لفظي ونفسي، وأن كلام الله النفسي قائم بذاته وقديم بقدمه وهو إحدى صفاته الذاتية. وذهب المعتزلة والعدلية إلى حدوث القرآن، وإلى انحصار الكلام في اللفظي، وإلى أن التكلم من الصفات الفعلية..... وقد رجَّح أن الكلام من الصفات الفعلية ثم ناقش أدلة الكلام النفسي ورد عليها الخوئي ثم قال:
أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان.
ومن المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في هذا الموضوع، فقد روى الشيخ بإسناده عن أبي بصير قال:"سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله عزَّ وجلَّ ربنا، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبَصر، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المبصَر والقدرة على المقدور. قال: قلت: فلم يزل الله متحركاً؟ قال: فقال: تعالى الله عن ذلك، إن الحركة صفة محدثة بالفعل. قال: فقلت: فلم يزل الله متكلماً؟ قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان الله عز وجل ولا متكلم"أهـ. (1)
ومن تفاسير أهل السنة:
قال القرطبي:
__________
(1) - أنظر تفسيرالبيان للخوئي ص:416(1/410)
قوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } «مُحْدَثٍ» نعت لـ«ذكر». وأجاز الكسائي والفراء «مُحْدَثاً» بمعنى ما يأتيهم محدثاً؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضاً رفع «مُحْدَث» على النعت للذِّكر؛ لأنك لو حذفت «مِن» رفعت ذكراً؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم مُحدَث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال: { مِّن رَّبِّهِمْ } لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال الله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ }[الغاشية: 21]. ويقال: فلان في مجلس الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية{ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }[الأنبياء: 3]
ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأوّلين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
{ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }[القلم: 51 ـ 52] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وقال:{ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً }[الطلاق: 10 ـ 11].
{ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } الواو واو الحال يدل عليه { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ومعنى «يَلْعَبُونَ» أي يلهون. وقيل: يشتغلون أهـ (1)
قال الفخر الرازي:
أما قوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن أبي عبلة محدث بالرفع صفة للمحل.
__________
(1) - تفسير القرطبي (11/224)(1/411)
المسألة الثانية: إنما ذكر الله تعالى ذلك بياناً لكونهم معرضين، وذلك لأن الله تعالى يجدد لهم الذكر وقتاً فَوَقْتاً ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم ذلك إلا لعبًا واستسخارًا.
المسألة الثالثة: المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا: القرآن ذكر, والذكر محدث, فالقرآن محدث، بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن:{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }
[ص: 87] وقوله:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف: 44] وقوله:{ ص وَالْقُرْءانِ ذِي الذّكْرِ }
[ص: 1] وقوله:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ }[الحجر: 9] وقوله:{ إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }
[يس: 69] وقوله:{ وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ }[الأنبياء: 5]
وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع: { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } وقوله في سورة الشعراء:{ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ }[الشعراء: 5]
ثم قالوا: فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث.
والجواب من وجهين:
الأول: أن قوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } وقوله: { وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة، وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر.(1/412)
الثاني: أن قوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } لا يدل على حدوث كلّ ما كان ذكراً, بل على ذكرٍ ما محدث, كما أن قول القائل: لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه، فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً, بل على أن في الرجال من هو فاضل, وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث, فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئاً كما أن قول القائل: الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئاً فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع.أهـ (1)
وقال الشوكاني :
{ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ }: " من " لابتداء الغاية. وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث، لأن الذكر هنا هو: القرآن. وأجيب بأنه: لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله، وإنما النزاع في الكلام النفسي.
ثم مال الشوكاني إلى التوقف في مسألة قدم القرآن وحدوثه فقال:
وهذه المسألة: أعني قدم القرآن وحدوثه، قد أبتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية، وجرى للإمام أحمد ابن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده. والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
__________
(1) - تفسير الرازي ( 22 / 141-142)(1/413)
ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه.أهـ (1)
فوائد ذات صلة:
الفائدة الأولى:صفات الله تعالى أزلية سواء صفات الذات أو صفات الفعل, فهو خالق قبل خلق الخلق ومحيي قبل إحياء الخلق, ولم تحدث له صفة لم تكن له من قبل , وإلاّ كان متصفًا بضدها قبل ذلك, والضد نقص, فالساكت لغير آفة لا يقال له أخرس, وإنما هو متكلم, وإن لم يتكلم في الحال, لأنه يتكلم حينما يريد.
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال ، وضده من أوصاف النقص .لذا عاب الله تعالى على عُبَّاد العجل فقال تعالى:{ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً }{طه:89. } فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
__________
(1) - تفسير الشوكاني ( 3/397)(1/414)
الثانية: القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود, والله تعالى يتكلم بما شاء متى شاء, وكلام الله تعالى صفة من صفاته, وصفات الله تعالى ليست مخلوقة, ولا تشبه صفات المخلوقين فهو سبحانه:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }{الشورى:11}, ومن زعم من المعتزلة ومن تأثر بهم أن إضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة تشريف كقولنا بيت الله وناقة الله ونحو ذلك, فقد أخطأ, لأن ما يضاف إلى الله تعالى إما معانٍ , وإما أعيان ، فاضافة الأعيان الى الله للتشريف ، وهي مخلوقة له ، كبيت الله ، وناقة الله ، بخلاف إضافة المعاني ، كعلم الله ،وكلامه, وقدرته ، وعزته ، وجلاله ، وكبريائه ، وحياته ، وعلوه ، وقهره - فإن هذا كله من صفاته ، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا.
وإثبات الصفات لا يستلزم التشبيه والتجسيم, فالله تعالى يتكلم كما يليق بجلاله, فنحن نؤمن بأنه يتكلم ولا نعلم كيف يتكلم, فالكيفية تفوض إلى الله تعالى, بل إن من المخلوقات ما تتكلم ومع ذلك لا نعرف كيف تتكلم,فما بالك بالخالق تبارك وتعالى. فمثلاً الأيدي والأرجل والجلود ستتكلم يوم القيامة قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }[يس: 65 ] و قال تعالى {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[فصلت:21] وكذلك تسبيح الحصا في يد النبي صلى الله عليه وسلم وتكليم الطعام له وسلام الحجر عليه, كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من لديه المعتمد على مقاطع الحروف.(1/415)
الثالثة: قال الإمام الطحاوي في عقيدته:وإن القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولاً ، وأنزله على رسوله وحياً ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية . فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى : { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ }[المدثر:25]– علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر.أهـ (1)
وقال الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر : والقرآن في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره ، وعن فرعون وابليس - فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين , يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا.أهـ (2)
الرابعة: قال شارح العقيدة الطحاوية:
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :
أحدها : أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني ، إما من العقل الفعال عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة .
وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه ، وهذا قول المعتزلة .
وثالثها : أنه معنى واحد قائم بذات الله ، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرانيه كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه ، كالاشعري وغيره .
__________
(1) - شرح الطحاوية ص: 108
(2) - ذكره شارح العقيدة الطحاوية ص:117(1/416)
ورابعها :أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث .
وخامسها : أنه حروف وأصوات ، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً ، وهذا قول الكرامية وغيرهم .
وسادسها : أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته ، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل اليه الرازي في المطالب العالية .
وسابعها : أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي .
وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات ، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه .
وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يُسمع ، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.أهـ (1)
الخامسة:إنما أنكر كثير من أهل السنة والجماعة قول القائل (لفظي بالقرآن مخلوق) مع أنه لا يعني أن القرآن مخلوق, ولكن تشددوا في ذلك ليسدوا الباب عن الكلام في هذا الموضوع .
* * *
2- القصص: 88
{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لاَ اله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
والمعنى:
{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً ءَاخَرَ لاَ اله إِلاَّ هُوَ } أي : لا تعبد إلا الله وحده ولا تصرف شيئًا من أوجه العبادة لغيره سبحانه, إذ لا معبود بحقٍّ إلا هو , وكلّ معبود سواه باطل, والخطاب للأمة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } لها تفسيران:
الأول: إخبارٌ بأنه سبحانه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي لايموت وكلُّ ما سواه يموت؛ كما قال تعالى:{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }[الرحمن: 26 ـ 27]
__________
(1) - شرح الطحاوية ص:109(1/417)
فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ههنا: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي: إلاّ إياه. وقد ثبت في الصحيحين:البخاري(3628) ومسلم(2256) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ".
والثاني: كل شيء باطل إلاّ ما أريد به وجهُه تعالى، قال به مجاهد والثوري, وحكاه البخاري في " صحيحه " كالمقرر له، وذكر ابن جرير (1) أن من قال ذلك يستشهدون بقول الشاعر:
أَسْتَغْفِرُ الله ذَنْباً لستُ مُحْصِيَه ... رَبّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
قال ابن كثير: وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة، إلاَّ ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة، إلا ذاته تعالى وتقدس، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. أهـ (2)
وقوله:{ له الحكم وإليه ترجعون} أي: له الحكمُ المطلَق النافذ وإليه تردّون يوم القيامة.
وقد ختمت هذه السورة الكريمة-سورة القصص- بهذه الآية الكريمة لتقرير قاعدة الدعوة الى وحدانية الله سبحانه، وتفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء، ليلجأ العباد إليه وحده ولا يلجأون لغيره من قبور الأنبياء والأولياء ونحوهم فالأمر كله بيد الله تعالى وحده, وبذلك تطمئن قلوب الموحدين.
بعدما تبين الحق في تفسير هذه الآية المباركة نفسح المجال للفيض الكاشاني لينقل لنا كيف يفسرون هذه الآية وما المقصود بوجه الله تعالى عندهم:
قال الفيض الكاشاني في تفسيره :
{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَر }
القمّي: المخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وآله والمعنى للنّاس وهو قول الصادق عليه السلام انّ الله بعث نبيّه بإيّاك أعني واسمعي يا جارة .
{
__________
(1) - تفسير الطبري ( 19/ 643)
(2) - تفسير ابن كثير ( 3/417 )(1/418)
لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ }
في الكافي: عن الصادق عليه السلام :إنّما عني بذلك وجه الله الذي يؤتى منه.
وفي التوحيد: عن الباقر عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ أعظم من أن يوصف بالوجه لكن معناه كلّ شيء هالك الاّ دينه والوجه الذي يؤتى منه.
أقولُ: يعني بالوجه الذي يؤتى منه الذي يهدي العباد الى الله تعالى وإلى معرفته من نبيّ أو وصيّ أو عقل كامل بذلك وفيٍّ, فإنّه وجه الله الذي يؤتى الله منه وذلك لأنّ الوجه ما يواجه به والله سبحانه إنّما يواجه عباده ويخاطبهم بواسطة نبيّ أو وصيّ أو عقل كامل.
وفي التوحيد عن الصادق عليه السلام قال كلّ شيء هالك إلاّ من أخذ طريق الحقّ, وعنه عليه السلام من أتى الله بما أمره من طاعة محمد والأئمّة صلوات الله عليهم من بعده فهو الوجه الذي لا يهلك ثم قرأ : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ }[النساء:80 ]
وفي الكافي عنه عليه السلام ما في معناه, والمراد أنّ كلّ مطيع لله ولرسوله متوجّه الى الله فهو باق في الجنان أبد الآبدين وهو وجه الله في خلقه به يواجه الله تعالى عباده ومن هو بخلافه فهو في النيران مع الهالكين وقراءة الآية إشارة إلى أنّ طاعته للرّسول توجّه منه إلى الله وإلى وجهه وتوجّه من الله تعالى إلى خلقه وهو السبب في تسميته وجه الله وإضافته إليه.
وفي التوحيد: عنه عليه السلام نحن وجه الله الذي لا يهلك.
وعنه عليه السلام (إلاّ وجهه) قال: دينه, وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام دين الله ووجهه وعينه في عباده ولسانه الذي ينطق به ويده على خلقه ونحن وجه الله الذي يؤتى منه لن نزال في عباده ما دامت لله فيهم رؤبة, قيل: وما الرّؤبة ؟ قال:الحاجة فإذا لم يكن لله فيهم حاجة رفعنا اليه وصنع بنا ما أحبّ...(1/419)
وقال: وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام المراد كلّ شيء هالك الاّ دينه لأنّ المحال أن يهلك منه كلّ شيء ويبقى الوجه هو وذكر مثل ما في التوحيد يهلك من ليس منه ألا ترى انّه قال: كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ففصّل بين خلقه ووجهه.
أقول: وورد في حديث آخر عنهم عليهم السلام أن الضمير في وجهه راجع الى الشيء , وعلى هذا فمعناه أنّ وجه الشّيء لا يهلك, وهو ما يقابل منه إلى الله وهو: روحه وحقيقته وملكوته ومحلّ معرفة الله منه التي تبقى بعد فناء جسمه وشخصه والمعنيان متقاربان وربّما يفسّر الوجه بالذّات وليس ذلك بالبعيد { لَهُ الْحُكْمُ } القضاء النّافذ في الخلق { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } للجزاء بالحقّ.أهـ (1)
تنبيه:
(
__________
(1) - تفسيرالصافي( 4/108-109)(1/420)
الوجه) من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق . فالقرآن الكريم قد ذكر بعض الصفات المضافة إلى الله تعالى كالوجه واليد والعين والكلام والمجيء والاستواء ونحو ذلك, كما في قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}{ص:75} وقوله: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }{طه:39} وقوله:{وَكَلَّمَ اللهُ موسَى تَكْلِيمًاً}{النساء:64} وقوله:{ وجَاءَ ربُّكَ والمَلَكُ صَفًا صَفًا}{الفجر:22} وقوله:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } {طه:5} فالواجب على المؤمن الإيمان بهذه بالصفات التي وردت في القرآن أو السنة الصحيحة مع التنزيه التام عن مشابهة هذه الصفات لصفات المخلوقين لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }{الشورى:11} وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات, وهو إثباتها لله كما أثبتها الله تعالى لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله تعالى وكماله بلا تشبيه أو تمثيل.وتفويض كيفية هذه الصفات إلى الله تعالى , كما أجاب الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء فقال:"الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"(1/421)
فإن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل قال تعالى:" وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا" {طه:110} .وذلك لأن الكلام في الصفات فرعٌ من الكلام في الذات, وإثبات الذات هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك الصفات.وقد مضى السلف على الإيمان بالصفات الواردة في الكتاب والسنة بلا كيف. :ففي سنن الترمذي(3/50)- في[ باب:ما جاء في فضل الصدقة(ح: 662)عقب حديثٍ صحيحٍ عن أبي هريرة مرفوعًا"إِنَّ الله يقبلُ الصَّدَقَةَ ويأَخُذُها بيَمينِهِ"]-قال:وقد قَالَ غَيرُ واحدٍ من أَهلِ العلمِ في هَذَا الحديثِ وما يُشبِهُ هَذَا من الرِّواياتِ من الصِّفاتِ ونُزُولِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعَالى كُلَّ لَيلَةٍ إِلى السَّماءِ الدُّنيَا، قَالُوا: قد تثُبتُ الرَّواياتُ في هَذَا ويُؤمنُ بِها ولا يُتَوَهَّمُ ولا يُقَالُ كَيفَ. هَكذَا رُوِيَ عن مالكِ بن أَنسٍ وسُفيانَ بن عُيَينَةَ وعَبدِ الله بن المباركِ أَنهُم قَالُوا في هَذَهِ الأَحاديثِ: أَمِرُّوَها بلا "كَيفَ"، وهَكذَا قَولُ أَهلِ العلمِ مِن أَهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ. وأَمَّا الجَهميَةُ فأَنكرَتْ هَذَهِ الرَّواياتِ وقَالُوا هَذَا تَشبِيهٌ. وقد ذَكَرَ الله تَبَاركَ وتَعَالى في غَيرِ مَوضعِ من كتابِهِ اليَدَ والسَّمعَ والبَصَرَ فتأَوَّلتْ الجَهميةُ هَذَهِ الآياتِ وفَسَّرُوها عَلَى غَيرِ ما فَسَّرَ أَهلُ العلمِ، وقَالُوا إِنَّ الله لَمْ يخلُقْ آدَمَ بِيدِهِ، وقَالُوا إِنَّمَا معنى اليَدِ القُوَّةُ.(1/422)
وقَالَ إِسحاقُ بنُ إِبراهيمَ(ابن راهويه): إِنَّمَا يكُونُ التَشبِيهُ إِذَا قَالَ يدٌ كَيَدٍ أَو مثلُ يَدٍ، أَو سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَو مثلُ سَمْعٍ، فإذا قَالَ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَو مثلُ سَمْعٍ فَهَذَا تَشبِيهٌ. وأَمَّا إِذَا قَالَ كَمَا قَالَ الله يَدٌ وسَمْعٌ وبَصَرٌ ولا يقولُ كَيفَ ولا يقولُ مثلُ سَمْعٍ، ولا كَسَمْعٍ، فَهَذَا لا يكُونُ تَشبِيهاً وهُوَ كَمَا قَالَ الله تَبَاركَ وتَعَالى في كتابه {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.أهـ
وقال الحافظ في الفتح:وقال ابن عبد البر:أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئًا منها,وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا:من أقر بها فهو مُشبِّه, فسماهم من أقر بها مُعطلة.أهـ (1)
وبعض المفسرين من أهل السنة قد ذهبوا إلى تأويل هذه الصفات.ولكن مذهب السلف في ذلك أعلم وأحكم وأسلم.
و المفسرون من الشيعة يذهبون-أيضًا- إلى تأويل هذه الصفات, فيفسرون اليد: بالقدرة والقوة, والعين: بالحفظ والرعاية والحياطة , والمجيء: بمجيء أمر الله , والاستواء:بالاستيلاء والقهر
وإليك بعض الأمثلة المتنوعة من تفاسيرهم:
قال الفيض الكاشاني:
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } { ص: 75 }.
في العيون والتوحيد: عن الرضا عليه السلام قال: يعني بقدرتي وقوّتي. أهـ (2)
قال الطباطبائي:
__________
(1) - الحافظ ابن حجر العسقلاني / فتح الباري شرح صحيح البخاري ( 13/343 ).وانظر: عون المعبود(13/31)
(2) - الصافي (4/310) وانظر: الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص:23-24(1/423)
قوله تعالى: { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال:{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }[الحجر:29 ] وتثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه وصنعه فإن الإِنسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله: { خلقت بيدي } كقوله:{ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا }[يس: 71].
وقيل: المراد باليد القدرة , والتثنية لمجرد التأكيد كقوله:{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ }[الملك: 3].
وقد وردت به الرواية.
وقيل: المراد باليدين نعم الدنيا والآخرة، ويمكن أن يحتمل إرادة مبدئي الجسم والروح أو الصورة والمعنى أو صفتي الجلال والجمال من اليدين لكنها معان لا دليل على شيء منها من اللفظ.أهـ (1)
قال الطبرسي في المجمع:
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }{طه:39} أي لتربى وتغذى بمرأى مني , أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك. عن قتادة, وذلك أن من صنع لإِنسان شيئاً وهو ينظر إليه صنعه كما يحب ولا يتهيأ له خلافه، وقيل: لتربى ويطلب لك الرضاع على علمٍ مني ومعرفة لتصل إلى أمك. عن الجبائي، وقيل: لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي, كما يقال في الدعاء بالحفظ والحياطة : عين الله عليك. عن أبي مسلم.أهـ (2)
قال الطوسي في التبيان:
وقوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }{الأعراف:54}: قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنه استولى كما قال البغيث:
ثم استوى بشر على العراق ........ من غير سيفٍ ودمٍ مهراق
__________
(1) - الميزان (17/226)
(2) - مجمع البيان (7/21-22)(1/424)
يريد بشر بن مروان (1) .
الثاني - قال الحسن: استوى أمره.أهـ (2)
3 - القيامة:22-23
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }
والمعنى:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ - يوم القيامة- حسنة بهية مشرقة مسرورة تنظر إلى ربها عزّ وجلّ وتراه عياناً.
__________
(1) - أنكر ابن الأعرابي ذلك المعنى وبين أنه ليس من كلام العرب. قال داود بن علي الأصبهاني : كنت عند ابن الأعرابي ، فأتاه رجل فقال : ما معنى قوله عزّ وجلّ : ( الرَّحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] فقال ابن الأعرابي : هو على عرشه كما أخبر ، فقال : يا أبا عبد الله : إنما معناه استولى ، فقال ابن الأعرابي : فما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى على الشيء حتى يكون له مضاد ، فأيهما غلب فقد استولى عليه ، أما سمعت قول النابغة :
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ××× سبق الجواد إذا استولى على الأمد ( لسان العرب : 2/249) .
= وقد وذكر ابن حجر - رحمه الله تعالى- أن ابن أبي دؤاد - الذي تولى كبر فتنة القول بخلق القرآن- أراد ابن الأعرابي أن يجد له في لغة العرب أن (استوى) تأتي بمعنى (استولى) ليصرف قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}، إلى هذا المعنى. فقال له ابن الأعرابي: "والله ما أصبتُ هذا"[فتح الباري 13/406] .
وعندما سئل الإمام مالك : ( الرّحمن على العرش استوى ) [طه :5] كيف استوى ؟
أطرق مالك ، وأخذته الرحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : " الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف ؟ وكيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة ، أخرجوه "(رواه البيهقي ، وصححه الذهبي : انظر مختصر العلو للعلي الغفار ، للذهبي : ص 141 حديث رقم : 131 ).
وفي رواية عن مالك أنه قال : " الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " ( انظر مختصر العلو : ص 141 ، وحديث رقم 132 ).
(2) - التبيان (4/422)(1/425)
ذكر الطبري عن الحسن، في قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ } قال: حسنة { إلى رَبِّها ناظِرَةٌ } قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
و ذكرعن عكرِمة وإسماعيل بن أبي خالد، وأشياخ من أهل الكوفة، قال: تنظر إلى ربها نظراً.
وذكر للآية تفسيرًا آخر وهو:عن مجاهد { إلى رَبِّها ناظِرَةٌ } قال: تنتظر الثواب من ربها.
ثم قال:وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرِمة، من أن معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .أهـ (1)
قلت: وهذا قول أهل السنة والجماعة,وهو الحق الذي لا مرية فيه لموافقته لظاهر الآية وللأحاديث الصحيحة في ذلك التي تثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ ونذكر منها:
ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه(6998): عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنكم سترون ربكم عياناً "
و في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري (2) وأبي هريرة (3) : أنَّ ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: نعم , قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب ؟ قالوا: لا يا رسول الله, قال: ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ".
__________
(1) - تفسير الطبري ( 24/ 71-73)
(2) - رواه أحمد(11135) و البخاري(4305) ومسلم(183) وغيرهم.
(3) - ومسلم(2968 ) وأبو داود(4730) وابن حبان (4642) وغيرهم.(1/426)
وفي الصحيحين:البخاري(529) ومسلم(633) عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا ".
وفي الصحيحين:البخاري(4597) ومسلم(180) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن "
وفي صحيح مسلم(181) وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة . يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجل، وهي الزيادة " ثم تلا هذه الآية: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }
وفي صحيح مسلم(191) عن جابر في حديثه: " فيتجلَّى لهم –أي:للمؤمنين- يضحك " يعني: في عرصات القيامة. ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل .
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيًا ومن أحاط بها علمًا يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها, مما يوجب القطع بمقتضاها وهو رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة.
قال الإمام الطحاوي في عقيدته:"والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }" (1)
__________
(1) - شرح الطحاوية (ص:129)(1/427)
قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام، ومن تأول ذلك بأن المراد بـ (إلى) مفرد الآلاء، وهي النعم؛ كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال: تنتظر الثواب من ربها، رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد، وكذا قال أبو صالح أيضاً، فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى:{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15] قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما حجب الكفار، إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة.أهـ (1)
أما الشيعة الإمامية فأنكروا رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة وتبعوا في ذلك المعتزلة فقد تأثروا بهم في تأويل الصفات ونحو ذلك من الآيات التي لا توافق مذهبهم فيحرفون معناها بدعوى التأويل بما يوافق عقولهم.
واعلم أنه لا يشاء مبطلٌ أن يتأول النصوص ويحرّفها بما يوافق هواه إلاّ وجد إلى ذلك سبيلاً.كما فعلت اليهود والنصارى في نصوص كتبهم,وهذا هو الذي أفسد الدنيا والدين. وكم جنى التأويلُ الفاسد على الأمة والدين من جنايات كثيرة, فهل قُتل عثمان وعليٌّ رضي الله عنهما إلاّ بالتأويل الفاسد, وكذا ما جرى يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين رضي الله عنه ويوم الحرة, وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة ورفضت الروافض ونبتت البهائية والقاديانية إلا بالتأويل الفاسد ؟ وهل يكون افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة إلا بسبب ذلك.
قال الطوسي:
__________
(1) - تفسير ابن كثير (4/450)(1/428)
قسَم تعالى أهل الآخرة فقال { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سروراً عند الرؤية نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على انهم مؤمنون مستحقون الثواب. وقوله { إلى ربها ناظرة } معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم. وقيل { ناضرة } أي مشرفة { إلى } ثواب ربها { ناظرة } وليس فى ذلك تنغيص لان الانتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله الى المنتظر أو هو محتاج اليه فى الحال. والمؤمنون بخلاف ذلك، لانهم فى الحال مستغنون منعمون، وهم ايضاً واثقون انهم يصلون الى الثواب المنتظر. والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلبا للرؤية ويَكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ }[ النمل: 35]
أى منتظرة وقال الشاعر:
وجوه يوم بدرٍ ناظرات ... إلى الرحمن تأتي بالفلاح
أى منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم، وقد يقول القائل: انما عيني ممدودة الى الله، والى فلان، وانظر اليه أى انتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته، وقوله
{ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عمران:77 ](1/429)
معناه لا ينيلهم رحمته. ويكون النظر بمعنى المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أى قابله بالرحمة، ويقال: دور بني فلان تتناظر أى تتقابل، وهو ينظر الى فلان أى يؤمله وينتظر خيره، وليس النظر بمعنى الرؤية أصلا، بدلالة أنهم يقولون: نظرت الى الهلال فلم أره فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً، ولانهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: ما زلت أنظر اليه حتى رأيته، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه, لا يقال: ما زلت أراه حتى رأيته، ويعلم الناظر ناظراً ضرورة، ولا يعلم كونه رائياً بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا؟ ودخل " إلى " فى الآية لا يدل على ان المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك، لانا أنشدنا البيت، وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (إلى) والمراد به الانتظار، وقال جميل بن معمر:
وإذا نظرت اليك من ملك ... والبحر دونك جدتني نعماء
والمراد به الانتظار والتأميل، وايضاً، فانه فى مقابلة قوله في صفة أهل النار { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }[القيامة:25 ] فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع الى فعل القلب، ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لأن الثواب الذي هو انواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته، ويجوز ايضاً أن يكون إلى واحد إلآ لاء وفى واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (ألى) مثل معى و (إلى) مثل حدى و (ألى) مثل حسى، فاذا اضيف الى غيره سقط التنوين، ولا يكون (الى) حرفاً فى الآية وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.أهـ (1)
قال الفيض الكاشاني:
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلَى رَبَّها نَاظِرَةٌ } قال ينظرون إلى وجه الله: أي إلى رحمة الله ونعمته وفي العيون: عن الرضا عليه السلام قال: يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.
__________
(1) -التبيان (10/197-198)(1/430)
وفي التوحيد والاحتجاج :عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: ينتهي أولياء الله بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيضّ وجوههم إشراقاً فيذهب عنهم كلّ قذى ووعث, ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة, فمن هذا المقام ينظرون الى ربّهم كيف يثيبهم, قال: فذلك قوله تعالى (إلى ربّها ناظرة) وإنّما يعني بالنّظر إليه: النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى.وزاد في الإِحتجاج: والنّاظرة في بعض اللغة هي المنتظرة ألم تسمع إلى قوله (فناظرة بم يرجع المرسلون) أي منتظرة.أهـ (1)
وذلك الذي أولوا به الرؤية مخالفٌ لظاهر الآية . و التأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة ، والفاسد الذي يخالف ذلك . فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ، ولا معه قرينة تقتضيه فهو تأويل فاسد.
بل مما يؤكد أن الله أراد بالرؤية نظر العين التي في الوجه إليه جل جلاله, ما يلي:
1- إضافة النظر إلى الوجه ، الذي هو محله ، في هذه الآية الكريمة.
2- وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين ،
3- وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه .
فإن النظر له عدة استعمالات ، بحسب صلاته وتعديه بنفسه :
فإن عدي بنفسه فمعناه :التوقف والإنتظار والإمهال :كما في قوله تعالى:{ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } {الحديد:13}.
وإن عدي بـ ( في) فمعناه : التفكر والإعتبار، كقوله :{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } {الأعراف:185}.
وإن عدي بـ ( إلى) فمعناه : المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى :{ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر}{الأنعام:99}. فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟ (2)
__________
(1) - الصافي (5/256) وانظر نور الثقلين (4/86)
(2) - شرح الطحاوية (ص :130-131) بتصرف(1/431)
أضف إلى ذلك أن في القرآن الكريم ما يؤكد رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة غير الآية السابقة: قال تعالى :{ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }{ق:35} . قال الطبري : قال علي بن أبي طالب و أنس بن مالك : هو النظر إلى وجه الله عز وجل .
وقال تعالى :{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }{يونس:26} ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : هي النظر إلى وجهه الكريم ، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ، والحديث رواه مسلم وغبره,وقد سبق (1) .
وقال تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }{المطففون:15} . احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة ، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي.
وقال الحاكم : حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال : حضرت محمد بن إدريس الشافعي ، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله عز وجل : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ؟ فقال الشافعي : لمَّا أن حجب هؤلاء في السخط ، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
قال شارح الطحاوية :
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى :{ لن تراني}{الأعراف:143}وبقوله تعالى :{ لا تدركه الأبصار} {الأنعام:103}
أما الآية الأولى : فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه :
أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته - أن يسأل ما لا يجوز عليه ، بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله ، وقال : {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}{هود:46} ،
__________
(1) - وانظر الأحاديث والآثار التي تدل على ذلك في تفسير الطبري(15/62-69).(1/432)
الثالث : أنه تعالى قال : لن تراني ، ولم يقل : اني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي . والفرق بين الجوابين ظاهر . ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً فقال : أطعمنيه ، فالجواب الصحيح : أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال : إنك لن تأكله . وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى . يوضحه :
الوجه الرابع : وهو قوله :{ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} {الأعراف:143} فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟
الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً ، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام . والكل عندهم سواء .
السادس : قوله تعالى :{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً}{الأعراف:143} فإذا جاز أن يتجلى للجبل ، الذي هو جماد لاثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته ؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف .
السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز . ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه ، وقد جمعوا بينهما .(1/433)
وأما دعواهم تأييد النفي بـ( لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة - : ففاسد ، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت ؟ قال تعالى:{ ولن يتمنوه أبداً} {البقرة:95}، مع قوله : {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} {الزخرف :77} . ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى : {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي}{يوسف:80} . فثبت أن لن لا تقتضي النفي المؤبد .
قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله :
ومن رأى النفي بلن مؤبدا * * فقوله أردد وسواه فاعضدا(1/434)
وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو : أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً ، كمدحه بنفي السنة والنوم ، المتضمن كمال القيومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء ، المتضمن كمال القدرة ، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير ، المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه ، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم ، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه ، المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل ، المتضمن لكمال ذاته وصفاته . ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً ، فإن المعدم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه ، فإن المعنى : أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به ، فقوله : {لا تدركه الأبصار} يدل على كمال عظمته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى : {فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا }{ الشعراء:61-62 } ، فلم ينف موسى الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علماً ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية ، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية . بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه.أهـ (1)
__________
(1) - شرح الطحاوية ص:132-134(1/435)
واعلم أن بعض روايات الشيعة الاثنى عشرية قد أثبتت رؤية المؤمنين لربهم سبحانه في الآخرة، فقد روى ابن بابويه القمّي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت له: أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم" (1) . ولكنهم كعادتهم يتمسكون بما يخالف ما عليه أهل السنة إذ يعتقدون أن الصواب مخالفتهم في أمور الدين, وأن ما وافق أهل السنة من روايات فإنما قيل تقية.
* * *
(( أمثلة من تفسير بعض الأيات التي يستدلون بها على آرائهم الفقهية المخالفة لأهل السنة))
1- البقرة:222-223
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُمْ مُّلاَقوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
والمعنى:
يسألونك يا محمد عن إتيان الزوجات زمن الحيض فأجبهم: إنَّه أذى، فامتنعوا عنه حتى يطهُرن بانقطاع الحيض، فإذا تطهرن بالغسل من الحيض فأتوهن في المكان الطبيعي الذي أمركم الله بالإتيان فيه ، لأنه لو كان يجوز إتيانهن في غيره لما قال تعالى: { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } . ومن كان وقع منه شيء من ذلك فليتبْ الى الله تعالى فإن الله يحب عباده الذين يكثرون التوبة والرجوع إليه والمتطهرين من الأقذار والفحش.
__________
(1) - أنظر:ابن بابويه/ التّوحيد ص117، بحار الأنوار( 4/44) ورجال الكشّي ص450 (رقم848).(1/436)
زوجاتكم هن موضع النسل كموضع البذر ينبت النبات، فيباح لكم أن تأتوهن على أية طريقة تشاءون إذا كان ذلك فى موضع النسل وهو الفرج، واتقوا الله أن تعصوه فى مخالطة المرأة، واعلموا أنكم ملاقوه ومسئولون عنده، والبشرى للذين يقفون عند حدوده تعالى فلا يتعدونها.
أما الشيعة الاثنى عشرية فقد ذهب أكثرهم إلى جواز إتيان المرأة في دبرها.
قال المجلسي:وعليه أكثر علمائنا. وقال الطوسي والطبرسي في تفسيريهما:وبه قال كثير من أصحابنا. (1)
قال الفيض الكاشاني:
{ نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } مواضع حرث لكم شبههن بها تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النّطف بالبذور { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قيل: أي من أي جهة شئتم.
والعياشي والقمي: عن الصادق عليه السلام أي: متى شئتم في الفرج.
وفي رواية أخرى في أي ساعة شئتم. وفي أخرى من قدّامها ومن خلفها في القبل.
__________
(1) - انظر بحار الأنوار للمجلسي (78/76) والتبيان للطوسي(2/223) و مجمع البيان للطبرسي (2/89) . وقد خالفهم القمي في تفسيره (1/73) وذكر الرواية بالإتيان في الفرج فقط , ونسب جوازالإتيان في الدبر إلى العامة , وليس إلى الشيعة.(1/437)
وفي التهذيب عن الرضا عليه السلام أن اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله عز وجل: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم } من خلف أو قدام خلافاً لقول اليهود, ولم يعن في أدبارهن (1) .
وعن الصادق عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها قال: لا بأس إذا رضيت. قيل فأين قول الله عز وجل { فأتوهن من حيث أمركم الله } قال: هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله إن الله تعالى يقول: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم }.
أقول: لا منافاة بين الروايتين لأن المراد بالأول نفي دلالة هذه الآية على حل الأدبار والمراد بالثانية نفي دلالة قوله تعالى{ من حيث أمركم الله} على حرمتها وأما تلاوته هذه الآية عقيب ذلك فاستشهاد منه بها على أن الله سبحانه إنما أراد طلب الولد إذ سمّاهن الحرث ويجوز أن يكون قوله تعالى {من حيث أمركم الله} إشارة إلى الأمر بالمباشرة وطلب الولد في قوله سبحانه{ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم}.
وفي الرواية الثانية إشارة إلى أن المتوقف حلّه على التطهر هو موضع الحرث خاصة دون سائر المواضع.
وفي الكافي: سئل الصادق عليه السلام عن إتيان النساء في أعجازهن فقال: هي لعبتك لا تؤذها.وفي رواية: والمرأة لعبة لا تؤذى وهي حرث كما قال الله. وفي أخرى: لا بأس به, وما أحب أن تفعله.
{
__________
(1) - هذه الرواية وما سبقها مما ذكره الكاشاني من روايات توافق ما عليه أهل السنة , ولكن – كالعادة- سيذكر بعدها ما ينافيها , ويأخذون بهذه الروايات الشاذة ويتركون الحق. ويزعم أنه لا منافاة بين الروايات , مع أن المنافاة بينها واضحة لكل أحد.وحاول أن يوفق بينها فتأول ذلك بتعسف واضح, وهذا حال مَن يجمع بين النقيضين. وما حملهم على ذلك إلا قبول القول المخالف لسائر المسلمين.لأنهم يرون أن العامة(سائر المسلمين سوى الاثنى عشرية) ليسوا على شيء ويجب مخالفتهم.(1/438)
وَقَدِّمُوا لأنفُسِكُمْ } قيل: أي ما يدّخر لكم من الأعمال الصالحة وقيل: هو طلب الولد وقيل: التسمية على الوطء { وَاتَّقُوا اللهَ } ولا تجتَرُوا على المناهي { وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ مُلاَقُوهُ } فتزوّدوا ما لا تفتضحون به { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لعل المراد وبشِّر من صدقك وامتثل أمرك بالملاقاة والكرامة والنعيم الدائم عندها.أهـ (1) .
نقول وبالله التوفيق:
ليس في قوله (أنى شئتم) دليل على جواز إتيان المرأة في دبرها للآتي:
أولاً: لأنه تعالى قال قبلها (فأتوا حرثكم) وموضع الحرث معروف وهو الفرج.فإذا أضيف إلى ذلك قوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) مع تدبر معنى لفظة( من) فيها,وإذا أضيف إلى ذلك سبب النزول, مع الأمر باعتزال النساء في المحيض, ودم الحيض لا ينزل إلا من الفرج . تبيَّن جليًا أن المقصود أن يأتي الرجل المرأة من أي مكان إلاّ أن ذلك في صمام واحد وهو الفرج. فالمستفاد من قوله (أنى شئتم) تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان, والفرق بينهما واضح.
يؤكد ذلك ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } إلى:{ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }[البقرة: 222]
فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثَمَّ أُمرت أن تأتي, فقال: كيف بالآية { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إِنّى شِئْتُمْ }؟ فقال: ويحك، وفي الدبر مِن حرث؟ لو كان ما تقول حقاً لكان المحيض منسوخاً إذا شغل من ههنا جئت من ههنا, ولكن أنَّى شئتم من الليل والنهار (2) .
__________
(1) - الصافي ( 1/253-254)
(2) - تفسير الطبري(4/403= رقم: 4325) وابن أبي حاتم(2/123= رقم: 2175)(1/439)
ثانيًا: الأحاديث الصحيحة قاضية في ذلك: فقد روى الترمذيُّ (2980) وحسَّنه عن ابن عباس قال: " جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكتُ! قال: «وما أهلك» قال: حوّلت رحلى الليلة؛ قال: فلم يُردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ قال: فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال صلى الله عليه وسلم:«أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ واتَّقِ الدُّبُرَ والحَيْضَةَ» فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قد حذّر من إتيان المرأة في دبرها فقال: (واتَّقِ الدُّبُرَ).
وروى أحمد(26749)- بسند جيد- والدارمي(1119) والترمذي(2979) وحسَّنه: عن أم سلمة : عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } يعني: صمامًا واحدًا ".وأيضًا في الحديث الآتي في سبب نزول الآية :" غير أن ذلك في صمامٍ واحد" يعني الفرج.
وروى أحمد (21923) والدارمي(1144) - بسند جيد - عن خزيمةَ بن ثابت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ لا تأتوا النساء في أعجازهنّ " ومثله عن عليّ بن طَلْق (1) . وروى الدارمي أيضًا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى امرأة في دُبُرِها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة " (2) . وفي مسند أحمد )10209)-بسند جيد- عن أبي هريرة قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:"َ مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا".
فإذا تبين ذلك فلا عبرة بقول من يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم كائنًا من كان.
__________
(1) - الترمذي(1166) وابن حبان (4199) وغيرهما. وصحح الألباني الحديث في إرواء الغليل (2005)
(2) - حسن: سنن الدارمي( 1140) ونحوه عند ابن حبان(4203) عن ابن عباس وحسنه الأرنؤوط..(1/440)
ثالثاً: أما ما قاله بعضهم كالطوسي (1) وغيره من أنه ليس في الشرع تحريم الوطء بين الساقين ونحو ذلك من مواضع أخرى أحلها, ومعلومٌ أنها ليست من موضع الحرث, فلماذا يمنع إتيان المرأة في دبرها بحجة أنه ليس في موضع الحرث. فهذا القول مردود بأن الاستمتاع والاستمناء بالمرأة بين الساقين ونحوه لا يعد في العرف ولا في الشرع وطئًا أو جماعًا (2) .بخلاف الموضعين: القبل والدبر .فإتيان المرأة في قبلها أو في دبرها يسمى وطئًا ويسمى جماعًا باتفاق. والله تعالى قد حرم الوطء في غير موضع الحرث.
فوائد ذات صلة:
الفائدة الأولى: سبب النزول:
1- روى أحمد(12376) ومسلم(302) وغيرهما عن أنس، أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً، إلا خالفنا فيه".
__________
(1) -أنظر: التبيان للطوسي(2/223) ومجمع البيان للطبرسي (2/89)
(2) - الوَطْء: من وطيء الشيء وطأً:بمعنى داسه بقدمه. وفي القرآن:{ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة:120]. ويأتي بمعنى الجماع: وهو تغييب الحشفة أو قدرها ولو بحائل خفيف لا يمنع اللذة. أنظر:معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية(3/486) د.محمود عبد الرحمن عبد المنعم, والمعجم الوسيط (وطأ) (2/1083)(1/441)
2-أخرج البخاري ومسلم وغيرهما- واللفظ لمسلم- عن جابر بن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دُبرِها في قُبِلُها كان الولدُ أحول؛ فنزلت الآية: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } زاد في رواية عن الزّهريّ: إن شاء مُجَبِّية وإن شاء غير مُجَبِّيةٍ غير أن ذلك في صمامٍ واحد" (1) .
الثانية: ثبت بسند صحيح- كما قال ابن كثير في تفسيره (2) - عن طاووس أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها, قال: تسألني عن الكفر؟ , وعن عكرمة:جاء رجل إلى ابن عباس وقال:كنت آتي أهلي في دبرها وسمعت قول الله تعالى{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فظننتُ أن ذلك حلالٌ , فقال: يا لٌكَع, إنما قوله:{ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}: قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن , لا تعدو ذلك إلى غيره.
وفي مصنف ابن أبي شيبة وغيره: نادى عليٌّ رضي الله عنه على المِنبر فقال : سلوني ، فقال رجل : أتؤتى النساء في أدبارهن ؟ فقال : سفلت سفل الله بك ! ألم تر أن الله تعالى يقول : (أتأتون الفاحشة...) الآية (3) .
وفي هذا الخبر دليلٌ على أن عليًّا رضي الله عنه يرى إتيان المرأة في دبرها لواطًا كإتيان الرجل تمامًا لأنه استدل بالآية التي في شأن قوم لوط وإتيانهم الفاحشة (اللواط).حيث قال تعالى:{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ }[الأعراف : 80]
__________
(1) - رواه الدارمي(1132) والبخاري(4254) ومسلم(1435) وأبو داود(2163) وابن ماجة(1925) وغيرهم.
(2) - تفسير ابن كثير(1/262)
(3) - ابن أبي شيبة( 3/530- رقم:16812 ), وسنن البيهقي(7/198- رقم: 13905)(1/442)
الثالثة: أكثر العلماء على جواز أن يصنع الرجل مع زوجته الحائض كل شيء إلا الجماع-أي إلا الوطء في القبل أو الدبر- لحديث "اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح" الوارد في سبب نزول الآية , وقال بعضهم لا يحل إلاّ ما فوق الإزار لما ثبت في الصحيحين:البخاري(297) ومسلم(294) عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض " وهذا لفظ البخاري.
الرابعة : اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء، أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه لقوله تعالى: (فلا تقربوهن حتى يطهرن)أي بانقطاع الحيض( فإذا تطهرن)أي بالغسل من الحيض.
الخامسة: من أتى امرأته في فرجها وهي حائض فقد أثم، فيستغفر الله ويتوب إليه. وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم, لما رواه الإمام أحمد(2121) وأهل السنن - بسند صحيح - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " في الذي يأتي امرأته وهي حائض، يتصدق بدينار أو نصف دينار "، وفي لفظ للترمذي(137): " إذا كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار " وفي رواية أخرى لهذا الحديث عند الإمام أحمد(3473) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصابُ ديناراً، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل، فنصف دينار.
وثانيهما: وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك، بل يستغفر الله عز وجل؛ لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم، وموقوفاً، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث. (1) .
__________
(1) - تفسير ابن كثير(1/259)(1/443)
السادسة : ما نُسِب إلى ابن عمر من القول بإباحة إتيان النساء في أدبارهن ,وكذا ما نسب إلى الإمام مالك, فالرد على ذلك بما روى النَّسائي في الكبرى(8978)عن أبي النَّضْر أنه قال لنافع مولَى ابن عمر: قد أَكثر عليك القولُ. إنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى بأن يُؤتَى النساء في أدبارهنّ. قال نافع: لقد كذبوا عليّ! ولكن سأُخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمَر عَرض عليّ المصحفَ يوماً وأنا عنده حتى بلغ: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ }؛ قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنّا كنا معشر قريش نُجَبِّي النساءَ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهنّ ما كنا نريد من نسائنا؛ فإذا هنّ قد كرِهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهنّ؛ فأنزل الله سبحانه: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }. وروى الدارِمِيّ في مسنده (1143) عن سعيد بن يسار أبي الحُبَاب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهنّ؟ قال: وما التَّحْميض؟ فذكرت له الدُّبُر؛ فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين!!
وعلى ذلك ينبغي أن تؤول الروايات الواردة عن ابن عمر بما يخالف ذلك:أنه أراد جواز إتيان المرأة في قبلها من دبرها( أي في فرجها من خلفها).وأيًا كان الأمر فالحجة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا فيمن خالفه.
وقال القرطبي: ما نسب إلى مالكٍ وأصحابِه من هذا باطل وهم مُبَرَّءون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث؛ لقوله تعالى: { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ }؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بثّ النّسل؛ فغير موضع النسل لا يناله مِلْك النكاح، وهذا هو الحقّ. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائطَ الذكر سواء في الحكم؛ ولأن القَذَر والأذَى في موضع النجو أكثرُ من دمِ الحيض، فكان أشنع أهـ (1)
2- النساء:23-24
{
__________
(1) - تفسير القرطبي (3/83)(1/444)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً* وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَالِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
والمعنى الإجمالي للآيتين:
حَرَّمَ الله عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، والمحرمات لغير النسب: أمهات الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات الزوجات وبنات الزوجات من غير الأزواج إذا دخلتم بهن، وزوجات أبناء الصلب، والجمع بين الأختين، وما سلف فى الجاهلية فإنه معفوٌّ عنه. إن الله غفور لما سلف قبل هذا النهج، رحيم بكم فيما شرع لكم.(1/445)
وحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء عامة، حرائر وغير حرائر، إلا من سبيتم وملكتم منهن فى حرب بينكم وبين الكفار، فإن نكاحهن السابق ينفسخ بالسبى، فيصرن حلالاً لكم بعد استبراء أرحامهن ، فالزموا ما كتب الله عليكم فى تحريم ما حرم، ولكم فيما عدا هؤلاء المؤمنات المحرمات أن تطلبوا بأموالكم نساء تتزوجون بهن، لا تقصدون الزنا أو المخادنة، فأى نساء استمتعتم بهن وتلذذتم بهن, بعد الزواج الشرعي منهن, فوفُّوهن مهورهن التى قدَّرتم لهن حقاً عليكم لا تسامح فيه تؤدونه فى موعد، ولا حرج عليكم فيما تم بينكم عن تراض من تنازل زوجة عن بعض مهرها أو زيادة زوج فيه، إن الله كان ولم يزل مُطَّلِعاً على شئون العباد، حكيمًا يشرع لعباده من الأحكام ما يصلح به أمرهم. (1)
قال القرطبي:
فحرّم الله سَبْعاً من النسب وسِتّاً من رضَاع وصِهْر، وألحقت السنةُ المتواترة سابعة؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع. وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرّم من النسب سبع, ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ }.أهـ (2)
فالسبع المحرّمات من النسب: الأُمهات وإن علون ,والبنات وإن نزلن, والأخوات, والعمات, والخالات، وبنات الأخ, وبنات الأُخت.
ويحرم من النساء مثلهن بالرضاع لما في الصحيحين:البخاري(4811) ومسلم (1444) عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة " ، وفي لفظ لمسلم(1445): " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "
__________
(1) - تفسير المنتخب ص: 111-112
(2) - تفسير القرطبي(5/90)(1/446)
ويحرم بسبب المصاهرة:أُمهات الزوجات, والربائِب: أي بنات الزوجات من أزواج أخر, وزوجات الأبناء الذين من الصلب أو الرضاع وليس بالتبني, وزوجات الأباء, والجمع بين الأُختين، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها, والنساء المتزوجات من غيرهم قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عدتهن.
* وجمهور السلف ذهبوا إلى أن الأُم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلاَّ بالدخول بالأُمِّ؛ وبهذا قول جميع أئمة الفَتْوى بالأمصار.
وقالت طائفة : الأُم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلاَّ بالدخول بالأُخرى.
* وقال ابن عبد البر: وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح, وقد أجمع المسلمون على أن معنى(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ.. إلى آخر الآية). أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء.أهـ (1)
وقال الشنقيطي:
قوله تعالى: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } الآية.
يفهم منه أن حليلة دعيّه الذي تبناه لا تحرم عليه، وهذا المفهوم صرح به تعالى في قوله:
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي? أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا }[الأحزاب: 37]
وقوله:{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ }[الأحزاب: 4] وقوله:{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }[الأحزاب: 40] الآية.
__________
(1) - ذكره ابن كثير في تفسيره (1/472)(1/447)
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه: " يحرم من الرِّضاع ما يحرم من النسب " والعلم عند الله تعالى.أهـ (1)
وأما الشيعة: فقد وافقوا أهل السنة في كثير مما سبق بيانه من تفسير هاتين الآيتين الكريمتين , وخالفوهم فيما يلي:
أولاً: أن السيد الذي تنازل عن حقه في الاستمتاع بأمته- ملك يمينه- وزوجها من رجلٍ ما, ثم أراد بعد فترة أن يعود في ذلك, فله الحق في ذلك بعد أن تستبريء بحيضة أو حيضتين,وذلك باطل, لأن الطلاق من حق الزوج وحده لظاهر القرآن كما قال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ...الآية}[البقرة:237 ] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }[الأحزاب:49] وللحديث الحسن الذي رواه ابن ماجة(2081) وغيره عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا, قَالَ:فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا , إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ".
__________
(1) - تفسير أضواء البيان ( 1/233)(1/448)
ثانيًا: جواز الجمع - عندهم- بين المرأة وعمتها أو خالتها.مخالفين بذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أو خَالَتِهَا" (1) ورواه البخاري عن جابر (2) .
قال البيهقي :" فإنه-أي :هذا الحديث- يروى عن علىٍّ و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمرو بن العاص وأبى سعيد الخدرى وأنس بن مالك رضى الله تعالى عنهم أجمعين ومن النساء عن عائشة رضى الله عنها كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم".أهـ (3)
وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها لنفس العلة التي نهى الله عنها في الجمع بين الأختين.
__________
(1) -رواه أحمد(7456) والبخاري(4820) ومسلم (1408) وأبو داود(2065) والترمذي(1126) والنسائي(3292) وابن ماجة(1929) وغيرهم.
(2) - رواه أحمد (14674) والبخاري(4819) وابن حبان (4114) وغيرهم.
(3) - أنظر : سنن البيهقي (7/166)(1/449)
ثالثًا: أنهم استدلوا بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} على إباحة نكاح المتعة وقالوا:إنه حلال إلى يوم القيامة. وهذا خلاف الحق.بل وذكروا في فضلها روايات ظاهرة البطلان الهدف منه نشر الرزيلة والقضاء على الطهر والعفاف في المجتمع المسلم لذا فهي تعطي للمتمتع ثوابًا عظيماً لم يذكروا عُشر هذا الثواب لمن يتزوج زواجًا دائمًا. وتحذر من ترك التمتع مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته لم يتمتع منهم أحد :منها "المؤمن لا يكمل إيمانه حتى يتمتع" و" ما من رجل تمتع ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكًا يستغفرون له إلى يوم القيامة, ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة" وفي أخرى "غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره بعدد الشعر...إلخ (1)
قال الكاشاني في (الصافي):
في الفقيه والتهذيب: عن أمير المؤمنين عليه السلام إذا تزوج الرجل المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالأم فإذا لم يدخل بالأم فلا بأس أن يتزوج بالابنة وإذا تزوج الابنة فدخل بها أو لم يدخل بها فقد حرمت عليه الأم وقال: الربائب حرام كن في الحجر أولم يكنّ. وفي رواية أخرى قال الربائب عليكم حرام مع الأمهات التي قد دخل بهن في الحجور وغير الحجور والأمهات مبهمات دخل بالبنات أو لم يدخل بهن.
وفي أخرى قال: هذه مستثناه وهذه مرسلة وأمهات نسائكم, فما ورد عنهم بخلاف ذلك محمول على التقية لموافقة العامة ومخالفة القرآن.
__________
(1) - أنظر هذه النصوص وغيرها في كتاب مفتاح الكرامة (14/441-446), ووسائل الشيعة(14/436-496) ورسالة المتعة للمفيد و قد ذكر فيها 43 رواية ومنها روايات قليلة في آخرها تنهى عن المتعة لمن تدبرها لولا التحريف والتأويل الفاسد .(1/450)
وفي الكافي: عن أبي الحسن عليه السلام أنه سئل عن الرجل يتزوج المرأة متعة أيحل له أن يتزوج ابنتها قال:لا.
وعن الصادق عليه السلام في الرجل تكون له الجارية يصيب منها أيحل له أن ينكح ابنتها؟ قال: لا . هي مثل قول الله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم}.
وعنه عليه السلام أنه سئل عن رجل طلق امرأته فبانت منه ولها ابنة مملوكة فاشتراها أيحل له أن يطأها؟ قال: لا.
وعن الرجل تكون عنده المملوكة وابنتها فيطأ إحداهما فتموت وتبقى الأخرى أيصلح له أن يطأها؟ قال: لا..........
إلى أن قال: وفي التهذيب :عنه- أي الصادق- عن أبيه عليهما السلام في أختين مملوكتين تكونان عند الرجل جميعاً قال: قال علي عليه الصلاة والسلام: أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى وأنا أنهى عنها نفسي وولدي.
أقول: الآية المحللة قوله سبحانه {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} والآية المحرمة هي قوله عز وجل {وأن تجمعوا بين الأختين} ومورد الحل والحرمة ليس إلا الوطء خاصة دون الجمع في الملك كما ظنه صاحب التهذيب فظن أن آية الحل آية الملك وآية التحريم آية الوطء ومما يدل على ذلك صريحاً ما رواه فيه عن الباقر عليه السلام أنه سئل عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا نفسه وولده فقيل كيف يكون ذلك؟ قال أحلتها آية وحرمتها أخرى فقيل هل الآيتان يكون إحداهما نسخت الأخرى أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما فقال: قد يبين لهم إذ نهى نفسه وولده. قيل: ما منعه أن يبين ذلك للناس؟ قال: خشي أن لا يطاع, ولو أن أمير المؤمنين عليه السلام ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله.(1/451)
والعياشي :عن الصادق عليه السلام انه سئل عن الأختين المملوكتين ينكح إحداهما أَتحل له الأخرى فقال ليس له أن ينكح الأخرى إلا دون الفرج وإن لم يفعل فهو خير له نظير تلك المرأة تحيض فتحرم على زوجها أن يأتيها في فرجها لقول الله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} قال: { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} يعني في النكاح, فيستقيم الرجل أن يأتي امرأته وهي حائض فيما دون الفرج.أهـ (1)
قال القمي (2) :
قوله: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } يعني أمة الرجل إذا كان قد زوجها من عبده ثم أراد نكاحها فرق بينهما واستبرأ رحمها بحيضة أو حيضتين فإذا استبرأ رحمها حل له أن ينكحها* وقوله: { كتاب الله عليكم } يعني حجة الله عليكم فيما يقول { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } يعني يتزوج بمحصنة غير زانية مسافحة قوله { فما استمتعتم به منهن } قال الصادق عليه السلام: { فما استمتعتم به منهن - إلى أجل مسمى- فآتوهن أجورهن فريضة } قال الصادق عليه السلام: فهذه الآية دليل على المتعة.أهـ
قال الخوئي :
فقد اشتهر بين علماء أهل السنة أن حليّة المتعة قد نسخت ، وثبت تحريمها إلى يوم القيامة ، وقد أجمعت الشيعة الإمامية على بقاء حلية المتعة وأن الآية المباركة لم تنسخ ، ووافقهم على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، قال ابن حزم : ثبت على إباحتها - المتعة - بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ابن مسعود ، ومعاوية ، وأبو سعيد ، وابن عباس ، وسلمة ، ومعبد ابنا أمية بن خلف ، وجابر ، وعمرو بن حريث ، ورواه جابر عن جميع الصحابة : " مدة رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر " ثم قال : " ومن التابعين طاووس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء وسائر فقهاء مكة " .
__________
(1) - الصافي ( 1/435-438) وانظر تفسير العياشي(1/232)
(2) - تفسيرالقمي (1/135-136)(1/452)
ونسب شيخ الاسلام المرغيناني القول بجواز المتعة إلى مالك ، مستدلا عليه بقوله : " لأنه - نكاح المتعة - كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه " .
ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة في رواية , وقد تزوج ابن جريح أحد الأعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة , وسنتعرض إن شاء الله تعالى للبحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة ، ولكنا نتعرض هنا تعرضا إجماليا لإثبات أن مدلول الآية المباركة لم يرد عليه ناسخ .
وبيان ذلك : أن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف .
أولا : على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة (1) .
ثانيا : على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك .
أما الأمر الأول : " إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع " فلا ريب في ثبوته وقد تضافرت في ذلك الروايات عن الطريقين ، قال القرطبي : قال الجمهور المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، وقرأ ابن عباس ، وأبي ، وابن جبير " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن " ، ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن بأن المراد منها النكاح الدائم ، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه (2) , ونسب هذا القول إلى مجاهد ، وابن عباس أيضا ، والروايات المروية عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذب هذه النسبة ، وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته ، وعن إطالة الكلام فيه .
__________
(1) - لا نسلم بأن نكاح المتعة هو المراد من الآية فليست الآية صريحة في ذلك.نعم من المفسرين من ذكر هذا ومنهم من أنكره فليست الآية قطعية الدلالة على ذلك , فلا حجة فيها على حلية نكاح المتعة, إنما الاستدلال جاء من السنة على الإباحة ثم على نسخها بالتحريم
(2) - بل هو الظاهر من الآية للمتأمل كما سيتضح من كلام الشنقيطي والألوسي فيما سيأتي(1/453)
وأما الأمر الثاني : " تحريم نكاح المتعة بعد جوازه " فهو ممنوع (1) ، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد أمور ، وجميعها لا يصلح لان يكون ناسخًا ، وهي :
1 - إن ناسخها هو قوله تعالى :" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن 65 : 1 " .ونسب ذلك إلى ابن عباس ولكن النسبة غير صحيحة ، فإنك ستعرف أن ابن عباس بقي مصرًا على إباحة المتعة طيلة حياته .
والجواب عن ذلك ظاهر ، لان الالتزام بالنسخ إن كان لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقل من عدة المطلقة فلا دلالة في الآية ، ولا في غيرها ، على أن عدة النساء لا بد وأن تكون على نحو واحد ، وإن كان لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة ، فليس للآية تعرض لبيان موارد الطلاق ، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون . وقد نقل في تفسير المنار عن بعض المفسرين أن الشيعة يقولون بعدم العدة في نكاح المتعة
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم . وهذه كتب فقهاء الشيعة من قدمائهم ومتأخريهم ، ليس فيها من نسب إليه هذا القول ، وإن كان على سبيل الشذوذ ، فضلا عن كونه مجمعا عليه بينهم ، وللشيعة مع هؤلاء الذين يفترون عليهم الأقاويل ، وينسبون إليهم الأباطيل يوم تجتمع فيه الخصوم ، وهنالك يخسر المبطلون .
2 - إن ناسخها قوله تعالى : " ولكم نصف ما ترك أزواجكم 4 : 12 " . من حيث أن المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة . ونسب ذلك إلى سعيد بن المسيب ، وسالم بن عبد الله ، والقاسم بن أبي بكر .
الجواب : إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصًا لآية الإرث ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث . وقد ثبت أن الكافر لا يرث المسلم ، وأن القاتل لا يرث المقتول ، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم ، وأين هذا من النسخ ؟
__________
(1) - بل هو الثابت عن النبي برواية عدة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي(1/454)
3 - إن ناسخها هو السنة ، فقد رووا عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس : " إنك رجل تائه . إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر " (1) .
وروى الربيع بن سبرة عن أبيه قال : " رأيت رسول الله - ص - قائمًا بين الركن والباب وهو يقول : يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " (2) .
وروى سلمة عن أبيه قال : " رخص رسول الله صلى الله عليه وآله عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها (3) " .
والجواب :
أولا : إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، وقد تقدم مرارًا .
ثانيا : إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت - ع - المتواترة التي دلت على إباحة المتعة ، وأن النبي لم ينه عنها أبدا
ثالثا : إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لا يكفي في الحكم بنسخ الآية ، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة ، وقد استفاضت الروايات من طرق أهل السنة على حلية المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى زمان من خلافة عمر ، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بد من طرحه .أهـ (4)
__________
(1) - رواه مالك في الموطأ(1129) والبخاري(3979) ومسلم(1407) والطبراني في الأوسط(2244) وغيرهم.وهذا الحديث رواه عن عليٍّ آل بيته فهو من طريق عبد الله وحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما محمد عن علي رضي الله عنه.
(2) - رواه مسلم(1406) وغيره
(3) - رواه مسلم(1405) وغيره, وانظر طرق هذه الأحاديث وغيرها في سنن البيهقي(7/200-207) , باب نكاح المتعة وفي آخر رواية في هذا الباب(رقم: 13960) بسنده عن بسام الصيرفي قال : سألت جعفر بن محمد عن المتعة, فوصفتها, فقال لي: ذلك الزنا".
(4) - تفسيرالبيان للخوئي :(1/314-318)(1/455)
ولا يخفي ما في كلام الخوئي من مغالطات فهو يرى أن الآية نص في إباحة نكاح المتعة ,وهذا النص لم ينسخ, ورد كلام من قال بأن الآية في النكاح الدائم وليست في نكاح المتعة, كالحسن وغيره, مع أن الآية ليست صريحة في نكاح المتعة, بل فسرها بذلك البعض ,كما فسرها الآخرون بالنكاح الدائم,فالآية تحتمل المعنيين, كما سيأتي, فكيف يجعلها نصًا صريحًا في نكاح المتعة ثم يدعي عدم نسخها بدعوى أن السنة لا تنسخ القرآن.
وقد رأينا أن الآية في الزواج الشرعي الدائم لا في نكاح المتعة لقول الله تعالى في الآية التي تليها مباشرة: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } -إلى قوله- { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النساء:25].
فأرشد الذين لا يستطيعون الزواج من الحرة العفيفة لقلة ذات اليد أن يتزوجوا مما ملكت أيمانهم إذا كانوا يخشون العنت، ثم بين لهم أن يصبروا حتى يغنيهم الله من فضله فيتزوجوا الحرة العفيفة فهو خير لهم من زواج الأَمَة, ولو كانت المتعة حلالاً كما يزعمون لجعلها حلاً لهم, ولم يرشدهم إلى زواج الإماء الذي فيه رقٍّ للذريَّة, أوالصبر على مشقة العزوبة وعنتها.
وقال الله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور:23]، فمن لم يتمكن من الزواج الشرعي بسبب قلة ذات اليد فعليه بالاستعفاف ريثما يرزقه الله من فضله كي يستطيع الزواج.
فلو كانت المتعة حلالاً لما أمره بالاستعفاف والانتظار ريثما تتيسر أمور الزواج بل لأرشده إلى المتعة كي يقضي وطره بدلاً من المكوث والتحرق بنار الشهوة.(1/456)
ثم ادعى الخوئي أن كل الروايات الواردة بتحريم نكاح المتعة لابد من طرحها لأنها تخالف الواقع الذي كان عليه المسلمون في عهد الرسول وأبي بكر ولم ينه عنها أو يحرمها إلا عمر بن الخطاب, وهذا يؤكد-عنده- كذب هذه الروايات, وخاصة أنها تخالف روايات أهل البيت التي تبيح نكاح المتعة, مع أن روايات أهل البيت عندهم متناقضة في هذا الشأن, فيها النهي والإباحة. ولنذكر بعض الروايات عندهم في النهي عن المتعة وتحريمها:
- عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن المتعة فقال: (لا تدنس نفسك بها) (1) .
وهذا صريح في قول أبي عبد الله جعفر الصادق: إن المتعة تدنس النفس ولو كانت حلالاً لما صارت في هذا الحكم، ولم يكتف الصادق بذلك بل صرح بتحريمها:
- عن عمار قال: قال أبو عبد الله - عليه السلام - لي ولسليمان بن خالد: (قد حرمت عليكما المتعة) (2)
- ولما سأل علي بن يقطين أبا الحسن - عليه السلام - عن المتعة أجابه: (ما أنت وذاك؟ قد أغنى الله عنها) (3) .
- وعن الفضل أنه سمع أبا عبد الله - عليه السلام - يقول في المتعة : دعوها, أما يستحي أحدكم أن يُرى في موضع العورة فيدخل بذلك على صالح إخوانه وأصحابه" (4) .
- وعندهم عن الصادق قال: (لا تتمتع بالمؤمنة فتُذلها) (5) وقال عن المتعة: (ما يفعلها عندنا إلا الفواجر) (6) فانظر كيف جعلها عارًا ومذلة للمؤمنة؟ و أنه لا يفعل ذلك إلاَّ الفاجرات؟ فكيف يكون ذلك حلالاً؟
__________
(1) - بحار الأنوار (100/318)
(2) - فروع الكافي (2/48)، وسائل الشيعة للحر العاملي( 14/450).
(3) - الفروع( 2/43)، الوسائل (14/449) وفي رسالة المتعة للمفيد( رواية رقم40 )
(4) - وسائل الشيعة(14/449), رسالة المتعة للمفيد( رقم41 )
(5) - وسائل الشيعة(14/453)
(6) - وسائل الشيعة(14/456), و أنظر كتاب مفتاح الكرامة (14/452-456).(1/457)
فهذه بعض النصوص عندهم تؤكد وتؤيد ما عليه أهل السنة وهو الموافق لما رواه الشيعة أيضًا عن علي رضي الله عنه :
(حرم رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة) (1)
ولهذا لم ينقل أن أحداً تمتع بامرأة من أهل البيت رضي الله عنهن، فلو كان حلالاً لفعلن .
ولنا أن نتساءل لماذا أخذوا بروايات الإباحة ولم يأخذوا بروايات النهي ؟ مع أن النظر السليم يستدعي تقديم النهي على الإباحة عند التعارض- إذا لم يُعرف النص المتأخر من المتقدم- أخذًا بالاحتياط , والمسلم مأمورٌ بالاحتياط لدينه , ومأمور باجتناب الأمور المشتبهة إذ من وقع في الشبهات وقع في الحرام (2) , أضف إلى ذلك أنه لا يخفي ضعف غالب هذه الروايات التي يحتجون بها , بل أكثر الرواة عن أهل البيت كانوا يكذبون عليهم بشهادة أئمة أهل البيت أنفسهم رضوان الله عليهم, فهل بمثل هذه الحجج الواهية ترد الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ويوم فتح مكة , وإني لأعجب كيف يردون حديث علي بن أبي طالب في ذلك , وهو أعلم أئمة أهل البيت الذين يزعمون اتباعهم وموالاتهم, والحديث في كتبهم وهو في الصحيحين وغيرهما عند أهل السنة.
__________
(1) - انظر : التهذيب: ( 7/251)، الاستبصار: ( 3/142)، وسائل الشيعة: ( 14/441).
(2) -قال رسول الله:" إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ." متفق عليه .البخاري(50) ومسلم(2996)(1/458)
وقد وجدت الخوئي في تفسيره هذا يحكم على هذا الحديث الذي في أعلى درجات الصحة بالوضع , ويعارضه بأثر آخر لا يصح عنه ولا يثبت, مثل: روى شعبة عن الحكم بن عيينة قال : " سألته عن هذه الآية - آية المتعة - أمنسوخة هي ؟ قال لا . قال الحكم : قال علي: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي" وفي لفظ : ( ما زنى إلا شفا)( ومعنى شفا:قليل) .
وأما قول الخوئي- وشيعته- بترك الروايات التي تحرم نكاح المتعة وادعاء ضعفها - مع أنها صحيحة - بحجة مخالفتها للواقع في العصر الأول و أن أكثر المهاجرين والأنصار لم يعلموا بها, وظلوا على إباحتها حتى زمن عمر بن الخطاب, وأن عمر بن الخطاب هو الذي حرمها, فنقول وبالله التوفيق: إن المقرر في الأصول أن من عَلِم حجة على من لم يعلم, فمن وصله التحريم فقد وصله علمًا لم يصل للآخرين,فهو معه بذلك زيادة علم فيكون حجة على غيره, ومع ذلك فأنت ترى أن من الصحابة من وصل لهم تحريم نكاح المتعة كعلي بن أبي طالب, وسلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم, وهم قد قاموا بنشره وإذاعته وتبليغه لمن لم يصله, فاستقر الأمر بعد ذلك على التحريم..(1/459)
واعلم أنه قد تخفى بعض الأحكام على بعض الصحابة وغيرهم لعدم وصول الحكم إليهم فلا يعقل أن يطلع كل الصحابة على كل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله إذ منهم من كان في عمله أو في سفر أو مرض ونحوه, فلا يطلع على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أثناء غيابه, إلا إذا أخبره به أحد الذين سمعوه ,وهذا ابن عمر قد خفي عليه ثواب اتباع الجنازة حتى أُخبر بحديث أبي هريرة والحديث في الصحيحين:البخاري(1260) ومسلم(945):قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ,فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا, فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ ,فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ " , وهذا عمر وجمع من الصحابة خفي عليهم حكم الرجل الذي يجامع زوجته ثم يكسل (ولم ينزل) هل عليه الغسل أم لا؟ حتى أرسلوا إلى أم المؤمنين عائشة فأخبرت بأن عليه الغسل وأخبرتهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, والأمثلة على ذلك كثيرة.لذلك فمن المحتمل جداً أن خبر تحريم نكاح المتعة ظل خافياً على بعض الصحابة والتابعين الذين لم يصلهم الخبر حتى ذاع الخبر وانتشر في خلافة عمر فأخذ به إذ لا يجوز له أن يخالف ما وصله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد ذلك ويؤكد أن التحريم لم يكن اجتهادًا من عمر - كما يظن البعض, بل هو نص من الرسول صلى الله عليه وسلم-أن عمر نهى الناس عن متعتين :متعة النساء ومتعة الحج, فاستجاب له الصحابة ومَن بعدهم في النهي عن متعة النساء- لوجود الدليل الشرعي - واستقر الأمر على ذلك, بينما أنكروا عليه النهي عن متعة الحج ولم يستقر الأمر على النهي عنها كما هو الحال في متعة النساء .(1/460)
فهذا عمران بن حصين رضي الله عنه قد أنكر عليه ذلك, كما في الصحيحين[البخاري(4246) ومسلم (1226) ] وغيرهما عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ, وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ, قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ" يعني: متعة الحج لا متعة النساء كما في رواية لمسلم" قَالَ تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ " ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلبس بنكاح المتعة قط. ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في باب" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج"
بل إن عبد الله بن عمر نفسه أنكر ذلك أيضًا وأفتى بالرخصة بالتمتع في الحج ، ففي مسند أحمد(5700) : عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الرُّخْصَةِ بِالتَّمَتُّعِ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ نَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ تُخَالِفُ أَبَاكَ وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ :وَيْلَكُمْ أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ إِنْ كَانَ عُمَرُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَيَبْتَغِي فِيهِ الْخَيْرَ, يَلْتَمِسُ بِهِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ. فَلِمَ تُحَرِّمُونَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَفَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ أَمْ سُنَّةَ عُمَرَ؟ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لَكُمْ إِنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَرَامٌ,وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ.(1/461)
قال البيهقي في السنن الكبرى: ونحن لا نشك في كونها-أي:متعة النساء-على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ,لكنا وجدناه نهى عن نكاح المتعة عام الفتح بعد الإذن فيه, ثم لم نجده أذن فيه بعد النهى عنه حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم, فكان نهى عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن نكاح المتعة موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا به ولم نجده صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة الحج في رواية صحيحة عنه, ووجدنا في قول عمر رضي الله عنه ما دل على انه أحب أن يفصل بين الحج والعمرة ليكون أتم لهما, فحملنا نهيه عن متعة الحج على التنزيه وعلى اختيار الإفراد على غيره لا على التحريم وبالله التوفيق - قال:(وقد حدثنا) أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أنبأ أبو محمد عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي بمكة ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ثنا أبو خالد الأموي ثنا منصور بن دينار ثنا عمر بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : صعد عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ألا وإني لا أؤتى بأحد نكحها إلا رجمته" - فهذا إن صح يبين أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عن نكاح المتعة لأنه علم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه" أهـ (1)
ولنذكر شيئًا من تفسير قوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } من بعض تفاسير أهل السنة:
قال الشنقيطي:
قوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } الآية.
__________
(1) - سنن البيهقي(7/206)(1/462)
يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }[النساء: 21] الآية. فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملاً، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله:{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ }الآية. وقوله:{ وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }[النساء: 4] وقوله:{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً }[البقرة: 229] الآية. فالآية في عقد النكاح، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة. لأن الصداق لا يسمى أجراً، فالجواب أن القرآن جاء فيه تسمية الصداق أجراً في موضع لا نزاع فيه. لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله: { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } [النساء: 21] الآية. صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجراً، وذلك الموضع هو قوله تعالى: { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء: 25] أي: مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة: 5] الآية. أي مهورهن (1) , فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل: كان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرأون، فما (استمتعتم به منهن إلى أجل مسمَّى)، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة، فالجواب من ثلاثة أوجه:
__________
(1) - وأيضًا سمى المهر أجرًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50](1/463)
الأول: أن قولهم" إلى أجل مسمى" لم يثبت قرآناً لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن، ولم يثبت كونه قرآناً لا يستدل به على شيء.لأنه باطل من أصله. لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرآن فبطل كونه قرآناً ظهر بطلانه من أصله.
الثاني: أنا لو مشينا على أنه يحتج به، كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك، فهو معارض بأقوى منه. لأن جمهور العلماء على خلافه. ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معيد الجهني - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. فقال: " يأيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ".
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع، ولا تعارض في ذلك لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضاً والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح والآخرة يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضاً.(1/464)
وقال بعض العلماء: نسخت مرة واحدة يوم الفتح، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضاً لتحريم المتعة. واختار هذا القول العلامة ابن القيم - رحمه الله - ولكن بعض الروايات الصحيحة، صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضاً، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد، وصحت الرواية به. والله تعالى أعلم.
الرابع: أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى
{ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤمنون: 6] في الموضعين، ثم صرح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله: { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ } [المؤمنون: 7] الآية.
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرآن، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث، والعدة والطلاق، والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة، كما هو ظاهر، فهذه الآية التي هي { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون: 5-7] صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ. وسياق الآية التي نحن بصددها يدل دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينا لا في نكاح المتعة، لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها، بقوله تعالى:
{(1/465)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ }[النساء: 23] إلخ.. ثم بين أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [النساء: 24]ٍ ثم بين أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها، مرتباً لذلك بالفاء على النكاح بقوله: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } [النساء: 24] الآية. كما بيناه واضحاً والعلم عند الله تعالى.أهـ (1)
قال الألوسي:
وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها-أي:المتعة- ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه: إنك رجل تائه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة كذا قيل، وفي «صحيح مسلم» ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال: إن ناساً أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة, يعرض برجلٍ ـ يعني ابن عباس ـ[ كما قال النووي ]، فناداه فقال: إنك لجلف جاف, فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك, فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك " (2) فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه، وبهذا قال العلامة ابن حجر في «شرح المنهاج»، فالأولى أن يُحكم بأنه رجع بعد ذلك بناءاً على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية
{
__________
(1) - أضواء البيان ( 1/236 )
(2) - صحيح مسلم (1406)(1/466)
إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }[المؤمنون: 6] فكل فرج سواهما فهو حرام، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه.
وحكي عنه أيضاً أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء, قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: سبحان الله! ما بهذا أفتيت, وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر، ومن هنا قال الحازمي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرَّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ، ونهي عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها؛ ومعنى "أنا محرمها" في كلامه- إن صح-: مُظهِر تحريمها, لا منشئه, كما يزعمه الشيعة، وهذه الآية لا تدل على الحل.
والقول بأنها نزلت في المتعة غلط، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبولٍ لأن نظم القرآن الكريم يأباه, حيث بيّن سبحانه أولاً المحرمات ثم قال عز شأنه: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ } وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وقد قال بهما الشيعة.(1/467)
ثم قال جل وعلا: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب، وفي كل سنة بحجر ملاعب، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلاً ولهذا قالت الشيعة: إن المتمتع الغير الناكح إذا زنى لا رجم عليه، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل: { فَإِذَا اسْتَمْتَعْتُمْ } وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول, لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة.
وما دل على التحريم كآية:{ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤمنون: 6] قطعي فلا تعارضه، على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما.
وليس للشيعة أن يقولوا: إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه، أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية ـ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ـ فيها، وقد صرح بذلك علماؤهم. وروى أبو بصير منهم في «صحيحه»( عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟ قال: لا , ولا من السبعين) (1) ، وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع.
وبالجملة: الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى.
ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها.أهـ (2)
__________
(1) - أنظر رسالة المتعة للمفيد( رواية رقم 25) , وسائل الشيعة(14/447).
(2) - أنظر: تفسيرالألوسي (5/ 6-7)(1/468)
* وحتى تعلم ما وصل إليه الشيعة الاثنى عشرية الآن بشأن نكاح المتعة والتوسع فيه حتي وصل الأمر إلى القول بإعارة الفرج وإباحة الزنى باسم نكاح المتعة نذكر ما كتبه أحد علمائهم- الذين ينشدون الحق- بهذا الشأن:
قال حسين الموسوي في كتابه لله ثم للتاريخ:
كان الإمام الخميني يرى جواز التمتع حتى بالرضيعة! فقال: (لا بأس بالتمتع بالرضيعة ضماً وتفخيذاً وتقبيلاً) انظر كتابه (تحرير الوسيلة 2/241 مسألة رقم 12).
جلست مرة عند الإمام الخوئي في مكتبه، فدخل علينا شابان يبدو أنهما اختلفا في مسألة فاتفقا على سؤال الإمام الخوئي ليدلهما على الجواب.
فسأله أحدهما قائلاً: سيد ما تقول في المتعة أحلال هي أم حرام؟
نظر إليه الإمام الخوئي وقد أوجس من سؤاله أمراً ثم قال له: أين تسكن؟ قال الشاب السائل: أسكن الموصل وأقيم هنا في النجف منذ شهرين تقريباً.
قال له الإمام: أنت سني إذن؟
قال الشاب: نعم.
قال الإمام: المتعة عندنا حلال وعندكم حرام.
فقال له الشاب: أنا هنا منذ شهرين تقريباً غريب في هذه الديار فهلا زوجتني ابنتك لأتمتع بها ريثما أعود إلى أهلي؟
فحملق فيه الإمام هنيهة ثم قال له: أنا سيد وهذا حرام على السادة وحلال عند عوام الشيعة.
ونظر الشاب إلى السيد الخوئي وهو مبتسم ونظرته توحي أنه علم أن الخوئي قد عمل بالتقية.
ثم قاما فانصرفا، فاستأذنت الإمام الخوئي في الخروج فلحقت بالشابين فعلمت أن السائل سني وصاحبه شيعي اختلفا في المتعة أحلال أم حرام فاتفقا على سؤال المرجع الديني الإمام الخوئي، فلما حادثت الشابين انفجر الشاب الشيعي قائلاً: يا مجرمين تبيحون لأنفسكم التمتع ببناتنا وتخبروننا بأنه حلال وأنكم تتقربون بذلك إلى الله، وتحرمون علينا التمتع ببناتكم؟ وراح يسب ويشتم، وأقسم أنه سيتحول إلى مذهب أهل السنة، فأخذت أهدئ به ثم أقسمت له أن المتعة حرام وبينت له الأدلة على ذلك.(1/469)
إن المتعة كانت مباحة في العصر الجاهلي، ولما جاء الإسلام أبقى عليها مدة ثم حرمت يوم خيبر، لكن المتعارف عليه عند الشيعة عند جماهير فقهائنا أن عمر بن الخطاب هو الذي حرمها، وهذا ما يرويه بعض فقهائنا.
والصواب في المسألة أنها حرمت يوم خيبر.
قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:(حرم رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة) انظر (التهذيب 2/186)، (الاستبصار 2/142)، (وسائل الشيعة 14/441).
وسئل أبو عبد الله - عليه السلام - :(كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) (انظر التهذيب 2/189).
وعلق الطوسي على ذلك بقوله: إنه لم يرد من ذلك النكاح الدائم بل أراد منه المتعة ولهذا أورد هذا النص من باب المتعة.
لا شك أن هذين النصين حجة قاطعة في نسخ حكم المتعة وإبطاله.
وأمير المؤمنين صلوات الله عليه نقل تحريمها عن النبي صلى الله عليه وآله وهذا يعني أن أمير المؤمنين قد قال بحرمتها من يوم خيبر، ولا شك أن الأئمة من بعده قد عرفوا حكم المتعة بعد علمهم بتحريمها، وهنا نقف بين أخبار منقولة وصريحة في تحريم المتعة وبين أخبار منسوبة إلى الأئمة في الحث عليها وعلى العمل بها.
وهذه مشكلة يحتار المسلم إزاءها أيتمتع أم لا؟
إن الصواب هو ترك المتعة لأنها حرام كما ثبت نقله عن أمير المؤمنين - عليه السلام - ، وأما الأخبار التي نسبت إلى الأئمة؛ فلا شك أن نسبتها إليهم غير صحيحة بل هي أخبار مفتراة عليهم، إذ ما كان للأئمة عليهم السلام أن يخالفوا أمراً حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسار عليه أمير المؤمنين من بعده، وهم -أي الأئمة- الذين تلقوا هذا العلم كابراً عن كابر لأنهم ذرية بعضها من بعض.(1/470)
لما سئل أبو عبد الله - عليه السلام - : (كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) فلولا علمه بتحريم المتعة لما قال: لا، خصوصاً وإن الخبر صحيح في أن السؤال كان عن المتعة وأن أبا جعفر الطوسي راوي الخبر أورده في باب المتعة كما أسلفنا.
وما كان لأبي عبد الله والأئمة من قبله ومن بعده أن يخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه أو أن يحلوا أمراً حرمه أو أن يتبدعوا شيئاً ما كان معروفاً في عهده - عليه السلام - .
وبذلك يتبين أن الأخبار التي تحث على التمتع ما قال الأئمة منها حرفاً واحداً، بل افتراها وتقولها عليهم أناس زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت الكرام والإساءة إليهم، وإلا بم تفسر إباحتهم التمتع بالهاشمية وتكفيرهم لمن لا يتمتع؟
مع أن الأئمة عليهم السلام لم ينقل عن واحد منهم نقلاً ثابتاً أنه تمتع مرة أو قال بحلية المتعة، أيكونون قد دانوا بغير دين الإسلام؟
فإذا توضح لنا هذا ندرك أن الذين وضعوا تلك الأخبار هم قوم زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت والأئمة عليهم السلام، لأن العمل بتلك الأخبار فيه تكفير للأئمة .. فتنبه.
روى الكليني عن أبي عبد الله - عليه السلام - أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: (إني زنيت، فأمر أن ترجم، فأخبر أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: كيف زنيت؟
فقالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد فاستسقيت أعرابياً فأبى إلا إن مكنته من نفسي، فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : تزويج ورب الكعبة) (الفروع 2/198).
إن المتعة كما هو معروف تكون عن تراض بين الطرفين وعن رغبة منهما.(1/471)
أما في هذه الرواية فإن المرأة المذكورة مضطرة ومجبورة فساومها على نفسها مقابل شربة ماء، وليست هي في حكم الزانية حتى تطلب من عمر أن يطهرها وفوق ذلك -وهذا مهم- إن أمير المؤمنين - عليه السلام - هو الذي روى تحريم المتعة في نقله عن النبي صلى الله عليه وآله يوم خيبر فكيف يفتي هنا بأن هذا نكاح متعة؟! وفتواه على سبيل الحل والإقرار والرضا منه بفعل الرجل والمرأة!!؟
إن هذه الفتوى لو قالها أحد طلاب العلم لعدت سقطة بل غلطة يعاب عليه بسببها، فكيف تنسب إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو من هو في العلم والفتيا؟
إن الذي نسب هذه الفتوى لأمير المؤمنين إما حاقد أراد الطعن به، وإما ذو غرض وهو اخترع هذه القصة فنسبها لأمير المؤمنين ليضفي الشرعية على المتعة كي يسوغ لنفسه ولأمثاله استباحة الفروج باسم الدين حتى وإن أدى ذلك إلى الكذب على الأئمة عليهم السلام بل على النبي صلى الله عليه وآله.
وإن المفاسد المترتبة على المتعة كبيرة ومتعددة الجوانب:
1- فهي مخالفة للنصوص الشرعية لأنها تحليل لما حرم الله.
2- لقد ترتب على هذا اختلاق الروايات الكاذبة ونسبتها إلى الأئمة عليهم السلام مع ما في تلك الروايات من مطاعن قاسية لا يرضاها لهم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.(1/472)
3- ومن مفاسدها إباحة التمتع بالمرأة المحصنة -أي المتزوجة- رغم أنها في عصمة رجل دون علم زوجها، وفي هذه الحالة لا يأمن الأزواج على زوجاتهم فقد تتزوج المرأة متعة دون علم زوجها الشرعي ودون رضاه، وهذه مفسدة ما بعدها مفسدة، انظر (فروع الكافي 5/463)، (تهذيب الأحكام 7/554)، (الاستبصار 3/145)، وليت شعري ما رأي الرجل وما شعوره إذا اكتشف أن امرأته التي في عصمته متزوجة من رجل آخر غيره زواج متعة؟! (1)
4- والآباء أيضاً لا يأمنون على بناتهم الباكرات إذ قد يتزوجن متعة دون علم آبائهن، وقد يفاجأ الأب أن ابنته الباكر قد حملت، .. لم؟ كيف؟ لا يدري .. ممن؟ لا يدري أيضاً فقد تزوجت من واحد فمن هو؟ لا أحد يدري لأنه تركها وذهب.
5- إن أغلب الذين يتمتعون، يبيحون لأنفسهم التمتع ببنات الناس، ولكن لو تقدم أحد لخطبة بناتهم أو قريباتهم فأراد أن يتزوجها متعة، لما وافق ولما رضي، لأنه يرى هذا الزواج أشبه بالزنا وإن هذا عار عليه، وهو يشعر بهذا من خلال تمتعه ببنات الناس فلا شك أنه يمتنع عن تزويج بناته للآخرين متعة، أي أنه يبيح لنفسه التمتع ببنات الناس وفي المقابل يحرم على الناس أن يتمتعوا ببناته.
إذا كانت المتعة مشروعة أو أمراً مباحاً، فلم هذا التحرج في إباحة تمتع الغرباء ببناته وقريباته؟
6- إن المتعة ليس فيها إشهاد ولا إعلان ولا رضى ولي أمر المخطوبة، ولا يقع شيء من ميراث المتمتع للمتمتع بها، إنما هي مستأجرة كما نسب ذلك القول إلى أبي عبد الله - عليه السلام - فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها بين الناس؟
__________
(1) - في رسالة المتعة للمفيد: (رقم:37 ): وعن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - في المرأة الحسناء تُرى في الطريق ولا يعرف أن تكون ذات بعل أو عاهرة , فقال : ليس هذا عليك ، إنما عليك أن تصدقها في نفسها". قلت : أينسب هذا الباطل لأهل البيت!! سبحانك هذا بهتان عظيم.(1/473)
7- إن المتعة فتحت المجال أمام الساقطين والساقطات من الشباب والشابات في لصق ما عندهم من فجور بالدين، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الدين والمتدينين.
وبذلك يتبين لنا أضرار المتعة دينياً واجتماعياً وخلقياً، ولهذا حرمت المتعة ولو كان فيها مصالح لما حرمت، ولكن لما كانت كثيرة المفاسد حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله، وحرمها أمير المؤمنين - عليه السلام - .
تنبيه:
سألت الإمام الخوئي عن قول أمير المؤمنين في تحريم المتعة يوم خيبر، وعن قول أبي عبد الله في إجابة السائل عن الزواج بغير بينة أكان معروفاً على عهد النبي - عليه السلام - ؟ فقال: إن قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في تحريم المتعة يوم خيبر إنما يشمل تحريمها في ذلك اليوم فقط لا يتعدى التحريم إلى ما بعده.
وأما قول أبي عبد الله للسائل، فقال الإمام الخوئي: إنما قال أبو عبد الله ذلك تقية وهذا متفق عليه بين فقهائنا.
قلت: والحق إن قول فقهائنا لم يكن صائباً، ذلك أن تحريم المتعة يوم خيبر صاحبه تحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم لحوم الحمر الأهلية جرى العمل عليه من يوم خيبر وإلى يومنا هذا وسيبقى إلى قيام الساعة.
فدعوى تخصيص تحريم المتعة بيوم خيبر فقط دعوى مجردة لم يقم عليها دليل، خصوصاً وأن حرمة لحوم الحمر الأهلية والتي هي قرينة المتعة في التحريم بقي العمل عليها إلى يومنا هذا.
وفوق ذلك لو كان تحريم المتعة خاصاً بيوم خيبر فقط، لورد التصريح من النبي صلى الله عليه وآله بنسخ تلك الحرمة، على أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا أن علة إباحة المتعة هي السفر والحرب، فكيف تحرم في تلك الحرب والمقاتل أحوج ما يكون إليها خصوصاً وأنه في غربة من أهله وما ملكت يمينه، ثم تباح في السلم؟
إن معنى قوله - عليه السلام - إنها حرمت يوم خيبر أي أن بداية تحريمها كان يوم خيبر وأما أقوال فقهائنا إنما هو تلاعب في النصوص لا أكثر.(1/474)
فالحق إن تحريم المتعة ولحوم الحمر الأهلية متلازمان، نزل الحكم بحرمتها يوم خيبر وهو باقٍ إلى قيام الساعة، وليس هناك من داعٍ لتأويل كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - من أجل إشباع رغبات النفس وشهواتها في البحث الدائم عن الجميلات والفاتنات من النساء للتمتع بهن والتلذذ باسم الدين وعلى حسابه.
وأما أن قول أبي عبد الله - عليه السلام - في جوابه للسائل كان تقية، أقول: إن السائل كان من شيعة أبي عبد الله فليس هناك ما يبرر القول بالتقية خصوصاً وانه يوافق الخبر المنقول عن الأمير - عليه السلام - في تحريم المتعة يوم خيبر.
إن المتعة التي أباحها فقهاؤنا تعطي الحق للرجل في أن يتمتع بعدد لا حصر له من النسوة، ولو بألف امرأة وفي وقت واحد.
وكم من متمتع جمع بين المرأة وأمها، وبين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها وهو لا يدري....
إلى أن قال :إن انتشار العمل بالمتعة جر إلى إعارة الفرج، وإعارة الفرج معناها أن يعطي الرجل امرأته أو أمته إلى رجل آخر فيحل له أن يتمتع بها أو أن يصنع بها ما يريد، فإذا ما أراد رجل ما أن يسافر أودع امرأته عند جاره أو صديقه أو أي شخص كان يختاره، فيبيح له أن يصنع بها ما يشاء طيلة مدة سفره. والسبب معلوم حتى يطمئن الزوج على امرأته لئلا تزني في غيابه (!!) وهناك طريقة ثانية لإعارة الفرج إذا نزل أحد ضيفاً عند قوم، وأرادوا إكرامه فإن صاحب الدار يعير امرأته للضيف طيلة مدة إقامته عندهم، فيحل له منها كل شيء، وللأسف يروون في ذلك روايات ينسبونها إلى الإمام الصادق - عليه السلام - وإلى أبيه أبي جعفر سلام الله عليه. روى الطوسي عن محمّد عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: (الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم لا بأس به له ما أحل له منها) (الاستبصار 3/136).(1/475)
وروى الكليني والطوسي عن محمّد بن مضارب قال: قال لي أبو عبد الله - عليه السلام - : (يا محمّد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها، فإذا خرجت فارددها إلينا) (الكافي؟)، (الفروع 2/200)، (الاستبصار 3/136).
قلت: لو اجتمعت البشرية بأسرها فأقسمت أن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام قالا هذا الكلام ما أنا بمصدق؟
إن الإمامين سلام الله عليهما أجل وأعظم من أن يقولا مثل هذا الكلام الباطل، فلا يبيحا هذا العمل المقزز الذي يتنافى مع الخلق الإسلامي الرفيع، بل هذه هي الدياثة، لا شك أن الأئمة سلام الله عليهم ورثوا هذا العلم كابراً عن كابر فنسبة هذا القول وهذا العمل إليهما إنما هو نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فهو إذن تشريع إلهي.
في زيارتنا للهند ولقائنا بأئمة الشيعة هناك كالسيد النقوي وغيره مررنا بجماعة من الهندوس وعبدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية، وقرأنا كثيراً فما وجدنا ديناً من تلك الأديان الباطلة يبيح هذا العمل ويحله لأتباعه.(1/476)
فكيف يمكن لدين الإسلام أن يبيح مثل هذا العمل الخسيس الذي يتنافى مع أبسط مقومات الأخلاق؟ .أهـ (1)
ونقول:إن من المعلوم أن دين الإسلام جاء ليحث على الفضائل وينهى عن الرذائل، وجاء ليحقق للعباد المصالح التي تستقيم بها حياتهم، ولا شك أن المتعة مما لا تستقيم بها الحياة إن حققت للفرد مصلحة واحدة -افتراضاً- فإنها تسبب مفاسد جمَّة .
والناظر للآيات القرآنية الكريمة والنصوص المتقدمة في تحريم المتعة -إن كان طالباً للحق محباً له- لا يملك إلا أن يحكم ببطلان تلك الروايات عن أهل البيت رضي الله عنهم التي تحث على المتعة وإعارة الفرج. لمعارضتها لصريح القرآن وصريح السنة المنقولة ولما يترتب عليها من مفاسد لا حصر لها بينا شيئاً منها فيما مضى.
3- المائدة:6
{
__________
(1) - أنظر: لله ثم للتاريخ (ص:38 -48 ) ثم أضاف قائلاَ:"زرنا الحوزة القائمية في إيران فوجدنا السادة هناك يبيحون إعارة الفروج، وممن أفتى بإباحة ذلك السيد لطف الله الصافي وغيره ولذا فإن موضوع إعارة الفرج منتشر في عموم إيران، واستمر العمل به حتى بعد الإطاحة بالشاه محمّد رضا بهلوي ومجيء آية الله العظمى الإمام الخميني الموسوي، وبعد رحيل الإمام الخميني أيضاً استمر العمل عليه، وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى فشل أول دولة شيعية في العصر الحديث، كان الشيعة في عموم بلاد العالم يتطلعون إليها، مما حدا بمعظم السادة إلى التبرء منها، بل ومهاجمتها أيضاً، فهذا صديقنا العلامة السيد موسى الموسوي سماها (الثورة البائسة) وألف كتباً وبحوثاً ونشر مقالات في مهاجمتها وبيان أخطائها".(1/477)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى? أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
والمعنى:
يا أيها المؤمنون، إذا أردتم القيام إلى الصلاة ولم تكونوا متوضئين، فتوضأوا بغسل وجوهكم وأيديكم مع المرافق، وامسحوا رءوسكم - كلها أو بعضها - واغسلوا أرجلكم مع الكعبين. وإن كنتم جنباً عند القيام إلى الصلاة بسب ملامسة أزواجكم، فاغسلوا جميع أبدانكم بالماء، وأن كنتم مرضى مرضاً يمنع من استعمال الماء، أو كنتم مسافرين يتعسر عليكم وجود الماء، أو عند رجوعكم من مكان قضاء الحاجة، أو لامستم النساء ولم تجدوا ماءً، فعليكم بالتيمم بالتراب الطهور، بمسح وجوهكم وأيديكم به. وكيفية التيمُّم أن يضربَ بكفّيه على التراب ويمسح بهما وجهه وكفّيه إلى الرسغين. ما يريد الله فيما أمركم به أن يضيق عليكم، ولكنه شرع ذلك لتطهيركم ظاهراً وباطناً وليتم نِعَمهُ عليكم بالهداية والبيان والتيسير، لتشكروا الله على هدايته وتمام نعمته بالمداومة على طاعته.(1/478)
سبب النزول: روى البخاري(4332) عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل أبو بكر، فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، فتمنيت الموت, لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ، وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية، فقال أسيد بن الحضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر, ما أنتم إلا بركة لهم.
* والمذكور في هذه الآية بشأن الوضوء هو: بيان فروض الوضوء، أما سُننه ومستحباته فهي مفصّلة في كتب الفقه.
أماعند الشيعة الإمامية يجب مسح ظاهر القدمين الى الكعبين فقط.وليس غسل القدمين.ولا يجوز عندهم المسح على الخفين.
قال الفيض الكاشاني:
{ (6) يآ أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلىَ الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } وقرء بنصب الأرجل وهو مردود عندنا كما يأتي.
وأريد بالقيام القيام من النّوم, ففي التّهذيب والعيَاشي: عن الصّادق عليه السّلام أنَه سئل ما معنى إذا قمتم؟ قال: إذا قمتم من النّوم.(1/479)
والعيَاشي: عن الباقر عليه السّلام سئل ما عنى بها؟ قال عن النّوم, فاسترحنا من تكلّفات المفسّرين وإضماراتهم, وأمّا وجوب الوضوءِ بغير حدث النّوم فمستفاد من الأخبار كما أن وجوب الغسل بغير الجنابة مستفاد من محلّ آخر وكما أنّ سائر مجملات القرآن إنما يتبّين بتفسير أهل البيت وهم أدرى بما نزل في البيت من غيرهم والوجه ما يواجه به, فلا يجب تخليل الشّعر الكثيف أعني الّذي لا يرى البَشرَة خلاله في التّخاطب إذ المواجهة حينئذٍ إنّما تكون بالشّعر لا بما تحته كما ورد عن الباقر عليه السّلام كلّ ما أحاط به الشّعر فليس على العباد أن يطلبوا ولا أن يبحثوا عنه, ولكن يجري عليه الماء. رواه في التهذيب.
وفيه وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام أنّه سُئل عن الرجل يتوضّأ أيبطّن لحيته؟ قال لا.
وأمّا حدّ الوجه ففي الفقيه وفي الكافي والعّياشي: عن الباقر عليه السلام: الوجه الّذي أمرالله بغسله الّذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه, إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم, ما دارت الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذّّقن وما جرت عليه الأصبعان من الوجه مستديراً فهو من الوجه, وما سوى ذلك فليس من الوجه, قيل: الصّدغ ليس من الوجه؟ قال: لا. وأمّا في سائر الأعضاءِ فيجب إيصال الماءِ والبلل الى البشرة وتخليل ما يمنع من الوصُول كما هو مقتضى الأمر بالغسل والمسح, فلا يجزي المسح على القلنسوة ولا على الخفّين.
في التّهذيب عن الباقر عليه السّلام: " جمع عمر ابن الخطّاب أصحاب رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم وفيهم عليّ عليه السّلام فقال ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفّين فقال عليّ قبل المائِدة أو بعد المائِدة فقال: لا أدري فقال عليّ: سبق الكتاب الخفّين , إنّما نزلت المائِدة قبل أن يقبض صلىّ الله عليه وآله بشهرين أو ثلاثة ".(1/480)
أقول: المغيرة بن شعبة هذا هو أحد رؤساء المنافقين من أصحاب العقبة والسّقيفة لعنهم الله (1) .
وفي الفقيه " روت عائشة عن النّبي صلىّ الله عليه وآله أنّه قال أشدّ النّاس حسرةً يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره ".
وروى عنها أنهّا قالت: لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحبّ إليّ من أن أمسح على خفّي.
ولم يعرف للنبّي صلىّ الله عليه وآله خفّ إلأّ خفّ هداه النّجاشي وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقاً فمسح النّبي صلىّ الله عليه وآله رجليه وعليه خفَّاه فقال الناس أنّه مسح على خفّيه وعلى أنّ الحديث في ذلك غير صحيح الإسناد. انتهى كلام الفقيه
__________
(1) - أقول: بل هو صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ولطالما دافع عنه, و كاد أن يضرب عمه عروة بن مسعود بالسيف لما مدَّ يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية عندما جاء سفيرًا لقريش.(وذلك قبل إسلام عروة), فماذا فعل الكاشاني وأمثاله للإسلام غير تمزيق الأمة, ولعن خيارها, فانظر كيف تجرأ ولعن أصحاب السقيفة وهم من الأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ" رواه البخاري(16) ومسلم(108) وغيرهما, وجاء إلى السقيفة من المهاجرين كبارُ الصحابة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح, وبذلك اجتمع فيها جملة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وحسبك في فضلهم ثناء الله عليهم في الآية(100) من سورة التوبة إذ قال تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهْارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبََدًا ذَلكَ الفوْزُ العَظِيمُ} وغير ذلك مما ستجد بيانه في هذا البحث , فلا يضرهم لعن المارقين الحاقدين.وهل يضر السماء نبح الكلاب؟.(1/481)
ولمّا كانت اليد تطلق على ما تحت الزند وعلى ما تحت المرفق وعلى ما تحت المنكب بيّن الله سبحانه غاية المغسول منها, كما تقول لغلامك: اخضب يدك إلى الزّند, وللصّيقل: صقّل سيفي إلى القبضة, فلا دلالة في الآية على ابتداء الغسل بالأصابع وانتهائه إلى المرافق كما أنّه ليس في هاتين العبارتين دلالة على ابتداء الخضاب والتصقيل بأصابع اليد ورأس السّيف, فهي مجملة في هذا المعنى, يحتاج الى تبيين أهل البيت عليهم السلام والمرفق بكسر أوّله وفتح ثالثه أو بالعكس: مجمع عظمي الذّراع والعضد ولا دلالة في الآية على إدخاله في غسل اليد ولا على إدخال الكعب في مسح الرجلين, لخروج الغاية تارة ودخولها أخرى, فهي في هذا المعنى مجملة وانّما تتبيّن بتفسيرهم, والغسل يحصل بصبّ الماء على العضو أو غمسه فيه وإن لم يدلك, فالباء في ( برؤوسكم) للتّبعيض وكذا في (بوجوهكم) وكذا في المعطوفتين عليهما :أعني أرجلكم وأيديكم. كذا عن الباقر عليه السلام- كما يأتي- والكعب: عظم مائل الى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم نات عن ظهره يدخل نتوه في طرف الساق كالّذي في أرجل البقر والغنم وربّما يلعب به الأطفال وقد يعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له وإنّما اختلف النّاس فيها لعدم غورهم في كلام أهل اللّغة واصحاب التشريح وإعراضهم عن التأمّل في الأخبار المعصومية, ولمّا كانت الرِّجل تطلق على القدم وعلى ما تحت الركبة وعلى ما يشمل الفخذ بيّن الله سبحانه غاية الممسوح منها ثمّ دلالة الآية على مسح الرجلين دون غسلهما أظهرمن الشمس في رابعة النهار وخصوصاً على قراءة الجرّ ولذلك اعترف بها جمع كثير من القائلين بالغسل.
في التهذيب: عن الباقر عليه السلام أنّه سئل عن قول الله عزّ وجلّ { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين } على الخفض هي أم على النّصب قال بل هي على الخفض.(1/482)
أقول: وعلى تقدير القراءة على النّصب أيضاً يدلّ على المسح لأنّها تكون حينئذ معطوفة على محلّ الرؤوس كما تقول مررت بزيد وعمراً إذ عطفها على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة بل عن أسلوب العربية روى العامة عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس" عن النبي (ص) أنّه توضّأ ومسح على قدميه ونعليه ".
ورووا أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ كتاب الله المسح , ويأبى الناس إلاّ الغسل. وأنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان , من باهلني باهلته, وأنّه وصف وضوء رسول الله صلىّ الله عليه وآله فمسح على رجليه.
وفي التّهذيب: عن الباقر عليه السلام أنّه سئل عن مسح الرّجلين فقال: هو الّذي نزل به جبرئيل.
وفي الكافي: عن الصّادق عليه السّلام أنّه يأتي على الرّجل ستّون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة, قيل: وكيف ذلك, قال: لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه.
وفي الفقيه: عن علي عليه السلام أن الرجل ليعبد الله أربعين سنة ما يطيعه في الوضوء يغسل ما أمر الله بمسحه.(1/483)
وفي الكافي والعياشي: عن الباقر عليه السلام أنه سُئل عن وضوءِ رسول الله صلّى الله عليه وآله فدعا بطست أو توْر فيه ماء, فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه, ثم غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى, فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى , ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلّ كفّه, لم يحدث لهما ماءً جديداً, ثم قال, ولا يدخل أصابعه تحت الشِّراك, قال ثمّ قال: إنّ الله تعالى يقول: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) وليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلاَّ غسله وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين فليس له أن يدع شيئاً من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله لأنّ الله تعالى قال: ( اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) ثم قال: ( وامسحُوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فإِذا مسح بشيءٍ من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأ, فقيل: أين الكعبان؟ قال: هي هنا يعني المفصل دون عظم الساق, قيل هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم السَّاق والكعب أسفل من ذلك, قيل أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزيء للوجه وغرفة للذّراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها, والثّنتان تأتيان على ذلك كلّه .أهـ (1)
وقال الطبرسي:
{ وامسحوا برؤوسكم } وهذا أمر بمسح الرأس والمسح أن تمسح شيئاً بيديك كمسح العرق عن جبينك, والظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس, لأن من مسح البعض يسمى ماسحاً, وإلى هذا ذهب أصحابنا قالوا: يجب أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح....
{
__________
(1) - الصافي (2/14-18) وانظر: تفسير نور الثقلين (1/597-599) والميزان (5/232-234)(1/484)
وأرجلكم إلى الكعبين } اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء: إن فرضهما الغسل. وقالت الإمامية: فرضهما المسح دون غيره.أهـ (1)
ونقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن أهل السنة حملوا قراءة الفتح في قوله (وأرجلكم) على الغسل, لأنه الثابت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,والحكمة في إدخال العضوالممسوح بين الأعضاء المغسولة وجوب الترتيب بين الأعضاء في الوضوء.وحملوا قراءة الجر فيها على المسح على الخفين لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض، إما على المجاورة وتناسب الكلام؛ كما في قول العرب: جحُر ضبَ خربٍ، وكقوله تعالى:{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ }
[الإنسان: 21] وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ.
__________
(1) -مجمع البيان (3/284) وفيه عن ناصر الحق- من الزيدية- قال: يجب الجمع بين المسح والغسل.(1/485)
ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه الله. ومنهم من قال: هي دالة على مسح الرجلين، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف؛ كما وردت به السنة، وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضاً لا بد منه؛ للآية والأحاديث التي سنوردها، ومن أحسن ما يستدل على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي (1) حيث قال: أخبرنا أبو علي الروذباري، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محموية العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزَّال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب: أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال: " هذا وضوء من لم يحدث " ، رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه.
__________
(1) - سنن البيهقي(1/75)(برقم: 359).(1/486)
ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف، فقد ضل وأضل، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما، فقد أخطأ أيضاً، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما؛ للأحاديث، وأوجب مسحهما؛ للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من حكاه كذلك، ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه؛ لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجل ما ذكرته، والله أعلم، ثم تأملت كلامه أيضاً، فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضاً على المسح، وهو الدلك، ونصباً على الغسل، فأوجبهما؛ أخذاً بالجمع بين هذه وهذه.أهـ (1)
__________
(1) - تفسير ابن كثير (2/26-27)(1/487)
ثانيًا: قد جاءت السنة الصحيحة بإيجاب غسل الرجلين فكان لابد من المصير إليه, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى وهو المبين والمفسر لما أجمل في القرآن.وليس للأمة أن تنصب لها أحدًا يخالف فعله أو تفسيره ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما ما ذكروه عن وصف الإمام الباقر لكيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, وفيه أنه مسح رجليه ولم يغسلهما, فهذا لا يصح سندًا عن الإمام الباقر, ولو فرضنا صحته فهو مخالفٌ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه الصحابة الذين رأوْا النبي وهو يتوضأ ومنهم علي رضي الله عنه , أما الإمام الباقر فلم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره , وقد يحمل كلامه على الغسل الخفيف كما في الحديث السابق الذي رواه البيهقي عن علي رضي الله عنه. وكذا كل ما استدلوا به على وجوب مسح الرجلين وإبطال غسلهما فهو مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهو المفسر والمبين لما أجمل في القرآن.وقد ثبت بالتواتر غسل الرجلين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر :
" وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَة وُضُوئِهِ أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ الْمُبَيِّن لأَمْرِ اللَّه... إلى أن قال:قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى : أَجْمَعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَسْل الْقَدَمَيْنِ , رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور " انتهى (1) .
__________
(1) - فتح الباري (1/232)(1/488)
وقد جاءت الروايات عنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغسلهما مرة , ومرتين, وثلاثاً, وقد حذر مَن غَسَل الرجلين وترك الأعقاب , روى هذه الأحاديث جملة من الصحابة منهم: عمر, وعثمان, وعليّ, وعائشة, وابن عباس, ومعاوية, وعبد الله بن زيد بن عاصم, والمقداد بن معد يكرب ، وعمرو بن عنبسة, و عبد الله بن عمرو بن العاص , وأبو هريرة, وعبد الله بن الحارث بن جزء, وأبو أمامة, و جابر بن عبد الله, ومعيقيب, وغيرهم, رضي الله عنهم أجمعين. وسنذكر بعضًا من هذه الأحاديث:
1- روى البخاري(162) ومسلم(226) وغيرهما: عن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا, ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ, ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".(1/489)
2- وأيضًا روى البخاري(184) ومسلم(235) وغيرهما: عَنْ عَمْرٍو بن يحيى عَنْ أَبِيهِ قال:شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ- وهو جد عمرو بن يحيى- عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنْ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً, ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ " .(1/490)
3- وروى أحمد (17060) بسند صحيح : عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال: " مامنكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله، إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله، إلا خرّت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " قال أبو أمامة: يا عمرو، انظر ما تقول، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك" وهو في صحيح مسلم(832) من وجه آخر .
4- وروى البيهقي في سننه(1/71= رقم: 343) عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم " . ومن ههنا يتضح المراد من حديث عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين، فدلكهما، إنما أراد غسلاً خفيفاً، وهما في النعلين، ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها، وفي هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين.وذكر البخاري في صحيحه(1/73) بابًا يدل على جواز ذلك فقال: باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين.(1/491)
5- وأخرج أحمد والدارمي وأصحاب السنن (1) بسند صحيح:عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ ، قَالَ : جَلَسَ عَلِىٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى الْفَجْرَ ، فِي الرَّحَبَةِ ، ثُمَّ قَالَ لِغُلاَمِهِ : ائْتِنِي بِطَهُورٍ ، فَأَتَاهُ الْغُلاَمُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَطَسْتٍ ، قَالَ عَبْدُ خَيْرٍ : وَنَحْنُ جُلُوسٌ نَنْظُرُ إِلَيْهِ ؛ فَأَخَذَ بِيَمِينِهِ الإِنَاءَ ، فَأَكْفَأَهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الإِنَاءَ ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ ، فَعَلَهُ ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ عَبْدُ خَيْرٍ : كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِنَاءِ ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِنَاءِ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، إِلَى الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، إِلَى الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِنَاءِ ، حَتَّى غَمَرَهَا الْمَاءُ ، ثُمَّ رَفَعَهَا بِمَا حَمَلَتْ مِنَ الْمَاءِ ، ثُمَّ مَسَحَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا مَرَّةً ، ثُمَّ صَبَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ غَسَلَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ صَبَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ
__________
(1) - أحمد(1133) والدارمي(701) وأبو داود(111) والترمذي(49) وابن ماجة(404) وابن خزيمة(147) وابن حبان(1079) وغيرهم.(1/492)
الْيُمْنَى ، فَغَرَفَ بِكَفِّهِ فَشَرِبَ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى طُهُورِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَهَذَا طُهُورُهُ " .
- وفي رواية : عَلَّمَنَا عَلِيٌّ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَصَبَّ الْغُلاَمُ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ، ثَلاَثًا ثَلاَثًا ، وَذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، ثَلاَثًا ثَلاَثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ ، فَغَمَرَ أَسْفَلَهَا بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا ، فَمَسَحَ بِهَا الأُخْرَى ، ثُمَّ مَسَحَ بِكَفَّيْهِ رَأْسَهُ مَرَّةً ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، ثَلاَثًا ثَلاَثًا ، ثُمَّ اغْتَرَفَ هُنَيَّةً مِنْ مَاءٍ بِكَفِّهِ فَشَرِبَهُ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ".(1/493)
- وفي رواية : أَتَيْتُ عَلِيًّا ، وَقَدْ صَلَّى ، فَدَعَا بِطَهُورٍ ، فَقُلْنَا : مَا يَصْنَعُ بِالطَّهُورِ ، وَقَدْ صَلَّى ؟ مَا يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَنَا ، فَأُتِيَ بِطَسْتٍ وَإِنَاءٍ ، فَرَفَعَ الإِنَاءَ ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ ، فَغَسَلَهَا ثَلاَثًا ، ثُمَّ غَمَسَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَتَنَثَّرَ مِنَ الْكَفِّ الَّذِي أًخَذَ مِنْهُ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ، وَغَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثًا ، وَيَدَهُ الشِّمَالَ ثَلاَثًا ، ثُمَّ جَعَلَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ ، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثًا ، وَرِجْلَهُ الشِّمَالَ ثَلاَثًا ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ طُهُورَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَهُوَ هَذَا ".
وقال التِّرْمِذيُّ (1/68)عَقِب إخراجه لهذا الحديث (رقم49) : حديث عليٍّ: رواه أبو إِسْحاق الهَمْدَانِي ، عن أَبي حَيَّة ، وعَبْد خَيْر ، والحارث ، عن عليٍّ ، وقد رواه زائدة بن قُدَامَة ، وغير واحد ، عن خالد بن عَلْقَمة ، عن عَبْد خَيْر ، عن عليٍّ ، رضي الله عنه ، حديث الوضوء بطوله ، وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.أهـ
ونقول للشيعة: من يتولى عليًّا رضي الله عنه ويريد اتباعه فليتبع ما صح عنه, وقد صح عنه القول بغسل الرجلين.
6- روى ابن ماجة(457) وغيره,بسند صحيح, عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا"
ونحوه عند أبي داود(135) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(1/494)
7- وفي الصحيحين: البخاري(60) ومسلم(241): عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة؛ صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: " أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار " وكذلك هو في صحيحي البخاري(163) ومسلم(242) عن أبي هريرة.
8- وفي صحيح مسلم(240): عن عائشة قالت لأخيها:يا عبدالرحمن أسبغ الوضوء , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ويل للأعقاب من النار"".
9- وروى أحمد (14432) وغيره عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضؤون فلم يمس أعقابهم الماء فقال: ويل للأعقاب من النار".
10- روى ابن ماجة (455) بسند جيد عن عبد الله الأشعري عن خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص كل هؤلاء سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتموا الوضوء . ويل للأعقاب من النار ".
11- و روى أحمد (17743) وابن خزيمة (163) والحاكم(580) وصححه :عن عبد الله بن الحارث بن جزء: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " ، وقال ابن كثير:هذا إسناد صحيح.أهـ (1) وروى الطبراني في الكبير(8114) نحوه عن أبي أمامة, وأحمد (15549) عن معيقيب.
12- وقد روى مسلم(243) : عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " ارجع فأحسن وضوءك, فرجع ثمَّ صلى ".
__________
(1) - تفسير ابن كثير (2/27)(1/495)
13- وروى أحمد(15534) وأبو داود (175) – وصححه الألباني-: عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة (1) قدر الدرهم , لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء". وزاد أبو داود:" والصلاة".
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك فيهما، لما توعد على تركه؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل، بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف، وهكذا وجَّه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى. وأيضًا ابن خزيمة حيث قال في صحيحه(1/83):
باب التغليظ في ترك غسل العقبين في الوضوء والدليل على أن الفرض غسل القدمين ,لا مسحهما, إذا كانتا غير مغطيتين بالخف أو ما يقوم مقام الخف, لا على ما زعمت الروافض أن الفرض مسح القدمين لا غسلهما, إذ لو كان الماسح على القدمين مؤديًا للفرض لما جاز أن يقال لتارك فضيلة : ويل له, وقال صلى الله عليه و سلم : (ويل للأعقاب من النار) إذا ترك المتوضئ غسل عقبيه" أهـ
ثالثًا: ويرى الشيعة الإمامية أن الكعب في ظهر القدم.
قال ابن كثير:
__________
(1) - اللُّمْعَة: البقعة من الكلأ أو القطعة من النبت تؤخذ في اليبس.وأيضًا: الموضع من البدن الذي لم يصبه ماء الغسل أو الوضوء.أنظر:معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية (3/184)(1/496)
وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند، بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة، وهم يستبيحونها، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وفق ما دلت هذه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر، ولله الحمد، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين، فعندهم أنهما في ظهر القدم، فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع: قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، هذا لفظه، فعند الأئمة رحمهم الله: في كل قدم كعبان، كما هو المعروف عند الناس، وكما دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان: أنه توضأ، فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين، واليسرى مثل ذلك. وروى البخاري تعليقاً مجزوماً به، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي القاسم الحسين بن الحارث الجدلي، عن النعمان ابن بشير قال: " أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: " أقيموا صفوفكم - ثلاثاً - والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم " قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، ومنكبه بمنكبه" لفظ ابن خزيمة (1) ،
__________
(1) - رواه أحمد(276) وأبو داود(662) وابن خزيمة في صحيحه(160) وابن حبان(2176) وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط إلا قوله(وركبته بركبته)..(1/497)
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه، إلا والمراد به العظم الناتىء في الساق حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم؛ كما هو مذهب أهل السنة.أهـ (1)
رابعًا: يرى أهل السنة جواز المسح على الخفين, لثبوته عن النبي ورواه جمع من الصحابة منهم جرير بن عبد الله وكان إسلامه متأخرًا فقد أسلم جرير بعد نزول آية المائدة, فعُلم بذلك أن النبي مسح على الخفين بعد الآية فلا حجة لمن ادعى أن المسح كان قبل آية المائدة فقد روى أحمد(19191) و البخاري(380) ومسلم(272) والترمذي(93) والنسائي(118) وابن ماجة(543)غيرهم:عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ, فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " قَالَ الْأَعْمَشُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ". قال الترمذي(1/155) عقب إخراج هذا الحديث: وفي الباب: عن عمر و عليّ و حذيفة و المغيرة و بلال و سعد و أبي أيوب و سلمان و بريدة و عمرو بن أمية و أنس و سهل بن سعد و يعلى بن مرة و عبادة بن الصامت و أسامة بن شريك و أبي أمامة و جابر و أسامة بن زيد [ و ابن عبادة ويقال ابن عمارة و أبي بن عمارة ] قال أبو عيسى : حديث جرير حديث حسن صحيح.
__________
(1) - تفسير ابن كثير (2/30)(1/498)
2- وروى أحمد(18185) والبخاري(4159) ومسلم(274) عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ, لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذَهَبَ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ عَلَيْهِ كُمُّ الْجُبَّةِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ".
وفي الصحيحين:البخاري(5463)ومسلم (274) عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سَفَرٍ فَقَالَ أَمَعَكَ مَاءٌ قُلْتُ نَعَمْ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ ثُمَّ جَاءَ فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الْإِدَاوَةَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا".
وفيهما:البخاري(222) ومسلم(273) واللفظ له: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا فَتَنَحَّيْتُ, فَقَالَ: ادْنُهْ, فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ"
وفي البخاري(201) وغيره :عن عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ :أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ"(1/499)
وفيه(199) : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ,وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ ".
وروى أحمد (23937)- وصححه الأرنؤوط- : عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أنه سأل بِلَالًا كَيْفَ مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: تَبَرَّزَ ثُمَّ دَعَا بِمِطْهَرَةٍ- أَيْ إِدَاوَةٍ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى خِمَارِ الْعِمَامَةِ " .
وروى أحمد (23775) أيضًا : عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فَرَأَى رَجُلًا قَدْ أَحْدَثَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ لِلْوُضُوءِ, فَأَمَرَهُ سَلْمَانُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَيَمْسَحَ بِنَاصِيَتِهِ, وَقَالَ سَلْمَانُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى خِمَارِهِ " فهذا سلمان الفارسي (1) يأمر الرجل بالمسح على الخفين إتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) - سلمان الفارسي رضي الله عنه أحد الصحابة القلائل الذين يعظمهم الشيعة-ويروون عنه أساطير, ربما لأن أصله فارسي- ومع ذلك خالفوا كلامه هنا, كما خالفوا كلام علي رضي الله عنه لأنه يخالف هواهم. (ملحوظة: كان سلمان واليًا لعمر بن الخطاب على المدائن. وهذا يدلل على كذب الشيعة الذين يدعون أنه كان مواليًا لعلي معاديًا لمن سبقه من الخلفاء] .(1/500)
وورد عن علي رضي الله عنه أنه مسح على الخفين كما في مصنف ابن أبي شيبة(232) قال: حدثنا وكيع بن الجراح عن الربيع بن سليم عن أبي لبيد قال : رأيت عليًا رضي الله عنه أتي الغيط على بغلة له, وعليه إزار ورداء وعمامة وخفان, فرأيته بال, ثم توضأ فحسر العمامة, فرأيت رأسه مثل راحتي, عليه مثل خط الأصابع من الشعر, فمسح برأسه ثم مسح على خفيه ".
خامسًا: وكما يجوز المسح على الخفين فإنه يجوز المسح على الجوربين وما في معناهما عند أهل السنة لما رواه الترمذي(99) وصححه, وأبو داود(159) والنسائي في الكبرى(130):عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ " وقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ النسائي(1/92)(عقب ح130): مَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا قَيْسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالصَّحِيحُ عَنْ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ومما يستدل به على المسح على الجوربين وما في معناهما ما رواه أحمد(22437) وأبو داود(146)- بسند صحيح- عن ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد, فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين".
وقال الإمام أحمد: يُذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (1) .
__________
(1) -بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي/ العدة شرح العمدة ص:41(2/1)
وَقالَ أَبُو دَاوُد (1/89)(عقب ح 159): وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
4- الأنفال:41
{ وَاعْلَمُو?ا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
والمعنى:(2/2)
واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار بالغلبة والقهر في القتال-وهو الغنيمة- فحكمه: أن يقسم خمسة أخماس، خُمس منها قسَّمته الآية لله وللرسول صلى الله عليه وسلم , ولقرابة النبى صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب, واليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل: وهو الذي انقطعت به السُّبل فى سفره المباح حتى كأن الطريق أصبح أباً له. والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التى يقررها الرسول فى حياته، ومن ينوب عنه من الحكام والخلفاء بعد وفاته، وباقى الخُمس يصرف للمذكورين في الآية. أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهى للمقاتلين، فاعلموا ذلك، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد، يوم الفرقان الذى فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان، وهو اليوم الذى التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر، والله عظيم القدرة على كل شئ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم، وخذل الكافرين مع كثرتهم. (1)
وقد بيَّنت السٌّنة أن الأربعة الأخماس الباقية من الغنيمة تقسم على الجيش: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم,اثنان منها لفرسه,هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر كما في الصحيحين:البخاري(3988) ومسلم(1762) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا . قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم ".
__________
(1) - تفسيرالمنتخب ( ص:249 ) - وتفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته ( 5/1750)(2/3)
ويؤيد هذا ما رواه البيهقى في سننه(12641) بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو بوادى القرى، وهو معترض فرسًا فقلت: يا رسول الله، ما تقول فى الغنيمة، فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش، قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم".
ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان. والأول هو الذى دلت عليه السنة الصحيحة، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤنة نفسه وسائسه، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين.
ويجب قسمتها بينهم بالعدل، فلا يحابى أحدًا، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى(2739) " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
و قد ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة فى قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }: التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه -.وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى -، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة، وله ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما.
وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام: للرسول، ولذى القربى واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام، عملاً بظاهر الآية، وأن سهم الله - تعالى - يصرف فى وجوه الخير، أو يؤخذ للكعبة (1)
قال الشنقيطي في أضواء البيان (2) :
__________
(1) - د.سيد طنطاوي شيخ الأزهر/ تفسير الوسيط (6/130-132)
(2) - أضواء البيان (2/ 56- 66)(2/4)
المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: { غَنِمْتُمْ } ، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى:
{ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث } [النساء: 11] أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعاً، فكذلك قوله: { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، و القاضي عياض وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة،
وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري - رحمه الله - أيضاً قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين , واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ }[الأنفال: 1] الآية. قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة.
واحتجوا لذلك أيضاً بما وقع في فتح مكة. وقصة حنين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجباً: لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جداً، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم.
وقد فصّل الشنقيطي في تفسيره لهذه الآية وناقش أراء العلماء, ورجح قول الشافعي وأحمد, ثم قال:(2/5)
فقد بان لك مما تقدم أن مذهب الشافعي، وأحمد - رحمهما الله - في هذه المسألة: أن سهم الله، وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم واحد. وأنه بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. وأن سهم القرابة لبني هاشم، وبني المطلب. للذكر مثل حظ الأنثيين، وأنه لجميعهم. غنيهم وفقيرهم، قاتلوا أم لم يقاتلوا، وأن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الأنصباء الثلاثة الباقية لخصوص الفقراء من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ومذهب أبي حنيفة: سقوط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم قرابته بموته، وأن الخمس يقسم على الثلاثة الباقية: التي هي اليتامى، والمساكين وابن السبيل. قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضاً.
ومذهب الإمام مالك - رحمه الله - أن أمر خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده. فيما يراه مصلحة، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: وبقول مالك هذا: قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم " ، فإنه لم يقسمه أخماساً، ولا أثلاثاً، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال الزجاج: محتجاً لمالك، قال الله عز وجل:{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [البقرة: 215].وللرجل جائز بإجماع العلماء أن ينفق في غير هذه الأصناف، إذا رأى ذلك، وذكر النسائي عن عطاء، قال: " خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطى منه، ويضعه حيث شاء " اهـ من القرطبي.(2/6)
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: " وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء.
وقال شيخنا العلامة ابن تيمية: رحمه الله - وهذا قول مالك، وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال اهـ من ابن كثير.
وهذا القول هو رأي البخاري بدليل قوله: باب قول الله تعالى: { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } يعني للرسول قسم ذلك.
وقال رسول الله: " إنما أنا قاسم، وخازن، والله يعطي " (1) ثم ساق البخاري أحاديث الباب (2) ، في كونه صلى الله عليه وسلم قاسماً بأمر الله تعالى.
قال مقيده(الشنقيطي) - عفا الله عنه -: وهذا القول قوي، وستأتي له أدلة إن شاء الله في المسألة التي بعد هذا، ولكن أقرب الأقوال للسلامة هو العمل بظاهر الآية، كما قال الشافعي، وأحمد - رحمهما الله - لأن الله أمرنا أن نعلم أن خمس ما غنمنا. لهذه المصارف المذكورة، ثم أتبع ذلك بقوله: { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } ، وهو واضح جداً، كما ترى.
وأما قول بعض أهل البيت. كعبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كله لهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى، والمساكين: يتاماهم، ومساكينهم، وقول من زعم أنه بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفى ضعفهما، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن الذهب، والفضة، وسائر الأمتعة. كل ذلك داخل في حكم الآية: يُخَمَّس، ويقسم الباقي على الغانمين، كما ذكرنا.
المسألة الرابعة: أما أرضهم المأخوذة عنوة. فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعض العلماء: يخيّر الإمام بين قسمتها، كما يفعل بالذهب، والفضة. ولا خراج عليها. بل هي أرض عشر مملوكة، للغانمين،و بين وقفها للمسلمين بصيغة.
__________
(1) - رواه البخاري (71 ) ومسلم (1037) وغيرهما.
(2) - صحيح البخاري(3/1133)(2/7)
وقيل بغير صيغة، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده، وهذا التخيير: هو مذهب الإمام أحمد.
وعلى هذا القول: إذا قسمها الإمام، فقيل: تخمس، وهو أظهر، وقيل: لا، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلاً: إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها.
والظاهر أن أرض خيبر خُمِّست، كما جزم به غير واحد، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري.
وهذا التخيير بين القسم، وإبقائها للمسلمين، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد: هو أيضاً مذهب الإمام أبي حنيفة، والثوري.
وأما مالك - رحمه الله - فذهب إلى أنها تصير وقفاً للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها.
وأما الشافعي - رحمه الله - فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين، بعد إخراج الخمس"أهـ كلام الشنقيطي
وفي تفاسير الشيعة:
قال الطبرسي في مجمع البيان:
بَيَّن سبحانه حكم الغنيمة فقال سبحانه مخاطباً للمسلمين { واعلموا أنما غنمتم من شيء } أي مما قلَّ أو كثر { فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس ومن يستحقه على أقوال:
أحدها: ما ذهب إليه أصحابنا وهو أن الخمس يقسم على ستة أسهم فسهم لله وسهم للرسول وهذان السهمان مع سهم ذي القربى للإِمام القائم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وسهم ليتامى آل محمد وسهم لمساكينهم وسهم لأَبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم , لأَن الله سبحانه حرم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوَّضهم من ذلك الخمس, وروى ذلك الطبري عن علي بن الحسين زين العابدين (ع) ومحمد بن علي الباقر عليهما السلام وروي أيضاً عن أبي العالية والربيع أنه يقسم على ستة أسهم إلاّ قالا سهم الله للكعبة والباقي لمن ذكره الله وهذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب ويقويه.
والثاني: أن الخمس يقسم على خمسة أسهم وإن سهم الله والرسول واحد ويصرف هذا السهم إلى الكُراع والسلاح وهو المروي عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة وعطاء.(2/8)
والثالث: أن يقسم على أربعة أسهم سهم ذي القربى لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم والأَسهم الثلاثة لمن ذكروا بعد ذلك من سائر المسلمين وهو مذهب الشافعي.
والرابع: أنه يقسم على ثلاثة أسهم لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته عندهم لأَن الأَنبياء لا يورثون فيما يزعمون وسهم ذي القربى قد سقط لأَن أبا بكر وعمر لم يعطيا سهم ذي القربى ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليهما وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق ومنهم من قال لو أعطى فقراء ذوي القربى سهماً والآخرون ثلاثة أسهم جاز.
ولو جعل ذوو القربى أسوة الفقراء ولا يفرد لهم سهم جاز.
واختلف في ذوي القربى فقيل: هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب لأَن هاشماً لم يعقب إلاّ منه. عن ابن عباس ومجاهد , وإليه ذهب أصحابنا. وقيل: هم بنو هاشم بن عبد مناف وبنو المطلب بن عبد مناف وهو مذهب الشافعي وروي ذلك عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أصحابنا:إن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإِنسان من المكاسب وأرباح التجارات وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية فإن في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة .أهـ (1)
ويقول ناصر الشيرازي في تفسيره :
يقول الحق سبحانه :{ واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى}: الأئمة من أهل البيت -عليهم السلام- { واليتامى والمساكين وابن السبيل} : من ذرية الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- أيضًا.أهـ (2)
ولا شك أن تفسيرهم للآية المباركة يحتوي على مغالطات منها:
__________
(1) - مجمع البيان ( 4/468 -469 ) وانظر تفسير الأمثل لناصر الشيرازي (5/437-439) وزبدة البيان للمحقق الأردبيلي (ص:211)
(2) - ناصر مكارم الشيرازي/ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل(5/432) وانظر: تفسير الصافي للكاشاني ( 2 /303-304)(2/9)
أولاً: الأخذ بالمعنى اللغوي لكلمة الغنيمة دون المعنى الشرعي مما جعلهم يوجبون الخمس في كل ما يحصل عليه الإِنسان من المكاسب وأرباح التجارات وفي الكنوز والمعادن وغير ذلك.وإنما فرض الله تعالى على المسلم في هذه الأشياء الزكاة بالأنصبة والشروط المقررة في كتب الفقه.أما الخمس ففي الغنيمة من القتال مع الكفار فقط , لذا تجد هذه الآية مذكورة في آيات سورة الأنفال التي تتعلق بالحرب والقتال مع المشركين, فهذه الآية نزلت في غزوة بدر لذا قال تعالى في آخرها { يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{الأنفال:41} ثم قال{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ }{ الأنفال:42} فوصفت موقع الجيشين في غزوة بدر ، ولما انتصر المسلمون في بدر وأخذوا الغنائم قال الله في الآية المذكورة : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }.ويؤكد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المُبَيِّن للأحكام الواردة في القرآن لم يثبت عنه أنه أخذ الخمس مما غنمه الصحابة من المكاسب وأرباح التجارات وكان منهم التجار والصناع وغير ذلك, فتبين بذلك أن المقصود الخُمس مما غنموه من قتال المشركين.(2/10)
أضف إلى ذلك :أن الغنائم كانت محرمة على الأمم السابقة, ولم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[الأنفال:69] و في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ - من الأنبياء - قبلي: وذكر منها: وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي... (1) " وهذا يؤكد أن المقصود بالغنائم ما غنمه المسلمون من قتال المشركين و ليس ما كسبوه من التجارات والصناعات وغيرها فهذه لم تحرم على أمةٍ من الأمم.
__________
(1) 2- رواه أحمد(14303) والدارمي(1389)والبخاري(328) ومسلم(521) وغيرهم عن جابر بن عبد الله , ورواه البزار(656) عن عليّ.ورواه الترمذي وصححه(1553) عن أبي أمامة وعن أبي هريرة, وقال الترمذي(4/123): وفي الباب عن عليٍّ و أبي ذر و عبد الله بن عمرو و أبي موسى و ابن عباس .أهـ قلت: ورواه أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس وأبي ذر وأبي موسى وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة.(2/11)
ثانيًا: قولهم بأن المقصود بذي القربى في الآية: الأئمة من أهل البيت ,لا يدخل مهعم فيه سائر قربى النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا تخصيص بلا مخصص , ولا دليل عليه, بل هو مخالف لظاهر الآية, إذ لفظ الآية عام في كل ذوي القربى.وقد جعل الله هذا السهم لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم وبنو المطلب, وليس الأئمة فقط ولا بنو هاشم فقط- كما يقولون- لما رواه البخاري(3989) وغيره عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ قَالَ:مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ فَقَالَ:" إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا".(2/12)
فبنو هاشم وبنو المطلب آزروا النبي ولم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام, ودخلوا معه الشِعب دون بني عبد شمس ونوفل,لذا ورد في رواية أخرى عند أحمد (16787) والنسائي( 4137) وغيرهما: عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ:لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ, أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا, فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ ,فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ , وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ".
فجعل الله تعالى لهم نصيبًا من الخمس- تعويضًا لهم- لحرمانهم من الصدقة. إذ أكرمهم الله تعالى عن الصدقة لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم(1072) وغيره عن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ" وفي لفظ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ".(2/13)
ثالثًا: قولهم بأن اليتامى والمساكين وابن السبيل في الآية ليست على العموم, وإنما هي خاصة باليتامى والمساكين وابن السبيل من آل محمد صلى الله عليه وسلم. وليس لهذا التخصيص من دليل, لا من كتاب الله ولا من السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل فعل الرسول كان بخلاف ذلك , وهل من المعقول أن تطلب الآية إعطاء نصيب من الغنائم -غنائم بدر- لأيتام آل محمد صلى الله عليه وسلم خاصة, ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها أيتام من آله , ولم تنقل الروايات أنه أعطى غنائم بدر لأهل بيته خاصة دون سائر اليتامى والمساكين من المسلمين. فهل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الآية؟.
* قال صاحب كتاب لله ثم للتاريخ :
ولنأخذ فتوتيين لعَلَمَيْن من أعلام المنهج الشيعي هما: الشيخ المفيد والشيخ الطوسي، قال الشيخ المفيد:
قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك -أي الخمس- عند الغيبة، وقد ذهب كل فريق منهم إلى مقال (ثم يذكر عدد المقالات) منها قوله:
منهم من يسقط قول إخراجه لغيبة الإمام (1) ، وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار. وبعضهم يوجب كنزه -أي دفنه- ويتأول خبراً ورد: (إن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام، وأنه - عليه السلام - إذا قام دله الله على الكنوز فيأخذها من كل مكان).
ثم يختار قولاً منها فيقول:
بعزل الخمس لصاحب الأمر - يعني المهدي- فإن خشي إدراك الموت قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته حتى يسلم إلى الإمام، إن أدرك قيامه، وإلا وصى به إلى من يقوم مقامه بالثقة والديانة، ثم على هذا الشرط إلى أن يقوم الإمام، قال: وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم، لأن الخمس حقٌ لغائب لم يرسم فيه قبل غيبة رسماً يجب الانتهاء إليه.
__________
(1) 1 - يعني إذا كان الإمام غائباً فلمن يعطيه؟(2/14)
ثم قال: ويجري ذلك مجرى الزكاة التي يقدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند ذلك سقوطها، وقال: إذا ذهب ذاهب إلى ما ذكرناه من شطر الخمس الذي هو خالص الإمام، وجعل الشطر الآخر لأيتام آل محمّد وأبناء سبيلهم مساكينهم على ما جاء في القرآن.
قال: فمن فعل هذا لم تبعد إصابته الحق في ذلك بل كان على صواب، وإنما اختلف أصحابنا في هذا الباب انظر (المقنعة 46).
وقال الشيخ الطوسي المتوفى (460هـ) مؤسس الحوزة النجفية وأول زعيم لها: بعد أن ذكر أحكام الخمس قال: هذا في حال ظهور الإمام (1) .
ثم قال: فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم من المناكح والمتجر والمساكن.
فأما ما عدا ذلك فلا يجوز التصرف فيه على حال، وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة، فقد اختلف قول أصحابنا فيه وليس نص معين , إلاَّ أن كل واحد منهم -أي فقهاء الشيعة- قال قولاً يقتضيه الاحتياط.
ثم حصر الطوسي هذه الأقوال في أربعة:
1- قال بعضهم أنه جارٍ في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر -يعني طالما كان الإمام غائباً أو مستتراً فكل شيء مباح- وهذا هو أصح الأقوال لأنه موافق للنصوص الواردة عن الأئمة، وبه قال كثير من الفقهاء.
2- وقال قوم أنه يجب الاحتفاظ به أو حفظه ما دام الإنسان حياً، فإذا حضرته الوفاة وصى به إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلمه إلى صاحب الأمر إذا حضر، أو يوصى به حسبما وصى به إلى أن يوصله إلى صاحب الأمر.
3- وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة أقسام، ثلاثة أقسام للإمام تدفن أو تُودع عند من يوثق به، وهذا القول قد اختاره الطوسي.
والأقسام الثلاثة الأخرى وتوزع على مستحقيها من أيتام آل محمّد صلى الله عليه وآله ومساكنهم وأبناء سبيلهم، وهذا مما ينبغي العمل عليه.
__________
(1) 2 - معنى ذلك أن الخمس في حال ظهور الإمام له حكم، وفي حال غيبة هذا الإمام أو عدم تمكنه فله حكم آخر.(2/15)
وهذا القول مطابق لفتوى المفيد في قياس الخمس على الزكاة.
ثم يقول: (ولو أن الإنسان استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من إجزاء الدفن أو الوصاة لم يكن مأثوماً) انتهى بتصرف يسير.
لقد حصر الشيخ الطوسي التصرف في الخمس حال الغيبة في هذه الأقوال الأربعة المتقدمة واختار هو القول الرابع منها (1) ، وبين أن الإنسان إذا اختار أي قول من هذه الأقوال وعمل به لم يكن آثماً.
ونحن نلاحظ هذه الأقوال الأربعة، فهي وإن اختلف بينها في بعض التفاصيل لكنها أجمعت على شيء واحد نحن بصدد بيانه وهو أن هذه الأموال -أي الخمس- التي هي حق الإمام الغائب أو حق غيره لا تصرف للسادة ولا المجتهدين.
ورغم أن الأقوال الأربعة المتقدمة اختلفت من جهة صرف أموال الخمس، إلا أنها ليس فيها تلميح فضلاً عن التصريح بوجوب أو إباحة إعطاء الخمس أو جزء منه للسادة والمجتهدين.
إن القول الرابع والذي اختاره الشيخ الطوسي هو الذي كان عليه الشيعة، والطوسي كما لا يخفى هو مؤسس الحوزة العلمية وهو شيخ الطائفة.
ترى أكان الشيخ وجماهير الشيعة في عصره وقبله وبعده مخطئين؟
فهذه فتوى أول زعيم للحوزة العلمية النجفية.
ولنر فتوى آخر زعيم للحوزة نفسها مولانا الإمام الراحل أبي القاسم الخوئي ليتضح لنا أن الفتوى بين أول زعيم للحوزة، وفتوى آخر زعيم لها.
قال الإمام الخوئي في بيان مستحق الخمس ومصرفه:
يقسم الخمس في زماننا- زمان الغيبة- نصفين:
نصف لإمام العصر الحجة المنتظر (عج) (2) ، وجعل أرواحنا فداه.
ونصف لبني هاشم أيتامهم ومساكينهم وأبناء السبيل .. إلى أن قال:
__________
(1) 1 - وهو قول كثير من فقهاء الشيعة الإمامية.
(2) 2- هذه عند الشيعة معناها عجل الله فرجه.(2/16)
النصف الذي يرجع للإمام عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام، يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون العارف بمصارفه، إما بالدفع إليه أو الاستئذان منه .. الخ انظر كتاب (ضياء الصالحين مسألة 1259 ص347)، إن فتوى الإمام الخوئي تختلف عن فتوى الشيخ الطوسي، فالشيخ الطوسي لا يقول بإعطاء الخمس أو شيء منه إلى الفقيه المجتهد وقد عمل بنص فتواه جماهير الشيعة المعاصرون له.
بينما نرى فتوى مولانا الراحل الإمام الخوئي تنص على إعطاء الخمس أو جزء منه للفقيه والمجتهد.....
وقال:إن القضية مرت في أدوار وتطورات كثيرة، حتى استقرت أخيراً على وجوب إعطاء أخماس المكاسب للفقهاء والمجتهدين، وبذلك يتبين لنا أن الخمس لم ينص عليه كتاب ولا سنة ولا قول إمام، بل هو قول ظهر في الزمن المتأخر، قاله بعض المجتهدين، وهو مخالف للكتاب والسنة وأئمة أهل البيت ولأقوال وفتاوى الفقهاء والمجتهدين والمعتد بهم.
وإني أهيب بإخواني وأبنائي الشيعة أن يمتنعوا عن دفع أخماس مكاسبهم وأرباحهم إلى السادة المجتهدين، لأنها حلال لهم هم وليس للسيد أو الفقيه أي حق فيها، ومن أعطى الخمس إلى المجتهد أو الفقيه فإنه يكون قد ارتكب إثماً لمخالفته لأقوال الأئمة إذ أن الخمس ساقط عن الشيعة حتى يظهر القائم.....
إلى أن قال:
وأرى من الضروري أن أذكر قول آية الله العظمى الإمام الخميني في المسألة، فإنه كان قد تحدث عنها في محاضرات ألقاها على مسامعنا جميعاً في الحوزة عام
(1389هـ)، ثم جمعها في كتاب الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه:
فكان مما قال: يا لقصر النظر لو قلنا إن تشريع الخمس جاء لتأمين معايش ذرية الرسول صلى الله عليه وآله فحسب.إنه يكفيهم ويزيدهم جزء ضليل من آلاف -كذا قال- جزء من هذه المالية الضخمة، بل تكفيهم أخماس سوق واحد كسوق بغداد مثلاً من تلك الأسواق التجارية الضخمة كسوق طهران ودمشق وإسلام بول وما أشبه ذلك، فماذا يصبح حال بقية المال؟.(2/17)
ثم يقول: إنني أرى الحكم الإسلامي العادل لا يتطلب تكاليف باهظة في شؤون تافهة أو في غير المصالح العامة.
ثم يقول: لم تكن ضريبة الخمس جباية لتأمين حاجة السادة آل الرسول صلى الله عليه وآله فحسب، أو الزكاة تفريقاً على الفقراء والمساكين، وإنما تزيد على حاجاتهم بأضعاف.
فهل بعد ذلك يترك الإسلام جباية الخمس والزكاة وما أشبه نظراً إلى تأمين حاجة السادة والفقراء، أو يكون مصير الزائد طعمة في البحار أو دفناً في التراب أو نحو ذلك؟
كان عدد السادة ممن يجوز لهم الارتزاق بالخمس يوم ذاك -يعني في صدر الإسلام- لم يتجاوز المائة، ولو نفرض عددهم نصف مليون، هل من المعقول أن نتصور اهتمام الإسلام بفرض الخمس هذه المالية الضخمة، التي تتضخم وتزداد في تضخمها كلما توسعت التجارة والصناعات كما هي اليوم كل ذلك لغاية إشباع آل الرسول صلى الله عليه وآله؟ كلا.[ انظر كتابه المذكور (1/39-40-42) طبعة مطبعة الآداب في النجف].
إن الإمام الخميني يصرح بأن أموال الخمس ضخمة جداً، هذا في ذلك الوقت لما كان الإمام يحاضر في الحوزة، فكم هي ضخمة إذن في يومنا هذا؟
ويصرح الإمام أيضاً أن جزءاً واحداً من آلاف الأجزاء من هذه المالية الضخمة يكفي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، فماذا يفعل بالأجزاء الكثيرة المتبقية؟؟.
لا بد أن توزع على الفقهاء والمجتهدين حسب مفهوم قول الإمام الخميني.
ولهذا فإن الإمام الخميني كان ذا ثروة ضخمة جداً في إقامته في العراق حتى أنه لما أراد السفر إلى فرنسا للإقامة فيها فإنه حول رصيده ذلك من الدينار العراقي إلى الدولار الأمريكي وأودعه في مصارف باريس بفوائد مصرفية ضخمة.
إن فساد الإنسان يأتي من طريقين: الجنس والمال، وكلاهما متوافر للسادة.(2/18)
فالفروج والأدبار عن طريق المتعة وغيرها. والمال عن طريق الخمس وما يلقى في العتبات والمشاهد، فمن منهم يصمد أمام هذه المغريات، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم ما سلك هذا الطريق إلا من أجل إشباع رغباته في الجنس والمال؟؟!! أهـ (1)
5- الحشر:7-10
{
__________
(1) - لله ثم للتاريخ ص: 59-68 :وقال أيضًا عقب ذلك: " لقد بدأ التنافس بين السادة والمجتهدين للحصول على الخمس، ولهذا بدأ كل منهم بتخفيض نسبة الخمس المأخوذة من الناس حتى يتوافد الناس إليه أكثر من غيره فابتكروا أساليب شيطانية، فقد جاء رجل إلى السيد علي السيستاني فقال له: إن الحقوق -الخمس- المترتبة عليَّ خمسة ملايين، وأنا أريد أن أدفع نصف هذا المبلغ أي أريد أن أدفع مليونين ونصف فقط، فقال له السيد السيستاني: هات المليونين والنصف، فدفعها إليه الرجل، فأخذها منه السيستاني، ثم قال له: قد وهبتها لك -أي أرجع المبلغ إلى الرجل- فأخذ الرجل المبلغ، ثم قال له السيستاني: أدفع المبلغ لي مرة ثانية، فدفعه الرجل إليه، فقال له السيستاني: صار الآن مجموع ما دفعته إلي من الخمس خمسة ملايين فقد برأت ذمتك من الحقوق. فلما رأى السادة الآخرون ذلك، قاموا هم أيضاً بتخفيض نسبة الخمس واستخدموا الطريقة ذاتها بل ابتكروا طرقاً أخرى حتى يتحول الناس إليهم، وصارت منافسة (شريفة!!) بين السادة للحصول على الخمس، وصارت نسبة الخمس أشبه بالمناقصة وكثير من الأغنياء قام بدفع الخمس لمن يأخذ نسبة أقل."أهـ(2/19)
وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
والفَيْء : معناه في اللغة الرجوع. ومعناه في الشرع: ما أُخذ من أموال الأعداء من غير قتال. فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب: أي فما أسرعتم في السير اليه بخيل ولا إبل.
والمعنى الإجمالي للآيات (1) :
__________
(1) -انظر تفسير القرطبي(18/11-27) وابن كثير (4/335-340) والمنتخب ص:815-816 وغيرهم.(2/20)
يبين الله تعالى هنا حكْم ما أخذ من أموال بني النضير بعد ما حل بهم من الإجلاء ويقول: إن الأموال التي تركها بنو النضير في بيوتهم هي مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. لأن ما أفاءه الله وردّه على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموالهم قد تم مع أنكم أيها المسلمون لم تسرعوا إليهم بالخيل ولا بالإبل ولم تقاتلوهم، بل نزلوا على حكم الرسول الكريم، فالله يسلّط رسله على من يشاء,وهو على كل شيئ قدير.
روى أحمد (171) والبخاري(2748) ومسلم(1757) وأبو داود(2965) والترمذي(1719) والنسائي(1719) وغيرهم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " كانت أموال بني النضير مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ , فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً , يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَتِهِ, ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
ثم ذكرت الآية الثانية الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامةً فبين أن ما ردّه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله، وللرسول، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال، يُعطى ما يوصله الى بلده.(2/21)
وقال قومٌ - منهم الشافعي-:إن معنى الآيتين واحد, أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال يُقَسَّم على خمسة أسهم: أربعة منها للنبي, والخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم: سهمٌ للرسول,وسهم لذوي القربى- وهم بنو هاشم وبنو المطلب- لأنهم مُنعوا الصدقة فجُعِل لهم حقٌ في الفيء, وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. وأما بعد وفاة النبي فالذي كان من الفيء له يُصرف- عند الشافعي – في قول:إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور.
وفي قول آخر له: يُصرف في مصالح المسلمين (1) .
ثم بين الله تعالى في الآية أن ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام والشرائع فتمسكوا به، وما نهاكم عنه فاتركوه. ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه, وأمرهم أن يجعلوا بينهم وبين غضب الله وقاية, فقال: { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وكذلك يُعطى من الفيء الفقراءُ المهاجرون الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم. يرجون رضوان الله تعالى وفضله، وينصرون الله ورسوله بأنفسهم وأموالهم، أولئك هم المؤمنون الصادقون في أقوالهم وأفعالهم .
والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين، ولا يحسون فى نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفضل والمنزلة والتقديم والفيء، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون.
والمؤمنون الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل فى قلوبنا حقداً للذين آمنوا. ربنا إنك بالغ الرأفة والرحمة.
قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سَيُفتنون.
__________
(1) - ذكره القرطبي في تفسيره (18/11)(2/22)
وقالت عائشة: أُمِِرتُم بالاستغفار لأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فسببتموهم.
وقال العوّام بن حَوْشَب: أدركتُ صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذاكروا ما شَجَر بينهم فتُجسِّروا الناس عليهم. (1)
فالآيات بينت ثلاثة أصناف يستحق فقراؤهم من مال الفيء: وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين يدعون لمن سبقوهم بالإيمان حتى لا يكون المال متداولاً بين الأغنياء ويُحْرَمه الفقراء.
وقال عمر بن الخطاب: لقد استوعبت هذه-أي الآيات- المسلمين عامة, وليس لأحدٍٍٍ إلا وله فيها حق, ثم قال: لئن عشتُ ليأتين الراعي وهو بسَرو حِميَر نصيبه فيها, لم يعرق فيها جبينه" (2) .
قال القرطبي:
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوّءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم. فاجْهَدْ ألاّ تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شَمْساً، فإن لم تستطع فكن قَمَراً، فإن لم تستطع فكن كَوْكباً مضيئاً، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيراً، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجرياً. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصارياً. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة؛ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
__________
(1) - أنظر قول عائشة وابن عباس والعوام في تفسير القرطبي ( 18/26 ) وانظر:تفسير ابن كثير(4/339).
(2) - ذكره ابن كثير في تفسيره (4/340)(2/23)
وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: ياابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } الآية. قال لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قومٍ قال الله فيهم: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } الآية. قال لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام - وهي قوله تعالى { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } الآية- وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه، فسبّوا أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثم عثمان ـ رضي الله عنه ـ فأكثروا؛ فقال لهم: أمِنَ المهاجرين الأوّلين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا لا.(2/24)
فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قوموا، فعل الله بكم وفعل (1) !!
__________
(1) - الثابت من الروايات عند أهل السنة عن أئمة أهل البيت- وهو الموافق لبعض الروايات عند الشيعة الإمامية- أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما ويلعنون من يلعنهما ويتبرأون منه كما ثبت عن الإمام زيد بن علي بن الحسين فكان سببًا في انحراف الشيعة الإمامية عنه , وهو الثابت أيَضًا من كلام أخيه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق وابنه موسى الكاظم فهم ذرية طاهرة بعضها من بعض, وهذا هو المعقول إذ كيف يترضى عليهما الإمام زيد ثم يأتي أخوه محمد الباقر فيتبرأ منهما وأبوهما واحد ,و تعلما من مدرسة واحدة.رضي الله عنهم جميعًا. فقد ورد عن مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ : عَنْ سَالِمِ بنِ أَبِي حَفْصَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَابْنَه جَعْفَراً عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : يَا سَالِمُ ! تَوَلَّهُمَا ، وَابْرَأْ مِنْ عَدُوِّهِمَا ، فَإِنَّهُمَا كَانَا إِمَامَيْ هُدَىً . ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ : يَا سَالِمُ ! أَيَسُبُّ الرَّجُلُ جَدَّه ، أَبُو بَكْرٍ جَدِّي ، لاَ نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ- يَوْمَ القِيَامَةِ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَتَوَلاَّهُمَا ، وَأَبرَأُ مِنْ عَدوِّهِمَا. " وسالم بن أبي حفصة الذي روى هذا الأثر و محمد بن فضيل الراوي عنه كلاهما من الشيعة الثقات عند أهل السنة.
- وَقَالَ حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُوْلُ : " مَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةٍ عَلَيَّ شَيْئاً ، إِلاَّ وَأَنَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَه ، لَقَدْ وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ ".
- وعن عَبْدُ الجَبَّارِ بنُ العَبَّاسِ الهَمْدَانِيُّ : أَنَّ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ أَتَاهُم وَهُم يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنَ المَدِيْنَةِ ، فَقَالَ : إِنَّكُم - إِنْ شَاءَ اللهُ - مِنْ صَالِحِي أَهْلِ مِصرِكُم ، فَأَبلِغُوهُم عَنِّي : مَنْ زَعَمَ أَنِّي إِمَامٌ مَعصُومٌ ، مُفتَرَضُ الطَّاعَةِ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنِّي أَبْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ" .
- وعن حَنَانُ بنُ سَدِيْرٍ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، وَسُئِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ :" إِنَّكَ تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلَيْنِ قَدْ أَكَلاَ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ ".
- وعن أَسْبَاطُ بنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ قَيْسٍ المُلاَئِيُّ ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ يَقُوْلُ : "بَرِئَ اللهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ".وقد ذكر هذه الآثار وغيرها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (6/256) في ترجمته للإمام جعفر الصادق ثم قال الذهبي:
هَذَا القَوْلُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، وَأَشْهَدُ بِاللهِ إِنَّهُ لَبَارٌّ فِي قَوْلِهِ ، غَيْرُ مُنَافِقٍ لأَحَدٍ ، فَقَبَّحَ اللهُ الرَّافِضَّةَ "أهـ.(2/25)
ذكره النحاس.
ثم قال القرطبي: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن مَن سبهَّم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شرَّاً إنه لا حق له في الفيء؛ روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يُبْغِض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حق في فَيْء المسلمين؛ ثم قرأ { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية.أهـ (1)
ومن الشيعة قال الطبرسي في المجمع:
ذكر سبحانه حكم الفيء فقال { ما أفآء الله على رسوله من أهل القرى } أي من أموال كفار أهل القرى { فللَّه } يأمركم فيه بما أحب { وللرسول } بتمليك الله إياه { ولذي القرى } يعني أهل بيت رسول الله وقرابته وهم بنو هاشم { واليتامى والمساكين وابن السبيل } منهم لأن التقدير ولذي قرباه ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم, وروى المنهال بن عمرو عن علي بن الحسين (ع) قال: قلت قوله { ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } قال: هم قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا, وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وأبناء السبيل وقد روي أيضاً عنهم(ع), وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنه قال: كان أبي يقول: لنا سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي , والظاهر يقتضى أن ذلك لهم سواء كانوا أغنياء أو فقراء .أهـ (2)
6- النمل:15-16
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ }
__________
(1) - تفسير القرطبي ( 18/25)
(2) - مجمع البيان للطبرسي ( 9/431)(2/26)
والمعنى:
لقد آتينا داود وسليمان علماً كثيراً بالشريعة ودراية بالأحكام، فأقاما العدل وحمدا الله الذى منحهما فضلاً على كثير من عباده الصادقين المذعنين للحق. ويتبين لنا من هذه الآية الكريمة فضلُ العلم وشرفه وشرف أهله، وأن الإسلام قام على العلم كما ورد في أول ما نزل منه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }[العلق:1-5] وفي آيات كثيرة، كقوله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[ المجادلة: ]
وقد آل الحكم والنبوة من داود إلى سليمان ابنه، وقال: يا أيها الناس عُلِّمنا لغةَ الطير، وأوتينا كثيرًا مما نحتاج إليه فى سلطاننا , إن هذه النعم لَهِي الفضل الواضح الذى خصنا الله به.
قال ابن كثير:(2/27)
وقوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي: في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك، لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداوُد مائة امرأة، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة " وقال: { وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي: أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله، ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود، كما قد يتفوه به كثير من الناس، فهو قول بلا علم، ولو كان الأمر كذلك، لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة، إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم، ويعرف ما تقول، وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها، ولهذا قال تعالى: { النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ } أي مما يحتاج إليه الملك، { إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي: الظاهر البين لله علينا.أهـ (1)
أما عند الشيعة الاثنى عشرية :
قال الفيض الكاشاني:
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } المُلك والنبوّة.
إلى أن قال:
__________
(1) - تفسيرابن كثير ( 3/370 )(2/28)
وفي البصائر: عنه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لابن عبّاس: إن الله علّمنا منطق الطّير كما علّم سليمان بن داوُد عليه السلام ومنطق كلّ دابّة في برّ وبحر.
وعَنه عليه السلام: أنّ سُليمان بن داود (ع) قال :علّمنا منطق الطّير واُوتينا من كلّ شيء, وقد والله علّمنا منطق الطّير وعلم كلّ شيء.
وفي الكافي: عن الكاظم عليه السلام قال: إنّ الإِمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه الروح ومن لم تكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام!!.
وعن الباقر: عليه السلام انّه وقع عنده زوج ورشان على الحائط فهدلا هديلهما فردّ عليهما كلامهما فمكثا ساعة ثمّ نهضا فلمّا طارا على الحايط هدل الذكر على الانثى ساعة ثم نهضا فسئل (ع) ما هذا الطير فقال كلّ شيء خلقه الله من طير وبهيمة او شيء فيه روح فهو اسمع لنا واطوع من ابن آدم انّ هذا الورشان ظنّ بامرأته فحلفت له ما فعلت فقالت ترضى بمحمّد بن عليّ (ع) فرضيا بي فأخبرته أنّه لها ظالم فصدّقها.
والأخبار في هذا المعنى عنهم عليهم السلام كثيرة.أهـ (1)
وقال الطبرسي (2) : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } في هذا دلالة على أن الأنبياء يورثون المال.أهـ
وقال الطوسي:
اخبر الله تعالى أن سليمان ورث داود. واختلفوا فيما ورث منه، فقال أصحابنا إنه ورث المال والعلم. وقال مخالفونا: إنه ورث العلم، لقوله (صلى الله عليه وسلم) " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ".
وحقيقة الميراث هو انتقال تركة الماضي بموته إلى الثاني من ذوي قرابته. وحقيقة ذلك في الأعيان، فاذا قيل ذلك في العلم كان مجازاً. وقولهم: العلماء ورثة الأنبياء، لما قلنا. والخبر المروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) خبر واحد، لا يجوز أن يخص به عموم القرآن ولا نسخه به.أهـ (3)
ونقول وبالله التوفيق:
__________
(1) - تفسيرالصافي ( 4/60-61 )
(2) - مجمع البيان(7/368)
(3) -التبيان (8/82-83)(2/29)
أولًا:أما زعمهم بأن الأئمة عُلَّموا منطق الطير فكلام لا دليل عليه إلاّ في أوهامهم ورواياتهم التي وضعها لهم الكذابون. وأهل البيت رضي الله عنهم لهم مناقبهم وفضائلهم التي تغنيهم عن كذب الكذابين الذين يريدون بذلك أن يعطوا آل البيت رضي الله عنهم علم الأنبياء السابقين, وما تفضل الله به عليهم. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد الأنبياء قد ترك الجنيَّ الذي أمسك به أدبًا منه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قول سليمان:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }{ص:35} والحديث رواه البخاري(449) ومسلم (541) وغيرهما عن أَبَي هُرَيْرَةَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ, وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ, فَذَعَتُّهُ, فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ أَوْ كُلُّكُمْ, ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ:{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا".وأيضًا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم لغات غير العرب لذلك كان يراسل الملوك- كما هو معلوم- باللغة العربية ولم يراسلهم بلغاتهم . وكذلك لم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم لغة يهود , ولم يعرف ما يقصده اليهود بقولهم له (راعنا) حتى نزل القرآن ونهى المؤمنين عن أن يقولوا هذه الكلمة, لأن اليهود يقولونها ويقصدون بها المعنى السيىء, بخلاف المؤمنين (1)
__________
(1) - المؤمنون كانوا يقولون:(راعنا) أمر من المراعاة, أما بلغة اليهود فهي سبٌّ من الرعونة يقصدون بها:اسمع لا سمعت.(عامَلَهم الله بما يستحقون)..(2/30)
,فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[البقرة:104] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود فتعلمها. هذا وهو سيد الناس فما بالك بغيره؟
ثانيًا: قول بعض الشيعة:حقيقة الميراث تكون في وراثة المال ,أما في وراثة العلم فتكون مجازًا, وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة, فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام النبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب ,وقد صح عنه أن الأنبياء لم يورثوا مالاً وإنما ورثوا العلم, ولو سلمنا أنَّه مجاز فإنَ هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة, ولا نُسَّلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط, بل صار لغلبة الإستعمال في العرف مختصًا بالمال, ولكن في الأصل إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح, وورد مثل ذلك في إستعمال القرآن العظيم ومن ذلك قوله تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ }[فاطر:32 ] وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }[الشورى:14] إلى غير ما آية.
ثالثًا:الميراث الذي ورثه سليمان من أبيه داود عليه السلام هو النبوة والحكم لا المال كما يقول مفسرو الاثنى عشرية. لأنه لو كان المقصود المال لما كان ثمة فائدة لذكر سليمان دون سائر أبناء داود عليه السلام, فأين ذكر باقي أولاده وزوجاته الذين لهم حق في الميراث مع سليمان ؟.(2/31)
وكذا استدلالهم بقول الله تعالى عن زكريا عليه السلام: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }{مريم:5-6}
فهل يُعقل أو يليق بنبيٍّ كريم كزكريا عليه السلام أن يسأل الله تعالى ولدًا كي يرثه في المال, وأي مال عنده سيرثه ولده؟ وكان زكريا عليه السلام فقيرًا يعمل نجارًا , والأنبياء يتصدقون كثيرًا, فلا يبقون مالاً, بل سأل زكريا عليه السلام ربه أن يهب له ولدًا يرثه في النبوة والعلم, ولذلك قال: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يعقوب) فاختار سلالة النبوة, فلو كان يعني وراثة المال لما ذكر يعقوب وآله لأنهم كثيرون جدًا, فكم سيكون نصيب يحي عليه السلام من المال الذي سيرثه من يعقوب وآله وبين يعقوب وزكريا عليهم السلام ما يقرب من ألفي سنة؟(2/32)
وقد جاءت السنة الصحيحة بأن الأنبياء لا يورثون, والحديث في الصحيحين وغيرهما (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنا لا نورث, ما تركنا صدقة "وفي لفظ"ما تركناه صدقة" وفي آخر:"ما تركنا فهو صدقة". وفي مسند أحمد(172) عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ:سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ قَالَ: قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ" وأصله في الصحيحين:البخاري(5043) ومسلم(1757) وفيه: فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَلَى الْعَبَّاسِ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ أَتَعْلَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَم " ْفهذا الحديث – كما هو واضح- رواه وأقر به وبمعناه من الصحابة الكثير: أبو بكر وعائشة وعثمان وعمر بل وعليٌّ نفسه والعباس من آل البيت, وعبد الرحمن بن عوف,وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وأبو هريرة وأبو الدرداء .فقد أقر بالحديث كما ترى كبار الصحابة :منهم تسعة من العشرة المبشرين بالجنة,ومنهم الخلفاء الراشدون الأربعة, وعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - أحمد(25) والبخاري(2926) ومسلم(1759) وأبو داود (2968) وابن خزيمة(2353)وغيرهم. وفي هذه الروايات بألفاظها يتضح بطلان قول بعض الشيعة : إن( ما) نافية (وصدقة) مفعول به, وهذا تحريف للكلم عن مواضعه ويرده قول : (لا نورث) و(لا يقتسم ورثتي دينارا) و(ما تركنا فهو صدقة)وغير ذلك . وهل هذا إلا كمثل الرجل الذي ادعى النبوة وسمى نفسه باسم(لا) وحرَّف حديث " لا نبي بعدي " بأن لفظ " نبي " خبر مرفوع والمراد بـ(لا) نفسه وقال : إن نبيكم أخبر بنبوتي.(2/33)
وفي الصحيحين:البخاري(2624) ومسلم(1760) ومسند أحمد(7301) عن أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ" ورواه أحمد ( 9973) بلفظ:" إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ, مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ" وفي الحديث الصحيح أيضًا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم" إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا, وإنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (1)
فلا حجة في قول بعضهم إنّ الحديث هو حديث آحاد لا يُنسخ به القرآن ولا يُخصص به, لما قد علمت عدد من روى الحديث وجلالة من أقر بهذا الحديث من الصحابة.ثم مَن قال إن أحاديث الآحاد لا تخصص القرآن؟, نعم هي لا تنسخ القرآن على قول الأكثرين, ولكنها تخصصه -كما هو معلوم - عند الجميع, وليس في الآية نسخ , إنما نريد بيان وتفسير معنى الميراث في الآية, ومقررٌ عند العلماء أن السُّنة الصحيحة – أحاد كانت أو متواترة- تبيّن القرآن وتفسره, فهي تخصص العام وتقيد المطلق وتبيّن المجمل, لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }{النحل:44}.والعجيب أن قول أحد الأئمة الاثنى عشر- عندهم- يخصص عام القرآن ويبين مجمله فما بالك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
__________
(1) - رواه أحمد(21763) والترمذي(2682) وأبو داود(3641) وابن ماجة(223) وابن حبان(88) وغيرهم, وعلقه البخاري في صحيحه(1/37) جازمًا به.(2/34)
أضف إلى ذلك أنه قد ورد عندهم بعض الروايات التي تؤكد أن الأنبياء لم يورثوا مالاً وإنما ورثوا العلم, كما رواه الكليني في الكافي(1/32) [بَابُ صِفَةِ الْعِلْمِ وَ فَضْلِهِ وَ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ] بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ, وَ ذَاكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَماً وَ لَا دِينَاراً, وَ إِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْ ءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظّاً وَافِراً"
وكلمة (إنما) مفيدة للحصر قطعًا باعتراف الشيعة فيُعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث (1) .
وكذلك ما رواه الكليني في الكافي (1/225) عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ): إِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ , وَإِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ سُلَيْمَانَ". فإن وراثة المال بين نبينا محمد وسليمان عليهما الصلاة والسلام غير متصورة بأي وجه كما هو واضح. فتبين أن المراد وراثة العلم والنبوة.
7- سورة الطلاق:1-2
{
__________
(1) - أنظر تفسير الألوسي(4/218) وقال هنالك: وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه-أي بموجب الحديث- فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعًا.أهـ(2/35)
ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }
والمعنى:
وجّه الله تعالى الخطاب الى النبيّ الكريم والأمة معه، أن يتقيدوا بأحكام الشريعة، فاذا أراد أحد أن يطلّق زوجته فإن عليه أن يراعي وقتَ طُهرها من الحيض فيطلّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه, حتى لا تطول عليها مدة العدة. روى البخاري(4625) ومسلم(1471) وأبو داود(2179) والترمذي(1176 ) والنسائي(3389) وغيرهم " عن ابن عمر رضي الله عَنْهُمْا أَنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله، فتغيّظ منه ثم قال: لِيراجعْها ثم يمسكْها حتى تطهُر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلقها قبل أَن يمسّها، فتلك العِدةُ التي أمَرَ اللهُ ان تطلَّق لها النساء ". ثم أكد ذلك بقوله تعالى: { وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ } أي:اضبطوها بأن تعرفوا ابتداءها وانتهاءها. { وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ } بمحافظتكم على أوامره وعدم مخالفتها .
ثم بين أنّ المطلقة تبقى في بيتها حتى تنقضيَ العدة. فقال: { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } و في إبقاء المطلقة في بيتها مصلحة كبيرة عسى أن يراجعَ الزوج رأيَه، ويعاودَ أمره، فيراجعَ زوجته وتعود الحياة الى مجراها الطبيعي.(2/36)
ولا يجوز أن تخرج المطلقة من بيتها إلاّ إذا انتهت العِدة، فلا يخرجها الزوج كرهًا, ولا تخرج بنفسها إن أرادت, ولكنه استثنى من لزوم البقاء في بيوت الزوجية إذا دعت الضرورة لذلك كأن فعلتْ ما يوجِب حدّاً كالزنا او السرقة او أطالت اللسان على الأحماء ومن في البيت من سوءِ خلقها، فيحل عند ذلك إخراجها من البيت.
ثم بيّن الله تعالى عاقبة من تجاوز حدود الله التي بينها من الطلاق للعدة وإحصائها وما يترتب على ذلك.وأنه بهذا التجاوز قد ظلم نفسه.
والشريعة الإسلامية، وإن أباحت الطلاق فقد أباحته للحاجة الماسّة أو الضرورة, لذلك لا يُلجأ إليه إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاءِ رباط الزوجية الذي هو أوثق رباط ، وسماه الله تعالى:{ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [النساء:21]
وبعد أن أمرَ اللهُ تعالى بأن يكون الطلاق حسب ما أمَرَ به وأن يكون طلقة واحدة رجعيّة، وَمَنَعَ خروج المطلقة من المنزل أو إخراجها إلا إذا أتت بفاحشة، ونهى عن تعدِّي تلك الحدود حتى لا يحصَلَ الضرر والندم - خيَّرَ هنا الرجلَ بين أمرين إذا شارفتْ عدةُ امرأته على الانتهاء: إما أن يراجعَها ويعاشرَها بالمعروف والإحسان، وإما أن يفارقَها مع أداءِ حقوقها التي لها ويُكرمها بقدر ما يستطيع.
ثم أمر بالإشهادِ على الطلاق أو على الرجعة فقال:{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }.
وخاطب الشهودَ بأن يشهدوا على الحق ويؤدوا أمانتهم، وهي الشهادة، على وجهها خالصة لله.
وما أمر الله به من الأحكام التي شرعتها ليتعظ بها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيعمل بها ولا يخرج عن طاعة الله.ومن يتق الله بتنفيذ أوامره وعدم تعد حدود الله يجعل له من كل ضيقٍ أو كربٍ مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يدري ولا يحتسب. (1)
__________
(1) -أنظر تفسير الصابوني(3/398-399) وتفسير ابن كثير (4/377-378) والسعدي(ص:865-866)المنتخب ص:834 وغيرهم.(2/37)
* وهنا يظهر سؤال: هل الأمر في قوله تعالى: :{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} للوجوب, فيلزم منه الإشهاد على الطلاق؟ أم الأمر للندب فلا يلزم الإشهاد؟
والجواب: عند أهل السنة أن هذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه, وليس واجبًا وذلك كقوله تعالى: { وَأَشْهِدُو?اْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ }[البقرة: 282] ومعلوم أنه لا يلزم الإشهاد على البيع إذ كان الصحابة يتبايعون بلا إشهاد, ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم , وظل الأمر على ذلك , فعُلم بذلك أن الأمر للندب لا للوجوب , وكذلك الأمر بالإشهاد على الطلاق, ويرى الشافعية أن الإشهاد واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة.
وقالوا :إن الطلاق يقع بدون إشهاد لأنه من حقوق الزوج , وقد جعله الله تعالى بيد الزوج وحده فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ }[الأحزاب:49 ] وقال:{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }[البقرة:231] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (1) فلا يحتاج الزوج إذًا إلى بينة كي يمارس حقه, ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ما يدل على الإشهاد عند الطلاق.وعلى ذلك من طلق زوجته ولم يشهد على ذلك فطلاقه صحيح ويقع.
أما عند الشيعة الاثنى عشرية فذهبوا إلى أن الأمر بالإشهاد للوجوب, فيشترط الإشهاد في صحة الطلاق, ولا يقع الطلاق بدون إشهاد.
قال الفيض الكاشاني:
{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ } على الطلاق. القمّي: معطوف على قوله اذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدتهنّ.
__________
(1) - رواه ابن ماجة(2081) وحسنه الألباني(2/38)
في الكافي: عن الكاظم عليه السلام قال لأبي يوسف القاضي: إنّ الله تبارك وتعالى أمر في كتابه بالطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين وأمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود فأثبتم شاهدين فيما أهمل وأبطلتم الشاهدين فيما أكّد.
{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ } أيّها الشهود عند الحاجة { لِلَّهِ } خالصاً لوجهه { ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً }.أهـ (1)
وقال الطبرسي في المجمع:
{وأشهدوا ذوي عدل منكم } قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم وهو المروي عن أئمتنا (ع) وهذا أليق بالظاهر لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط صحة الطلاق , ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب.أهـ (2)
وقال الطوسي: وقوله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فعند أصحابنا أن الإشهاد شرط في وقوع الطلاق ، لأن ظاهر الأمر بذلك يقتضيه. والأمر عندنا على الوجوب.أهـ (3)
فوائد ذات صلة:
الأولى: روى أبو داود(2186) وابن ماجه(2025) - بسند صحيح - عن عمران بن حصين أنه سُئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد.
وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: { وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ } قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله عز وجل، إلا أن يكون من عذر.
__________
(1) - الصافي ( 5/186-188)
(2) - مجمع البيان (10/ 43-44) وانظر نور الثقلين(5/352) وزبدة البيان للأردبيلي(ص:585)
(3) - التبيان(10/32)(2/39)
وقد ذكر صاحب فقه السنة (1) : أن عليّ بن أبي طالب وعمران بن حصين رضي الله عنهما من الصحابة, وعطاء وابن جريج وابن سيرين رحمهما الله من التابعين ذهبوا إلى اشتراط الشهود في الطلاق كما ذهب إليه الإمام محمد الباقر وابنه جعفر الصادق وبنوهما رضي الله عنهم .
الثانية : الطلاق السُّني هو أن يطلق الرجل زوجته في طهرٍ لم يجامعها فيه, فإن طلقها في حيض أو في طهرٍ جامعها فيه أو ثلاث تطليقات في لفظ واحد كمن يقول لزوجته :أنت طالق ثلاثًا, كان هذا كلّه خلاف السنة ويسمى طلاقًا بدعيًا.واختلف العلماء في الطلاق البدعي هل يقع أم لا؟
جمهور أهل السنة:على أنّه يقع, مع الإثم لمخالفته أمر الله تعالى في أحكام تطليق النساء.
وذهب ابن تيمية وآخرون على أن الثلاث تطليقات في مرة واحدة تحسب طلقة واحدة فقط. وعليه الفتوى في عصرنا.
أما عند الشيعة الإمامية فالطلاق البدعي لا يقع مطلقًا.
قال الطبرسي:
وظاهر الآية يقتضي أنه إذا طلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه فلا يقع الطلاق لأن الأمر يقتضي الإيجاب وبه قال سعيد بن المسيب وذهبت إليه الشيعة الإمامية.
وقال باقي الفقهاء يقع الطلاق وإن كان بدعة وخلاف المأمور به وكذلك إن جمع بين التطليقات الثلاث فإنها بدعة عند أبي حنيفة وأصحابه وإن كانت واقعة, وعند المحققين من أصحابنا- يعني الاثنى عشرية- يقع واحدة عند حصول شرائط صحة الطلاق, والطلاق في الشرع عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح وذلك أن يقول:أنت طالق يخاطبها, أو يقول: هذه طالق ويشير إليها, أو يقول: فلانة بنت فلان طالق, ولا يقع الطلاق عندنا إلا بهذا اللفظ لا بشيء من كنايات الطلاق سواء أراد بها الطلاق أو لم يرد بها .أهـ (2)
__________
(1) - سيد سابق/ فقه السنة (2/166)
(2) - مجمع البيان (10/38)(2/40)
الثالثة: أخرج أحمد (21591) والدارمي(2725) وابن ماجة(4220)، وابن حبان(6669) والحاكم(3819) وصححه- وضعفه الألباني وغيره لانقطاعه- عن أبي ذرّ قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فجعل يردّدها حتى نعست، ثم قال: " يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم ".
- وقال عبد الله بن مسعود : إن أجمع آية في القرآن:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ } [النحل: 90] وإن أكثر آية في القرآن فرجاً: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }.
- وروى أبو داود في سننه(2197)- وصححه الألباني- عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس, فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثًا, قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه, ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحَموقة ثم يقول: يا ابن عباس, يا ابن عباس, وإن الله قال { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجًا, عصيت ربك, وبانت منك امرأتك, وإن الله قال { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل عدتهن".
* * *
8- آيات المواريث من سورة النساء (الآيات: 11-12-167):(2/41)
قال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي? أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُو?اْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12) }
والمعنى:(2/42)
يوصيكم الله ويأمركم في شأن أولادكم: إذا مات أحد منكم وترك أولادًا: ذكورًا وإناثًا، فميراثه كله لهم: للذكر مثل نصيب الأنثيين، إذا لم يكن هناك وارث غيرهم. فإن ترك بناتٍ فقط فللبنتين فأكثر ثلثا ما ترك، وإن كانت ابنة واحدة، فلها النصف. ولوالِدَي الميت لكل واحد منهما السدس إن كان له ولدٌ: ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو أكثر. فإن لم يكن له ولد وورثه والداه فلأمه الثلث ولأبيه الباقي. فإن كان للميت إخوة اثنان فأكثر، ذكورًا كانوا أو إناثًا، فلأمه السدس، وللأب الباقي ولا شيء للإخوة. وهذا التقسيم للتركة إنما يكون بعد إخراج وصية الميت في حدود الثلث أو إخراج ما عليه من دَيْن , والدَيْن يقدم على الوصية, آباؤكم وأبْناؤكم الذين فُرِض لهم الإرث لا تعرفون أيهم أقرب لكم نفعًا في دنياكم وأخراكم، فلا تفضلوا واحدًا منهم على الآخر. هذا الذي أوصيتكم به مفروض عليكم من الله. إن الله كان عليمًا بخلقه، حكيمًا فيما شرعه لهم.(2/43)
* ولكم -أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن إن لم يكن لهن ولد ذكرًا كان أو أنثى، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن، ترثونه من بعد إنفاذ وصيتهن الجائزة شرعًا، أو ما يكون عليهن من دَيْن لمستحقيه. ولزوجاتكم - أيها الرجال - الربع مما تركتم، إن لم يكن لكم ابن أو ابنة منهن أو من غيرهن، فإن كان لكم ابن أو ابنة فلهن الثمن مما تركتم، يقسم الربع أو الثمن بينهن بالسوية، فإن كانت زوجة واحدة كان هذا الربع أو الثمن ميراثًا لها، من بعد إنفاذ ما كنتم أوصيتم به من الوصايا الجائزة، أو قضاء ما يكون عليكم من دَيْن. وإن مات رجل أو امرأة وليس له أو لها ولد ولا والد، وله أو لها أخ أو أخت من أمٍّ فلكل واحد منهما السدس. فإن كان الإخوة أو الأخوات لأم أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يقسم بينهم بالسوية , نصيب الذكر منهم مثل نصيب الأنثى، وهذا الذي فرضه الله للإخوة والأخوات لأم يأخذونه ميراثًا لهم من بعد قضاء ديون الميت، وإنفاذ وصيته إن كان قد أوصى بشيء لا ضرر فيه على الورثة. بهذا أوصاكم ربكم وصية نافعة لكم. والله عليم بما يصلح خلقه، حليم لا يعاجلهم بالعقوبة (1) .
__________
(1) - التفسير الميسر(156-157) وتفسير الجلالين(1/99-100) وتفسير البغوي(2/172- 179) والقرطبي(5/48-70) وابن كثير(1/457-461) والشوكاني (1/431-435) وغيرها من تفاسير أهل السنة .وانظر من تفاسير الشيعة:تفسير البيان للطوسي(3/128- 139) ومجمع البيان للطبرسي(3/27-37)وجمع الجوامع للطبرسي (1/378-380) والتفسير الصافي(1/426-428) والقمي(1/133) ونور الثقلين(1/450-456) وتفسير شبر(ص:109) وتفسير الميزان للطباطبائي(4/212-233 ) وغيرهم.(2/44)
وقال تعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُو?اْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
والمعنى:
يسألونك -أيها الرسول- عن حكم ميراث الكلالة، وهو من مات وليس له ولدٌ ولا والد، قل: الله يُبيِّن لكم الحكم فيها: إن مات امرؤ ليس له ولد ولا والد، وله أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط، فلها نصف تركته، ويرث أخوها جميع مالها إذا كان أخًا شقيقًا أو أخًا لأب إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد. فإن كان لمن مات كلالةً أختان فلهما الثلثان مما ترك. وإذا اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث فللذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته. يُبيِّن الله لكم قسمة المواريث وحكم الكلالة، لئلا تضلوا عن الحقِّ في أمر المواريث. والله عالم بعواقب الأمور، وما فيها من الخير لعباده (1) .
* وهذه الآيات الكريمة ذكرت أصحاب الفروض وهم الذين لهم فرض- أي سهم- من الفروض الستة المعيَّنة لهم وهي : النصف والربع ,والثمن, والثلثان, والثلث, والسدس.
__________
(1) - التفسير الميسر(209) و تفسير الجلالين(1/133) و تفسير الطبري(9/ 430-442) وتفسير البغوي(2 /316- 317) والقرطبي(6/24-25) وابن كثير(1/593-595) والشوكاني (1/543-544) وغيرها.وانظر من تفاسير الشيعة:تفسير القمي(1/160) و الطوسي(3/407) ومجمع البيان للطبرسي(3/252-256) وجمع الجوامع له(1/466) والتفسير الصافي (1/525-526) ونور الثقلين (579-583) وتفسير شبر(ص132) وتفسير الميزان للطباطبائي(5/156) وغيرهم.(2/45)
وأصحاب الفروض اثنا عشر:أربعة من الذكور وهم: الأب , والجد الصحيح وإن علا, والأخ لأم, والزوج. وثمان من النساء وهن: الزوجة, والبنت, والأخت الشقيقة , والأخت لأب , والأخت لأم , وبنت الابن , والأم , والجدة الصحيحة وإن علت.
والجد – وإن لم يكن له ذكر مباشر في هذه الآيات- إلا أنه يرث نصيب الأب عند عدم وجود الأب , وذلك لأدلةٍ :
منها : أن الله تعالى سمّى الجد أبًا كما في قوله تعالى:{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" (1) وفي مسند أحمد (16157) بسند صحيح عن ابن الزبير, ونحوه في سنن البيهقي ( 12197) بسند صحيح عن ابن عباس قال: إن الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذته خليلاً- يعني أبا بكر رضي الله عنه- جعل الجد أبًا"
وجاءت السنة بنصيب الجد فقد روى أحمد(19861) وأبو داود(2896)
والترمذي (2099) وصححه (2) عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه ؟ فقال " لك السدس " فلما أدبر دعاه فقال " لك سدس آخر " فلما أدبر دعاه فقال " إن السدس الآخر طعمة ".
__________
(1) - صحيح:رواه أحمد(16576) والبخاري(2743) وابن حبان(16576) عن سلمة بن الأكوع , وكذا أحمد(3444) وابن ماجة(2815) والحاكم(2464)عن ابن عباس, ورواه الحاكم(2465) عن أبي هريرة .
(2) - وضعفه الألباني وغيره لأن الحسن البصري لم يسمع من عمران بن حصين, ولعل الترمذي صححه لحديث معقل بن يسار فإنه قال(4/419): هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن معقل بن يسار. أهـ(2/46)
قال قتادة:فلا يدرون مع أي شىء ورثه, قال قتادة :أقل شيء ورث الجد السدس". وفي سنن ابن ماجة(2723) وغيره: عن معقل ابن يسار قال : قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جدٍ كان فينا بالسدس (1) .
* وبالنسبة لميراث الجدة فإنها لا ترث إلا في عدم وجود الأم, وقد جاءت السنة بأن لها السدس, روى أحمد (18009)وأبو داود (2894) والترمذي(2101) وابن ماجة(2724): عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال:
: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله تعالى شيء وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله تعالى شيء وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما وأيتكما ما خلت به فهو لها" وفي رواية أخرى لأحمد(18007) عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب: أن أبا بكر رضي الله عنه قال : هل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي لها بالسدس, فقال: هل سمع ذلك معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فقال:شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي لها بالسدس. فأعطاها أبو بكر السدس" (2)
__________
(1) - ورواه أيضًا أبو داود ( 2897) والبيهقي(12189),وصححه الألباني.
(2) - قال شعيب الأرنؤوط : صحيح لغيره, وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين.(2/47)
* وقد وافق الشيعة الإمامية أهل السنة في تقسيم الفرائض بالأنصبة المذكورة في آيات المواريث. ولكن الشيعة الإمامية ينكرون العول ويقولون ببطلان التعصيب (1) .
أولاً: التعصيب:
العصبة:هم بنو الرجل وقرابته لأبيه.والعصبة يستحقون باقي التركة - إن تبقى منها شيء- بعد أن يأخذ أصحاب الفروض أنصبتهم المقدرة لهم.فإن لم يوجد أحدٌ من أصحاب الفروض استحق العصبة التركة كلها وذلك للحديث الصحيح الذى رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]. فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته مَن كانوا. فإن ترك دينًا أو ضياعَا فليأتني وأنا مولاه (2) ".
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (3) " .
: أي: أعطوا الفرائض - وهي الأنصبة والأسهم المقدرة بالنص- لأهلها, وما بقي فلأقرب ذكر من العصبة إلى الميت.
__________
(1) - أنظر:تفاسير الشيعة الإمامية السابق ذكرها. وكذا كتب الحديث والفقه عندهم.
(2) - صحيح: رواه أحمد(8399) والبخاري(4503) ومسلم(1619) والبيهقي(12148) وغيرهم.
(3) - صحيح: رواه أحمد(2657) والدارمي(2987) وابن أبي شيبة(31133) والبخاري(6351) ومسلم(1615) والترمذي(2098) وابن ماجة(2740) وابن حبان(6028) والدارقطني(4/71) والحاكم(7973) والبيهقي(12116) وابن الجارود في المنتقى(955) وغيرهم.(2/48)
فالمراد بالتعصيب هنا توريث العصبة مع ذي فرض قريب، كما إذا كان للميت بنت أو أكثر، وليس له ولد ذكر، وله أخ,أو لم يكن له أولاد أصلا لا ذكور ولا إناث، وله أخت أو أخوات، وليس له أخ، وله عم، فإن أهل السنة يجعلون أخا الميت شريكًا مع ابنته أو بناته، فيأخذ الأخ مع البنت النصف، ويأخذ مع البنتين فأكثر الثلث، كما يجعلون العم أيضًا مع الأخت أو الأخوات كذلك لأنه أقرب ذكر للميت. وهذا هو الموافق لقوله تعالى: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}[النساء:7] ولحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الشيعة الإمامية فيخالفون في ذلك ويقولون: إن التعصيب باطل، وإن ما بقي من الفرض يجب رده على صاحب الفرض القريب ، فالتركة بكاملها- في المثال السابق- للبنت أو البنات، وليس لأخي الميت شيء، وإذا لم يكن له أولاد ذكور ولا إناث، وكان له أخت أو أخوات، فالمال كله للأخت أو الأخوات، ولا شيء للعم، لأن الأخت أقرب، والأقرب يحجب الأبعد.
قال محمد جواد مغنية (1) : والشيعة الإمامية لا يثقون بحديث طاوس، وينكرون نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الراوي ضعيف عندهم، ولو وثقوا به لقالوا بمقالة السنة، كما أن أهل السنة لولا ثقتهم بهذا الحديث لقالوا بمقالة الشيعة الإمامية (2) ."أهـ
وأدلتهم على بطلان التعصيب هي:
__________
(1) - مجلة رسالة الإسلام العدد 50 ص:138 - المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
(2) - بل لو فرضنا جدلاً ضعف الحديث أو حتى عدم وجوده , ما كان لأهل السنة أن يقولوا بمقالة الشيعة الإمامية بإبطال التعصيب لوجود نصوص أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم كحديث أبي هريرة, وفي بعضها قسم الأنصبة على أصحابها كحديث ابنتي سعد بن الربيع وغيره. ولذلك أجمع الصحابة على القول بالتعصيب.(2/49)
1- قوله تعالى: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } (1) [سورة الأنفال:الآية 75 ]
2- وقوله تعالى :{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [سورة النساء:7]
3- ومخالفة التعصيب للمنقول عن أئمة أهل البيت عندهم إذ يقولون بنفي التعصيب.
واستدلالهم بعموم الآيتين هنا لا يستقيم (2)
__________
(1) - بعد الهجرة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار وورث بعضهم من بعض , حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.أنظر تفسير الشوكاني(2/331) .
(2) - وقد استدل القاضي شريح بعموم آية الأنفال في مسألة ميراث ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم , فأنكر عليه عليٌّ رضي الله عنه, كما في سنن البيهقي(12157) بسنده عن حكيم بن عقال قال : أتى شريح في امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها فأعطى الزوج النصف وأعطى الأخ من الأم ما بقى فبلغ ذلك عليًا رضي الله عنه فأرسل إليه فقال ادعوا لي العبد الأبطر فدعي شريح فقال: ما قضيت؟ قال: أعطيت الزوج النصف , والأخ من الأم ما بقي. فقال علي رضي الله عنه: أبكتاب الله أم بسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بل بكتاب الله .فقال: أين؟ قال شريح: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فقال علي رضي الله عنه: هل قال للزوج النصف ولهذا ما بقي؟. ثم أعطى عليّ رضي الله عنه الزوج النصف والأخ من الأم السدس , ثم ما بقي قسمه بينهما.
وفيه أيضًا (12159) بسنده عن الشعبي : امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها في قول عليٍَ وزيد رضي الله عنهما: للزوج النصف وللأخ من الأم السدس وهما شريكان فيما بقي. وفي قول عبد الله: للزوج النصف وللأخ من الأم ما بقي. قال يزيد(أحد الرواة): بقول عليٍّ وزيد رضي الله عنهما يؤخذ ". أنظر سنن البيهقي (6/239):باب ميراث ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم.(2/50)
فالآيتان بعمومهما لا يدلان على نفي التعصيب كما هو واضح, لأن العصبة من الأقارب وأولي الرحم, وهم كذلك من الرجال الذين قال الله فيهم { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } ولذلك نجد أهل السنة مع قولهم بالتعصيب يستدلون بنفس الآيتين في مسائل المواريث. وأرى أن الشيعة الإمامية ما لجأوا إلى ذلك إلا بسبب تمسكهم بالروايات المنسوبة عندهم إلى أئمة أهل البيت. وأهل السنة لا يثقون برواياتهم لكثرة كذبهم على أئمة أهل البيت.وخاصة أن هذه الروايات تخالف ظاهر القرآن والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتخالف أيضًا قول علي بن أبي طالب وسائر الصحابة.(2/51)
فالشيعة الاثنى عشرية بإبطالهم التعصيب خالفوا ظاهر القرآن صراحة فإن القرآن حكم بالنصف للبنت، وبالثلثين لما فوق البنتين، ، فإعطاء التركة بكاملها للبنت أو البنات يتنافى مع الآية الحادية عشرة من سورة النساء:{ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } وحكم أيضًا بالنصف للأخت، وبالثلثين للأختين, فإعطاء التركة للأخت وحدها أو الأختين فقط مخالف لنص الآية السادسة والسبعين بعد المائة من سورة النساء: { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك }. فالله تعالى قد ذكر أنصبتهم المقدرة , وترك بقية التركة فعُلم بذلك أن بقية التركة لغيرهن , ولا يجوز ردَّها إليهن إلا بدليلٍ صريح, ولأنه لو جاز ذلك لجعل لهن التركة كلها مباشرة , فلما ترك باقي التركة ولم ينص عليه في الآيات عُلم أن هذا الباقي لغيرهن وهم العصبة. و قد فسر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه فهو المبين للقرآن والمبلغ عن ربه تعالى فقَالَ صلى الله عليه وسلم:" أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" وفي رواية:" اقسموا المالَ بيْنَ أهلِ الفرائضِ على كتابِ اللهِ فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
وأما تضعيف الشيعة الاثنى عشرية لهذا الحديث , فلا يخفى بطلانه, فالحديث في أعلى درجات الصحة (1)
__________
(1) - فالحديث الصحيح على سبعة مراتب:
أ- أعلاها: ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
ب– ثم ما أخرجه البخاري دون مسلم.
ج- تم ما أخرجه مسلم دون البخاري.
د- ثم ما كان على شرط البخاري ومسلم (ولم يخرجاه).
هـ- ثم ما كان على شرط البخاري.
و- ثم ما كان على شرط مسلم.
ز- ثم ما كان صحيحًا على شرط غيرهما.(2/52)
وقد أخرجه الجم الغفير من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات, بل يكفي أن رواه الشيخان:البخاري ومسلم في صحيحيْهما الذيْن هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
أضف إلى ذلك ما ورد في سبب نزول آية المواريث عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله الأنصاري قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ, قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا ,وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا , وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ, قَالَ فَقَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ : فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ, فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ , وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ (1) "
ففي هذا الحديث قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعمّ- وهو أولى رجل ذكر- بباقي التركة تعصيبًا, بعد أخذ البنتين والزوجة الأنصبة المفروضة لهن.
وبما ذُكر يتضح جليًا أن أهل السنة قد أصابوا الحق عندما قالوا بالتعصيب لأنهم وافقوا بذلك ظاهر الآيتين: الحادية عشر والسادسة والسبعين بعد المائة من سورة النساء ووافقوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وما أجمع عليه الصحابة بما فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. بينما شذ الشيعة الإمامية بمخالفة كل ذلك.
ثانيًا: العَوْل.
والمقصود به عند الفقهاء: زيادة في سهام ذوي الفروض, ونقصان من مقادير أنصبتهم في الإرث (2) .
__________
(1) - صحيح:رواه أحمد(14840) وأبو داود(2891) والترمذي(2092) وصححه,والحاكم(7954) وصححه, ووافقه الذهبي.وأخرجه البيهقي في سننه(11999)
(2) - فقه السنة لسيد سابق( 3/305)(2/53)
كأن تتوفى امرأة وتترك زوجُا وأختين شقيقتين. فالزوج فرضه النصف( لعدم وجود فرع وارث وهم الأبناء) والأختان لهما الثلثان فرضًا.فلو أعطى نصف التركة للزوج سينقص نصيب الأختين عن الثلثين, وإن بدأ بالأختين فأخذتا الثلثين سينقص نصيب الزوج عن النصف,و يروى أن هذه كانت أول فريضة عالت في الإسلام وعُرضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فاستشار مَن معه من الصحابة, فأشار عليه العباس- وقيل:عليّ- بالعَول.وذلك بأن يدخل النقص على كل واحد من الورثة بنسبة سهامه.فلا ظلم ولا حيف.
وورد عن ابن عباس أن أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب , وذلك لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضًا, قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر؟ قال: وما أجد في هذا المال شيئًا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص (1) . وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في بنتين وأبوين وامرأة, قال: صار ثمنها تسعا (2) ", وكذلك رواه الحكم بن عتيبة عنه, وهو قول عبد الله بن مسعود (3) , وزيد بن ثابت (4) .
__________
(1) - سنن البيهقي(12237): باب العول
(2) - رواه ابن أبي شيبة (31202) والدارقطني في سننه(4/68) والبيهقي(12235)
(3) - سنن البيهقي(12236)
(4) - سنن البيهقي(12234)(2/54)
وروى الحاكم في المستدرك(7985) وصححه,و البيهقي في السنن(12237) (1) عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « أول من أعال الفرائض عمر رضي الله عنه ، وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة » فقيل له : وأيها قدم الله وأيها أخر ؟ فقال : « كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن فريضة إلا إلى فريضة ، فهذا ما قدم الله عز وجل ، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله عز وجل. كالزوج والزوجة والأم ، والذي أخر كالأخوات والبنات فإذا اجتمع من قدم الله عز وجل ومن أخّر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخر ، وإن لم يبق شيء فلا شيء له »
وفي رواية عند البيهقي(12237) بلفظ : فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة, ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة".
وفي مصنف عبد الرزاق(19022) عن عبيد الله بن عبد الله قال : سمعت ابن عباس يقول : أحصى الله رمل عالج ولم يحص هذا ، ما بالُ في مالٍ ثلثان ونصف ، يعني أن الفريضة لا تعول ".
__________
(1) - وقد رواه الكليني في الكافي(7/79-80) باب:في إبطال العول(2/55)
ويتضح من ذلك أن ابن عباس قد خالف ما ذهب إليه عمر , فهو يرى أن الفريضة لا تعول وأن النقص لا يدخل على كل الورثة وإنما على بعضهم, فلا يدخل النقص على من قدم الله ,ويعنى بهم: الذين جعل الله لهم سهمان في القرآن:سهم أعلى وسهم أدنى, كالزوج( له النصف أو الربع)والزوجة(لها الربع أو الثمن) والأم(لها الثلث أو السدس) فهؤلاء يعطون سهمهم-أي:فرضهم- كاملاً لا ينقص منه شيء, وإنما يدخل النقص على من لم يذكر له في القرآن إلا سهم واحد ,وهؤلاء عند ابن عباس هم من أخر الله تعالى كالبنت أو البنات أو الأخت أو الأخوات من الأب والأم أو من الأب فقط , ,وقد أخذ الشيعة الإمامية بهذا الرأي ,وقالوا:إنه المروي عن أئمتهم. فعندهم عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ : إِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ لَيَعْلَمُ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَا تَعُولُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ (1) " وعنه أيضًا قال: السِّهَامُ لَا تَعُولُ (2) " عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ: أَصْلُ الْفَرَائِضِ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ لَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَ لَا تَعُولُ عَلَيْهَا ثُمَّ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ السِّهَامِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْكِتَابِ (3) .
__________
(1) - رواه الكليني في الكافي(7/79 ) باب:في إبطال العول
(2) - رواه الكليني في الكافي(7/ 80)
(3) - رواه الكليني في الكافي(7/ 81)(2/56)
وعن محمد بن مسلم أنه أقرأه أبو جعفر الباقر عليه السلام ذلك في صحيفة الفرائض التي هي إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام بيده وفي بعضها (1) : ( السهام لا تعول لا تكون أكثر من ستة ) وهذه الروايات التي رووها ضعيفة لا تثبت عند أهل السنة , وإن صحت فما هي إلا آراء واجتهادات لمن ليس بمعصوم , ولم يصح في ذلك شيء عن المعصوم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك أخذ أهل السنة باجتهاد عمر ومن وافقه من الصحابة الكرام , وتركوا اجتهاد ابن عباس ومَن وافقه. وبعد التأمل نجد أن القول بالعَوْل هو الأولى لعدة مرجحات :
__________
(1) - أي: صحيفة الفرائض التي هي جزء من الجامعة فقد روى الكليني في الكافي(1/239) من حديث طويل عن الإمام الصادق ، وفيه:قال :وَإِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ, قَالَ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَإِمْلَائِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَ خَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِه,ِ فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ , وَكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الْأَرْشُ فِي الْخَدْشِ "
قلت: أي صحيفة هذه التي طولها سبعون ذراعًا في زمنٍ كانوا لا يجدون ما يكتبون فيه آيات القرآن إلا بمشقة؟ . ولماذا لم يعلم بها الصحابة ؟ هل كانت سرًا دفيناً؟ ولماذا لم يكتب فيها القرآن؟ عمومًا الحديث ظاهر البطلان وفيه غرائب وطامات : كعلم الأئمة للغيب وكالجفر والجامعة ومصحف فاطمة الذي عدد آياته ثلاثة أضعاف المصحف الحالي , وقد ضعفه - من الشيعة- البهبودي وغيره.(2/57)
منها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم,فقال:عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين . عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم والأمور المحدثات. فان كل بدعة ضلالة" (1) .
ومنها:أن جمهور الصحابة وافقوا عمر بن الخطاب عليه, ومنهم زيد بن ثابت, وهو من أعلم الأمة بالمواريث فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" وأفرضُهم زيدُ بن ثابت (2) ". ومنهم علي بن أبي طالب, وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم. وهو الإمام الأول من الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة الإمامية وفي ذلك ما يضعف حجتهم.
ومنها: العدل بين الورثة إذ لو وقع النقص على نصيب بعض الورثة دون بعض كان هذا جورًا.فلزم أن توزع التركة على الأصل الجديد للمسألة, وتقسم بين الورثة بنسبة أسهمهم كما يُقسم مال المَدِين بين غرمائه بنسبة ديونهم.
ألا ترى أن الله تعالى جعل للابن عند الانفراد جميع التركة, وجعل للبنت عند الانفراد نصف التركة, فلما اجتمعا قسمت التركة بينهما أثلاثًا, وأخذ الابن ثلثي التركة وأخذت البنت الثلث الباقي,أي نقص نصيب كلٍّ منهما عن حال الانفراد, فلو حسبنا ما نقص كل منهما حال الاجتماع عنه حال الانفراد, لنقص من نصيب الابن الثلث ونقص من نصيب البنت السدس( أي نصف ما نقص أخوها) وهكذا سبيل العول (3) .
__________
(1) - صحيح: رواه أحمد(17182) والدارمي(95) والترمذي(2676) وصححه,ابن ماجة(42) وابن حبان(5) والحاكم(329) وصححه, ووافقه الذهبي.
(2) - صحيح: رواه الترمذي(3790) وغيره. وقد تقدم.
(3) - قال أبو بكر الجصاص في (باب العول) من كتابه أحكام القرآن (3/22-24 ):
والحجة للقول الأول: أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف , وللأخت من الأب والأم النصف , وللأخوة من الأم الثلث , ولم يفرق بين حال اجتماعهم وانفرادهم فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان, فإذا انفرد واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها , وإذا اجتمعوا وجب استعمال حكم الآية في التضارب بها , ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو نقص نصيب بعض ووفّى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم, مع مساواته للآخرين في التسمية, فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم الله تعالى وتأخير من أخر فإنما قدم بعضًا وأخر بعضًا وجعل له الباقي في حال التعصيب, فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر, ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى {وله أخت فلها نصف ما ترك} كنصه على فرض الزوج والأم والإخوة من الأم فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه الحال؟ وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الذين معها, وليس يجب لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل فرضها في الحال التي نص عليه فيها, فهذا القول أشنع في مخالفة الآي التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه المضاربة بها, ولذلك نظائر في المواريث من الأصول. أيضًا قال الله تعالى :{من بعد وصية يوصى بها أو دين } فلو ترك الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة ولآخر ألف كانت الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم وليس يجوز أن يقال: لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمسمائة من ألف استحال الضرب بها. وكذلك لو أوصى رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة, تضاربا في الثلث بقدر وصاياهم فليضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء النصف من الثلث.
وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد, وللبنت النصف لو انفردت, فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما أثلاثا وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام. والله أعلم أهـ(2/58)
متى يظهر العول في التركة ؟
يظهر العول فيما إذا كانت التركة أقل من السهام المفروضة ولا يتحقق ذلك إلا بأحد الصور الآتية :
• مزاحمة البنت الواحدة مع الزوج والأبوين : لأن البنت الواحدة لها النصف وللزوج الربع, وللأبوين الثلث ( لكل واحد منهما السدس ) ، والمال ليس فيه نصف وربع وثلث
• اجتماع بنتين فصاعداً مع الأبوين ومع الزوج أو الزوجة : لأن البنتين فصاعداً لهما الثلثان وللزوج الربع ـ أو الثمن للزوجة ـ والثلث للأبوين لكل واحد منهما السدس ، والمال ليس فيه ثلثان وثلث وربع أو ثلثان وثلث وثمن.
• اجتماع أختين لأبوين أو لأب فقط مع الزوج : لأن للأختين من الأبوين أو الأب فقط الثلثان وللزوج النصف ، والمال ليس فيه ثلثان ونصف.
* أي أن المسائل التي يدخلها العول هي التي يكون أصلها:6-12-24. فالستة قد تعول إلى سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة, و الاثنى عشر تعول إلى ثلاثة عشر أو خمسة عشر أو سبعة عشر, والأربعة والعشرون لا تعول إلا إلى سبعة وعشرين.
أما المسائل التي لا يدخلها العول فهي التي تكون أصولها:2-3-4-8.
مسائل توضيحية في مشكلة العول :
مسألة (1) ـ امرأة توفيت عن زوج وأختين لأب .
الجواب : الفريضة في المسألة من ستة أسهم بينما مجموع الأسهم في المسألة هي سبعة أسهم لان للزوج النصف ( ثلاث أسهم ) وللأختين الثلثان ( أربعة أسهم ) فيكون المجموع سبعة أسهم من أصل ستة أسهم .
عند أهل السنة : يزاد على الفريضة سهم فتصبح سبعة أسهم .
يُعطى الزوج ثلاثة أسهم من أصل سبعة بدل ثلاثة أسهم من أصل ستة
وتعطى الأختين أربعة أسهم من أصل سبعة بدل أربعة أسهم من أصل
ستة .
عند الشيعة الإمامية : الفريضة هي ستة أسهم لا تتغير .
يعطى الزوج ثلاثة أسهم وتعطى الأختان الباقي وهو ثلاث أسهم, فيقع النقص على نصيب الأختين فقط دون الزوج .
مسألة (2) ـ رجل توفى عن زوجة وأبوين وابنتين .(2/59)
الجواب : الفريضة في المسألة من أربعة وعشرين سهمًا بينما مجموع الأسهم في المسألة هو سبعة وعشرين سهمًا لان للزوجة الثمن (ثلاثة أسهم) وللأبوين السدسين (ثمان أسهم) وللبنتين الثلثان (ست عشرة سهمًا)
عند أهل السنة : يزاد على الفريضة ثلاث أسهم فتصبح سبعة وعشرين سهمًا . للأبوين ثمان أسهم من أصل سبعة وعشرين بدل ثمان أسهم من أصل أربعة وعشرين .
وللزوجة ثلاث أسهم من أصل سبعة وعشرين بدل ثلاث أسهم من أصل
أربعة وعشرين .
وللبنتين ست عشرة سهم من أصل سبعة وعشرين بدل ستة عشر سهم
من أصل أربعة وعشرين .
عند الشيعة الإمامية : الفريضة هي من أربع وعشرين سهم لا تتغير .
للأبوين ثمان أسهم لكل منهما أربعة أسهم .
وللزوجة ثلاث أسهم .
وللبنتين الباقي وهو ثلاث عشرة سهم لكل واحدة ستة أسهم ونصف السهم , فيقع النقص على نصيب البنتين دون بقية الورثة.
مسألة (3) ـ امرأة توفيت وتركت بنتًا واحدة وزوجًا وأبوين .
الجواب : الفريضة في المسألة من اثنى عشر سهمًا بينما مجموع الأسهم ثلاث عشر سهمًا لأن للأبوين السدسين (أربعة أسهم) وللزوج الربع (ثلاث أسهم) وللبنت النصف (ست أسهم) فيكون المجموع ثلاث عشرة سهمًا من أصل اثني عشر سهمًا .
عند أهل السنة : يزاد على الفريضة سهم فتصبح من ثلاثة عشر سهمًا .
للأبوين أربعة أسهم من أصل ثلاث عشرة سهمًا بدل من أربع أسهم من
أصل اثنى عشر سهمًا ، وللزوج ثلاث أسهم من أصل ثلاث عشرة سهمًا
بدل من ثلاث أسهم من أصل اثني عشر سهمًا ، وللبنت ست أسهم من
أصل ثلاث عشرة سهمًا بدل من ست أسهم من أصل اثني عشرة سهمًا.
عند الشيعة الإمامية : الفريضة هي اثني عشر سهما لا تتغير .
للأبوين أربعة أسهم لكل منهم سهمين .
وللزوج ثلاث أسهم .
وللبنت الباقي وهو خمسة أسهم. فيقع النقص عليها وحدها.
فوائد ذات صلة:(2/60)
الأولى: ورد في سبب نزول الآية الأخيرة(176) من سورة النساء: ما رواه البخاري(5327) ومسلم(1616)عن محمد بن المنكدر سمع جابر بن عبد الله قال:
مرضت مرضًا فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان, فوجداني أغمي عليّ , فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه عليَّ , فأفقت , فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضي في مالي ؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة }.
وفي رواية للبخاري(191):فقلت: يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني كلالة, فنزلت آية الفرائض.
الثانية:الأسباب الموجبة للإرث ثلاثة : نسبٌ ثابت، ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة.
والأسباب المانعة من الإرث ثلاثة: الرق, والقتل (1) , واختلاف الدين.
الثالثة: قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد المؤمن منهم والكافر فلما ثبت في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (2)
عُلم أن الله تعالى أراد بعض الأولاد دون بعض فلا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث.وهذا قول أهل السنة.
__________
(1) - لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس للقاتل من الميراث شيء " رواه أبو داود(4564) والدارقطني(4/96) والبيهقي(12021) وهو صحيح بشواهده. راجع إرواء الغليل للألباني(6/117).
ولا فرق في ذلك بين القتل العمد أو الخطأ سدًا للذريعة حتى لا يدعي العامد أنه قتل مورثه خطأً.
(2) - رواه أحمد (21795) والدارمي(2998) والبخاري(6383) ومسلم(1614) وأبو داود(2909) والترمذي(2107) وابن ماجة (2729) وغيرهم. قال الترمذي (4/423):وفي الباب عن جابر و عبد الله بن عمرو, وهذا حديث حسن صحيح.أهـ(2/61)
أما عند الشيعة الإمامية يرث المسلمُ الكافرَ ولا عكس, فقد قال الطوسي في تفسيره (1) : فأما المسلم فإنه عندنا يرث الكافر، وفيه خلاف، ذكرناه في مسائل الخلاف، والعبد لا يورث لأنه لا يملك شيئاً، والمرتد لا يرث وميراثه لورثته المسلمين، وهذا قول علي (ع). وقال سعيد بن المسيب: نرثهم ولا يرثونا, وبه قال معاوية، والحسن، وعبد الله بن معقل، ومسروق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يتوارث أهل ملتين (2) " معناه: لا يرث كل واحد منهما صاحبه، فإنا نقول: المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، فلم تثبت حقيقة التوارث بينهما.أهـ
الرابعة: قوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } قد فرض الله تعالى للواحدة النصف , وفرض لما فوق الثنتين الثلثين , ولم يفرض للثنتين فرضًا منصوصًا في كتابه,ولكن جعل العلماء للبنتين الثلثين, بلا خلاف, ووافق الشيعة الإمامية أهل السنة في ذلك, واستدل العلماء على ذلك بأدلةٍ:
منها الإجماع .وقيل:الإجماع مردود لأن الوارد عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف لأن الله عز وجل قال : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك }. وقيل:أنه رجع عن ذلك إلى قول سائر الصحابة فانعقد الإجماع.
ومنها :أنهما أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة : { وله أخت فلها نصف ما ترك } وقال تعالى : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } [ النساء : 176 [ فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنين بالبنات في الاشتراك في الثلثين.
__________
(1) - تفسير التبيان للطوسي(3/129).
(2) - صحيح لغيره. رواه الترمذي(2108) عن جابر, وأحمد(6844) وابن ماجة (2731) وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .(2/62)
وقال بعض العلماء: للبنتين الثلثان من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس. فإذا صرح الله تعالى : بأن للأختين الثلثين ، عُلم أن البنتين كذلك من باب أولى . لأن البنت أمسّ رحماً ، وأقوى سبباً في الميراث من الأخت بلا نزاع .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهما الثلثين حيث قضى لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين كما سبق بيانه في الحديث الصحيح المروي في سبب نزول آية المواريث. وهذا نصٌ صريح في المسألة.
الخامسة: قوله تعالى: { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } فمفهومه أن الباقي للأب وليس فيه خلاف،بين السنة والشيعة, فإن كان معهم - في الفريضة- زوج كان له نصف التركة، وللأم ثلثها بالظاهر، وما بقى وهو السدس فللأب.وهو قول ابن عباس وعليه الشيعة الإمامية.
أما قول زيد بن ثابت فللزوج النصف, وتأخذ الأم ثلث الباقي من التركة وما تبقى فهو للأب,وأخذ أهل السنة بقول زيد. لأن في قول ابن عباس يكون نصيب الأب(السدس) أقل من نصيب الأم(الثلث) وهما في درجة واحدة بالنسبة للميت, فكيف يزيد نصيب الأنثى على نصيب الذكر وهما متساويان في الدرجة والله تعالى يقول:{للذكر مثل حظ الأنثيين} أما في قول زيد فللأم ثلث الباقي وهو السدس بعد نصيب الزوج , وللأب ما تبقى من التركة وهو الثلث, فيكون نصيبه ضعف نصيب الأم.
وفي سنن البيهقي(12085) ما يفيد أن ابن عباس سأل زيد عن سبب ذلك فقال :أكره أن أفضل أمًّا على أب.
أما إذا كان في المسألة زوجة بدل الزوج ، كان للزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للأب،فيكون نصيب الأب خمسة أسهم من اثنتا عشرة سهمًا,ونصيب الأم أربعة أسهم من اثنتا عشرة سهمُا,فزاد نصيب الأب عن الأم. ولا خلاف في ذلك.(2/63)
السادسة: وقوله: { من بعد وصية يوصي بها أو دَيْن } لا يعنى أن الوصية قبل الدين , فإن {أو} لا تفيد الترتيب .وقيل إنما ذكرت أولاً تنبيهًا عليها لأن الغالب أن الدَين لا يُغفل عنه لوجود من يطالب به وهو الدائن. وقد أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدَين مقدم على الوصية , وأن الوصية لا تزيد على الثلث فإن زادت عنه رُدَّت إليه , ووافقت الشيعة الإمامية أهل السنة في ذلك, وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال : إنكم تقرؤون { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدَيْن قبل الوصية (1) "
وروى البخاري(1233)ومسلم(1628) وغيرهما عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي, فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ , أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ :بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: لَا. ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ , وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ, إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ , وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ ".
__________
(1) - رواه أحمد(595) والترمذي(2122) وابن ماجة(2715) والدارقطني(4/86) والحاكم(7967), وحسنه الألباني في الإرواء(6/107)(2/64)
ولا وصية لوارث- وأجازها الشيعة الإمامية (1) - فليس لصاحب التركة(الميت) أن يوصي بشيء يختص به أحد الورثة دون الآخرين فإن أوصى فوصيته باطلة إلاّ أن يجيز باقي الورثة ذلك. لما رواه أحمد(22348) و أبو داود(2870)ابن ماجة(2713)عَنْ أبي أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
__________
(1) - كما ورد في تفاسيرهم السابقة, وفي الكافي(7/9):باب: الوصية للوارث, وذكر فيه عدة روايات عن أبي جعفر(محمد الباقر) وابنه أبي عبد الله(جعفر الصادق) بجواز الوصية للوارث . واعلم أن الثابت عندنا عن عليّ أنه-كسائر الصحابة- قال: لا وصية لوارث. و في كتب الشيعة مثل هذا عن الإمام الباقر, ففي تفسير العياشي (1/225) عن محمد بن قيس قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في الدين والوصية فقال : إن الدَيْن قبل الوصية ثم الوصية على أثر الدين ثم الميراث ولا وصية لوارث ."وكذا هو في تفسير نور الثقلين(1/453) و جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي ( 18 / 320 ) وغيرهما.
وأيضًا عن جعفر بن محمد عن أبيه(الباقر) قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ". تهذيب الأحكام للطوسي(9/174) وسائل الشيعة(13 /355) ومثله تمامًا مروي عن عليّ كما في تفسير العياشي(1/76) ومستدرك الوسائل(14/91) وغير ذلك من كتبهم.
ولكن كعادتهم يتركون هذا وهو الحق , ويدَّعون أنه قيل تقية, ويأخذون بما يخالفه.وانظر ما في التفسير الأصفى(1/84) [عقب تفسير آية الوصية( رقم 180)من سورة البقرة] حيث قال الكاشاني:وورد أنها-أي آية الوصية للوالدين والأقربين- منسوخة بآية المواريث. وحمل على التقية لموافقته مذاهب العامة, ومخالفته لما ورد أنه سئل عن الوصية للوارث فقال: تجوز , ثم تلا هذه الآية , وفي معناه أخبار أخر."أهـ(2/65)
وقال البخاري في صحيحه(3/1008) :باب لا وصية لوارث , وأخرج فيه(2596) بسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.
وفي مصنف ابن أبي شيبة(6/208) (30718) عن الحارث عن علي قال : ليس لوارث وصية. (1)
واعلم أن الزيادة على الثلث في الوصية وكذا الوصية لوارث يدخل في الإضرار وهو ما يخالف قوله تعالى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } أي: لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجَوْر والحيف بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته, ولهذا قال ابن عباس:"الإضرار في الوصية من الكبائر (2) ".
__________
(1) - قال الألباني في إرواء الغليل(6/87-88):( قوله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " صحيح . :رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ) . وقد جاء عن جماعة كثيرة من الصحابة منهم أبو أمامة الباهلي وعمرو بن خارجة وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعبد الله ابن عمرو وجابر بن عبد الله وعلي بن أبى طالب وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم..ثم ذكر الألباني طرق أحاديثهم ورواتها "
وفي سنن الدارقطني( 4/152) والبيهقي(6/85):عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث.
(2) - رواه النسائي في الكبرى(11092), وابن جرير(8784) , وروي عن ابن عباس مرفوعًا كما في سنن البيهقي(12366) وابن جرير(8788) وغيرهما. والموقوف هو الصحيح.كما قال البيهقي(6/271).(2/66)
السابعة: قال القرطبي: ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.
وجملتهم سبعة عشر.
عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة.
ويرث من النساء سبع: البنت وبنت الابن وان سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة وهي المعتقة.
وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال:
والوارثون إن أردت جمعهم ** مع الإناث الوارثات معهم
عشرة من جملة الذكران ** وسبع أشخاص من النسوان
وهم:وقد حصرتهم في النظم ** الابن وابن الابن وابن العم
والأب منهم وهو في الترتيب ** والجد من قبل الأخ القريب
وابن الأخ الأدنى أجل والعم ** والزوج والسيد ثم الأم
وابنة الابن بعدها والبنت ** و زوجة وجدة وأخت
والمرأة المولاة أعني المعتقة ** خذها إليك عدة محققة (1)
الثامنة: ميراث بنت الابن مع البنت (أي مع عمتها) لهما معًا الثلثان:للبنت النصف ,ولابنة الابن :السدس الباقي. لما رواه أحمد (4420) والبخاري(6355) وغيرهما:عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت. فقال للابنة النصف وللأخت النصف, وأتِ ابن مسعود فسيتابعني, فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين, أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم, للابنة: النصف , ولابنة الابن: السدس تكملة الثلثين , وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود , فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ".
التاسعة: قوله تعالى: { وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة }
الكلالة مصدر، من تكلله النَّسب أي أحاط به.
__________
(1) - تفسير القرطبي(5/53)(2/67)
وبه سمي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها.
ومنه الإكليل أيضًا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس.
فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة.
هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعليّ وجمهور أهل العلم. (1)
ومن الشيعة قال الطوسي: وعندنا أن الكلالة هم الإخوة والأخوات، فمن ذكر في هذه الآية هو من كان من قبل الأم، ومن ذكر في آخر السورة فهو من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب (2) .أهـ
والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع كما قال الناظم :
ويسألونك عن الكلالة ... هي انقطاع النسل لا محالة
لا والد يبقى ولا مولود ... فانقطع الأبناء والجدود (3)
واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد و الوالد ، وعلى الميت الذي لم يخلف والداً ولا ولداً ، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد . وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد.
العاشرة:عن قتادة قال: ذًكر لنا أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إنّ الآية التي أنزل الله في أول"سورة النساء" في شأن الفرائض، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها"سورة النساء"، أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها"سورة الأنفال"، أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرَّت الرحِم من العَصَبة (4) .
__________
(1) - تفسير القرطبي(5/66).
(2) - تفسير التبيان للطوسي(3/135) وانظر كتابي: فقه القرآن للقطب الراوندي(2/336): مكتبة المرعشي- ط:1405هـ, والينابيع الفقهية(22/227):دار التراث بيروت- ط 1990م
(3) - تفسير أضواء البيان للشنقيطي(1/228).
(4) - هذا الأثر أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/431) برقم(10865)(2/68)
الحادية عشرة: عند الشيعة الإمامية ينفرد الابن الأكبر ببعض أشياء من التركة دون سائر الورثة فقد روى الكليني في الكافي(7/86) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَسَيْفُهُ وَخَاتَمُهُ وَمُصْحَفُهُ وَكُتُبُهُ وَرَحْلُهُ وَرَاحِلَتُهُ وَكِسْوَتُهُ لِأَكْبَرِ وُلْدِهِ , فَإِنْ كَانَ الْأَكْبَرُ ابْنَةً فَلِلْأَكْبَرِ مِنَ الذُّكُور "ِ ولا يخفى ما في هذا من تفضيل للابن الأكبر وظلم لباقي الورثة, كما أنه مخالف لآيات المواريث التي ساوت بين الأخوة الذكور ,ولم تميز أحدًا, وجعلت للذكر مثل نصيب الأنثيين, والله تعالى يقول في ختام الآية(11) من آيات المواريث :{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً }[النساء:11] ولعلهم بذلك قد تأثروا شيئًا ما بما كان عليه العرب في الجاهلية حيث كان يفضلون الابن الأكبر ولا يعطون التركة إلا لمن حمل السلاح. ويحرمون منه الصغار والنساء.
* * *
(( مثال من التفسير يبين هل مات أبو طالب مسلمًا أم كافرًا؟))
* القصص:56
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
والمعني:
إنك -أيها الرسول- لا تهدي هداية توفيق مَن أحببت هدايته, ولكن ذلك بيد الله عز وجلّ يهدي مَن يشاء أن يهديه للإيمان, ويوفقه إليه, وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه.
والمعنى العام للآية واضحٌ لا يختلف عليه السنة والشيعة وإنما يختلفون في سبب نزول الآية فأهل السنة يرون أنها نزلت في أبي طالب لما حزن النبي صلى الله عليه وسلم على موته كافرًا, أما الشيعة فيروْن أنه كان مسلمًا.وإنما لم يعلن إسلامه كي يبقى قومه على مودته وتوقيره فلا يتعرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالأذى مراعاة لجانبه.
قال ابن كثير:(2/69)
قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله، فأبَىَ عليه ذلك، وقال: أي ابن أخي ملةََ الأشياخ، وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب.أهـ (1)
قال الشوكاني: وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وقد تقدّم ذلك في براءة. قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وقد تقرّر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً.أهـ. (2)
ومن الشيعة: قال الطوسي في تفسيره: وهذه الآية نزلت لأن النبي صلى الله عليه وآله كان يحرص على إيمان قومه ويؤثر أن يؤمنوا كلهم، ويجب أن ينقادوا له ويقروا بنبوته، وخاصة أقاربه. فقال الله تعالى له: إنك لا تقدر على ذلك، وليس في مقدورك ما تلطف بهم في الإيمان ذلك بل في مقدور الله يفعله بمن يشاء إذا علم أنهم يهتدون عند شيء فعله بهم فلا ينفع حرصك على ذلك. وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي طالب. وعن أبي عبد الله وأبي جعفر: إن أبا طالب كان مسلمًا. وعليه إجماع الإمامية، لا يختلفون فيه، ولهم على ذلك أدلة قاطعة موجبة للعلم ليس هذا موضع ذكرها.أهـ (3)
واعترض الطبرسي في تفسيره على من قال :إن الآيات نزلت في أبي طالب وذَكَرَ أن أهل البيت أجمعوا على أنه مات مسلمًا (4) .
و قال الفيض الكاشاني:
__________
(1) - تفسير ابن كثير(3/409)
(2) - فتح القدير للشوكاني (4/178)
(3) - التبيان (8/164)
(4) - مجمع البيان(7/448)(2/70)
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشّرك (1) فأتاهم الله أجرهم مرّتين.
أقولُ(الكاشاني): إنّما أسَرّ الإيمان وأظهر الشرك ليكون أقدر على نصرة النبيّ صلّى الله عليه وآله كما يستفاد من أخبار أخر...
إلى أن قال الكاشاني: وفي بشارة المصطفى عنه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال كان ذات يوم جالساً بالرّحبة والناس مجتمعون فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الّذي أنزلك الله به وأبوك يعذّب بالنّار, فقال له: مَه فضّ الله فاك, والّذي بعث محمداً بالحق نبيّاً لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفَّعه الله تعالى فيهم, لأَبي يُعذّب بالنار وابنه قسيم النّار. ثم قال: والذي بعث محمداً بالحقّ إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفي أنوار الخلق الاّ خمسة أنوار: نور محمد, ونوري, ونور فاطمة, ونوري الحسن والحسين, ومن ولده من الأئمّة عليهم السلام لأنّ نوره من نورنا الذي خلقه الله عزّ وجلّ من قبل خلق آدم بألفي عام.أهـ (2)
قال الطباطبائي : وقد اتفقت الرواية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكن بذلك من حماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما روي بالنقل الصحيح من أشعاره شيء كثير يدل على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.أهـ (3)
__________
(1) - إن أصحاب الكهف لم يظهروا الشرك, بل ثبتهم الله تعالى وربط على قلوبهم فقاموا فأعلنوا التوحيد كما قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف : 14] فلما تآمر عليهم قومهم فروا بدينهم من الفتن.
(2) - الصافي (4/95-97)
(3) - تفسير الميزان (9/406)(2/71)
قلت: وددنا أن يموت على الإسلام , ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن , وهو العليم الحكيم, وأهل السنة متفقون على موت أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك لورود الأدلة الصحيحة بذلك وبالبحث في كتب الشيعة سنجد ما يوافق ويؤيد ذلك ، ولكن كعادة الشيعة في كتبهم ،يذكرون الحديث ونقيضه، ويختارون منه ما يوافقهم .
فقد ذكر القمي في تفسيره: في تفسير قوله تعالى " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ " قال: نزلت في أبي طالب، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: يا عم قل لا إله إلا الله أنفعك بها يوم القيامة.
فيقول: يا ابن أخي أنا أعلم بنفسي. فلمّا مات شهد العبّاس بن عبد المطلب عند رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه تكلّم بها عند الموت, فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أمّا أنا فلم أسمعها منه وأرجو أن أنفعه يوم القيامة. وقال: لو قمت المقام المحمود لشفعت في أمّي وأبي وعمّي وأخ كان لي مواخياً في الجاهليّة. (1)
فإقرار القمي بأن الآية نزلت في أبي طالب يؤكد ما ذهب إليه أهل السنة إذ معنى الآية يقرر ذلك بوضوح لا لَبْس فيه. أضف إلى ذلك ما ورد عندهم في مستدرك الوسائل وغيره (2) : عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أهون أهل النار عذاباً عمي أخرجه من أصل الجحيم حتى أبلغ به الضحضاح عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، وابن حدعان، قيل يا رسول الله وما بال ابن جدعان أهون أهل النار عذاباً بعد عمك؟ قال :إنه كان يطعم الطعام".
فوائد ذات صلة:
__________
(1) - تفسير القمي ( 2/142) , بحار الأنوار( 22/ 277 )
(2) - مستدرك الوسائل للنوري ( 7/ 247) النوادر للراوندي (ص106) وهذا الحديث في أوله نحو ما في الصحيحين(البخاري ومسلم) عن العباس رضي الله عنه وسيأتي في الصفحة القادمة.(2/72)
الأولى: سبب النزول: روى البخاري(4494) ومسلم(24): عن سعيد بن المسيب عن أبيه، وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى:
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِي قُرْبَى }
[التوبة: 113] وأنزل في أبي طالب: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } وروى أحمد(9608) ومسلم(25)والترمذي(3188) : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمه عند الموت: قل لا إله إلاَّ الله، أشهد لك بها يوم القيامة " فقال: لولا أن تعيرني بها قريش؛ يقولون: ما حمله عليه إلاَّ جزع الموت، لأقررت بها عينك، لا أقولها إلاَّ لأقر بها عينك، فأنزل الله تعالى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(2/73)
الثانية : روى أحمد(1768) والبخاري(5855) ومسلم(209) وغيرهم:عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ, قَالَ: نَعَمْ , هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ, لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّار". وفي هذا الحديث الصحيح ما يفيد أن العباس رضي الله عنه كان يعلم أن أبا طالب لم يمت مسلمًا بخلاف ما يذكره القمي عنه.
وأيضًا روى أحمد ِ(11073) والبخاري(6196) ومسلم(210) وغيرهم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَهُ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" .(2/74)
الثالثة: الهداية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }{القصص:56} هي ما يسميها العلماء:هداية التوفيق والإلهام,وهذه لا يملكها ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل بل تكون بيد الله تعالى وحده كما في قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء }[الأنعام:125] وهي غير الهداية المذكورة في قوله تعالى:{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } {فصلت:17} [ الرعد:7] فهذه التي يسميها العلماء: هداية البيان والإرشاد والدلالة, وكقوله تعالى:{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } وقوله تعالى لنبيه:{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }{الشورى:52} فهذه هداية بيان وإرشاد لا هداية توفيق. لذلك لم يملك الرسل هداية أقرب الناس إليهم.
الرابعة: استدل الشيعة على إسلام أبي طالب بأشعاره الدالة على توحيده , وهذا الاستدلال لا يكون صحيحًا إلا إذا صحت نسبة هذا الشعر إليه , ولم يوجد من الآدلة ما يعارض ذلك, وهذا لم يتم. لأن الأحاديث الصحيحة تثبت وفاته على الكفر , وكذلك لا نستطيع الجزم بنسبة الشعر إليه.
وهذا أمية بن أبي الصلت قد ورد في شعره شيء كثير يدل على التوحيد , حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ , وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم " (1) . ومع ذلك لم يثبتوا له إسلامًا لأنه لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم استكبر عن قبول الحق ومات على كفره.
__________
(1) - رواه أحمد(9099) والبخاري(3628) ومسلم(2256) وابن ماجة(3757) وغيرهم.(2/75)
الخامسة: قال الألوسي: ثم إنه على القول بعدم إسلامه- يعني أبا طالب- لا ينبغي سبُّه والتكلم فيه بفضول الكلام فإن ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يتأذى به النبي عليه الصلاة والسلام الذي نطقت الآية بناءً على هذه الروايات بحبه إيّاه، والاحتياط لا يخفى على ذي فهم.
ولأجل عينٍ ألفُ عينٍ تُكْرَمُ (1) .
السادسة: جاء في البداية والنهاية لابن كثير وتاريخ ابن جريرالطبري:أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كتب إلى محمد بن عبد الله بن حسن عندما خرج على المنصور ونادى لنفسه بالبيعة كتابًا جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله :{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:33-34]ثم قال: فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك ومن أتبعك ولأعطينك ألف ألف درهم ولأدعنك في أحب البلاد اليك ولأقضين لك جميع حوائجك في كلام طويل فكتب إليه محمدٌ جوابَ كتابه :
__________
(1) - الألوسي/ روح المعاني ( 20/97)(2/76)
من عبدالله المهدي محمد بن حسن: بسم الله الرحمن الرحيم { طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [القصص:1-5] ثم قال: وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت علي, فأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم إنما وصلتم إليه بنا... ثم ذكر نسبه وشرفه فقال: ونحن أشرف أهل الارض نسبًا, فرسول الله خير الناس وهو جدنا ,وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته , وفاطمة ابنته أمُّنا وهي أكرم بناته, وإن هاشمًا ولد عليًا مرتين, وإن حسنًا ولده عبد المطلب مرتين, وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد أبي مرتين, وإني أوسط بني هاشم نسبًا ,وأصرحهم أبًا, لم تعرق فيَّ العجم, ولم تنازع فيَّ أمهات الأولاد, فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة , وأخفهم عذابًا في النار , فأنا أولى بالأمر منك وأولى بالعهد وأوفى به منك, فانك تعطي العهد ثم تنكث ولاتفي , كما فعلت بابن هبيره , فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به , ولا أشد عذابًا من إمام غادر, وكذلك فعلت بعمك عبدالله بن علي وأبي مسلم الخراساني , ولو أعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام.(2/77)
فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله: أما بعد. فقد قرأت كتابك فاذا جُل فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاه والغوغاء , ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء ولا كالعصبية والأولياء وقد أنزل الله { وأنذر عشيرتك الاقربين} وكان حينئذ له صلى الله عليه وسلم أربعة أعمام فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا, وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني جده أبا طالب- فقطع الله ولايتهما منه, ولم يجعل بينهما إلاًّ ولا ذمة , وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب:{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذابًا ,وليس في الشر خيار, ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار, وفخرت بأن عليًا ولده هاشم مرتين وأن حسنًا ولده عبد المطلب مرتين, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولده عبد الله مرة واحدة, وقولك: إنك لم تلدك أمهات أولاد , فهذا إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم من مارية وهو خير منك, وعلى بن الحسين من أم ولد وهو خير منك , وكذلك ابنه محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولاد وهما خيرٌ منك.(2/78)
وأما قولك بنو الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال تعإلى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [الأحزاب : 40] وقد جاءت السنة التي لاخلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون, ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث , وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوك حاضر, فلم يأمره بالصلاة بالناس بل أمر غيره, ولما توفي صلى الله عليه وسلم لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحدًا, ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة ,ثم لمّا قتل عثمان اتهمه بعضهم به,وقاتله طلحة والزبير على ذلك, وامتنع سعد من مبايعته, ثم بعد ذلك معاوية, ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال, ثم اتفق على التحكيم فلم يف به, ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم (1) , وأقام بالحجاز مالاً من غير حله, وسلّم الأمر إلى غير أهله, وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية, فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها, ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة, وكان الناس معه عليه حتى قتلوه, وأتوْا برأسه إليه ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل, وحرقوكم بالنار وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى
__________
(1) - لم يتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لأجل مالٍ ولا دنيا, بل تنازل عنها حقنًا لدماء المسلمين وقمعًا للفتنة, ابتغاء مرضاة الله تعالى, وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بصنيعه هذا وأثنى عليه كما ثبت في صحيح البخاري(2557 ) أن الْحَسَنُ البصري قال: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"(2/79)
الشام, حتى خرجنا عليهم نحن فأخذنا بثأركم وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم, وذكرنا فضل سَلفكم, فجعلت ذلك حجة علينا, وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله, على حمزه والعباس وجعفر, وليس الأمر كما زعمت, فإن هؤلاء مضَوْا ولم يدخلوا الفتن وسلموا من الدنيا, فلم تنقصهم شيئًا فاستوفوا ثوابهم كاملاً, وابتلى بذلك أبوك, وكانت بنو أميه تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات , فأحيينا ذكره وذكرنا فضله, وعنفناهم بما نالوا منه, وقد علمت أن مكرمتنا الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم وخدمة زمزم وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بها, ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس وتوسل به إلى ربه ,وأبوك حاضر, وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس فالسقاية سقايته , والوراثة وراثته , والخلافة في ولده فلم يبق شرفٌ في الجاهلية والإسلام إلاّ والعباس وارثة ومورثه (1) ... في كلام طويل فيه صوابٌ وخطأ وإنما ذكرناه لما فيه من الفصاحة وحسن المناظرة , مع مايتضمنه كلام كلٍّ منهما- وهما من أهل البيت- بأن أبا طالب مات على الكفر.
* * *
(( مثال من التفسير يبين حال الظالمين عند الموت أو في الآخرة أو عند خروج المهدي))
* سبأ:51-54
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }
والمعنى:
__________
(1) - البداية والنهاية(10/83-85) دار المنار- الطبعة الأولى, وقد أشار إليها وذكر طرفًا منها السيد حامد النقوي(الشيعي) في كتابه:خلاصة عبقات الأنوار( 9 / 256 – 257 ).(2/80)
وَلَوْ تَرَى أيها الرسول , ويدخل في الخطاب كل من يصلح, , حال هؤلاء المكذبين، إِذْ فَزِعُوا وخافوا حين رأوا العذاب, وما أخبرتهم به الرسل, وما كذبوا به, لرأيت أمرا هائلاً, ومنظرًا مفظعًا, وحالة منكرة .
وليس لهم عنه مهرب ولا فوت وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ من محل العذاب, ثم يقذفون في النار. وَقَالُوا في تلك الحال: آمَنَّا بالله وصدقنا بماكذبنا به من قبل و لكن أَنَّى لَهُمُ تناول الإيمان أو التوبة, بعد فوات الأوان, فلو أنهم آمنوا وقت الإمكان, لكان إيمانهم مقبولاً، ولكنهم كَفَرُوا بِهِ مِنْ قبل في الدنيا ويرمون بِالْغَيْبِ ويقذفون بالباطل, ليدحضوا به الحق، ولكن لا سبيل إلى ذلك, كما لا سبيل للرامي, من مكان بعيد إلى إصابة الغرض، فكذلك الباطل, من المحال أن يغلب الحق أو يدفعه, وإنما يكون له صولة, وقت غفلة الحق عنه, فإذا برز الحق, وقاوم الباطل, قمْعَه.
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من الإيمان والعمل الصالح, أو ما يتمنون من الشهوات واللذات, والأولاد, والأموال, والخدم, والجنود، قد انفردوا بأعمالهم, وجاءوا فرادى, كما خُلقوا, وتركوا ما خُوّلوا وراء ظهورهم، كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ وأشباههم من الأمم السابقين, حين جاءهم الهلاك, حيل بينهم وبين ما يشتهون، إِنَّهُمْ كَانُوا في الدنيا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مما أخبروا به من العذاب وأمر الآخرة (1) .
قال الصابوني في تفسيره:
{
__________
(1) - أنظر تفسير السعدي ص:680-681 والمنتخب ص:642(2/81)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ } أي ولو ترى يا محمد حال المشركين عند فزعهم إذا خرجوا من قبورهم { فَلاَ فَوْتَ } أي فلا مخلص لهم ولا مهرب { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي أخذوا من الموقف ـ أرض المحشر ـ إلى النار، وجواب { لَوْ } محذوف تقديره: لرأيت أمراً عيظماً وخطباً جسيماً ترتعد له الفرائص { وَقَالُو?اْ آمَنَّا بِهِ } أي وقالوا- عندما عاينوا العذاب- آمنا بالقرآن وبالرسول { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي ومن أين لهم تناول الإيمان وهم الآن في الآخرة ومحل الإِيمان في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت منهم بمكان بعيد؟ قال أبو حيان: مثَّل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بُعدٍ كما يتناوله الآخر من قرب { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي والحال أنهم قد كفروا بالقرآن وبالرسول من قبل ذلك في الدنيا، فكيف يحصل لهم الإِيمان بهما في الآخرة { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، قال القرطبي: والعربُ تقول لكل من تكلم بما لا يعرف هو يقذف ويرجم بالغيب، وعلى جهة التمثيل لمن يرمي ولا يصيب.
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } أي وحيل بينهم وبين الإِيمان ودخول الجنان { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أي كما فعل بأشباههم في الكفر من الأمم السابقة { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } أي كانوا في الدنيا في شك وارتياب من أمر الحساب والعذاب وقوله: { مَّرِيبٍ } من باب التأكيد كقولهم: عجبٌ عجيب.أهـ (1)
والفزع في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } للعلماء فيه أقوال (2) :
__________
(1) - الصابوني/ صفوة التفاسير( 2/560-561)
(2) - أنظر تفسير الطبري ( 20/421-428) والقرطبي ( 14/ 252) وغيرهما.(2/82)
1- فزع الكفار في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس.
2- وعن الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة.
3- وعن قتادة عن الحسن: أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم .
4-: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة. قاله قتادة , وقال ابن مُغَفَّل: أفزعهم يوم القيامة فلم يفوتوا.
5- هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة.قاله السّدّي ,وقال ابن زيد: هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، نزلت فيهم هذه الآية، قال: وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفراً، وأحلُّوا قومهم دارَ البوار جهنم، أهل بدر من المشركين
6- وقيل:هو فزعهم في الدنيا حين رأوا بأس الله عند معاينة الملائكة لقبض أرواحهم.
7- وقال سعيد بن جُبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم.
و قد ذكرالطبرسي- من الشيعة- في تفسيره بعضًا مما سبق ثم قال : قال أبو حمزة الثمالي: سمعت علي بن الحسين (ع) والحسن بن الحسن بن علي (ع) يقولان: هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم.(2/83)
قال: وحدّثني عمرو بن مرة وحمران بن أعين أنهما سمعا مهاجراً المكي يقول: سمعت أم سلمة تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يعوذ عائذ بالبيت فيبعث الله إليه جيشاً حتى إذا كانوا بالبيداء - بيداء المدينة- خسف بهم " وروي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب قال: فبينا هم كذلك يخرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فور ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشاً إلى المشرق وآخر إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة - يعني بغداد- فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفضحون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها, ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فيخرج راية هدى من الكوفة فيلحق ذلك الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر, ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم.
ويحل الجيش الثاني بالمدينة, فينتهبونها ثلاثة أيام بلياليها, ثم يخرجون متوجهين إلى مكة, حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرائيل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم, فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم عندها , ولا يفلت منهم إلا رجلان من جهينة فلذلك جاء القول: وَعِندَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقينُ
فذلك قوله { ولو ترى إذ فزعوا } إلى آخره. أورده الثعلبي في تفسيره (1) , وروى أصحابنا في أحاديث المهدي عن أبي عبد الله (ع) وأبي جعفر (ع) مثله.
{
__________
(1) - يُعَوِّل الشيعة كثيرًا على ما يذكره الثعلبي في تفسيره, وتفسيره يمتليء بكثيرٍ من الأحاديث الضعيفة, وقد وصفه بعض العلماء بأنه دّيِّن ولكنه كحاطب ليل.لأنه لا ينتقي ما يجمعه.(2/84)
وقالوا } أي ويقولون في ذلك الوقت وهو يوم القيامة أو عند رؤية البأس أو عند الخسف في حديث السفياني { آمنا به وأنى لهم التناوش } أي ومن أين لهم الانتفاع بهذا الإيمان الذي أُلجئوا إليه, بيَّن سبحانه أنهم لا ينالون به نفعاً كما لا ينال أحدٌ التناوش { من مكان بعيد }. وقيل: معناه أنهم طلبوا المردّ إلى الدنيا فالمراد أنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ولم يرد بعد المكان وإنما أراد بعد انتفاعهم بذلك وبعدهم عن الصواب.أهـ (1)
و قال الفيض الكاشاني:
{ (52) وَقَالُوا آمَنّا بِهِ } قال: يعني بالقائم من آل محمد وقيل بمحمد صلّى الله عليه وآله.
{ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } التناول يعني تناول الإِيمان { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يعني بعد انقضاء زمان التكليف, قال: إنّهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال وقد كان لهم مبذولاً من حيث ينال.
{ (53) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } يعني أوان التكليف { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } ويرجمون بالظنّ ويتكلّمون بما لم يظهر لهم { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } من جانب بعيد من أمره.
{ (54) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } قال: يعني أن لا يعذّبوا { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } قال: يعني من كان قبلهم من المكذّبين هلكوا { إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُرِيبٍ }.
في المجمع: عن السجاد والحسن بن الحسن بن علي عليهما السلام في هذه الآية: هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم .أهـ (2)
فوائد ذات صلة:
الأولى: ضعَّفَ كثيرٌ من علماء الحديث الأحاديث التي يُذكر فيها السفياني.
__________
(1) - مجمع البيان (8/228-229)
(2) - تفسير الصافي (4/222 ) وانظر تفسير نور الثقلين(4/343) وانظر كتاب عصر الظهور لعلي الكورامي العاملي ص:133(2/85)
الثانية: قد ذُكر في أحاديث صحيحة خبر الجيش الذي يُخسف به بعد ظهور المهدي رضي الله عنه, وهذا الجيش يأتي لقتال المهدي رضي الله عنه عندما يعلمون أن المهدي يلوذ بالبيت الحرام, وإن كانت هذه الأحاديث لم تصرح بأنه المهدي ولكن حملها العلماء على ذلك, فقد روى البخاري (2012): عن عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ".
وروى مسلم (2882):ٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ قَالَ: دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَأَنَا مَعَهُمَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلَاهَا عَنْ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. فَقَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ, وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ ".(2/86)
وروى مسلم(2883) وغيره: عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ يَغْزُونَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِمْ وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ, ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ " وفي رواية له بلفظ:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ, يَعْنِي الْكَعْبَةَ, قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا عَدَدٌ وَلَا عُدَّةٌ يُبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ ".
الثالثة: إنَّ كلاً من أهل السنة والشيعة يؤمنون بظهور المهديّ المنتظر في آخر الزمان وأنه سيلي أمر المسلمين, وسيملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلمًا وجوراً, وقد صحت الأحاديث بذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَمْتَلِئَ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا قَالَ ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي, أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي, يَمْلَؤُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا"رواه أحمد(11331) وغيره (1) عن أبي سعيد الخدري, وفي رواية له(11239) بلفظ:" تُمْلَأُ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا, ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي, يَمْلِكُ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا" .
لكن المهديّ الذي ينتظره الشيعة غير المهدي الذي ينتظره أهل السنة.
__________
(1) - ورواه أيضًا أبو يعلى(987) وابن حبان(6823 ) والحاكم(8674) وصححه .(2/87)
فأهل السنة يرون أنه سيولد في آخر الزمان, ولم يولد حتى الآن , وأن اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه كاسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمد بن عبد الله لا ابن الحسن, لورود الآحاديث الصحيحة بذلك كما في سنن أبي داود- واللفظ له- والترمذي وصححه:عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ, لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي, يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي" زَادَ فِي حَدِيثِ فِطْرٍ:" يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا" وَقَالَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:" لَا تَذْهَبُ أَوْ لَا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي" (1)
__________
(1) -أبو داود( 4282) والترمذي( 2230) وقال الترمذي(4/505): وفي الباب عن عليٍّ و أبي سعيد و أم سلمة و أبي هريرة " .ورواه أحمد(773 ) عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه.(2/88)
وقيل: إنه من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما (1) .
__________
(1) - ذكر الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم مجمل صفات المهدي-عند أهل السنة- فقال:اسمه محمد بن عبد الله من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم, من ولد فاطمة,أجلى الجبهة ,أقنى الأنف, يصلحه الله في ليلة , تملاُ الأرض قبل خلافته ظلمًا وجورًا, فيملؤها بعد خلافته قسطًا وعدلاً وذلك في آخر الزمان.يملك سبع سنين, يسقيه اللهُ الغيثَ وتخرج الأرض نباتها, وتكثر الماشية, وتعظم الأمة, وتنعم في عهده نعمة لم تنعمها قط, يعطِي المال صِحاحًا, ويحثيه حثيًا لا يعده عدًا.ينزل عيسى بن مريم فيصلي وراءه مما يستلزم أن يكون المهدي معاصرًا خروج الدجال لأن عيسى عليه السلام يقتله-أي الدجال- بعد نزوله من السماء .أهـ من كتابه المهدي ص:28(2/89)
أما الشيعة الاثنى عشرية فيرون أنه محمد بن الحسن العسكري, وهوالإمام الثاني عشر عندهم, الذي يلقبونه بالقائم ويقولون إنه ولد عام 255 أو 256 هـ وقد غاب غيبة صغرى ثم غيبة كبرى التي هو فيها الآن وهو غائب في السرداب (1)
__________
(1) - وقد وضع لهم الكذابون أخبار المهدي الغائب بعد موت الحسن العسكري وحددوا مدة غيابه ليطمئنوا أتباعهم بأنه سيخرج بعد هذه المدة وستكون لهم الدولة والعزة , ولكن خاب ظنهم ولم يخرج حتى الآن فظلوا يدلسون على أتباعهم , ويبررون ذلك بحجج غير مقبولة ..فقد روى الكليني بإسناده إلى أصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فوجدته متفكراً ينكت في الأرض, فقلت : يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكراً تنكث في الأرض أرغبة منك فيها ؟ فقال : لا والله ما رغبت فيها, ولا في الدنيا يوماً قط, ولكني فكرت في مولود يكون من ظهري ،الحادي عشر من ولدي هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ,تكون له غيبة وحيرة ,يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون ,فقلت : يا أمير المؤمنين ! وكم تكون الحيرة والغيبة ؟ قال : ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين, فقلت : وإن هذا لكائن ؟ فقال : نعم كما أنه مخلوق وأنى لك بهذا الأمر يا أصبغ ! أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة " الكافي (1/338)(2/90)
, فهو عندهم الحجة-إمام الزمان- وقد اختلق أحفاد ابن سبأ هذه الشخصية الوهمية ثم بنوْا عليها كثيرًا من الروايات التي لا أصل لها فانخدع بهم كثيرون, ولا حول ولا قوة إلاّ بالله (1) .
__________
(1) - وفي تفسير كنز الدقائق(2/240) قال: ( في كتاب كمال الدين وتمام النعمة : بإسناده إلى ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إمام أمتي وخليفتي عليها من بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر الذي يملأ الله به الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا ، والذي بعثني بالحق بشيرًا ونذيرًا إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر ، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال : يا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- : وللقائم من ولدك غيبة ؟ قال : إي وربي " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " يا جابر إن هذا الأمر من الله, وسر من سر الله ، مطوي عن عباد الله ، فإياك والشك فيه ، فإن الشك في أمر الله -عز وجل- كفر ) وبعد أن ذكر المفسر هذا الخبر الواضح كذبه لكل عاقل أعقبه قائلاً ( واعلم أن هذا الخبر يدل بصريحه على كفر أهل السنة ، فإنهم شاكون في غيبة صاحب الأمر ووجوده ، وقد صرح في الخبر بأن الشك فيه كفر ، فتبصر)!!(2/91)
وليس لهذه الشخصية وجودٌ في الحقيقة إلاّ في أذهان الشيعة الاثنى عشرية فإن الحسن العسكري لم ينجب, باتفاق سائر المسلمين, وقد أقر بذلك منهم بعض المنصفين المعتدلين الذين أرادوا الحق , فقد قال حسين الموسوي:" لقد تناول الأخ الفاضل السيد أحمد الكاتب هذا الموضوع فبين أن الإمام الثاني عشر لا حقيقة له، ولا وجود لشخصه، وقد كفانا الفاضل المذكور مهمة البحث في هذا الموضوع، ولكني أقول: كيف يكون له وجود وقد نصت كتبنا المعتبرة على أن الحسن العسكري -الإمام الحادي عشر- توفي ولم يكن له ولد، وقد نظروا في نسائه وجواريه عند موته فلم يجدوا واحدة منهن حاملاً أو ذات ولد. راجع لذلك كتاب (الغيبة للطوسي 74)، (الإرشاد للمفيد 345)، (أعلام الورى للفضل الطبرسي 380) (المقالات والفرق للأشعري للقمي 102).
وقد حقق الأخ الفاضل السيد أحمد الكاتب في مسألة نواب الإمام الثاني عشر، فأثبت أنهم قوم من الدَجَلة ادعوا النيابة من أجل الاستحواذ على ما يراد من أموال الخمس وما يلقى في المرقد أو عند السرداب من تبرعات.أهـ (1)
و تذكر لنا كتب الشيعة عن ما سيصنعه الإمام الثاني عشر المعروف بالقائم أو المنتظر عند خروجه:
1- يذبح العرب:
__________
(1) - حسين الموسوي/لله ثم للتاريخ ص:99-100 , ومما يدل من رواياتهم على أن هذا المهدي لم يولد ولا وجود له أصلاً: أن السلطات في ذلك الزمن جاءت بنساء إلى جواري الحسن العسكري فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل ,فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم ( خادم الخليفة العباسي ) وأصحابه ونسوة معهم ... فلما دفن الحسن العسكري أخذ السلطان والناس في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا في قسمة ميراثه, ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل, فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر " أنظر:أصول الكافي للكليني ( 1/505)(2/92)
روى المجلسي عن أبي جعفر بما مختصره: أن القائم-المهدي المنتظر- يسير في العرب بما في الجفر الأحمر. وهو الذبح. (1) .
وروى أيضاًعن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح, وأومأ بيده إلى حلقه (2) .
وروى أيضاً: اتق العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لم يخرج مع القائم منهم واحد (3) .
وروى أيضاً عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه مما يقتل من الناس .. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمّد لرَحِم (4) .
2- يهدم المسجد الحرام، والمسجد النبوي.
روى أبو بصير : قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا قام القائم هدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه, وحول المقام إلى الموضع الذي كان فيه ، وقطع أيدي بني شيبة ، وعلقها على باب الكعبة ، وكتب عليها : هؤلاء سراق الكعبة" (5)
وبيَّن المجلسي:أن أول ما يبدأ به -القائم- يخرج هَذَيْن - يعني أبا بكر وعمر- رطبين غضين ويذريهما في الريح ويكسر المسجد. (6)
__________
(1) - المجلسي/ بحار الأنوار( 52/318) وأقول:هل يعقل أن يشهر القائم السيف علي العرب – وهو وآباؤه منهم- ويذبحهم؟؟.
إن وراء هذه النصوص أيدي خفيةً لعبت دوراً خطيراً في بث هذه السموم.هذه الأيدي الشعوبية جعلت كسرى قد خلص من النار, إذ روى المجلسي عن أمير المؤمنين: (إن الله قد خلصه -أي كسرى- من النار وإن النار محرمة عليه) (بحار الأنوار: 41/4).
(2) - بحارا لأنوار ( 52/349)
(3) - بحار الأنوار ( 52/333)
(4) - بحار الأنوار ( 52/353)
(5) - بحار الأنوار (52/338)
(6) - بحار الأنوار( 52/386).(2/93)
وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل أنه قال : إذا قام القائم ، سار إلى الكوفة ، فهدم بها أربعة مساجد ، ولم يبق مسجد على الأرض له شرف إلا هدمها ، وجعلها جماء (1) .
3- يقيم حكم آل داود:
وعقد الكليني بابًا في أن الأئمة عليهم السلام إذا ظهر أمرُهم حكموا بحكم
آل داود، ولا يسألون البيِّنة ثم روى عن أبي عبد الله قال: إذا قام قائم آل محمّد حكم بحكم داود وسليمان ولا يسأل بينة (2) .
وقال أبو عبد الله: لكأني انظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد (3) .
__________
(1) - بحار الأنوار( 52/339) وقال حسين الموسوي في كتابه لله ثم للتاريخ (ص:101) : إن من المتعارف عليه، بل المسلم به عند جميع فقهائنا وعلمائنا أن الكعبة ليس لها أهمية، وأن كربلاء خير منها وأفضل، فكربلاء حسب النصوص التي أوردها فقهاؤنا هي أفضل بقاع الأرض، وهي أرض الله المختارة المقدسة المباركة، وهي حرم الله ورسوله وقبلة الإسلام وفي تربتها الشفاء، ولا تدانيها أرض أو بقعة أخرى حتى الكعبة. وكان أستاذنا السيد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء يتمثل دائماً بهذا البيت:
ومن حديث كربلا والكعبة ...... لكربلا بانَ علوُّ الرتبة.
(2) - أصول الكافي (1/397).
(3) - بحار الأنوار(52/135)(2/94)
ولست أدري لماذا يحكم مهديُّهم بحكم آل داود ولا يحكم بالقرآن والسنة؟ ألا يؤكد هذا أن واضع هذه الأخبار من أحفاد ابن سبأ (1) .
* * *
الخاتمة
__________
(1) - من الباحثين من يرى أن أصل التشيع ذو صبغة يهودية وذلك لأن ابن سبأ كان أول من قال بالنص والوصية، والرجعة، وابن سبأ يهودي، وهذه الآراء صارت بعد ذلك من أصول المذهب الشيعي. وقد قال بهذا الرأي جمع من الباحثين منهم الأستاذ أحمد أمين، حيث قال: "فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة، وقالت الشيعة: إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلاً كما قال اليهود: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}[البقرة:80]. والنصرانية ظهرت في التشيع في قول بعضهم: إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه..." [انظر: فجر الإسلام ص: 437] ويرى جولد تسيهر أن فكرة الرجعة تسربت إلى التشيع من طريق المؤثرات اليهودية والنصرانية (انظر: العقيدة والشريعة ص 215).
ومن الباحثين من يرى القول بالأصل الفارسي ( فارسية التشيع ): لأن العرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك، وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى التقديس، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "إنا نعتقد أن الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك والوراثة، والتشابه بين مذهبهم ونظام الملك الفارسي واضح، ويزكي هذا أن أكثر أهل فارس من الشيعة، وأن الشيعة الأولين كانوا من فارس" [محمد أبو زهرة/ تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/38]. [وانظر:ابن حزم/ الفصل: 2/273 ](2/95)
أرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما أردت عرضه من الفرق الواضح بين منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الشيعة الاثنى عشرية في التفسير, وبيان تهافت ما بنى عليه هؤلاء الشيعة آراءهم ومعتقداتهم في تفاسيرهم.فتزول الفرقة بزوال الشبهة, فلا يعقل أن تجتمع الأمة على آراء ومعتقدات باطلة, فالباطل سُبُله كثيرة ومتعددة مما يؤدي إلى الاختلاف, أما الحق فله سبيل واحد مما يؤدي إلى الوحدة والاجتماع, لذا لن ينجح من يدعو إلى الوحدة أوالتقريب بين المذاهب إلا بعد النجاح في القضاء على الآراء والمعتقدات الفاسدة التي أدت إلى وقوع الفتنة بين الأمة, ولن يتم للأمة ذلك إلا بالعودة إلى سالف مجدها, وأن تتولّى الله ورسوله والمؤمنين وعلى رأس هؤلاء المؤمنين:صحابة النبي الأمين وأهل بيته الطيبين رضي الله عنهم أجمعين.وأن تلتزم بما يلي:
1- العودة إلى كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو النبع الصافي والمعجزة الخالدة والدستور الذي تستمد منه الأمة منهجها ونورها.
2- العودة إلى ما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها أيضًا وحي من الله تعالى, وهي المذكرة التفسيرية للقرآن, فلا يُفهم القرآن الكريم على الوجه الصحيح إلاّ بها.
3- العودة في فهم الدين إلى ما كان عليه أول هذه الأمة, إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلُح به أولها.(2/96)
4- عدم تقديس أقوال الرجال إذ كل إنسانٍ مهما علا شأنه ونبُل قدره يؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.فلا ينبغي لمسلم أن يقدم قولاً على قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{الحجرات:1} وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } {الأحزاب:36} ولمّا نهى عمر رضي الله عنه وهو أمير للمؤمنين عن التمتع في الحج خالفه الصحابة في ذلك ومنهم ابنه عبد الله لأن قوله لم يوافق السنة, وقد ورد عن أئمة الفقه كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما ما يفيد ترك كلامهم إذا خالف السنة, وأيضًا ورد في كتب الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت كجعفر الصادق والرضا رضي الله عنهما ما حاصله:لا تقبلوا علينا حديثًا إلا ما وافق القرآن والسنة ".وقد سبق بعض هذا.
5- أن يعذر المسلمون بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه من الفروع التي يجوز فيها الخلاف بين العلماء, إذ لا يؤدي ذلك إلى نقض أخوة الإسلام.
هذا. وما كان من توفيق فمن الله الرحمن, وما كان من زلل أو تقصير فمني وهذا شأن الإنسان , وحسبي أني بذلت قصارى جهدي . وأسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر لي ما قصرت فيه, وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل.وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم ومرافقة رسوله في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا . وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًاإلى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
وسلامٌ على المرسلين.
والحمد لله رب العالمين.
بقلم
السيد مختار العصَري
مصر - دمياط(2/97)
أهم المراجع
أولاً: مراجع أهل السنة:
(أ) كتب الحديث:
1- مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي /موطأ الإمام مالك/ تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي/
الناشر : دار إحياء التراث العربي/مصر.
2- محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي/ صحيح البخاري/ دار ابن كثير / بيروت/ الطبعة الثالثة 1407 هـ .
3- مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري /صحيح مسلم/ تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي/ دار إحياء التراث العربي / بيروت.
4- سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي /سنن أبي داود/ تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد /دار الفكر.
5 - محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي / سنن الترمذي/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت
6- أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي /المجتبى من السنن/ تحقيق : عبدالفتاح أبو غدة/ مكتب المطبوعات الإسلامية /حلب/ الطبعة الثانية 1406هـ .
7- محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني/ سنن ابن ماجه/ تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر / بيروت.
8- أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني / مسند الإمام أحمد بن حنبل/ مؤسسة قرطبة /القاهرة.
9- عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي / سنن الدارمي/ دار الكتاب العربي/ بيروت/ الطبعة الأولى 1407هـ.
10- محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري / صحيح ابن خزيمة/ تحقيق : د. محمد مصطفى الأعظمي/ المكتب الإسلامي/ بيروت 1390هـ
11- محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي/صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان/ تحقيق : شعيب الأرنؤوط / مؤسسة الرسالة /بيروت/ الطبعة الثانية 1414 هـ
12- محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري / المستدرك على الصحيحين/ تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا / دار الكتب العلمية /بيروت / الطبعة الأولى 1411هـ
13- علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي /سنن الدارقطني/ دار المعرفة/بيروت 1386 هـ(2/98)
14- سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني /المعجم الكبير/ تحقيق : حمدي بن عبدالمجيد السلفي/ مكتبة العلوم والحكم /الموصل/ الطبعة الثانية 1404هـ
15- أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني /المعجم الأوسط/دار الحرمين / القاهرة 1415هـ
16- أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني /المعجم الصغير/ : المكتب الإسلامي /بيروت/ الطبعة الأولى 1405 هـ
17- أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي /مسند أبي يعلى/ تحقيق : حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث / دمشق/ الطبعة الأولى 1404هـ
18- أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني/ مصنف عبد الرزاق/ تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي/ المكتب الإسلامي / بيروت/ الطبعة الثانية 1403هـ
19- أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي /المصنف في الأحاديث والآثار/ تحقيق : كمال يوسف الحوت/ مكتبة الرشد / الرياض/ الطبعة الأولى 1409هـ
20- أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي /سنن البيهقي الكبرى/ تحقيق : محمد عبد القادر عطا/ مكتبة دار الباز /مكة المكرمة 1414 هـ
21- أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي /سنن النسائي الكبرى/ دار الكتب العلمية/ بيروت/ الطبعة الأولى 1411 هـ .
22- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني /حلية الأولياء وطبقات الأصفياء/ دار الكتاب العربي /بيروت/ الطبعة الرابعة 1405هـ .
(ب) كتب التفسير وعلوم القرآن :
1- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري/تفسير جامع البيان وتفسير القرآن/ بتحقيق أحمد شاكر/مؤسسة الرسالة/ الطبعة الأولى2000م.
2- أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي/ معالم التنزيل/ تحقيق محمد النمر/دار طيبة/الطبعة الرابعة 1997م.
3- أبو الفرج ابن الجوزي/زاد المسير في علم التفسير/تحقيق د.محمد بن عبد الرحمن,وأبو المهاجر/دار الفكر ببيروت/الطبعة الأولى1407هـ(2/99)
4- أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي/الجامع لأحكام القرآن/تحقيق عماد البارودي وخيري سعيد / المكتبة التوفيقية/الطبعة الأولى.
5- فخر الدين محمد بن عمر الرازي/ مفاتيح الغيب/دار الفكر/ بيروت.
6- أبو الفداء اسماعيل بن كثير/ تفسير القرآن العظيم/مكتبة مصر/الطبعةالأولى.
7- عبد الله بن عمر البيضاوي/أنوار التنزيل وأسرار التأويل/دار الفكر /بيروت.
8- شهاب الدين محمد الألوسي/ روح المعاني/ دار إحياء التراث العربي/بيروت.
9- محمد بن علي الشوكاني/ فتح القدير/ عالم الكتب.
10- عبد الرحمن بن ناصر السعدي/تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرحمن/ دار المنار/ مصر.
11- الشنقيطي/ أضواء البيان/دار الفكر للطباعة والنشر/ بيروت /طبعة 1990م.
12- د.محمد سيد طنطاوي/ التفسير الوسيط للقرآن الكريم/الرسالة/ الطبعة الثانية.
13- د. عبد الله شحاته /تفسير القرآن الكريم/دار غريب للطباعة والنشربالقاهرة.
14- لجنة من العلماء/المنتخب في تفسير القرآن الكريم/المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر الطبعة الثانية عشر عام 1986م.
15- محمد علي الصابوني/ صفوة التفاسير/دار الصابوني/الطبعة التاسعة.
16- أبو بكر الجصاص/ أحكام القرآن / تحقيق : محمد الصادق قمحاوي/ دار إحياء التراث العربي /بيروت/طبعة: 1405 هـ
17- جلال الدين السيوطي/ الإتقان في علوم القرآن / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ مكتبة دار التراث/القاهرة.
18- د. محمد حسين الذهبي/التفسير والمفسرون/مكتبة وهبة/ الطبعة السابعة عام200م.
19- محمد علي الصابوني/التبيان في علوم القرآن/دار عمر بن الخطاب/الإسكندرية.
20- محمود بن عمر الزمخشري (المعتزلي)/تفسير الكشاف /طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر/طبعة عام1966م
(ج) كتب أخرى منوعة :
1- محمد بن سعد/الطبقات الكبرى/ دار صايد/ بيروت.
2- محمد بن جرير الطبري/ تاريخ الأمم والملوك/مؤسسة الأعلمي للمطبوعات/بيروت.(2/100)
3- أبو الحسن الأشعري/مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين/تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد/مكتبة النهضة المصرية/الطبعة الثانية 1389هـ
4- الحافظ الخطيب البغدادي/تاريخ بغداد/تحقيق مصطفى عبد القادر عطا/دار الكتب العلمية /الطبعة الأولى 1997م/بيروت.
5- تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية/منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية/تحقيق د.محمد رشاد سالم/مؤسسة قرطبة/الطبعة الأولى1406هـ.
6- الحافظ ابن كثير/البداية والنهاية/دار المنار/الطبعة الأولى.
7- الحافظ شمس الدين الذهبي/ميزان الاعتدال/دار المعرفة/ بيروت .
8- الحافظ الذهبي/سير أعلام النبلاء /تخريج شعيب الأرنؤوط,وتحقيق أكرم البوشي/مؤسسة الرسالة /بيروت/الطبعة التاسعة1993.
9-الحافظ ابن حجر العسقلاني/لسان الميزان/مؤسسة الأعلمي للمطبوعات /بيروت/الطبعة الثانية1971م.
10- الحافظ ابن حجر/تقريب التهذيب/تحقيق مصطفى عبد القادر عطا/دار الكتب العلمية بيروت/الطبعة الثانية 1995م.
11- الحافظ ابن حجر العسقلاني/ فتح الباري شرح صحيح البخاري/دار المعرفة / بيروت/الطبعة الثانية.
12- ابن أبي العز الحنفي/ شرح العقيدة الطحاوية/دار الحديث طبعة 2000م.
13- د.محمد أبو زهو/الحديث والمحدثون/ المكتبة التوفيقية/ القاهرة.
14- د.ناصر عبد الله القفاري/أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية/طبعة الجامعة.
15- د. علي أحمد السالوس/ مع الشيعة الاثنى عشرية في الأصول والفروع/ دار التقوى/ مصر.
16- محمد أبو زهرة/أصول الفقه/دار الفكر العربي/القاهرة.
17- د.محمد سليمان الأشقر/ الواضح في أصول الفقه/دار النفائس/بيروت.
18- د.سليمان عبد الله السلومي/أصول الإسماعيلية/دار الفضيلة /الرياض.
19- عثمان الخميس/حقبة من التاريخ/ دار الإيمان بالإسكندرية.
20- أحمد أمين/فجر الإسلام/ الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة عام 1996م.(2/101)
21-عطية قابل نصر/غاية المريد في علم التجويد/دار التقوي/الطبعة السابعة2000م.
22- محمد بن إسماعيل المقدم/المهدي/الدار العالمية بالإسكندرية/الطبعة الثامنة.
23- د.محمود عبد الرحمن عبد المنعم/معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية/دار الفضيلة.
24- الإمام محمد عبده/ شرح نهج البلاغة/دار الزخائر بقم/الطبعة الأولى 1412هـ
25- محمد خليل هراس/شرح العقيدة الواسطية/ دار الآثار/ الطبعة الأولى2003م.
ثانيًا : مراجع الشيعة الإمامية:
(أ) كتب الأحاديث :
1- محمد بن يعقوب الكليني/الكافي/دار الكتب الإسلامية.
2- ابن بابويه القمي أبو جعفر محمد بن علي / من لا يحضره الفقيه/مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم/الطبعة الثانية.
3- أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ الاستبصار / دار الكتب الإسلامية / طهران .4- الطوسي/ تهذيب الأحكام / دار الكتب الإسلامية /الطبعة الرابعة / طهران .
5- محمد باقر المجلسي/ بحار الأنوار/تحقيق محمد باقر البهبودي/مؤسسة الوفاء/بيروت/الطبعة الثالثة.
6- الحر العاملي/ وسائل الشيعة/تحقيق:محمد الرازي/ دار إحياء التراث العربي/بيروت.
7- الميرزا النوري / مستدرك الوسائل/ مؤسسة آل البيت لإحياء التراث /بيروت /الطبعة الثانية 1988م.8- الميرزا النوري /خاتمة المستدرك/ مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث / قم/ الطبعة الأولى 1415هـ. 9- السيد البروجردي/جامع أحاديث الشيعة/المطبعة العلمية بقم.
10- الشريف الرضي:الخطب المنسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه/ نهج البلاغة/تحقيق صبحي الصالح/دار الكتب اللبناني/طبعة1387هـ.
(ب) كتب التفسير وعلوم القرآن:
1- علي بن إبراهيم القمي/تفسير القمي/تحقيق السيد طيب الجزائري/مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر بقم.
2- محمد بن مسعود العياشي/تفسير العياشي/المكتبة العلمية الإسلامية لصاحبها محمود الكتابجي.(2/102)
3- الحسن العسكري/التفسيرالمنسوب إلى العسكري/ مدرسة الإمام المهدي بقم/الطبعة الأولى 1409هـ.
4- أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/التبيان في تفسير القرآن/تحقيق أحمد حبيب العاملي/مكتب الإعلام الإسلامي /الطبعة الأولى 1409هـ.
5- الفضل بن الحسن الطبرسي/مجمع البيان/مؤسسة الأعلمي/بيروت/الطبعة الأولى 1995م
6- الفضل بن الحسن الطبرسي/جوامع الجامع/مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
7- المولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني/الصافي في تفسير كلام الله/مكتبة الصدر/بطهران/الطبعة الثانية 1416هـ.
8- المولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني/التفسيرالأصفى /مكتب الإعلام الإسلامي/الطبعة الأولى 1418هـ .
9- ابن جمعة العروسي الحويزي/تفسير نور الثقلين/تحقيق السيد هاشم المحلاتي/مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر/قم.
10- الميرزا محمد المشهدي/تفسير كنز الدقائق/مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
11- السيد محمد حسين الطباطبائي/ الميزان في تفسير القرآن/منشورات جماعة المدرسين بالحوزة بقم.
12-السيد عبد الله شبر/تفسير القرآن الكريم/طبعة مرتضى الرضوي.
13- ناصر مكارم الشيرازي/الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل /قسم الترجمة والنشر لمدرسة أمير المؤمنين.
14- أبو القاسم الخوئي/البيان في تفسير القرآن/دار الزهراء للطباعة والنشر/بيروت/الطبعة الرابعة 1975م.
15- محمد جواد مغنية/التفسير المبين/دار التعارف/بيروت.
16- المحقق الأردبيلي/زبدة البيان/تحقيق محمد باقر البهبودي/المكتبة المرتضوية بطهران.
17- القطب الراوندي/ فقه القرآن/ مكتبة النجفي المرعشي/ الطبعة الثانية 1405هـ .
(ج) كتب أخرى متنوعة :
1- الشيخ الصدوق ابن بابويه/ الاعتقادات في دين الإمامية/دار المفيد للطباعة والنشر بيروت/الطبعة الثانية 1993م.
2- الشيخ المفيد/ أوائل المقالات/ تحقيق إبراهيم الأنصاري/ دار المفيد ببيروت/الطبعة الثانية1993م.(2/103)
3- الشيخ المفيد/ رسالة المتعة/ دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع / بيروت / الطبعة الثانية 1993م.
4- الشيخ المفيد/ الأمالي/ دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع / بيروت.
5- محمد بن الحسن الحر العاملي/الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة/الطبعة العلمية بقم.
6- الشيخ الأميني/كتاب الغدير/دار الكتاب العربي/بيروت/الطبعة الرابعة 1977م.
7- عبد الله الممقاني/تنقيح المقال /الطبعة المرتضوية/النجف طبعة 1348هـ.
8- أبو القاسم الخوئي/معجم رجال الحديث/منشورات مدينة العلم بيروت/الطبعة الثالثة.
9- السيد حسن الصدر/نهاية الدراية/تحقيق ماجد الغرباوي/نشر المشعر بقم.
10- أبو الفضل حافظيان البابكي/رسائل في دراسة الحديث/دار الحديث للطباعة والنشر بقم.
11- علي الكوراني العاملي/عصر الظهور/مكتب الإعلام الإسلامي بقم.
12- الخوميني/الرسائل/تحقيق: مجتبى الطهراني/ مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع/ طبعة 1385هـ
13- محمد جواد مغنية/الشيعة والحاكمون/ دار التعارف/بيروت/ الطبعة الرابعة.
14- السيد حامد النقوي/خلاصة عبقات الأنوار/ مؤسسة البعثة / طهران.
15- الشيخ المحمودي/ نهج السعادة /دار التعارف بيروت/الطبعة الأولى 1976م.
الفهرس
الموضوع رقم الصفحة
المقدمة .............................................................................. 2
بين يدي البحث ...................................................................... 5
القسم الأول:القرآن بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ........................... 26
تعريف القرآن ....................................................................... 26
اعتقاد الشيعة الاثنى عشرية في القرآن ............................................. 28
حفظ الله تعالى للقرآن .............................................................. 34(2/104)
قول جمهور الشيعة الاثنى عشرية بالتحريف ....................................... 37
قول بعضهم بعدم التحريف ......................................................... 46
جمع القرآن ........................................................................ 54
القراءات المتواترة ................................................................. 60
النسخ في القرآن ................................................................... 66
علاقة السنة بالقرآن ................................................................ 72
القسم الثاني: التفسير بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ........................ 75
ما هو التفسير بالمأثور.............................................................. 78
هل فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله ؟ ................................ 79
الصحابة المفسرون ............................................................... 79
طبقات التابعين المفسرين ........................................................... 87
ما موقف الشيعة الاثنى عشرية من التفسير بالمأثور ................................ 98
الموضوع رقم الصفحة
ما معنى التفسير بالرأي ........................................................... 101
ما معنى التفسير الإشاري ......................................................... 105
ما العلوم التي يحتاجها المفسر ..................................................... 112
ما الآداب التي ينبغي أن يتصف بها المفسر ........................................ 112
موقف الزيدية من التفسير ......................................................... 114
موقف الإسماعيلية الباطنية من التفسير ........................................... 115(2/105)
موقف الاثنى عشرية من التفسير ................................................. 125
موقفهم من الأئمة وأثر ذلك في تفسيرهم .......................................... 125
تأثرهم بآراء المعتزلة وأثر ذلك في تفاسيرهم ...................................... 127
تأثرهم بمذاهبهم الفقهية والأصولية................................................ 127
أثر التفسير الباطني في تلاعبهم بالنصوص........................................ 131
القسم الثالث:أمثلة من التفاسير لبعض الآيات التي بنى عليها الشيعة الإمامية أحكام وعقائد تخالف أهل السنة ................................................................. 136
تفسير ما استدلوا به على وجوب الإمامة لعلي :
1- المائدة : 55-56 .......................................................... 137
2-المائدة: 3 .................................................................... 146
3- المائدة: 67 .................................................................. 156
تفسير ما استدلوا به على عصمة الأئمة:
1- البقرة: 124 ................................................................. 169
2- الأحزاب : 32-34 ........................................................ 175
3- النساء: 59 ................................................................. 185
الموضوع رقم الصفحة
أمثلة من تفسير بعض الآيات التي – بزعمهم- نزلت في فضل الأئمة :
1- البقرة: 143 ................................................................. 193
2- آل عمران: 110 ............................................................. 200
3- التوبة: 105 ................................................................ 204
4- الإسراء : 71 ................................................................ 207(2/106)
تفسير آية المباهلة ................................................................ 211
أمثلة من تفسير بعض الآيات التي يقولون فيها بأن الأمة ظلمت آل البيت وتبين موقفهم من الصحابة:
1- النساء: 165-169 ........................................................ 218
2- الأنعام: 63 ................................................................... 221
3- النساء:137 ................................................................ 224
4- النساء: 49-53 ........................................................... 229
5- التوبة: 40 .................................................................. 234
6- الفتح: 29 ................................................................. 248
7- التحريم: 1-5 .............................................................. 264
مثال من تفسير ما استدلوا به على عقيدة البداء ................................. 279
مثال من تفسير ما استدلوا به على عقيدة الرجعة ................................ 291
تفسير الأية التي يستدلون بها على عقيدة التقية ................................. 305
أمثلة من التفسير تبين تأثرهم بآراء المعتزلة:
1- الأنبياء : 2 ................................................................. 316
2- القصص : 88 ............................................................... 325
3- القيامة :22-23 ........................................................... 331
أمثلة من تفسير ما استدلوا به على آرائهم الفقهية المخالفة لأهل السنة:
1- البقرة: 222-223 ........................................................ 340
2- النساء: 23-24 ............................................................. 348(2/107)
3- المائدة :6 .................................................................... 374
4- الأنفال : 41 .................................................................. 389
5- الحشر:7-10 ................................................................ 403
6- النمل :15-16 ............................................................... 408
7- الطلاق: 1-2 ................................................................ 414
8- آيات المواريث من سورة النساء .............................................. 420
مثال من التفسير يبين هل مات أبو طالب مسلمًا أم كافرًا؟ .......................... 442
مثال من التفسير يبين حال الظالمين عند الموت أو في الآخرة أو عند خروج المهديّ 450
الخاتمة ............................................................................. 460
أهم المراجع ....................................................................... 462
الفهرس ............................................................................ 469(2/108)