المعنى القرآنى
فى ضوء اختلاف القراءات
أ0د أحمد سعد الخطيب
الأستاذ المشارك بكلية التربية للبنات بجازان
أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر
إهداء من المؤلف وفقه الله
لشبكة التفسير والدراسات القرآنية
www.tafsir.net
صفر 1425هـ
افتتاحية البحث
الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ، تبصرة وذكرى لأولى الألباب ، وجعل الحمد فاتحة أسراره ، وخاتمة تصاريفه وأقداره. ونصلى ونسلم على أكرم خلقه ، وخاتم رسله محمد –صلى الله عليه وسلم -، الذى أرسله الله بالقرآن ، فدعا إلى الله به على بصيرة ، فكان سبباً فى هداية الناس إلى الطريق المستقيم ، والمنهج القويم.
((وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)) (1)
أما بعد ،،
فالقرآن الكريم ، كتاب الله الخالد ، ومعجزة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، التى لا تفنى إلى الأبد. وهو كتاب منتظم الآيات ، متعاضد الكلمات ، لا نفور فيه ولا تعارض ، ولا تضاد ولا تناقض ، صدق كلها أخباره ، عدل كلها أحكامه ، وصدق الله إذا يقول:
((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) (2)
__________
(1) سورة الأنعام: 115
(2) سورة النساء : 82(1/1)
هذه الآية تنفى عن القرآن الكريم التناقض فى معانيه ومبانيه ، أما من جهة المعنى ، فلا تجد آية تثبت معنى تنقضه آية سواها ، ولا يَرِد على ذلك الناسخ والمنسوخ ، فإن ذلك ليس من التناقض ولا من الاختلاف فى شئ ؛ لأن النسخ رفع لحكم ، وإثبات لآخر ، فالباقى إذن حكم واحد هو المحصلة النهائية ، فليس ثمت ما يعارضه ، ولا يرد على ذلك أيضاً موهم الاختلاف ، فإنه متناقض فى نظر من لا نظر له ، لكن عند التدبر يتم التوفيق والالتئام ، ولا يرد على ذلك أيضاً الاختلاف بين قراءاته ، فهو اختلاف تلازم وتنوع ، وليس اختلاف تضاد وتناقض ، ولذلك فإن القراء لم يعترض بعضهم على بعض ، فالكل صحيح ما دام مستوفياً لشروطه ، كما سيأتى ذلك فى محله إن شاء الله تعالى.
وأخيراً لا يرد على ذلك الاختلاف حول تفسيره ، أو وجوه إعرابه ، أو معانى لغاته ؛ لأن ذلك ليس اختلاف فى القرآن ، بل هو اختلاف فى كلام البشر عن القرآن.
والفرق بين القرآن والتفسير ، تماماً كالفرق بين الخالق والمخلوق.
وقد سئل الإمام الغزالى عن معنى قوله تعالى: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) فأجاب بما صورته:
الاختلاف لفظ مشترك بين معان ، وليس المراد نفى اختلاف والناس فيه ، بل نفى الاختلاف عن ذات القرآن. يقال هذا كلام مختلف فيه ، أى: لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة ، إذ هو مختلف ، أى: بعضه يدعو إلى الدين ، وبعضه يدعو إلى الدنيا ، أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر ، وبعضه منزحف ، وبعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة ، وبعضه على أسلوب يخالفه.
وكلام الله منزه عن هذه الاختلافات ، فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره ، وعلى مرتبة واحدة فى غاية الفصاحة ، فليس يشتمل على الغث والسمين ، ومسوق لمعنى واحد ، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى ، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين. أ.هـ (1)
__________
(1) ينظر : البرهان فى علوم القرآن 1/ 46 ، معترك الأقران 1 / 9(1/2)
وقريب من هذا ما نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه :
" لا تنازعوا فى القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ، ولا ينفد لكثرة الرد ، وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه ، ولو كان شئ من الحرفين -أى القراءتين - ينهى عن شئ يأمر به الآخر ، كان ذلك الاختلاف ، ولكنه جامع ذلك كله لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ، ولا شئ من شرائع الإسلام.
ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيأمرنا فنقرأ فيخبرنا أن كلنا محسن….." (1)
أما بالنسبة لنفى التناقض عن القرآن والإجابة عما أوردوه مما يوهم ذلك فقد عالجته فى كتابى "إزالة الإلباس عن كلام رب الناس" ، ويأتى هنا فى هذا البحث المتواضع الكلام عن تفسيره من خلال مناقشة المفسرين فى الأوجه الكثيرة التى يذكرونها حول الآية الواحدة ، واضعاً يدى على أحد أسباب الخلاف التى تؤدى إلى هذه الآراء المتعددة فى التفسير ، والتى مرجعها غالباً إلى اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد.
وقد تناولت فى هذا البحث سبباً من الأسباب التى كانت وراء هذه الآراء الكثيرة المتناثرة فى كتب التفسير ، خاصة المعنيّ منها بالتفسير المأثور والسبب المختار هو "اختلاف القراءات" حيث بينت كيف كان اختلاف القراءات سبباً فى اختلاف المفسرين حول بيان المعنى المقصود من النص القرآنى، ثم اجتهدت فاستخرجت من أقوال العلماء ضوابط وقواعد كلية تساعد على حسم هذا الخلاف ، و الوصول إلى المعنى الراجح. وقد جعلت عنوان هذا البحث:
المعنى القرآنى فى ضوء اختلاف القراءات
تأصيل وتطبيق
فالله أسأل أن أكون قد وفقت فى أداء هذا الموضوع حقه كما أرجو أن يكون بالنسبة لى نواة طيبة لسلسلة بحوث تعنى بالضوابط والكليات التى تضئ الطريق أمام المهتمين بالدراسات القرآنية ، وأسأله سبحانه أن يجعلنى للقيام بذلك أهلا فهو سبحانه من وراء القصد ، وهو حسبى ونعم الوكيل0
__________
(1) ينظر : مناهل العرفان 1 / 186 ، المعجزة الكبرى لأبى زهرة ص 57(1/3)
أ0د: أحمد سعد محمد الخطيب
الأستاذ بجامعة الأزهر
المبحث الأول
اختلاف القراءات
أسبابه ، وأنواعه ، وفوائده
ودرء الشبهات عنه
القراءات جمع قراءة ، والقراءة فى اللغة مصدر قرأ0
وفى الاصطلاح: مذهب من مذاهب النطق فى القرآن، يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفاً به غيره ، سواء أكانت هذه المخالفة فى نطق الحروف ، أو فى نطق هيئاتها.
وعلم القراءات:
هو علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية ، وطريق أدائها اتفاقاً واختلافاً ، مع عزو كل وجه لناقله. فموضوع علم القراءات إذن ، كلمات القرآن الكريم من حيث أحوال النطق بها ، وكيفية أدائها.(1)
نشأة القراءات:
الزمن الذى نشأت فيه القراءات القرآنية ، هو نفسه زمن نزول القرآن الكريم ، ضرورة أن هذه القراءات ، قرآن نزل من عند الله فلم تكن من اجتهاد أحد ، بل هى وحى أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد نقلها عنه أصحابه الكرام - رضى الله عنهم - حتى وصلت إلى الأئمة القراء ، فوضعوا أصولها ، وقعدوا قواعدها ، فى ضوء ما وصل إليهم ، منقولاً عن النبى -صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك ، فالمعول عليه فى القراءات ، إنما هو التلقى بطريق التواتر ، جمع عن جمع يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب ، وصولاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم. أو التلقى عن طريق نقل الثقة عن الثقة وصولاً كذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، ويضاف إلى هذا القيد قيدان آخران سيذكران فى محلهما عند الحديث عن شروط القراءة الصحيحة ، أو ضوابط قبول القراءة.
__________
(1) المهذب فى القراءات العشر 1 / 6(1/4)
وانطلاقاً من ذلك وبناءً عليه ، فإن إضافة هذه القراءات إلى أفراد معينين ، هم القراء الذين قرأوا بها ، ليس لأنهم هم الذين أنشأوها أو اجتهدوا فى تأليفها ، بل هم حلقة فى سلسلة من الرجال الثقات الذين رووا هذه الروايات ونقلوها عن أسلافهم ، انتهاءً بالنبى صلى الله عليه وسلم ، الذى تلقى هذه القراءات وحياً عن ربه - جل وعلا. وإنما نسبت القراءات إلى القراء لأنهم هم الذين اعتنوا بها وضبطوها ووضعوا لها القواعد والأصول.
ما سبب اختلاف القراءات ؟
لقد عرفنا فيما مضى أن هذه القراءات منقولة عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ومعنى ذلك أن الوحى قد نزل بها من عند الله.
والإجابة عن السؤال المطروح ، لمسها الصحابة وقت نزول القرآن واقعاً لا نظرية ، وذلك أن الصحابة - رضى الله عنهم - كانوا من قبائل عديدة ، وأماكن مختلفة ، وكما هو معروف أنه كما تختلف العادات والطباع باختلاف البيئات ، فهكذا اللغة أيضاً ، إذ تنفرد كل بيئة ببعض الألفاظ التى قد لا تتوارد على لهجات بيئات أخرى ، مع أن هذه البيئات جميعها تنضوى داخل إطار لغة واحدة ، وهكذا كان الأمر ، الصحابة عرب خلص بيد أن اختلاف قبائلهم ومواطنهم أدى إلى انفراد كل قبيلة ببعض الألفاظ التى قد لا تعرفها القبائل الأخرى مع أن الجميع عرب ، والقرآن الكريم جاء يخاطب الجميع ، لذلك راعى القرآن الكريم هذا الأمر ، فجاءت قراءاته المتعددة موائمة لمجموع من يتلقون القرآن ، فالتيسير على الأمة ، والتهوين عليها هو السبب فى تعدد القراءات.
والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك:(1/5)
جاء فى الصحيحين - عن ابن عباس رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أقرأنى جبريل على حرف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف"(1) ، وزاد مسلم: " قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا يختلف فى حلال ولا حرام"(2)
وأخرج مسلم بسنده عن أبى بن كعب ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان عند أَضَاة بنى غفار(3) قال: " فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين ، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف ، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا" (4)
والأحاديث الواردة فى هذا المقام كثيرة ، لكنى أكتفى بما ذكرت ، والمزيد فى مظانه ، ويؤخذ من ذلك ما يلى:
إن الأحرف السبعة جميعها قرآن نزل من عند الله ، لا مجال للاجتهاد فيها.
أن السبب فى هذه التوسعة هو التهوين على الأمة ، والتيسير عليها فى قراءة القرآن الكريم.
المراد بالأحرف السبعة:
__________
(1) ينظر صحيح البخارى ، كتاب فضائل القرآن ، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
(2) ينظر : صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسفرين ، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف
(3) مستنقع ماء كالغدير ، كان بموضع بالمدينة نزل عنده بنو غفار فنسب إليهم
(4) ينظر صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف(1/6)
أقوال عديدة ساقها العلماء حول مفهوم الأحرف السبعة ، التى تواترت الأحاديث فى إثبات أن القرآن نزل عليها ، الأمر الذى جعل بعض العلماء يفر من ميدان النزال ، ويقول: إن الحديث مشكل.
أقول: الأقوال الواردة فى هذا المقام أكثرها لا تستحق لضعفها أن نعول عليها فى مقامنا هذا ، ويكفينا هنا أن نشير إلى ما يستحق الذكر ، ويستأهل أن ينظر إليه بعين الاعتبار ، وذلك متوافر فى رأيين:
أحدهما : هو ما ذكره أبو الفضل الرازى وقاربه فيه كل من ابن قتيبة وابن الجزرى.
وحاصله أن الأحرف السبعة هى سبعة أوجه لا يخرج عنها الاختلاف فى القراءات وهى:
اختلاف الأسماء من إفراد ، وتثنية ، وجمع ، وتذكير ، وتأنيث.
اختلاف تصريف الأفعال من ماضى ومضارع وأمر.
اختلاف وجوه الإعراب.
الاختلاف بالنقص والزيادة.
الاختلاف بالتقديم والتأخير.
الاختلاف بالإبدال.
اختلاف اللغات - أى اللهجات - كالفتح والإمالة ، والتفخيم ، والترقيق ، والإظهار والإدغام.
وقد تعصب لهذا الرأى صاحب المناهل وساق الأمثلة لكل وجه من الوجوه المذكورة ، ورجحه على غيره مقرراً أنه الرأى الذى تؤيده الأحاديث الواردة فى المقام ، وأنه الرأى المعتمد على الاستقراء التام دون غيره ………(1) ، وقد دافع عنه أيما دفاع بالرد على كل اعتراض وجه إليه ، وإن بدا عليه التكلف فى بعض هذه الردود ، ومن ذلك رده على الاعتراض الثالث الذى وجه إليه.
وحاصل الاعتراض أن الرخصة فى التيسير على الأمة بناءً على هذا الرأى غير واضحة ، فأين اليسر فى قراءة الفعل المبنى للمجهول أو للمعلوم ؟ هنا ظهر التكلف على الشيخ فى الرد(2) - من وجهة نظرى-.
__________
(1) ينظر مناهل العرفان 1 / 155 - 157
(2) ينظر مناهل العرفان 1 / 165 ، 166(1/7)
وثانيهما: وهو ما ذهب إليه سفيان بن عيينة ، وابن جرير ، وابن وهب ، والقرطبى ، ونسبه ابن عبدالبر لأكثر العلماء (1)
وحاصله: أن المراد بالأحرف السبعة هى سبع لغات فى كلمة واحدة تختلف فيها الألفاظ مع اتفاق المعانى وتقاربها ، مثل: هلم ، واقبل ، وتعال ، إلى ، وقصدى ، ونحوى ، وقربى. فإن هذه سبعة ألفاظ مختلفة ، يعبر بها عن معنى واحد ، هو طلب الإقبال ، وليس معنى ذلك أن كل معنى فى القرآن عبر عنه بسبعة ألفاظ من سبع لغات ، بل المراد أن منتهى ما يصل إليه عدد الألفاظ المعبرة عن معنى واحد هو سبعة.
وأصحاب هذا الرأى أيدوا كلامهم بأن التيسير المنصوص عليه فى الأحاديث متوفر فى هذا الرأى. ورد أصحاب هذا الرأى كذلك على الاعتراضات الموجهة إلى رأيهم ردوداً مقبولة.
ولا أستطيع أن أطيل أكثر من هذا فى هذه المسالة حتى لا نخرج عن موضوعنا المقصود بالبحث.(2) لكن ما أريد أن أقوله بعد هذا العرض : إنه بناءً على هذا الرأى الأول تكون القراءات التى رواها القراء بوجوه متعددة راجعة إلى الأحرف السبعة. وبناءً على الرأى الثانى تكون راجعة إلى حرف واحد وهو حرف قريش ، الذى نسخت عليه المصاحف العثمانية.
النسبة بين الأحرف السبعة والقراءات السبع (3)
نسبة القراءات السبع إلى الأحرف السبعة هى نسبة الخاص إلى العام ، فالأحرف السبعة تشمل جميع القراءات بما فيها السبع.
ومن يعتقد أن القراءات السبع هى الأحرف السبعة ، فقد أبان عن جهله ، وكشف النقاب عن قلة إدراكه ؛ لأن هؤلاء القراء السبعة وهم: ابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ونافع ، وأبو الحسن الكسائى.
__________
(1) ينظر الإتقان فى علوم القرآن 1 / 48 ، منهج الفرقان للشيخ محمد على سلامة ص 18 ، مناهل العرفان 1 / 174
(2) للتوسع انظر المراجع سالفة الذكر
(3) سوف يأتى التعريف بالقراء السبعة أصحاب هذه القراءات فى المبحث القادم إن شاء الله تعلاى ، ومعهم بقية الأربعة عشر(1/8)
أقول: هؤلاء القراء السبعة لم يكونوا قد ولدوا حين ذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - الأحرف السبعة ، فهل معنى ذلك أن حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - "أنزل القرآن على سبعة أحرف" كان عارياً من الفائدة ، وبعيداً عن الواقع ، إلى أن ظهر هؤلاء القراء ، وماذا فهم الصحابة إذن من الحديث؟
ما ابعد هذا القول عن الواقع ، بل ما أجهل قائليه!!
أقسام القراءات
وبيان ما يقبل منها ومالا يقبل
نقل السيوطى عن ابن الجرزى أن أنواع القراءات ستة:
الأول : المتواتر: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم إلى منتهاه ، حتى يبلغوا به النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ومثاله ما اتفقت الطرق على نقله عن السبعة - أو غيرهم - وهذا هو الغالب فى القراءات.
الثانى: المشهور: وهو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله ، وهكذا ووافق العربية ولو بوجه ، ووافق رسم المصحف العثمانى ، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ ، إلا أنه لم يبلغ درجة المتواتر. ومثاله ما اختلفت الطرق فى نقله عن السبعة ، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض ، وقد ذكر كثيراً من هذا النوع الدانى فى التيسير والشاطبى فى الشاطبية ، وغيرهما. وهذان النوعان ، هما اللذان يقرأ بهما ، مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شئ منهما.
الثالث: ما صح سنده ، وخالف الرسم أو العربية ، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور ، وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده ، ومثاله قراءة (( متكئين على رفارف خضر وعباقرى حسان )) وقراءة ((لقد جاءكم رسول من أنفَسِكم)) بفتح الفاء.
الرابع : الشاذ ، وهو ما لم يصح سنده ، قراءة ابن السَّميفع ((فاليوم ننحيك ببدنك)) بالحاء المهملة ((لتكون لمن خَلَفك آية)) بفتح اللام من كلمة ((خَلَفك)).
الخامس: الموضوع ، وهو ما نسب إلى قائله من غير أصل ، مثل القراءات التى جمعها محمد بن جعفر الخزاعى ، ونسبها إلى أبى حنيفة.(1/9)
السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث ، وهو ما زيد فى القراءات على وجه التفسير ، كقراءة سعد بن أبى وقاص ((وله أخ أو أخت من أم)) بزيادة لفظ (( من أم)).
قال ابن الجزرى: وربما كانوا يدخلون التفسير فى القراءات إيضاحاً وبياناً ؛ لأنهم محققون لما تلقوه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرآناً ، فهم آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه أ.هـ(1)
ومن خلال هذا النقل خلصنا إلى أن النوعين الأولين هما اللذان يقرأ بهما وأما غيرهما ، فلا. والنوع الأول ، وهو المتواتر مقطوع بقرآنيته بلا نزاع. وأما النوع الثانى وهو المشهور الذى اتفقت فيه الضوابط الثلاثة المذكورة ، وهى صحة السند ، وموافقة اللغة العربية ولو بوجه ، وموافقة الرسم العثمانى ولو احتمالاً ، أقول:
هذا النوع لم يوافق عليه بعض العلماء ، بل اشترطوا التواتر دون صحة السند - أى لم يكتفوا بصحة السند- جاء فى الإتقان تعليقاً على ذلك.
وهذا مما لا يخفى ما فيه ، فإن التواتر إذا ثبت ، لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من العربية والرسم ، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وجب قبوله والقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أو لا. ا.هـ (2)
ومن ثم قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الرأى فى محاولة لتقريب وجهة النظر حول قبول هذه القراءة ، أو عدم قبولها ، قال: إن هذا القسم - يعنى الذى استجمع الأركان الثلاثة المذكورة - يتنوع إلى نوعين:
الأول: ضرب أو نوع ، استفاض نقله وتلقته الأمة بالقبول ، وهو يلحق بالمتواتر من حيث قبوله والعمل بمقتضاه ؛ لأنه وإن كان من قبيل الآحاد إلا أنه احتفت به قرائن جعلته يفيد العلم لا الظن.
__________
(1) ينظر الإتقان 1 /79 ، مناهل العرفان 1 / 429 ، وما بعدها
(2) الإتقان 1 / 78(1/10)
قال صاحب المناهل : إن ركن الصحة فى ضابط القرآن المشهور ، لا يراد بالصحة فيه مطلق صحة ، بل المراد صحة ممتازة ، تصل بالقراءة إلى حد الاستفاضة والشهرة ، وتلقى الأمة لها بالقبول حتى يكون هذا الركن بقرينة الركنين الآخرين فى قوة التواتر الذى لابد منه فى تحقق القرآنية.(1)
والنوع الثانى: وهو ما لم تتلقه الأمة بالقبول ولم يستفض ، وهذا فيه خلاف بين العلماء ، من حيث قبوله ، والقراءة به ، أو عدم ذلك والأكثرون على قبوله. (2)
أوجه الاختلاف بين القراءات الثابتة
سبق أن قررنا أن القراءات مرجعها النقل الثابت عن النبى -صلى الله عليه وسلم - ولذلك ، لم يكن الاختلاف بينها على سبيل التضاد فى المعانى ، بل القراءة إما مؤكدة لغيرها ، أو موضحة ، أو مضيفة إليها معنى جديداً ، فتكون كل قراءة بالنسبة للأخرى ، بمنزلة الآية مع الآية ، وكما أن الاختلاف بين هذه القراءات لم يكن على سبيل التضاد فى المعانى ، فإنه كذلك لم يكن على سبيل التباين فى الألفاظ ، وقد حصر بعضهم أوجه الاختلاف بين القراءات فى الوجوه الآتية:
الأول: الاختلاف فى شكل آخر الكلمات ، أو بنيتها ، مما يجعلها جميعاً فى دائرة العربية الفصحى ، بل أفصح هذه اللغة ، المتسقة فى ألفاظها ، وتآخى عباراتها ، ورنة موسيقاها ، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.
الثاني: الاختلاف فى المد فى الحروف ، من حيث الطول والقصر ، وكون المد لازماً أو غير لازم ، وكل ذلك مع التآخى فى النطق فى القراءة الواحدة ، فكل قراءة متناسقة فى ألفاظها من حيث البنية للكلمة ، ومن حيث طول المد أو قصره.
الثالث: الاختلاف من حيث الإمالة ، أو عدمها فى الحروف ، كالوقوف بالإمالة فى التاء المربوطة ، أو عدم الإمالة فيها.
__________
(1) ينظر مناهل العرفن 1 / 470
(2) ينظر: مناهل العرفان ، 1 / 467 ، الرقاءات القرآنية – تاريخ وتعريف ص 66 …(1/11)
الرابع: الاختلاف من حيث النقط ومن حيث شكل البنية فى مثل قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)) (1)حيث قرئ متواتراً كذلك ((فتثبتوا)) ومع ذلك فالقراءتان متلاقتيان فى المعنى ، فالأولى طالبت بالتبين المطلق ، والأخرى بينت طريق التبين ، وهو التثبت بتحرى الإثبات.
الخامس: زيادة بعض الحروف فى قراءة ، ونقصها فى أخرى ، مثل قراءة ابن عامر - وهو أحد القراء السبعة- ((قالوا اتخذ الله ولدا )) بدون واو قبل (( قالوا )) بينما قرأ غيره بالواو هكذا((وقالوا اتخذ الله ولدا ))(2) ومثل ذلك قراءة ابن كثير - وهو أحد القراء السبعة كذلك - ((تجرى من تحتها الأنهار)) بزيادة (( من )) بينما قرأ غيره ((تجرى تحتها الأنهار))(3)
فإن قيل: ما الثابت من القراءتين فى المصحف العثمانى ؟
قلت: إن المصاحف العثمانية - وعددها ستة أو سبعة - أثبت فيها كل ما يحتمله الرسم بطريقة واحدة (4) ، وأما ما لا يحتمله الرسم كالزيادة والنقصان فى حالتنا هذه ، فإنه كان يثبت فى بعض المصاحف بقراءة ، وفى بعضها بقراءة أخرى.
__________
(1) سورة الحجرات: 6 0
(2) سورة البقرة: 116 0
(3) سورة التوبة: 100
(4) أعنى طريقة واحدة تجمع القراءات الواردة فى الكلمة مثل قوله تعالى: { ملك يوم الدين } فإن كلمة { ملك } كتبت بهذه الطريقة لتشمل قراءتى { مالك } و { ملك } وهكذا كلمة { فتبينوا } الحجرات: 6 0 حيث كتبت هكذا لتشمل قراءتى { فتثبتوا } و { فتبينوا } حيث كان الرسم خاليا من النقط والشكل0ـ(1/12)
وقد قال القرطبى فى ذلك: وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف فى حروف يزيدها بعضهم ، وينقصها بعضهم ، فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه فى مصحفه ورواه ، إذ كان عثمان كتب تلك المواضع فى بعض النسخ ، ولم يكتبها فى بعض ، إشعاراً بأن كل ذلك صحيح ، وأن القراءة بكل منها جائزة. ا.هـ (1)
فوائد اختلاف القراءات
مسألة اختلاف القراءات وتعددها ، كانت ولا زالت محل اهتمام العلماء ، ومن اهتمامهم بها بحثهم عن الحكم والفوائد المترتبة عليها ، وهى عديدة نذكر الآن بعضاً منها ، فأقول - وبالله التوفيق-: إن من الحكم المترتبة على اختلاف القراءات ما يلى:-
التيسير على الأمة الإسلامية ، ونخص منها الأمة العربية التى شوفهت بالقرآن ، فقد نزل القرآن الكريم باللسان العربى ، والعرب يومئذٍ قبائل كثيرة ، مختلفة اللهجات ، فراعى القرآن الكريم ذلك ، فيما تختلف فيه لهجات هذه القبائل ، فأنزل فيه - أى بين قراءاته - ما يواكب هذه القبائل -على تعددها - دفعاً للمشقة عنهم ، وبذلاً لليسر والتهوين عليهم.
الجمع بين حكمين مختلفين مثل قوله تعالى: ((فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)) (2)، حيث قرئ ((يطهرن)) بتخفيف الطاء وتشديدها ، ومجوع القراءتين يفيد أن الحائض ، لا يجوز أن يقربها زوجها إلا إذا طهرت بأمرين: أ- انقطاع الدم ، ب- الاغتسال.
__________
(1) ينظر: القرطبى 1 / 47 ، كتاب المعجزة الكبرى ص 48 – 50 بتصرف0
(2) سورة البقرة: 222 0(1/13)
الدلالة على حكمين شرعيين فى حالين مختلفين ، ومثال ذلك قوله تعالى: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين))(1) حيث قرئ (( وأرجلكم)) بالنصب عطفاً على ((وجوهكم)) وهى تقتضى غسل الأرجل ، لعطفها على مغسول وهى الوجوه. وقرئ ((وأرجِلكم)) بالجر عطفاً على ((رءوسكم)) وهذه القراءة تقتضى مسح الأرجل ، لعطفها على ممسوح وهو الرءوس. وفى ذلك إقرار لحكم المسح على الخفين.
دفع توهم ما ليس مراداً: ومثال ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله))(2) حيث قرئ ((فامضوا إلى ذكر الله)) ، وفى ذلك دفع لتوهم وجوب السرعة فى المشى إلى صلاة الجمعة المفهوم من القراءة الأولى ، حيث بينت القراءة الثانية أن المراد مجرد الذهاب.(3)
إظهار كمال الإعجاز بغاية الإيجاز ، حيث إن كل قراءة مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، وذلك من دلائل الإعجاز فى القرآن الكريم ، حيث دلت كل قراءة على ما تدل عليه آية مستقلة.
اتصال سند هذه القراءات علامة على اتصال الأمة بالسند الإلهى ، فإن قراءة اللفظ الواحد بقراءات مختلفة ، مع اتحاد خطه وخلوه من النقط والشكل ، إنما يتوقف على السماع والتلقى والرواية ، بل بعد نقط المصحف وشكله ؛ لأن الألفاظ إنما نقطت وشكلت فى المصحف على وجه واحد فقط ، وباقى الأوجه متوقف على السند والرواية إلى يومنا هذا. وفى ذلك منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بسبب إسنادها كتاب ربها ، واتصال هذا السند بالسند الإلهى ، فكان ذلك تخصيصاً بالفضل لهذه الأمة.(4)
__________
(1) سورة المائدة: 6 0
(2) سورة الجمعة: 9 0
(3) ينظر: مناهل العرفان 1 / 147 ، 148
(4) ينظر: جواهر البين فى علوم القرآن د 0 محمد العسال ص 94 0(1/14)
فى تعدد القراءات تعظيم لأجر الأمة فى حفظها والعناية بجمعها ونقلها بأمانة إلى غيرهم ، ونقلها بضبطها مع كمال العناية بهذا الضبط إلى الحد الذى حاز الإعجاب (1)
درء الشبهات المثارة حول اختلاف القراءات
لا يزال المغرضون يتحينون الفرص للغض من قدر القرآن الكريم ، بمحاولة إثبات التناقض فى القرآن من خلال بعض ما يثبته أو ينفيه ، يحاولون ذلك مع آيات القرآن الكريم بعضها مع بعض ، أو يدّعون وجود التناقض بين القرآن والسنة ، وكل ذلك مردود عليهم بفضل الله كما أشرت إلى ذلك فى مقدمة هذا الكتاب ، ولسوف ترى فيه إن شاء الله شيئاً من ذلك فى المبحث الأخير منه.
وفى مقام اختلاف القراءات الذى نحن بصدده أو ادعى الحاقدون وتبعهم الجاهلون من اتباع هذا الدين ، وهم أخطر على هذا الدين كما قيل:
لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يباغ الجاهل من نفسه
أقول: ادعى هؤلاء وأولئك أن اختلاف القراءات يثبت كذب القرآن ويقرر وجود التناقض فيه.
قلنا: وكيف وصلتم إلى هذا القرار واجترأتم على أن تقولوا هذا الكلام الذى ((تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً ))(2) من هول ما يحمل؟
قالوا: أليس قد جاء فى القرآن - قوله تعالى: (( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً))(3) قلنا : بلى.
قالوا: ألستم تقولون إن القراءات توقيفية نازلة من عند الله عن طريق الوحى ؟ قلنا: بلى.
قالوا: أليست هذه القراءات متعددة ؟ قلنا: بلى.
قالوا: أليس فى تعددها واختلافها ما يتعارض والآية القرآنية التى نفت الاختلاف عن القرآن ؟
قلنا: كلا. قالوا: كيف تدفعون هذا التعارض وتثبتون نقيض الدعوى ؟ قلنا: هو سهل ميسور وتقرير الجواب كالتالى:
__________
(1) ينظر: دراسات فى علوم القرآن د 0 محمد بكر إسماعيل
(2) سورة مريم : 90 0
(3) سورة النساء: 82 0(1/15)
إن الاختلاف الذى ينفيه القرآن هو الاختلاف فى ذات القرآن بما تحمله آياته من معان ، إذ لا اضطراب فيها ولا تعارض ولا تناقض ، وكل ما أوهم ذلك قد أجاب عنه العلماء بما لا يدع مجالاً لعرضه مرة أخرى ، وقد قلت فى مقدمة هذا الكتاب: لا يرد على ذلك الناسخ والمنسوخ ، فالتعارض بينها مدفوع بإثبات الحكم الناسخ ونفى وإلغاء الحكم المنسوخ. فتحصل من خلال ذلك أن التناقض والتدافع بين معانى القرآن الكريم غير موجود ، وهذا هو الذى تقرره الآية الكريمة.
وأما اختلاف القراءات ، وكون القرآن الكريم قد نزل على سبعة أحرف فهو تنوع من ألفاظ القرآن وتوسعة فى النطق به وتعدد فى وجوه الأداء ، دون أن يثبت ذلك اختلافاً فى القرآن ، ليس هذا فقط بل إن لتعدد القراءات فوائد جمة ، قد ذكرت فى محلها ، هذه الفوائد لا تنفى عن القراءات فقط كونها سلبية ، بل تثبت لها جوانب إيجابية عديدة.
يقول الشيخ الزقانى:
إن نزول القرآن على سبعة أحرف - وتعدد وجوه قراءاته - لا يلزم منه تناقض ولا تخاذل ولا تعارض ولا تضاد ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه ، وتعليمه ومراميه ، بعضها مع بعض ، بل القرآن كله سلسلة واحدة ، متصلة الحلقات ، محكمة السور والآيات ، متآخذة المبادئ والغايات ، مهما تعددت طرق قراءاته ، ومهما تنوعت فنون أدائه.(1)
ويتمم الجواب عن هذه الشبهة والرد عليها كلام ابن مسعود -رضى الله عنه - والإمام الغزالى - رحمه الله - الذى ذكرته فى مقدمة الكتاب ، ويكفينى هنا الإحالة عليه دون إعادته.
وملخص هذا الجواب أن الاختلاف المنفى فى الآية هو الاختلاف بمعنى تباين النظم ، وتناقض الحقائق ، وتعارض الأخبار ، وتضارب المعانى. وأما اختلاف القراءات فهو التنوع فى الأداء والتوسع فى النطق فى إطار ما نزل من عند الله.
الشبهة الثانية:
قالوا كذلك:
__________
(1) ينظر: مناهل العرفان 1 / 185(1/16)
إن الاختلاف فى القراءات يوقع فى شك وريب من القرآن ، إذا لاحظنا فى بعض الروايات معنى تخيير الشخص أن يأتى من عنده باللفظ وما يرادفه أو باللفظ ومالا يضاده فى المعنى ، وذلك كحديث أبى بكرة حيث فيه: "كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ، نحو قولك: تعال ، وأقبل ، وهلم ، واذهب ، وأسرع ، وعجل" جاء بهذا اللفظ من رواية أحمد بإسناد جيد 00 وجاء عن ابن مسعود - رضى الله عنه - أنه أقرأ رجلاً: ((إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)) (1) فقال الرجل: طعام اليثيم ، فردها عليه فلم يستقم بها لسانه. فقال: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم. قال: فافعل.
الجواب عن هذه الشبهة
إننا لا نسلم لهم أولاً : دعوى أن الشخص كان مخيراً بأن يأتى من عند نفسه بألفاظ يختارها تعبيراً عن الآية ، فجميع القراءات نازلة من عند الله بالوحى ، والحديث المذكور لا يدل على ما ذهبوا إليه وسيأتى تأويله فى مبحث الوقف والابتداء ، وإذا لم نسلم لهم هذا فلن نسلم كذلك أن هذه القراءات كانت سبباً فى وقوع الشك والريب من القرآن ؛ لأن القراءات ما دامت نازلة من عند الله فلا يمكن أن تكون سبباً فى الريب من القرآن الذى هو من عند الله كذلك.
__________
(1) سورة الدخان: 43 ، 44 ، والرواية موجودة بالدر المنثور 5 / 752 ، ويمكن تأويلها بأن الآية نزلت بالقراءتين فلما لم يستطع الرجل تطويع لسانه على القراءة المذكورة أرشده ابن مسعود إلى القراءة الأخرى 0 والله أعلم 0(1/17)
وأما بالنسبة للروايات المذكورة فغاية ما تدل عليه كما يقول الشيخ الزرقانى: أن الله تعالى وسع على عباده خصوصاً فى مبدأ عهدهم بالوحى أن يقرأوا القرآن بما تلين به ألسنتهم ، وكان من جملة هذه التوسعة القراءة بمترادفات من اللفظ الواحد للمعنى الواحد مع ملاحظة أن الجميع نازل من عند الله تعالى ، ثم نسخ الله ما شاء أن ينسخ بعد ذلك 000 وقد أجمعت الأمة على أنه لا مدخل لبشر فى نظم القرآن لا من ناحية ألفاظه ، ولا من ناحية أسلوبه ولا قانون أدائه000" (1)
المبحث الثاني
التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم
أولاً: القراء العشرة ورواتهم:
قولنا القراء جمع قارئ ، اسم فاعل من قرأ ، والمراد به فى اصطلاح أهل الفن: الإمام الذى تنسب إليه قراءة. (2) والمراد بقولنا العشرة: القراء الذين تنسب إليهم القراءات العشر التى وصفها العلماء بأنها متواترة جميعها ، وتشمل القراءات السبع وتواترها مجمع عليه ثم الثلاث تتمة العشر ، وقد حقق العلماء كونها متواترة كما ذكر فى ثنايا هذا البحث فى غير ما موضع.
والقراء السبعة هم:
1- ابن عامر (3)
__________
(1) ينظر: مناهل العرفان 1 / 187 ، 188
(2) القارئ المبتدئ من أفرد إلى ثلاث روايات ، والمتوسط إلى أربع أو خمس ، والمنتهى من عرف من القراءات أكثرها واشهرها.
(3) ترجمته فى غاية النهاية - 1/404 لابن الجوزى ، معرفة القراء الكبار للذهبى - 1/82 ، البحث والاستقراء فى تراجم القراء -ص30 ، و أنظر أيضاً: مناهل العرفان -1/456 ، وقد أخطأ صاحب إعراب القرآن الكريم وبيانه 3/243 فترجم له على أنه الصحابى الجليل عقبة بن عامر.(1/18)
واسمه عبدالله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة بن عامر بن عبدالله اليحصبى. ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة وقيل سنة ثمان وعشرين منها وتوفى سنة ثمان عشرة ومائة من الهجرة النبوية المباركة ، وهو تابعى جليل لقى واثلة بن الأسقع والنعمان بن بشير وقد أخذ عن المغيرة بن أبى شهاب المخزومى عن عثمان بن عفان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وقيل: إنه قرأ على عثمان - رضى الله عنه - مباشرة بلا واسطة ، وقد أخذ عنه أهل الشام قراءته واشتهر برواية قراءته:
أ- هشام وهو أبو الوليد بن عمار بن نصير السليمى الدمشقى . ت [ 245 هـ](1)
ب- ابن ذكوان وهو أبو محمد عبدالله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشى الدمشقى ت [ 242 هـ] (2) ، ورواية هذين لقراءة ابن عامر هى بالواسطة.
وقد قال صاحب الشاطبية فى ابن عامر وراوييه:
وأما دمشق الشام دار ابن عامر
هشام وعبدالله وهو انتساب
تلك بعبدالله طابت محللا
لذكوان بالإسناد عنه تنقلا
ڑ
2- ابن كثير (3)
هو أبو محمد أو أبو معبد عبدالله بن كثير الدارى ، ولد بمكة سنة خمس وأربعين للهجرة ، وتوفى سنة عشرين ومائة. تابعى جليل وإمام فى القراءة ، لقى من الصحابة عبدالله بن الزبير وأبا أيوب الأنصارى ، وأنس بن مالك. وقد كان رحمه الله إمام الناس بمكة لم ينازع فى ذلك ، ولذلك روى عنه الخليل بن أحمد ونقل عنه.
روى ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرأ على عبدالله بن السائب المخزومى ، وقرأ عبدالله هذا على أبى ابن كعب ، وعمر بن الخطاب ، وقرأ كلاهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اشتهر بالرواية عنه بواسطة أصحابه:
__________
(1) غاية النهاية - 2/355 ، معرفة القراء - 1/195.
(2) غاية النهاية - 1/404 ، معرفة القراء - 1/198.
(3) ترجمته فى غاية النهاية 2/330 ، ومعرفة القراء 1/86 ، البحث بالاستقراء - ص15 ، وأنظر: مناهل العرفان 1/457.(1/19)
أ- البزِّى : وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدالله بن القاسم ابن أبى بزة (1)
ب- وقنبل: وهو محمد بن عبدالرحمن بن خالد المخزومى المكى ت [ 291 هـ] (2) ، وقد لقب بقنبل لشدته ، فالقنبل هو الغلام الحادُّ الرأس الخفيف الروح.
وقد قال صاحب الشاطبية فيه وفى راوييه:
ومكة عبدالله فيها مقامه
روى أحمد البزِّى له ومحم
و ابن كثير كاثر القوم مُعتلا
على سند وهو الملقب قنبلا
ڑ
3- عاصم (3)
هو عاصم بن أبى النجود الأسدى ، توفى سنة سبع وعشرين ومائة ، كان قارئاً متقناً ، آية فى التحرير والإتقان والفصاحة.
قال عبدالله بن أحمد: سألت أبى عن عاصم فقال: رجل صالح خير ثقة ، فسألته: أى القراء أحب إليك؟ قال: قراءة أهل المدينة ، فإن لم تكن فقراءة عاصم.
وقد أخذ عاصم قراءته عن ثلاثة من الصحابة هم على بن أبى طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وأبى ين كعب. فقرأ عاصم على أبى عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السلمىّ معلم الحسن والحسين وأبو عبدالرحمن قرأ على على بن أبى طالب عن النبى -صلى الله عليه وسلم .
وقرأ كذلك على أبى عبدالرحمن السلمى وزر بن حبيش الأسدى على على أيضاً. وقرأ عليهما ومعهما أبو عمرو الشيبانى ثلاثتهم على عبدالله بن مسعود.
وقرأ قراءة أبى بن كعب بطريق واحد هو طريق أبى عبدالرحمن السلمىّ وراوياه هما:
أ- شعبة: وهو أبو بكر بن عياش الأسدى. ت سنة [ 193 هـ] (4)
ب- حفص : وهو أبو عمرو حفص بن سليمان بن المغيرة البزار ، كان ربيب عاصم تربى فى حجره ، وتعلم منه ، لذا كان أدق إتقاناً من شعبة. ت [180هـ] (5)
__________
(1) ت سنة [250] - أنظر غاية النهاية - 1/146.
(2) غاية النهاية - 2/165 ، معرفة القراء - 1/230.
(3) ترجمته فى غاية النهاية 1/346 ، ومعرفة القراء 1/88 ، البحث بالاستقراء - ص40،41 ، وأنظر: مناهل العرفان 1/458.
(4) غاية النهاية - 1/325 ، معرفة القراء - 1/134.
(5) غاية النهاية - 1/325 ، معرفة القراء - 1/134.(1/20)
وقد قال صاحب الشاطبية فى عاصم وراوييه:
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة
فأما أبو بكر وعاصم اسمه
وذاك ابن عيّاش أبو بكر الرض
ذاعوا فقد ضاعت شذى وقرنفلا
فشعبة راويه المبرز أفضلا
وحفص وبالإتقان كان مفضّلا
ڑ
4- أبو عمرو (1)
هو أبو عمرو زبان بن العلاء البصرى ، كان مولده سنة ثمان وستين من الهجرة المباركة ، وهو من أعلم الناس بالقراءة ، وكان والده قد أخذه مغه حينما هرب من الحجاج إلى كثير من البلدان ، وقد قرأ القرآن بمكة والمدينة ، وقرأ أيضاً بالكوفة والبصرة على جماعات كثيرة ، وليس من علماء القراءات من هو أكثر شيوخاً منه ، ومرجع ذلك إلى كثرة تنقله إلى أماكن عديدة ، حيث لم يستقر فى مكان واحد.
جاء فى التهذيب عن أبى معاوية الأزهرى: كان أعلم الناس بوجوه القراءات وألفاظ العرب ونوادر كلامهم وفصيح أشعارهم. (2)
وقد أخذ أبو عمرو قراءته عن ثلاثة من الصحابة هم:
1- عمر بن الخطاب: من طريق أبى جعفر يزيد بن القعقاع والحسن البصرى عن حطّان وأبى العالية عن عمر بن الخطاب.
2- وعلى بن أبى طالب: أخذها عنه من ست طرق.
3- وأبى بن كعب: أخذها عنه من أحد عشر طريقاً.
وكانت وفاته رحمه الله سنة أربع وخمسين من الهجرة المباركة وراوياه هما:
1- الدورى : وهو أبو عمرو حفص بن عمر المقرى الضرير ، ولقب بالدورى نسبة إلى الدور وهو موضع بالجانب الشرقى من بغداد. ت [246] (3)
2- السوسى: وهو أبو شعيب صالح بن زياد وكان ثقة ضابطات [261] (4)
وقد قال صاحب الشاطبية:
وأما الإمام المازنى صريحهم
أفاض على يحيى اليزيد سيبه
أبو عمرو الدورى وصالحهم أب
بو عمرو البصرى فوالده العلا
فأصبح بالعذب الفرات معللا
__________
(1) ترجمته فى غاية النهاية -1/288 ، معرفة القراء - 1/100 ، وأنظر: مناهل العرفان - 1/459.
(2) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى - 2/178.
(3) غاية النهاية - 1/255 ، معرفة القراء - 1/191.
(4) غاية النهاية - 1/332 ، معرفة القراء - 1/193.(1/21)
شعيب هو السوسى عنه تقبلا
ڑ
5- حمزة (1)
هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفى التيمى ، ولد سنة ثمانين من الهجرة ، وتوفى سنة ست وخمسين ومائة ، وقد أخذ القراءة عن أبى محمد سليمان بن مهران الأعمش عن يحيى بن وثاب عن زر بن حبيش عن عثمان وعلى وابن مسعود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم . قال له الإمام أبو حنيفة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيها القرآن والفرائض.
وراوياه هما:
1-خلف: وهو أبو محمد الأسدى بن هشام بن ثعلب البزار البغدادى. ت [229] (2)
2- خلاد: وهو أبو عيسى خلاد بن خالد الأحول الصيرفى. ت [220] (3)
قال صاحب الشاطبية:
وحمزة ما أزكاه من متورع
روى خلف عنه وخلاد الذ
ماماً صبوراً للقرآن مرتلا
رواه سليم متقناً ومحصلا
ڑ
6- نافع (4)
هو أبو رُوَيْم نافع بن عبدالرحمن بن أبى نعيم المدنى. ولد سنة سبعين من الهجرة ، وتوفى سنة تسع وستين ومائة.
قيل: إنه كان إذا قرأ القرآن كانت تشم منه رائحة المسك ، وقد أخذ القراءة عن أبى جعفر القارئ وعن سبعين من التابعين عن عبدالله بن عباس وأبى هريرة عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد انتهت إليه رياسة الإقراء بالمدينة المنورة.
قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس- رضى الله عنه - يقول: قراءة أهل المدينة سنة ، قيل له: يعنى قراءة نافع ؟ قال: نعم. وأما راوياه فهما:
__________
(1) ترجمته فى غاية النهاية - 1/261 ، ومعرفة القراء - 1/111 ، والبحث والاستقراء -ص46.
(2) غاية النهاية - 1/272 ، ومعرفة القراء - 1/208 وخلف هذا أحد الثلاثة تتمة العشرة.
(3) غاية النهاية - 1/274 ، ومعرفة القراء - 1/210.
(4) ترجمته فى غاية النهاية - 2/330 ، معرفة القراء - 1/107 ، البحث والاستقراء - ص7.(1/22)
أ- قالون : وهو أبو موسى عيسى بن ميناء بن وردان النحوى. ت [220] ، وقالون هذا لقبه ومعناه بالرومية الجيد ولقب به لجودة قراءته (1)
ب- ورش: وهو عثمان بن سعيد المصرى ، وورش هذا لقبه ومعناه شديد البياض ، رحل إلى المدينة فقرأ على نافع ثم عاد إلى مصر. ت [197] (2)
قال صاحب الشاطبية:
فأما الكريم السر فى الطيب نافع
وقالون عيسى ثم عثمان ورشه
ذاك الذى اختار المدينة منزلا
بصحبته المجد الرفيع تأشَّلا
ڑ
7- الكسائى (3)
هو على بن حمزة بن عبدالله بن بهمن بن فيروز الأسدى النحوى ، توفى سنة تسع وثمانين ومائة ، وقد لقب بالكسائى لأنه كان محرماً فى كساء ، وقيل: لأنه كان يلبس كساء له طابع خاص مميز ، وكان يجلس فى مجلس حمزة ، وكان حمزة يقول : اعرضوا على صاحب الكساء أى اعرضوا عليه الرأى. قال الأهوازى: وهذا القول أشبه بالصواب (4)
قال عنه أبو بكر الأنبارى: اجتمعت فى الكسائى أمور ، كان أعلم الناس بالنحو وأوحدهم بالغريب ، وكان أوحد الناس بالقرآن ، فكانوا يكثرون عليه ، حتى يضطر أن يجلس على الكرسى ويتلو القرآن من أوله إلى آخره ، وهم يسمعون منه ويضبطون عنه. (5)
أخذ عن أربعة من الصحابة قراءته وهم:
عثمان بن عفان ، وعلى بن أبى طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وأبى بن كعب عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ عن هؤلاء الصحابة بخمسة عشر طريقاً.
وراوياه هما:
أ- أبو الحارث : وهو الليث بن خالد المروزى ، كان من أجل أصحاب الكسائى ، ثقة وضبطاً. ت [240] (6)
__________
(1) غاية النهاية - 1/615 ، معرفة القراء - 1/155.
(2) غاية النهاية 1/502 ، معرفة القراء - 1/152.
(3) ترجمته فى غاية النهاية - 1/535 ، معرفة القراء - 1/120 ، البحث والاستقراء - ص53.
(4) البحث والاستقراء ص53.
(5) مناهل العرفان - 1/462.
(6) غاية النهاية - 2/34 ، معرفة القراء - 1/211.(1/23)
ب- الدورى : وهو أبو عمر حفص بن عمر الدورى ، وقد مر الحديث عنه فهو أحد راويى أبى عمرو.
قال صاحب الشاطبية:
وأما على فالكسائى نعته
روى ليثهم عنه أبو الحارث الرض
ما كان فى الإحرام تسربلا
حفص هو الدورى وفى الذكر قد خلا
ڑ
وإلى هنا نكون قد انتهينا من الترجمة الموجزة للقراء السبعة المجمع على تواتر قراءتهم ، وقد عرفنا بإيجاز كذلك براويى كل واحد منهم ، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التعريف بالثلاثة تتمة العشرة الذين حقق العلماء تواتر قراءتهم كذلك ، ونعرف موجزين برواتهم أيضاً
8- أبو جعفر (1)
هو: يزيد بن القعقاع أبو جعفر المخزومى المدنى القارئ ت [130 هـ] تابعى جليل القدر ، تام الضبط ، رفيع المنزلة أخذ قراءته عن عبدالله ابن عباس وأبى هريرة عن أبى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وراوياه هما:
أ- ابن وردان: وهو أبو موسى عيسى بن وردان الخداء المدنى ، من أصحاب نافع فى القراءة على أبى جعفر وكان مقرئاً ضابطاً ثقة ت [160هـ]
ب- ابن جماز: (2) وهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز ت [ 170 هـ]
9- يعقوب (3)
هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبدالله بن إسحاق أبو محمد الحضرمى ، أحد القراء العشرة وإمام أهل البصرة ، انتهت إليه رياسة القراءة بعد أبى عمر الدانى توفى سنة خمس ومائتين.
قرأ على أبى المنذر سلام بن سليمان الطويل وقرأ سلام هذا على عاصم وعلى أبى عمرو.
وراوياه هما:
أ- روح: (4) وهو أبو الحسن روح بن عبدالمؤمن بن عبدة الهذلى النحوى ت [234]
ب- رويس: (5) وهو أبو عبدالله محمد بن المتوكل اللؤلؤى البصرى ت [238]
10- خلف (6)
__________
(1) ترجمته فى غاية النهاية - 2/382 ، وأنظر: مناهل العرفان - 1/463.
(2) غاية النهاية - 1/315.
(3) غاية النهاية - 2/386 ، ومعرفة القراء - 1/157.
(4) غاية النهاية - 1/315.
(5) غاية النهاية - 1/272 ، معرفة القراء - 1/218.
(6) غاية النهاية - 1/272 ، معرفة القراء - 1/208.(1/24)
هو أبو محمد خلف بن هشام ابن ثعلب بن خلف بن ثعلب الأسدى أحد القراء العشرة ، وأحد راويى حمزة كما مر ت [229] ، قرأ على سليم عن حمزة ، وعلى يعقوب بن خليفة الأعشى ، وعلى أبى زيد سعيد بن اوس الأنصارى صاحب الفضل الضبى ، وعلى أبن العطار وهم أخذوا عن عاصم.
وراوياه هما:
أ- أبو يعقوب (1) إسحاق بن إبراهيم بن عثمان المروزى ت [286] هـ.
ب- أبو الحسن (2) إدريس عبدالكريم الحداد البغدادى ت [292] هـ.
وبعد ، فهؤلاء هم القراء العشرة ورواتهم الذين تلقت الأمة قراءتهم بالقبول ، وقد قلت سابقاً: إن المحققين من العلماء قد حكموا بتواترها جميعاً بما فيها القراءات الثلاث المتممة للعشر ، ومن ثم يلزم قبولها جميعاً ، ولا يجوز رد شى منها. والله أعلم.
وقد اعترض بعضهم على تواتر هذه القراءات بحجة أن الأسانيد إلى هؤلاء الأئمة القراء وأسانيدهم هم إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - هى آحاد ولا تبلغ حد التواتر.
ويجاب عن ذلك بان انحصار الأسانيد المذكورة فى طائفة لا يمنع مجئ القراءات عن غيرهم ، وإنما نسبت القراءات إلى الأئمة ومن ذكر فى أسانيدهم ، والأسانيد إليهم ، لتصديهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها ، ومع كل واحد منهم فى طبقته ما يبلغها عدد التواتر ؛ لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم ، وكذلك دائماً مع تلقى الأمة لقراءة كل منهم بالقبول.
قال السخاوى:
ولا يقدح فى تواتر القراءات السبع (3) إذا أسندت من طريق الآحاد ، كما لو قلت: أخبرنى فلان عن فلان أنه رأى مدينة سمرقند - مثلاً - وقد عُلم وجودها بطريق التواتر لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم بها ا.هـ (4)
وهذا التواتر المذكور شامل للأصول والفرش وهذا هو الذى عليه المحققون. (5)
__________
(1) غاية النهاية - 1/155.
(2) غاية النهاية - 1/154.
(3) قلت: بل العشر على التحقيق.
(4) نقله القاسمى فى مقدمة محاسن التأويل - 1/304.
(5) إتحاف فضلاء البشر - ص9.(1/25)
والمراد بالأصول الأحكام الكلية المطردة الجارية فى كل ما تحقق فيه شرط ذلك الحكم كالمد والقصر والإظهار والإدغام والإقلاب وغيرها ، والمراد بالفرش ما يذكر فى السورة من كيفية قراءة كل كلمة قرآنية مختلف فيها بين القراء مع عزو كل قراءة إلى صاحبها ، ويسمى فرش الحروف وسماه بعضهم بالفروع مقابلة للأصول وذلك كاختلافهم فى قراءة " يخدعون ، ننسخ ، ننشزها ، فتبينوا" وهذا هو الذى يؤثر فى المعنى دون الأول.
السبب الداعى للاقتصار على القراء المشهورين
قال الدمياطى فى الإتحاف فى ذلك كلاماً نفيساً أنقله بنصه ، قال:
ليعلم أن السبب الداعى إلى أخذ القراءة عن القراء المشهورين دون غيرهم ، أنه لما كثر الاختلاف فيما يحتمله رسم المصاحف العثمانية التى وجه بها عثمان - رضى الله عنه - إلى الأمصار ، وحبس بالمدينة واحداً وأمسك لنفسه واحداً الذى يقال له: الإمام ، فصار أهل الأهواء والبدع يقرأون بما لا يحل تلاوته وفاقاً لبدعتهم ، أجمع رأى المسلمين أن يتفقوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم ، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف - اختاروا - أئمة مشهورين بالثقة والأمانة فى النقل وحسن الدراية وكمال العلم أفنوا عمرهم فى القراءة والإقراء ، واشتهر أمرهم ، وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم ولم تخرج قراءتهم عن خط وصحفهم.
ثم إن القراء الموصوفين بما ذكر بعد ذلك تفرقوا فى البلاد وخلفهم الأئمة لذلك ميزاناً يرجع إليه وهو السند والرسم والعربية 00000 (1)
يقصد بذلك الضوابط الثلاثة الموضوعة لقبول القراءة والمذكورة فى هذا البحث فى مواضع متعددة. ومن خلال هذا النقل النفيس عن الدمياطى نتيقن من أن انحصار أخذ القراءة عن هؤلاء الأئمة المشهورين لا يعنى بحال من الأحوال ألا يكون أحد عليماً بالقراءات سواهم.
ثانياً : القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر - ص 7 ، 8.(1/26)
1- أبو الحسن البصرى (1)
هو الإمام أبو سعيد الحسن بن الحسن يسار البصرى ، تابعى جليل ، ولد فى خلافة عمر سنة إحدى وعشرين ، وتوفى سنة عشر ومائة من الهجرة المباركة.
لقى من الصحابة على بن أبى طالب وأم سلمة أم المؤمنين - رضى الله عنها - وأخذ عن سمرة بن جندب ، يُشهد له بالورع والزهد ، وكان إماماً فى القراءات والتفسير والفقه وغير ذلك من العلوم الإسلامية.
2- ابن محيصن (2)
هو أبو عبدالله بن عبدالرحمن بن محيصن السهمى المكى توفى سنة ثلاث وعشرين ومائة. شهد له بالعلم فى الأثر والعربية والقراءات فهو مقرئ أهل مكة مع ابن كثير.
3- يحيى اليزيدى (3)
هو أبو محمد بن المبارك بن المغيرة اليزيدى المتوفى سنة اثنتين ومائتين كان فصيحاً مفوهاً ، إماماً فى اللغة والأدب والقراءات ، وهو أمثل أصحاب أبى عمرو ، وقد قام بعده بالقراءة ففاق نظراءه.
4- الأعمش (4)
هو أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش الأسدى المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائة ، وكان إماماً فى القراءات ، لا يلحن فى كلامه ، لقى من الصحابة عبدالله بن أبى أوفى ، وأنس بن مالك - رضى الله عنهما. لكن لم يثبت له سماع من أحدهما ، وكان شعبة يقول عنه: المصحف المصحف لصدقه.
حكم ما وراء القراءات العشر
اختلف العلماء فيما زاد عن العشر من القراءات هل يحكم عليه جميعاً بحكم واحد أم لا؟
فاتجه فريق منهم إلى أن جميع القراءات الأربع عشرة صحيحة هكذا بإطلاق الحكم بالصحة. واتجه فريق آخر إلى أن الأربع الزائدة على العشر شاذة ، هكذا بإطلاق الحكم بالشذوذ كذلك (5)
__________
(1) معرفة القراء 1/65 ، سير أعلام النبلاء 4/563.
(2) غاية النهاية - 2/167.
(3) غاية النهاية - 2/375.
(4) غاية النهاية - 1/315 ، معرفة القراء - 1/94.
(5) قال الدمياطى: أخذنا عن شيوخنا أن الأربعة - بعد العشرة - وهم ابن محيصن واليزيدى والحسن والأعمش قراءتهم شاذة اتفاقاً. أنظر: الإتحاف - ص9.(1/27)
وتوسط بين هذين الفريقين فريق ثالث ، نظروا إلى القراءات لا من حيث أعدادها ولا أشخاصها ، ولكن من حيث هى قواعد ومبادئ وضوابط ، ويعنون ضوابط القراءة المقبولة الثلاثة وهى:
1- صحة السند.
2- موافقة اللغة ولو بوجه.
3- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً.
فحيث تحققت هذه الضوابط فى قراءة فهى صحيحة مقبولة ، وإلا كانت مردودة أو شاذة بقطع النظر عمن نسبت إليه هذه القراءة.
المبحث الثالث
أسباب الخلاف بين المفسرين
وكون اختلاف القراءات واحداً منها
إن الذى يقرأ كتب التفسير ، خاصة الكتب التى عنيت بنقل أقوال الصحابة والتابعين ، وهى التى نسميها كتب التفسير بالمأثور كجامع البيان للطبرى وغيره ، الذى يقرأ فى هذه الكتب يأخذه العجب حين يقف على هذا الكم الهائل من الأقوال حول تفسير الآيات القرآنية ، ولابد من أن تحيك بصدره هذه الأسئلة :
لماذا كل هذه الآراء المتعددة ؟ لماذا لم يجمعوا على رأى واحد فى التفسير ؟ وهل هذه الأقوال متعارضة أم يمكن الجمع بينها ؟ وأهم سؤال فى ذلك هو : ما السبب فى هذا الاختلاف ؟
أقول : لعل هذا العجب أن يزول حين نطلع على أسباب الخلاف بين المفسرين .
ولقد ناقش ابن تيمية - رحمه الله - فى مقدمته فى أصول التفسير ، مسألة الحلاف بين المفسرين ، وكون اختلاف القراءات واحداً منها ، مفرقاً فى ذلك بين تفسير السلف " المأثور " وبين تفسير غيرهم .
فأما بالنسبة لتفسير السلف ، فقد بين ابن تيمية أن غالب ما ينقل عنهم فيه راجع إلى اختلاف التنوع ، وليس اختلاف التضاد ، وذلك كأن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد فى المسمى .(1/28)
وذلك مثل اختلافهم حول تفسير (( الصراط المستقيم )) (1) ، فبعضهم قال : هو اتباع القرآن ، وبعضهم قال : هو الإسلام ، فهذان القولان الاختلاف فيهما اختلاف تنوع ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن .
ويندرج تحت خلاف التنوع أيضاً ذكر العام ببعض أفراده ، أو أنواعه على سبيل التمثيل ، ومثال ذلك خلافهم حول المراد بقوله تعالى :
(( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله))(2)
هذه الآية اختلف فى تفسيرها على أقوال كثيرة ، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعضاً منها على سبيل التمثيل فقال : معلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات ، والمنتهك للحرمات . والمقتصد يتناول فاعل الواجبات و تارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق ، فتقرب بالحسنات مع الواجبات ، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين ، والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلاً منهم - أى المفسرين - يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل:
السابق الذى يصلى فى أول الوقت ، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه ، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكروا فى أخر سورة البقرة ، فقد ذُكر المحسن بالصدقة ، والظالم بأكل الربا ، والعادل بالبيع….. وأمثال هذه الأقاويل.
ثم قال: فكل قول فيه ذكر نوع داخل فى الآية ، وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبهه به على نظيره ، فإن التعريف بالمثال ، قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق ، وذلك مثل سائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ " الخبز " فأرى رغيفاً وقيل له: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا ، لا إلى هذا الرغيف وحده ا.هـ (3)
__________
(1) سورة الفاتحة : 5.
(2) سورة فاطر : 32
(3) مقدمة فى أصول التفسير - ص 51: 54(1/29)
ثم تناول ابن تيمية وجوهاً أخرى للخلاف (1) ، داخلة فى اطار خلاف التنوع أحجمت عنها لعدم الإطناب ، منعاً للسآمة والملل .
وأما التفسير بالرأى ،فقد أرجع ابن تيمية الخلاف فيه لسببين:
أحدهما - قوم اعتقدوا معانى ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (2)
والثانى - قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه ، والمخاطب به.
فالأولون: راعوا المعنى الذى رأوه من نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان .
والآخرون: راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربى من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة كما يغلط فى ذلك الذين من قبلهم.
كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا القرآن ، كما يغلط فى ذلك الآخرون. وإن كان نظر الأولين إلى المعنى اسبق ا.هـ (3) هذه بعض أسباب الخلاف بين المفسرين فى نظر ابن تيمية.
أما العلامة ابن جزى فقد ذكر أسباب الخلاف بين المفسرين حاصراً إياها فى اثنى عشر سبباً هى:
اختلاف القراءات.
اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات.
اختلاف اللغويين فى معنى الكلمة.
إشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
احتمال العموم والخصوص.
احتمال الإطلاق والتقييد.
احتمال الحقيقة أو المجاز.
احتمال الإضمار أو الاستقلال.
احتمال الكلمة زائدة.
احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير.
احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
__________
(1) المرجع السابق - ص 48: 67
(2) يقصد ابن تيمية بذلك أصحاب المذاهب المنحرفة عن طريق أهل السنة ممن أخضعوا آيات القرآن لمعتقداتهم ومذاهبهم كالمعتزلة والروافض وغيرهم.
(3) مقدمة فى أصول التفسير - ص 84(1/30)
اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم -وعن السلف-رضى الله عنهم.(1)
أمثلة تقرب مفاهيم هذه الأسباب
أما بالنسبة للسبب الأول: وهو اختلاف القراءات ، فهو موضوع الكتاب ولا حاجة بنا إلى التمثيل له فى هذا الموضع لأننا أشبعناه أمثلة فيما سيأتى من مباحث.
وأما السبب الثانى: وهو اختلاف أوجه الإعراب وإن اتفقت القراءات، فمثاله اختلافهم حول الضمير "هم" فى قوله سبحانه:(( وإذا كالوهم أو وزنوهم )) (2)
اختلفوا فى الضمير "هم" فى الموضعين على وجهين:
أ- قيل: هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به ويعود على الناس أى: وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ….
ب- وقيل: هو ضمير رفع مؤكد للواو والضمير عائد على المطففين (3)
هذا خلاف حول الإعراب مع اتحاد القراءة.
ومنه أيضاً اختلافهم حول "لا" من قوله تعالى : ((سنقرئك فلا تنسى)) (4)
فقيل: "لا " نافية ، والآية إخبار من الله تعالى بأن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى.
وقيل:هى ناهية ، أى: لا تنس يا رسول الله ما نقرئك إياه من القرآن ، يعنى لا تتعاط أسباب النسيان.
وقد أجاب هؤلاء عن الألف اللازمة فى قوله "تنسى" مع تقدم "لا" الناهية عليها - أى الكلمة - ومن شأنها جزم المضارع بعدها ، أجابوا عن ذلك بأن الألف هنا للإشباع(5) ، كما فى قوله تعالى: ((لا تخاف دركاً ولا تخشى)) (6) ، وقد لحظنا أن هذا الخلاف كائن مع كون القراءة واحدة.
وأما السبب الثالث: وهو اختلاف اللغويين فى معنى الكلمة ، فمثاله ، اختلافهم حول معنى لفظ "مخلدون" من قوله تعالى: ((يطوف عليهم ولدان مخلدون)) (7)
__________
(1) مقدمة التسهيل -1/12.
(2) سورة المطففين:3
(3) أنظر: الدر المصون- 6/490 ، فتح القدير - 5/500.
(4) سورة الأعلى : 6.
(5) أنظر: الدر المصون - 6/510.
(6) سورة طه : 77.
(7) سورة الواقعة : 17.(1/31)
فقيل: معناه لا يهرمون أبداً ، ولا يتغيرون فهم فى سن واحد ، وشكلهم شكل الولدان دائماً ، والعرب تقول لمن كبر ولم يشب: إنه لمخلد. وقيل معناه مقرطون من قولهم: خلد جاريته إذا حلااها بالخلدة وهى القرطة.
وقيل: مخلدون منعمون ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخل
ليل الهموم ما يبيت بأوجال
ڑ
وقيل : مخلدون أى مستورون بالحلية. ومنه قول الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنم
عجازهن أقاوز الكثبان (1)
ڑ
وقيل غير ذلك. وهذه الأقوال كلها تدور على معانى لفظ مخلدون فى اللغة ، وهى كما نعلم ثرية جداً بألفاظها ، غنية بمعانيها وأسرارها ، ومن ثم كان شرطاً رئيساً فيمن يتصدى لتفسير كتاب الله أن يكون على معرفة واسعة بلغة العرب شعراً ونثراً ، ولذلك قال مالك - رحمه الله - لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً.
وأما السبب الرابع:
وهو اشترك اللفظ بين معنيين فأكثر ؛ فمثاله: اختلافهم حول لفظ الصريم فى قوله تعالى: ((فأصبحت كالصريم)) (2) ، فهو مشترك لفظى بين سواد الليل وبياض النهار .
ومنه أيضاً اختلافهم حول معنى "القرء " فى قوله تعالى: (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)) (3) هل المراد به الحيض أو الطهر ، إذ هو مشترك لفظى بينهما.
وهذان المثالان سوف يأتيان معنا فيما هو آت فى هذا البحث إن شاء الله.
وأما السبب الخامس:
وهو احتمال العموم الخصوص ، فمثاله: اختلافهم حول المراد بالناس فى قوله تعالى: ((أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)) (4) فقيل المراد بالناس هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد حسدوه - أى اليهود - لأن الله تعالى أعطاه النبوة. وعليه فاللفظ هنا خاص.
__________
(1) أنظر: فتح القدير - 5/186 ، والكثبان جمع كثبة وهى: كل مجتمع من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلاً.
(2) سورة القلم: 20.
(3) سورة البقرة: 228.
(4) سورة النساء: 54.(1/32)
وقيل المراد بالناس هنا العرب وقد حسدهم اليهود لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النبى الخاتم كان منهم ، وعلى ذلك فاللفظ عام.
وأما السبب السادس:
وهو احتمال الإطلاق والتقييد فمثاله: قوله تعالى فى كفارة الظهار: ((فتحرير رقبة)) (1) ، وفى كفارة اليمين: ((أو تحرير رقبة)) (2) حيث أطلق الرقبة فى الموضعين ولم يقيدهما بوصف.
وفى كفارة القتل الخطأ قيدت الرقبة بوصف الإيمان هكذا: ((فتحرير رقبة مؤمنة)) (3)
فقيل: يحمل المطلق على المقيد فيتحصل لزوم أن تكون الرقبة مؤمنة فى الجميع وهو رأى الجمهور.
وقيل: لا يلزم ذلك فيما أطلق.
ومنه أيضاً قوله تعالى: ((فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)) (4) ، فهذه الآية أطلقت صيام الأيام الثلاثة ولم تقيدهن بتتابع ولا تفريق.
وجاءت قراءة شاذة لابن مسعود مقيدة بالتتابع هكذا: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات))
فاختلفوا: هل تصلح هذه القراءة للتقييد أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والثورى إلى الأول ، وذهب الشافعى إلى الثانى ، وسيأتى الكلام عن ذلك فى محله إن شاء الله تعالى.
وأما السبب السابع:
وهو احتمال الحقيقة أو المجاز ، فمثاله: اختلافهم حول المراد بالتنور فى قوله تعالى: ((حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)) (5)
فقيل : المارد به التنور الحقيقى الذى يختبز فيه ، وقد كان بدار نوح عليه السلام ، وقد جعل الله تعالى فوران الماء منه علامة على الطوفان الذى أغرق قومه.
وقيل: بل معنى قوله: ((وفار التنور)) أى برز نور الصبح.
وقيل : بل معناه اشتد غضب الله. (6)
فعلى الأول فالتعبير حقيقى وهو الراجح (7) وعلى الثانى والثالث فالتعبير مجازى.
__________
(1) سورة المجادلة : 31
(2) سورة المائدة : 89.
(3) سورة النساء:92.
(4) سورة المائدة: 89.
(5) سورة هود: 40.
(6) أنظر: تفسير الطبرى - 12/25.
(7) أنظر: إزالة الإلباس -ص 100 ، فقد ذكرت هناك وجوهاً أربعة لترجيحه.(1/33)
ومنه كذلك اختلافهم حول المراد بالضحك والبكاء فى قوله تعالى: ((وأنه هو أضحك وأبكى)) (1)
فقيل: معناه أنه خلق الضحك المعروف والبكاء المعروف فى ابن آدم. فالتعبير على ذلك حقيقى وهو الراجح.
وقيل: بل المعنى: أضحك الأرض بالنبات ، وابكى السماء بالمطر وعليه فالتعبير مجازى.
وأما السبب الثانى:
وهو احتمال الإضمار أو الاستقلال ، فمثاله: قوله تعالى: ((يخادعون الله والذين آمنوا)) (2) فقوله "يخادعون" من الخدع وهو الإخفاء والإبهام ، وهو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، والمخادعة تقتضى المشاركة من الجانبين ، والله سبحانه منزه عن ذلك ؛ لأنه لا يخدع. وأجيب عن ذلك بأنه من باب الإضمار أى: يخادعون رسول الله.
وقيل: هو من الاستقلال وليس الإضمار ، والمعنى: إن صورة صنيعهم - يعنى المنافقين - مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، وصورة صنيع الله معهم ، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم فى الدرك الأسفل من النار ، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم ، فأجروا ذلك عليهم ، تشبه صورة المخادعة.
ففى الكلام إما استعارة تبعية أو تمثيلية فى الجملة ، أو بأن المفاعلة ليست على بابها ، فإن فاعل قد يأتى بمعنى فعل مثل: عافانى الله ، وقتلهم الله. (3)
وأما السبب التاسع:
وهو احتمال الكلمة زائدة ، فمثاله: اختلافهم حول كلمة "من" فى قوله تعالى: ((إن الذين ينادونك من وراء الحجرات 0000)) (4)
فقيل : هى زائدة فكان يكفى فى التعبير أن يذكر ((وراء الحجرات)) فقط ليؤدى لنفس المعنى الذى أداه بدخول "من" على "وراء"
__________
(1) سورة النجم: 43.
(2) سورة البقرة : 9.
(3) أنظر: أصول التفسير لخالد العك - ص64.
(4) سورة الحجرات: 4.(1/34)
وقيل: بل إن الحرف " من " هنا قد أدى فائدة جليلة ما كانت توجد لولاها . وذلك أن لفظ "وراء" مشترك لفظى بين الأمام والخلف ، فلما دخلت "من" على "وراء" جعلته أكثر شمولاً واتساعاً فغطى الجهات الأربع الأمام والخلف واليمين والشمال. إذ ليس الحكم الوارد فى الآية المذكورة مفيداً بالنداء خلف الحجرات أو أمامها ، بل من أى جهة من الجهات المحيطة بالحجرات.
ونظير هذه الآية كذلك قوله تعالى: ((لا يقاتلونكم جميعاً إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر))(1) ففائدة "من" هنا كفائدتها فى آية الحجرات ، ويندرج تحت ذلك أيضاً اختلافهم حول "لا" قبل الفعل "أقسم" هل هى زائدة أم أصيلة. أو "الباء" فى خبر "ما" وفى خبر "ليس". وقد تناولت ذلك كله فى كتابى "إزالة الإلباس عن كلام رب الناس" (2)
وأما السبب العاشر:
وهو احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير فمثاله: قوله تعالى : ((وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة 000000)) (3)
قال بعض العلماء: هو مقدم فى التلاوة ، مؤخر فى المعنى على قوله تعالى: ((وإذ قتلتم نفساً فادارءتم فيها)) (4) لأن أمر موسى لقومه بأن يذبحوا بقرة كان فى الترتيب الزمنى بعد قصة القتل المذكورة فى الآية الثانية. ولذا جوز هؤلاء أن تكون قصة البقرة مؤخرة فى النزول عن قصة القتل.
قال الشوكانى: ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروه أن يضربوه ببعضها ، ثم علق بقوله: هذا على فرض أن الواو تقتضى الترتيب ، وقد تقرر فى علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية. (5)
__________
(1) سورة الحشر: 14.
(2) أنظر: مبحث هل فى القرآن زائد ؟ - ص150 ، 159.
(3) سورة البقرة: 67.
(4) سورة البقرة: 72.
(5) فتح القدير - 1/126.(1/35)
ومنه أيضاً قوله تعالى: ((إنى متوفيك ورافعك إلى )) (1) وهو قول الله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام ، اختلف فيه على أقوال:
فقيل: هو من المقدم والمؤخر ، أى رافعك إلى ومتوفيك وهذا على أساس أن المراد بالتوفى هنا الموت ، إذ قرر القرآن ذلك فى آية أخرى ((وما قتلوه يقينا 0 بل رفعه الله إليه)) (2)
فنفى القرآن عنه القتل ، وأثبت له الرفع ، فدل على أنه رفع حياً.
وقيل : ليس المراد بالتوفى هنا قبض الروح وانتهاء الأجل ، بل هو استيفاء الحق أى موفيك حقك ورافعك.
وقيل: إن التوفى هنا هو النوم ، وفى القرآن الكريم ما يؤيد هذه التسمية ، قال تعالى: ((الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها)) (3)
فعلى الرأى الأول يكون فى الكلام تقديم وتأخير ، وعلى الرأيين الآخرين فالكلام على ترتبيه.
وأما السبب الحادى العشر:
وهو احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً ، فمثاله: اختلافهم حول قوله تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)) (4)
قال ابن الجوزى: اختلف المفسرون فى معنى الآية على قولين:
الأول: أنه يقتضى التخيير بين الصوم والإفطار مع الإطعام ؛ لأن معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية. فعلى هذا يكون الكلام منسوخاً بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه))(5) وهو منقول عن كثير من السلف.
الثانى: أنه محكم وغير منسوخ وأن فيه إضماراً تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقونه أو لايطيقونه - هذا تقدير آخر - فدية. واشير بذلك إلى الشيخ الفانى الذى يعجز عن الصوم والحامل التى تتأذى بالصوم والمرضع. وهو رأى منسوب إلى بعض السلف.(6)
__________
(1) سورة آل عمران: 85.
(2) سورة النساء: 157 ، 158.
(3) سورة الزمر: 42.
(4) سورة البقرة: 184.
(5) سورة البقرة: 185.
(6) نواسخ القرآن لابن الجوزى - ص65: 69 بتصرف.(1/36)
وهذا المثال كما صلح لصورة السبب الذى معنا الآن فإنه يصلح كذلك لصورة السبب الثامن وهو احتمال الإضمار أو الاستقلال.
ومنه أيضاً خلافهم حول قوله تعالى : ((وجاهدوا فى الله حق جهاده)) (1) على قولين:
الأول: هى منسوخة لأن فعل ما فيه وفاء لحق الله لا يتصور من أحد إذ لا قدرة لأحد على أداء حق الله كما ينبغى ، والناسخ هو قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) (2) أو قوله تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) (3)
الثانى: هى محكمة لأن حق الجهاد يكون فى المجاهدة وبذل الإمكان مع صحة المقصد. (4) فعلى هذا تكون الآية محكمة وغير منسوخة.
ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: ((اتقوا الله حق تقاته)) (5) مع قوله تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) (6)
وأما السبب الثانى عشر:
وهو اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف - رضى الله عنهم - فمثاله: ما حكى من خلاف حول تفسير قوله تعالى: ((إنما المشركون نجس)) (7) ، فقد قيل "نجس" يعنى أنجاس الأبدان ، ولذلك قال الحسن: من صافحهم فليتوضأ.
قال السيوطى فى الدر المنثور: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه" ، وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: "استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها ، فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدى ؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودى فكرهت أن تمس يدى يداً قد مستها يد كافر ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها" (8)
__________
(1) سورة الحج: 78.
(2) سورة البقرة: 286.
(3) سورة التغابن: 16
(4) نواسخ القرآن لابن الجوزى - ص196.
(5) سورة آل عمران: 102.
(6) سورة التغابن: 16.
(7) سورة التوبة:28.
(8) الدر المنثور - 3/409.(1/37)
وقيل: ليست النجاسة هنا نجاسة الأبدان بل هو خبث الطوية وسوء النية ، وليس أخبث ولا أسوء من الشرك الذى انطوت عليه صدورهم وظهر على أعمالهم شئ.
قال ابن الجوزى:
وقيل: إنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة ، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً ، قاله قتادة.
وقيل: إنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس. وهذا قول الأكثرين ، وهو الصحيح هكذا قال ابن الجوزى. (1)
ويتأيد هذا الرأى بما ورد من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشرك ولم يغسلها ، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يطبخون فى أوانى المشركين ولا تغسل. (2)
هذا مثال واضح لاختلاف الروايات عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الذى ينتج عنه اختلاف المفسرين .
كون اختلاف القراءات من
أسباب الخلاف بين المفسرين
تناول ابن جزى- كما علمت - فى مقدمة تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل (3) أسباب الخلاف بين المفسرين ، وكان أول سبب ذكره هو اختلاف القراءات. وكذا ذكره الشاطبى فى الموافقات (4)
__________
(1) زاد المسير - 3/316.
(2) محاسن التأويل للقاسمى - 8/163 ، و أنظر: فتح القدير - 2/434.
(3) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى - 1/12.
(4) الموافقات للشاطبى - 4/120.(1/38)
ويتصور ذلك فى الآية التى ترد بقراءتين أو أكثر فإن ذلك يترتب عليه أن تتعدد الآراء فى تفسيرها تبعاً لتعدد هذه القراءات ؛ لأن هذه القراءات كثيراً ما تضيف معانى جديدة مما ليس موجوداً فى غيرها من القراءات الواردة فى نفس الآية ، فيترتب على ذلك أن يتناول بعض المفسرين الآية من خلال قراءة معينة ، بينما يتناولها غيرهم من خلال قراءة أخرى فيحدث الخلاف. هذا جانب من جوانب سوف تعرفها خلال المباحث القادمة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وننبه هنا إلى أن هذه القراءات التى تحدث تعدداً واختلافاً فى الأوجه التفسيرية ، قد لا تكون فى درجة واحدة فى بعض الأحيان ، كأن يكون بعضها متواتراً وبعضها شاذاً ، كما أنها تكون فى كثير من الأحيان فى درجة واحدة من التواتر ، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص وقواعدها التى تضبط تعامل المفسرين معها.
وبناءً عليه فإن صور الخلاف بين القراءات هى كالآتى: (1)
1- الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة.
2- الخلاف بين قراءتين متواترتين.
هاتان صورتان تتجهان إلى القراءة ذاتها ، وأحياناً تكون صورة الخلاف بين المفسرين بسبب القراءات السبب فيها ليس راجعاً إلى القراءات ذاتها ، وإنما إلى اعتبارات العلماء ، وذلك مثل اختلافهم حول حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة.
ومثل اختلافهم حول اشتراط التواتر فى إثبات القرانية فى الترتيب والوضع أو المحل ، أو عدم اشتراطه. فهاتان صورتان أخريان ، يقع فيهما الخلاف بين المفسرين.
ما يؤثر على التفسير من القراءات
ينبغى أن يعلم أنه ليس كل اختلاف بين هذه القراءات يسبب الاختلاف فى أوجه التفسير ، بل إن القراءات من هذه الناحية تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: قراءات لا يؤثر اختلافها فى التفسير بحال.
__________
(1) هذه الصور أفردت لها المبحث الثانى من هذا الكتاب.(1/39)
وذلك كاختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والحركات ، كمقادير المد والإمالات ، والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس ، والغنة والإخفاء.
ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء اللغة العربية ما لم يحفظه غيرها ، وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف فى مخرجها وصفاتها ، وبيان اختلاف العرب فى لهجات النطق ، وهذا غرض مهم جداً لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره فى اختلاف معانى الآى.
ثانيهما: قراءات يؤثر اختلافها فى التفسير:
وذلك مثل اختلاف القراء فى حروف الكلمات مثل ((مالك يوم الدين)) و ((ملك يوم الدين)) وكذلك اختلاف الحركات ، الذى يختلف معه معنى الفعل كقوله سبحانه: ((ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)) حيث قرأ نافع "يصُدون" بضم الصاد ، وقرأ حمزة "يصِدون" بكسر الصاد.
والأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان ، والثانية بمعنى صدودهم فى أنفسهم ، وكلا المعنيين حاصل منهم. (1) مثل ذلك مؤثر فى التفسير ، لأن ثبوت أحد اللفظين فى قراءة قد يبين المراد عن نظيره فى القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره ، ولأن اختلاف القراءات فى ألفاظ القرآن يكثر المعانى في الآية الواحدة.
وقال المحقق ابن الجزرى في ذلك : قد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدهما: اختلاف اللفظ لا المعنى كالاختلاف فى ألفاظ (الصراط (2) , يؤوده (3) , القدس(4)) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط .
__________
(1) راجع فى ذلك تفسير التحرير والتنوير - 1/46 وما بعدها بتصرف.
(2) سورة الفاتحة:5
(3) سورة البقرة:255
(4) سورة النحل:102(1/40)
الثانى :اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما فى شئ واحد مثل (مالك , ملك) (1) قراءتان المراد بهما الله تعالى فهو مالك يوم الدين وملكه , ومنه قراءة (ننشزها , وننشرها ) (2) لأن المراد فى القراءتين العظام فالله أنشرها بمعنى أحياها , وأنشزها أى رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت , فضمن الله المعنيين فى القراءتين .
الثالث : اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما فى شئ واحد , لكن يتفقان من وجه آخر لا يقتضى التضاد.
ومثاله قوله تعالى: ((وظنوا أنهم قد كذبوا )) (3) حيث قرئ بالتشديد والتخفيف فى لفظ (كذبوا ) هكذا " كُذِّبوا ", و" كذِبوا" فاما وجه التشديد فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذّبوهم , وأما وجه التخفيف فالمعنى : وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذَبوهم - أى كذبوا عليهم - فيما أخبروهم به , فالظن في الاولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل , والظن فى القراءة الثانية شك , والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم . ومنه أيضاً قوله تعالى : (( وإن كان مكرهم لَتَزول منه الجبال)) (4) بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى فى كلمة "لتزول" وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضاً , فأما وجه القراءة الأولى فعلى كون " إنْ" مخففة من الثقيلة أى وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها , وفى القراءة الثانية " إن " نافية أى: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام .
ففى الأولى تكون الجبال حقيقة , وفى الثانية تكون مجازاً. (5)
__________
(1) سورة الفاتحة :4
(2) سورة البقرة : 259
(3) سورة يوسف : 110
(4) سورة إبراهيم : 46
(5) نقلاً عن مناهل العرفان - 1/85, 86 باختصار وتصرف(1/41)
وبعد ففى هذين النقلين عن صاحب تفسير التحرير والتنوير عن الشيخ المحقق ابن الجزرى ما يوضح بجلاء أن القراءات منها ما يكون له تأثير على التفسير , ومنها ما يتعلق باللفظ فقط وهيئة أدائه وهو لا يؤثر على التفسير , وبحثنا الذى نحن بصدده يتعلق بالقسم الأول .
فإذا ما تجاوزنا الخلاف - فى التفسير أو فى الأحكام - بين المفسرين بسبب القراءات , أو بسبب اختلاف الاعتبارات حول القراءات , إذا ما تجاوزنا ذلك , وجئنا إلى اختلافهم - أى المفسرين - واختلاف النحاة معهم فى الأوجه النحوية فى هذه القراءات , فإننا نجد هذه الآراء النحوية فى قراءات القرآن الكريم , لا تقل كثرة عن الآراء التفسيرية , بل قد تتجاوزها بكثير داخل القراءة الواحدة , فما بالك حين تتعدد هذه القراءات , فإن الآراء النحوية تتعدد بتعددها , بل تتعدد داخل كل قراءة بعينها.
وليس من غرضى فى هذا البحث مناقشة الأوجه الإعرابية المتعددة داخل القراءة الواحدة ,لأن ذلك مقبول , حيث إن تعدد الأوجه من طبيعة الإعراب , والاختلاف فى ذلك هو من قبيل احتمال اللفظ أو التركيب لهذه الأوجه جميعها.
وإنما غرضى هنا أن أناقش بعض النحاة ومن تبعهم من المفسرين فى رد بعض القراءات الثابتة , بحجة أنها تخالف قواعد نحوية , و سيأتى ذلك إنشاء الله فى المبحث الثالث.
الاختلاف فى القراءات الثابتة
ليس اختلاف تضاد بل هو اختلاف تلازم
الاختلاف ينقسم إلى قسمين :-
أحدهما : اختلاف تضاد وتناقض , وهو المعارضة من كل وجه بحيث لا يمكن الالتقاء مطلقاً .
وقد جاء تعريفه فى الإتقان بأنه ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر (1) .
ومثل هذا النوع لا وجود له فى القرآن الكريم مطلقاً , لا فى القراءات و لا فى غيرها , إلا ما كان من الناسخ والمنسوخ والقارئ بصير بأن مثل هذا لا يسمى اختلافا أصلا بعد رفع السابق من الحكمين و إحلال اللاحق محله.
__________
(1) الاتقان2/38(1/42)
ثانيهما - اختلاف تلازم , ويندرج تحت هذا الاختلاف فى وجوه القراءات.
وجاء فى الإتقان : اختلاف التلازم هو ما يوافق الجانبين كاختلاف وجوه القراءة …. (1)
إذن فالاختلاف فى القراءات ليس من قبيل الاختلاف على جهة التعارض و التضاد و إنما هو اختلاف تنوع له العديد من الفوائد سنذكرها فى محلها . أو أنه اختلاف فيما يبدو للناظر بعين غير مبصرة , وهو سريعاً ما يزول عند أدنى تدبر وهو ما يسمى بموهم الاختلاف.
ومثل ذلك لا يعد فى الحقيقة خلافاً يعتد به ، بدليل أن القراء حين اختار كل منهم ما يقرأ به " لم يقرأوا بما قرأوا به على إنكار غيره ، بل على إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم فى الاختيارات وليس ذلك فى الحقيقة باختلاف" (2)
ولايرد على ذلك إنكار بعض النحويين ومن تبعهم من المفسرين لبعض القراءات الثابتة ، أو ترجيح بعضها على البعض ،فإن منشأ ذلك هو عدم يقينهم بأن هذه القراءات توقيفية ، وليست اجتهادية إضافة عدم الإلمام الكامل بكل وجوه العربية.
وكل ما أثاروه فى هذا المقام مردود عليه بما يفحم ، لكن ما يثير العجب أن يأتى فى زماننا هذا من لايعرف من النحو إلا قشوراً فيدعى وجود اللحن فى القرآن فى قراءاته المختلفة ، فاتحاً بذلك صفحة طويت من قديم حين أجاب العلماء المخلصون. عما أثير فى هذا المقام.
ولله در الإمام الغزالى حين قال: لو سكت من لا يعرف لقل الاختلاف (3)
هل اختلاف القراء
من قبيل اختلاف الفقهاء ؟
والإجابة عن هذا التساؤل بالنفى ، لأن خلاف الفقهاء إنما هو خلاف منبثق عن اجتهاد كل منهم،
وهذا أمر طبيعى ، بسبب اختلاف المدارك ، واختلاف طرق التتبع لكل فقيه ، وقد يرجع الخلاف بينهم أحياناً إلى غياب الدليل عن بعضهم.
ثم هم أخيراً قد يختلفون فى فهم النصوص الواردة فى القرآن والسنة.
__________
(1) الإتقان 2/31
(2) الموافقات للشاطبى -4/122.
(3) نقله السيوطى فى الحاوى 2/116(1/43)
وحاصل ذلك أن اختلاف الفقهاء إنما هو اختلاف فى الرأى و الاجتهاد ، كاختلاف المفسرين فى التفسير ، أو المعربين فى الإعراب بينما تكون هذه الأوجه كلها محتملة.
وهذا يختلف ويفترق عن اختلاف القراء ، فإن القراءات ثابتة بالنقل ، لا بالاجتهاد ، والخلاف بين القراء فى ذلك راجع إلى الاختيارات مع صحة الجميع كما مضى النقل عما قريب عن الشاطبى. و قال ابن الجزرى فى هذه المسألة:
اختلاف القراء كله حق وصواب نزل من عند الله ، وهو كلامه لا شك فيه ، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادى، والحق فى نفس الأمر واحد، فكل مذهب إلى الأخر صواب يحتمل الخطأ ،وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب فى نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمن به ا .هـ (1)
وقريب من هذا المعنى كلام الشاطبى الذى نقلته قريباً ، الذى لم يعتبر فيه ما نقل عن القراء مما يعتد به فى الخلاف.
النسبة بين القراءات والقرآن
القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحى المنزل للإعجاز والبيان . والقراءات اختلاف ألفاظ الوحى المذكور فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما وحفظ القرآن فرض كفاية على الأمة ومعناه: ألا ينقطع عدد التواتر فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف . وكذا تعليمه فرض كفاية والقراءات مثله (2)
صور من اختلاف المفسرين لا يعتد بها فى الخلاف
أقول بادىء ذى بدء: ليس كل ما صورته الخلاف مما نلاحظه على أقوال المفسرين يعد خلافاً معتبراً . بل إن كثيراً من هذه الأقوال فى أغلب الأحيان تلتقى فى إطار واحد وما يمكن التقاؤه لا نستطيع أن نعتبره خلافاً معتداً به ، ولذلك أسميناه سابقاً "خلاف التنوع"
يقول الشاطبى رحمه الله: الأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ……..
__________
(1) أنظر مقدمة محاسن التأويل 1/311
(2) إتحاف فضلاء البشر صـ7(1/44)
فإن نقل الخلاف فى مسألة لا خلاف فيها فى الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق فى موضع الخلاف لا يصح (1)
هذا هو الأصل الأول لما لا يعتد به من صور الخلاف بين المفسرين وهو ما كان ظاهره الخلاف وليس فى الحقيقة كذلك.
الأصل الثانى - ما كان من الأقوال مخالفاً لمقطوع به فى الشريعة. فهذا لا نعتيره رأياً أصلاً فضلاً عن أن نعتد به فى الخلاف فلا نستطيع مثلاُ أن نعتبر رأى من ينكر البعث مخالفاً لرأى من يؤمن به ويعتقده ، ولا رأى من ينكر الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج مخالفاً لرأى من يعتقدها ويقوم بأدائها ويظهر هذا النوع فى تفسير أصحاب المذاهب المنحرفة الذين جرفهم التيار بعيداً عن شاطىء أهل الحق ، فهذا رجل يتلاعب بالحدود الشرعية ويفسر آياتها حسب هواه (2) ، وهذا أخر ينكر معجزات الأنبياء ويتأول الآيات الدالة عليها على غير تأويلها ، وينكر وجود الجن والملائكة وينكر الحدود الشرعية ويفسر الآيات الدالة عليه حسب هواه (3) فهل يكون هذان وأمثالهما كثير فى الماضى والحاضر ممن يعتبر رأيهم فى تفسير القرآن الكريم ؟ كلا وألف كلا
والعجيب أن هذا الأخير قد اختار لتفسيره عنوناً هو وكتابه أبعد ما يكونان منه فقد أسماه "الهداية والعرفان فى تفسير القرآن بالقرآن"
عرض هذا الكتاب على لجنة من علماء الأزهر ، فندت آراءه وجاء فى الحكم على مؤلفه أنه "أفاك خراص، اشتهى أن يعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد فى الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه ، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث فى شأنه وترديد سيرته" (4)
ولن نستطرد فى الحديث عن أصحاب هذه الاتجاهات المنحرفة فى تفسير القرآن الكريم أكثر من هذا ، فشأنهم أحقر من أن نعنى بكلامهم ،أو نهتم بأفكارهم ويكفى أن نعرف أنه لا اعتداد بخلافهم.
__________
(1) الموافقات 4/121
(2) نفس المرجع 2/509 وما يعادلها
(3) نفس المرجع 2/509 وما بعدها
(4) التفسير والمفسرون 2/509(1/45)
ونعود إلى الأصل الأول - وهو ما ظاهره الخلاف من أقوال المفسرين وهو فى الحقيقة ليس كذلك.
ولهذه صور عديدة منها:
الصورة الأولى-
أن يذكر فى التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك شىء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخرى مما هو داخل تحت اللفظ المفسر كذلك فينص المفسرون على القولين فيظن أنه خلاف بين المفسرين.
وهذه الصورة هى التى عبر عنها ابن تيمية بقوله:
الصنف الثانى- أى من خلاف التنوع- أن يذكر كل منهم- أى السلف-من الاسم العام بعض أفراده أو أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه (1)
وقد مثل له ابن تيمية رحمه الله بخلاف السلف حول تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات فى قوله تعالى: (( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)) (سورة فاطر آية :32)
وقد مضى تقرير هذا المثال فى بداية هذا المبحث .
ومثل له الشاطبى بخلاف المفسرين حول تفسير (المن) فى قوله تعالى ((وأنزلنا عليكم المن والسلوى))(2) حيث قال بعضهم المن خبز رقاق ،وقيل : زنجبيل، وقيل: الترنجبين، وقيل: شراب مزجوه بالماء ، وأزيد من أقوال المفسرين عما اقتصر عليه الشاطبى أن بعضهم قال: هو صمغة حلوة وقيل: عسل.
__________
(1) مقدمة فى أصول التفسير صـ53
(2) سورة البقرة: 57.(1/46)
يقول الشاطبى: هذا كله يشمله اللفظ ، لأن الله من به عليهم ولذلك جاء فى الحديث "الكمأة من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل" (1) فيكون المن جملة نعم ثم ذكر الناس منها آحاداً (2)
ولذلك قال ابن عطية : وقيل "المن" مصدر يعنى به جميع ما منّ الله به مجملاً (3) .
فكل قول من هذه الأقوال هو عبارة عن نوع داخل تحت الإطار العام للفظ وقد ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره ، حيث إن التعريف بالمثال يقد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له : هذا هو الخبز ، هكذا قال ابن تيمية ثم أدخل فى ذلك أيضاً قول المفسرين : هذه الآية نزلت فى كذا- كما يعبر أحياناً فى أسباب النزول وهى عبارة ليست نصاً فى السببية - أو سبب نزول هذه الآية كذا أو نزلت فى فلان يقول ابن تيمية الذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. (4)
وهذا الذى قاله ابن تيمية من كون سبب النزول لا يخصص حكم الآية بمن نزلت فيه هو الذى درج عليه جمهور العلماء حيث قرروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والحاصل أن قول المفسرين أو أصحاب كتب أسباب النزول:
__________
(1) نص الحديث عند البخارى فى كتاب التفسير((الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)) والرواية التى ذكرها الشاطبى أشار إليها ابن حجر فى الفتح 4/14 مبيناً أنها هى التى أظهرت دخول الحديث فى تفسير آية المن والسلوى وقد قيل فى وجه كون الكمأة مناً: إنها شجرة تنبت من نفسها من استنبات ولا مؤنة.
(2) الموافقات 4/121
(3) المحرر الوجيز 1/148
(4) مقدمة فى أصول التفسيرصـ59(1/47)
هذه الآية نزلت فى فلان أو فى قصة كذا ، فهذا الذى نزلت فيه هذه الآية ما هو إلا فرد من عموم أفراد وقعت منهم نفس الواقعة التى نزلت بسببها الآية أو الآيات ، والحكم يعم الجميع ، ولا يعد من الخلاف كذلك تعدد أسباب النزول ما دام لفظ الآية يحتمل الجميع ، فإن كانت الآية أو الآيات قد نزلت عقب هذه الأسباب المتعددة ، حكم بأن ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد ، بمعنى أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت بسبب هذه الوقائع جميعها.
ومثال ذلك قوله تعالى: ((والذين يرمون أزواجهم ولم يكن معهم شهداء إلا أنفسهم ...)) (1) فقد ذكروا حول نزول هذه الآيات أسباباً عديدة (2) وقد نزلت الآيات عقبها جميعاً ، فحكم على هذه الصورة بالحكم المذكور. وإن لم يجز التاريخ الزمنى بين هذه الوقائع المتعددة أو الأسباب المختلفة أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت عقبها جميعاً حكم على هذه الصورة بتكرار نزول الآيات ، ومثال ذلك نزول خواتيم سورة النحل ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ………….)) فقد جاء فى بعض الأسباب أنها نزلت يوم أحد ، وفى بعضها الآخر أنها نزلت يوم الفتح ، والفارق الزمنى بين أحد والفتح لا يتيح الحكم بأن يكون ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد ، ولذلك حكموا بأن الآيات قد تكرر نزولها مرة يوم أحد وأخرى يوم الفتح (3)
وحكمة هذا التكرير تعظيم شأن هذه الآيات وتذكير المسلمين بها للعمل بما تأمر به أو تنهى عنه. ولا يغيبن عن البال أن الحكمين المذكورين حول تعدد أسباب النزول إنما هما خاصان بما إذا كانت هذه الأسباب فى درجة واحدة من الصحة ، ولم يمكن الترجيح بينها ، وإلا فإن الصحيح يقدم على الضعيف والراجح يقدم على المرجوح.
__________
(1) سورة النور : آيات اللعان 6 إلى 9.
(2) أنظر: الدر المنثور - 5/43 وما بعدها ، أسباب النزول للواحدى - ص 326.
(3) أنظر: الدر المنثور - 4/255 ، و أنظر: مناهل العرفان - 1/116 وما بعدها.(1/48)
وقد كان من الممكن أن نجعل الحديث عن كون تعدد أسباب النزول مما لا يعتد به فى الخلاف بين المفسرين ، كان من الممكن أن نجعله صورة مستقلة لكننا أدرجناه هنا لمناسبته للصورة المذكورة فى الترجمة من جهة كون سبب النزول مثالاً من أمثلة ، وفرداً من أفراد تشملهم الآية أو الآيات ممن يتشابهون مع نفس الشخص الذى نزلت فيه الآيات من جهة كونهم قد وقع لهم ما وقع له.
الصورة الثانية
أن يذكر فى النقل أشياء تتفق فى المعنى مع اختلاف الألفاظ والتعبيرات بينما ترجع فى الواقع إلى معنى واحد ، فينقل ذلك كله على أنه خلاف وهو فى الحقيقة تفسير واحد ، وقد قال فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حكاية لهذه الصورة ، وإشارة إلى أنها من خلاف التنوع قال:
- ومما يرجع إلى اختلاف التنوع:- أن يعبر كل واحد - من المفسرين - عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى. وذلك كما قيل فى اسم السيف: الصارم والمهند.
ومثاله أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأسماء القرآن ، فأسماء الله الحسنى كلها على مسمى واحد ، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر ، والحاصل: أن كل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى يدل على ذاته وعلى ما فى الاسم من صفاته ، ويدل أيضاً على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم ، وكذلك أسماء النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد وأحمد والماحى والعاقب والحاشر.
وكذلك أسماء القرآن كالفرقان والهدى والشفاء والكتاب (1)
__________
(1) مقدمة فى أصول التفسير - ص 48 وما بعدها.(1/49)
ويمثل لذلك بالخلاف السالف الذكر حول تفسير "الصراط المستقيم" حين فسر مرة بأنه القرآن وأخرى بأنه الإسلام ، وعرفنا أن ذلك خلاف تنوع ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، وقد مثل له الشاطبى بخلاف المفسرين حول تفسير " السلوى" من آية ((وأنزلنا عليكم المن والسلوى)) (1) ، فقال: بعضهم عنه: هو طير يشبه السمانى ، وقيل: طير حمر صفته كذا ، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور ، فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها. (2)
فهذه الأقوال كلها راجعة إلى مسمى واحد وهو الطير ، ولأجل ذلك فإنه لا يعتبر خلافاً ما دام مرجعه إلى مسمى واحد فإن أسميناه خلافاً فهى تسمية مجازية لأن صورته صورة الخلاف والحقيقة أنه لا خلاف.
الصورة الثالثة:
أن تذكر أقوال متعددة حول تفسير الآية ، بعض هذه الأقوال يتجه إلى تفسير اللغة بمعنى أن يذكر معانى الألفاظ حسب وضعها فى اللغة ، وهو ما يسمى بالمعنى الأصلى للفظ ، وبعضها يتجه إلى التفسير المعنوى يعنى المعنى المستعمل فيه هذا اللفظ.
ومثاله قوله تعالى: ((نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)) (3) فإن القواء هى الأرض القفر ، ولذلك يفسر "المقوين" بالنازلين بالأرض القواء ، نزولاً على أصل معنى اللفظ فى اللغة وفسر كذلك بالمسافرين ؛ لأن هذا اللفظ صار يستعمل بهذا المعنى ، ومثل هذا لا يعد خلافاً فالذين ينزلون الأرض القواء هم المسافرون إليها حيث يقال: أقوى الرجل أى نزل بالأرض القواء ، وكيف ينزلها إلا إذا سافر إليها؟
__________
(1) سورة البقرة : 57.
(2) الموافقات - 4/121.
(3) سورة الواقعة : 73.(1/50)
ومنه أيضاً خلاف المفسرين حول المراد بلفظ "قارعة" فى قوله تعالى: ((ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة )) (1) حيث قال بعضهم: المراد بالقارعة هنا الداهية أو النكبة تفجؤهم ، يقال: قرعه الأمر يعنى أصابه ، وأصل القرع الضرب. وقال بعضهم: بل المراد بالقارعة السرايا والطلائع. والمعنى تصيبهم سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
فالأولون فسروا اللفظ حسب أصل وضعه ، والآخرون فسروه بمعنى مستعمل فيه ، فالعرب استعملوا المقارعة بمعنى الضرب فى الحرب (2) ، ومثل هذا لا يعد خلافاً ، ولذلك قال الشوكانى بعد أن حكى القولين: ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك.(3)
ويدخل فى ذلك لفظ " الغائط " إذ هو فى الأصل المكان المنخفض ، وقد كانت العرب تقصده لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس ، ثم سمى الحدث نفسه بهذا الاسم.
فإن قيل: فهل يفهم من ذلك أن اللفظ الذى له حقيقة شرعية صار مستعملاً فيها يجوز أن يفسر فى القرآن بمعناه اللغوى الذى هو أصل وضعه ، كما يجوز أن يفسر بمعناه الشرعى ، ولا يعد ذلك خلافاً؟
والجواب بالنفى المؤكد ، فكلامنا فى الصورة المترجم بها هو عن اللفظ الذى له أصل فى اللغة وضع له – وكل ألفاظ اللغة كذلك – إلا أنه غلب بعد ذلك استعماله فى معنى آخر من جهة اللغة كذلك ، فتفسيره بالمعنى الأصلى لا يتعارض ولا يختلف مع تفسيره بالمعنى الذى استعمل فيه لغة كذلك ، لأنه لابد من علاقة بين المعنى الأصلى والمعنى المستعمل فيه كما هو الحال فى المجاز والاستعارة.
__________
(1) سورة الرعد: 31.
(2) أنظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووى - 3/88 - القسم الثانى.
(3) أنظر: فتح القدير - 3/104.(1/51)
ولعل ما يقرب هذا المفهوم - فيما بدا لى - فكرة التضمين فى اللغة ، إذ إن الاسم أو الفعل الذى دخله التضمين لا يلغى التضمين معناه الأصلى ولكن يضيف إليه معنى جديداً ، فمثلاً قول الله تعالى: ((حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق)) (1) ضمن فيه لفظ "حقيق" معنى حريص ، ولم يلغ مع ذلك المعنى الأصلى للكلمة فصار المعنى: جدير بألا أقول على الله إلا الحق وحريص على ذلك فلن أخل به. (2) وإذا كان هذا هو التضمين فى الاسم فهو فى الفعل كذلك ، اقرأ قول الله تعالى: ((عيناً يشرب بها عباد الله)) (3) حيث ضمن الفعل "يشرب" معنى "يروى" ولذا عدى بالباء ، ولم يُلغ مع ذلك المعنى الأصلى إذ الرى هو منتهى الشرب ، فجمع الفعل بهذا التضمين بين معنيين لم يلغ أحدهما الآخر ولم يعارضه.
نعود إلى السؤال المطروح والذى أجبت عنه بالنفى:
وتقرير هذا الجواب هو أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية ، فإن التفسير الصحيح هو الذى يحمل اللفظ على حقيقته الشرعية ؛ لأن الشرع قد نقل هذا اللفظ من معناه اللغوى إلى معنى شرعى جديد فوجب التزامه ، وذلك كألفاظ الصلاة والزكاة والوضوء وغيرها ، فلهذه الألفاظ معان فى اللغة واصطلاحات أو حقائق فى الشرع ، وعلى المفسر حينئذٍ تقديم الحقيقة الشرعية لأن القرآن جاء مقرراً للشرع.
__________
(1) سورة الأعراف: 105.
(2) أنظر: تفسير الكشاف - 2/101 ، المنار - 9/38.
(3) سورة الإنسان : 6.(1/52)
هذا ما قرره العلماء ، قال الماوردى: إذا كان أحد المعنيين مستعملاً فى اللغة والآخر مستعملاً فى الشرع ، فيكون حمله على المعنى الشرعى أولى من حمله على المعنى اللغوى لأن الشرع ناقل. (1) لكن إن دل دليل على إرادة الحقيقة اللغوية فالنزوع إليها لازم وذلك كلفظ الصلاة فى قوله سبحانه: ((وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)) (2)
فالمراد هنا أصل المعنى اللغوى للصلاة ، أى: ادع لهم ، والدليل هنا هو حديث عبدالله بن أبى أوفى - فى الصحيح - قال: "كان النبى - صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبى بصدقته ، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى" (3)
والحاصل أن تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية أثناء تعاملنا مع القرآن الكريم ، وكذلك السنة النبوية لأن القرآن والسنة هما المعبران عن لسان الشرع والشرع هو الذى وضع هذه الاصطلاحات فوجب المضى مع ما اصطلح عليه ، وكما قالوا: لا مشاحة فى الاصطلاح. لكن إذا قام دليل خاص على تقديم اللغوية فى محل معين يلزم كذلك المصير إليه والقول به كما قدمنا.
الصورة الرابعة:
اختلاف المفسر مع نفسه ، بأن يكون قد ذكر رأياً ثم عدل عنه بعد البحث والنظر إلى رأى آخر ، فينقل على أنه خلاف وهو الحقيقة ليس كذلك ؛ لأن المستقر من رأييه هو الأخير فقط تماماً كالنسخ فى الأحكام -أى كصورته.
__________
(1) أنظر: تفسير النكت والعيون - 1/38 ، و أنظر فى تقرير هذه القاعدة : البرهان - 2/207 وما بعدها ، والإتقان 2/182 ، والمعتمد فى أصول الفقه -1/17 ، والمستصفى - ص189 ، وإرشاد الفحول - ص411.
(2) سورة التوبة : 103.
(3) البخارى - كتاب الزكاة - باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة.(1/53)
ومثل هذا يتحقق بكثرة فى أقوال الفقهاء ، فكثيراً ما تقرأ عبارة: هذا الرأى رواية عن أحمد ، أو هو قول الشافعى فى القديم ، أو الجديد . وقد يوجد منه فى التفسير شئ ، ويمثل له بالأقوال الكثيرة المنسوبة إلى ابن عباس - رضى الله عنهما - فإننا نقرأ كثيراً فى تفسير ابن جرير الطبرى فنراه يذكر التأويلين والثلاثة ويذكر تحت كل تأويل رأياً لابن عباس.
أقول: ما كان من هذه الآراء وتلك التأويلات من باب خلاف التنوع قبلناه أجمعه فى الموضع الواحد. وما كان منها من باب خلاف التضاد فلابد من أن يكون أحد الرأيين متأخراً فيحكم بأنه رفع به رأيه المتقدم ، وما يقال فى ابن عباس - رضى الله عنهما - يقال فى غيره ، لكن الذى دعانا إلى اختياره بالذات دون غيره سببان:
أحدهما : كثرة المرويات المروية عن ابن عباس والمختلفة فى مدلولاتها بغض النظر عن كونه خلاف تنوع أو تضاد.
وثانيهما: أن ابن عباس قد ثبت عنه شئ من هذا القبيل :
أ- فقد ورد عنه أنه كان يفسر الربا المحرم المنصوص عليه فى القرآنية والأحاديث النبوية بربا النسيئة ويقول: بجواز ربا الفضل. لكن ثبت أنه رجع عن ذلك (1) ومن ثم فلا يجوز أن ينقل ذلك على أنه خلاف ما دام أنه قد استقر على رأى حرمة ربا الفضل كذلك ، إذ رجوع المفسر أو الفقيه عن رايه السابق هو إلغاء له وإثبات لرأى آخر هو وحده الباقى والذى ينبغى أن ينسب إليه.
ب- ثبت عنه كذلك أنه كان يقول بحل نكاح المتعة ، ويفسر قوله تعالى فى سورة النساء: ((فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)) (2) يفسرها بأنها فى نكاح المتعة وأنه حلال معتمداً فى ذلك على قراءة للآية زائدة على تلك المذكورة حيث فيها : ((وما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى))(3)
__________
(1) أنظر: الموافقات - 4/122 ، أضواء البيان - 1/191 وما بعدها.
(2) سورة النساء : 24.
(3) أنظر: الدر المنثور -2/250: 253.(1/54)
ولست هنا فى مقام مناقشة مسألة المتعة ولا مناقشة القراءة المذكورة على أنها حجة من يبيحونها ، فقط يكفيك هنا أن تعلم أنها قراءة ليست موجودة فى القراءات العشر بل غير موجودة فى الأربع التى وراء العشر. لكن ما يعنينا هنا فى هذا المقام أن تعلم أن ابن عباس قد رجع عن ذلك. (1)
فقد روى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد كثر القول فى المتعة حتى قال فيها الشاعر:
أقول وقد طال الثواء بنا معاً
هل لك فى رخصة الأطراف أنسة ... يا صاح هل لك فى فتيا ابن عباس
تكون مثواك حى مصدر الناس
فقام ابن عباس من مجلسه وجمع الناس وخطب فيهم: " إن المتعة كالميتة والدم ولحم الخنزير ، فإما إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقد ثبت نسخه" (2)
الصورة الخامسة:
اختلاف القراء فيما ينقلون من روايات لا يعد اختلافاً لأنه لا عمل لهم ولا اجتهاد فى ذلك ، فهم مجرد حلقة فى سلسلة من مجموعة سلاسل عملت على نقل القراءات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإذا كان اختلاف القراءات غير معتبر لأن كل واحد من القراء لم يقرأ بما قرأ به وهو ينكر غير قراءته ، بل يقر بإجازته وصحته ، ولم يقع الخلاف بين القراء إلا فى الاختيار فقط مع اتفاقهم على مبدأ قبول الكل لكونه منقولاً ما دام مستوفياً شروط القبول.
__________
(1) أنظر: الموافقات - 4/122 ، أضواء البيان - 1/253.
(2) أنظر: المغنى - 6/644.(1/55)
أقول إذا كان هذا الاختلاف غير معتبر ، فإن الخلاف الناشئ عنها -أى عن الثابتة منها - غير معتبر كذلك ولسوف يبين لك فيما هو آت تعدد القراءات لم يخل فقط من التناقض والاختلاف بالمعنى المفهوم ، كما لم يكن أيضاً سبباً فى حدوث ذلك بين المفسرين بالمعنى المتبادر إلى الذهن كذلك ، بل كان سبباً فى إثراء التفسير من جهة كون تعدد القراءات يساعد على إيضاح المعنى حين تبين قراءة عن معنى قراءة أخرى ، وكذلك بما تضيفه هذه القراءات من معان جديدة وغير ذلك مما قد ذكر سلفاً من فوائد تعدد القراءات واختلافها ، ومما سوف يأتى إن شاء الله أثناء ذكر صور اختلاف القراءات وضوابط التعامل معها ومع الأقوال التفسيرية الناشئة عنها.
وحاصل هذه الصورة فيما يتعلق بما لا يعتد به من اختلاف المفسرين ، إن اختلاف المفسرين بسبب القراءات غير معتبر ، لكون الاختلاف بين القراءات نفسها غير معتبر ، بل أن لذلك فوائده المذكورة فى مواضعها من هذا البحث.
الصورة السادسة:
أن يذكر أحد المفسرين أقوالاً فى تفسير آية ، هذه الأقوال جميعها يحتملها نص الآية ، ولا دليل لقول واحد منها يبعث على ترجيحه على غيره.
فى هذه الحالة نحمّل الآية جميع هذه الوجوه كتفسير لها ، حيث لا مانع يمنع من ذلك ، ولا مرجح لرأى منها ، ولا نعد ذلك خلافاً ما دام النص القرآنى قد ضم هذه الأقوال المفسرة جميعها بين شاطئيه.
وهذه الصورة موجودة بوفرة فى كتب التفسير ، ونستطيع أن نصور لها هنا مثالاً هو تفسير العلماء لقوله تعالى: ((وللرجال عليهن درجة)) (1) ، نقل ابن عطية فى المحرر الوجيز أقوالاً متعددة فى تفسير الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء.
فنقل عن مجاهد وقتادة ، قالا: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها فى الجهاد والميراث وما أشبهه.
وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك فى الطاعة عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها.
__________
(1) سورة البقرة: 228.(1/56)
وقال عامر الشعبى: ذلك الصداق الذى يعطى الرجل وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت.
وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء فى المال والخلق ، أى أن الأفضل ينبغى أن يتحامل على نفسه ، وهذا قول حسن بارع.
وقال ابن إسحاق: الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها.
وقال ابن زيد: الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده ……….
ذكر ابن عطية هذه الأقوال جميعها وكلها صحيحة ولا مانع يمنع من إرادتها كلها ، ولذلك قال ابن عطية بعد ذلك تعليقاً عليها: وإذا تأملت هذه الوجوه التى ذكر المفسرون فإنه يجئ من مجموعها درجة تقتضى التفضيل. (1)
الصورة السابعة:
أن يتفق المفسرون على أصل معنى واحد تدور أقوالهم حوله ، ثم يختلفون فى كيفية دلالة الآية على هذا المعنى كأن يحمل بعضهم دلالة الآية على هذا المعنى بطريق المجاز ، بينما يحمل غيرهم ذلك على الحقيقة.
ومن أمثلة ذلك خلافهم فى تفسير قوله تعالى: ((تخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى)) (2) فقد ذكر المفسرون هنا أقوالاً فى تفسيرها منها ما يلى:
1- قال بعضهم: المعنى تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، ودلالة الحى على المؤمن ، والميت على الكافر دلالة مجازية.
2- وقيل: المراد الحياة والموت الحقيقيان ، والمعنى أنه يخرج النطفة من الرجل وهى ميته وهو حى ، ويخرج الرجل منها وهى ميتة ، وينسب هذا الرأى إلى ابن مسعود.
وقيل:بل المراد أنه يخرج الدجاجة وهى حية من البيضة وهى ميتة ، ويخرج البيضة وهى ميتة من الدجاجة وهى حية وينسب هذا الرأى إلى عكرمة. (3)
__________
(1) المحرر الوجيز - 1/306.
(2) سورة آل عمران: 27.
(3) أنظر: المحرر الوجيز - 1/918.(1/57)
وعلى كل فالدلالة هنا حقيقية وليست مجازية ، مع اتفاق الرأيين على أصل المعنى وهو قدرة الله عز وجل على إخراج الحى من الميت والميت من الحى.أو أن يكون اللفظ مشتركاً لفظياً فيحمله كل منهم على أحد معنييه ، مع اتفاقهم على ما يدل عليه ويهدف إليه كاختلافهم حول تفسير قوله سبحانه: ((فأصبحت كالصريم)) (1)
إذ إن لفظ "الصريم" مشترك بين سواد الليل وبياض النهار ، ولذلك قيل: المعنى أنها - أى الجنة الواردة فى السورة - أصبحت سوداء كالليل لا شئ فيها ، وقيل: بل أصبحت كالنهار بيضاء ولا شئ فيها. فالمقصود هنا شئ واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يلتقيان. (2) وذلك لا يعد خلافاً يعتد به لاتفاقهم على المقصود .
الصورة الثامنة:
أن يقع الخلاف فى التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجى ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل وجميع التأويلات فى ذلك سواء فلا خلاف فى المعنى المراد. (3)
ومثال ذلك آيات الصفات ، فإن للعلماء حولها اتجاهين:
أولهما: اتجاه السلف وهو الإيمان بها وتفويض علم حقيقتها إلى الله مع التنزيه المطلق لله عن مشابهة الحوادث. وقد عبر عن هذا الاتجاه أيما تعبير الإمام مالك –رحمه الله- إذ سئل عن معنى قوله سبحانه: ((الرحمن على العرش استوى))(4) فقال: الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.
وثانيهما: وهو اتجاه الخلف وهو مذهب أهل التأويل.
__________
(1) سورة القلم : 20.
(2) أنظر: الموافقات - 4/123 ، والمحرر الوجيز - 5/349.
(3) الموافقات للشاطبى - 4/123.
(4) سورة طه: 5(1/58)
وحاصله اللجوء إلى تأويل هذه الصفات بما يليق وجلال الله تعالى ، وقد وازنوا بينها فقيل: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم. وعلى كل فليس مجالنا هنا مناقشة ذلك ، ولكن فى مجال التمثيل للصورة المذكورة ، ومثالها متوفر فى اتجاه الخلف حول آيات الصفات وذلك أنهم يؤولونها.
ومن ذلك ما ذكروه من تأويلات لقوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى))
فقيل: معناه استولى ، وقيل: بل هو إشارة إلى العلو والرفعة ، وقيل: بل معناه أقبل على خلق العرش…..الخ
فهذا خلاف فى تأويل النص وفى كيفية صرف ظاهره عن أن يكون مراداً ، ومثل ذلك مما لا يعتد به فى الخلاف لكونهم متفقين حول الوجه الذى أوجب التأويل وهو فى هذا المثال امتناع أن يكون سبحانه مشابهاً للحوادث. فقد مضوا جميعاً فى هذا الإطار وإن اختلفت تأويلاتهم .
وبعد ، فهذه صور مما لا يعتد به فى الخلاف وهى موجودة فى كتب التفسير ، وقد يقاس عليها غيرها مما هو فى معناها ، وقد ذكرناها كى يتبين لنا أن كثيراً مما نقرأه فى كتب التفسير على أنه خلاف لا يعتبر كذلك فى الحقيقة.
المبحث الرابع
من صور اختلاف المعنى والتفسير بسبب
القراءات وضوابط الخروج منه
الصورة الأولى
الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة
تصوير الخلاف بين المفسرين فى هذه الصورة:
قد ترد أحياناً آية بقراءتين ، إحداهما متواترة ، والأخرى شاذة ، فيختلف تفسيرها عند المفسرين بسبب ذلك ، حيث يفسرها بعضهم ، معتمداً على القراءة المتواترة ، بينما ينحاز بعضهم إلى القراءة الشاذة ، فيقع التعارض ، أو الخلاف.
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الخلاف:
نص القاعدة:
القراءة المتواترة هى الأصل ؛ لأنها قرآن مقطوع به ، فلا تقوى على معارضتها قراءة شاذة.
توضيح القاعدة:
التواتر أقوى طرق الإثبات ، ولذلك فإنه يفيد اليقين والقطع ، والمتواتر: هو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.(1/59)
وأما القراءة الشاذة فهى التى اختل فيها ركن من أركان القراءة الصحيحة التى سبق ذكرها وهى:
1- صحة السند.
2- موافقة اللغة العربية ، ولو بوجه.
3-موافقة أحد المصاحف العثمانية ، ولو احتمالاً.
فمتى اختل ركن من هذه الأركان ، فهى القراءة الشاذة.
وقيل: الشاذ هو ما صح سنده ، وخالف الرسم والعربية مخالفة تضر ، أو لم تشتهر عند القراء. (1) وقد يطلق الشاذ ويراد به كل ما لا يقرأ به من أنواع القراءات.
وقولنا فى القاعدة: "فلا تقوى على معارضتها قراءة شاذة" يخرج ما إذا كانت الشاذة ، مؤيدة للمتواترة ، فإنه يجوز ذكرها على سبيل الاستشهاد والبيان للقراءة المتواترة. (2)
وكون القراءة الشاذة ، لا تقوى على معارضة المتواترة ، مما لا يمارى فيه ، بل إن كثيراً من الأصوليين ، لم يعتبرها حجة حتى فى مقام عدم المعارضة ، وسيأتى الحديث عن ذلك فى محله إن شاء الله.
أمثلة تطبيقية مشتملة على
اعتماد العلماء للقاعدة
المثال الأول:
قال تعالى: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما)) (3) هكذا فى القراءة المتواترة ((فلا جناح عليه أن يطوّف بهما)) وقرأ على -رضى الله عنه - ، وابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وابن عباس ((أن لا يطّوّف بهما)) (4) ، وقرئ شاذاً كذلك "أن لا يتطوف" وكذلك أيضاً "أن لا يطوف" بضم الطاء وسكون الواو. (5)
قال ابن عطية فى تصوير الخلاف بين العلماء بناء على اختلاف القراءات فيها. قال:
__________
(1) التحبير للسيوطى - ص69.
(2) أنظر: أضواء البيان - 1/7 ، معترك الأقران - 1/127 ، 128.
(3) سورة البقرة: 158.
(4) مختصر فى شواذ القرآن - ص111.
(5) تفسير ابن عطية - 1/229.(1/60)
واختلف العلماء فى السعى بين الصفا والمروة ، فمذهب مالك والشافعى أن ذلك فرض وركن من أركان الحج ، لا يجزى تاركه أو ناسيه إلا العودة ، ومذهب الثورى وأصحاب الرأى أن الدم يجزئ تاركه ، وإن عاد ، فحسن ، فهو عندهم ندب …….. إلى أن قال : وقال عطاء: ليس على تاركه شئ لا دم ولا غيره ، واحتج عطاء بما فى مصحف ابن مسعود "أن لا يطوف بهما" ا.هـ
إلى هنا انتهى تصوير الخلاف واحتجاج عطاء بالقراءة الشاذة على ما لا تفيده القراءة المتواترة.
ثم قال ابن عطية - معتمداً على القاعدة المذكورة:-
وهى قراءة خالفت مصاحف الإسلام ، وقد أنكرتها عائشة -رضى الله عنها - فى قولها لعروة حين قال لها: أرأيت قول الله: ((فلا جناح عليه أن يطوف بهما)) ؟ فما نرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما. قالت: يا عروة كلا لو كان ذلك ، لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما. (1)
ثم حاول ابن عطية أن يوجهها توجيهاً ، يجعلها فيه موافقة للمتواترة ، فتكون شاهدة لها ، لا معارضة ، فقال: وأيضاً فإن ما فى مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف ، وتكون "لا" زائدة صلة فى الكلام كقوله تعالى: ((ما منعك ألا تسجد)) (2) ، وكقول الشاعر:
ما كان يرضى رسولُ الله فعلَهمُ ... والطيبان أبو بكر ولا عمرُ(3)
وهذا ما لم يرتضه كثير من المفسرين ، ومن بينهم ابن العربى الذى نقل هذا القول عن الفراء ، ثم علق عليه بقوله: وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنا قد بينا فى مواضع أنه يبعد أن تكون "لا" زائدة.
ثانيهما: أنه لا لغوى ولا فقيه يعادل عائشة -رضى الله عنها - ، وقد قررتها غير زائدة ، وقد بينت معناها ، فلا رأى للفراء ولا لغيره. (4)
__________
(1) الحديث فى صحيح البخارى - كتاب التفسير -باب قوله ((إن الصفا والمروة ……)) وله فيه تتمة.
(2) سورة الأعراف : 12.
(3) المحرر الوجيز لابن عطية - 1/230 ، و أنظر: المحتسب لابن جنى - 1/253.
(4) أحكام القرآن - 1/71.(1/61)
ومراده تفسير عائشة -رضى الله عنها - للآية حين أشكل معناها على ابن أختها عروة بن الزبير ، وقد تقدم عما قريب.
ومن العلماء الذين اعتمدوا على هذه القاعدة أيضاً فى الموازنة بين القراءات الواردة فى هذه الآية التى نحن بصددها الشيخ الأمين الشنقيطى فى كتابه "أضواء البيان" حيث قال:
فإن قيل: جاء فى بعض قراءات الصحابة ((فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)) كما ذكر ذلك الطبرى وابن المنذر وغيرهما عن أبى بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس -رضى الله عنهم - فالجواب من وجهين:
الأول: أن هذه القراءة لم تثبت قرآناً ، لإجماع الصحابة على عدم كتبها فى المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابى على أنه قرآن ، ولم يثبت قرآناً ، ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شئ ، وهو مذهب مالك والشافعى ، ووجه ذلك أن الصحابى لما ذكره على أنه قرآن ، وقد ثبت بطلان ذلك ، فإنه يترتب عليه ألا يحتج به على شئ.
وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآناً لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، التى ليست بقرآن.
فعلى القول الأول: فلا إشكال ، وعلى الثانى فيجاب بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما ، فهو باطل ، والنفى والإثبات لا يمكن الجمع بينهما ، لأنهما نقيضان.
الوجه الثانى: هو ما ذكره ابن حجر فى الفتح عن الطبرى والصحاوى من أن قراءة ألا يطوف بهما ، محمولة على القراءة المشهورة ولا زائدة ا.هـ
قال الشنقيطى: ولا يخلو من تكلف كما ترى. (1)
المثال الثانى:
قال تعالى: ((ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بينى وبينكم ومَنْ عِندَه عِلمُ الكتاب)) (2)
قال الشوكانى:
__________
(1) أضواء البيان - 5/168.
(2) سورة الرعد: 43.(1/62)
أى علم جنس الكتاب ، كالتوراة والإنجيل ، فإن أهلهما العالمين بهما ، يعلمون صحة رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره.
وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم فأرشدهم الله سبحانه فى هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك. وقيل: المراد بالكتاب القرآن ، ومن عنده علم منه هم المسلمون وقيل: المراد من عنده علم اللوح المحفوظ ، وهو الله سبحانه وتعالى ……. (1)
هذا التفسير مبنى على القراءة المتواترة المذكورة ، لكن قرأ ابن السميقع - شاذاً - ((ومِنْ عِندِه عُلِم الكتابُ)) بجعل "من" حرف جر ، وما بعدها مجروراً به ، وجعل "علم" فعلاً مبنياً للمجهول و "الكتاب" نائب فاعل.
ولهذا قال ابن مجاهد فى تفسير الآية (2) بناء على هذه القراءة قال: الهاء فى "عنده" تعود إلى الله ، وقيل هى للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل: هى لعبد الله بن سلام ، وقال ابن خالويه: وقيل: -الهاء- لعلى - رضى الله عنه. (3)
وقد ذكر الطبرى فى تفسيره هاتين القراءتين ، وذكر التفسير المنبنى عليهما ، ثم قال معقباً ومقرراً مضمون هذه القاعدة: فإذا كان قرأة الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق ، على القراءة الأخرى ، وهى ((ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب)) ، كان التأويل الذى على المعنى الذى عليه قرأة الأمصار ، أولى بالصواب مما خالفه ، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحق بالصواب. (4)
الصورة الثانية:
الخلاف بين قراءتين متواترتين
تصوير الخلاف بين أقوال المفسرين فى هذه الصورة :
__________
(1) فتح القدير - 3/112.
(2) يجوز إطلاق لفظ الآية على جزء من الآية.
(3) مختصر فى شواذ القرآن - ص67 ، و أنظر فى توجيهها المحتسب - 2/31.
(4) جامع البيان للطبرى- 16/507 ، و أنظر: قواعد الترجيح عند المفسرين - 1/105.(1/63)
قد ترد أحياناً كلمة فى آية بقراءتين مختلفتين ، متساويتين فى التواتر ، فيقف بعض المفسرين مع قراءة منهما ، والبعض الآخر مع القراءة الأخرى ، فيفسر كل منهما الآية بناءً على ما احتج به من قراءتيها ، ويحدث أحياناً أن يحاول أحد المختلفين ، أو كلاهما تضعيف القراءة التى احتج بها الآخر فيقع فى المحظور وهو إنكار قراءة متواترة مقطوع بقرآنيتها ، أو على الأقل الغض من قدرها.
القاعدة الحاسمة للخلاف فى هذه الصورة:
نص القاعدة:
" القراءاتان المتواترتان بمنزلة آيتين ، تكمل إحداهما الأخرى ولا تعارضهما ، ويمتنع الترجيح بينهما ، فإن أمكن الحمل عليهما لزم ذلك ، وإلا فهما بمنزلة آيتين تحلان معنيين"
توضيح القاعدة:
مضى بنا القول بأن المتواتر ، أعلى طرق الإثبات ، إذ هو يفيد اليقين والقطع ، وفيما يتعلق بالقراءات القرآنية من جهة التواتر ، قال العلماء: إن القراءات السبع المتواترة ، بل قالوا كذلك: إن التحقيق أن القراءات العشر متواترة. (1)
ومن ثم فإنه لا يجوز الترجيح بينها ، لكون كل منها قرآناً مقطوعاً بقرآنيته ، ومن يفعل ذلك ، فإنه يكون قد أنكر قرآناً أو وهّن من قدره ، وفى كلا الأمرين من الإثم ما لا يخفى. لذا يجب أن يكون المفسر ، والحالة هذه ، على حيطة وحذر ، بل عليه أن يحاول أن يجمع بين القراءتين اللتين ظاهرهما التعارض فى معنى مؤلف منهما ؛ لأنه يستبعد أن تتعارض قراءتان متوترتان تعارضاً مطلقاً لا يمكن معه الالتقاء بينهما ، فإن لم يمكن ذلك التوفيق ، فالقراءتان حينئذٍ بمنزلة آيتين ، لكل واحدة منها معنى مستقل.
__________
(1) مناهل العرفان - 1/441.(1/64)
وعلى ذلك "فتوارد المعانى فى الآية الواحدة بسبب تعدد وجوه القراءة فيها هو نظير التضمين (1) فى استعمال العرب أو نظير التورية (2) والتوجيه (3) فى علم البديع ونظير مستتبعات التراكيب(4) فى علم المعانى (5)
أقوال العلماء فى اعتماد القاعدة:
__________
(1) التضمين: هو إعطاء الشئ معنى الشئ ، وهو يكون فى الأسماء والأفعال ، وأما الحروف ففيه خلاف بين العلماء ، ومثاله فى الأسماء قوله تعالى: ((حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق)) [ الأعراف: 105] حيث ضمن لفظ "حقيق" معنى حريص. ومثاله فى الأفعال قوله تعالى: ((عيناً يشرب بها عباد الله)) [ الإنسان: 6 ] حيث ضمن الفعل يشرب معنى يروى بدليل تعديته بالباء دون "من".
(2) التورية: أن يذكر لفظ له معنيان - إما بالاشتراك أو التواطؤ أو الحقيقة أو المجاز - أحدهما قريب والآخر بعيد ، ويقصد البعيد ويورى عنه بالقريب فيتوهمه السامع من أول وهلة.
(3) التوجيه: هو ما احتمل معنيين ويؤتى به عند فطنة المخاطب ومثاله قوله تعالى حكاية عن أخت موسى عليه السلام ((هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)) [ القصص: 12 ] فإن الضمير "له" يصلح أن يكون لموسى عليه السلام كما يصلح أن يكون لفرعون.
(4) هى المعانى المستفادة من التراكيب ، بمعنى أن يخرج الأسلوب عن غرضه الأساسى إلى غرض آخر يعرف من السياق ، تدل عليه القرائن ، وذلك كالمعانى التى يخرج إليها مثلاً أسلوب الاستفهام بعيداً عن معناه الأصلى كأن يدل على الإنكار أو الاستبطاء أو التعجب أو التهكم أو التحقير ……….. الخ ، وكأسلوب الأمر كذلك حين يخرج عن معناه إلى معنى التعجيز أو الإباحية أو الندب أو الدعاء أو التسخير والإذلال أو الإهانة …….. الخ
(5) أنظر: التحرير واتنوير - 1/48 ، أصول التفسير - ص165.(1/65)
1- قال السيوطى: ومنها - أى من فوائد اختلاف القراءات- المبالغة فى إعجازه بإيجازه ، إذ تنوع القراءات بمنزلة الآيات ، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حده لم يخف ما كان فيه من التطويل. (1)
2- وقال ابن الجزرى - وهو يتكلم عن فوائد اختلاف القراءات : وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها ……… فمنها ما فى ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز ، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز ؛ لأن كل قراءة بمنزلة الآية ، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات. (2)
3- وقال الزرقانى : الخلاصة أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات ، وذلك ضرب من ضروب البلاغة يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهى إلى كمال الإعجاز. (3)
4- وقال الشنقيطى: اعلم أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما فى آية واحدة كان لهما حكم الآيتين ، كما هو معروف عند العلماء. (4)
5- ومن المحدثين الدكتور محمد بكر إسماعيل الذى قال: تنوع القراءات بمثابة تعدد الآيات. (5)
وفى منع الترجيح بين القراءتين إليك طائفة من أقوال العلماء فى تقريره:
1- قال النحاس:
السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان أن لا يقال: إحداهما أجود ؛ لأنهما جميعاً عن النبى -صلى الله عليه وسلم - ، فيأثم من قال ذلك ، وكان رؤساء الصحابة ينكرون مثل هذا. (6)
2- وقال أبو شامة:
أكثر المصنفون من الترجيح بين قراءة "مالك" و "ملك" حتى إن بعضهم بالغ إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين. (7)
3- جاء فى حاشية زاده على البيضاوى قول ثعلب:
__________
(1) الإتقان - 1/84 ، معترك الأقران - 1/127.
(2) نقله فى محاسن التأويل - 1/113.
(3) مناهل العرفان - 1/149.
(4) أضواء البيان - 2/7.
(5) دراسات فى علوم القرآن - ص102.
(6) الإتقان - 1/85.
(7) المصدر السابق.(1/66)
إذا اختلف الإعراب فى القرآن على السبعة لم أفضل إعراباً على إعراب فى القرآن ، بخلاف ما إذا وقع الاختلاف فى كلام الناس ، فإنى أفضل الأقوى. (1)
4- وقال صاحب التحرير والتحبير:
لا وجه للترجيح بين بعض القراءات السبع وبعض فى مشهور كتب الأئمة من المفسرين والقراء والنحويين. (2)
5- وقال الكواش فيما نقله السيوطى:
قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يسقطها ، وهذا غير مرضٍ ؛ لأن كلاً منهما متواتر. (3)
أمثلة تطبيقية للقاعدة
المثال الأول:
قال تعالى: ((فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)) (4)
ففى قوله يطهرن قراءتان متواترتان. (5)
إحداهما بسكون الطاء المخففة وضم الهاء هكذا (يطْهُرن) والأخرى بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين هكذا (يطَّهَّرن) ، والأولى قراءة نافع وأبى عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم فى رواية حفص.
والأخرى قراءة حمزة والكسائى وعاصم فى رواية أبى بكر ولذلك اختلف العلماء فى تفسيرها وفى الحكم المنبنى على ذلك الخلاف.
وأترك الكلام فى عرض الخلاف وفى تقرير القاعدة للشوكانى الذى قال فى فتح القدير:
__________
(1) حاشية زاده - 1/35.
(2) أنظر: قواعد التفسير - 1/99.
(3) أنظر: معترك الأقران - 1/122 ، وقوله إحدى القراءتين يعنى المتوترتين.
(4) سورة البقرة: 222.
(5) أنظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكى - 1/293.(1/67)
وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء ……… وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضى عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وقد رجح ابن جرير الطبرى قراءة التشديد ، ثم قال الشوكانى: والأولى أن يقال: إن الله سبحانه جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان ، إحداهما انقطاع الدم والأخرى التطهر منه ، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى ، فيجب المصير إليها ، وقد دل على أن الغاية الأخرى هى المعتبرة قوله تعالى بعد ذلك ((فإذا تطهرن)) فإن ذلك يفيد أن المعتبر الاغتسال لا انقطاع الدم.
وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين ، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة ، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. (1) وهذا تقرير لمضمون القاعدة.
المثال الثانى:
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)) (2)
حيث قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم فى رواية حفص (وأرجلِكم) بكسر اللام. وقرأ الباقون بالنصب ، وهم نافع وابن عامر والكسائى وعاصم فى رواية شعبة. (3)
فأما من قرأ بالنصب فلوقوع الفعل وهو (اغسلوا) عليه أى واغسلوا (أرجلكم إلى الكعبين) فهو إذن معطوف على (وجوهكم)
ومن قرأ بالخفض (وأرجلِكم) فالعطف فى قراءته على (رءوسِكم) والرءوس الغرض فيها المسح وليس الغسل. ولذا أخذ العلماء من هذه الآية مشروعية المسح على الخفين الذى قررته السنة.
__________
(1) فتح القدير - 1/286.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) الكشف لمكى 1/406.(1/68)
فصارت القراءتان هنا بمنزلة الآيتين (1) إحداهما أثبتت مشروعية غسل الرجلين وهى قراءة النصب ، والأخرى -وهى قراءة الخفض - أثبتت مشروعية المسح على الخفين.
وقد وجه بعض العلماء قراءة الخفض بأنه للمجاورة كما قالوا جحرُ ضب خربٍ ، وقال بعضهم: إن المسح هنا بمعنى الغسل. (2) هذا وللقاعدة أمثلة كثيرة ، وللإيجاز اكتفيت بما ذكرت (3)
الصورة الثالثة
الخلاف حول الاحتجاج بالقراءة الشاذة
وأثره فى اختلاف المفسرين
الشذوذ فى اللغة: الانفراد والاعتزال عن الجماعة.
والقراءة الشاذة: هى كل قراءة اختل فيها ركن من أركان القراءة الصحيحة وهى:
1- صحة السند.
2- موافقة اللغة العربية ولو بوجه.
3- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً.
فمتى اختل ركن من هذه الأركان ، فهى القراءة الشاذة. وقيل الشاذ ما صح سنده وخالف الرسم والعربية مخالفة تضرّ ……. (4)
والذى عليه المعتمد أنها تشمل الأنواع الآتية:
الآحاد ، والشاذ ، والمدرج ، والموضوع
من الأقسام التى مضى ذكرها عند الحديث عن أقسام القراءات. فلفظ الشاذ يشمل كل قراءة لا يقرأ بها بغض النظر عن وصفها المباشر كالآحاد والموضوع ………..
وسميت بذلك لانفرادها وخروجها عما عليه الجمهور (5)
هل يحتج بالقراء الشاذة؟
تناول ابن اللحام هذه المسألة مبيناً أن أصحاب المذاهب اختلفوا فيها ، فمذهب الحنابلة والأحناف الاحتجاج بها بل ذكر ابن عبدالبر الإجماع على ذلك.
قال ابن اللحام: والصحيح عند الآمدى وابن الحاجب -وحكى رواية عن أحمد - أنه لا يحتج بها ، ونقله الآمدى عن الشافعى - رضى الله عنه.
__________
(1) تفسير بحر العلوم - 1/419.
(2) الكشف لمكى - 1/406.
(3) للتوسع فى أمثلة القاعدة : راجع كتاب أثر القراءات فى الفقه الإسلامى - ص173 وما بعدها حتى 295.
(4) التحبير فى علم التفسير - ص96 ، و أنظر: الإتقان - 1/83.
(5) أنظر: جمال القراء للسخاوى - 1/234.(1/69)
وقيل: إن الشافعى نص على أنها حجة فى بعض المواضع. (1) وممن قال بذلك أيضاً - أى بحجيتها - أبو حامد الغزالى والماوردى ، والقاضى أبو الطيب ، والقاضى الحسن ، وغيرهم. (2)
وهذا الخلاف ليس فى مجال التعبد بها فى الصلاة ونحوها ، فهى من هذه الناحية ليست بجائزة ؛ لأنها لا تعد قرآناً ، وإنما الكلام عن الاحتجاج بها فى الفروع لدى الفقهاء ، علماً بأن النحاة يحتجون بها وهو صنيع ابن جنى فى المحتسب.
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الاختلاف
نص القاعدة:
" القراءة الشاذة - إذا صح سندها - يعمل بها تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد" (3)
توضيح القاعدة:
عرفنا أن القراءة الشاذة هى التى اختل فيها ركن من أركان القراءة الصحيحة الثلاثة التى سبق ذكرها ، غير أن القراءة التى تنزل منزلة الحديث ، أو خبر الآحاد هى تلك التى تثبت صحة نقلها عن طريق الثقات ، لكنها خالفت العربية من كل الوجوه ، أو خالفت جميع المصاحف العثمانية ولو احتمالاً.
فصحة سندها ينزلها منزلة الحديث الصحيح الذى ينبغى العمل بمقتضاه. وهذا مذهب المحققين من العلماء وهو الأولى بالقبول من غيره ، حيث نقلنا فى ذلك خلاف بين العلماء فيما سبق.
مثال تطبيقى
قال تعالى فى كفارة اليمين:-
((لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)) (4) هذه هى القراءة المتواترة.
وقرأ -بطريق صحيح (5) - أبى بن كعب وابن مسعود: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات))
__________
(1) القواعد والفوائد الأصولية - ص131.
(2) المصدر السابق.
(3) قواعد التفسير - 1/92.
(4) سورة المائدة - 89.
(5) تفسير آيات الأحكام للسايس - 2/207.(1/70)
ولذلك وقع خلاف بين العلماء حول اشتراط التتابع وعدمه متأثراً هذا الخلاف بمدى اعتبار هذه القراءة أو عدم اعتبارها. فمن اعتبرها قال بوجوب التتابع وهم الأحناف والحنابلة (1) ، وأما الشافعية والمالكية ، فإنهم لا يشترطون التتابع ؛ لأنهم لا يعتبرون حجية القراءة الشاذة - وإن صح سندها -.
قال ابن العربى: قال مالك والشافعى: يجزئ التفريق ، وهو الصحيح ، -والكلام لابن العربى- إذ التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص ، وقد عدما فى مسألتنا. (2)
والراجح هنا رأى الأحناف والحنابلة فى اشتراط التتابع لكونه ماضياً مع القاعدة التى يقبلها العقل السليم ، إذ لا اقل من أن تنزل القراءة الصحيحة السند ، منزلة الحديث الصحيح - الذى هو خبر آحاد- وإن خالفت العربية أو الرسم العثمانى.
قال ابن كثير: وهذه - أى قراءة ابن مسعود - إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً ، فلا أقل من أن تكون خبر واحد ، أو تفسيراً للصحابة وهو فى حكم المرفوع. (3) ولهذا اعتبرها العلماء مقيدة لمطلق الصوم فى كفارة اليمين. (4)
الصورة الرابعة
الخلاف حول اشتراط التواتر فى قبول القراءة أو عدمه
وكذلك فى محلها وترتيبها
مسألة اشتراط التواتر أو عدمه فى قبول القراءة بحثت بحثاً مستفيضاً فى كتب القراءات وعلوم القرآن. وحاصل ما ذكر فيها أن العلماء اختلفوا فيما بينهم هل يشترط فى قبول القراءة التواتر ، أم يكفى فيها أن تكون صحيحة مشهورة ، فتحصل من ذلك قولان:
__________
(1) المرجع السابق ومعه القواعد لابن اللحام - ص131.
(2) أحكام القرآن لابن العربى - 2/162.
(3) تفسير ابن كثير - 2/91.
(4) فتح القدير - 2/91 ، والتعارض والترجيح - 2/68 ، و أنظر: فى احتجاج العلماء بالقراءة الشاذة وترتيب الأحكام عليها "أثر القراءات فى الفقه الإسلامى - ص359: 405"(1/71)
الأول: وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء ، حيث اشترطوا التواتر فى إثبات كل ما هو قرآن ، وحكموا بأن القراءات السبع متواترة ، بل ذكر صاحب المناهل أن التحقيق أن القراءات العشر متواترة. (1)
الثانى: وهو ما ذهب إليه بعض العلماء حيث قالوا: إن التواتر ليس شرطاً فى إثبات القرآنية ، بل يكفى أن تكون القراءة صحيحة مشهورة ، مضافاً إلى ذلك موافقتها لرسم المصحف ولبعض وجوه العربية كما مضى ، وقد سبق أن ذكرت أن هذين الركنين الأخيرين يقويان من رتبة القراءة صحيحة السند بما يجعلها فى رتبة المتواتر أو تدانيها ، وهذا يجعل هو الخلاف بين الرأيين المذكورين ليست بعيدة.
ثم إنهم اختلفوا كذلك هل التواتر شرط فى إثبات القرآنية فى المحل والترتيب أم لا؟
مسألة حولها خلاف كذلك يظهر أثرها فى البسملة فى بداية كل سورة هل هى آية منها أم لا؟ هذا على وجه العموم ، وعلى وجه الخصوص اختلف كذلك هل هى آية من سورة الفاتحة أم لا؟
خلاف بين القراء حول اعتمادها آية أو عدمه ترتب عليه خلاف بين الفقهاء حول وجوب قراءة البسملة فى الفاتحة فى الصلاة أو عدمه.
علماً بأنهم قد اتفقوا على وجوب كتابتها فى المصاحف فى أول كل سورة ، لكن الخلاف هو فى كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة أم لا.
قال الشوكانى فى تصوير الخلاف فى هذه المسألة:
اختلف أهل العلم هل - البسملة - آية مستقلة فى أول كل سورة كتبت فى أولها ، أو هى بعض آية من أول كل سورة ، أو هى كذلك فى الفاتحة فقط دون غيرها ، أو أنها ليست بآية فى الجميع وإنما كتبت للفصل؟ أقوال . وقد اتفقوا على أنها بعض آية من سورة النمل.
ثم تناول الشوكانى اختلاف القراء حولها قائلاً:
__________
(1) مناهل العرفان - 1/441.(1/72)
وقد جزم كل قراء مكة والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ، وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا: إنما كتبت للفصل والتبرك (1) ومن القراء السبعة الذين عدوها آية من بداية كل سورة ابن كثير. (2)
وقال الكافيجى: اعلم أن القرآن يجب أن يكون متواتراً فى أصله وأجزائه بالاتفاق ، وأما تواتره فى محله ووضعه أى فى إثباته وترتيبه ، فهو مختلف فيه ، لكن المختار عند المحققين من علماء السنة والجماعة أنه يجب أن يكون متواتراً فى هذه الثلاثة أيضاً ، فيتفرع على هذا الاختلاف فى أن البسملة هل هى من القرآن؟
فمن شرط أن يكون متواتراً فى محله حكم بأنها ليست من القرآن لعدم تواترها فى أوائل السور على أنها فيها من القرآن ، وإن تواترت كتابةً فيها وتلاوة على الألسن ، ولهذا حكم بأن البسملة التى فى أثناء سورة النمل من القرآن بالاتفاق.
ومن اكتفى فى البسملة بتواترها فى أوائل السور وإن لم يتواتر فيها على أنها من القرآن ، حكم بأنها فيها من القرآن ، لكن لا يخفى عليك أن مطلق التواتر أعم من تواتر القرآن ، فلابد فى تواترها فيها من التقييد بكونها من القرآن حتى يتم التقريب. (3)
هذا كلام نفيس اشتمل على تصوير الخلاف وسببه.
اختلاف الفقهاء حول اعتبارها آية أو عدم اعتبارها:
كما اختلف القراء حول البسملة -من حيث اعتبارها آية من كل سورة وكذلك من سورة الفاتحة أو عدم اعتبارها - اختلف كذلك الفقهاء وتحصل من ذلك قولان أيضاً:
__________
(1) فتح القدير -1/20.
(2) وهذا الرأى أيضاً رواية قالون عن نافع ، وطريق الأصبهانى عن ورش وطريق صاحب الهادى عن أبى عمرو - أنظر: المهذب -1/25 ، وإتحاف فضلاء البشر - ص26 ، 160 ، ومناهل العرفان - 1/453.
(3) التيسير فى قواعد التفسير - ص37.(1/73)
القول الأول: وهو قول المالكية والحنفية وبعض الحنابلة ، وهم قالوا: إن البسملة ليست آية من كل سورة بما فى ذلك سورة الفاتحة بل هى أنزلت للفصل بين السور.
واستدلوا بأدلة منها:
1- قوله تعالى: ((ولقد آتيناك سبعاً من المثانى والقرآن العظيم)) (1) ، وقد جاء فى السنة ما يفيد أنها سورة الفاتحة حيث أخرج البخارى فى صحيحه أن النبى -صلى الله عليه وسلم - قال: "الحمد لله رب العالمين ، هى السبع المثانى ، وهى القرآن العظيم الذى أوتيته" (2) وهذا نص على أن الفاتحة هى السبع المثانى وأن أولها "الحمد لله رب العالمين" وليس البسملة .
2- حديث أبى هريرة - رضى الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين ، يقول الله تعالى: حمدنى عبدى ، وإذا قال: الرحمن الرحيم يقول الله تعالى: أثنى علىّ عبدى ، وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله تعالى: مجدنى عبدى ، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل" (3) فالحديث لم تذكر فيه البسملة ، فدل على أنها ليست من الفاتحة ، وإلا لذكرت.
3- حديث عائشة: " أن النبى -صلى الله عليه وسلم - كان يستفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين" (4) فلو كانت البسمله آية من الفاتحة لقرأها ، ولو قرأها لنقلت عنه ، فلما لم ينقل عنه ذلك بدليل قطعى دل على أنها ليست بآية منها.
__________
(1) سورة الحجر: 87
(2) البخارى - كتاب التفسير - باب ما جاء فى فاتحة الكتاب.
(3) مسلم - كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة.
(4) أبو داود - كتاب الصلاة - باب من لم ير الجهر بسم الله الرحمن الرحيم - 1/208.(1/74)
4- حديث أنس بن مالك أنه قال: "صليت خلف النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، ولا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " فى أول قراءة ولا فى آخرها. (1)
هذه الأدلة التى استدل بها من اتجهوا إلى أن البسملة ليست آية من الفاتحة ، وإذا ثبت ذلك فهى ليست آية ، كذلك من أى سورة أخرى من سور القرآن الكريم ، سوى سورة النمل فهى جزء آية منها.
القول الثانى: وهو قول الشافعى وبعض أهل العلم ، وفحواه أن البسملة آية من سورة الفاتحة (2) هذا ما لم يتردد الشافعى فى تقريره ، وأما كونها آية من كل سورة ، فقد اختلف النقل عنه فى ذلك ما بين الحكم بالإيجاب أو بالنفى.
وأدلة أصحاب هذا الاتجاه تتمثل فيما يلى:
1- إجماع الصحابة على إثباتها فى المصحف ، مع أنهم أمروا بتجريده مما ليس منه كأسماء السور ، وعدد الآيات ولفظة "آمين" ونحوها ، وإذا كانوا قد جردوا القرآن مما ليس منه ومع هذا أثبتوها فهو دليل على أنها آية من القرآن.
2- حديث أم سلمة "أن النبى - صلى الله عليه وسلم -قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ، فعدها آية والحمد لله رب العالمين آيتين ، والرحمن الرحيم - ثلاث آيات - مالك يوم الدين - أربع آيات - وقال: هكذا: إياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه" (3)
3- حديث أبى هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "إذا قرأتم [ الحمد لله ] فاقرأوا: بسم الله الرحمن الرحيم . فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى و [ بسم الله الرحمن الرحيم ] إحدى آياتها" (4)
__________
(1) مسلم - كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.
(2) أحكام القرآن - 1/5.
(3) المستدرك للحاكم - 1/232 ، وهو حديث ضعيف حيث فى سنده عمر بن جارون - قال عنه الذهبى فى التلخيص: أجمعوا على ضعفه.
(4) رواه الدراقطنى فى سننه مرفوعاً وموقوفاً - 1/312 والوقف أرجح.(1/75)
4- ما روى عن عبدالله بن عباس - رضى الله عنهما - أنه قال: "من ترك البسملة فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن" (1)
5- حديث أنس - عند البخارى - سئل أنس ، كيف كانت قراءة النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: كانت مداً ، ثم قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " يمد ببسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم" (2)
ونتج عن هذا الخلاف المذكور ، خلاف آخر حول قراءة البسملة فى الفاتحة أثناء الصلاة "فمن ذهب إلى أنها آية من الفاتحة كالشافعى أوجب قراءتها . . . . ومن ذهب إلى أنها ليست آية من الفاتحة واعتمد الأحاديث الدالة على عدم قراءتها فى الصلاة منع من قراءتها كالإمام مالك ، ومن رأى أنها ليست من فاتحة الكتاب ، ولكنه صحت عنده الأحاديث التى تدل على قراءتها سراً طلب قراءتها سراً كأبى حنيفة - رحمه الله" (3)
مناقشة أدلة الفريقين:
أما بالنسبة لأدلة الفريق الأول فهى أدلة صحيحة وقوية فى ذاتها لكنها لا تنتج المدعى حيث لم يصرح فيها بنفى كون البسملة آية لا من الفاتحة ولا غيرها من السور.
وما جاء فى بعض أدلتهم من افتتاح النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، فقد يقصد بذلك السورة نفسها وليس الآية المذكورة ، وعليه فإنه يحتمل أن تكون البسملة داخلة فيها ، ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط الاستدلال.
واما بالنسبة لأدلة أصحاب الاتجاه الثانى فالمناقشة معهم أكثر حدة من جهة عدم الوثوق بما استدلوا به من أدلة بعد أن وضعت فى ميزان النقد.
__________
(1) قال أحد الباحثين: لم أجده بهذا اللفظ بعد البحث والتحرى - أنظر: كتاب اختلاف المفسرين - ص89.
(2) البخارى - كتاب فضائل القرآن - باب مد القراءة.
(3) تفسير آيات الأحكام للسايس - 1/8.(1/76)
فحديث أم سلمة - رضى الله عنها - غير صحيح ففى سنده محمد بن هارون البلخى وهو لا يحتج به ، قال فيه ابن مهدى وأحمد والنسائى: متروك الحديث. وقال عنه يحيى بن معين: كذاب خبيث. وقال الدارقطنى: ضعيف لا يحتج به. (1)
وحديث أبى هريرة مضطرب المتن ، بجانب أنه اختلف فى رفعه ووقفه على أبى هريرة - رضى الله عنه . قال ابن حجر: صحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه وأعله ابن القطان بهذا التردد ، وتكلم فيه ابن الجوزى من أجل عبدالحميد بن جعفر فإن فيه مقالاً. (2)
وأما ما روى عن ابن عباس فهو اجتهاد منه ، وغاية ما يدل عليه أن من لم يقرأ البسملة فى كل سورة فقد فاته أجر مائة وثلاث عشرة آية. وهذا صحيح مع كونه لا يدل على أنها آية.
وأما حدبث أنس فكل ما فيه أن النبى -صلى الله عليه وسلم - كان يمد صوته بالبسملة ، ولا يلزم من ذلك أن تكون آية.
ومن ثم فقد بان لنا أن كلا الرأيين لم يخلُ من مناقشة وإن كانت مع القول الأول منها أخف منها مع القول الثانى وسوف نذكر الراجح منها بعد ذكر القاعدة.
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الخلاف
نص القاعدة:
"كل ما هو قرآن يجب أن يكون متواتراً فى اصله وأجزائه ، وأيضاً فى محله ووضعه" (3)
توضيح القاعدة:
ما جاء فى القاعدة من أنه لا يعد قرآناً إلا ما كان متواتراً فى اصله وأجزائه. يعنى يجب أن يكون قد نقل عن طريق جمع عن جمع يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب. والمراد بالأصل والأجزاء ، بنية الآية المكونة من ألفاظها وتراكيبها. وهذا الجزء متفق عليه بين العلماء جميعاً.
قول القاعدة "وأيضاً فى محله ووضعه" أى فى إثباته وترتيبه فى الموضع الذى هو فيه ، وهذا ما عليه المحققون من العلماء.
__________
(1) أنظر: التعليق المغنى على الدار قطنى - 1/307.
(2) تلخيص الحبير - 1/233.
(3) أنظر: التيسير فى قواعد التفسير - ص73 ، والإتقان - 1/79.(1/77)
وبناءً على هذه القاعدة لا تكون البسملة آية لا من الفاتحة ولا من بداية كل سورة بل هى جزء آية من سورة النمل (1) إذ لم يتواتر كونها آية فى كل سورة ، وإن تواترت كتابتها فى بداية كل سورة ، وكذلك قراءتها.
وفرق بين أن تتواتر كتابتها وقراءتها ، وبين أن يتواتر كونها قرآناً. والله أعلم.
وفى هذا التوضيح يطيب لى أن أنقل كلام السيوطى فى الإتقان بتمامه فهو نفيس جداً ومقرر للقاعدة ثم أردفه بكلام طيب كذلك للإمام مكى بن أبى طالب.
قال السيوطى: لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً فى أصله وأجزائه ، وأما فى محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققى أهل السنة للقطع بأن العادة تقضى بالتواتر فى تفاصيل مثله ؛ لأن هذا المعجز العظيم الذى هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوفر الدواعى على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحاداً ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن قطعاً.
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط فى ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله وليس بشرط فى محله ووضعه وترتيبه ، بل يكثر فيها نقل الآحاد.
قيل: وهو الذى يقتضيه صنع الشافعى فى إثبات البسملة من كل سورة.
وردّ هذا المذهب … بأنه لو لم يشترط - التواتر فى المحل والترتيب - لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر - وثبوت كثير مما ليس بقرآن.
أما الأول:فلأنا لو لم نشترط التواتر فى المحل ، لجاز أن لا يتواتر كثير من القرآن المكرر مثل قوله تعالى: ((فبأى آلاء ربكما تكذبان)) من سورة الرحمن.
ومثل قوله تعالى: ((ويل يومئذٍ للمكذبين)) من سورة المرسلات.
وأما الثانى: فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل ، فجاز إثبات ذلك البعض فى الموضع بنقل الآحاد ، وهذا مالا يجوز وقد رفضه أهل الحق. (2)
__________
(1) قال مكى فى الكشف - 1/22 : ولست ممن يعتقد أنها - أى البسملة - آية فى شئ من القرآن وإنما هى بعض آية فى النمل.
(2) الإتقان - 1/79 ، 80 بتصرف يسير.(1/78)
وقال مكى: من قال: إن البسملة آية فى أول كل سورة فقد زاد فى القرآن ، وهذا ما لم يقل به أحد من الصحابة ولا من التابعين ، والإجماع قد وقع على ترك عدها آية من كل سورة ، وما حدث بعد هذا الإجماع هو قول منفرد غير مقبول.
هذا الإجماع واقع على ما سوى سورة الفاتحة ، وأما بالنسبة للبسملة فى الفاتحة فقد وقع الخلاف والمختار من قول الشافعى أنها أية منها , والاختلاف فى ذلك غير منكر ، لكنا نقول: إن الزيادة فى القرآن لا تثبت بالاختلاف ، وإنما تثبت بالإجماع ولا إجماع فى كون البسملة آية لا من الفاتحة ولا من غيرها. ولا تواتر كذلك (1) أى: لا تواتر فى عدها آية.
شبهة على القاعدة وردها:
أورد بعضهم على مضمون هذه القاعدة والرأى الآخر المعارض لها أوردوا شبهة قالوا فيها:
إن قرآنية البسملة أو عدمها شأنها أن توقع فريقاً من المسلمين فى الكفر ، فعلى رأى من يقول بقرآنيتها يُحكم بكفر منكرها ، وعلى رأى من يقول بعدم قرآنيتها يُحكم بكفر مثبتها ؛ لأن منكر الثابت من القرآن كافر ، كما أن من ينسب إلى القرآن ما ليس منه فإنه يكفر أيضاً ، فيترتب على ذلك أن يكفر بعض المسلمين بعضا.
والجواب عن هذه الشبهة:
نستهل هذا الجواب بحمد الله حيث لم يحدث أن طائفة من القراء أو العلماء أو المسلمين عامة كفرت طائفة أخرى بسبب رأى فى البسملة التى فى أوائل السور ، وذلك لأن الأمر سهل هين ؛ لأن الخلاف حول ذلك هو خلاف فى إطار الاجتهاد ؛ لأن العلماء لم يختلفوا حول كون البسملة فى بداية السور لم تتواتر قرآنيتها ، وإن اتفقوا على تواتر كتابتها وقراءتها ، وفرق بين تواترها من هذا الجانب وتواتر كونها فرآناً.
والحاصل أن الآراء الاجتهادية لا يكفر مخالفها باجتهاد آخر ، وإنما الكفر يكون بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، كمن ينكر كون البسملة جزء من آية سورة النمل والله أعلم.
__________
(1) الكشف - 1/22 ، 23 بتلخيص وتصرف ، وأنظر 1/25.(1/79)
أعود فأقول: لم هذا النزاع فى البسملة بالذات ، وهناك ألفاظ أخرى اختلفت بين القراءات بالزيادة والنقصان؟ وذلك كقوله تعالى: ((فإن الله هو الغنى الحميد)) (1) فلفظة "هو" من القرآن فى قراءة ابن كثير وأبى عمرو وعاصم وحمزة والكسائى ، وليست من القرآن فى قراءة نافع وابن عامر (2) وعليه فعلى فرض كون البسملة فى فواتح السور آية عند بعض القراء السبعة كابن كثير فإن كونها ليست آية عند البقية الباقية لا يضر فنظير هذا موجود بينهم.
المبحث الخامس
أثر اختلاف القراء فى مواضع
الوقف والابتداء على اختلاف التفسير
الواقع أن باب الوقف والابتداء باب هام جداً يجب على قارئ القرآن الكريم أن يهتم به ، إذ هو دليل على فقهه وبصيرته ؛ لأن القارئ قد يقف أحياناً على ما يخل بالمعنى ، وهو لا يدرى. أو يبتدئ بما لا ينبغى الابتداء به.
فإن كان ذا بصيرة ، فإنه لن يقف إلا على ما يتم به المعنى ، اللهم إلا إذا اضطر إلى غير ذلك ، فإن عليه حينئذٍ أن يعالج أمره بأن يرجع كلمة أو أكثر أى إلى موضع يجوز الابتداء به ، فيستأنف قراءته بادئاً به ، ومنتهياً بجملة تفيد معنى يجوز الوقوف عليه.
ومثل ذلك قل أيضاً فى الابتداء.
والهدف من وراء ذلك كله هو عدم الإخلال بنظم القرآن ، ولا بما اشتمل عليه من معان. وعلاقة هذا المبحث بالموضوع الذى نتكلم عنه واضحة ، وهى أن مواضع الوقف والابتداء مرتبطة بالقراء أصحاب القراءات ؛ لأنهم هم الذين قاموا بتحديد هذه المواضع ، ومعهم غيرهم من أهل الفقه والبصيرة بالقرآن. ويضاف إلى ذلك أن مواضع الوقف والابتداء قد تتأثر باختلاف القراءات ، فما يكون من الوقف تاماً على قراءة ، قد لا يكون كذلك على قراءة أخرى ، وسيأتى التطبيق على ذلك فيما هو آت إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة الحديد : 24.
(2) ومعهما كذلك أبو جعفر من الثلاثة تتمة العشرة- أنظر: إتحاف فضلاء البشر - ص534.(1/80)
وبذلك وضح وجه ارتباط هذا المبحث بالإطار العام الذى قصدنا الحديث عنه فى هذا المبحث.
تعريف الوقف والابتداء:
الوقف: هو قطع النطق عن آخر الكلمة.
والابتداء: هو الشروع فى الكلام بعد قطع أو وقف. (1)
علاقة الوقف والابتداء بالمعنى أو التفسير:
قال الصفاقسى مبيناً أهمية معرفة الوقف والابتداء:
ومعرفة الوقف والابتداء متأكد غاية التأكيد ، إذ لا يتبين معنى كلام الله ، ويتم على أكمل وجه إلا بذلك ، فربما قارئ يقرأ ويقف قبل تمام المعنى ، فلا يفهم هو ما يقرأ ومن يسمعه كذلك ، ويفوت بسبب ذلك ما لأجله يقرأ كتاب الله تعالى ، ولا يظهر مع ذلك وجه الإعجاز ، بل ربما يُفهم من ذلك غير المعنى المراد ، وهذا فساد عظيم ، ولهذا اعتنى بعلمه وتعليمه ، والعمل به المتقدمون والمتأخرون ، وألفوا فيه من الدواوين (2) المطولة والمتوسطة والمختصرة ، ما لا يعد كثرة ، ومن لا يلتفت لهذا ، ويقف أين شاء ، فقد خرق الإجماع ، وحاد عن إتقان القراءة وتمام التجويد. (3)
وهذا الكلام من عالم صرف حياته لخدمة القرآن كالصفاقسى ، له وجاهته ، وهو يؤكد ما قلته آنفاً عن ارتباط الوقف والابتداء بالتفسير.
وقال السخاوى فى تأكيد ذلك أيضاً:
فى معرفة الوقف والابتداء الذى دونه العلماء تبيين معانى القرآن العظيم ، وتعريف مقاصده ، وإظهار فوائده ، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده 00 وقد اختار العلماء ، وأئمة القراء تبيين معانى كلام الله تعالى وجعلوا الوقف منبهاً على المعنى ومفصلاً بعضه عن بعض ، وبذلك تلذ التلاوة ، ويحصل الفهم والدراية ، ويتضح منهاج الهداية. (4)
من الآثار الدالة على وجوب معرفة الوقف والابتداء:
__________
(1) تنبيه الغافلين للصفاقسى - ص 128.
(2) أفرده بالتصنيف جماعة من العلماء منهم أبو جعفر النحاس وابن الأنبارى والزجاجى والدانى والعمانى والسجاوندى وغيرهم.
(3) تنبيه الغافلين - ص128.
(4) جمال القراء - 2/553 والتى بعدها.(1/81)
1- حديث الخطيب الذى خطب بين يدى النبى - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما. ثم وقف على "يعصهما" ثم قال فقد غوى. هنا قال له النبى -صلى الله عليه وسلم -: "بئس الخطيب أنت" (1)
وقد قال له النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك لقبح لفظه فى وقفه ، إذ خلط الإيمان بالكفر فى إيجاب الرشد لهما ، وكان حقه أن يقول واصلاً: ومن يعصهما فقد غوى . أو يقف على "فقد رشد" ثم يستأنف بعد ذلك " ومن يعصهما ..الخ" فهذا دليل واضح على وجوب مراعاة محل الوقف.
2- روى عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أنه قال: لقد غشينا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على النبى - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغى أن يوقف عنده منها.
3- وقال على - رضى الله عنه - لما سئل عن قوله تعالى: ((ورتل القرآن ترتيلاً )) (2) قال: الترتيل معرفة الوقوف وتجويد الحروف. (3)
قال ابن الجزرى فى النشر: فى كلام على - رضى الله عنه - دليل على وجوب تعلم الوقف والابتداء ومعرفته.
وفى كلام ابن عمر برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة - رضى الله عنه - أجمعين وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبى جعفر يزيد
ابن القعقاع - أحد القراء العشرة - وإمام أهل المدينة الذى هو من أعيان التابعين ، وصاحبه الإمام نافع بن أبى نعيم وأبى عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمى ، وعاصم
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الجمعة - باب تخفيف الصلاة والخطبة - أنظر: الكشف - 1/18.
(2) سورة المزمل : 4.
(3) تنبيه الغافلين - ص 128.(1/82)
ابن أبى النجود - وهم من القراء العشرة - وغيرهم من الأئمة ، وكلامهم فى ذلك معروف ، ونصوصهم عليه مشهورة فى الكتب ومن ثم اشترطه كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء ، وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف ، ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين -رحمة الله عليهم أجمعين. ا.هـ (1)
4- وروى أن عمر بن عبدالعزيز – رضى الله عنه – كان إذا دخل شهر رمضان قام أول ليلة منه خلف الإمام يريد أن يشهد افتتاح القرآن ، فإذا ختم أتاه أيضاً ليشهد ختمه فقرأ الإمام قوله تعالى: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)) (2) ثم توقف عن القراءة وركع فعابه عمر وقال: قطعت قبل تمام القصة إذ كان ينبغى عليه أن يكمل الآية التى بعدها إذ فيها رد القرآن على دعواهم هذه وهو قوله سبحانه: ((ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) (3)
5- وأختم هذه الأدلة بحديث نبوى كما استهللتها به وهو حديث أبى بن كعب ، قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الملك كان معى فقال: اقرأ القرآن ، فعد حتى بلغ سبعة أحرف فقال: ليس منها إلا شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة ، أو تختم رحمة بعذاب" (4)
قال أبو عمرو الدانى : هذا تعليم التمام من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عليه السلام ، إذ ظاهره دالّ على أنه ينبغى أن تقطع الآية التى فيها ذكر النار والعقاب وتفصل مما بعدها إذا كان بعدها ذكر الجنة والثواب ، والأمر كذلك أيضاً إذا كانت الآية فيها ذكر الجنة والنار بأن يفصل الموضع الأول عن الثانى.
__________
(1) تنبيه الغافلين - ص129
(2) سورة البقرة: 11
(3) سورة البقرة: 12.
(4) سنن أبى داود - كتاب الصلاة - 2/160.(1/83)
قال السخاوى معقباً: لأن القارئ إذا وصل غير المعنى ، فإذا قال: ((تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين)) (1) غيرّ المعنى وصير الجنة عقبى الكافرين. (2)
مقدار الوقف:
روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن مقدار الوقف هو مقدار ما يشرب الشربة من الماء. وقيل: بل مقدار ما يقول: أعوذ بالله من النار ثلاث مرات أو سبع مرات.
مذاهب القراء فيما يعتبر فى تحديد مواضع الوقف والابتداء:
ذكر السيوطى فى الإتقان (3) مذاهب أئمة القراء فى ذلك فقال:
لأئمة القراء مذاهب فى الوقف والابتداء ، فنافع كان يراعى تجانسهما بحسب المعنى ، وابن كثير وحمزة حيث ينقطع النفس - وهو الوقف الاضطرارى - واستثنى
__________
(1) سورة الرعد : 35.
(2) جمال القراء - 2/550.
(3) الإتقان - 1/89.(1/84)
ابن كثير قوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله)) (1) ، وقوله تعالى: ((وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم)) (2)،(3) ، وقوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر)) (4) وعاصم والكسائى - يقفان - حيث تم الكلام ، وأبو عمرو يتعمد رءوس الآيات ، وإن تعلقت بما بعدها ، اتباعاً لهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته - حيث - روى أبو داود وغيره عن أم سلمة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم يقف ، الحمد لله رب العالمين ، ثم يقف ، الرحمن الرحيم ، ثم يقف" (5)
أقسام الوقف
قسم العلماء الوقف إلى أقسام عدة مختلفين فى اتجاهاتهم نحو هذا التقسيم ، والذى يترجح لدى واستقر الرأى عندى على اختياره من بين ما ذكره العلماء من أقسام أن الوقف ينقسم إلى قسمين:
الأول : وقف اضطرارى:
وهو ما اضطر إليه بسبب ضيق تنفس ، ونحوه ، كعجز ونسيان ، فعلى القارئ وصله بعد أن يزول سببه ، وذلك بأن يبدأ من الكلمة التى وقف عليها إن صلحت للابتداء بها ، وإلا ابتدأ بعد وقف صالح مما قبلها.
الثانى: وقف اختيارى:
__________
(1) سورة آل عمران:7.
(2) سورة الأنعام: 109.
(3) يقف ابن كثير على (وما يشعركم) حيث تم الكلام عنده ، لأنه يقرأ بعد ذلك ((إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بكسر همزة إن على أنه استئناف قصد به الإخبار بعدم إيمان من طبع على قلبه ولو جاءتهم كل آية. وأما جمهور القراء فقد قرأوا بفتح همزة "أن" ولذا فهم لا يقفون على "وما يشعركم" .
(4) سورة النحل : 103.
(5) أبو داود - كتاب الصلاة - 2/154 ، الترمذى - كتاب ثواب القرآن - 11/43.(1/85)
وهو ما قصد لذاته من غير عروض سبب من الأسباب فهو مما يختاره القارئ ويقصده للاستراحة والتنفس ، وهذا القسم الثانى هو المقصود بالحديث عن الوقف ، لأنه هو الذى يعتمد عليه فقه القارئ وبصيرته حيث تظهر فيه شخصيته فى اختيار ما يقف عليه وما يبتدئ به.
ثم إن هذا القسم ينقسم إلى أقسام هى:
1- الوقف التام ويسمى " المختار"
وهو الوقف على كلام لا تعلق له بما بعده لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ، أو الذى انفصل عما بعده لفظاً ومعنى. (1) والتام نفسه يتفاوت فى درجة تمامه ما بين تام وأتم ، والأتم أدخل فى كمال المعنى من التام ؛ لأن التام قد يكون له تعلق بما بعده على احتمال مرجوح ، أو يكون بعده كلام فيه تنبيه وحث على النظر فى عواقب من هلك بسوء فعله فيكون الوقف عليه أتم من الوقف على آخر القصة.
ومثال ذلك قوله تعالى: ((وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. وبالليل أفلا تعقلون))(2) حيث الوقف على "وبالليل" تام وعلى " أفلا تعقلون" أتم.
ومن أمثلة الوقف التام أيضاً قوله تعالى عن لسان بلقيس: ((إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)) (3) حيث أن الوقف على "أذلة " تام عند الجمهور ، وسيأتى تفصيل الكلام عن هذا المثال فيما هو آت إن شاء الله أثناء الحديث عن النماذج التطبيقية.
وقد يكون الوقف تاماً على قراءة دون قراءة ، ومن ذلك قوله تعالى:
((الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض)) (4) حيث أن الوقف على ((صراط العزيز الحميد)) تام على قراءة من رفع لفظ الجلالة "الله". وأما على قراءة من خفض لفظ الجلالة "الله" فليس بتام بل هو وقف حسن.
__________
(1) جمال القراء - 2/563.
(2) سورة الصافات: 137، 138.
(3) سورة النمل: 34.
(4) سورة إبراهيم : 1 ، 2.(1/86)
وبالجملة فإن الوقف التام يتحقق تحققاً ثابتاً فى بعض المواضع منها - كما ذكر السيوطى-: آخر كل قصة ، وما قبل أولها ، وآخر كل سورة ، وقبل يا النداء ، وقبل فعل الأمر والقسم ولامه دون القول ، والشرط ما لم يتقدم جوابه ………. (1)
2- الوقف الكافى ويسمى "الصالح ، والمفهوم" ، والجائز" (2) وهو الوقف على كلام لا تعلق له بما بعده من جهة اللفظ لكن له تعلق به من جهة المعنى.
ومعنى ما جاء فى التعريف من كون هذا الكلام الذى يوقف عليه وقفاً كافياً لا تعلق له بما بعده من جهة اللفظ يعنى أنه لم يفصل فيه بين المبتدأ وخبره ، ولا بين النعت ومنعوته ، ولا بين المستثنى والمستثنى منه ، ولا بين التمييز ومميزه ، ولا بين الفاعل وفعله ……. ونحو ذلك.
وأما كونه له تعلق به من جهة المعنى فكأن يكون الكلام الذى جاء بعد محل الوقف الكافى تماماً لقصة أو وعد أو وعيد أو حكم أو احتجاج أو إنكار.
وحكم هذا الوقف:
أنه كالوقف التام من حيث جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده. وإن كان أقل تمكناً من هذا الجواز من التام. وقد ذكر الصفاقسى له مثالاً ودليلاً على جوازه فى ذات الوقت وهو ما جاء فى صحيح البخارى بالسند المتصل عن عبدالله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: قال لى النبى - صلى الله عليه وسلم - " اقرأ علىّ القرآن . قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: فإنى أحب أن أسمعه من غيرى. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ((فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)) قال أمسك ، فإذا عيناه تَذْرِفان" (3) قال الصفاقسى بعد ذكر هذا الحديث:
__________
(1) الإتقان - 1/86.
(2) جمال القراء - 2/563.
(3) البخارى - كتاب التفسير "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد".(1/87)
وهو استدلال ظاهر جلى باهر لأن القطع أبلغ من الوقف وقد أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود عند انتهائه إلى "شهيداً" والوقف عليه كاف وقيل: تام والأول هو المشهور ومذهب الجمهور ، وعليه اقتصر ابن الأنبارى والدانى والعمانى والقسطلانى وغيرهم.
وهذا هو الظاهر لأن ما بعده مرتبط به من جهة المعنى لأن الآية مسوقة لبيان حال الكفار يوم المجئ حتى إنهم من شدة الهول وفظاعة الأمر يودون أنهم كانوا تراباً وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً ، ولا يتم هذا المعنى إلا بما بعده وهو قوله تعالى: ((يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً)) فلو كان الوقف عليه - أى على "شهيداً" - غير سايغ ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - مع قرب التام المجمع عليه منه وهو تذييل الآية المذكورة آخراً وهو قوله سبحانه ((ولا يكتمون الله حديثاً)) (1)، (2)
وفى الإتقان: يدخل تحت هذا الوقف كل رأس آية بعدها لام كى وإلا بمعنى لكن - يعنى الاستثناء المنقطع - وإن المشددة المكسورة ، والاستفهام ، وبل ، ولا المخففة ، والسين وسوف ، ونعم وبئس وكيلا مالم يتقدمهن قول وقسم. (3)
3- الوقف الحسن:عرفه السيوطى بأنه "الذى يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده" (4) لتعلقه به لفظاً ومعنى (5) وذلك كأن تقف على كلام مفيد فى ذاته بحيث إذا لم تذكر ما بعده لأخذ منه معنى يحسن السكوت أو الوقف عليه. وذلك كأن يأخذ الفعل فاعله ، والمبتدأ خبره ، والشرط جوابه. كل ذلك الوقف عليه حسن ، وقد يرتقى فى الحسن إلى درجة الأحسنية بأن يضاف إلى ما ذكر وصف ونحوه.
__________
(1) سورة النساء: 42.
(2) تنبيه الغافلين - ص134 ، 135 - بتصرف يسير.
(3) الإتقان - 1/86.
(4) المرجع السابق.
(5) جمال القراء - 2/564.(1/88)
ومثاله الوقف على ((الحمد لله ……..))(1) فإنه أفاد معنى بذاته ، لذلك فإن الوقف عليه حسن لكن لا يحسن الابتداء بما بعده لأنه صفة له ، فلا يحسن أن يبتدئ بـ((رب العالمين)) لأنه مجرور حيث هو نعت لما قبله ، فيترتب عليه الفصل بين النعت ومنعوته ، ويترتب عليه أيضاً البدء بمجرور والأصل أن يبتدأ بمرفوع. إذ المبتدأ مرفوع أما المجرور فلابد من ذكر عامله معه. والحاصل أنه إن حسن الوقف على (الحمد لله) فإن الابتداء بـ( رب العالمين) لا يحسن لكونه صفة لما قبله ، ويستثنى من هذه القاعدة كما يقول الصفاقسى ما لو كان "الموقوف عليه رأس آية ، فلا يعيد ما وقف عليه لأنهن فى أنفسهن مقاطع ؛ ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ قطّع ، ويقف عليها ولم يفرق بين ما هو متعلق بما قبله وغيره ، بل جعل جماعة الوقف على رءوس الآى سنة ، واستدلوا على ذلك بالحديث الذى رواه الترمذى بسند صحيح "أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول: الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول : مالك يوم الدين ……." (2)
ثم يقول الصفاقسى أيضاً:
وإنما ذكروا هذا الحسن ليتسع الأمر على القارئ فربما ضاقت نفسه قبل الوصول إلى التام والكافى لا سيما ما كان من ضيق الحنجرة ، فللإنسان طاقة محدودة من الكلام الذى يجمعه فى نفس واحد. (3)
__________
(1) سورة الفاتحة: 1
(2) سبق تخريجه.
(3) تنبيه الغافلين - 136.(1/89)
وبعد فهذه هى الأقسام الثلاثة التى يجوز فيها الوقف مع التفاوت بينها فى التمكن من هذا الجواز. فيندب فى حق القارئ الوقوف على الأتم وإلا فالتام ، فإن لم يستطع فعلى الأكفى وإلا فعلى الكافى ، فإن لم يستطع فعلى الجائز - الحسن - "ويعيد ما وقف عليه إلا أن يكون رأس آية ، ولا يعدل عن هذه إلى المواضع التى يكره الوقوف عليها إلا من ضرورة كانقطاع نفس ويرجع إلى ما قبله ليصله بما بعده فإن لم يفعل عوتب ولا إثم عليه" (1)
4- الوقف القبيح:
هذا هو القسم الرابع من أقسام الوقف الاختيارى وقد عرفه السيوطى بأنه "الذى لا يفهم المراد منه" (2) وذلك كأن يقرأ سورة الفاتحة فيقول "الحمد" ويقف فإنه لم يفد معنى ، أو أن يفصل بين المضاف والمضاف إليه كأن يقف على (رب) دون (العالمين) أو على (مالك) دون (يوم الدين) فذلك قبيح أيضاً ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشئ الواحد.
وبالجملة فإن كل ما لا يفيد معنى ولا يفهم المراد منه فإن الوقف عليه قبيح. وأقبح منه الوقف الذى يفسد المعنى ، ويثبت خلاف المقصود. وذلك كمن يقف على ( ولأبويه ) من قوله سبحانه: ((وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه)) (3) فإنه يوهم أن للأبوين النصف كذلك ، وهذا خلاف المقصود ، حيث إن فى بقية الآية تفصيلاً لحق الأبوين ((ولأبويه لكل واحد منهما السدس ………)) الخ. فالوقف على (فلها النصف) وقف أكفى ، والوقف على (ولأبويه) وقف أقبح.
__________
(1) نفس المرجع ، و أنظر: جمال القراء - 2/552.
(2) الإتقان - 1/86 وعرفه السخاوى فى جمال القراء - 2/564 بأنه الذى لا يجوز تعمد الوقف عليه إما لنقص فى المعنى وإما لتغييره.
(3) سورة النساء: 11.(1/90)
ومثاله أيضاً الوقف على (والموتى) من قوله سبحانه: ((إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى))(1) فهو يوهم أن الموتى يستجيبون كذلك. والمقطوع به أنه ليس هناك تكليف بعد الموت حتى يوصف الموتى بالاستجابة وعدمها. أو يوهم أن الموتى يسمعون لو جعلنا العطف على فاعل (يسمعون) وهو واو الجماعة.
قال الصفاقسى: وليس كذلك ، بل (الموتى) يستأنف ، سواء جعلته مفعولاً لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعده أى ويبعث الله الموتى ، أو جعلته مبتدأ وما بعده خبره ، فالوقف على (يسمعون) هو أكفى وقيل: تام. (2)
ومنه أيضاً أن يقف على قوله تعالى: ( قالوا ) من قوله سبحانه ((لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)) (3) أو قوله سبحانه ((لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)) (4) لأن الابتداء بما بعد قالوا فى الآيتين يؤدى إلى إثبات ما هو كفر ، لذلك قال السيوطى: من تعمده وقصد معناه فقد كفر. (5)
ومنه أن يقف على ((فويل للمصلين)) (6) مع أنه رأس آية ، ومنه أيضاً الوقف على المنفى دون المثبت فى نحو قوله سبحانه : ((فاعلم أنه لا إله إلا الله)) (7) إذ الوقف على (لا إله) نفى للألوهية وهو كفر لو اعتقد القارئ ذلك أو تعمده. أو قوله سبحانه ((وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً)) (8) فالوقف على (وما أرسلناك) نفى لرسالته - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يجوز تعمد ذلك ولا اعتقاده.
__________
(1) سورة الأنعام: 36.
(2) تنبيه الغافلين - ص137.
(3) سورة المائدة : 72.
(4) سورة المائدة: 73.
(5) الإتقان - 1/86 ، ويدخل فى الوقف القبيح الوقف على ( إن الله لا يهدى) المائدة: 51 ، (إن الله لا يستحى) - البقرة:26 ، ( إن الله لا يأمر) - الأعراف:28 ، ونحو ذلك مما يحيل المعنى.
(6) سورة الماعون : 4.
(7) سورة محمد : 19.
(8) سورة الفرقان : 56(1/91)
وهنا أنبه على أن كل ذلك قبيح أو أقبح فى حق من اختار الوقف ، ولا يدخل فى ذلك من اضطر إلى الوقف بسبب انقطاع النفس أو نسيان ونحوه ، فإن على القارئ حينئذٍ أن يرجع إلى موضع يجوز الابتداء به وصولاً إلى موضع يجوز الوقف عليه ، وبذلك يكون الكلام قد انتهى عن الوقف واقسامه.
الابتداء ومراتبه
مضى تعريف الابتداء وأنه: الشروع فى القراءة بعد قطع أو وقف. وإذا كان الذكر قد سبق بأن الوقف لا يكون إلا على ما يتم به المعنى ويوفى بالمقصود ، فإن الابتداء كذلك أيضاً لا يجوز أن يبتدأ إلا بما هو مستقل المعنى ، بل إن هذا الشأن فى الابتداء آكد واشد إلزاماً ؛ لأن الابتداء يكون باختيار القارئ لا تلجئه إليه ضرورة كما هو الحال فى الوقف أحياناً.
وتتفاوت مراتب الابتداء تماماً كتفاوت مراتب الوقف من حيث التمام والكفاية والحسن والقبح. والقبيح منه يتفاوت فى القبح ما بين قبيح وأقبح وذلك كمن يقف على قوله تعالى: ((لقد كفر الذين قالوا)) ثم يستأنف ((إن الله ثالث ثلاثة)) أو ((إن الله هو المسيح ابن مريم)) وقد مضت الإشارة إلى ذلك قريباً ، ويلحق بذلك أيضاً من وقف على قوله تعالى: ((لقد سمع الله قول الذين قالوا)) ثم يستأنف ((إن الله فقير ونحن أغنياء)) (1) أو كمن يقف مضطراً على قوله تعالى: (( وما لى )) ثم يستأنف ((لا أعبد الذى فطرنى)) (2) ونحو ذلك مما أفاض فى التمثيل له العلماء كالسيوطى والصفاقسى.
وتفاوت مراتب الوقف هذه إنما مرجعه إلى المعنى ، فما يكون مؤدياً لمعنى جديد مستأنف هو الذى يكون الابتداء به فى أرقى درجاته وهلم جرا.
قال السيوطى: لا يجوز - الابتداء- إلا بمستقل المعنى موف بالمقصود ، وهو فى أقسامه كأقسام الوقف الأربعة ويتفاوت تماماً وكفاية وحسناً وقبحاً ، بحسب التمام وعدمه وفساد المعنى وإحالته.
__________
(1) سورة آل عمران: 181
(2) سورة يس: 22(1/92)
ثم ساق بعض الأمثلة للقبيح والأقبح فارجع إليه. (1) حيث إن فيما ذكرناه غنية وكفاية.
والسلف الصالح - رضى الله عنهم - كانوا يراعون مواضع الوقف والابتداء تمام المراعاة خشية أن يقف الواحد منهم على مالا يجوز أو أن يبتدئ بما لا ينبغى بل إن بعضهم كان "إذا قرأ ما أخبر الله به من مقالات الكفار يخفض صوته بذلك حياءً من الله أن يتفوه بذلك بين يديه" (2) وليس معنى ذلك أن من يجهر بمثل ذلك يكون مخطئاً أو لم يراع قواعد الأدب مع الله لأن السر والجهر بالنسبة إلى الله تعالى سواء. قال تعالى: ((وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور)) (3)
ومن العلماء الذين نبهوا على وجوب مراعاة ذلك الإمام مكى بن أبى طالب فى كتابه الكشف عن وجوه القراءات السبع ، وضرب على ذلك بعض الأمثلة على ما لا يجوز الابتداء به ومن ذلك الابتداء فى القراءة بقوله تعالى ((الله لا إله إلا هو)) (4) بعد الاستعاذة مباشرة فإنه غير سائغ ؛ لأن القارئ يصل "الرجيم" بلفظ الجلالة وذلك قبيح فى اللفظ يجب الكف والامتناع عنه إجلالاً لله وتعظيماً له.
ومنه أيضاً الابتداء بقوله تعالى: ((إليه يرد علم الساعة)) (5) بعد الاستعاذة مباشرة لأن القارئ يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إليه يرد علم الساعة" فيصل ذلك بالشيطان وهو قبيح جداً.(6)
ما يشترط فيمن يقوم بتحديد مواضع الوقف والابتداء
ليس لكل واحد من الناس أن يحدد مواضع الوقف والابتداء بل ينبغى توفر شروط فيمن يقوم بشأن تحديد مواضع الوقف والابتداء منها:
__________
(1) الإتقان -1/87.
(2) تنبيه الغافلين - ص139.
(3) سورة الملك: 13.
(4) سورة النساء - 87.
(5) سورة فصلت: 47.
(6) أنظر: الكشف - 1/19 بتصرف.(1/93)
1- العلم بالنحو : حتى لا يفصل -بالوقف - بين المبتدأ وخبره أو بين المتضايفين - أى المضاف والمضاف إليه - أو بين المستثنى والمستثنى منه اللهم إلا إذا كان هذا الاستثناء منقطعاً ، فإن العلماء قد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
أ- قال بعضهم: يجوز الفصل مطلقاً ، لأنه فى معنى مبتدأ حذف خبره للدلالة عليه.
ب- وقيل: هو ممتنع مطلقاً لأن المستثنى فى حاجة إلى المستثنى منه - فى هذه الحالة - من جهة اللفظ والمعنى حيث لم يعهد استعمال إلا الاستثنائية وما فى معناها إلا متصلة بما قبلها لفظاً ، ومعنى كذلك لأن ما قبلها مشعر بتمام الكلام فى المعنى ، إذ قولك: ما فى الدار أحد هو الذى صحح: إلا الحمار. فلو قلت: إلا الحمار وحده لكان خطأ.
ج- وقيل: الأمر يحتاج إلى تفصيل ، فإن صرح بالخبر جاز لاستقلال الجملة واستغنائها عما قبلها ، وإن لم يصرح به - أى الخبر - فلا يجوز لافتقارها. (1)
وبالجملة ، فإن معرفته بعلم النحو تجعله لا يقف على العامل دون المعمول ، ولا على المعمول دون العامل ، ولا على الموصول دون صلته ، ولا على المتبوع دون تابعه ، ولا على الحكاية دون المحكى ، ولا على القسم دون المقسم به ، أو غير ذلك مما لا يتم به المعنى. يضاف إلى ذلك أن الوقف قد يكون تاماً على إعراب غير تام على إعراب آخر ، فظهر بذلك ضرورة العلم بالنحو لمن يقوم بتحديد مواضع الوقف والابتداء.
2- العلم بالقراءات: لأن الوقف قد يكون تاماً على قراءة ، غير تام على قراءة أخرى.
3- العلم بالتفسير: لأن الوقف قد يكون تاماً على تفسير معين ، غير تام على تفسير آخر.
4- العلم بالقصص: حتى لا يقطع قبل تمام قصة.
5- العلم باللغة: التى نزل عليها القرآن.
هذه الشروط اشترطها ابن مجاهد ، ونقلها عنه السيوطى موجزة. (2) واشترط غير ابن مجاهد العلم بالفقه كذلك.
__________
(1) الإتقان - 1/90.
(2) الإتقان - 1/88، 89.(1/94)
قال صاحب هذا الرأى: ولهذا فإن من لم يقبل شهادة القاذف وإن تاب فإنه يقف عند قوله تعالى: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)) (1) ، وأما من قالوا بقبول شهادته إذا تاب ومن جملة ذلك إقامة الحد عليه ، أقول: هؤلاء يصلون الآية بالآية التى بعدها ((إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا))
قال النكزاوى مقرراً ضرورة علم الفقه للقارئ:
لابد للقارئ من معرفة بعض مذاهب الأئمة المشهورين فى الفقه ؛ لأن ذلك يعين على معرفة الوقف والابتداء ؛ لأن فى القرآن مواضع ينبغى الوقف على مذهب بعضهم فيها بينما يمتنع على مذهب آخرين.(2)
والذى ينبغى علمه أن كلاً من التفسير والوقف مرتبط بالآخر ، وهذه الحقيقة نتصورها أحياناً فى القراءة الواحدة ، وأحياناً فى القراءات المختلفة.
قال السيوطى مقرراً هذه الأخيرة: الوقف قد يكون تاماً على قراءة غير تام على أخرى ….. والوقف يكون تاماً على تفسير وإعراب غير تام على تفسير وإعراب آخر.(3) ومثال هذا: الوقف على ((لا ريب))(4) فإنه يكون تاماً إن جعلنا ((فيه هدى)) مبتدأً وخبراً وهو اتجاه نافع وعاصم ، ولو جعلنا الجار والمجرور ( فيه) متعلقاً بـ( لا ريب ) فالوقف يكون على (لا ريب فيه ) ويستأنف بعد ذلك بـ(هدى للمتقين) أى: هو هدى ، فعلى الأول الوقف تام على قول أصحاب الوقف ، وعلى المعنى الثانى الوقف كاف.(5)
أمثلة تطبيقية تؤكد مدى ارتباط
كل من التفسير والوقف بالآخر غير ما ذكر
1- قال تعالى:
((هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا))(6)
__________
(1) سورة النور: 4.
(2) الإتقان - 1/89.
(3) الإتقان - 1/89.
(4) سورة البقرة: 2.
(5) للتوسع راجع: جمال القراء - 2/570.
(6) سورة آل عمران : 7.(1/95)
وشاهدنا من هذه الآية هو قوله سبحانه: ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم……)) حيث قال الجمهور(1) : الوقف على قوله: (إلا الله) وقف تام. وقال غيرهم: ليس تاماً بل يوصل بما بعده ولا يوقف عليه.
تفسير الآية على رأى الجمهور:
الله عز وجل فى هذه الآية يذكر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللناس أجمعين أنه أنزل القرآن فيه المحكم الواضح ، والمتشابه غير الواضح(2) ثم بين بعد ذلك أن أهل الزيغ الحاقدين يتبعون هذا المتشابه بهدف التشكيك وإثارة البلبلة بين صفوف المؤمنين ، مع أن المتشابه لا يعلمه إلا الله وحده فقط ، وعلى ذلك فالجملة التى بعد هذا الوقف وهى قوله: ( والراسخون فى العلم يقولون …….) ليست معطوفة على لفظ الجلالة ، بل الواو للاستئناف و "الراسخون" مبتدأ وجملة "يقولون" خبر فالجملة هذه مقطوعة إذن عما قبلها ، وقد قال بهذا القول كل من:
ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وأبى الشعثاء وأبى نهيك ، وهو مذهب الكسائى والفراء والأخفش وأبى عبيد وحكاه ابن جرير الطبرى عن مالك واختاره.(3)
تفسير الآية على رأى غير الجمهور:
__________
(1) قال فى جمال القراء - 2/572 : هو رأى نافع والكسائى والفراء والأخفش وأبو حاتم ويعقوب وغيرهم …………
(2) اختلف فى تعريف المحكم والمتشابه على أقوال منها:
أ- المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل ، والمتشابه هو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال.
ب- وقيل: المحكم مالا يحتمل إلا وجهاً واحداً من التأويل ، والمتشابه ما احتمل وجوهاً.
ج- وقيل: المحكم هو البين الواضح الذى لا يفتقر إلى غيره ، ويقابله المتشابه وهو الذى لا يتبين المراد به من لفظه ولكن يدرك بالبحث والنظر ، وقد لا يدرك كالذى استأثر الله بعلمه.
أنظر: الموافقات للشاطبى - 3/50 ، 51 بتصرف ، الإتقان - 2/2 ، إرشاد الفحول - ص32.
(3) فتح القدير - 1/399.(1/96)
وبناء على رأى غير الجمهور يكون المعنى أن الراسخين فى العلم المتمكنين منه يعلمون أيضاً تأويل المتشابه ، فقوله سبحانه ( والراسخون فى العلم يقولون …….)ليس مقطوعاً عما قبله ولكن معطوفاً عليه ، فالواو للعطف و "الراسخون" معطوف على لفظ الجلالة و "يقولون" حال. وهذا الرأى منقول عن مجاهد وابن عباس فى قول آخر حيث نقل عنه أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
ومن هنا نعلم أن تفسير الآية قد اختلف بناءً على اختلاف القراء حول موضع الوقف فيها. وإن شئت قلت: إن موضع الوقف قد اختلف حسب اختلاف نظرة العلماء إلى تفسيرها ، فالتلازم واضح وظاهر بين موضع الوقف والتفسير.
هذا وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين الرأيين ومنهم ابن عطية الذى قال: وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق وذلك أن الله تعالى قسم آى الكتاب قسمين: محكماً ومتشابهاً فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب ولا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شئ يلبس ويستوى فى علمه الراسخ وغيره.
والمتشابه يتنوع ، فمنه مالا يعلم البتة كأمر الروح وآماد المغيبات التى قد علم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه فى اللغة ومناح فى كلام العرب فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله تعالى فى عيسى ((وروح منه))(1) إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً.(2)
__________
(1) سورة النساء: 171.
(2) المحرر الوجيز : 1/403.(1/97)
وقال الشوكانى: ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به فى القرآن شيئان ، أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره إليه ….. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة - تام - لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل ….. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان فالوقف على (والراسخون فى العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار.(1)
وحاصل ذلك أننا لو نظرنا بإمعان إلى رأى الفريقين لأدركنا أن كل فريق قد أصاب الحقيقة من وجه وذلك بأن نحمل رأى المعارضين لمعرفة الراسخين فى العلم لتأويل المتشابه نحمله على نوع منه وهو الذى استأثر الله بعلمه ، فهذا لا اطلاع لأحد عليه إلا الله كوقت الساعة وخروج الدابة ونزول المسيح ….الخ
ونحمل رأى المؤيدين على المتشابه الذى يعرف المراد منه بالبحث والنظر ، فإن الراسخين فى العلم يعلمون تأويله حيث هم أهل البحث والنظر ، وذلك مثل المتشابه الذى يرجع التشابه فيه إلى اللفظ المفرد من جهة غرابته أو اشتراكه أو ما يرجع التشابه فيه إلى تركيب الكلام ونحو ذلك.(2)
2- قال تعالى: ((ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه))(3)
__________
(1) فتح القدير - 1/401.
(2) راجع هذا البحث بتوسع فى كتاب إزالة الإلباس - ص36: 61.
(3) سورة يوسف: 24 ، وهذه الآية وردت فى الحديث عن يوسف عليه السلام حين راودته امرأة العزيز عن نفسه فعصمه الله ، ولقد وردت إسرائيليات كثيرة حول تفسير هذه الآية لا تليق ومقام يوسف نبى الله المعصوم بعصمة الله من الوقوع فى مثل ما نسب إليه زوراً وبهتاناً ، وقد ناقشت هذه الإسرائيليات بتفصيل ورددت عليها فى كتابى : "الإسرائليات فى التفسير وتأثيرها على مفهوم عصمة الأنبياء والملائكة".(1/98)
يرى كثير من العلماء أن الوقف على (همت به) وقف تام.(1) بينما يرى فريق آخر أنه لا يوقف على (همت به) ولكن على (برهان ربه)(2)
التفسير على كلا الرأيين:
أما بالنسبة للرأى الأول والذى يرى أصحابه أن الوقف على: (همت به) وقف تام ، فإنهم قالوا: إن فى الكلام تقديماً وتأخيراً.
فتقدير الآية: (ولقد همت به) ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وهؤلاء يرون بجانب لزوم الوقف على (همت به ) يرون كذلك أن قوله (وهم بها) هو جواب لولا مقدم عليها أو دليل ذلك الجواب.
ويترتب على هذا الوجه انتفاء وقوع أى هم من جهة يوسف عليه السلام ، ومن ثم فلا حاجة إلى تفسير ذلك الهم ولا إلى بيان حقيقته ، إذ المعروف أن الحرف (لولا) حرف امتناع لوجود ، أى امتناع وقوع الجواب لوجود الشرط ، وبمعنى أخص: لم يقع الهم لوجود البرهان.
وقد مال إلى هذا الوجه من المحدثين بجانب من ارتآه من القدامى الشيخ عبدالوهاب النجار(3) ، والدكتور محمد أبو شهبة الذى قال عنه بعد أن حكاه: إنه القول الجزل الذى يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء ، ويدعو إليه السابق واللاحق.(4)
الاعتراضات الموجهة إلى هذا الوجه والجواب عنها:
اعترض بعض النحاة وغيرهم على هذا الوجه بعدة اعتراضات منها:
أ- قال الزجاج: إن تقديم جواب لولا شاذ وغير موجود فى الكلام الفصيح.
ب- وقال الزجاج أيضاً: إن لولا يقترن جوابها باللام فلو كان الأمر على ما ذكر لقال: ولقد همت به ولهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
__________
(1) أنظر: تفسير الطبرى- 12/110 ، القرطبى - ط الشعب - ص 3394 ، الدر المصون - 4/169 ، الإتقان للسيوطى - 1/89.
(2) الدر المصون - 4/169.
(3) قصص الأنبياء - ص159.
(4) الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير - ص 227.(1/99)
وقد أجاب الفخر الرازى عن هذين الاعتراضين بأن ما ذكره الزجاج من كون جواب لولا لا يتقدمها ، وأنه ينبغى أن يقترن باللام إنما هو من الأوجه الجائزة فقط ، ولا يناقض هذا جواز تقديم جوابها عليها وعدم اقترانه باللام ، وفى القرآن الكريم ما يؤيد هذا ، قال تعالى:((إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها))(1)
ج- واعترض بعضهم على هذا الوجه أيضاً بقوله: إنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله تعالى ((لولا أن رأى برهان ربه)) فائدة.
وقد دفع الفخر الرازى هذا الاعتراض أيضاً بقوله:
بل فيه أعظم الفوائد ، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته فى النساء وعدم قدرته عليهن ، بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل.(2)
وأما بالنسبة للرأى الثانى والذى يرى أصحابه أن الوقف يكون على (برهان ربه) وليس على (همت به) ، فحجتهم أن جواب لولا لا يمكن أن يتقدم عليها ، وقد سبق ذكر هذا الاعتراض والرد عليه.
ولذلك نحوا تفسير الآية مناحى متعددة أذكر منها ما يحتمله نص الآية ويليق فى ذات الوقت بمقام النبوة وأضرب صفحاً عن الترهات والأباطيل والإسرائيليات التى تتنافى وعصمة الأنبياء مما هو مذكور فى كثير من كتب التفسير ؛ لأن مثل ذلك إن جاز أن يذكر فلأجل أن ينقد ويكشف عن تهافته فقط ، وقد قمت بذلك بحمد الله فى كتابى "الإسرائيليات فى التفسير وتأثيرها على مفهوم عصمة الأنبياء والملائكة".
ومن هذه الوجوه المحتملة كتفسير للآية على رأى من يرى أن الوقف يكون على (برهان ربه) ما يلى:
__________
(1) سورة القصص: 10.
(2) تفسير الفخر الرازى - 9/28، 29.(1/100)
أ- قال بعضهم: إن متعلق الهم من جهة امرأة العزيز يختلف عن متعلقه من جهة يوسف عليه السلام ، فامرأة العزيز همت بيوسف طلباً للفاحشة ، ويوسف عليه السلام هم بها دفعاً وضرباً(1) وإنما عبر عن الدفع بالهم على سبيل المشاكلة اللفظية كما فى قوله تعالى: ((إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم))(2) وقد اعترض على هذا الوجه بما يلى:
1- أن العطف بين فعلى الهم ( همت به وهم بها ) يفيد اتحادها فيما يتعلقان به ، ولا توجد أية قرينة تصرف عن هذا الاتحاد ، إذ لا وجه للتفرقة بين متساويين لفظاً ومعنى ، لأن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى .
2- إن إسناد الهم إليها بقصد المخالطة والفاحشة يتعارض مع سياق الآيات القرآنية فى هذه القصة والتى حكت المراودة أولاً وأعنى قوله تعالى: ((وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه ……. ))(3) ثم جاءت بالهم فى قوله سبحانه ( ولقد همت به وهم بها …… ) استئنافاً لمقصود آخر غير المراودة.
فتعلق الهم بالفاحشة منها قد سبق كل ما اتخذته من إجراءات لتدبير الخلوة المطلوبة ، ولا يعقل أن يكون الهم قد جاء بعد كل هذه الإجراءات التى اتخذتها لتنفيذ غرضها.(4)
2- وقيل: إن المراد بالهم من جهتها طلب الفاحشة ومن جهته عليه السلام حديث النفس أو الخطرة التى تمر بالقلب ثم تمضى. وقد يعترض عليه بأنه لا دليل على صرف فعلى الهم على معنى يغاير الآخر فى كل واحد منهما.
__________
(1) حكاه القرطبى - ص3395 - ط الشعب ، الفخر الرازى - 9/29 ، 30.
(2) سورة البقرة: 14 ، 15.
(3) سورة يوسف : 23.
(4) يوسف عليه السلام للأستاذ أحمد عز الدين - ص138.(1/101)
ج- وذهب صاحب المنار إلى أن معنى الهمين واحد فهى همت به أن تضربه بعد أن رفض الإذعان لهواها مع أنه فى نظرها عبدها وهى سيدته ، وهو هم بذلك أيضاً.(1) ولعل ذلك أرجح الآراء فى تفسير الآية ، ولقد ذكرت فى كتابى عن الإسرائيليات المشار إليه آنفاً ذكرت مسوغات هذا الترجيح ومنها:
1- أن هذا الرأى موافق لترتيب الآيات القرآنية كما جاءت فى سورة يوسف إذ الهم بالفاحشة لا يكون بعد المراودة بل هو مرحلة سابقة على المراودة ، فإذا ذكر القرآن المراودة قبل الهم ، فقد دل على أن الهم هنا من نوع آخر غير الهم بالفاحشة ، وتفسير الهم بالضرب والبطش مقنع.
2- ومن ذلك أيضاً أن فى هذا التفسير اتحاداً لمعنى الفعلين (همت) و (هم) وهو الذى ينبغى أن يكون لمجيئهما فى سياق واحد ……. الخ ا.هـ ملخصاً(2)
(3) - قال تعالى:
((ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولاً))(3)
وشاهدنا هو قوله سبحانه : ((لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى) حيث وقف الجمهور عليه وقفاً تاماً(4) ؛ لأن كلام الظالم قد انتهى عند هذا الحد. ثم جاء بعد ذلك قوله سبحانه: ((وكان الشيطان للإنسان خذولاً)) تقريراً وبياناً لما قبله. والمراد بالظالم عقبة ابن أبى معيط كما سيأتى بيانه ، وقال بعضهم: إن هذا القول (وكان الشيطان ……. ) الخ هو من تتمة كلام الظالم وعليه فالوقف على (خذولاً) وليس على (إذ جاءنى)
__________
(1) تفسير المنار - 12/229 وما بعدها بتلخيص.
(2) أنظر: الإسرائيليات فى التفسير - د./ أحمد سعد الخطيب - ص 123.
(3) سورة الفرقان : 27 - 29.
(4) تنبيه الغافلين : 131.(1/102)
والمراد بالشيطان إما الخليل - وهو أمية بن خلف على ما سيأتى أو أبى بن خلف - وعلى ذلك فتسمية الخليل شيطاناً فلأنه قد أضله وزين له الكفر وعدم الإيمان فقلد الشيطان فى ذلك ونهج نهجه فى الصد والإضلال. وقد يراد بالشيطان هنا إبليس إذ هو الأصل فى الغواية والإضلال.
قال الشوكانى تعليقاً على قوله تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، أو من تمام كلام الظالم ، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً ، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذى حمله على مخاللة المضلين.(1)
ولتوضيح معنى هذه الآيات نسوق سبب نزولها ، حيث نقل السيوطى فى الدر المنثور روايات متعددة حول سبب نزول هذه الآيات وبدأ هذه الروايات بقوله:
__________
(1) فتح القدير- 4/91.(1/103)
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضى الله عنهما : أن أبا معيط كان يجلس مع النبى - صلى الله عليه وسلم - بمكة لا يؤذيه ، وكان رجلاً حليماً ، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه ، وكان لأبى معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبأ أبو معيط وقدم خليله من الشام ليلاً ، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمراً فقال: ما فعل خليلى أبو معيط؟ فقالت: صبأ فبات ليلة سوء ، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه ، فلم يرد عليه التحية فقال: مالك لا ترد علىّ تحيتى؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم . قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت ؟ قال: نأتيه فى مجلسه وتبصق فى وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم ، ففعل ، فلم يزد النبى -صلى الله عليه وسلم - أن مسح وجهه من البصاق ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبرا ، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : اخرج معنا. قال: قد وعدنى هذا الرجل إن وجدنى خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقى صبرا فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه ، فخرج معهم فلما هزم الله المشركين ، وحل به جمله فى جدد من الأرض ، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيراً فى سبعين من قريش ، وقدم إليه
أبو معيط ، فقال: تقتلنى من بين هؤلاء . قال نعم. بما بصقت فى وجهى فأنزل الله فى أبى معيط: ((ويوم يعض الظالم على يديه )) إلى قوله : ((وكان الشيطان للإنسان خذولا)).(1)
__________
(1) الدر المنثور - 5/124 ، 125.(1/104)
وفى بقية الروايات المذكورة فى الدر المنثور وغيره(1) ما يفيد أن الظالم هو عقبة ابن أبى معيط وليس أباه ، وهو الصحيح والخليل هو أمية بن خلف ، وقيل: أبى بن خلف. والراجح أنه أمية.(2)
وجاء فى هذه الروايات أيضاً أن الذى قتل عقبة هو على بن أبى طالب بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
(4)- جاء فى سورة النمل فى سياق حديث بلقيس مع قومها حين كانت تشاور فى أمر سليمان عليه السلام أقول: فى هذا السياق جاء قوله تعالى:
((قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون))(3)
قال الجمهور عن هذه الآية : إن الوقف على (أذلة) وقف تام. وقال غيرهم: بل الوقف على (وكذلك يفعلون) وليس على (أذلة) فأما على رأى الجمهور فإن كلام بلقيس قد انتهى عند (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) ثم جاء هذا التذييل (وكذلك يفعلون) وهو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما ذهبت إليه بلقيس من أن الملوك إذا دخلوا قرية من القرى فاتحين لها أو غازين ، فإنهم يخرجون أهلها ، ويفرقون شملهم ، ويتلفون ما فيها من خيرات. وعلى ذلك فهذا التذييل مستأنف وليس معطوفاً على ما قبله.
وأما على رأى غير الجمهور ، فتذييل الآية (وكذلك يفعلون) موصول بما قبله على أنه من كلام بلقيس ، فالواو إذن للعطف ، وما بعدها من جملة مقول القول. وبذلك تكون الجملة كما يقول البيضاوى: تأكيداً لما وصفته - بلقيس - من حال الملوك وتقريراً بأن ذلك من عادتهم المستمرة.(4)
__________
(1) أنظر: الدر المنثور - 5/125-127 ، أسباب النزول للواحدى - ص343 ، 344.
(2) أنظر: تنبيه الغافلين - ص132.
(3) سورة النمل : 34.
(4) تفسير البيضاوى على هامش حاشية زاده - 3/492 ، و أنظر فى تقرير هذين الرأيين المحرر الوجيز - 4/285 ، فتح القدير - 4/171 ، تنبيه الغافلين - ص 131.(1/105)
وألحق السخاوى بمثل ما سقناه من أمثلة قوله تعالى: ((وله من فى السماوات والأرض ومن عنده))(1) حيث الوقف على (والأرض) تام إن جعل (ومن عنده) مبتدأ وغير تام إن جعل معطوفاً على ما قبله(2) ، والمعنى هو الذى يحدد حكم الوقف هنا.
(5) قد يختلف موضع الوقف وحكمه والتفسير معه تبعاً لاختلاف القراءة.
قال فى الإتقان: قد يكون الوقف تاماً فى تفسير ، وإعراب ، وقراءة غير تام على آخر.(3) وقل مثل ذلك فى بقية أنواع الوقف الأخرى. ويمثل لذلك بقوله تعالى: ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى))(4)
حيث قرأ نافع وابن عامر (واتَّخَذوا) بفتح الخاء فعلاً ماضياً أريد به الإخبار ، وقرأ باقى العشرة (واتخِذوا) بكسر الخاء على أنه فعل أمر.(5)
حكم الوقف على (مثابة للناس وأمنا) بناءً على اختلاف القراءتين:
قال فى الإتقان: الوقف كان بناءً على قراءة (واتَخذوا) بالماضى ، وتام بناءً على قراءة (واتخِذوا) بصيغة الأمر(6)
التفسير على القراءتين:
أما على قراءة نافع وابن عامر بفتح الخاء (واتخذوا) فهو كلام مسوق للإخبار ، معطوف على قوله تعالى: ( وإذ جعلنا) وعليه فلابد من إضمار "إذ ".
والمعنى : واذكر يا محمد حين (جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً) يعنى مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم ، حيث يتمتعون فيه بالأمن ، فـ(مثابة) مصدر ثاب يثوب إذا رجع.
__________
(1) سورة الأنبياء : 19.
(2) جمال القراء - 2/571 بتصرف.
(3) الإتقان - 1/87 ، وأنظر: تنبيه الغافلين - ص133.
(4) سورة البقرة : 125.
(5) إتحاف فضلاء البشر - ص192 ، المهذب فى القراءات العشر - 1/72.
(6) الإتقان - 1/87.(1/106)
واذكر أيضاً حين اتخذ متبعو إبراهيم مقامه مصلى - كما ذكر ابن عطية.(1) أو حين اتخذ أصحابك مقام إبراهيم مصلى امتثالاً لأمر الله الثابت بالقراءة الأخرى (واتخِذوا ) أو حين اتخذ الناس كما قال مكى.(2)
وقيل: لا حاجة إلى إضمار "إذ" بل هو معطوف على "جعلنا" على أنهما جملة واحدة.(3) ولذلك لم يكن الوقف على (أمناً) تاماً على هذه القراءة لأنه مرتبط فى المعنى بما بعده على كلا التقديرين.
وأما بالنسبة للقراءة الأخرى (واتخذوا) بالأمر وهى قراءة الجمهور ، فإنه كلام مستأنف جديد لا علاقة له ، بما قبله كما قال أبو البقاء.(4)
ولذلك فإن الوقف على (أمنا) وقف تام ، لعدم ارتباطه لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى بما بعده. والتفسير بناءً على هذه القراءة الثانية مختلف فيه: حيث قيل: إن المأمور بذلك إبراهيم عليه السلام ومتبعوه ، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه وهو الأرجح لحديث عمر رضى الله عنه: "وافقت ربى فى ثلاث" وفيه "وقلت: يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى))(5)
قال ابن خالوية فى الحجة موجهاً القراءتين:
__________
(1) المحرر الوجيز - 1/208.
(2) الكشف عن وجوه القراءات السبع - 1/263.
(3) أنظر: إتحاف فضلاء البشر - ص192 ، الدر المصون - 1/364.
(4) نقله صاحب الدر المصون - 1/364 ، وجوز ابن حجر فى الفتح - 8/18 أن يكون معطوفاً على ما تضمنه قوله "مثابة" كأنه قال: ثوبوا واتخذوا ، أو معمولاً لمحذوف أى وقلنا اتخذوا ثم ذكر بعد ذلك احتمال الاستئنافية المذكور فى الأصل.
(5) الدر المنثور - 1/222 ، البخارى - كتاب التفسير - باب "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بلفظ آخر ، وأنظر: صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة -باب فضائل عمر - 8/176 - ط دار الحديث .(1/107)
الحجة لمن كسر أنهم أمروا بذلك ودليله قول عمر " أفلا نتخذه مصلى" فأنزل الله ذلك موافقاً به قوله ، والحجة لمن فتح أن الله تعالى أخبر عنهم بذلك بعد أن فعلوه. ثم قال: فإن قيل: فإن الأمر ضد الماضى ، وكيف جاء القرآن بالشئ وضده ؟ فقل: إن الله تعالى أمرهم بذلك مبتدئاً ، ففعلوا ما أمروا به ، فأثنى بذلك عليهم وأخبر به ، وأنزله فى العرضة الثانية.(1)
ضوابط للوقف والابتداء يجب مراعاتها
وإلا أخل القارئ بالمعنى والتفسير
[ الضابط الأول ]
لا يجوز الوقوف على مالا يتم به المعنى.
هذه قاعدة عامة مجملة وتفصيلها " أنه لا يجوز أن يوقف على العامل دون المعمول ، ولا المعمول دون العامل ، وسواء كان العامل اسماً أم فعلاً أم حرفاً ، وسواء كان المعمول مرفوعاً أم منصوباً أم مخفوضاً ، عمدة أو فضلة ، متحداً أو متعدداً.
ولا يوقف أيضاً على الموصول دون صلته ، ولا على ما له جواب دون جوابه ، ولا على المستثنى منه قبل المستثنى ، ولا على المتبوع دون التابع ، ولا على ما يستفهم به دون ما يستفهم عنه ، ولا على ما أشير به دون ما أشير إليه ، ولا على الحكاية دون المحكى ، ولا على القسم دون المقسم به وغير ذلك مما لا يتم المعنى إلا به"(2)
وقد مضت الأمثلة على ذلك فى أقسام الوقف.
[ الضابط الثانى ]
كلمة "كلا" وردت فى القرآن الكريم فى ثلاثة وثلاثين موضعاً منها سبعة للردع بالاتفاق وهذه يوقف عليها. وهى:
- ( عهدا. كلا )(3) ، (عزاً. كلا )(4) ، ( أن يقتلون. قال كلا )(5) ، ( إنا لمدركون. قال كلا)(6) ، (شركاء كلا )(7) ، ( أن أزيد. كلا)(8) ، ( أين المفر. كلا)(9)
__________
(1) الحجة فى القراءات السبع - ص 36 ، 37.
(2) تنبيه الغافلين - ص130.
(3) سورة مريم : 78 ، 79.
(4) سورة مريم : 81 ، 82.
(5) سورة الشعراء : 14 ، 15.
(6) سورة الشعراء : 61 ، 62.
(7) سورة سبأ: 27.
(8) سورة المدثر: 15 ، 16.
(9) سورة القيامة: 10 ، 11.(1/108)
والباقى منها ما هو بمعنى حقاً قطعاً فلا يوقف عليه ، ومنها ما احتمل الأمرين أى الردع ومعنى حقاً قطعاً ففيه الوجهان.(1)
وإذا استقرأنا هذه اللفظة فى القرآن الكريم فإننا سوف نجد أنها لم تذكر إلا فى النصف الثانى من القرآن الكريم وفى السور المكية فقط ولذلك قيل:
وما نزلت "كلا" بيثرب فاعلمن ... ولم تأت فى القرآن فى نصفه الأعلى
والسبب فى ذلك أن هذه الكلمة "كلا" تفيد الردع والزجر والرد على الكفار فيما يزعمون أو يدعون.
[ الضابط الثالث ]
كلمة "بلى" جاءت فى القرآن الكريم فى إثنين وعشرين موضعاً فى ست عشرة سورة وهى على أقسام ثلاثة:
الأول: لا يجوز الوقف عليها بالإجماع ، لتعلق ما بعدها بما قبلها وذلك كائن فى سبعة مواضع هى:
(بلى وربنا)(2) ، (بلى وعداً عليه حقاً)(3) ، (قل بلى وربى لتأتينكم)(4) ، (بلى قد جاءتك)(5) (بلى وربنا)(6) ، (قل بلى وربى)(7) ، (بلى قادرين)(8)
الثانى: المختار فيه عدم الوقف ، وذلك فى خمسة مواضع هى:
(بلى ولكن ليطمئن قلبى)(9) ، ( بلى ولكن حقت)(10) ، (بلى ورسلنا)(11) ، (قالوا بلى)(12) ، (قالوا بلى قد جاءنا)(13)
الثالث : المختار فيه جواز الوقف عليه وهى العشرة الباقية:
[ الضابط الرابع ]
قال ابن الجزرى : كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده.
[ الضابط الخامس ]
كل ما فى القرآن من "الذى" و "الذين" يجوز فيه الوصل بما قبله نعتاً ، ويجوز فيه القطع على أنه خبر إلا فى سبعة مواضع يلزم فيها القطع وهى قوله سبحانه:
__________
(1) الإتقان - 1/90.
(2) سورة الأنعام:30
(3) سورة النحل : 38
(4) سورة سبأ: 3
(5) سورة الزمر: 59.
(6) سورة الأحقاف:34.
(7) سورة التغابن: 7.
(8) سورة القيامة : 4
(9) سورة البقرة :260
(10) سورة الزمر : 71
(11) سورة الزخرف: 80
(12) سورة الحديد : 14
(13) سورة الملك : 9(1/109)
( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه)(1) ، (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه)(2) ، (الذين يأكلون الربا)(3) ، (الذين آمنوا وهاجروا)(4) ، (الذين يحشرون)(5) ، (الذين يحملون العرش)(6)
[ الضابط السادس ]
كلمة "نعم" وردت فى القرآن فى أربعة مواضع ، وضابط الوقف عليها وعدمه "أنه إن وقع بعدها واو لم يجز الوقف عليها وإن لم يقع بعدها واو فالمختار الوقف عليها ؛ لأن ما بعدها غير متعلق بما قبلها ، ومثال ذلك قوله تعالى:
((ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم فأذن …… ))(7) فالمختار هنا الوقف على "نعم" لأن ما بعدها غير متعلق بما قبلها ، حيث إنها من قول الكفار ، وما بعدها (فأذن) ليس من قولهم.
وأما المواضع الثلاثة الباقية التى وردت فيها كلمة "نعم" فإنه لا يوقف عليها لكونها مرتبطة ومتعلقة بما بعدها ، وهى قوله تعالى :
1- (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم لمن المقربين)(8)
2- و(قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين)(9)
3- و(قل نعم وأنتم داخرون)(10)،(11)
المبحث السادس
اختلاف المفسرين والنحويين حول إدعاء
مخالفة بعض القراءات الثابتة لبعض قواعد النحو
القرآن الكريم هو الكلام العربى ، الذى لا عوج فيه ولا التواء ، أعجز الله به البلغاء ، وأبكم به الفصحاء ، فنهل الكل من معينه ، وخضع الجميع لعظمته وسموه.
__________
(1) سورة البقرة : 121
(2) سورة البقرة : 146 ، سورة الأنعام : 20
(3) سورة البقرة: 275
(4) سورة التوبة : 20
(5) سورة الفرقان: 34
(6) سورة غافر : 7
(7) سورة الأعراف : 44
(8) سورة الأعراف : 113 ، 114
(9) سورة الشعراء : 42
(10) سورة الصافات : 18
(11) أنظر فى هذه الضوابط : الإتقان للسيوطى - 1/90 ، و أنظر: جمال القراء - 2/574 إلى آخر الكتاب ففيه ذكر لهذه الضوابط ولغيرها.(1/110)
وقد جاء هذا الكتاب خطاباً عاماً للأمم كافة فى كل زمان وفى أى مكان ، لذلك راعى اختلاف عقول الناس ، وما تستوعبه منه ، فشمل ما يلبى رغبات الخواص فألمح أشار ، ونوه ، وعرّض ، ونوّع ، فى أوجه الإعراب ، فاشتمل على الدقائق التى لا يطلع عليها إلا بصير حصيف.
وشمل أيضاً ما يلبى رغبات العوام فأفصح وأبان ، وأرهب ورغب ، وعلل ووجه ، فاشتمل على صنوف من القول ، وفنون من البلاغة ، وذلك لأنه الكتاب الخاتم الذى لا كتاب بعده ، المنزل على الرسول الخاتم الذى لا رسول بعده. ومع ذلك فقد اعترض بعض أهل النحو على بعض قراءاته الثابتة ، زاعمين أنها خالفت قواعد النحو.
وقد أخطأوا فى قياس آيات القرآن الكريم على قواعد النحو أيما خطأ ، بل أجرموا أيما إجرام ؛ لأن القرآن الكريم هو كلام الله المعجز لأساطين البيان والبلاغة ، وأنه أصل اللغة ، ومنه تستنبط قواعدها ، وعلى ضوء آياته تضبط اللغة ، وتصحح هيئاتها.
وإنى إذ أؤكد هذه الحقيقة آتى إلى بعض تلك القراءات التى ادعوا أنها خالفت قواعد العربية ، لأبين أنها لم تخالفها بل لها فى وجوه العربية ما يؤيدها ، ليتقرر من خلال ذلك أن هذه الدعوى تنبئ عن قصور قائليها وعدم درايتهم بكل أوجه العربية.
ومما أوردوه فى هذا المقام ما يلى:
المثال الأول:
قال تعالى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام ))(1)
حيث قرأ حمزة - وهو أحد القراء السبعة - (والأرحامِ) بالخفض. وفى هذا يقول صاحب الشاطبية: وحمزة والأرحامِ بالخفض جملا(2)
عارض النحاة هذه القراءة بحجة أنه لا يجوز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور إلا بإعادة حرف الجر - كما هو مقرر فى قواعد النحو وهو اتجاه البصريين - ومنه قوله تعالى: ((فخسفنا به وبداره الأرض))(3)
__________
(1) سورة النساء : 1
(2) الوافى فى شرح الشاطبية - ص 167
(3) سورة القصص : 81(1/111)
الرد على هؤلاء النحاة وتوجيه القراءة:
والرد على هؤلاء النحاة ومن وافقهم من المفسرين هو من خلال الآتى:
1- القرآن الكريم هو الكتاب الخالد الذى أنزله الله - عز وجل - لهداية البشرية ، وهو بجانب ذلك كتاب معجز فى فصاحته وبلاغته ، حيث نزل فأعيا الله به الفصحاء ، وألجم به البلغاء ، فشهد الأعداء ببلاغته وأقر الحاقدون ببراعته ، واعترف الجميع بسيادته.
والمعروف أن للقراءة المقبولة ضوابط ذكرها السيوطى فى الإتقان(1) نقلاً عن ابن الجرزى وقد سبق ذكرها. وأذكر بأنها صحة السند ، وموافقة اللغة العربية ولو بوجه ، وموافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وهذه القراءة التى معنا هى قراءة حمزة أحد القراء السبعة ، والمقرر لدى العلماء أن القراءات السبع متواترة لاستيفائها شروط التواتر ، ومن هنا تلقتها الأمة بالقبول.
وبذلك يكون شرط صحة السند قد تحقق ما هو أعلى منه ، وهو التواتر ، الذى يكفى وحده فى القطع بقرآنيتها.
يقول القرطبى فى معرض رده على من ردوا قراءة حمزة:
مثل هذا الكلام محذور عند أئمة الدين ؛ لأن القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى -صلى الله عليه وسلم - تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فمن رد ذلك ، فقد رد على النبى -صلى الله عليه وسلم - ، واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبى -صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد فى فصاحته.ا.هـ(2)
وأما بالنسبة لشرط موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً فهو متوفر أيضاً لأن رسم القراءة بحركة الإعراب نصباً أو خفضاً لم يغير من رسمها ولا من هيئتها شيئاً مع التذكير بأن المصاحف العثمانية كانت خالية من النقط والشكل.
__________
(1) الإتقان - 1/77.
(2) تفسير القرطبى - ص1574.(1/112)
وأما بالنسبة للشرط الثالث وهو موافقة اللغة العربية ولو بوجه فسوف يبين لنا فيما هو آت أنه متحقق أيضاً بوجوه عديدة وليس بوجه واحد ، وسوف يبين لك أيضاً ضعف قاعدة البصريين التى اعتمدوا عليها فى رد القراءة.
2- وقد قيل فى توجيه قراءة الخفض بعيداً عن كونها معطوفة على الضمير المجرور بدون إعادة الجار أقوال منها:
أ- ما قيل : إن الواو فى (والأرحامِ) هى واو القسم والمقسم هو الله تعالى ، ومعلوم أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وذلك كما أقسم سبحانه بالضحى والليل والفجر والشمس وغيرها من المخلوقات.
ب- وقيل: هو قسم أيضاً لكن على تقدير مضاف محذوف أى ورب الأرحام.(1)
ج- وقيل: هو على تقدير إضمار الخافض ، قال ابن خالويه: واستدلوا له بأن الحجاج كان إذا قيل له: كيف تجدك؟ يقول: خيرٍ عافاك الله. يريد بخير.
أو أنه على تقدير: واتقوه فى الأرحام أن تقطعوها ، ثم قال ابن خالويه: وإذا كان البصريون لم يسمعوا الخفض فى مثل هذا ولا عرفوا إضمار الخافض ، فقد عرفه غيرهم ومنه قول القائل:
رسمِ دارٍ وقفت فى طلله ... كدت أقضى الحياة من خلله
3- وقيل فى توجيه الخفض كذلك: إن (الأرحامِ) معطوف على الضمير المجرور فى قوله (به)
وهذا التوجيه هو الذى عارضه البصريون وعارضوا القراءة وردوها لأجله ؛ لأنها تخالف ما هو مقرر عندهم من عدم جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور بدون إعادة حرف الجر ، وحجتهم فى ذلك أن الضمير فى الكلمة جزء منها ، فكيف يعطف على جزء من الكلمة ؟ وشبهوه بالتنوين وقالوا: كما لا يعطف على التنوين فإنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار.
مناقشة هذا الرأى:
__________
(1) أنظر: الدر المصون للسمين الحلبى - 2/297.(1/113)
هذا الذى ذهب إليه البصريون فى رد قراءة حمزة (والأرحامِ) ردوا به أيضاً تخريج عطف (المسجدِ) على الضمير المجرور فى قوله (به) وذلك فى قوله سبحانه: ((وكفر به والمسجدِ الحرام))(1)
هنا ناقش السمين الحلبى هذه القاعدة مناقشة علمية متأنية أنقل هنا أكثر ما قاله لتتم الفائدة ، قال السمين: اختلف النحاة فى العطف على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب:
أحدهما: وهو مذهب الجمهور من البصريين: وجوب إعادة الجار إلا فى ضرورة.
الثانى: أنه يجوز ذلك فى السعة مطلقاً وهو مذهب الكوفيين وتبعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيون.
والثالث: التفصيل ، وهو إن أكد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو: "مررت بك نفسك وزيد" وإلا فلا يجوز إلا لضرورة. وهو قول الجَرْمى.
وبعد أن ذكر السمين هذه الآراء حول العطف على الضمير المجرور علق بعد ذلك بقوله:
والذى ينبغى أنه يجوز مطلقاً - للأسباب الآتية:
أ- كثرة السماع الوارد به. ب- ضعف دليل المانعين.
ج- اعتضاد ذلك القياس.
قال: أم السماع: ففى النثر كقولهم: "ما فيه غيره وفرسِه" بجر "فرسه" عطفاً على الهاء فى غيره. ومنه قوله تعالى: ((ومن لستم له برازقين))(2) و "من" عطف على "لكم" فى قوله تعالى فى الآية نفسها: ((لكم فيها معايش)).
ومنه قوله تعالى: ((وما يتلى عليكم))(3) حيث عطف "ما" على "فيهن" أى على الضمير المجرور فيها ، وهو يعنى قوله تعالى: ((قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم ……)) ثم قال: وفى النظم منه الكثير ، ونقل شواهد عديدة اكتفى بذكر بعضها.
فمن ذلك قول القائل:
أكر على الكتيبة لا أبالى ... أفيها كان حتفى أم سواها
حيث عطف "سواها" على الضمير المجرور فى "فيها" ولم يعد الجار ، ومنه أيضاً قول القائل:
إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم ... فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
__________
(1) سورة البقرة : 217.
(2) سورة الحجر: 20
(3) سورة النساء: 127(1/114)
حيث عطف "سعيرها" على الضمير المجرور فى "بها" ولم يعد الجار ، ومنه أيضاً قول القائل:
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
حيث عطف " الأيام " على الضمير المجرور فى "بك" ولم يعد الجار.
وقد ذكر السمين من ذلك الكثير ثم قال:
فكثرة ورود هذا وتصرفهم فى حروف العطف ………. دليل على جوازه
وأما ضعف الدليل: فهو أنهم - أى البصريين - منعوا ذلك لأن الضمير كالتنوين ، فكما لا يعطف على التنوين ، لا يعطف عليه إلا بإعادة الجار.
ووجه ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلة ألا يعطف على الضمير مطلقاً ، أعنى سواء كان مرفوع الموضع ، أو منصوبه ، أو مجروره ، وسواء أعيد معه الخافض أم لا كالتنوين. وهذا كلام وجيه جداً من السمين الحلبى.
وأما القياس: فلأنه تابع من التوابع الخمسة فكما يؤكد الضمير المجرور ، ويبدل منه ، فكذلك يعطف عليه.(1)
ومن خلال ذلك يتضح لنا أن قراءة حمزة (والأرحامِ) عطفاً على الضمير المجرور قبله قد تأيد بأكثر من دليل فتحقق بذلك ما وعدت به سلفاً من إظهار ضعف رأى البصريين فى رد هذه القراءة ، وضعف قاعدتهم التى اعتمدوا عليها ، وقد أسهبت فى ذلك وفى توجيه القراءة وتخريجها على أقوال وتخريجات أخرى بعيدة عن التخريج المعترض عليه ، حتى يكون ما ذكرته فى هذا المثال أساساً أعتمد عليه فى الحكم على أراء النحاة فى رد بعض القراءات الثابتة الأخرى لأبين أنهم لم يستوعبوا فى ردهم لهذه القراءات كل الأوجه النحوية المحتملة فى تخريج القراءة - حيث إن وجهاً واحداً من وجوه العربية تحتمله القراءة يكفى لقبولها مع توافر الشرطين الآخرين - فعلى ذلك قس اعتراضاتهم على القراءات التالية فى الأمثلة التى سوف أسوقها الآن.
المثال الثانى:
__________
(1) الدر المصون - 1/529: 531 بتصرف يسير.(1/115)
قال تعالى: ((وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادهم شركائهم))(1) بجعل (زين ) ماضياً للمجهول ، ورفع (قتلُ) على أنه نائب فاعل ، ونصب ( أولادهم ) على المفعولية ، وجر (شركائهم ) بالإضافة إلى (قتل ) وهو من إضافة المصدر إلى فاعله.
وهذه قراءة ابن عامر أحد القراء السبعة.
وقد عارض بعض النحاة هذه القراءة بحجة أنه قد فصل فيها بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فى غير الشعر ، فإن ذلك وإن كان سمجا فى الشعر أيضا إلا أنه يتسامح فيه للضرورة الشعرية.
ومن المفسرين الذين ردوا هذه القراءة الزمخشرى حيث قال فى الكشاف - متابعاً النحاة_:
وأما قراءة ابن عامر ((قتلُ أولادهم شركائهم )) برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء ، والفصل بينهما بغير الظرف ، فشئ لو كان فى الضرورات وهو الشعر ، لكان سمجاً مردوداً ، فكيف به فى الكلام المنثور؟ فكيف به فى القرآن الكريم المعجز بحسن نظمه وجزالته والذى حمله – أى ابن عامر – على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء ، ولو قرئ بجر الأولاد والشركاء ، لكان الأولاد شركاءهم فى أموالهم ولوجد فى ذلك مندوحة عن هذا الانكباب.(2)
وعجبت لمفسر جليل له فى قلبى مكان لبراعته فى النقد والتمحيص هو الفخر الرازى(3) ، كيف يتعرض لهذه القراءة ولموقف الزمخشرى منها ثم يمضى دون أن ينقده ويرد عليه ولست أدرى هل ارتضى ذلك من الزمخشرى ، أم أنه رأى أن تهافت رأيه من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تنبيه.
وأيّاً ما كان السبب ، فالحق أحب إلينا من كل حبيب ، فقراءة ابن عامر قراءة متواترة ، وكان الأولى بالزمخشرى ومن لف لفه فى رد هذه القراءة ، أن يصححوا القاعدة النحوية لتمضى مع القراءة ، لا أن يردوا قرآناً متواتراً لمخالفته لقاعدة نحوية.
__________
(1) سورة الأنعام : 137
(2) الكشاف - 2/54.
(3) تفسير الفخر الرازى - 6/594(1/116)
وكلام الزمخشرى فى رده قراءة ابن عامر يشير إلى معتقده فى القراءات وأنها اجتهادية وليست منقولة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا ما ينبئ عنه قوله: ولو قرئ بجر الأولاد والشركاء لكان الأولاد شركاءهم فى أموالهم ……….
يقصد الزمخشرى أنه كان بمقدور ابن عامر أن يعدل عن نصب الأولاد إلى جره بالإضافة إلى "قتل" وإبدال الشركاء منه فيكون المعنى: إن الشيطان زين لكثير من المشركين قتل أولادهم وهم شركاؤهم فى أموالهم.
أرأيت ذلك السخف الذى يرمى إليه كلام الزمخشرى ، ولست أدرى هل نبا من علمه أن القراءات نقلية ، لا اجتهادية ؟ وكيف يغيب ذلك عن مفسر كالزمخشرى له باعه الطويل فى إظهار بلاغة القرآن الكريم ؟
إن القراءات سمعية نقلية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست اجتهادية ، وقد اتفق العلماء واعتقد أهل الحق أن القراءات السبع - ومنها قراءة ابن عامر - متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجمالاً وتفصيلاً. بل قال صاحب المناهل: إن الرأى المحقق هو أن القراءات العشر متواترة ، وليس السبع فقط.(1) إذا ثبت ذلك فلا اعتبار لما قاله الزمخشرى أو غيره فى تضعيف قراءة ابن عامر وردها.
ولقد شدد ابن المنير - فى الانتصاف - النكير على الزمخشرى فقال: إن المنكر على ابن عامر إنما أنكر عليه ما ثبت أنه براء منه قطعاً وضرورة ؛ لأن هذه القراءة مما علم ضرورة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها ، ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين ، أعنى علم القراءة وعلم الأصول ، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين ، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين ، وإنه على هذا العذر لفى عهدة خطرة ، وزلة منكرة.(2)
__________
(1) مضت الإشارة إليه مراراً.
(2) الانتصاف لابن المنير - 2/53 بذيل الكشاف للزمخشرى.(1/117)
وقال أبو حيان فى رده عليه: وأعجب لعجمى ضعيف فى النحو يرد على عربى صريح محض قراءة متواترة ، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً.(1)
ومع ذلك فإذا نزلنا مع الزمخشرى ومن تابعه فى رد هذه القراءة ، إذا نزلنا معهم إلى القياس النحوى ، فإننا نرى أن القراءة ماضية مع القواعد النحوية ، فلقد قال الكوفيون: يجوز الفصل بين المتضايفين فى النثر وفى الشعر إذا كان المضاف مصدراً ، والمضاف إليه فاعله ، والفاصل بينهما مفعوله كقراءة ابن عامر التى نحن بصددها ، ومنه قول القائل:
عتوا إذ أجبناهم إلى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل
فسوق ، مصدر مضاف ، والأجادل مضاف إليه ، من إضافة المصدر إلى فاعله ، والبغاث مفعوله ، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه ، والأصل سوق الأجادل البغاث.(2)
ولست أهدف من ذلك تصحيح القراءة بقواعد العربية ، بل هدفى الرد على بعض المخالفين ، ودعوتهم إلى تصحيح ما استقروا عليه من أوجه الإعراب المخالفة لاستعمال القرآن الكريم ، وتصحيحها لتمضى مع قواعد القرآن الكريم.
المثال الثالث
قال تعالى:(( وكذلك نُجِّى المؤمنين))(3)
وهذه قراءة ابن عامر ببناء الفعل "نجى" للمجهول مع تضعيف الجيم وكسرها وتسكين الياء ثم نصب "المؤمنين"(4)
وقد خطأ هذه القراءة أبو حاتم والزجاج وقالا: فيها لحن ظاهر حيث نصب اسم ما لم يسم فاعله ، وإنما يقال: نُجِّى المؤمنون وكُرم الصالحون.(5)
__________
(1) تفسير البحر المحيط - 4/230.
(2) أنظر: إعراب القرآن - 3/240
(3) سورة الأنبياء : 88
(4) إتحاف فضلاء البشر - ص394 ، وقد أخطأ ابن خالويه فى الحجة - ص152 فظنها قراءة عاصم.
(5) تفسير القرطبى - ص 4375.(1/118)
ودافع عن القراءة من النحاة الفراء وأبو عبيد وثعلب وقالوا: نائب الفاعل هو المصدر المحذوف والتقدير: وكذلك نجى النجاء المؤمنين ، كما تقول ضُرب زيدا بمعنى ضُرب الضربُ زيداً. ومنه قول القائل:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
أى لسب السب بذلك الجرو الكلابا.
وفى الإتحاف : أن الأصل ننجى حذفت إحدى النونين استثقالاً لتوالى المثلين.(1)
وقد اعترض على هذه القراءة أيضاً بأن الفعل "نجى" وهو ماض جاء ساكن الآخر والأصل أن يأتى مفتوحاً.
وأجيب عن ذلك بأن تسكين ياء الماضى جاء على لغة من يقول : بقى ورضى دون تحريك الياء استثقالاً لتحريك ياء قبلها كسرة ، ومنه قول القائل:
خمر الشيب لمتى تخميرا
ليت شعرى إذا القيامة قامت ... وحدا بى إلى القبور البعيرا
ودُعِى بالحساب أين المصيرا
حيث سكنت ياء دُعى استثقالاً لتحريكها وقبلها كسرة.
المثال الرابع:
قال تعالى: ((لِيُجزى قوماً بما كانوا يكسبون))(2)
ببناء الفعل (يُجزى) للمفعول ونصب (قوماً) وهذه قراءة أبى جعفر وهو من الثلاثة تتمة العشرة ، وقد مضى بنا قول الزرقانى فى التحقيق: إن العشر متواترات.
وقد عاب بعضهم هذه القراءة وقالوا: هى لحن ظاهر(3) ووجهتهم أن نائب الفاعل فيها جاء منصوباً وحقه الرفع. وهؤلاء ظنوا أن (قوماً) هو نائب الفاعل ، والواقع أنه محذوف وفى تقديره وجهان:
الأول: ليجزى الخير والشر قوما ، ورجحه العكبرى(4) والبيضاوى(5)
الثانى: أن يكون القائم مقام الفاعل هو المصدر ، والتقدير: ليجزى الجزاء قوما.
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر - ص394 ، وقال عن هذا الجواب هو أحسن الأجوبة.
(2) سورة الجاثية : 14
(3) نقله القرطبى - ص5982.
(4) إملاء ما من به الرحمن بهامش حاشية الجمل - 4/315.
(5) حاشية زاده على البيضاوى - 4/323 ومعها تفسير البيضاوى.(1/119)
والجزاء هنا هو ما يجزى به ، وهو فى الأصل مفعول ثان ليجزى ، قال زاده: المفعول الثانى للأفعال التى تتعدى إلى اثنين يجوز إقامته مقام الفاعل فنقول: أعطى درهمُ زيداً ، وجزى تتعدى إلى اثنين تقول جزيت فلاناً الخير ، فإذا بنيته للمفعول أقمت أيها شئت مقام الفاعل.(1)
وحاصل الرد على من يخطئون قراءة (نجى المؤمنين) وقراءة (ليجزى قوما) أن القراءتين متواترتان ، فلا يصح القدح فيها ، ولئن ادعى البصريون - إلا الأخفش - أنهما تخالفان قاعدة نحوية تقول بتعيين إقامة المفعول مقام الفاعل إذا وجد بعد الفعل المبنى لما لم يُسمَّ فاعله ، أو تقديمه على سواه من مصدر أو ظرف أو جار ومجرور ، فإننا نقول لهم:
كان الواجب عليكم أيها البصريون أن تصححوا قاعدتكم لتمضى مع هذا القرآن المتواتر ، وأن تمضوا مع الكوفيين فى هذا الشأن الذين مضوا مع ما قعده القرآن ولم يخالفوه ولم يجترؤا على ما اجترأتم عليه ، وقالوا: إذا وجد بعد الفعل الذى لم يسم فاعله مفعول وغيره جاز أن يقوم مقام الفاعل غير المفعول من مصدر أو غيره ، واستدلوا بهذه القراءة (ليجزى قوما).
وجاء فى الشعر العربى ما يؤيد ذلك كقول القائل:
لم يُعن بالعلياء إلا سيداً ... ولا شفى ذا الغى إلا ذو هدى
حيث ناب الجار والمجرور ، وهو قوله بالعلياء عن الفاعل مع وجود المفعول وهو: سيداً.
ومثله قول القائل:
وإنما يرضى المنيب ربه ... ما دام معنياً بذكر قَلْبَه
والشاهد: معنياً بذكر قَلْبَه ، حيث ناب الجار والمجرور ، وهو بذكر عن الفاعل ، مع وجود المفعول به فى الكلام وهو: قلبه ، بدليل أنه أتى به منصوباً(2)
__________
(1) المصدر السابق.
(2) أنظر: شرح ابن عقيل بتحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد - 2/121 وما بعدها.(1/120)
وبناءً على ما نقلناه من حاشية زاده قريباً ، تكون إقامة المصدر إقامة نائب الفاعل - فى القراءتين - ليس لاعتبار كونه مصدراً وإنما لكونه مفعولاً ثانياً ، ويكون قد تحقق ما عارض البصريون القراءتين لأجله ، يبين بذلك القصور الشديد الذى استحوذ على البصريين فى معارضة قراءتين متواترتين.
القاعدة الحاسمة للخلاف فى ذلك
نص القاعدة:
"القرآن الكريم هو الأصل الذى ينبغى أن تقعّد عليه اللغة ، وبه تضبط قواعد النحو ، فإذا ثبتت القراءة القرآنية لزم قبولها والمصير إليها ، ولا ترد بقياس عربية ولا فشو لغة"(1)
توضيح القاعدة:
__________
(1) راجع فى استخلاص هذه القاعدة النشر - 1/10 ، الإتقان - 1/77 ، قواعد التفسير - 1/94.(1/121)
هذه قاعدة هامة جداً تحمى حمى القراءات القرآنية الثابتة من طعن بعض المعربين من المفسرين وغيرهم ، إذ تقرر أن القرآن الكريم هو الصل الذى ينبغى أن يصار إليه ، وأن تقعّد عليه اللغة ، وتضبط به قواعد النحو ؛ لأن هذا القرآن هو المعجزة الكبرى لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل هذا القرآن عليه - صلى الله عليه وسلم - بقراءته الثابتة ، وهو فى مجابهة قوم هم أبلغ البلغاء ، وأفصح الفصحاء ، وهم قريش ومن أيدهم من العرب ، ومع ذلك لم يطعنوا فى القرآن من هذه الناحية التى اجترأ عليها من بُعد من خَدَمة القرآن والمدافعين عنه ، ظناً منهم أن هذه القراءات منشؤها اجتهاد القراء ، حيث غاب عنهم أن النقل مرجعها ، هذا سبب من أسباب جرأة المعترضين على هذه القراءات من جهة اللغة والإعراب ، وهناك سبب آخر أوقعهم أيضاً فى الخطأ الذى لا يغتفر ، وهو عدم إلمامهم الكامل بجميع أوجه العربية ، وقد لاحظت ذلك حين معالجة هذا الموضوع ، حيث بان لى أن كل ما اعترضوا عليه له فى العربية وجوه متعددة فى أكثر الأحيان وليس وجهاً واحداً مع أن المعروف أنه يكفى لإثبات القراءة وقبولها موافقتها للعربية ولو بوجه واحد مع توفر الشرطين الآخرين الذين سبق ذكرهما غير مرة.
ومن ثم فإنه لا يجوز مطلقاً الطعن فى قراءة ثابتة لأنها قرآن منزل من عند الله تعالى ، يحتج به ولا يحتج عليه ببيت من الشعر ، ولا بقاعدة نحوية هى من وضع البشر ، هناك ما يخالفها أيضاً من كلام البشر.
قال أبو عمرو الدانى:
أئمة القراء لا تعمل فى شئ من حروف القرآن على الأفشى فى اللغة ، والأقيس فى العربية ، بل على الأثبت فى الأثر ، والأصح فى النقل ، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة ؛ لأن القرآن سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها.(1)
شبهة واردة على ما قررته القاعدة
__________
(1) الإتقان - 1/77 ، قواعد التفسير - 1/95.(1/122)
قد بان لنا من خلال ما قررته القاعدة أن القراءة المتواترة لا يقدح فى قرآنيتها مخالفتها لقواعد النحو ، إذ الأصل أن تمضى القاعدة مع ما قعّده القرآن.
ومع ذلك فقد بان لنا من خلال الأمثلة والنماذج المطروحة أن ما زعموه من مخالفة هذه القراءات لقواعد نحوية ليس كذلك ، إذ لهذه القراءات وجوه فى العربية ، وأصول ترجع إليها ، وقد دعمنا هذه النتيجة بكلام العرب فى كل ما وجهنا به هذه القراءات المفترى عليها. والفضل فى ذلك يرجع إلى علمائنا الأفذاذ المخلصين لربهم ودينهم الذين ذادوا عن حياض القرآن كل فرية ودفعوا عنه كل شبهة.
لكن وردت بعض روايات مسندة إلى السيدة عائشة - رضى الله عنها - والى عثمان - رضى الله عنه - ، والى سعيد بن جبير ، تفيد هذه الروايات أن فى القرآن المتواتر الذى نتعبد الله به لحناً هو من تصرف كتاب الوحى ، ومع ذلك فقد تلقته الأمة بالقبول على ما فيه من لحن ظاهر باعتراف أفاضل الصحابة ، وهذه هى الآثار التى وردت فى ذلك:
1- أخرج أبو عبيد فى فضائل القرآن عن أبى معاوية عن هشام بن عروة عن ابيه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى ((إنّ هذان لساحران))(1) وعن قوله تعالى: ((والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة))(2) وعن قوله تعالى: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون))(3) فقالت: يا ابن أختى ، هذا عمل الكتاب أخطأوا فى الكتاب ا.هـ(4)
أى أن هذا الخطأ هو من عمل كتاب الوحى أثناء كتابة هذه الآيات ، جاء فى الإتقان للسيوطى: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.(5)
2- وأخرج أبو عبيد أيضاً عن عثمان - رضى الله عنه - أنه لما كتبت المصاحف عرضت عليه ، فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال: لا تغيروها ، فإن العرب ستغيرها - أو قال - ستعربها بألسنتها.
__________
(1) سورة طه: 63
(2) سورة النساء : 162
(3) سورة المائدة : 69
(4) الإتقان - 1/183
(5) نفس المرجع.(1/123)
3- وعن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ (والمقيمين الصلاة) ويقول: هو من لحن الكتاب.
الرد على الشبهة
نحن هنا أمام شبهة من وجهين:
أحدهما: آثار يجب نقدها والرد عليها وتوجيهها على فرض صحتها.
وثانيهما: كلمات من القرآن الكريم فى جمل ادعى أنها خالفت قواعد العربية فما وجهها؟
أولاً : فيما يتعلق بالآثار:
أ- بالنسبة للإسناد الأول الذى نقل عن طريق عائشة -رضى الله عنها -جاء فى الإتقان: إنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. وفى هذا الحكم نظر حيث إن أبا عبيد رواه عن أبى معاوية الضرير ، واسمه: محمد بن خازم التميمي.
وثق العلماء حديثه عن الأعمش ، فقال وكيع: ما أدركنا أحداً كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبى معاوية. وكذا قال ابن معين وغيره.
لكنهم عابوا أحاديثه عن غير الأعمش وقالوا: إنها مضطربة ، فقال ابن خراش: هو فى الأعمش ثقة وفى عيره فيه اضطراب.
وصرح الإمام أحمد بأن أحاديثه عن هشام بن عروة بالذات فيها اضطراب.
وقد اعتمد البخارى روايته عن الأعمش واحتج بها وأما روايته عن هشام بن عروة ، فلم يذكرها إلا فى المتابعات لا فى الأصول.(1)
وهذا يسقط الرواية من أساسها ، ويجعلها غير صالحة للاحتجاج ، فكيف القول بأنها على شرط الشيخين ؟!!
ب- وأما بالنسبة للأثرين الآخرين فقد قال السيوطى: هى مشكلة جداً. ثم أضاف : كيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون فى الكلام فضلاً عن القرآن وهم الفصحاء اللُّد؟ ثم كيف يظن بهم ثانياً فى القرآن الذى تلقوه من النبى -صلى الله عليه وسلم - كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه ؟
ثم كيف يظن بهم ثالثاً اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته ؟
ثم كيف يظن بهم رابعاً عدم تنبههم ورجوعهم عنه ؟
ثم كيف يظن بعثمان - رضى الله عنه - أنه ينهى عن تغييره ؟
ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ ، وهو مروى بالتواتر خلفاً عن سلف؟
__________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر - 9/137 وما بعدها ، هدى السارى - 2/192.(1/124)
هذا ما يستحيل عقلاً وشرعاً وعادةً.
ثم علق - أى السيوطى - على الرواية المنقولة عن عثمان -رضى الله عنه - بقوله: إن ذلك لا يصح عن عثمان ، فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع ، ولأن عثمان جعل - المصحف الذى جمعه - إماماً للناس يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟
فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟ ثم إن عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً ، ولكن كتب عدة مصاحف ، فإن قيل: إن اللحن وقع فيها جميعاً فبعيد اتفاقها على ذلك ، أو فى بعضها ، فهو اعتراف بصحة البعض. ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان فى مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف مختلفة قط إلا فيما هو من وجوه القراءة وليس ذلك بلحن.(1)
ج- هذه الروايات تخالف المتواتر عن عثمان -رضى الله عنه - فى نسخ المصاحف ، وجمع القرآن من الدقة والتحرى ونهاية التثبت ، بل يردها ما أخرجه أبو عبيد نفسه عن عبدالله بن هانئ البربرى مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلنى بكتف شاه إلى أبى بن كعب فيها (لم يتسن) وفيها (لا تبديل للخلق) وفيها (فأمهل الكافرين) قال: فدعا بالدواء فمحى أحد اللامين فكتب (لخلق الله)(2) ومحا فأمهل وكتب (فمهّل)(3) وكتب (لم يتسنه)(4) ألحق فيها الهاء.(5)
كيف يتفق ما جاء فى الرواية التى نقدناها ، مع هذه الرواية الثانية التى تصف عثمان - رضى الله عنه - بالدقة فى مراجعة ما كان يكتبه النساخ وتصحيح ما كانوا يخطئون فيه وأنه لم يترك هذه الأخطاء لتقيمها العرب كما تقول الرواية الواهية.
__________
(1) الإتقان - 1/184 نقلاً عن أبى عبيد.
(2) سورة الروم : 30
(3) سورة الطارق: 17
(4) سورة البقرة : 259
(5) الإتقان -1/184(1/125)
د - وعلى فرض صحة هذه الآثار ، فكلمة "لحن" فيها لا يقصد بها المعنى المعروف للحن وهو الخروج على قواعد النحو ، وإنما يعنى بها كما يقول العلماء: القراءة واللغة والوجه ، كما ورد عن عمر قوله: أبى اقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه - أى قراءته -.(1)
ويذكر السيوطى أن قول عثمان - إن صح - فإنما ينصرف إلى كلمات كتبت على هيئة مخصوصة ، ورسم معين يخالف النطق مثل (لا اذبحنه) فى سورة النمل (آية:21) ، ومثل (بأييد) فى سورة الذاريات (آية:47) فإنها كتبت بياءين.
يقول السيوطى: فلو قرئ ذلك بظاهر الخط لكان لحناً.(2) فهذا معنى قول عثمان - رضى الله عنه - إن به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها ، فهو أشبه بالتنبيه إلى ضرورة أن يؤخذ القرآن الكريم عن طريق التلقين والمشافهة ، بواسطة شيخ ، وألا يكون الاعتماد فقط على كتابة المصحف ، فإنه كتب على هيئة مخصوصة تخالف النطق فى أكثر الأحيان.
ثانياً: ما يتعلق بالآيات التى وردت فى الروايات وتوجيهها
الآية الأولى:
قال تعالى: ((إنّ هذان لساحران)) بتشديد نون "إنّ" وهى قراءة أهل المدينة والكوفة ، وهى قراءة سبعية متواترة عن الأئمة.(3)
وقال الطبرى: هى قراءة عامة الأمصار(4)
قال بعض النحاة فى - جراءة -: هذه القراءة خالفت القاعدة فى نصب "إن" ولا شك أن هذا من اللحن.
الرد عليهم:
يرد على القائلين بذلك بأن القراءة متواترة فلا يجوز ردها ولا تضعيفها بوجه من وجوه النحو لها فى غيره محمل ، فمن المقرر أن من ضوابط قبول القراءة موافقة اللغة العربية ولو بوجه ، ولا يشترط الموافقة من جميع الوجوه. وقد سبق تقرير ذلك.
وفيما يتعلق بهذه القراءة التى معنا وجهت بما يلى:
__________
(1) مناهل العرفان - 1/387 ، رسم المصحف - 135.
(2) الإتقان - 1/184.
(3) القرطبى - ص 4256.
(4) تفسير الطبرى - 16/136.(1/126)
1- قيل: إنها وافقت لغة بنى الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد ، فإن الألف عندهم تلزم المثنى رفعاً ، ونصباً وجراً ، فيقولون : جاء الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان.
وجاء فى الشعر:
وأن أباها وأبا أباها ... قد بلغا فى المجد غايتاها
وعلى القاعدة المعروفة : أبا أبيها ، وغايتيها.
وجاء أيضاً:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساقا لناباه الشجاع لصمما(1)
وهذا الوجه من أقوى الوجوه التى تحمل عليها القراءة.
2- وقيل: إن "إن" حرف جواب بمعنى نعم ، وعليه فما بعدها مبتدأ وخبر.(2)
وقد جاء فى الشعر العربى ما يفيد مجيئها بمعنى نعم. ومنه قول القائل:
بكر العواذل فى الصبو
ويقلن شيب قد علا ... ح يلمننى وألومهنه
ك وقد كبرت فقلت إنه
أى : قلت : نعم.
وقد تناقل المفسرون وجوهاً أخرى يمكن أن تحمل عليها هذه القراءة غير أنهم فى النهاية ، رجحوا حملها على الوجه الأول الذى سلف ذكره.
الآية الثانية:
قال تعالى: ((والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة)) وهو جزء آية من سورة النساء وهى قوله تعالى: ((لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً))(3)
والشاهد فى هذه الآية قوله : (والمقيمين الصلاة) حيث جاء منصوباً بين مرفوعين هما قوله (والمؤمنون) وقوله (والمؤتون الزكاة)
هكذا اعترض على هذه الآية فادعى أن فيها لحناً وخطأً نحوياً ، وإلا لتلقف المشركون هذا الخطأ لأنهم عرب خلص ، وهم يومئذٍ يتربصون بالقرآن بغية أن يجدوا فيه مغمزاً أو مطعناً ، ولكن ذلك لم يحدث فدل على أنه لا لحن فيه.
هذا وقد وجّه النصب فى (المقيمين الصلاة) بما يلى:
__________
(1) تفسير القرطبى - ص 4256 ، الطبرى - 16/136.
(2) إملاء ما من به الرحمن بهامش حاشية الجمل - 3/585.
(3) سورة النساء : 162.(1/127)
1- قيل: إن النصب فيه على المدح ، والناصب فعل مضمر تقديره أمدح ، أو أخص المقيمين الصلاة. والعلة بيان فضل الصلاة ومزيتها.
يقول أحد الباحثين: النصب على المدح أو العناية لا يأتى فى الكلام البليغ إلا لنكتة ، والنكتة هنا هى إظهار مزية الصلاة ، كما أن تغيير الإعراب فى كلمة بين أمثالها ، ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها ويهدى إلى التفكير لاستخراج مزيتها وهو من أركان البلاغة …… ونظيره فى النطق أن يغير المتكلم جرس صوته ، وكيفية أدائه للكلمة التى يريد تنبيه المخاطب لها كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها.(1)
2- وقيل: إن الياء فى (المقيمين) للخفض ، لا للنصب عطفاً على الضمير المجرور فى (منهم) أى لكن الراسخون فى العلم منهم ومن المقيمين. وقيل: بل عطفاً على الضمير المجرور فى (إليك) أى يؤمنون بما أنزل إليك والى المقيمين الصلاة وهم الأنبياء.(2) أو عطفاً على الكاف فى (قبلك) أى من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة وهم الأنبياء.(3)
والأرجح الأول ، وهو الذى اعتمده سيبويه حيث قال فى كتابه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم ومن ذلك "والمقيمين الصلاة" وأنشد شاهداً.
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم
الطاعنين ولما يطعنوا أحداً ... إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
والقائلون لمن دار تخليها
الآية الثالثة:
قال تعالى: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً …………))(4)
الشاهد قوله ( والصابئون ) حيث رفع فى مقام نصب لعطفه على اسم "إن" وهذا خطأ فى النحو عند من لم يفقهوا إلا أنه معطوف على اسم "إن" فكان ينبغى أن يأتى منصوباً ليواكب ما عطف عليه.
ونقول: اللفظ لا لحن فيه كما ادعوا ، ولكنهم عجزوا عن توجيه الرفع ، وتوجيهه سهل إذ له عدة أوجه هى:
__________
(1) إعراب القرآن وبيانه -2/378 ، تفسير المنار - 6/53.
(2) حاشية الجمل - 1/446.
(3) تأويل مشكل القرآن - ص53.
(4) سورة المائدة : 69(1/128)
1- أن يكون قوله ( الصابئون ) مرفوعاً بالابتداء ، والواو قبله للاستئناف ، والخبر محذوفاً ، والنية به التأخير عما فى حيّز (إن) من اسمها وخبرها.
كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكهم كذا والصابئون كذلك. وقد رجح ذلك سيبويه وأنشد له شاهداً:
ألا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا على شقاق
أى : فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.
وإذا كان (الصابئون ) النية به التأخير ، فلابد من حكمة تعلل تقديمه فى الذكر ، والعلة هنا التنبيه إلى أن الصابئين أشد إيغالاً فى الضلالة ، وعمقاً فى الغواية ، حيث لا عقيدة لهم ثابتة كالذين آمنوا وكأهل الكتاب ، ولكنهم - كما يذكر ابن القيم - يتخيرون من سائر ديانات العالم بعض شعائرها ، ويتركون البعض ولم يقيدوا أنفسهم بجملة دين معين وتفصيله.(1)
وهذا الوجه أقوى الوجوه ، وأرجح ما تحمل عليه الآية الشريفة.
2- وقيل: إن الواو عاطفة والصابئون معطوف على موضع اسم (إن) لأنه قبل دخول (إن) كان فى موضع رفع وهذا مذهب الكسائى والفراء.
3- وروى عن الكسائى أيضاً أنه مرفوع عطفاً على الضمير المرفوع فى قوله (هادوا).
4- وقيل: (إن) هنا بمعنى نعم ، أى حرف جواب وما بعده مرفوع بالابتداء ، وعليه فالصابئون معطوف على ما قبله.(2) والأرجح الأول كما سبق القول بذلك.
وبعد ، فهذه هى الآيات الثلاث التى وردت فى رواية عائشة - رضى الله عنه - ، وقد بان توجيهها وظهر لنا أن لها أكثر من وجه فى العربية ، فكيف يدعى بعد ذلك أن فيها أخطاء نحوية؟ وأختم هذا المبحث بكلام نفيس لابن الحاجب حول اجتراء النحاة على بعض القراءات وادعاء أن الصورة التى جاءت عليها غير جائزة من جهة العربية.
__________
(1) إغاثة اللهفان لابن القيم - 2/198.
(2) إعراب القرآن - 2/527.(1/129)
قال ابن الحاجب: والأولى الرد على النحويين فى منع الجواز ، فليس قولهم بحجة إلا عند الإجماع ، ومن القراء جماعة من أكابر النحويين ، فلا يكون إجماع النحويين حجة مع مخالفة القراء لهم ، ثم ولو قدر أن القراء ليس فيهم نحوى ، فإنهم ناقلون لهذه اللغة وهم مشاركون للنحويين فى نقل اللغة ، فلا يكون إجماع النحويين حجة دونهم ، وإذا ثبت ذلك كان المصير إلى قول القراء أولى ؛ لأنهم ناقلوها عمن ثبتت عصمته من الغلط فى مثله ؛ ولأن القراءة ثبتت متواترة ، وما نقله النحويون آحاد ، ثم لو سلم أنه ليس بمتواتر ، فالقراء أعدل وأكثر فكان الرجوع إليهم أولى. ا.هـ والله أعلم.(1)
المبحث السابع
اختلاف المفسرين حول ادعاء
التناقض بين السنة وبعض القراءات الثابتة
التناقض كما عرفه المناطقة هو:
اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب ، اختلافاً يلزم لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى. فيجب أن يكون المختلفان بالإيجاب والسلب مختفين اختلافاً تاماً.(2)
ومثال ذلك أن يقال: زيد إنسان ، زيد ليس بإنسان ، فالقضيتان مختلفتان بالإيجاب والسلب اختلافاً يقتضى أن تكون الأولى صادقة والأخرى كاذبة.
ونظير التناقض عند الأصوليين ما أسموه بالتعارض الذى عرفوه بأنه: تقابل الدليلين على وجه يقتضى كل منهما عدم مقتضى الآخر كلياً أو جزئياً على سبيل التمانع.(3) بل عرفه بعض الأصوليين بأنه التناقض ، وقالوا: إنه يشترط فيه ما يشترط فى التناقض.(4)
والتناقض والتعارض بهذا المعنى المذكور لا يمكن أن يكون موجوداً فى القرآن الكريم ولا فى قراءاته الثابتة ، ولا بين القرآن أو قراءاته الثابتة وبين السنة النبوية الشريفة لأنها أيضاً وحى ، قال تعالى: ((وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى))(5)
__________
(1) نقله الدمياطى فى إتحاف فضلاء البشر - ص39.
(2) كتاب العبارة لابن سينا - ص48.
(3) التعارض والترجيح - د./ صالح عوض - ص48.
(4) نفس المرجع - ص49.
(5) سورة النجم: 3، 4.(1/130)
وكل ما ادعى عليه أن فيه اختلافاً وتعارضاً وتناقضاً من آيات القرآن الكريم مردود عليه من العلماء بما يروى الغليل ويقطع أمام المغرضين كل سبيل.
ومن العلماء الذين اعتنوا بهذا الجانب أيما اعتناء ابن قتيبة الدينورى -رحمه الله - فى كتابه "تأويل مشكل القرآن" بل كان الرائد فى ذلك حبر الأمة ، وترجمان القرآن عبدالله بن عباس - رضى الله عنهما - الذى طالما دافع عن آيات القرآن وذب الشبهات عنها وكان يجيب عن كل ما يلقى عليه من آيات القرآن التى ادعى عليها التناقض ، وفى الإتقان(1) للسيوطى من ذلك كثير.
ومن هؤلاء أيضاً الإمام أحمد بن حنبل فى كتابه " الرد على الزنادقة" ، وفى العصر الحديث كتب الشيخ الشنقيطى كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" وإن أخذ عليه أنه أحياناً يفتعل هذه المشكلات وتلك التعارضات ليرد عليها. وقد أسهمت فى ذلك بجهد مقل فى كتابى : "إزالة الإلباس عن كلام رب الناس"(2)
وإذا كان مثيرو الشبه والمتربصون بالقرآن وأهله قد تتبعوا ذلك فى القرآن ، فإنهم لم يقفوا عند هذا الحد ، بل تتبعوه فى السنة كذلك وادعوا أن بين بعض الأحاديث تعارضاً وتناقضاً فانبرى لهم ابن قتيبة رحمه الله فى كتابه النفيس "تأويل مختلف الحديث" تماماً كما فى فعل فى "تأويل مشكل القرآن".
ثم بعد ذلك أكملوا دائرتهم بأن ادعوا أن بين القرآن والسنة تعارضاً وتناقضاً وضربوا لذلك أمثلة أسوق بعضها ثم أردفها بالرد عليها.
__________
(1) الإتقان - 2/27.
(2) طبع بمطبعة الأمانة عام 1996.(1/131)
1- قالوا: أخرج البخارى ومسلم بسنديهما عن عائشة - رضى الله عنها - " أن أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - حين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبى بكر ، فيسألنه ميراثهن من النبى - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة لهن : أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا نورث ما تركناه صدقة" اللفظ لمسلم(1)
قالوا هذا الحديث يتناقض مع قوله تعالى حكاية لقول زكريا عليه السلام: ((فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب))(2) ، قوله تعالى: ((وورث سليمان داود))(3)
حيث نفى الحديث أن الأنبياء يورثون ، بينما الآيات القرآنية المذكورة تثبت ذلك ، فهذا تعارض فى نظر من لا نظر له.
ويجاب عن ذلك بأن الأنبياء عليهم صلوات الله لا يورثون درهماً ولا ديناراً ولا عقاراً ، ولكنهم يورثون العلم والحكمة والأخلاق الكريمة ، والعبادة الخالصة.
فدعاء زكريا - عليه السلام - ربه أن يهبه ولداً يرثه ، يريد به أن يرث ما وهبه الله إياه من علم وحكمة ويرث النبوة ، ويدل له قوله (ويرث من آل يعقوب) أى النبوة.
وقوله تعالى : ( وورث سليمان داود ) أى ورث منه النبوة والملك.
قال ابن قتيبة:
وأما قوله: (وورث سليمان داود ) فإنه أراد وراثة الملك والنبوة والعلم وكلاهما كان نبياً ملكاً ، ولو كان أراد وراثة ماله ، ما كان فى الخبر فائدة ؛ لأن الناس يعلمون أن الأبناء يرثون الآباء فى أموالهم ، ولا يعلمون أن كل ابن يقوم مقام أبيه من العلم والملك والنبوة.(4)
2- وأوردوا من ذلك أيضاً أن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم : ((والله يعصمك من الناس))(5)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى - كتاب المغازى - 6/64 ، البخارى مع فتح البارى - كتاب الفرائض - 25/127.
(2) سورة مريم : 5 ، 6.
(3) سورة النمل : 16.
(4) تأويل مختلف الحديث - ص303.
(5) سورة المائدة: 67(1/132)
حتى روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد روى عنه أنه بعد نزول هذه الآية نظر إلى حراسه وأمرهم بالانصراف يقيناً بحماية الله له ، كيف ذلك والذى يقرأ سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى ما يفيد خلاف ذلك حيث فيها أنه شج يوم أحد.
فهذا تناقض بين القرآن وما جاءت به سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فكيف الجواب؟
أجيب عن هذا الإشكال بوجهين:
أحدهما: أن هذا كان قبل نزول آية المائدة ؛ لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاث من الهجرة ، وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة.
والثانى : بتقدير تسليم أن الآية قد نزلت قبل واقعة الشج ، فالمراد العصمة من القتل ، وفيه تنبيه على أنه يجب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء.(1)
وللتوسع فى ذلك يراجع كتاب إزالة الإلباس(2)
لكنى أعود فأنبه إلى أن الذود عن حياض القرآن والسنة قد قام به علماء الأمة خير قيام ، وهو ضرورة حتمية يجب أن تتواصل كلما دعا إلى ذلك داع.
وفيما يتعلق بمبحثنا هذا عن اختلاف المفسرين حول بعض القراءات القرآنية ودعوى التعارض بينها وبين ما جاء فى السنة النبوية الشريفة من تقرير لبعض الأحكام التى تتعلق بالعقيدة أو الشريعة.
أقول: فيما يتعلق بذلك أورد مثالاً لما ذهبوا إليه وهو قوله تعالى: ((واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام))(3)
حيث قرأ الجمهور بنصب " الأرحام " وقرأ حمزة بخفضها ، والاعتراض هنا على قراءة حمزة اعترض عليها من جهتين:
إحداهما: من جهة العربية أو النحو حيث قال البصريون ومن وافقهم إنها تخالف قواعد العربية التى قضت بعدم جواز عطف الظاهر على الضمير المجرور بدون إعادة حرف الجر ، وقد ناقشت ذلك فيما مضى فى المبحث السابق ، بما يغنى عن إعادة الكلام فيه.
والثانية: من جهة الدين
__________
(1) أنظر: البرهان للزركشى - 2/66
(2) إزالة الإلباس - ص 31 وما بعدها.
(3) سورة النساء: 1(1/133)
وذلك أنهم قالوا إن هذه القراءة تفيد جواز الحلف بغير الله لأن المعنى عليها:
اتقوا الله الذى يسأل بعضكم بعضاً به - على سبيل الحلف أو القسم - وبالأرحام كذلك. وهذا المعنى يصادم ما قررته السنة النبوية المطهرة من عدم جواز الحلف بغير الله تعالى فى غير ما حديث ومنه:
أ- قوله - صلى الله عليه وسلم : "لا تحلفوا بآبائكم"(1)
ب- قوله - صلى الله عليه وسلم - "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"(2)
الرد على هذا الزعم
القرآن والسنة كلاهما نبعا من منبع واحد ، فكلاهما وحى من الله ، وقد حدد الله عز وجل مهمة السنة وموقفها من القرآن بقوله تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون))(3)
وبمقتضى مهمة البيان هذه كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يوضح للصحابة ما يشكل عليهم فهمه من القرآن ، والأخبار فى ذلك كثيرة جداً.
وكان يطبق تطبيقاً عملياً الأوامر المجملة التى جاء بها القرآن وتحمل فى ثناياها تكاليف شرعية ، كالأمر بالصلاة ، والزكاة والصيام والحج ، دون أن يفصل القرآن ما يحتاج الناس إلى معرفته كى يقوموا بما أمرهم الله به كما ينبغى ، فكانت السنة هى الوسيلة التى قامت بهذه المهمة ، وبمجمل ما جاء فى القرآن والسنة من ذلك ، كانت النظرية والتطبيق. ويلحق بمهمة البيان كذلك تخصيص العام ، وتقييد المطلق ……وهلم جرا.
أعود فأقول: إذا كانت هذه نسبة السنة إلى القرآن - وهى نسبة الفرع من الأصل والبيان من المبين- فلا يمكن بحال من الأحوال أن يقع تعارض بينهما أبداً.
وقد يقال: إننا لم ندع أن السنة خالفت القرآن ولكن خالفت ما قرأ به حمزة.
__________
(1) أبو داود - كتاب الإيمان والنذور - باب فى كراهية الحلف بالآباء - 3/569.
(2) البخارى - كتاب الإيمان والنذور - باب لا تحلفوا بآبائكم.
(3) سورة النحل : 44(1/134)
فنجيب بأن ما قرأ به حمزة قرآن ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمزة لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، ولم ينشئها إنشاءً باجتهاده الخاص ، بل إنه لا يمثل إلا حلقة فى سلسلة امتدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتنقل هذه القراءة نقلاً متواتراً طبقة عن طبقة وجمعاً عن جمع تمنع العادة أن يتواطأوا على الكذب. فكيف بعد ذلك تصل الجرأة بهؤلاء إلى رد ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟!!
وهل لدعواهم التى أثاروها مجال فى الواقع؟ أو بتعبير آخر: هل بالفعل قراءة حمزة هذه تعارض الأحاديث النبوية المذكورة وما فى معناها مما لم نذكره؟
أقول: لو أن المعترضين تطوعوا بجهدهم وسخروه فى خدمة التوفيق بين القراءة المتواترة والأحاديث النبوية ، لكن أجدى لهم ولنا وأنفع ، وهو سهل ميسور لا يكلف كثير عناء ، ولا يحمل كبير مشقة ، كما سوف ترى الآن.
التوفيق بين القراءة والأحاديث النبوية
بالنظر إلى كل من قراءة حمزة "الأرحامِ" والأحاديث النبوية الواردة فى مقام النهى عن الحلف بغير الله يتبين لنا أنه لا تعارض مطلقاً بينهما يبرر رد القراءة وفيما يأتى أذكر بعض وجوه هذا التوفيق:
أ- لتوجيه قراءة حمزة وتخريج الخفض فيها وجوه مضى ذكرها فى المبحث السابق ومن ذلك أن "والأرحامِ" قد يكون مخفوضاً على القسم والمقسم هو الله تعالى ، وحينئذٍ فلا تعارض بين القراءة والسنة لأن محل النزاع فى حلف المخلوق بالأرحام وليس فى حلف الله تعالى بها ، إذ إن لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته ، وفى القرآن الكريم أدلة كثيرة على وقوع ذلك كإقسامه تعالى بالفجر والليل والشمس والعصر والضحى والتين ………..الخ
ويجوز أن يكون الخفض على تقدير ورب الأرحام وحينئذٍ فلا معارضة أيضاً بل هو التوافق بين ما أثبتته القراءة وأثبتته الأحاديث.
هذا كله على كون "الأرحامِ" مخفوضاً لا بالعطف على الضمير المجرور فى قوله "به" ولكن على ما قد عرفت.(1/135)
ب- وأما على كون "الأرحام" معطوفاً على الضمير المجرور قبله فتأويل السؤال بالرحم أنه على سبيل الاستعطاف وليس الاستحلاف. وهذه عادة كانت معروفة عند العرب أنهم كانوا يستدرون العطف والود من بعضهم بحق الرحم والقربى ، فيقول الواحد منهم للآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا أو لا تفعل كذا ، استعطافاً لا استحلافاً.
وبهذين الوجهين يندفع التعارض أو يتم التوفيق وقد قيل: الالتقاء فى وجه أولى من الرد من كل وجه وإعمال الدليلين أولى من إهمالهما ، أو إهمال أحدهما.
السبب فى الجرأة على رد القراءات
يرجع السبب فى ذلك من وجهة نظرى إلى أن هؤلاء - وأعنى الذين دأبوا على رد بعض القراءات الثابتة - يعتقدون أن مصدر القراءات الاجتهاد وليس النقل ، نفهم هذا من سياق كلامهم حين يقولون: هذه القراءة أجود من تلك ، أو فلان أفصح من فلان ، أو كان ينبغى عليه أن يقرأها هكذا ، ونحو ذلك من العبارات التى تنبئ عن معتقدهم فى القراءات وأنها اجتهادية ويفهم هذا بوضوح من اتجاه الزمخشرى فى الكشاف كما قد مضت الإشارة إلى ذلك فى المبحث السابق حيث ناقشت رده لقراءة ابن عامر: ((وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادهم شركائهم))(1) بجعل "زين" ماضياً للمجهول ورفع "قتل" نائباً عن الفاعل ونصب "أولادهم" على المفعولية ، وجر "شركائهم" بالإضافة إلى "قتل" وقد اعترض الزمخشرى على هذه القراءة بما قد عرفت. وقد ذكرت هناك ردود العلماء عليه ، خاصة ابن المنير ، وأبا حيان.
ومن المواضع التى كشف فيها الزمخشرى عن معتقده هذا فى القراءات ما جاء فى الكشاف عند تفسير قوله تعالى فى سورة الكهف: ((هنالك الولاية لله الحق))(2) حيث مدح الكشاف قراءة عمرو بن عبيد بنصب (الحق) وقال: هى قراءة حسنة فصيحة وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم ا.هـ
__________
(1) سورة الأنعام : 137.
(2) سورة الكهف: 44(1/136)
وقد تعقبه ابن المنير فى الانتصاف بما يكشف زيف اتجاهه هذا(1)
ومن المفسرين الذين نحوا هذا النحو فيما لاحظته ابن عطية صاحب المحرر الوجيز حيث صرح بذلك فى مقدمة كتابه ، وبان لى منهجه ذلك أثناء تعرضه للقراءات المعترض عليها حيث ينقل اعتراضات المعترضين ولا يعول على الرد عليها إشارة إلى أنه يرتضيها. وتحققت أكثر حين صرح برد بعض هذه القراءات. وأنقل لك جزءاً منها من مقدمة كتابه صرح فيه بأن قراءة الأئمة اجتهاد منهم ، قال ما نصه:
" ثم إن القراء فى الأمصار تتبعوا ما روى لهم من اختلافات لا سيما فيما وافق خط المصحف فقرأوا بذلك حسب اجتهاداتهم"(2) ولقد أشكلت واشتبهت على عبارة "تتبعوا ما روى لهم ……. " حيث تشعر بأنه يعتبر جانب النقل فى القراءات رغم أنه صرح فى نهاية العبارة بالاجتهادية ، لكنى تأكدت بعد ذلك بالرجوع إلى التفسير نفسه فوجدته يسوق أقوال المعترضين على هذه القراءات ولا يرد عليهم ، بل إنه رد قراءة حمزة (والأرحامِ) صراحة(3) وقراءة ابن عامر المشار إليها قريباً ، حيث قال بعد أن تعرض لذكرها: وهذه قراءة ضعيفة فى استعمال العرب.(4) وقال عن قراءة حمزة والكسائى (منِسكاً) بكسر السين (الحج:34) قال: قال أبو على: الفتح أولى ……. ثم قال: ويشبه أن الكسائى سمعه من العرب(5) ، قال السمين الحلبى معقباً: هذا الكلام منه غير مرض كيف يقول ويشبه أن يكون الكسائى سمعه ، والكسائى يقول: قرأت به فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات وهو روايته لذلك قرآناً متواتراً 00 ثم أخذ يرد على كلامه من جهة الصناعة.(6)
القاعدة الحاسمة فى ذلك
نص القاعدة:
__________
(1) أنظر: تفسير الكشاف ومعه الانتصاف - 2/486.
(2) أنظر: المحرر الوجيز - 1/48.
(3) المحرر الوجيز - 2/5.
(4) المحرر الوجيز - 2/350 ، وأنظره أيضاً فى 4/97.
(5) المحرر الوجيز- 4/121.
(6) الدر المصون - 5/148.(1/137)
"القراءة سنة متبعة فإذا ثبتت فلا يجوز ردها ولا يحل إنكارها"
توضيح القاعدة:
قولنا القراءة سنة متبعة يعنى معتمدها النقل الثابت الموصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض العلماء يكتفى فى ذلك بصحة السند مع موافقة اللغة العربية ولو بوجه وموافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وبعضهم لا يكتفى بذلك بل يشترط التواتر ، وقد مر فى ثنايا هذا البحث مناقشة ذلك.
وقولنا (فإذا ثبتت) يعنى بالنقل بشرطه المذكور سلفاً ( فلا يجوز ردها ولا يحل إنكارها) لأن من يرد ما ثبت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - من هذه القراءات فهو أثم قلبه ، كبير وزره ، فالرد على النبى -صلى الله عليه وسلم - مقامه فى الدين معلوم ، حيث هو مخرج عن الملة والعياذ بالله ، وأما من لا يعتقدون ولا يعلمون كون هذه القراءات منقولة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فنرجو الله لهم أن يعذرهم بهذه الشبهة ، كما قال ابن المنير عن الزمخشرى: ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين أعنى علم القراءة وعلم الأصول ، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين لخيف عليه الخروج من ربقة الدين وإنه على هذا العذر لفى عهدة خطرة وزلة منكرة.(1)
أدلة القاعدة:
أولاً : القرآن الكريم
أ- قال تعالى : ((وما جعل عليكم فى الدين من حرج))(2)
وجه الدلالة:
هذه الآية تفيد بأن الله تعالى قد رفع الحرج والمشقة ونفاهما عن الأمة بما شرعه لهم من يسير الأحكام والرخص ، والشريعة شاهدة على ذلك بما حملته من تطبيق لما قررته الآية. وإن مقتضى هذا التيسير ورفع الحرج أن تكون هناك قراءات تواكب اللهجات المختلفة للعرب.
ب- قال تعالى: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))(3) ، وقال سبحانه: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر))(4)
__________
(1) الانتصاف بذيل الكشاف - 2/53.
(2) سورة الحج : 78
(3) سورة الحجر : 9
(4) سورة القمر: 17(1/138)
فى هاتين الآيتين بيان بأن الله تعالى الذى أنزل القرآن هو الذى تكفل بحفظه من الزيادة والنقصان ، ولو كانت القراءات الثابتة من غير القرآن لما بقيت إلى يومنا هذا محفوظة (1) ومن مقتضى ذلك أيضاً أن تكون هذه القراءات توقيفية ؛ لأن ما ضمن الله عز وجل حفظه هو التوقيفى ، إذ لا خلاف فى كون القرآن توقيفياً.
وإن مقتضى تيسير القرآن للذكر كذلك الذى جاء فى آية (ولقد يسرنا القرآن للذكر ) من مقتضى ذلك تيسير النطق به لسائر القبائل العربية فيما لا يستطيعون تطويع ألسنتهم على النطق به من كلمات القرآن ، لكن فى إطار ما أنزله الله وسمح بالقراءة به ، وبذلك يتحقق التيسير.
ثانياً : السنة النبوية:
أ- قول النبى - صلى الله عليه وسلم - للمختلفين فى القراءة - فى حديث نزل القرآن على سبعة أحرف- : "هكذا أنزلت"
وهذا واضح الدلالة على المقصود. أو "هكذا أقرأنى رسول الله"
ب- فى مستدرك الحاكم هن ابن عباس - رضى الله عنه - قال : قرأت على أبىّ ((واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون))(2) قال أبى: أقرأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يجزى) و (لا يقبل) بالياء فقرئت الآية بالياء والتاء فيهما (لا يجزى ) و (لا يقبل ) وهى رواية واضحة الدلالة كذلك على المقصود. والروايات فى ذلك كثيرة.
ثالثاً: المصاحف
المصاحف العثمانية حفظت لنا الكثير من هذه القراءات التى احتملها رسمها إذا وضعنا فى اعتبارنا أن هذه المصاحف كتبت مجردة من النقط والشكل مثل ( فتبينوا ) هكذا بدون نقط ولا شكل ، فإنها تقرأ "فتبينوا" وتقرأ "فتثبتوا"
رابعاً: الإسناد
والإسناد من خصائص الأمة الإسلامية ، فالنقل عن الثقة تلو الثقة هو أمر اعتمدت عليه الرواية الإسلامية سواء فيما يتصل بالقرآن الكريم وقراءاته أو بالحديث النبوى.
__________
(1) أثر القراءات فى الفقه الإسلامى - ص118.
(2) سورة البقرة : 123(1/139)
ومن ثم فإن السابقين ما كانوا يقبلون قراءة أحد من القراء إلا إذا ثبت أخذه عمن فوقه بطريقة المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابى الذى أخذ القراءة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
جاء فى البرهان للزركشى: وهذا التسلسل فى أسانيد القراء هو الذى سوغ للعلماء أن يصفوا القراءات بأنها توقيفية.(1)
خامساً: الإجماع
حيث نقل الكثيرون من العلماء الإجماع على توقيفية القراءات ، قال الزركشى: وقد انعقد الإجماع على صحة قراءة القراء العشرة وأن هذه القراءة سنة متبعة لا مجال للاجتهاد فيها.(2) ونقله أيضاً صاحب تنوير الأذهان.(3)
أقوال العلماء فى اعتماد القاعدة
1- قال ابن الجزرى: كل ما صح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - من القراءات فقد وجب قبوله ، ولم يسع أحداً من الأمة رده ، ولزم الإيمان به وأن كله منزل من عند الله.(4)
2- وقال أبو عمرو الدانى: القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها.(5)
3- وقال النحاس: الديانة تحظر الطعن على القراءة التى قرأ بها الجماعة ، ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبى - صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: السلامة عند أهل الدين أنه إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال: إحداهما أجود لأنها جميعاً عن النبى - صلى الله عليه وسلم.(6)
4- وقال القرطبى: القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم ، فمن رد ذلك ، فقد رد على النبى - صلى الله عليه وسلم - واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور.(7)
__________
(1) البرهان - 1/321.
(2) البرهان - 1/322.
(3) أنظر: تنوير الأذهان - ص24 ، نقلاً عن أثر القراءات فى الفقه - ص128.
(4) مقدمة محاسن التأويل - 1/310.
(5) مقدمة محاسن التأويل - 1/312 ، الإتقان - 1/77.
(6) أنظر: الإتقان - 1/85 ، قواعد التفسير - 1/98.
(7) القرطبى - ص 1574.(1/140)
5- وقال الفخر الرازى فى دفاعه عن قراءة حمزة (والأرحامِ) قال : حمزة أحد القراء السبعة ، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يوجب القطع بصحة هذه القراءة.(1)
6- قال الزركشى: إن القراءة سنة مروية عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا تجوز القراءة بغير ما روى عنه صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: وقد انعقد الإجماع على صحة قراءة القراء العشرة وأن هذه القراءة سنة متبعة لا مجال للاجتهاد فيها.(2)
معنى إضافة القراءة إلى من قرأ بها
قد يدعى بعد ذلك مدع بأن ما يؤيد كون القراءات اجتهادية هو نسبة هذه القراءات إلى أفراد. وتعقيباً على ذلك أقول:
ينبغى أن نفهم أن القراءات ليست منحصرة فيمن نسبت إليهم أو أضيفت ، بل إن من تحملوها أكثر من أن يحصوا عدداً ، فلقد كان يتلقى القرآن الكريم وقراءاته الجم الغفير من أهل البلد الواحد ، فكيف يستطاع إحصاء هؤلاء جميعاً فى سائر الأقطار الإسلامية ؟ إنه أمر غير مستطاع.
وأما إذا أضيفت القراءات إلى أفراد معينين فلأنهم كانوا أضبط من غيرهم فيما رووه واختاروه من قراءات.
قال ابن الجزرى: نعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما من حيث كان اضبط له وأكثر قراءة وإقراءً به وملازمة له وميلاً إليه ، لا غير ذلك.
وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به ، فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به ، وقصد فيه وأخذه عنه فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء ، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم ، لا إضافة اختراع ورأى واجتهاد.(3)
أهم المراجع
القرآن الكريم - جل من أنزله.
__________
(1) تفسير الفخر الرازى - 9/163.
(2) البرهان - 1/322.
(3) نقله القاسمى فى مقدمة محاسن التأويل - 1/312.(1/141)
إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر للبنا الدمياطى - دار الكتب العلمية.
الإتقان فى علوم القرآن - جلال الدين السيوطى - دار الفكر.
أثر القراءات فى الفقه الإسلامى - د/ صبرى عبدالقوى - أضواء السلف.
أحكام القرآن لابن عربى - دار الكتب العلمية.
إرشاد الفحول للشوكانى - دار الكتب العلمية.
إزالة الإلباس عن كلام رب الناس - د/ أحمد سعد الخطيب - ط الأمانة.
الإسرائيليات فى التفسير وتأثيرها على مفهوم عصمة الأنبياء والملائكة - د/ أحمد سعد الخطيب - دار الطباعة المحمدية.
الإسرائليات والموضوعات فى كتب التفسير - د/ محمد أبو شهبة - مكتبة السنة.
أصول التفسير - خالد عبدالرحمن العك - مكتبة الفارابى.
أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن - محمد الشنقيطى - دار الكتب العلمية.
إعراب القرآن الكريم وبيانه - محيى الدين الدرويش - دار ابن كثير.
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - ابن قيم الجوزية - دار التراث العربى.
إملاء ما من به الرحمن - للعكبرى - مع حاشية الجمل - ط عيسى الحلبى.
البحث والاستقراء فى تراجم القراء - محمد صادق قمحاوى - ط الكليات الأزهرية.
البحر المحيط لأبى حيان - مكتبة النصر الحديثة.
البرهان فى علوم القرآن - بدر الدين الزركشى - دار التراث.
تأويل مختلف الحديث - ابن قتيبة - دار الجيل.
تأويل مشكل القرآن - ابن قتيبة - دار الجيل.
التحبير فى علوم التفسير - جلال الدين السيوطى - دار الفكر.
التسهيل لعلوم التنزيل - ابن جزى الكلبى - دار الكتب العلمية.
التعارض والترجيح- د/ صالح عوض - دار الطباعة المحمدية.
التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية - عبداللطيف البرزنجى - دار الكتب العلمية
تفسير التحرير والتنوير - محمد الطاهر بن عاشور - الدار التونسية.
تفسير القرآن الحكيم "المنار" - محمد رشيد رضا - الهيئة العامة للكتاب.
تفسير القرآن العظيم - الحافظ بن كثير - المكتب الثقافى.(1/142)
التفسير والمفسرون - د/ محمد حسين الذهبى - مكتبة وهبة.
تلخيص الحبير - ابن حجر العسقلانى.
تنبيه الغافلين - للصفاقسى - مكتبة الثقافة الحديثة.
تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى - دار الكتاب الإسلامى.
التيسير فى قواعد التفسير للكافيجى - تحقيق د/ مصطفى الذهبى - مكتبة القدس.
جامع البيان فى تاويل القرآن - ابن جرير الطبرى - دار الريان.
الجامع لأحكام القرآن - القرطبى - ط الشعب.
جمال القراء وكمال الإقراء - علم الدين السخاوى - مكتبة التراث مكة المكرمة.
جواهر البيان فى علوم القرآن - د/ محمد العسال - مطابع سعيد بدمنهور.
حاشية الجمل على الجلالين - أبو سليمان الجمل - عيسى الحلبى.
حاشية زاده على البيضاوى - محيى الدين زاده - دار التراث العربى.
الحجة فى القراءات السبع - ابن خالويه - دار الكتب العلمية.
دراسات فى علوم القرآن - د/ محمد بكر إسماعيل - دار المنار.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون - السمين الحلبى - دار الكتب العلمية.
الدر المنثور فى التفسير المأثور - جلال الدين السيوطى - دار الكتب العلمية.
زاد المسير فى علم التفسير - أبو الفرج ابن الجوزى - دار الكتب العلمية.
شرح ابن عقيل ومعه تحقيق محيى الدين عبدالحميد - دار التراث.
صحيح البخارى - ابو عبدالله البخارى - مكتبة القاهرة مع فتح البارى.
صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج - ط دار الغد العربى مع شرح النووى.
العبارة - ابن سينا - الهيئة العامة للكتاب.
غاية النهاية - ابن الجزرى - مكتبة الخانجى.
فتح البارى - ابن حجر العسقلانى - مكتبة القاهرة.
فتح القدير - الشوكانى - المكتبة العصرية.
قصص الأنبياء - عبدالوهاب النجار - دار التراث.
قواعد الترجيح عند المفسرين - د/ حسين الحربى - دار القاسم.
قواعد التفسير - خالد بن عثمان السبت - دار ابن عفان.
الكشاف للزمخشرى ومعه الانتصاف لابن المنير - ط فيصل الحلبى.(1/143)
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها لمكى بن أبى طالب - مؤسسة الرسالة.
محاسن التأويل - جمال الدين القاسمى - دار الفكر.
المحتسب فى تبيين شواذ القراءات لأبى الفتح ابن جنى - دار الكتب العلمية.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز - ابن عطية - دار الكتب العلمية.
مختصر فى شواذ القرآن - ابن خالويه - مكتبة المتنبى.
المستصفى فى علوم الأصول للغزالى - دار الكتب العلمية.
معترك الأقران فى إعجاز القرآن - جلال الدين السيوطى - دار الكتب العلمية.
المعجزة الكبرى - الشيخ محمد أبو زهرة - دار الفكر العربى.
مفاتيح الغيب - فخر الدين الرازى - دار الغد العربى.
مقدمة فى أصول التفسير - ابن تيمية - مكتبة التراث الإسلامى.
مناهل العرفان - عبدالعظيم الزرقانى - الحلبى.
منهج الفرقان - الشيخ محمد على سلامة - وزارة الأوقاف.
المهذب فى القراءت العشر - د/ محمد سالم محيسن - مكتبة الكليات الأزهرية.
الموافقات فى أصول الفقه - الشاطبى - دار إحياء الكتب العربية.
النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى - دار الكتب العلمية.
نواسخ القرآن لأبى الفرج ابن الجوزى - دار الكتب العلمية.
هدى السارى مقدمة فتح البارى - مكتبة القاهرة.
يوسف عليه السلام - أحمد عز الدين - ط السعادة.
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
افتتاحية
………………………………………………… ... 1
المبحث الأول: اختلاف القراءات أسبابه وأنواعه وفوائده ودرء الشبهات عنه ... 4
تعريف القراءات
…………………………………… ... 4
نشأة القراءات ……………………………………… ... 4
ما سبب اختلاف القراءات ؟
…………………………… ... 5
المراد بالأحرف السبعة
……………………………….. ... 6
النسبة بين الأحرف السبعة والقراءات السبع
………………… ... 8
أقسام القراءات ……………………………………. ... 9
أوجه الاختلاف بين القراءات الثابتة
…………………….. ... 11
فوائد اختلاف القراءات
……………………………… ... 12
درء الشبهات المثارة حول اختلاف القراءات
………………… ... 14(1/144)
المبحث الثانى: التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم ... 17
أولاً: القراء العشرة ورواتهم
………………………………….. ... 17
القراء السبعة
……………………………………… ... 17
القراء الثلاثة المتممون للعشر
……………………………. ... 23
السبب الداعى إلى الاقتصار على القراء المشهورين
……………… ... 25
ثانياً: القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر
…………………………… ... 25
حكم ما وراء القراءات العشر
……………………………. ... 26
المبحث الثالث: أسباب الخلاف بين المفسرين وكون اختلاف القراءات واحداً منها ... 28
من أسباب الخلاف بين المفسرين فى نظر ابن تيمية
……………. ... 28
أسباب الخلاف بين المفسرين فى حصر ابن جزىّ
…………….. ... 30
أمثلة تقرب مفاهيم هذه الأسباب
………………………… ... 30
كون اختلاف القراءات من أسباب الخلاف بين المفسرين
………… ... 38
ما يؤثر على التفسير من القراءات
………………………… ... 39
الاختلاف بين القراءات الثابتة اختلاف تلازم
………………… ... 42
هل اختلاف القراء من قبيل اختلاف الفقهاء ؟
……………….. ... 44
النسبة بين القراءات والقرآن
…………………………… ... 44
صور من اختلاف المفسرين لا يعتد بها فى الخلاف
……………. ... 45
المبحث الرابع: من صور اختلاف المفسرين بسبب القراءات وضوابط الخروج منه ... 58
الصورة الأولى: الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة
……………….. ... 58
تصوير الخلاف بين المفسرين فى هذه الصورة
………………… ... 58
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الخلاف
…………………… ... 58
نص القاعدة
…………………………………… ... 58
توضيح القاعدة
…………………………………….. ... 58
أمثلة تطبيقية مشتملة على اعتماد العلماء للقاعدة ……………… ... 59
الصورة الثانية: الخلاف بين قراءتين متواترتين …………………….. ... 62
تصوير الخلاف بين أقوال المفسرين فى هذه الصورة ……………. ... 62
القاعدة الحاسمة للخلاف بين أقوال المفسرين فى هذه الصورة ……… ... 62
نص القاعدة ………………………………………. ... 62
توضيح القاعدة …………………………………….. ... 62(1/145)
أقوال العلماء فى اعتماد القاعدة …………………………. ... 63
أمثلة تطبيقية للقاعدة ………………………………… ... 65
الصورة الثالثة: الخلاف حول الاحتجاج بالقراءة الشاذة واثره فى اختلاف المفسرين ... 67
معنى القراءة الشاذة …………………………………. ... 67
هل يحتج بالقراءة الشاذة؟ …………………………….. ... 67
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الخلاف ………………….. ... 68
نص القاعدة ………………… ... 68
توضيح القاعدة ……………………………………. ... 68
مثال تطبيقى ……………………………………… ... 68
الصورة الرابعة : الخلاف حول اشتراط التواتر فى قبول القراءة أو عدمه وكذلك فى محلها وترتيبها ……………………………… ... 69
أقوال العلماء فى هذه المسالة …………………………… ... 70
هل البسملة فى بداية كل سورة آية منها أم لا ؟ ……………… ... 70
تصوير الخلاف فى هذه المسألة …………………………. ... 70
خلاف الفقهاء حول اعتبارها آية أو عدم اعتبارها ……………… ... 71
مناقشة أدلة الفريقين ………………………………… ... 73
القاعدة الحاسمة للخروج من هذا الخلاف …………………… ... 74
نص القاعدة ………………………………………. ... 74
توضيح القاعدة …………………………………….. ... 74
شبهة على القاعدة وردها ………………………………. ... 76
المبحث الخامس: أثر اختلاف القراء فى مواضع الوقف والابتداء على اختلاف التفسير ... 78
تعريف الوقف والابتداء ………………………………. ... 78
من الآثار الدالة على وجوب معرفة الوقف والابتداء ……………… ... 79
مقدار الوقف ………………………………………. ... 81
مذاهب القراء فيما يعتبر فى تحديد مواضع الوقف والابتداء……….. ... 81
أقسام الوقف ………………………………………. ... 82
الابتداء ومراتبه …………………………………….. ... 87
ما يشترط فيمن يقوم بتحديد مواضع الوقف والابتداء ……………. ... 89
أمثلة تطبيقية تؤكد مدى ارتباط كل من التفسير والوقف بالآخر غير ما ذكر ... 92
ضوابط للوقف والابتداء يجب مراعاتها وإلا أخل القارئ بالمعنى والتفسير ... 102(1/146)
المبحث السادس: اختلاف المفسرين والنحويين حول ادعاء مخالفة بعض القراءات الثابتة لبعض قواعد النحو ... 106
مما أوردوه فى هذا المقام والرد عليه ………………………. ... 106
القاعدة الحاسمة للخلاف فى ذلك ………………………. ... 115
نص القاعدة ……………………………………… ... 115
توضيح القاعدة ……………………………………. ... 115
شبهة واردة على ما قررته القاعدة ……………………….. ... 116
الرد على الشبهة …………………………………… ... 117
المبحث السابع: اختلاف المفسرين حول ادعاء التناقض بين السنة وبعض القراءات الثابتة ... 124
أمثلة مما أوردوه فى ذلك والرد عليهم ……………………… ... 125
السبب فى الجرأة على رد القراءات ………………………. ... 130
القاعدة الحاسمة فى ذلك ……………………………… ... 132
نص القاعدة ………………………………………. ... 132
توضيح القاعدة ……………………………………. ... 132
أدلة القاعدة ……………………………………… ... 132
أقوال العلماء فى اعتماد القاعدة …………………………. ... 134
معنى إضافة القراءة إلى من قرأ بها ……………………….. ... 135
أهم المراجع ………………………………………. ... 137(1/147)