المدخل إلى مناهج المفسِّرين
( د. حسب الرّسول العباس محمد (1) ()
المنهج في اللُّغة: "هو الطريق الموصل إلى غاية من الغايات، سواء أكان هذا الطريق مكاناً أم وسيلة لتحقيق فكرة معيّنة أو هدف معيّن، وسواء أكانت هذه الغاية مفيدة أم ضارة صواباً أم خطأ" (2) .
وقد وردت كلمة "المنهج" في القرآن الكريم، قال تعالى [المائدة: 48].
أمَّا المنهج في الاصطلاح: فهو "أداة التربية ووسيلتها، وهو ذلك الطريق الواضح الذي يسلكه المربي أو المدرس مع مَنْ يربيهم لتنمية معارفهم، ومهاراتهم، واتجاهاتهم، أو هو مجموع الخبرات التربويّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والرياضيّة، والفنيّة، التي يهيئها المدرس لتلاميذه داخل المدرسة وخارجها بقصد مساعدتهم على النّمو الشامل في جميع النواحي وتعديل سلوكهم طبقاً لأهدافها التربويّة" (3) .
وانطلاقاً من هذا المفهوم الشامل للمنهج الدراسيّ المعاصر؛ فإنَّ للمنهج أربعة أركان رئيسية:
أولها: الأهداف التربويّة.
ثانيها: المادة العلميّة الشاملة للمعارف، وأوجه النشاط والخبرات التي تتكوّن منها مادة المنهج.
ثالثها: طُرق وأساليب التدريس المتبعة مع التلاميذ لدفعهم إلى التعلُّم وتحقيق أهدافه المرسومة.
رابعها: طُرق التقويم والقياس (4) .
__________
(1) (() توفى ـ رحمه الله تعالى ـ منذ مدة.
(2) مناهج الدّراسات الإسلاميّة: د. عابدين توفيق، 1/31.
(3) فلسفة التّربية: د. الدمرداش ود. منير، 1/301.
(4) مناهج الدّراسات الإسلامية: د. عابدين توفيق، 1/32.(1/1)
أمَّا المنهج الإسلاميّ فإنَّه يعرف بأنَّه قانون الحياة الذي أنزله الله سبحانه إلى الجنس الإنسانيّ ليحكّموه في حياتهم وشؤونهم المختلفة، وهو منهج يتجاوب مع الفطرة الإنسانيّة التي فطر الله تعالى الناس عليها، والله أعلم بها؛ لأنَّه خالقها، قال تعالى [الملك: 14]. ذلك أنَّ الخالق أعلم بتصميم منهاج الحياة من الإنسان الذي يجهل طبيعة نفسه وطبيعة عقله، قال تعالى [الكهف: 51].
إنَّ الإنسان يعلم ما يبدو له من ظاهر الحياة الدنيا، قال تعالى [الروم: 7].
ومن هنا؛ فإنَّ الإطار العام لهذا المنهج التربويّ الربانيّ المُنْزَل في جميع الأديان متفق في تجاوبه مع الفطرة الإنسانيّة الكامنة في كل إنسان؛ لأنَّ الناس جميعاً صفتهم الفطرة مشتركة عقلاً، ونفساً، وروحاً، وقلباً، وجسماً، فهو منهاج متكامل للإنسان في هذه المجالات الخمسة، قال تعالى [الروم: 30].
وبناءً على ما تقدّم؛ فإنَّا نقصد بـ "مناهج المفسّرين": "الطُرق التي يتبعها المفسِّرون في تفسير كتاب الله تعالى". ذلك أنَّ منهم الذي يعتمد على الرواية، ومنهم مَنْ يعتمد على الدّراية، ومنهم مَنْ يجمع بين الرواية والدّراية، ومنهم مَنْ يعتمد على الفهم الشَّخصيّ والمجال الذي تخصَّص فيه.
ومن هنا برزت عدّة مسمّيات، منها: "التَّفسير بالمأثور"، "التَّفسير الموضوعيّ"، "التَّفسير الصوفيّ الإشاريّ"، "التَّفسير الصوفيّ النَّظريّ"، "التفسير العلميّ"، و"التَّفسير البدعيّ" الذي يؤول كلام الله ويحمّله معاني فاسدة وبعيدة عن النَّص القرآنيّ الكريم.
كل هذه الطُرق تدخل تحت كلمة "مناهج"، وسيأتي تفصيلها مصحوبة بالأمثلة، والتَّوضيح، والبيان ـ إنْ شاء الله تعالى ـ.
معنى التَّفسير:
التَّفسير في اللُّغة: مأخوذ من الفَسْر، بمعنى: الإبانة، والكشف، وإظهار المعنى، يقال: فسر الشيء يفسر ـ بالكسر والضم ـ فسراً إذا أبانه وكشف غطاءه، ومنه قوله تعالى [الفرقان: 33].(1/2)
وقيل: هو مقلوب من سفر، ومعناه أيضاً الكشف، يقال: أسفرت المرأة سفوراً: إذا ألقت خمارها عن وجهها.
وفي عُرف الشَّرع: هو "علم يُعرف به كتاب الله المُنْزَل على نبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمِه".
معنى التأويل:
التَّأويل في اللُّغة: مأخوذ من الأَوْل، وهو الرّجوع إلى الأصل، يقال: آل إليه أولاً ومآلاً بمعنى رجع.
وفي عرف الشَّرع: له معنيان:
الأول: يأتي بمعنى المجيء، ومنه قوله تعالى [الأعراف: 52-53]. فتأويله هنا بمعنى مجيئه.
والثاني: ويأتي بمعنى التَّفسير، وهو ما يعنيه ابن جرير الطّبريّ حين يقول في تفسيره: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا.
الفرق بين التَّفسير والتَّأويل:
اختلف العلماء في بيان الفرق بين التَّفسير والتَّأويل، وفي تحديد النّسبة بينهما اختلافاً نتجت عنه أقوال كثيرة لا طائل من ذكرها، والذي تميل إليه النّفس من هذه الأقوال هو أنَّ التَّفسير ما كان راجعاً إلى الرّواية، والتَّأويل ما كان راجعاً إلى الدّراية؛ وذلك لأنَّ التَّفسير معناه الكشف والبيان، والكشف عن مراد الله لا نجزم به إلاَّ إذا ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.
أمَّا التَّأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللَّفظ بالدّليل والتَّرجيح على الاجتهاد ويتوصّل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب واستعمالها بحسب السّياق، ومعرفة الأساليب العربيّة، واستنباط المعاني من كلّ ذلك.(1/3)
وعليه؛ فإنَّ ما وقع مبيّناً في كتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قيل عنه "تفسير"، وما استنبطه العلماء عن طريق الاجتهاد قيل عنه "تأويل"، ومن هنا جاء قولهم: "التَّفسير ما تعلّق بالرّواية، والتَّأويل ما تعلّق بالدّراية.
التَّفسير في عهد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه:
معلوم أنَّ الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بحفظ القرآن وبيانه، قال تعالى
[القيامة: 17-19].
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يفهم القرآن جملة وتفصيلاً، وكان عليه أنْ يبيّنه لأصحابه، قال تعالى [النحل: 44].
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون القرآن؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وكانوا يتفاوتون في هذا الفهم، فقد يغيب على واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر.
أخرج أبو عبيد عن طريق مجاهد وابن عباس قال: "كنت لا أدري ما
، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعتمدون في تفسير القرآن على أمور ثلاثة:
أولاً: القرآن، فإنَّ ما جاء من القرآن مجملاً في موضع جاء مبيّناً في موضع آخر، فقد تأتي الآية مطلقة أو عامة ثم ينزل ما يقيّدها أو يخصصها، وهذا الذي يُسمَّى "تفسير القرآن بالقرآن"، فقوله تعالى [المائدة: 1]، فسّرتها آية
[المائدة: 3]، وقوله تعالى [الأنعام: 103]، فسّرتها آية [القيامة: 23].
ثانياً: كان الصحابة يرجعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أشكل عليهم، كقوله تعالى [الأنعام: 82]، قالوا: يا رسول الله وأيُّنا لا يظلم نفسه، قال: (إنَّه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: [لقمان: 13]، إنَّما هو الشرك) (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، برقم 3408، 7/443.(1/4)
ثالثاً: الفهم، فقد كان الصحابة إنْ لم يجدوا التَّفسير في كتاب الله ولا سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهدوا في الفهم، فإنَّهم من خلص العرب، يعرفون العربيّة ويحسنون فهمها، ويعرفون وجوه البلاغة فيها.
وقد اشتهر بالتَّفسير من الصحابة جماعة، منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعائشة، على تفاوت بينهم قلّة وكثرة.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ تفسير الصحابيّ له حكم المرفوع إذا كان يرجع إلى أسباب النّزول، ومن هذا القبيل كلّ ما ليس للرّأْي فيه مجال.
ولم يدوّن شيء من التَّفسير في هذا العصر؛ لأنَّ التَّدوين لم يكن إلاَّ في القرن الثّاني.
التَّفسير في عهد التَّابعين:
اشتهر بالتَّفسير بعض أعلام التابعين، وكانوا يعتمدون على المصادر التي جاءتهم من العصر السابق، بالإضافة إلى ما كان لهم من اجتهاد وفطرة. ففي مكة نشأت مدرسة ابن عباس، واشتهر من تلاميذه سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليمانيّ، وعطاء بن أبي رباح. فقد كانوا يجلسون إلى ابن عباس ليوضّح لهم ما أشكل من معاني التَّفسير، وهم يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
وفي المدينة نشأت مدرسة أُبيّ بن كعب، ومن تلاميذه زيد بن أسلم،
وأبو العالية، ومحمد بن كعب، وغيرهم.
وفي العراق نشأت مدرسة ابن مسعود التي يعدّها العلماء نواة لمدرسة أهل الرّأْي. ومن التابعين الذين عُرفوا بالتَّفسير في العراق علقمة بن قيس، ومسروق الأجدع، والأسود بن يزيد، والحسن البصريّ، ومرة الهمدانيّ،
وعامر الشعبيّ، وقتادة بن دعامة الدّوسيّ.
هذا وقد اختلف العلماء فيما أُثر عن التابعين من التَّفسير بين مؤيّد ومعارض، وذهب أكثر المفسِّرين على أنَّه يؤخذ بتفسيرهم.
شروط المفسِّر:(1/5)
[1] صحة الاعتقاد، فإنَّ للعقيدة أثرها في نفس صاحبها على تحريف النصوص والخيانة في نقل الأخبار.
[2] التجرُّد عن الهوى، فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذاهبهم وإنْ كانت باطلة.
[3] أنْ يبدأ أولاً بتفسير القرآن بالقرآن فما أجمل في موضع فإنه قد فصل في موضع آخر.
[4] أنْ يطلب التَّفسير من السُّنَّة فإنَّها شارحة للقرآن وموضحة له.
[5] إنْ لم يجد التَّفسير في السُّنَّة رجع إلى أقوال الصحابة فإنَّهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله.
[6] فإنْ لم يجد في القرآن ولا في السُّنَّة ولا الصحابة فأقوال التابعين؛ لأنَّهم إنَّما يتكلّمون في بعض ذلك بالتلقي عن الصحابة، والمعتمد في ذلك كله النقل الصحيح.
[7] العلم باللُّغة العربيّة وفروعها، فإنَّ القرآن نزل بلسان عربيّ.
[8] العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن كـ "علم القراءات"، و"علم التّوحيد"، و"أصول التَّفسير"، و"علم الأصول"، و"معرفة أسباب النّزول".
[9] دقة الفهم التي تمكّن المفسّر من ترجيح معنى على آخر، واستنباط ما يتفق مع النصوص الشَّرعيّة.
آداب المفسِّر:
للمفسِّر آداب، نجملها فيما يأتي:
[1] حسن النّية:
ذلك أنَّ العلوم الشَّرعيّة ينبغي أنْ يكون هدف صاحبها منها الخير العام، فـ (إنَّما الأعمال بالنيّات).
[2] حسن الخُلُق:
فالمفسِّر في موقف المؤدّب، وعليه ينبغي أنْ يكون قدوة يُحتذى به.
[3] الامتثال والعمل:
فالعلم يجد قبولاً عند الناس إذا عمل به صاحبه.
[4] تحري الصدق والضبط في النقل:
فلا يكتب إلاَّ عن ثبت.
[5] التَّواضع ولين الجانب:
فالصلف العلميّ يحول بين العالِم والانتفاع به.
[6] عزّة النّفس:
فمن حقّ العالم التّرفُّع عن سفاسف الأمور.
[7] الجهر بالحقّ:
لأنَّ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
[8] حسن السَّمت:
الذي يكسب المفسِّر هيبة ووقاراً.
[9] الأناة والرّوية:
فلا يسرد الكلام سرداً؛ بل يفسِّره، ويبيِّنه ويوضحه.(1/6)
[10] تقديم مَنْ هو أوْلَى منه:
فلا يتصدّى للتّفسير بحضرة مَنْ هو أوْلَى منه.
[11] حسن الإعداد وطريقة ألأداء:
كأنْ يبدأ بذكر سبب النّزول، ثم معاني المفردات، وشرح التراكيب، وبيان وجوه البلاغة والإعراب.
تدوين التَّفسير:
بدأ التّدوين في أواخر عهد بني أمية وأوائل عهد العباسيين، وحَظِيَ الحديث بالنصيب الأوفى، وشمل تدوين الحديث أبواباً متنوعة، وكان التَّفسير باباً من هذا الأبواب، فلم يفرد له تأليف خاص يفسّر القرآن سورة سورة، وآية آية. وقد اشتدت عناية جماعة من المفسِّرين بالتَّفسير المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين، وفي مقدمة هؤلاء يزيد بن هارون السلميّ 117هـ، وشعبة بن الحجاج 160هـ، ووكيع بن الجراح 197هـ، وسفيان بن عيينة، ولم يصل إلينا من تفاسيرهم شيء منظّم إلاَّ ما نُقِلَ هنا وهناك.
ثم جاء من بعد هؤلاء من أفرد التَّفسير بالتأليف، وجعله علماً قائماً بنفسه، ففسّر القرآن حسب ترتيب المصحف، وذلك كابن ماجة 273هـ، وابن جرير الطّبريّ 310هـ، وأبي بكر بن المنذر النيسابوريّ 318هـ، وابن أبي حاتم 327هـ.
ثم جاء على إثر هؤلاء مَنْ تجاوز التَّفسير بالمأثور، ومن ثم اتسعت العلوم، وتم تدوينها، وظهر التعصُّب المذهبيّ، حيث أصبح المفسِّرون يعتمدون في تفسيرهم على الفهم الشَّخصيّ، واهتم كلّ واحد من المفسِّرين بحشو التَّفسير بما برز فيه من العلوم، فصاحب العلوم العقليّة كالرازي يعنى بأقوال الحكماء والفلاسفة، وصاحب الفقه كالجصاص يعنى بالفروع الفقهيّة، وصاحب التاريخ كالثعلبيّ يعنى بالقصص والأخبار، وصاحب البدعة كالجبائيّ يؤول كلام الله على مذهبه الفاسد، وصاحب التصوُّف كابن العربيّ يستخرج المعاني الإشارية، وبذلك طغى التَّفسير بالرَّأْي على التَّفسير بالمأثور.
طبقات المفسِّرين:
الطبقة الأولى:(1/7)
تقدّم أنَّ الذين اشتهروا بالتَّفسير في عهد الصحابة هم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن الزّبير، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر، وغيرهم. وهذه هي الطبقة الأولى.
الطبقة الثانية:
المفسِّرون من التابعين، هم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن البصريّ، والضحّاك، وأبو العالية، وغيرهم.
الطبقة الثالثة:
ثم ظهرت طبقة صنّفت التَّفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وغيرهما.
الطبقة الرابعة:
ثم جاءت بعد هؤلاء طبقات أخرى، منها ابن جرير الطّبريّ، وابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وغيرهم.
الطبقة الخامسة:
ثم جاءت طبقة بعدهم، فصنَّفت التَّفاسير المشحونة بالفوائد المنقولة عن المتقدمين.
وقد ألَّف في التَّفسير طائفة من المتأخرين، اقتصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء، فدخل من هذا الدَّخيل، والتبس الصحيح بالعليل، وصار كلّ من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده.
ثم جاء عصر النهضة، فكان الاهتمام بالنّواحي الاجتماعيّة، والأفكار المعاصرة، والمذاهب الحديثة، ومن هؤلاء: الشيخ/ محمد عبده، والسيد/ محمد رشيد رضا، والشيخ/ مصطفى المراغي، وسيّد قطب.
التَّفسير بالمأثور وحكمه:
التَّفسير بالمأثور: هو الذي يعتمد على صحيح المنقول بالمراتب التي ذكرت في شروط المفسِّر، من تفسير القرآن بالقرآن أو بالسُّنَّة؛ لأنَّها جاءت مبيّنة لكتاب الله أو بما رُوِيَ عن الصحابة؛ لأنَّهم أعلم الناس بكتاب الله أو بما قاله كبار التابعين؛ لأنَّهم تلقوا ذلك غالباً عن الصحابة، وقد ورد أنَّ الذين كانوا يتعلّمون القرآن كعثمان بن عفان وغيره إذا تعلّموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم، ولذلك قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل، جميعاً.(1/8)
وكان الاختلاف بينهم لا يعدو أنْ يكون اختلافاً في التعبير مع اتحاد المعنى، نحو تفسيرهم [الفاتحة: 6] فقد قال البعض: هو القرآن، وقال البعض: هو الإسلام، فالقولان متفقان؛ لأنَّ دين الإسلام هو القرآن.
وكتفسيرهم لقول الله تعالى [فاطر: 32]، فقد قال البعض: السابق هو الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، وقال البعض: السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط، والظالم لنفسه مانع الزكاة.
أمَّا من حيث الحكم؛ فإنَّ التَّفسير بالمأثور يجب اتّباعه والأخذ به؛ لأنَّه طريق المعرفة الصحيح. وقد ورد عن ابن عباس قوله: التَّفسير على أربعة وجوه: "وجه تعرفه العرب من كلامها، ووجه لا يعذر أحد بجهله، ووجه يعلمه العلماء، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله".
فالذي تعرفه العرب يرجع إلى لسانهم ببيان اللُّغة، والذي لا يعذر أحد بجهله ما يتبادر فهم معناه من النصوص التي لا لبس فيها، نحو قوله تعالى
[محمد: 19].
وأمَّا ما يعلمه العلماء؛ فهو الذي يرجع إلى اجتهادهم المعتمد على الشواهد والدلائل دون مجرد الرَّأْي من بيان مجمل أو تخصيص عام، وأمَّا الذي لا يعلمه إلاَّ الله؛ فهو المغيبات كحقيقة قيام الساعة، وحقيقة الروح.
التَّفسير بالرَّأْي وحكمه:
التَّفسير بالرَّأْي هو الذي يعتمد فيه المفسِّر في بيان المعنى على فهمه الخاص واستنباطه بالرَّأْي المجرد الذي لا يتفق مع روح الشَّريعة ويستند إلى نصوصها، وأكثر الذين تناولوا التَّفسير من هذه الناحية كانوا من أهل البدع؛ ذلك أنَّ تفسير القرآن بمجرد الرَّأْي والاجتهاد من غير أصل حرام لا يجوز الإقدام عليه، وقد قال تعالى
[الإسراء: 36].(1/9)
ولهذا تحرّج السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، فحين سُئِلَ أبو بكر - رضي الله عنه - عن الأبّ في قوله تعالى [عبس: 31]، قال: "أيّ سماء تُظلّني، وأيّ أرض تُقُلني إذا قلت في كلام الله ما لا أعلم".
وقال الإمام الطّبريّ: إنَّ القائل برأيه مخطئ وإنْ أصاب الحقّ؛ لأنَّها إصابة خارص وظانّ، والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لا يعلم، وقد حرَّم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده فقال تعالى [الأعراف: 33].
فهذه الآثار وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرُّجهم من الكلام في التَّفسير بما لا علم لهم به، أمَّا مَنْ تكلّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ويكون الأمر أشدّ نكيراً لو ترك التَّفسير بالمأثور الصحيح، وعدل عنه إلى القول بالرّأْي.
نماذج من المفسِّرين بالمأثور:
[1] الإمام الطّبريّ:
هو أبو جعفر محمد بن جرير بن زيد بن كثير بن غالب الطّبريّ، الإمام الجليل والمجتهد المطلق. وُلِدَ بطبرستان سنة 224هـ، ثم رحل في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وطوّف في الأقاليم ثم ألقى عصاه واستقرّ ببغداد، وبها توفى سنة 310هـ.
هذا ويقع تفسيره المسمَّى بـ (جامع البيان في تفسير القرآن) في ثلاثين جزءً.(1/10)
أمَّا طريقته؛ فتتجلّى في أنَّه إذا أراد أنْ يفسِّر آية من القرآن يقول: القول في تأويل قوله كذا وكذا، ثم يفسِّر آية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التَّفسير المأثور عنهم في هذه الآية، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر فإنَّه يعرض لكل ما قيل فيها ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين، ثم هو لا يقتصر على مجرد الرّواية؛ بل يتعرَّض لتوجيه الأقوال ويرجّح بعضها على بعض، ويتعرَّض لناحية الإعراب إذا دعت الحال إلى ذلك، ويستنبط الأحكام التي يمكن أنْ تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار، ويعني بالقراءات، ويرجّح بعضها على بعض، وذلك لمعرفته بجميع القراءات، ثم هو يخاصم بقوة أصحاب التَّفسير بالرَّأْي، ويدعو إلى العلم الراجع إلى الصَّحابة والتَّابعين.
[2] السمرقنديّ:
هو أبو الغيث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقنديّ الفقيه الحنفي، المعروف بإمام الهدى، المتوفى سنة 375هـ.
يقع تفسيره المُسمَّى بـ (بحر العلوم) في ثلاثة مجلدات، وهو موجود بدار الكتب المصريّة.
أمَّا طريقته؛ فإنَّه يفسِّر القرآن بالمأثور عن السلف، فيسوق الرّوايات عن الصحابة والتابعين، ولكنه لا يذكر إسناده إلى مَنْ يروي عنهم، وإذا ذكر الأقوال والروايات المختلفة لا يعقّب عليها ولا يرجِّح ـ كما يفعل ابن جرير الطّبريّ ـ.
وبالجملة فالكتاب قيّم، جمع فيه صاحبه بين التَّفسير بالرّواية والتَّفسير بالدّراية، وغلب الجانب النقليّ فيه على الجانب العقليّ، ومن هنا عُدّ من كتب التَّفسير بالمأثور.
[3] الثعلبيّ:
هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبيّ النيسابوريّ، المقرئ المفسِّر، كان حافظاً واعظاً، رأساً في التَّفسير والعربيّة، متين الدّيانة، توفى ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 427هـ.
وقد سمَّى تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) (1) .
__________
(1) انظر: شذرات الذهب، 3/230، ووفيات الأعيان، 1/37-38.(1/11)
تحدَّث المؤلّف عن منهجه وطريقته فذكر اختلافه على العلماء منذ الصغر، واجتهاده في الاقتباس من علم التفسير الذي هو أساس الدِّين ورأس العلوم الشَّرعيّة، ومواصلته ظلام الليل بضوء الصباح، بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه ما عرف به الحقّ من الباطل، والمفضول من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السُّنَّة، والحُجَّة من الشُّبهة.
وظهر له أنَّ المصنفين في التَّفسير فِرَق على طُرق مختلفة، فرقة أهل البدع والأهواء، وفرقة أحسنت التأليف إلاَّ أنَّها خلطت أباطيل المبتدعين بأقوال السلف من الصالحين، وفرقة أقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدّراية والنقد، وفرقة حذفت الإسناد الذي هو الركن والعماد، وفرقة جرّدت التَّفسير من الأحكام، وبيان الحلال والحرام.
وبعد، فإنَّ الذي يُفهم من كلام المؤلّف أنَّه ملتزم مذهب السلف في التَّفسير بالمأثور. هذا ويوجد التفسير المذكور بمكتبة الأزهر، مخطوطاً غير كامل.
[4] البغويّ:
هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء (1) ، والبغويّ الفقيه الشافعيّ، المحدّث المفسِّر، الملقب بـ "محي السُّنَّة" و"ركن الدِّين"، المتوفى سنة 516هـ.
وتفسيره هذا متوسط، سمَّاه (معالم التّنزيل) نقل فيه عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وكان البغويّ سالكاً سبيل السلف. صنَّف في تفسير كلام الله، وأوضح المشكلات في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى الحديث واعتنى بدراسته، وصنَّف كتباً كثيرة، فمن تصانيفه: "شرح السُّنَّة في الحديث"، و"المصابيح في الحديث"، و"الجمع بين الصحيحين"، و"التهذيب في الفقه"، وقد بورك له في تصانيفه، ورُزِق فيها القبول، لحسن نيته (2) .
__________
(1) الفراء: نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغويّ نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهراة يقال لها: بغ، وهذه النسبة شاذة على خلاف الأصل.
(2) انظر: طبقات المفسرين للسيوطيّ، 1/13، والطبقات الكبرى لابن السبكي، 1/214.(1/12)
[5] ابن عطية الأندلسيّ:
هو أبو محمد عبد الحقّ بن غالب بن عطية الأندلسيّ المغربيّ الغرناطيّ، وُلِدَ بالأندلس سنة 481هـ، وتوفى سنة 546هـ، وقد خلّف من المؤلفات كتاب التَّفسير المُسمَّى بـ (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، وغيره من المؤلفات المفيدة.
إنَّ تفسير ابن عطية تفسير له قيمته العالية بين كتب التَّفسير، وعند جميع المفسِّرين، وذلك راجع إلى أنَّ مؤلّفه أضفى عليه من روحه العلميّة الفياضة ما أكسبه دقة ورواجاً وقَبولاً، وقد لخّصه مؤلّفه من كتب التَّفسير كلها، وتحرّى ما كان أقرب إلى الصحة منها، ووضع الكلّ في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس (1) .
إنَّ تفسير ابن عطية يقع في عشرة مجلدات كبار.
أمَّا منهج صاحبه؛ فإنَّه يذكر الآية، ثم يفسِّرها بعبارة عذبة سهلة، ويورد من التَّفسير بالمأثور ويختار منه في غير إكثار، وينقل عن ابن جرير الطّبريّ، ويناقش المنقول عنه أحياناً، وهو كثير الاستشهاد بالشعر العربيّ، كثير الاحتكام إلى اللُّغة العربيّة، والاهتمام بالصناعة النّحويّة، كما أنَّه يتعرّض كثيراً للقراءات.
يقول ابن تيمية: "تفسير ابن عطية خيرٌ من تفسير الزمخشريّ، وأوضح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع وإنْ اشتمل على بعضها" (2) .
[6] ابن كثير:
هو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصريّ ثم الدمشقيّ، الفقيه الشافعيّ، قَدِمَ دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. قال عنه الداودي في "طبقات المفسِّرين": "كان قدوة العلماء والحُفَّاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ" (3) .
كان مولده سنة 700هـ أو بعدها بقليل، وتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ودُفِنَ بمقبرة الصوفيّة عند شيخه ابن تيمية.
__________
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 491.
(2) فتاوى ابن تيمية، 2/194.
(3) طبقات المفسرين: الداودي، ص 327.(1/13)
يُعَدُّ تفسير ابن كثير المُسمَّى بـ (تفسير القرآن العظيم) من أشهر ما دُوِّنَ في التَّفسير المأثور، ويأتي في المرتبة الثانية بعد تفسير ابن جرير.
يمتاز ابن كثير في طريقته بأنَّه يذكر الآية ثم يفسّرها بعبارة سهلة موجزة، وإنْ أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها وقارن بين الآيتين حتى ينتهي المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التَّفسير الذي يُسمونه (تفسير القرآن بالقرآن)، ثم بعد أنْ يفرغ من هذا كلّه يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلّق بالآية، ويبيِّن ما يُحتج به وما لا يُحتج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومَنْ يليهم من علماء السلف.
[7] الثعالبيّ:
هو أبو يزيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبيّ الجزائريّ المغربيّ المالكيّ، الإمام الحُجَّة العامل، توفى سنة 876هـ (1) .
يقول الثعالبيّ رحمه الله متحدّثاً عن تفسيره المُسمَّى (الجواهر الحسان في تفسير القرآن): "فإني قد جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ما أرجو أنْ يُقِرّ به عيني وعينك في الدارين، فقد ضمّنته بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمة من غيره من كتب الأئمة وثقات أعلام هذه الأُمَّة".
وجملة القول فإنَّ تفسير الثعالبيّ جامع لخلاصات كتب مفيدة، وليس فيه ما في غيره من الحشو المخلّ، والاستطراد المملّ، وهو عبارة عن مختصر لتفسير ابن عطية مع زيادة نقول من السابقين من المفسِّرين، وهو مطبوع في الجزائر في أربعة أجزاء.
[8] السيوطيّ:
هو الحافظ جلال الدّين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطيّ الشافعيّ، صاحب المؤلَّفات النافعة، وُلِدَ في رجب سنة 849 هـ، وتوفي في سحر ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى 911هـ (2) .
__________
(1) الضوء اللامع، 4/152.
(2) شذرات الذهب، 8/51-55.(1/14)
إنَّ السيوطيّ اختصر كتابه المُسمَّى بـ (الدُّر المنثور في التَّفسير بالمأثور) من كتابه (ترجمان القرآن) الذي ألَّفه في وقت سابق، وضمّنه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف، ثم عاد فحذف الأسانيد في الدُّر المنثور مخافة الملل، وكلّ ما في الكتاب سرد الروايات عن السلف في التَّفسير بدون أنْ يعقّب عليها، فلا يعدّل، ولا يخرّج، ولا يضعّف، ولا يصحّح، فهو كتاب جامع فقط لِمَا يروى عن السلف في التَّفسير أخذه السيوطيّ من البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، والترمذيّ، وأحمد، وأبي داود، وابن جرير، وغيرهم ممَنْ تقدّمه. فالكتاب يحتاج إلى تصفية حتى يتميّز غثّه من سمينه، وهو مطبوع في ستة مجلدات.
التفسير بالرَّأْي:
معنى الرَّأْي:
يطلق الرَّأْي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس.
وعليه فالتَّفسير بالرَّأْي هو تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم في القول.
وقد اختلف العلماء في جواز تفسير القرآن بالرَّأْي، فمنعه بعضهم منعاً باتاً، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى [الأعراف: 33]، ووجه الاستدلال أنَّ التَّفسير بالرَّأْي قول على الله بغير علم، وبقوله تعالى [الأعراف: 36].
والتَّفسير بالرَّأْي داخل في هذا المنهي عنه، وعليه يكون التَّفسير بالرَّأْي ظناً، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وبقوله تعالى [النحل: 44]. فقد أضاف البيان إليه - صلى الله عليه وسلم - فعلم أنَّه ليس لغيره شيء من البيان لمعاني القرآن، وبالحديث الذي رواه الترمذيّ، وقال عنه: "هذا حديث حسن"، ونص الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (مَنْ قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (1) .
__________
(1) سنن الترمذي، أبواب التفسير، 2/157.(1/15)
وقد أجاب المجيزون عن الدليل الأول والثاني بقولهم: إنَّ الظنّ المنهي عنه هو الذي يؤخذ به مع إمكان الوصول إلى العلم اليقينيّ القطعيّ بأنْ يوجد نص قاطع من نصوص الشَّرع أو دليل عقليّ موصل إلى ذلك، أمَّا إذا لم يوجد شيء من ذلك، فالظنّ كافٍ هنا لاستناده إلى دليل قطعيّ من الله تعالى على صحة العمل به إذ ذاك، كقوله تعالى [البقرة: 286]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟) قال: بكتاب الله، قال: (فإنْ لم تجد؟) قال: بسُنَّة رسول الله، قال: (فإنْ لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي. فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله، لما يرضي رسول الله) (1) .
وأجابوا على الدليل الثالث بقولهم: نعم هذا صحيح أنَّ الله أوكل البيان إليه - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه مات ولم يبيِّن كل شيء، فما ورد بيانه عنه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الكفاية عن بيان غيره، وما لم يرد عنه بيانه ففيه لأهل العلم بعده حقّ البيان، والتّوضيح؛ لأنَّه سبحانه يقول في آخر الآية [النحل: 44].
وأجابوا عن الدليل الرابع الذي ورد في حديث الترمذيّ بقولهم: إنَّه أراد بالرَّأْي الرَّأْي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أمَّا الذي يسنده البرهان ويشهد له الدليل فالقول به جائز. فالنهي على هذا متناول لمن كان يعرف الحقّ ويميل إلى غيره مسايرة لطبعه وهواه، فيتناول القرآن ليحتج به على تصحيح رأيه الذي يميل إليه ولو لم يكن ذلك الرَّأْي والهوى، لما لاح له هذا المعنى الذي حمل القرآن عليه.
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الأحكام، برقم 1249، وقد ورد هذا الحديث بروايات غير هذه.(1/16)
كذلك أجابوا على الدليل الرابع بقولهم: إنَّ النهي محمول على مَنْ يقول في القرآن بظاهر العربية من غير أنْ يرجع إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدّوا إلينا من السنن ما يكون بياناً لكتاب الله تعالى وبدون أنْ يرجع إلى السماع والنقل فيما يتعلّق بغريب القرآن وما فيه من الحذف والإضمار والتأخير ومراعاة مقتضى الحال، فمثلاً قوله تعالى [الإسراء: 59]، معناه: وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة وآية بيّنة على صدق رسالته فظلموا بعقرها أنفسهم.
ولكن الواقف عند ظاهر العربية وحدها بدون أنْ يستظهر شيئاً مما تقدّم يظنّ أنّ من الإبصار بالعين.
هذا وبعد أنْ ردّ المجيزون على أدلة المانعين استدلوا على جواز التَّفسير بالرَّأْي بما يأتي:
أولاً: وردت في القرآن نصوص كثيرة تحثُّ على تدبُّر القرآن، والاعتبار بآياته، والاتّعاظ بعظاته، منها قوله تعالى [محمد: 24]، وقوله تعالى [ص: 29]، وقوله تعالى
[النساء: 83].
ثانياً: لو كان التَّفسير بالرَّأْي غير جائز؛ لما كان الاجتهاد جائزاً ولتعطيل كثير من الأحكام، وهذا باطل بيّن البطلان.
ثالثاً: ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنَّهم قرأوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه.
رابعاً: ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه دعا لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بقوله: (اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التَّأويل). فلو كان التَّأويل مقصوراً على السَّماع والنَّقل كالتَّنزيل لِمَا كان هناك فائدة لتخصيص ابن عباس بهذا الدُّعاء.
ومن هنا يعلم أنَّ التَّأويل الذي دعا به الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس هو شيء آخر وراء النَّقل والسَّماع ذلك هو التَّفسير بالرَّأْي والاجتهاد.(1/17)
هذه هي أدلة الطَّرفين، كلّ يحاول أنْ يثبت قوله، ويؤيّد مدّعاه، يقول الغزالي ـ بعد الاحتجاج والاستدلال على بطلان القول بأنْ لا يتكلّم أحد في القرآن إلاَّ بما سمعه ـ: "فبطل أنْ يشترط السَّماع في التَّأويل، وجاز لكلّ واحد أنْ يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحدّ عقله" (1) .
وهذا هو الرّاغب الأصفهاني ـ بعد أنْ ذكر المذهبين وأدلتهما ـ يقول: "وذكر بعض المحقّقين أنَّ المذهبين هما: الغلو والتَّقصير، فمَنْ اقتصر على المنقول إليه؛ فقد ترك كثيراً مما يحتاج إليه، ومَنْ أجاز لكلّ أحد الخوض فيه، فقد عرّضه للتخليط ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى .
وجملة القول أنَّ الجمود على المنقول تقصير وتفريط بلا نزاع والخوض في التَّفسير لكلّ إنسان غلو وإفراط بلا جدال" (2) .
ومما تقدّم يتضح أنَّ التَّفسير بالرَّأْي قسمان:
[أ] قسم مذموم غير جائز.
[ب] وقسم ممدوح جائز.
وأنَّ القسم الجائز محدود بحدود، ومقيّد بقيود، ومن هذه القيود ما أشار إليه أهل العلم من الأدوات التي إذا توفّرت في المفسِّر وتكاملت فيه، فإنَّه يخرج عن كونه مفسِّراً للقرآن بمجرّد الرَّأْي ومحض الهوى.
من هذه الحدود والقيود ما يأتي:
[1] علم اللُّغة:
الذي يمكن شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع.
[2] علم النَّحو:
لأنَّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب.
[3] علم الصَّرف:
الذي بوساطته نعرف الأبنية والصِّيغ، فقد ذكروا من بدع التَّفاسير قول مَنْ قال: إنَّ الإمام في قوله تعالى [الإسراء: 71]، جمع أم وأنَّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، وهذا غلط أوجبه جهله بالصَّرف، فإنَّ أمّاً لا تجمع إمام.
[4] معرفة الاشتقاق:
لأنَّ الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح مثلاً، هل هو من السياحة أو من المسح.
[5] علوم البلاغة الثلاثة:
__________
(1) الإحياء، 3/137.
(2) مقدمة التَّفسير للراغب، ص 423.(1/18)
وهي (المعاني)، و(البيان)، و(البديع): فالمعاني يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، والبيان يُعرف به خواص التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح الدّلالة وخفائها، والبديع يعرف به وجوه تحسين الكلام.
[6] علم القراءات:
الذي به يمكن ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
[7] علم أصول الدِّين:
الذي به يستطيع المفسِّر أنْ يستدل على ما يجب في حقّه تعالى، وما يجوز، وما يستحيل.
[8] علم أصول الفقه:
الذي يتوقّف عليه استنباط الأحكام من الآيات، وبه يُعرف الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتّقييد، ودلالة الأمر والنهي.
[9] علم أسباب النزول:
إذ إنَّ معرفة السبب تعين على فهم المراد من الآية.
[10] علم القصص:
لأنَّ معرفة القصة تفصيلاً تعين على توضيح ما أجمل منها في القرآن.
[11] علم النّاسخ والمنسوخ:
وبه يعلم المحكم من غيره.
[12] الإلمام بالأحاديث المبيّنة لتفسير المجمل:
ليستعين بها على توضيح ما أشكل عليه.
[13] علم الموهبة:
وهذا علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بقوله تعالى
[البقرة: 282]، ولا يقال عن علم الموهبة: هذا شيء ليس في مقدور الإنسان. قال صاحب "البرهان": "لا يحصل للنّاظر فهم معاني الوحي، ولا تظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كِبر أو هوى أو حبّ دنيا أو هو مصرّ على ذنب، قالوا: وفي هذا المعنى قوله [الأعراف: 146]، قال ابن عيينة: "أنزع عنهم فهم القرآن" (1) .
نماذج من كتب المفسِّرين القائلين بالرَّأْي الجائز:
[1] مفاتيح الغيب:
__________
(1) الإتقان، ص 180-182.(1/19)
لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميميّ البكريّ الطبرستانيّ الرازيّ، الملّقب بفخر الدِّين، والمعروف بابن الخطيب، الشافعيّ، المولود سنة 544هـ، كان إماماً في التَّفسير، والكلام، والعلوم العقليّة، وعلوم اللُّغة، ولقد أكسبه نبوغه العلميّ شهرة عظيمة، الأمر الذي جعل العلماء يشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار.
يقع تفسير الإمام الرازيّ في واحد وثلاثين جزءً، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ويمتاز عن غيره من كتب التَّفسير بالأبحاث الفياضة الواسعة في نواح شتى من العلوم.
قال عنه ابن خلكان في "وفيات الأعيان": " إنه ـ يعني الفخر الرازيّ ـ جمع فيه كل غريب وغريبة" (1) .
والحقّ أنَّ الذي يقرأ تفسير الإمام الرازيّ يجده يمتاز بذكر المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض، وبين السور بعضها مع بعض، كما أنَّه يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضيّة الطبيعيّة، ولا يكاد يمرّ بآية من آيات الأحكام إلاَّ ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الإمام الشافعيّ الذي يقلّده بالأدلة والبراهين، توفى ـ رحمه الله تعالى ـ سنة606هـ.
[2] أنوار التَّنزيل وأسرار التَّأويل:
لناصر الدين أبي الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاويّ الشافعيّ، وهو من بلاد فارس، توفى بمدينة تبريز سنة 691هـ.
تفسير البيضاويّ تفسير متوسط الحجم، جمع فيه بين التَّفسير والتَّأويل على مقتضى قواعد اللُّغة العربيّة، وقرّر فيه الأدلة على أصول أهل السُّنَّة، وقد اقتصره من تفسير (الكشّاف) للزمخشريّ، ولم يقع فيما وقع فيه الزمخشريّ من الاعتزالات، وهو مقلّ من ذكر الروايات الإسرائيلية (2) .
__________
(1) وفيات الأعيان، 2/267.
(2) شذرات الذهب، 5/393، وطبقات المفسرين للداودي، ص 102-103.(1/20)
قال عنه السيوطيّ: "إنَّ القاضي ناصر الدين البيضاويّ لخّص هذا الكتاب فأجاد، وأتى بكلّ مستجاد، وماز فيه أماكن الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وأزال، وحرّر مهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنَّه سبيكة نصار، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النَّهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكبّ عليه العلماء تدريساً ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقَبول رغبة فيه ومسارعة" (1) .
[3] مدارك التَّنزيل وحقائق التَّأويل:
لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النَّسفيّ (2) ، الحنفيّ، أحد الزُّهاد المتأخرين والأئمة المعتبرين، كان إماماً كاملاً، عديم النظير في زمانه، رأساً في الفقه والأصول، بارعاً في الحديث ومعانيه، بصيراً بكتاب الله تعالى.
وقد لخَّص ـ رحمه الله تعالى ـ طريقته في تفسيره في العبارات الآتية، حيث يقول: "قد سألني مَنْ تتعيّن إجابته كتاباً وسطاً في التَّأويلات، جامعاً لوجوه الإعراب والقراءات، متضمّناً لدقائق علمي البديع والإشارات، حالياً بأقاويل أهل السُّنَّة والجماعة، خالياً من أباطيل أهل البدع والضلالة، ليس بالطويل المملّ، ولا بالقصير المخلّ".
كانت وفاة النسفيّ ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 701هـ، ودُفِنَ ببلدته (أيذج) (3) .
هذا وقد اختصر النسفيّ تفسيره من تفسير البيضاويّ والكشّاف، غير أنَّه ترك ما في (الكشّاف) من الاعتزالات، وجرى فيه على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة.
[4] لباب التَّأويل في معاني التَّنزيل:
__________
(1) المدخل المنير للشيخ مخلوف، 1/41.
(2) النّسفيّ: نسبة إلى نسيف من بلاد ما وراء النهر.
(3) أيذج: على وزن أحمد، بلد بكردستان. وانظر ترجمة النّسفيّ في: الدرر الكامنة، 2/247، والفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 102.(1/21)
مؤلّف هذا التَّفسير علاء الدين أبو الحسن على بن محمد البغداديّ، الشافعيّ، الصوفيّ، المعروف بـ (الخازن)، اشتهر بذلك لأنَّه كان خازن كتب بدمشق، وُلِدَ سنة 678هـ.
يقال: إنَّه اختصر تفسيره من (معالم التّنزيل) للبغويّ، وضم إليه ما نقله ولخّصه من تفاسير مَنْ تقدّم عليه، وليس فيه ـ كما يقول ـ: "سوى النَّقل والانتخاب، مع حذف الأسانيد وتجنُّب التَّطويل والإسهاب".
توفى ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 741هـ بمدينة حلب (1) .
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّه قدّم لتفسيره بخمسة فصول:
الفصل الأول: في فضل القرآن، وتلاوته، وتعليمه.
الفصل الثاني: في وعيد مَنْ قال في القرآن برأيه من غير علم، ووعيد مَنْ أوتي القرآن فنسيه ولم يتعهده.
الفصل الثالث: في جمع القرآن، وترتيب نزوله، وفي كونه نزل على سبعة أحرف.
الفصل الرابع: في كون القرآن نزل على سبعة أحرف، وما قيل في ذلك.
الفصل الخامس: في معنى التَّفسير والتَّأويل.
ثم ابتدأ بعد ذلك في التَّفسير.
[5] البحر المحيط:
لأثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف ابن حيان، الأندلسيّ، الغرناطيّ، المولود سنة 654هـ، كان ـ رحمه الله ـ ملماً بالقراءات، صحيحها وشاذها، توفى سنة 745هـ (2) .
__________
(1) الدرر الكامنة، 3/97-98، وطبقات المفسرين للداودي، ص 178.
(2) الدرر الكامنة، 4/302-310.(1/22)
يقع تفسيره في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ومعتبر عندهم المرجع الأول والأهم لمن يريد أنْ يقف على وجوه الإعراب لألفاظ القرآن الكريم، إذ إنَّ الناحية اللُّغويّة هي أبرز ما فيه من البحوث التي تدور حول آيات القرآن الكريم، إلاَّ أنَّه مع ذلك لم يهمل ما عداها من النواحي التي لها اتصال بالتَّفسير، فهو يتكلّم عن المعاني ويذكر أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، والنواحي البلاغيّة، والفقهيّة عندما يمرّ بآيات الأحكام، مع ذكره لِمَا جاء عن السلف ومَنْ تقدّمه من الخَلَف في ذلك.
هذا وإنَّ أبا حيان يعتمد في أكثر نقول كتابه على كتاب (التَّحرير والتَّحبير) لأقوال أئمة التَّفسير الذي جمعه جمال الدين أبو عبد الله المعروف بابن النقيب، إذ هو أكبر كتاب صنّف في علم التَّفسير، يبلغ في العدد مائة سفراً أو ما يقرب من ذلك، ولا يوافق ابن حيان صاحب الكتاب فيما نقله عن غلاة الصوفيّة.
[6] غرائب القرآن ورغائب الفرقان:
لمؤلّفه العلاّمة الشهير نظام الدين الحسن بن محمد الحسين الخراسانيّ، النيسابوريّ. كان ـ رحمه الله تعالى ـ من أساطين العلم، ملماً بالعلوم العقليّة، جامعاً لفنون اللُّغة العربيّة، له القدم الرّاسخ في صناعة الإنشاء والمعرفة الوافرة بعلم التَّأويل والتَّفسير، وهو معدود في عداد كبار الحُفّاظ والمقرئين، أمّا تاريخ وفاته فلم يعثر عليه، وكلّ ما عثر عليه أنَّه من علماء رأس المائة التاسعة على قرب من درجة الحافظ ابن حجر وقرنائه من علماء ذلك العصر.
اختصر النيسابوريّ تفسيره من (التَّفسير الكبير) للفخر الرازيّ، وضمّ إلى ذلك جلّ ما جاء في (الكشّاف) وغيره من التَّفاسير، وما فتح الله به عليه من الفهم لمحكم كتاب الله، كذلك ضمّنه ما ثبت لديه من تفاسير سلف هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين.(1/23)
ومما يلاحظ على تفسير النيسابوريّ أنَّه بعد أنْ يفرغ من تفسير الآية يتكلّم عن التَّفسيرات الإشاريّة للآيات القرآنيّة التي يفتح الله بها على عقول أهل الحقيقة من المتصوفة، ـ هكذا يقول ـ.
وليس في تفسيره ما يدلُّ على تشيُّعه، هذا والكتاب مطبوع على هامش تفسير ابن جرير، ومتداول بين أهل العلم (1) .
[7] تفسير الجلالين:
وهو للإمامين الجليلين: جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطيّ.
أمَّا السيوطيّ فقد سبق التَّعريف به عند الكلام على تفسيره المُسمَّى (الدُّر المنثور). وأمَّا جلال الدين المحلى؛ فهو جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلى، الشافعيّ، تفتازانيّ العرب، الإمام العلاّمة، وُلِدّ بمصر سنة 791هـ، وبرع في الفنون: فقهاً، وكلاماً، وأصولاً، ونحواً، ومنطقاً، وغيرها.
كان آية في الذكاء والفهم، حتى كان بعض أهل عصره يقول فيه: "إنَّ ذهنه يثقب الماز"، وكان يقول عن نفسه: "إنَّ فهمه لا يقبل الخطأ، ولم يك يقدر على الحفظ. توفى ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 864هـ (2) .
ومما ينبغي أنْ ينبّه عليه أنَّ الجلال المحلى ابتدأ تفسيره من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير سورة الفاتحة، وبعد أنْ أتمّها داهمته يد المنون، ثم جاء الجلال السيوطيّ فابتدأ بتفسير سورة البقرة، وانتهى عند آخر سورة الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة عند آخر تفسير الجلال المحلى ليكون ملحقاً به.
ولا يلمس بين الرجلين فرق واضح في طريقة تفسيرهما، إذ إنَّ تفسيرهما غاية في الاختصار، مما دفع بعض علماء اليمن أنْ يقول: "إنَّه عدّ حروف القرآن وتفسير الجلالين فوجدهما متساويين إلى سورة المزمل، ومن سورة المدثر التَّفسير زائد على القرآن، ومن قالوا: يجوز حمله بغير وضوء" (3) .
__________
(1) نقلاً عن ترجمة النيسابوريّ في روضات الجنان، ص 225-226.
(2) شذرات الذهب، 7/303.
(3) كشف الظنون، 1/236.(1/24)
[8] السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير:
مؤلف هذا التَّفسير هو العلاّمة شمس الدين محمد بن محمد الشربينيّ، القاهريّ، الشافعيّ، الخطيب.
كان ـ رحمه الله تعالى ـ على جانب عظيم من الصلاح والورع، وقد أجمع أهل مصر على ذلك، ووصفوه بالعلم والعمل، والزهد والورع، وكثرة التّنسُّك والعبادة. وكان من عادته أنْ يعتكف من أول رمضان فلا يخرج من الجامع إلاَّ بعد صلاة العيد، وكان إذا حجّ لا يركب إلاَّ بعد تعب شديد.
توفى في عصر يوم الخميس ثاني شعبان سنة 977هـ.
قال عن تفسيره عند الخاتمة: "فدونك تفسير كأنَّه سبيكة عسجد أو در منضد، جمع من التفاسير معظمها، ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها، محرر الدلائل في هذا الفن، مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ...".
وهو مطبوع في أربعة أجزاء كبار ومتداول بين أهل العلم لِمَا فيه من السهولة، والجمع لخلاصة التَّفاسير التي سبقته، مع الدقة والإيجاز.
[9] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم:
مؤلف هذا التَّفسير هو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العماديّ الحنفيّ، المولود في سنة 893هـ.
إنَّ تفسير أبي السعود غاية في بابه، ونهاية في حسن الصوغ وجمال التَّعبير، كشف فيه صاحبه عن أسرار البلاغة القرآنية بما لم يسبقه أحد عليه. ومن أجل ذلك ذاعت شهرة هذا التَّفسير بين أهل العلم، وشهد له كثير من العلماء بأنَّه خير ما كُتب في التَّفسير. وهو يقع في خمسة أجزاء متوسطة الحجم.
[10] روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني:
مؤلفه شهاب الدين السيد محمود الأفنديّ، الألوسيّ (1) ، البغداديّ، وُلِدَ في سنة 1217هـ، في جانب الكرخ من بغداد.
__________
(1) الألوسيّ: نسبة إلى قرية اسمها "ألوس"، وهي جزيرة في منتصف نهر الفرات بين الشام وبغداد، كانت موطن أجداده.(1/25)
كان ـ رحمه الله تعالى ـ شيخ العلماء في العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام، جمع كثيراً من العلوم حتى أصبح علاّمة في المعقول والمنقول، فهّامة في الفروع والأصول، محدّثاً لا يجارى، ومفسّراً لكتاب الله لا يبارى.
إنَّ تفسير الألوسيّ يُعَدُّ تفسيراً جامعاً لآراء السلف رواية ودراية، مشتملاً على أقوال الخَلَف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة ما سبقه من التَّفاسير. إنَّه ينقل عن ابن عطية، وعن ابن حيان، وعن الكشّاف، وعن أبي السعود، والبيضاويّ، وعن الفخر الرازيّ، وغيرها من كتب التَّفسير المعتبرة.
وهو إذ نقل عن تفسير أبي السعود يقول غالباً: قال شيخ الإسلام، وإذا نقل عن البيضاويّ يقول: قال القاضي، وإذا نقل عن الفخر الرازيّ يقول: قال الإمام.
وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حكماً عدلاً بينها، ويجعل من نفسه نقّاداً مدقّقاً، ثم يبدي رأيه حُرَّاً فيما ينقل.
توفى ـ رحمه الله تعالى ـ يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة 1270هـ (1) .
يقع تفسير الألوسيّ في ثلاثين جزءً.
التَّفسير بالرّأي المذموم:
هو تفسير الفِرَق المبتدعة، فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، كلها في النار إلاَّ واحدة، هي ما عليه أنا وأصحابي) (2) .
وقد حقّق الله تعالى نبوته، فافترقت الأُمَّة إلى أحزاب مختلفة، كل حزب بما لديهم فرحون، ويُعَدُّ من هذه الفِرَق (المعتزلة)، و(الشيعة)، و(الخوارج)، و(الجبريّة)، و(الباطنيّة)، و(المشبهة)، وغيرهم.
وهاك أمثلة للتفسير المذموم:
__________
(1) النسخة الأميرية من تفسير الألوسيّ.
(2) سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، برقم 3983.(1/26)
[1] يرى المعتزلة أنَّ مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أنْ يعفو الله عنه؛ لأنَّه أوعد بالعقاب على الكبائر، ووعد بالثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي قانون حتميّ التزم الله به. ومن هنا قالوا: إنَّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار، ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله لقوله تعالى [البقرة: 81].
[2] يرى بعض السبئية ـ وهم جماعة عبد الله بن سبأ اليهوديّ الذي تظاهر بالإسلام ـ أنَّ علياً - رضي الله عنه - في السحاب، وعلى هذا يفسِّرون الرعد بأنَّه صوت علي، والبرق بأنَّه لمعان صوته أو تبسُّمه. ولهذا كان الواحد منهم إذا سمع صوت الرعد يقول: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
كذلك نجد بعض السبئية يزعم أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - سيرجع إلى الحياة الدنيا، وتأوّل على ذلك قول الله تعالى [القصص: 85].
[3] يزعم بيان بن سمعان التميميّ أنَّه هو المذكور في قوله تعالى [آل عمران: 133]، يقول: أنا البيان، وأنا الهدى والموعظة.
[4] يزعم المغيرة بن سعيد العجليّ أنَّ المراد بالشيطان في قوله تعالى
[الحشر: 16]، عمر - رضي الله عنه - .
[5] يزعم أبو منصور العجليّ زعيم المنصوريّة المعروف بـ (الكشف) أنَّه عرج إلى السماء، وأنَّ الله تعالى مسح بيده على رأسه، وأنَّه هو المعني بقوله تعالى [الطور: 44].
[6] يزعم الخطابيّة ـ وهم أتباع أبي الخطاب الأسديّ ـ وهم خمس فِرَق، أنَّ المراد بالجنة نعيم الدنيا، وبالنار آلامها.
[7] يزعم عبيد الله الشبعيّ المُسمَّى بالمهديّ حين ملك إفريقيا، واستولى عليها، كان له صاحبان أحدهما يُسمَّى بـ (نصر الله) والآخر بـ (الفتح)، فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه، فقال [النصر: 1].(1/27)
وبعد؛ فهذه نماذج عن الغلاة الذين فسّروا القرآن تبعاً لعقيدتهم الفاسدة، وأهوائهم الباطلة، فصرفوا اللفظ القرآنيّ عن معناه الذي سيق له، وقالوا عن الله بغير علم ولا برهان، فهلكوا وأهلكوا مَنْ تبعهم، أو قال بقولهم، أو اعتقد ما يعتقدون.
التَّفسير الصوفيّ:
هو تفسير يخرج القرآن عن هدفه الذي يرمي إليه. فهذا ابن عربي يميل ببعض الآيات إلى مذهبه القائل بوحدة الوجود، ومثله أبو زيد البسطاميّ والحلاج وغيرهم. فوحدة الوجود عندهم معناها أنْ ليس هناك إلاَّ موجود واحد، كلّ العالم مظاهر ومجال له، فالله سبحانه هو الموجود الحقّ، وكلّ ما عداه ظواهر وأوهام، ولا توصف بالوجود إلاَّ من قبيل المجاز، وهذا المذهب هو الذي خوَّل للحلاج أنْ يقول: أنا الله، ولابن عربي أنْ يقول: إنَّ عجل بني إسرائيل أحد المظاهر التي اتخذها الله وحلّ فيها.
يقول ابن عربي في الآية (163) من سورة البقرة:
: "إنَّ الله خاطب في هذه الآية المسلمين والذين عبدوا غير الله قربة إلى الله، فما عبدوا إلاَّ الله، فلما قالوا: ما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله زلفى، فأكّدوا ذكر العلة، فقال الله لنا: إنَّ إلهكم، والإله الذي يطلب المشرك القربة لعبادته واحد (1) .
التَّفسير الصوفيّ الإشاريّ:
هو تأويل القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية، هذا والفرق بين التَّفسير الصوفيّ الإشاريّ والنظريّ يتضح في الآتي:
[1] التَّفسير الصوفيّ النظريّ يرى صاحبه أنَّ كلّ ما تحمله الآية من المعاني هو المعنى الذي يراه، وليس وراءه معنى آخر. أمَّا الإشاريّ فلا يرى صاحبه ذلك؛ بل يقبل المعنى الظاهر المراد من الآية، ويرى أنَّ هناك معنى آخر أدقّ من هذا المعنى الظاهر، فمثلاً قوله تعالى [التوبة: 123]. فالنظريّ يقصر المعنى على قتال النفس فقط، والإشاريّ يقبل المعنى المراد من الآية الذي هو قتال الكفار، ويقول بقتال النفس.
__________
(1) الفتوحات المكيّة، 4/160 وما بعدها.(1/28)
[2] التَّفسير الصوفيّ النظريّ ينبني على مقدّمات علميّة؛ بل يرتكز على رياضة روحيّة يأخذ بها الصوفيّ نفسه حتى يصل إلى درجة تتكشّف له فيها من العبارات إشارات قدسيّة.
هل للتَّفسير الإشاريّ أصل شرعيّ؟
ذكروا أنَّ للتَّفسير الإشاريّ أصلاً شرعياً، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام البخاريّ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه قال: كان عمر - رضي الله عنه - يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه فقال: لِمَ تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله، فقال: إنَّه من حيث علمتم، ثم دعاني ذات يوم فأدخلني معهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى ، فقال بعضهم: أمرنا أنْ نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال عمر لابن عباس: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلتُ: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، فقال عمر: ما أعلم منها إلاَّ ما تقول، كذلك لما نزل قوله تعالى [المائدة: 3] فرح الصحابة، وبكى عمر - رضي الله عنه - وقال: ما بعد الكمال إلاَّ النقصان، فقد أدرك عمر المعنى الإشاريّ، وهو نعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما هو مشكل، ولكنه أخفّ إشكالاً؛ ما نُقِلَ عن سهل التستريّ في قوله تعالى [آل عمران: 96]: أول بيت وضع للناس هو بيت الله عزّ وجلّ بمكة، هذا هو الظاهر؛ أمَّا الباطن فالمراد به الرّسول يؤمن به مَنْ أثبت الله في قلبه التَّوحيد من الناس.
ومن ذلك تفسيره لقول الله تعالى [النساء: 36]، حيث يقول بعد ذكره للتَّفسير الظاهر، وأمَّا باطنها فـ (الجار ذي القربى) هو القلب، و(الجار الجنب) هو الطبيعة، و(الصاحب بالجنب) هو العقل المقتدي بالشَّريعة، و(ابن السبيل) هو الجوارح المطيعة لله (1) .
__________
(1) تفسير القرآن للتستريّ، ص 45.(1/29)
ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى [الروم: 41]: "مثّل الله الجوارح بالبر، ومثّل القلب بالبحر، وهو أعم نفعاً وأكثر خطراً، هذا هو باطن الآية ألا ترى أنَّ القلب إنَّما سُمِّيَ قلباً لتقلُّبه وبعد غوره".
ومن هذا النوع تفسير ابن عطاء الله السكندريّ لقوله تعالى [يس: 33]، حيث يقول: "القلوب الميتة بالغفلة أحييناها بالتَّيقُّظ والاعتبار والموعظة، وأخرجنا منها حباً معرفة صافية تضيء أنوارها على الظاهر والباطن (1) .
التَّفسير العلميّ:
هو الذي يحكم الاصطلاحات العلميّة في عبارة القرآن، وتجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفيّة منها. هذا ومن الذين أيّدوا هذا الاتجاه وروجوا له الإمام الغزاليّ، حيث يعقد باباً يحوي سبعة وسبعين ألف علم، ومائتي علم إذ كلّ كلمة (علم) ثم يتضاعف أربعة أضعاف، إذ لكلّ كلمة: (ظاهر)، و(باطن)، و(حدّ)، و(مطلع).
قال بعض القائلين بالتَّفسير العلميّ ـ وأحسبه أبو العباس المرسيّ ـ: "ونظر فيه ـ أي القرآن ـ أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من المعاني والدّقائق ما أطلعهم على علوم مثل: (الفناء)، و(البقاء)، و(الحضور)، و(الخوف)، و(الهيبة)، و(الأنس)، و(الوحشة)، و(الغبط)، و(البسط).
ويستخلص أصحاب هذا الرَّأْي العلوم الآتية من القرآن:
[1] فالطب: مداره على حفظ نظام الصحة، وذلك إنَّما يكون باعتدال المزاج المشار إليه بقوله تعالى [الفرقان: 67].
[2] الهندسة: قوله تعالى [المرسلات: 30-31]، فإنَّ فيه قاعدة هندسيّة، وهو أنَّ الشَّكل المثلث لا ظلّ له.
[3] الخياطة: من قوله تعالى [الأعراف: 22].
[4] الحدادة: من قوله تعالى [الكهف: 96].
[5] النّجارة: من قوله تعالى [هود: 37].
[6] الغزل: من قوله تعالى [النحل: 92].
[7] النّسيج: من قوله تعالى [العنكبوت: 41].
[8] الفلاحة: من قوله تعالى
[الواقعة: 63].
[9] الغوص: من قوله تعالى [ص: 37].
__________
(1) حقائق التَّفسير للسلميّ، ص 284(1/30)
[10] الصباغة: من قوله تعالى [الأعراف: 148].
[11] الزجاجة: من قوله تعالى
[النمل: 44].
[12] المصباح: من قوله تعالى [النور: 35].
[13] الفخارة: من قوله تعالى [القصص: 38].
[14] الملاحة: من قوله تعالى [الكهف: 79].
[15] الكتابة: من قوله تعالى [القلم: 4].
[16] الخبز: من قوله تعالى [يوسف: 36].
[17] الطبخ: من قوله تعالى [هود: 69].
[18] الجزارة: من قوله تعالى [المائدة: 3].
[19] الحجارة: من قوله تعالى [الشعراء: 149].
[20] الرَّمي: من قوله تعالى [الأنفال: 17].
من هذا كلّه يثبت أنَّ هؤلاء القائلين بالتَّفسير العلميّ قد حاولوا أنْ يجعلوا القرآن منبعاً للعلوم كلّها، ما جدَّ منها وما يجدّ إلى يوم القيامة، وهذا الاتّجاه لم يكن موضع التفاف بين جميع أهل العلم، فمن الذين أنكروا هذا الاتجاه الإمام الشاطبيّ المتوفى سنة 790هـ، ومن الذين أيّدوه ـ أعني الاتجاه العلميّ ـ الشيخ/ طنطاويّ جوهريّ المتوفى سنة 1358هـ، حيث يذكر في كتابه: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" فيقول: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلاميّة في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلاَّ آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كَثُرَ التأليف في علم الفقه، وقلَّ جداً في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؟ بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أنْ يبرع المسلمون في علم آياته قليلة، ويجهلوا علماً آياته كثيرة جداً؟ إنَّ آباءنا برعوا في علم الفقه، فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأُمَّة" (1) .
وبعد،،،
فهذه وقفات سريعة مع بعض المفسِّرين واتّجاهاتهم ومناهجهم في التَّفسير، عساها تكون مدخلاً لطلاب العلم إلى هذا العلم الذي هو مناهج المفسّرين.
__________
(1) تفسير الجواهر، 25/35.(1/31)
والله أسأل التوفيق والسداد، وأنْ يجعل هذا الجهد المتواضع في ميزان الحسنات إنّه سميع مجيب، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً.(1/32)