مقدمة ـ الله الواحد، والكون الدال على خالقه، والقصص القرآنى، والبعث والجزاء، والتربية والتشريع.... هذه هى المحاور الخمسة التى أفاض القرآن فى ذكرها، وانتهى فضيلة أستاذنا الإمام محمد الغزالى إلى أنها أمهات لمسائل أخرى كثيرة تندرج تحتها... بل ذهب المسلمون يعالجون تفسير القرآن، معالجة جزئية حرفية، دون أن يبسطوا الحقائق القرآنية الكبرى بسطا يرتفع إلى مستواها، ويستمد منها القيم القرآنية، التى وضعها الله لتقود المسلمين ـ بالقرآن ـ إلى التى هى أقوم!! وفى قرون متطاولة من تاريخنا، سيطر المنهج اليونانى على المنهج الإسلامى، وترجمت كتب فلاسفة الإغريق؟ لتكون مصدرا لفهمنا، ومحكا نقيس على قواعدها ما عندنا… بينما كان العكس هو الذى ينبغى أن يكون… فنحن الأسلم فكرا، والأنقى عقيدة، والأصدق وحيا… وتصورنا الإسلامى لله، هو التصور الذى يليق بعظمة الله، ويقدر الله حق قدره... كما أن التصور القرآنى للكون، هو أصدق تصور، وهو الدليل الأكبر على عظمة الخالق، وهو الآية العظمى بنسيجها البديع، ونظامها الدقيق، وحركتها المنضبطة التى لا تتخلف جزءا من مائة من ثانية واحدة.. هذا التصور القرآنى للكون هو كذلك ـ من أقوى ما لدينا من صور الإعجاز التى اهتم بها القرآن وغفل عنها المسلمون، واخترعوا ـ بدلا من التعمق فى فقه آية الكون العظمى ـ علم كلام جدلى أشبه ما يكون بالمنهج الأرسطى الجدلى... وكان هذا من عوامل ضعف صلتهم بالقرآن، وبلادة حركتهم الفاعلة فى الحضارة...
ص _006(1/1)
– ومن العجيب أن قدرا كبيرا من القرآن يعالج ما يسمى بالقصص القرآنى... ومعالجته ليست لمجرد أن يكون القرآن كتاب تاريخ أو أن يكون من باب الإعجاز القرآنى.. بل الأمر أعمق من ذلك وإن كان ذلك جزءا من الإعجاز..!! فالمقصد الأسمى أن يفهم المسلمون سنن الله الكونية والاجتماعية، وألا يحاولوا القفز من فوق سنن الله، وأن يعوا أنهم لن يمكنوا فى الأرض إلا إذا تفاعلوا التفاعل الصحيح مع هذه السنن... ويفهموا أيضا أن التاريخ ذاكرة ضرورية للحاضر والمستقبل... وهو (الكمبيوتر) الذى يغذى الحاضر بالمعلومات الصحيحة، فيمكن الوصول إلى القرار المستقبلى الصحيح!! – وقد تحدث القرآن حديثا مستفيضا عن البعث والجزاء، وكأنهما حاضر يراه الناس ... ولا غرو فى ذلك، فالحاضر والمستقبل مصطلحات خاصة بنا لكنها بالنسبة لعلم الله لا معنى لها، فالماضى والحاضر والمستقبل عنده سواء... وقد أراد الله من ذلك تربيتنا على (تمثل الغيب) فى فكرنا وسلوكنا... لأننا (مهما كاد الكائدون) ( الذين يؤمنون بالغيب ) إيمانا لا يتزعزع، إذ هو جزء من إيماننا بالله.. وهو كذلك من وسائل التربية والتقويم..؟ لأنه خطاب للقوى الموجودة فى الإنسان، والتى تحتاج إلى مثل هذا اللون من الخطاب... فليس بالعقل وحده يقوم الكون أو يعيش الإنسان!! إن هذه هى المحاور الخمسة التى أقام عليها أستاذنا الإمام الشيخ محمد الغزالى هذه الوقفة مع كتاب الله... وفى يقينى أن ثمة وقفات أخرى مع كتاب الله يجب أن يقفها الإمام الغزالى، وإنى لأجزم أنها تعيش فى ضميره ووجدانه... وأرجو الله أن يفتح له – ولى – من أبواب رحمته التى لا ممسك لها إلا هو... حتى يمتد وقته طولا فى الزمان وعرضا فى البركة، فيقدم للأمة المسلمة مزيدا من الوقفات مع الكتاب المعجز الذى لا تملك البشرية وحيا سماويا لم يأته الباطل سواه.. ص _007(1/2)
إن المحاور الخمسة (الكتاب والقضية) إضافة أخرى من الإضافات الرائعة القوية لأستاذنا الأمام الشيخ محمد الغزالى فى عمره الثانى.. والعمر " الثانى " لأستاذنا يبدأ ـ فى تصورى ـ بعد أن طرح الفكر المادى بشقيه الشيوعى والعلمانى نفسه على واقعنا بصورة مدمرة… وكاد ـ إلا من وميض من النور ـ أن يسيطر على إعلامنا... وعقولنا.. وقد فخر هذا الغزو فى أستاذنا كل طاقته، فتألق إيمانه وفكره كما تتألق الأفكار العظيمة والحضارات الأصيلة.. فى ساعات الامتحان مستجيبة للتحدى الاستجابة الملائمة لقوتها وعظمتها.. وقد حظيت المكتبة الإسلامية بعدد كبير من الدراسات الرائعة لأستاذنا تمثل استجابته الملائمة لهذا التحدى وجهاده العظيم. ولا يكاد يختلف اثنان منصفان على أن أستاذنا الإمام محمد الغزالى واحد من القمم الإسلامية الشامخة التى تعد على أصابع اليد الواحدة على امتداد عالم الإسلام الفسيح. فجزاه الله خير الجزاء... وأطال عمره.. وبارك فيه... ومتعه بعمر "ثالث " يشهد فيه انتصار الإسلام الوشيك على هذا الركام من التصورات والأفكار والأيديولوجيات... وما ذلك على الله بعزيز. د. عبد الحليم عويس القاهرة الإسلامية غرة ربيع الأول سنة 1409 هـ ص _009(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم عندما يسأل المسلمون: هل لله وحى يهدى العالم القديم والجديد إلى الحقائق، ويخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور؟ فإن إجابتهم المفردة: نعم، هذا القرآن الكريم! الثقة فى هذا الكتاب وحده، الذى لم ترق إليه شبهة، والذى لم يختلط فيه الوحى الأعلى بفكر بشر، والذى جمع ما تفرق فى رسالات الأنبياء الأقدمين، فهو كتاب الأزل ولأبد، كتاب استوعب هدايات موسى وعيسى ومحمد، وتضمن من الوصايا ما يضبط سير البشر، ويستبقيهم على صراط مستقيم... ويدعم المسلمون إجابتهم تلك بدليلين: أحدهما: تاريخى نوجز عرضه. والآخر: موضوعى سوف نبسط الكلام فيه! يحكى التاريخ ـ دون شغب من خصم ـ أن محمدا عليه الصلاة والسلام أقام بالقرآن دولة سيطرت على جزيرة العرب كلها، وواجهت دولتى الروم والفرس، واستطاعت بعد سنوات معدودات أن تقوض سلطانهما، وأن تنفرد ـ بعد ـ بزمام الدنيا! بدأت هذه الدولة على عهد النبى نفسه، فكان القرآن يتلى فى رقعة تعادل نصف أوروبا، يتلى فى المساجد فى الخطب الأسبوعية، وفى الصلوات اليومية، وعلى ألسنة المتعبدين فى الصباح والمساء، والجيوش فى زحفها وفى راحتها. والدولة فى شئونها كلها، جعلت هذا القرآن دستورها، وأساس حكمها، وإذا كانت النقود متداولة معروفة مأنوسة، فإن آيات القرآن كانت كذلك متداولة معروفة مأنوسة. ربما وقع تزييف فى النقود، لا يلبث حتى يكتشف، لكن القرآن لم يحاول أحد تزييفه، ولو حاول لافتضح وهلك. ص _010(1/4)
ومن بدء الوحى لا يوجد إلا هذا المصحف ولن يوجد غيره ما بقيت الدنيا.. ولم يقع لصاحب رسالة سابقة أن أقام بكتابه دولة فى حياته! لقد تم ذلك لمحمد وحده، فكان التواتر الكتابى، والشفوى سياجا فريدا وفر للإسلام صيانة لم تعرف لغيره. وثم أمر نؤكده، إن ما أوحاه الله إلى محمد يستحيل أن يخالف وحيا نزل على نبى سبق! وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)، فإذا تضمنت اليهودية أو النصرانية المعاصرتان، خدشا لجلال الله، أو انتقاصا لقدره، فليسر ذلك توجيها سماويا، إنما هو وهم بشر، ونحن لذلك نرفض أن يكون الله جسدا، أو والدا أو ولدا، كما نرفض أن يرسل الله هاديا يزنى أو يسكر، أو يرتشف شيئا من الخمر قل أو كثر... وقرآن محمد وتوراة موسى من قبل هدى ونور، وفى الوحى الخاتم، يذكرهما الله فى سياق واحد: ما لو ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) وأعداء القرآن لهم كلام طويل ضد النبى الذى جاء به! كأنما جاء به ليطلب مالا، أو جاها وهو أزهد أهل الأرض فى المال والجاه! ما الذى قاله مستمعو القرآن عندما قرع آذانهم؟ (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) . ماذا طلبه مبلغ القرآن ممن صدقوه وآزروه؟ طلب منهم أن يدعوا الله له أن يتقبل جهاده، وأن يبعثه فى الآخرة مقاما محمودا..! إن وثائق العقل والنقل تتظاهر وتتزاحم على أن هذا الكتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ). ولن يصح فى الأذهان شىء إذا اتجهت للقرآن تهمة! ص _011(1/5)
إننا ـ نحن المسلمين ـ نقول فى رسوخ وشموخ: ليس فى القارات الخمس ما يسمى وحيا محضا، إلا هذا الكتاب الذى لا ريب فيه.. ولن يعرف الله معرفة صحيحة، إلا من التأمل فى معانيه ومغازيه.. وهنا نتحدث عن الموضوعات التى خاض فيها القرآن، وبسط على الناس أطرافها، لنشرح الدليل الآخر على صدق القرآن، وصدوره عن الله وحده.. لو أن كتابا ألقته أمواج البحر على الشاطئ لا ندرى من أين جاء، أو لو أن الرياح الهابة من بعد حملت إلينا كتابا لا ندرى من أرسله؟ لكان جديرا بنا أن نعرف ماذا فى هذا الكتاب؟ وما الذى حوته صحائفه؟ أهو تمجيد لجنس من الأجناس؟ أهو ثناء على ملك من الملوك؟ أهو نبوءات مبهمة؟ إن ذلك يعنينى بادئ ذى بدء.. ولقد تناولت المصحف الذى وصل إلى فى هذا العصر، وشرعت فى تدبره لأتعرف على ما فيه! وأحسست للقراءة الأولى أن الكتاب الذى بين يدى، يبدئ ويعيد فى قيادة الناس إلى الله، واستثارة مشاعرهم من الأعماق " كى يرتبطوا به، ويتوجهوا إليه، ويستعدوا للقائه.. الحديث دائم متصل عن الله، وما ينبغى له! وعن جعل الحياة الدنيا مهادا لما بعدها.. وكان هناك همس يحمله الغزو الثقافى من بعيد أن هذا القرآن من صنع محمد! وبحثت بجد فى طول القرآن وعرضه عما صنعه محمد لنفسه فى هذا الكتاب، فلم أجد شيئا صنعه محمد لنفسه، إلا أنه عبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، عبد فقير إلى الله كسائر العباد! إن الحماس يشتعل فى الآيات النازلة على مدى ربع قرن تسبيحا لله وتمجيدا... واقتلاعا للأهواء والخرافات التى صرفت الناس عن ربهم الكريم... ماذا لمحمد فى هذا الكتاب الذى قالوا: إنه ألفه؟ وقرأت الكتب المنسوبة إلى السماء، فى زعم خصوم محمد، فما فتئت أن قلت: ص _012(1/6)
إن صح أن هذه الكتب من السماء وأن كتاب محمد من الأرض، فمعنى هذا أن محمدا أقدر على صنع الدين من رب الدين! وأنه أفصح فى الثناء على الله من الله عندما يتحدث عن نفسه!! إن تكذيب القرآن مهزلة شائنة، وإن دراسة هذا القرآن الكريم أورثتنى إحساسا بعظمة الله، لم أحسه أبدا فى قراءة كتاب آخر! لقد شعرت أن قلبى الذى يدق بين أضلاعى ما تحرك إلا بعد ما غمزته أصابع القدرة العليا، فانطلق لا يتوقف، وأن آذانى فى أصداغى ما تسمع، وعيونى فى وجهى ما ترى، إلا بعد إمداد ممن " يملك السمع والأبصار " يجعلنى أسمع وأرى. ومنذ أمد قريب اعترانى مرض مؤلم إذ تجلط الدم فى ساقى، وجاء الأطباء بجهاز يتعرف على مكان التجلط..! وبدأت أنصت لهدير مكتوم متتابع عرفت أنه صوت جريان الدم فى العروق! إن للدم فى انسيابه وانسكابه، وهبوطه وصعوده، وابتدائه من القلب، وانطلاقه خلال الشرايين والأوردة والشعيرات صوتا موجودا، وإن كنا لا نسمعه بآذاننا ذات القدرة المحدودة... شعرت بأن بدنى يغلى بالحياة والحركة، وأن هذا الغليان نضح الوجود الأعلى، فما يقوم شىء إلا بقيام الله عليه، وإمداده له (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون* وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون * وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ). قلت للطبيب: لو اتصلت الشرايين والشعيرات فى خط واحد ممتد، كم يبلغ طولها؟ ص _013(1/7)
قال فى استغراب: لعلها تكؤن نهرا مت عدة أميال!! قلت: هذا النهر الموار بالدم السائل الحامل لألوف مؤلفة من الكرات الحمراء والبيضاء يتحرك داخل عروقى! وأنا واحد من خمسة آلاف مليون من البشر، يحيون على ظهر الأرض مثلى؟ وقد يتعرض بعضهم كما تعرضت أنا لهذا التجلط الواقع على امتداد أصبع فيتحرك الأطباء لعلاجه!! إن المشرف على تيارات الحياة فى عالم الإنسان، يقوم على عالم كبير جدا، فكيف إذا كان هذا العالم الرحب من العروق والدماء، جزءا تافها من أكوان، تزحم الفضاء، وتعمر الملكوت، تشرق وتغرب وتروح وتجئ، وتمضى بسكانها الذين لا نعرفهم، إلى غايات لا ندريها؟؟؟ ما أعظم الله وما أغبى الجاهلين به أو الجاحدين له! ( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون ). ليت المسلمين استقوا عقائدهم تصورا وتصويرا من القرآن وحده! إذن لأراحوا واستراحوا. إن بعض هواة الجدل لم يتورعوا عن كثرة اللغط فى قضايا العقيدة، فضلوا وأضلوا، ويشبه هؤلاء فى الانحراف قوم غرتهم فلسفة اليونان وخيالاتهم النظرية، تحدثوا فى أصول الإيمان، فزادوا الطين بلة.. ولا عاصم من هذه المزالق كلها، إلا التزام المنهج القرآنى، والسير فى معالمه.. وقبل الدخول فى موضوعنا أذكر أن أحد الخلفاء نظر إلى أعرابى من الواقفين ببابه وسأله مستهينا به: أين ربك؟ وفوجئ الخليفة بالجواب يلطمه: بالمرصاد!! نعم إن ربك لبالمرصاد كما قال سبحانه وتعالى، وعقوبته ترقب العابثين والمستكبرين. أروى هذه القصة بعدما سمعت السؤال نفسه يوجهه شاب مغرور إلى أحد الناس يقول له بطيش: أين الله؟ ويبدو أن المسئول أخذ على غرة فتحير وسكت! ص _014(1/8)
فقال السائل: أليس الله موجودا؟ قال الرجل: بلى! قال السائل: فأين يوجد؟ قال: فى كل مكان! وكأنما سنحت للسائل الفرصة التى ينتظرها، فقال فى استعلاء خبيث: أيوجد فى أماكن القمامة ومجامع القذارة و... و...؟ ورأيت أن الأمر بلغ حد الإسفاف، فتدخلت معترضا لأنقذ الموقف وأشرح المراد.. قلت للسائل: عندما يقول أحدنا دخلت الشمس الغرفة فإنما يعنى دخول شعاعها وحرارتها ولا يفهم عاقل أبدا أن الشمس نزلت من عليائها واحتلت الغرفة، وجلست على كرسى أو نامت على سرير...! وعندما خشى موسى وهارون عواقب الحديث مع فرعون أوحى الله إليهما (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) إنه كان معهما بتأييده وتثبيته ، ولم يكن واقفا أو جالسا فى مجلس الحوار، ولا يفهم ذلك إلا أحمق، وليس لنا أن نبحث عن كنه هذه المعية فنحن دون ذلك.. قال السائل: إننى أريد نفى الحلول! قلت: أسلوب القرآن الكريم فوق الشبهات، ومن اعتمد فى إجابته على آيات محكمة لا ينبغى أن نسفه قوله. وحكاية الحلول حكاية سمجة، ما تتماسك فى ذهن محترم، وما ينبغى من أجلها أن نغفل قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) وقوله : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم). إن خالق المكان والزمان لا يحويه زمان ولا مكان، إن خالق المادة لا يخضع للقوانين المادية، إن الذى يريد تصور الحقيقة الإلهية بمخه البشرى القاصر غر مخدوع.. إننا عاجزون عن تصور الخلية والذرة فى عالم المادة، وفى عماء ممتد بالنسبة لما وراء المادة فكيف نحاول استكناه الألوهية؟؟ إننى أتلو القرآن وأترك معانيه تنطبع فى فؤادى دون تقعر ولا تجرؤ... ص _015(1/9)
وعندما أقرأ وصف المحتضر، وهو على عتبات الآخرة، وروحه تودع الدنيا أترك رهبة الصورة تغزو نفسى وأنا مستكين ( فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين ). إن الخائفين من خرافة الحلول يؤولون " نحن " بملائكتنا، وأنا لا أخاف هذه الخرافة وأفهم نحن على أنها نحن، وأوقن أن الله أكبر من أوهامنا القاصرة، وأن قربه لا يحدد بمسافات أو ساعات! إنه قريب كما وصف نفسه تبارك اسمه، ومن السماجة محاولة تفسير هذا القرب بما يوائم حسنا البشرى.. هل أستطيع تكليف رضيع، أن يصف لى عقل " آنشتين "؟ أو تكليف طفل بأن يشرح لى أسلوب العقاد فى عبقرياته؟ إننى أعلم أن الشجرة التى تنبت بجوار بيتى، ينميها فى مغرسها الرب، الذى يرعى الشعرى فى مدارها الغابر فى الأفق، لا يشغله شأن عن شأن ولا يلفته أمر فى الأرض عن أمر فى السماء (ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) فما معنى التساؤل عن كنه الله؟ إنها طفولة جريئة أو تطفل قبيح.. مع أسلوب القرآن فى الحديث عن الله وعن الخلق أمضى، وهو أسلوب يشبع العقل والقلب! أما الذين أمرض قلوبهم الجدل والتطاول، أو أمرض عقولهم التخيل والتقعر، فإننى آبى كل الإباء أن أكترث بهم. كنا فى الصبا الباكر ندرس الآيات المتشابهة وأعصابنا هادئة، ونقلب البصر بين مذهبى السلف والخلف دون تشنج ولا حساسية! وكنا نميل إلى مذهب السلف، عندما تكون القضية فى موضوع، ليسر من ميادين العقل البشرى، ولا مجال لأدواته فيها، ونحن نعلم أن المجال المتاح لنا، هو عالم الشهادة، أما عالم الغيب فإن فكرنا فيه قاصر.. ص _016(1/10)
على أية حال كنا نقرأ تاريخنا الثقافى فى موضوع " المحكم والمتشابه " بشيء كبير من الحياد والهدوء، وإن كنا نحس الضيق عندما نتناول الفكر الاعتزالى المتأثر بفلسفة اليونان.. وكان الباعث على ذلك المسلك ما يأتى: ا- أن الآيات المحكمات تناولت عزائم الرسالة، ومعاقد التشريع، ومناهج التربية والتوجيه، ولذلك سميت " أم الكتاب " أما المتشابه فآيات قلائل، لا تتصل بالحلال والحرام أو الواجب والنافلة، بل هى حديث عن الذات الأقدس يمكن إمراره، مادام العقل لا يعترضه..! وكنا ـ منذ نعومة أظفارنا ـ نفرق بين ما يحكم العقل باستحالته، ويجزم برفضه، وبين ما يشعر العقل، بأنه حق، بيد أن إدراك كنهه فوق الطاقة... وأمثلة ذلك فى العالم المادى نفسه فوق الحصر، فكيف بما وراء المادة؟ من أجل ذلك لم نشغل أنفسنا بقصة المتشابه، بل مررنا عليها مرور الكرام. 2- ثم إن الكمال الإلهى، تعجز لغات البشر كلها عن إدراك كنهه، إننا وضعنا اللغات ولانزال نضعها دلالة على ما نألف ونعرف ونحس ونتخيل ، وعندما نتحدث عن الله بلغاتنا، فهو جهد المقل، أو هو وسع العاجز، والله ليس كمثله شئ. ويخيل إلى أن جهازنا العقلى، لا يزيد عن أجهزة الاستقبال المتداولة فى الأسواق، فلو تسلط عليه تيار ذو قوة أعلى لاحترق لفوره.. إن عظمة الله فوق العقول، والحديث عنه تبارك وتعالى من باب التقريب، وقد قيل: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك. إننى واحد من خمسة مليارات تسكن الأرض، لكل منا سيرته وسريرته، وهذه الدورة من المخلوقات جزء من مواكب الأحياء التى بدأت من الأزل وستبقى متصلة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ما أنا فى هذا الركام الهائل من الأحياء؟ ذرة فى جبل ذاهب فى الطول والعرض؟ ثم ما البشر إلى جانب أمم أخرى، من المخلوقات الزاحفة، والطائرة، والساعية، على قدمين، أو أربع؟ ص _017(1/11)
بك ما الأرض كلها، ما عليها ومن عليها، بالنسبة إلى عالم ملئ بالمجرات والكواكب تنتشر هذه الكائنات الضخمة فى فضائه كما تنتشر الرمال على شواطئ البحار..؟ إننى فى الملكوت الرحب كائن تافه، ومن التطاول المعيب أن أتجاوز قدرى، وأحاول التعرف على كنه البارئ الأعلى، فى وقت أنا فيه عاجز عن فهم نفسى، واكتناه روحى وبدنى. من أجل ذلك لم أجشم نفسى مشقة البحث فى المتشابه، مكتفيا فى تكوين عقيدتى وتربية نفسى وأداء حق ربى بالآيات المحكمات، فهن أم الكتاب ولبابه..! 3- أرى أن انطلاق الألسنة والأقلام فى عالم الغيب، وافتعال المعارك حول المتشابه ـ سلبا أو إيجابا ـ هو لخدمة الاستبداد السياسى، بل هو قرة عين الحكم الفردى، فإن خلافا حارا أو باردا، حول رؤية الله سبحانه وتعالى، أحظى لدى الخلفاء غير الراشدين من الخلاف حول أصول الحكم وسياسة الجماهير..! وقد انتقل ذلك الخلاف إلى ميدان الفقه، فشغل الشعوب بفروع العبادات، عن سياسة الحكم والمال، وعلاقة الأمة بغيرها، وكيف تقدر على أداء رسالتها العالمية.. واستحياء الخلاف القديم بين السلف والخلف فى عصرنا هذا، ليس إلا مضيا فى تضليل المسلمين عن رسالتهم الكبرى، واستبقاء علل التخلف الخلقى والاجتماعى بينهم! وقد حاول الشيخ محمد عبده فى " رسالة التوحيد " التى ألفها فى العقائد أن يجعل الخلاف لفظيا بين شتى الخصوم! وأن ما ينكره هؤلاء غير ما يقره أولئك، إذ الكل متفقون على تنزيه الله، وتقديس ذاته، والحق أن الخلاف كثيرا ما يكون ضربا من الجدل السخيف، أو اللعب بالألفاظ.. وأعود إلى دراستنا الأزهرية التى كنا نتلقاها، والتى أفدنا منها الكثير، وخير تصوير لها ما ذكره النووى ـ رضى الله عنه ـ بأمانة وإيجاز! عند شرحه لحديث: " أتانى ربى فى أحسن صورة.. " ، قال: ص _018(1/12)
" إن أول ما يجب على المؤمن أن يعتقد تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وقال تعالى: (قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد و لم يولد* و لم يكن له كفوا أحد ). واعتقاد غير ذلك مخل بالإيمان، واتفق أئمة المسلمين قاطبة على أن ما ورد من الكتاب والسنة مما ظاهره يوهم تشبيه الله تعالى ببعض خلقه، يجب الإيمان بأن ظاهره غير مراد، ولا يصح وصف الله تعالى بما يفيده هذا الظاهر من حيث عمومه. بل يسمون مثل هذا بالمتشابه. ولعلماء الأمة فيه مذهبان: مذهب السلف ومذهب الخلف. فمذهب السلف: يعتقدون أن ظاهره غير مراد، ويفوضون علمه إلى الله، مع إيمانهم بأن الله تعالى منزه عن مشابهة خلقه، ولا يعينون معنى خاصا، لهذا التشابه، بل عقيدتهم هى التفويض الكلى فى علمه إلى الله تعالى، أخذا بقول الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله ). ثم يبدءون فى القراءة بقوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ). ومذهب الخلف ـ مع اعتقادهم تنزيه المولى تعالى عن مشابهة خلقه ـ يؤولون اللفظ المشابه بمعنى ليس من المستحيل إطلاقه على الله تعالى، مثلا يؤولون الصورة هنا المذكورة فى قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أتانى ربى فى أحسن صورة).. وفى قوله فى رواية أخرى: " إذا أنا بربى تبارك وتعالى فى أحسن صورة " فيقولون: الصورة مراد بها صفات الجلال والكمال التى تليق به تعالى، وهى التى تجلى بها ربه له ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وأنا إجمالا أمضى مع مذهب السلف بطبعى، وإن كنت أرفض نزعة التكفير. والقرآن الكريم مع استفاضة معانيه، وكثرة سوره، يمكن القول بأنه يدور على محاور خمسة. فالتشابه قائم بين آياته، وتكرار المعانى والغايات مأنوس فى سياقه (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي(1/13)
به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد ) ص _019
والآية تشير إلى أن القرآن لا يحتوى على مباحث نظرية مجردة، أو قضايا من اختلاق الترف العقلى، كلا. هذا الكتاب يعرف الناس بربهم، على أساس من إثارة العقل، وتعميق النظر، ثم يحول هذه المعرفة! إلى مهابة لله، ويقظة فى الضمير، ووجل من التقصير، واستعداد للحساب. هناك أفكار أرضية تبدئ وتعيد فى نطاق الحمأ المسنون أما القرآن فهو يدع الناس يمشون فى الأرض بعد أن يجعل رءوسهم فى السماء. ص _021
المحور الاول الله الواحد ذلك المحور الأول من المحاور التى دارت عليها سور القرآن الكريم... كان الناس قديما يعرفون الألوهية معرفة ناقصة أو مشوهة، فكانوا يضمون إلى عبادة الله " عبادة آلهة أخرى، من صنع أنفسهم، وكان تعصبهم لهذه الآلهة المختلفة شديدا، وربما كان حظها من الإقبال والخشية أكثر من حظ إله الحق! وعندما جاء الرسل يفردون الله بالعبودية، ويخاصمون الاتجاه إلى الوثنية، قوبلوا بحرب شعواء. وتدبر ما قال قوم هود له: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) وهكذا فعلت سائر الأم مع أنبيائها. وإلى جانب الشرك بالله وجدت فئات تنكر الألوهية من الأساس! وتظن أن الحياة بدأت من الصفر، وتنطلق كيفما اتفق ، وتتوارث الأجيال الظهور والخفاء ، دون حكمة أو هدف... كان هؤلاء قلة إلى جانب المشركين الأقدمين، ولكنهم فى العصر الحاضر، كثروا كثرة شديدة، وتعاونت ظروف شتى على دعم جانبهم، حتى ليكاد زمام العالم يقع فى أيديهم! ص _022(1/14)
ولسان حالهم فى شرق العالم وغربه ( إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ). وبديه أنهم ينكرون الوحى، فمن أين يجئ؟ وتعليقهم على كل من يحمله: ( إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ). وأرى أن هؤلاء الملاحدة نبتوا فى ظل الديانات الأرضية المخرفة، أو فى ظل الديانات السماوية المحرفة، وقد لحظوا الجانب المظلم فى هذه الديانات كلها، ولم يرزقوا معرفة الحق من منابعه النقية، ولم يكن لهم من أنفسهم نور يمشون به، فآثروا الكفر الغليظ والتعطيل التام.. وقد وجدت من هؤلاء رؤساء لحكومات صليبية وصهيونية ووثنية وشيوعية...، ولاتزال عدواهم تمتد، ولا علاج إلا إذا عرف الإسلام، وشاعت حقائقه... ماذا كان موقف القرآن بإزاء هؤلاء وأولئك؟ إن حديث القرآن الكريم عن الله يمزج بين أمرين: الأول: فقر العالم إلى الله وقيامه به واستمداده الوجود منه، أى أنه من المستحيل أن يتخلق من غير خالق، أو ينتظم من غير منظم! والثانى: أن هذا الخالق المدبر واحد لا شريك له، ليس له ند أو ضد، كل شىء هالك إلا وجهه! كل شىء من إنس، أو جن، أو ملك عبد قن له وحده، يستوى فى هذه العبودية، حيوان مستخف تحت التراب، أو ملك ساجد تحت العرش : (له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى ). إن فالق الحب والنوى فى الحقول والحدائق، ومنشئ الثمرات اليانعات والنخيل الباسقات هو هو فالق الإصباح، وناشر نوره العريض فى آفاق السموات والأرض، ودافع الكواكب تلتف حول نفسها، أو تنطلق فى فضائها، من غير وقود تستهلكه، أو جناح تسعى به! وقد حاول فرعون ـ وهو حاكم أعمى البصيرة ـ أن يسأل موسى عن كنه الله! فكان ص _023(1/15)
الجواب الفذ: إن الله يعرف بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وآثاره التى يستحيل أن تنسب لغيره. " قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ". وفى سؤال آخر لفرعون (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ). إن الله أعز وأسمى من أن يجعل وجوده قضية تحتمل القيل والقال والأخذ والرد. وإذا كان فى البشر عميان، لا يحسون مجده، ولا يشكرون رفده، فهم أنزل رتبة من أن ينصب لهم منبر، أو تصور لهم شبهة! ويكفى أن يتحدث رب العالمين عن نفسه، فيمحو باطلهم فى سياق من العظمة والجلال ، هو لهما أهل، وبهما جدير! (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ). وأنا عندما أتأمل فى ذاتى لا أجد مكانا لشبهة! قلت وأنا أضحك: فى جلدى مائة ألف شعرة كما يقول علم الأحياء بعضها يحلق ويحل غيره مكانه! وبعضها يبقى من المهد إلى اللحد! من زرع هذه الشعيرات أو الشجيرات، قصيرة كانت أو طويلة؟ وفى الدم ملايين من الكرات الحمراء والبيضاء، تسبح فى مجراها العتيد! قالوا: إنها تصنع فى نخاع العظام! ترى كم عبقريا اختفى داخل هذه العظام ليصنع هذه الكرات، ويزودها بخصائص الحياة والقوة؟؟ ص _024(1/16)
لماذا يتناسى الناس آثار القدرة العليا، وصنع الله الذى أتقن كل شىء؟ إننى أحتقر الإلحاد من أعماق قلبى، ولا أزال أراه مرضا لا فكرا.. هل الفكر أن أقول: صنعت الأرحام ما استودعت من أجنة؟ وما أخرجته من بنين وبنات؟ هل الفكر أن أقول: صنعت التربة ما على سطحها من زروع وزهور وحبوب وفواكه؟ أى فكر هذا؟ (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ). ويستطيع القارئ ـ حين يتدبر حديث القرآن عن الله ـ أن يلمس براهين الوجود الأعلى مع إغفال مقصود لمنكرى هذا الوجود... على أن فكرا آخر سيطر على أغلب الناس، وزاغ بهم عن الصراط، أساسه أن الله حق، ولكن معه شركاء، يسمون هم الآخرين آلهة!! والذريعة التى زينت هذا العبث أن تلك الآلهة وسطاء وشفعاء عند الإله الكبير، فلا ارتباط به إلا عن طريقهم! وقد أوضح القرآن الكريم أن هذه الآلهة المزعومة أسماء ليست لها مسميات، وأوهام ليست تحتها حقائق، وأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان.. وإن ذبابة محقورة، تقهر هذه الآلهة المنتحلة..! وإن الاستناد إليها، استناد إلى فراغ (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ). والغريب أن البشر، تعلقوا بهذه الآلهة المكذوبة، أكثر مما تعلقوا بالله نفسه، وجعلوا لها نصيب الأسد فى كل ما يتقدمون به من قرابين (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ). ص _025(1/17)
والإشراك الشائع اليوم فى أرجاء الأرض، يحتاج إلى نظر. فـ " بوذا " فيلسوف قديم، ينبع فكره من الأرض ولم يؤثر عنه أنه نظر إلى السماء وقد عده أتباعه إلها!! وتوجد أوثان فى الهند والصين، لها مزارات مقدسة، وتنسب لها صفات الألوهية، ويتقرب إليها بأعمال، بعضها شائن، وبعضها تافه... وسبل الضلال كثيرة، وقد أعلن الإسلام عليها كلها حربا شعواء، واستثار العقل الإنسانى للصد عنها والكفر بها (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) وهذه الوثنيات، تترنح اليوم، تحت ضربات الشيوعية، وينتقل أصحابها من الشرك إلى الإلحاد، أى من ظلمة إلى ظلمة.. إن رسالة التوحيد لم تبلغهم! من شرحها لهم؟ ولو بلغتهم نظريا، فليس هناك من عناصر الرغبة ما يغرى بها، ولا من عناصر الرهبة ما يدفع عنها، إذ والمسلمون دون مستوى قرآنهم بمراحل!! ولعلهم بسياستهم الداخلية والخارجية، يصدون عن سبيل الله!! أما العقائد النصرانية، فلابد من إلقاء ضوء عليها؟ يكشف ماهيتها... إن عيسى بن مريم إنسان صالح كلف يوم بعث بهداية الناس إلى الله الواحد، وجبريل أمين الوحى أو الروح القدس ملك صالح مهمته نقل الوحى إلى المختارين من البشر.. ولم يفكر عيسى يوما فى أن يكون إلها ثانيا مع الله، كما لم يفكر جبريل أن يكون إلها ثالثا مع الله، كلاهما أعقل من هذه المجازفة المهلكة. قال تعالى: ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ). ص _026(1/18)
وقد ظلت النصرانية ردحا من الزمن لا تعرف إلا التوحيد النقى، ولا تشرك بالله شيئا، حتى دخلها الرومان، فخلطوها بمواريثهم الوثنية، وفرضوا عليها صبغتهم القديمة، فإذا خليط من التعاليم يمثل التناقض التام: إله أب، وإله ابن، وإله روح قدس والثلاثة واحد! كيف؟ الابن قتل إرضاء للأب، الذى طلب فداء عن خطيئة آدم، فكان القربان الابن الوحيد! لماذا؟ وما علاقة الابن البريء بآدم المخطئ؟ ولماذا لا يتم الرضا إلا بسفك الدم؟ وإذا كان الابن هو الأب فكيف يتصور قتله دونه؟ وما معنى أن يتعشى المسيح قبل صعوده إلى السماء ليتولى مهام الألوهية ثم يقول عن الخبز الذى أكله والخمر التى شربها: هذا جسدىا وهذا دمى، ليكون من الاثنين قربان مقدس ـ بعد تعويذة من الكاهن ـ تجعل العشاء الربانى من معالم الدين؟ والنصارى يرفضون بشدة أن يوصفوا بتعدد الآلهة (!!) ويقولون: نحن نؤمن بإله واحد. وهذا الرفض بقية ولاء للمواريث السماوية عندهم، وليتها بقيت فلم تشبها شائبة! فإذا قلت لهم لقد جعلتم الله ثالث ثلاثة قالوا: لا، إنه الثلاثة كلها... فإذا تساءلت هل دائرة الألوهية انقسمت أثلاثا لكل واحد منهم الثلث؟ قالوا: لا، كل من الأب والابن والروح القدس إله مستقل متميز، ومع ذلك فهم واحد!! وسمعت تسجيلا لأحد رؤساء الكنيسة الدهاة يقول فيه: إن الإله الابن هو صفة العلم، والإله روح القدس هو صفة الحياة! قلت: فهل صفة العلم تقتل ويسيل دمها على الصليب؟ إن الذات الإلهية لها صفات كثيرة، وإنه يسرنا أن يؤمن العالم كله بالذات الإلهية، وما يجب لها من نعوت الكمال، وما أكثر هذه النعوت. وعندئذ سيوقن الناس أجمعون بما نزل على محمد ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ). من المحزن أن الرومان لم يتنصروا، وأن النصرانية هى التى ترومت، وأن تعاليم ص _027(1/19)
السماء خالطها من أركان الوثنية ما أزرى بها، وليت "قسطنطين " لم يتنصر، وليت الكهان الذين تابعوه بقوا أوفياء لدينهم الحق.. الأمر كما قيل: وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها؟ فباعوا النفوس ولم يربحوا ولم يغل فى البيع أثمانها أ إن العرب الأولين، جعلوا لله بنات، ثم جاء الرومان، فجعلوا له ابنا، واحتالوا على إلصاقه به، (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) وطبيعى أن يكون القرآن صارما فى نفى هذه الأقاويل صريحا فى نبذها، فالله أعلى وأجل من أن يكون له بنون أو بنات (ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ). والكذب على الناس جريمة، فكيف بالكذب على رب الناس؟ كيف بتضليل أجيال لا حصر لها عن الفرد الصمد؟ فلا يعجبهن أحد إذا اشتدت العبارات فى نفى الشركاء والأولاد، وعلا فى حروفها النكير. (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) . ولما كانت لجاجة النصارى لا تنتهى فى القول بأن لله ابنا... ولما كان هتافهم لا ينقطع للرب يسوع المسيح، فإن القرآن أعلن أن عيسى واحد من الخلق، مرهون فى حاضره ومستقبله بالمشيئة الإلهية، والناس جميعا فى قبضة الواحد القهار، ولا يفلتون من مشيئته أبدا... (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ). ص _028(1/20)
وكلمة "يخلق ما يشاء" تشير إلى قضية خلق عيسى من غير أب، وأن هذا النوع من التخلق لا يمنح ألوهية، ولا يرفع أحدا عن مستوى البشرية!! ونفى البنوة لله جزء من إثبات الغنى المطلق لله الواحد القهار، فما عداه فقير إليه لا يقوم إلا به، أما الله سبحانه، فهو مستغن بذاته عما عداه. وهذا معنى الآيات (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ). التوحيد قانون الوجود ونظام الحياة... ليس لشيء فى الأرض أو السماء وجود من ذاته، إننا نشبه المصابيح الكهربائية التى لا تضئ من ذاتها، وإنما تضئ بتيار يسرى فى الأسلاك إليها، فإذا انقطع هذا المدد الخارجى أظلمت. أو نحن كالمحركات التى تدير شتى الآلات والأجهزة بطاقة مجلوبة إليها، فإذا انقطعت الطاقة سكنت الآلات وتعطلت الأجهزة... إننا ـ نحن البشر ـ كسائر المخلوقات وجدنا بإيجاد الله وبقينا بإمداد الله، ولولا الله لكنا أصفارا، ولما برزنا من العدم! (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ). عندما ترعد السماء وتبرق، فباسم الله امتلأت بالسحب، وباسمه ينهمر المطر، وباسمه يجئ الربيع بعد الشتاء (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ). ليس لبشر أو ملك دخل فى الإحياء والإماتة، والإخصاب والإجداب، إلا بإذن الله. إن محمدا ولد من خمسة عشر قرنا، وولد عيسى من عشرين قرنا، وولد موسى من ص _029(1/21)
ثلاثين قرنا، وهؤلاء الرجال الكبار، ليس لهم من الأمر شئ، وإذا كان لهم فى التاريخ قدر، فلأنهم عبيد أخلصوا لربهم، وتفانوا فى مرضاته.. أما ذرات أبدانهم فهى كبقية أجزاء الكون خاضعة لله، هاتفة بمجده (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ). إن وحدانية الله حقيقة أزلية أبدية، وكذلك افتقار العالم إليه، العالم أجمع من العرش إلى الفرش! لا قوة إلا بالله، ولا مشيئة إلا ما شاء، لا يمارى فى ذلك إلا جهول (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ). وهذا الكثير الذى حق عليه العذاب، هو الذى جحد الله، أو جعل له من عباده جزءا. أى جزء؟ وكيف يرتفع المخلوق إلى مستوى الخالق؟ أو كيف يسوى بين الموجد ومن أوجده؟ إن كتاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذى شرح هذه الحقيقة أوفى شرح، ومنه عرفنا أن الإسلام المطلوب من البشر، هو تجاوب مع الإسلام الشائع فى الكون كله (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ). إن آفاق السماء وفجاج الأرض، تسبح بحمد ربها، فلماذا نشذ نحن ولا نصطبغ بما اصطبغ به الكون كله؟ إن العصيان اختراق لقاعدة عامة، أو هو نغمة فاجرة، بين أنغام ظاهرة، ترنو إلى البارئ الأعلى فى استكانة وتفان وإعظام ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ). وإسلام الوجه لله ، يصفو، أو يكدر، على حسب ضيق المعرفة، أو سعتها، وقد تعرف الله إلى عباده بأسمائه الحسنى، وهى أسماء كاشفة لصفات الكمال التى تقترن بذاته وهى تنتشر فى طول القرآن وعرضه على نحو مثير. ص _030(1/22)
وقد أحصيت فى عشرة سطور ستة عشر اسما ووصفا لله، كأنما اجتمعت لتشد الناس إلى ربهم بألف رباط! تدبر هذه ا لآيات.. (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم * ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور * ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ). أهذا التأليف الرائع، الذى يسوق الناس سوقا إلى رب العالمين، وينمى فى أفئدتهم عواطف الإعجاب والإعزاز بخالق الأرض والسماء... من عمل بشر؟؟ شاهت الوجوه! لقد سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا.. فهل هناك صوت أندى من هذا الصوت، أو سبيل أجدى من هذه السبيل؟؟ إننا نحن المسلمين ـ لفرط حبنا لله ـ نحب من دلنا عليه، وإذا كان هناك دليل أهدى مما عرفنا نتجه إليه لفورنا، فأين هذا الدليل؟ ما نريد أن نذكر ما عند غيرنا حتى لا نثير الغثيان! إننا نريد إنصاف الحق وحسب! القدر... والجبر: العلم الإلهى مسطور فى كتاب ضابط شامل محيط (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ). وهذا الكتاب يضم عالمى الغيب والشهادة. ويتناول الأصغر والأكبر من مثاقيل ص _031(1/23)
الذر، فالله لا يخفى عليه شىء، (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ). وفى تفصيل آخر لمحتويات هذا الكتاب يقول جل شأنه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ). وبديه أن أعمارنا، وأرزاقنا، وتفاصيل حياتنا، ومواعيد وفاتنا، بعض محتويات هذا الكتاب، فليس من المعقول أن يجهل ربنا شئون ما خلق ومن خلق، أو يجهل الخطة التى وضعها لسير الكون وسكانه، والأرض وقطانها، أو يجهل مراحل تنفيذها، بما هيأ من أدوات: ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) والناس كلهم، كافرهم ومؤمنهم، طفلهم وشيخهم، ينالون ما سطر لهم فى هذا الكتاب، بل المخلوقات من جماد وحيوان تتحرك فى دائرة هذا العلم السابق الصادق. قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ). وقد أمر الله المؤمنين أن يستريحوا لهذا العلم القديم، ويستكينوا (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ). إن هذا العلم الأعلى يتناول ملكوتا نشغل نحن البشر حيزا صغيرا منه، وما ندرى شيئا عن آماده! ما لنا وللمريخ أو للشعرى، أو لغيرهما من العوالم؟ كما يتناول فى حياتنا على ظهر الأرض نوعين من الأعمال، نوعا لا ندرى كيف بدأ، ولا أين يتجه، ولا متى يتوقف؟ وهذا النوع من الأعمال وإن مس حياتنا من قريب ، أو بعيد فلسنا مسئولين عنه ولا مؤاخذين بخيره أو شره! إن الأقدار حولنا تصنع الكثير، مما نفهم وما لا نفهم، وهذا الكثير يتحول إلى أسئلة ص _032(1/24)
عملية، نجيب عليها بسلوكنا، ترى أنصبر فى البأساء والضراء؟ ترى أنشكر فى النعماء والسراء؟ إن البشر جنس محكوم ومختار فى آن واحد، إنه محكوم بالإمكانات التى فى كيانه، والملابسات التى من حوله! ومختار فى موقفه من هذه وتلك... ونريد أن نقول مصارحين وحاسمين. إننا لن نسأل أبدا عما لا إرادة لنا فيه، ولكننا تسأل يقينا عما نملك فيه حرية الاختيار.. وبعض الناس يحلو لهم الخلط بين الأمرين أحيانا، وهذا لون من الجدل المحقور، والمشاقة لله ورسله، ولنا مع هؤلاء حديث قد يطول... لقد شاء الله ـ لحكمة لا نعلمها ـ أن يخلقنا ويكلفنا، وقال فى وضوح (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )، فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة! وأن التكليف أكذوبة وأن الناس مسوقون إلى مصايرهم المعروفة أزلا طوعا أو كرها! وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل، ومنع الاحتجاج المرفوض، بل المرسلون خدعة، تتم بها فصول الرواية، أو فصول المأساة..! والغريب أن جمهورا كبيرا من المسلمين، يجنح إلى هذه الفرية، بل إن عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر، ولكنهم حياء من الله يسترون الجبر لاختيار خافت موهوم.. وقد أسهمت بعض المرويات فى تكوين هذه الشبهة وتمكينها، وكانت بالتالى سببا فى إفساد الفكر الإسلامى، وانهيار الحضارة والمجتمع.. إن العلم الإلهى، الذى ذكرنا شموله وإحاطته، وصاف كشاف ، يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدال عليه يسجل للواقع وحسب! لا يجعل السماء أرضا ولا الجماد حيوانا، إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص، ولا أثر لها فى سلب أو إيجاب.. وعندما يذكرنا ربنا بهذا كله، فلكى يكشف لنا جانبا من عظمته، حتى ص _033(1/25)
نقدره حق قدره.. وعندما نتعلم منه أن ما نجهل من مستقبل، مكشوف لديه، فليس معنى هذا أن الامتحان الذى نتعرض له صورى، وأننا مسوقون إلى هذا المستقبل برغم أنوفنا.. إن هذه الأوهام، تكذيب للقرآن، والسنة، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك، والقول بأن كتابا سبق علينا بذلك، وأنه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلا... هذا كله تضليل وإفك ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا). والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحى كله، وتزييف للنشاط الإنسانى من بدء الخلق إلى قيام الساعة، بل هى تكذيب لله والمرسلين قاطبة.. ولما كانت بعض المرويات مسئولة عن هذا البلاء، فقد أحببت أن أشرح القضية بضرب بعض الأمثلة.. قد يقول لك الأستاذ بعدما خبر تلامذته فى قاعة الدرس: إننى أعتقد، أن فلانا سوف ينجح، وفلانا سوف يرسب... ثم يعقد الامتحان آخر العام، ويدخله الطلاب، فإذا رأى الأستاذ يتحقق! فيقول لك مباهيا: إن كلامى لا يقع على الأرض، كان لابد أن يتحقق ما قلت! هل معنى ذلك أن رأى الأستاذ، هو الذى أنجح هذا، وأسقط ذاك؟ كلا، إن ذلك نجح بجهده، وذاك سقط بلعبه.. وما قول الأستاذ إلا تصوير لصدق حكمه. إن لله المثل الأعلى، وعلمه بكل شئ مستيقن، وعلمه السابق الذى لا يتخلف ليس سببا فى نجاة ولا هلاك، انه لا يتخلف، لأنه علم الله الذى يستوى عنده الماضى والحاضر والمستقبل، والظن بأن نجاة من نجا، وهلاك من هلك، هو أثر إكراه الله لهذا وذاك، هو ظن السوء، وما أراه إلا كفرا..!! ومن ثم فإننا نتناول بحذر شديد ما جاء فى حديث مسلم " فو الذى لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،(1/26)
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار... " ص _034
إذا كان الحديث المذكور تنويها بشمول العلم الإلهى، وأن بدايات بعض الناس قد تكون مخالفة لنهاياتهم فلا بأس من قبوله بعد الشرح المزيل للبس، المبطل للجبر.. أما المعنى القريب للحديث فمردود يقينا، وهو مخالف للكتاب والسنة، أو للعقل والنقل.. وأذكر هنا – أن الإمام مالكا فى موطئه روى حديث عائشة – الذى نقله مسلم – "كان أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهن فيما يقرأ من القرآن" ! قال الإمام مالك: ليس على هذا العمل... ورفض الحديث. وحق له أن يرفضه، وقد بنى مالك مذهبه كالأحناف على أن مطلق الرضاع يحرم.. ونحن نؤكد مرة ومرتين أنه ليس لروايات الآحاد أن تشغب على المحفوظ من كتاب الله وسنة رسوله، أو أن تعرض حقائق الدين للتهم والريب. وقد قرأت ما رواه الترمذى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - أنه سئل عن قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسئل عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره، فاستخرج مند ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" . ص _035(1/27)
وهذا السياق يكاد يكون نصا فى الجبر، ولذلك نرفضه، ونراه من أوهام الرواة، بل نراه من الجهل بمعانى القرآن الكريم! فإن التفسير المنسوب لعمر يسير فى اتجاه مضاد للتفسير البديهى المفهوم من الآيات البينات، الآيات تقول للمشركين عن رب العزة: لا وجاهة لكم عندى، ليس لكم عذر قائم ولا حجة ناهضة، إننى منحتكم عقلا يفكر وفطرة تبعث على التوحيد والاستقامة، وأنزلت ما يمنعكم من تقليد الآباء الجهلة، فلماذا تجاهلتم هذه المعالم كلها، وهمتم على وجوهكم فى طرق الشر والغواية... أفبعد هذا التفصيل والتوضيح تبعدون عنى ولا ترجعون إلى؟؟ هذا هو تفسير الآيات كما ينقدح فى ذهن كل عاقل، وكما يثبت لأول وهلة فى فهم القارئ العادى.. ولنذكر الآيات كما وردت فى القضية كلها.. (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ). فأين ـ يا أولى الألباب ـ آثار الجبر الإلهى هنا؟ وأين ما يفيد أن الله خلق ناسا للنار يساقون إليها راغمين، وخلق ناسا للجنة يساقون إليها محظوظين! إن التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام، وينبغى ألا نتجاوز كتاب ربنا وسنة نبينا، وذاك نهج سلفنا الأول... كل ميل بعقيدة القدر إلى الجبر تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهوِّنون من الإرادة البشرية، ومن أثرها فى حاضر المرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم، فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم! ص _036(1/28)
إن هذا الكلام الرديء، ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط جنينا منه المر..!! يقول الله لكل بشر على ظهر الأرض : (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون )، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟ وعندما يصف ربنا جزاء الكذبة والمكذبين، ويذيقهم عقبى ما قدموا ويقول : (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون * ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ). هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء، هل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين، تومئ من قرب أو بعد، إلى أن القوم كانوا أهل خير، فلوى زمامهم قدر سابق، أو "كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! فى يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم، والقرآن حريص كل الحرص، على إعلان هذه الحقيقة: إنك واجد ما قدمت! لن تؤاخذ أبدا بشىء لم تصنعه، لن تغلب على إرادتك يوما فيحسب عليك ما لم تشأ… إن المغلوب على عقله، أو قصده لا يؤاخذ أبدا، بل إن التكليف يسقط عنه!! وتدبر قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد * قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) ربنا سبحانه وتعالى ينفى الظلم عن نفسه، ويقول إنه ما عذب إلا من فرط وأساء. ومع ذلك يجئ أقوام منا، فيزعمون أنه رمى بناس فى النار بعد أن قهرهم على طريقها بحجة أنه لا يسأل عما يفعل!! وليس بظالم فيما أوقع بعباده!! هذا تفكير أعمى، لا يتصل بفطرة الله ، ولا بوحيه، ويجب فطام العوام عنه!! وسبب هذا الشرود، سوء الفهم للآيات، وسوء النقل للأحاديث.. ص _037(1/29)
ولنضرب أمثلة لما ذكرنا من أن الحق يعرض على الناس، فمن قبله شرح الله به صدره، وأنار عقله، ومن أباه زاد الله قلبه ظلمة وسلوكه حيرة.. وعندما يضل الله مجرما، فلن ينقذه أحد، ولن يجد وليا ولا نصيرا، وفى هذا يقول الله تعالى: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ). الجملة الأولى فى الآية تفيد أن من عاقبه الله بالإضلال فلن ينفعه أحد، والجملة الثانية تفيد أنه إنما أضله لطغيانه وعماه. لكن البعض يقف عند الجملة الأولى وينسى الثانية أو يفهم أن طغيانه جاء نتيجة إضلال الله له وهذا جهل كبير، فإن إضلاله جاء نتيجة طغيانه، فالإضلال نتيجة لا سبب . ويؤكد هذا قوله تعالى فى موضع آخر: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ). وقد يجئ بعض الناس إلى آية، يقف عقله الكليل عندها، فيفهمها فهما مقلوبا، مثل قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) أو قوله سبحانه: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ). إنه يفهم أن الله خلق للنار ناسا، وخلق للجنة آخرين، ثم دفع هؤلاء دفعا إلى النار ودفع هؤلاء دفعا إلى الجنة، وقد سبق بذلك كتابه!! وهذا كله جهل، فالآيات تعنى أن الله كان قادرا على أن يخلق الناس كلهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون! لكنه ـ وهو المريد المختارـ صنع البشر على مثال آخر، أو على نموذج فيه صلاحية للعوج والاستقامة، وأدخلهم فى مسابقة عامة، أو فى اختبار حر، وسوف تمتلئ النار بالساقطين، وتمتلئ الجنة بالناجحين.. نعم هو من بدء الخلق يعرف ما سيكون، لكن علمه مبتوت الصلة بنجاة من نجا، وهلاك من هلك. ص _038(1/30)
وقد يتقعر البعض ويقول: ما تم شىء إلا بإذنه! ولكى نجيب على هذه الشبهة نقول: إن المجرم قد يذهب إلى حقل قمح، ناضج السنابل، حافلا بالخير، فيشعل النار فيه، فإذا قبض عليه يقول: ما كانت النار لتشتعل لولا " الأوكسيجين " الذى خلقه الله فى الهواء! ولو خلا الجو من هذا العنصر ما احترق الحقل، فالله هو المسئول عن جريمتى، إذ بإذنه تمت! إن إرادة الله مبثوثة فى كل شئ، ولو قهرتنا على عمل ما حوسبنا، إننا نحاسب على ما قدمت أيدينا، ولن نستطيع ـ فى هذه العجالة ـ شرح العلاقة بين إرادة الله المحيطة، وبين الحرية المتاحة لنا فى الاتجاه إلى اليمين أو الشمال... وتصيد الشبهات للفرار من المسئولية لا يجدى.. وكل أثر مروى يشغب على حرية الإرادة البشرية فى صنع المستقبل الأخروى يجب ألا نلتفت إليه، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهى السند أو معلول المتن. لكننا مهما نوهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أننا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر، وصعود وهبوط، والسفينة تحكمها الأمواج، ولا تحكم الأمواج.. ويعنى هذا أن نلزم موقفا محددا، بإزاء الأوضاع المتغيرة التى تمر بنا. هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب! أما الأوضاع التى تكتنفنا، فليست من صنعنا، ومنها يكون الاختبار الذى يبت فى مصيرنا..! إن جراثيم الأمراض تملأ الجو، ولو أن كل عدوى تصيب لهلك البشر! فما جهاز المناعة الكامن فى أجسامنا؟ وكيف يحمى؟ وكيف يفشل؟ والصبغات المورثة للخصائص المادية والنفسية والفكرية، ما نصيبنا منها؟ إن ذلك ليس إلينا، وإن حدد المجال الذى يتم فيه اختبارنا! إن الفلاح يرمى فى التراب حفنات من البذور، قد ترتد إليه قناطير مقنطرة، وقد تعود عطاء محدودا، وقد تذهب سدى! وجهود الناس فى الدنيا تتبع هذا المسار.. ص _039(1/31)
وقد نعزم وينفك عزمنا من تلقاء نفسه، وقد تعترضه عوائق تعصف به؛ لأنه لا يطيق مواجهتها.. وقد نطيع حافزا نفسيا عابرا فيبلغ بنا القمة أو يهوى إلى القاع... إن الإنسان عبد لله، وليس إلها على ظهر الأرض.. وقد شاء الله أن يخلقه على نحو خاص، فليس جمادا، ولا دابة ولا ملاكا.. وبطاقته أن يعبد ربه، وأن ينجح فى أداء هذه العبادة، وأن يقهر المثبطات والعقبات، فإن نجح نجا، وإلا طاح!! ولن يغنى عنه أن يقول: إننى "لجماد" لا إرادة لى.. أو إننى ورقة تطير بها الريح وتهبط.. كلا، إنك إنسان مكتمل المشيئة فى كل ما يزكى نفسك أو يدسيها، والسفسطة لا تجدى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ). وبعد انتهاء الحياة تعود الأرواح إلى بارئها، ونحن أمام موقفين متضادين: هناك من قضى عمره كدحا إلى الله وجهادا فى سبيله. وهناك من عاش ذاهلا غادرا لم يقم لله بحق... أما الأولون: فإن الملائكة تستقبلهم بالترحاب والود، تقول لهم: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ). وأما الآخرون: فالاستقبال عابس، والأفق ملئ بالدخان والنذر، لقد واجه كل امرئ منهم ما كان ينكر، وعلم علم اليقين أنه كان فى ضلال مبين! إنه يتمنى فى هذه اللحظة المستحيل، يتمنى لو عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟ كى يستأنف حياة أهدى..!! (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ). ص _040(1/32)
وقد أحصيت فى كتاب آخر نحو عشرة مواضع، تكررت فيها هذه المنى! وهيهات فليس لامتحان العمر ملحق، ولا دور ثان يستدرك فيه المفرط ما فات.. وهذا الندم ـ بعد فوات الأوان ـ ينطق بحقيقة واحدة، شعور المجرم أنه هو الذى ظلم نفسه، وهو الذى صنع حتفه بظلفه! إنه لن يحاول الكذب فيقول: كنت مجبورا على ما كان منى، أو سبق على كتاب بما لم أرد لنفسى! ولو أنه حاول الافتراء لأخرس الله لسانه، وأنطق أركانه بما حدث... إن الله لا يكره أحدا على طريق الشر، ثم يدخله النار! ومن تصور هذا فهو جاهل بالله، طائش العقل... ومن المنتمين إلى ديننا من يتصور ذلك ـ للأسف الشديد ـ ويحاول إساغته بترهات لا تقال.. ونشرح هنا موقف الضالين كما صورته سورة المؤمنين وحدها. ليس العمر ساعة واحدة، إنه ساعات شتى، بعضها يسر، وبعضها يضر، ليس العمر موقفا واحدا، إنه مواقف، بعضها يشرف، وبعضها يخزى، والمهم،هو المحصل الأخير! (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ). ولنتدبر هذا الحوار بين رب العزة وبين الأشقياء المسجونين فى جهنم! إنه يقول لهم : (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ) ؟ ترى ما جواب القوم؟ إنهم يطلبون فرصة أخرى، ينجحون فيها بعد هذه الفرصة الضائعة ! يقولون ( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ). ويستمع رب العزة إليهم! كان على الأرض عمل ولا حساب أما هنا فحساب ولا عمل، إنها فرصة واحدة توالت الرسل للحث على انتهازها، لكن المجرمين كابروا وكذبوا لذلك يقول الله لهم: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ). ص _041(1/33)
هذا تذكير بأيام الطغيان الأولى، لطالما وثب الزائغون الطاغون على جمهور المؤمنين الضعفاء فأذاقوهم عذاب الهون، وكانوا منهم يسخرون! ها قد تبدلت المواقف وتغيرت الأحوال، ورجحت كفة الخير، وجنى الصابرون عقبى ما تحملون وأملوا. يقول! الله سبحانه خاتما الحوار : (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون). أترى فى هذا الحوار أثارة من ظلم نزلت بمعذب؟ أجرؤ أحد أن يفترى على الله كذبا فيقول له: إنك كتبت على ما كتبت، والآن تؤاخذنى بما لم أستطع الفرار منه؟ إن تصوير القدر على النحو الذى جاءت به بعض المرويات غير صحيح، وينبغى ألا ندع كتاب ربنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه.. القرآن قاطع فى أن أعمال الكافرين هى التى أردتهم : (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) وقاطع فى أن أعمال الصالحين هى التى نجت بهم ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ).. فلا احتجاج بقدر، ولا مكان لجبر. وعلى من يسيئون الفهم أو النقل، ألا يعكروا صفو الإسلام.. عندما كنت أكتب هذا البحث وقعت فى يدى كلمة جميلة للأستاذ أحمد بهجت عنوانها " المغفلون " رأيت إثباتها لغرض سينكشف بعد قليل... - " هناك ناس يحبون الله.. وهناك ناس يكرهون الحق. هناك ناس تخشع قلوبهم لذكر الله. وهناك ناس يشمئزون إذا تعلق الأمر بالحق. هناك ناس يحبون الدين، ويحبون أن تشيع الفضيلة فى الناس وأن تنتشر القيم بينهم وهناك ناس يكرهون الدين كرههم للعمى، وهؤلاء هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الناس، وأن ينتشر العرى لتسقط العيون الجائعة عليه كما يسقط الذباب على اللحم المكشوف. ص _042(1/34)
والصراع بين المؤمنين والكافرين جزء من سنة الحياة. لقد خلق الله ناسا هم أهل للجنة، وخلق ناسا هم أهل للنار، والذين يدخلون الجنة يدخلونها برحمة الله وعفوه، والذين يدخلون النار يدخلونها بإصرارهم واختيارهم وحريتهم المطلقة. ولا حجة لأحد على الله- عز وجل. لقد أقيمت الحجة على الناس.. فى فطرتهم وفى آيات الله فى الكون. والأصل المعروف هو استغناء الله تعالى عن الخلق، وحاجة الخلق إليه (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). ونحن نعرف أن عبادة العابدين لا تزيد فى ملكه سبحانه كما أن كفر الكافرين وإلحاد الملحدين لا ينقص من ملكه سبحانه شيئا. الدين فائدة للناس لا فائدة لله. واتباع الدين لخير الناس لا لخير أحد غيرهم، ومن هنا نرى المغفلين عادة يقفون فى المعسكر المعادى للدين. وقد وصف المغفلون بأن لهم أعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفقهون بها. أيضا تمت مقارنتهم بالبهائم، وصرح النص القرآنى أن الأنعام أهدى منهم (أولئك كالأنعام بل هم أضل ). وقد كان الرسول يحزن لتكذيب الناس له، ويدهشه هذا الغلو فى العداء واللدد فى الخصومة، وأفهمه الله تبارك وتعالى أن الناس لا يكذبونه، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. والظالم مغفل كبير، إنه يشترى النار بإرادته واختياره، وليس بعد هذا التغفيل تغفيل. والظالم يكسب الدنيا ويخسر الآخرة، وهذا أيضا تغفيل عظيم.. ص _043(1/35)
لأن الدنيا إذا قيست بالآخرة كانت أقل من جناح بعوضة. نسأل الله السلامة.. ". وهذا كلام صادق، حسن الوقع والثمر! وقد أثبتناه بين يدى كلام آخر لا يزيد أمتنا إلا سقاما، ذكره أحد الواعظين فى مجال تخويف الناس من الله حتى يدعوا الرذائل! كيف خوفهم به الله؟ قال: إننا مهما عملنا من خير لا نعرف مصايرنا، وقد نكون من أهل النار ونحن لا ندرى!! ثم ذكر أحاديث فى القدر لا تخدم إلا مبدأ الجبر، بل تجعل العصاة يمضون مع المنحدر إلى نهايته؟ لأنهم يحسون فقدان الإرادة التى تسيطر على الأمور! وأغلب المسلمين تساورهم هذه الظنون المجنونة، لأنهم فهموا أن المثوبة والعقوبة حظوظ عمياء، أو مصادفات ليست لها ضوابط... ونحن نتلو قوله تعالى: ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا )؟ ولكن الله القدير الحكيم العدل القائل : (كتب ربكم على نفسه الرحمة ) لا يخلق ناسا للنار لمجرد أنه يريد لهم العذاب فلنذكر طرفا من هذه الأحاديث... أحاديث فى القدر: لقد جاءت فى القدر أحاديث كثيرة، نرى أنها بحاجة إلى دراسة جادة، حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التى أصابتهم قديما وحديثا.. "روى أبو داود عن عبادة بن الصامت ـ رضى الله عنه ـ أنه قال لابنه عند الموت. يا بنى إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإنى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب! قال: يارب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شئ حتى يوم القيامة. يابنى إنى سمعت رسول الله يقول: من مات على غير هذا فليس منى" ! ص _044(1/36)
وفى رواية أخرى للترمذى، ما يؤكد هذا الحديث. وقد علق الشيخ محمد حامد الفقى على الحديث ورواياته بأن فى السند متهما بالوضع، ومتروكا، ومنكر الحديث!! ومع ذلك فنحن مع تهافت الأسانيد، نرى فى المتن جملا مقبولة تتلاقى مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وتتفق مع العقيدة الصحيحة: إن الله أحاط بكل شئ علما، وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وعلينا بعد ذلك أن نكافح لنصنع مستقبلنا فى الدار الآخرة غير وانين ولا متقاعسين.. المشكلة تكمن فى أحاديث صحيحة السند، غير أن متونها توقفنا أمامها واجمين! نبحث عن تأويل لها ومخرج. خذ مثلا حديث عائشة - رضى الله عنها - قالت دعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا! عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك الشر، ولم يعمله! قال: "أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم! وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم " !! وخذ مثلا حديث سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"!! وخذ مثلا حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله خلق خلقه فى ظلمة، فألقى عليهم من نوره! فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل! فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى! " . وهناك أحاديث كثيرة تدور على هذا المحور أن الإنسان مسلوب المشيئة، وأنه مقهور بكتاب سابق، وأن سعيه باطل، لأنه لا يغير شيئا مما خط عليه فى الأزل. ص _045(1/37)
نقول: صحيح أن سعى الإنسان باطل؟ فلماذا يقول الله تعالى عن يوم الحساب: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ) ولماذا يقول : (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى)؟ إن الله تبارك وتعالى يطلب من الإنسان أن ينصف نفسه من نفسه! وأن يعترف بأنه أخطأ حيث ينبغى أن يصيب، وأساء حيث يستطيع أن يحسن، ولذلك يقول له: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ). فهل يقال له ذلك وهو مجبور مسكين؟ أم يقال له ذلك وهو حر مختار؟ إن ظواهر الجبر فى هذه الآثار كلها مرفوضة عند علماء الإسلام، وأمامنا أمران لا ثالث لهما: إما صرف هذه الظواهر إلى تأويل قريب مقبول! وإما اعتبارها آثارا بها علة قادحة تسقطها عن درجة الصحة، فإيرادها فى مجال التربية والتعليم لا يجوز. وقد استطعت بشيء من التناول العقلى أن أصرف شبهة الجبر عن آثار شتى لكنى لم أستطع إصلاح عقول تريد أن تسوق الإسلام كله إلى أحاديث غير واضحة، تظهر عليها العلل القادحة. يقول الله سبحانه فى الأمم التى حكم عليها بالهلاك : (وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى…). الله يعاقب مقترفى السيئات بالسوءى ، فهذا عدله، ولو شاء عفا فهذا حقه. ولكنه لا يظلم مثقال ذرة... ومن العجب أن ننسب إليه الجبر ثم نقول لا يسأل عما يفعل! إن الذين يخطئون فى الفهم، ويجورون فى الحكم، لا ينبغى أن يسقطوا عوجهم الفكرى على دين الله... ص _046(1/38)
وعقيدة التوحيد ليست مبدأ نظريا زانه الصدق فقط إنها منهج حياة واسعة. أعجبني من فقهائنا، ما حكوه أن النبى- عليه الصلاة والسلام- كان يصلى ركعتى الفجر بسورتى (قل يا أيها الكافرون) و(قل هو الله أحد). قالوا : الأولى: تحارب شرك العمل. والأخرى: تحارب شرك العقيدة... فى القرآن تنقية للعقائد والسلوك: إن القرآن الكريم كما نفى العقائد من لوثات الشرك تعهد السلوك الإنسانى بما يجعل التوحيد لبابه وغايته، ولن يكون السلوك صحيحا إذا كان الباطن سقيما..! إن كانت النفس أمة فلن تعرف الحرية فى سيرتها، ومن النفوس حرائر وإماء! وقد وسع القرآن الكريم دائرة التوحيد داخل النفس، كى ييأس كل إنسان من وجود شركاء يصنعون مستقبله بعيدا عن مراد الله : (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور * أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ) التوحيد العملى هنا يجعل ثقة المرء فى ربه فينفض يديه من غيره وهو هادئ مستريح. والناس تذلهم الحاجة فيضرعون لمن يظنون قضاءها عنده، ولو صدق اعتقادهم لكان لهم سلوك آخر... ولأمر ما كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فى أعقاب الصلوات " اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . والجملة الأخيرة تفيد أن سعة الثروة، وسعة السلطة، وحظوظ الإنسان، من خيرات الدنيا والآخرة، هى اختبار له، وأن موقفه على الحالين من عسر ويسر، هو الذى يحدد مصيره عند الله، ورب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة.. ص _047(1/39)
وعلى المسلم أن يربط يأسه ورجاءه وحده، وفق هذا القانون القرآنى الجليل (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ). ويعمد القرآن الكريم إلى إصلاح البواطن بأضواء التوحيد، فإذا تمت استنارتها صلحت الظواهر واستقامت على الطريق، ورأينا المؤمن أسرع شئ إلى أداء ما يحب الله وأسرع شئ إلى ترك ما يكره.. يقول الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) ويقول رسوله: " إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج ". نظام الصف فى الصلوات الخمس وفى الجهاد، يفرض على المسلم، أن يتحرك بروح الجماعة كلها، وأن ينسى نفسه، وهو يتعاون مع غيره على إعلاء كلمة الله، وعلى القيام بحق الله... والمقابل لهذا النظام المحكم هو سلوك القطيع! القطيع من الأنعام والأغنام، أو من الهمل والرعاع، الذين ينطلقون بروح الأثرة، أو لطلب الغنيمة، أو لطلب النجاة، فلا ترى فى حراكهم إلا حب الحياة ولو داسوا الآخرين فى الحصول عليها!! ترى ما الذى يسود العالم الإسلامى اليوم، نظام الصف الذى يمليه حب الله؟ أم سلوك القطيع الذى يمليه حب الدنيا وكراهية الموت...؟ ويقول الله تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ). عندما أحس أن ربى يحب الإحسان، وأنه كتبه على كل شئ كما حدث نبيه الكريم، فإننى أرفض الفوضى، والتقصير، والعجز، ولا أباشر عملا دينيا أو دنيويا، إلا تركت عليه طابع الإجادة والجمال. إن الله الذى أعبده يكره التشويه، والعبث، والدمامة. إنه أحسن كل شئ خلقه... فلأكن فى هذه الحياة مثالا، لترتيب الأمور، وتنسيق الأوضاع، وإحكام العمل.. ص _048(1/40)
الغريب أن الأمة الإسلامية التى تزعم الارتباط بالله، والرغبة إليه، نموذج عالمى، لنقص ما يجب إتمامه، وإخراج السلع دون مستواها المطلوب، وإدارة الأعمال بطريقة همجية مفزعة. والدواء قبل أن يكون فى تمرين الأيدي على الإتقان يكون بإضاءة السرائر من الداخل بحب الله وحب ما يحبه!! (والله يحب المحسنين ). ويقول الله تعالى: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ). إنه تبارك اسمه يكره حب الظهور وحب الشهرة والإعجاب بالنفس والاستعلاء على الغير، وقد رأيت هذه الأدواء، تفتك بالأسر صغيرها وكبيرها، وتنهض عليها تقاليد الرياء والخيلاء، التى نشرت النفاق الاجتماعى، وبنت عليه ما لا يحصى من عادات وأحكام... وهذه العلل كلها تختفى مع الإخلاص، الذى يجعل المرء يؤثر أن يكون جنديا مجهولا، ومع التجرد الذى يجلو عن بصائرنا غشاوة الجاه المحبوب، والثراء المطلوب!! إن الرياء شرك، وقد رأيت الرياء هو العملة المتداولة فى أغلب الميادين، وما أكثر السادة والقادة الذين غاب عنهم وجه الله، ورأوا فى زحام الدنيا آلاف الوجوه الأخرى. وفى عصرنا هذا، هبطت تقاليد الرياء من الطبقات العليا، إلى سواد الجماهير، حتى ليكاد المرء يسأل: أنسى الناس ربهم؟ إن الإسلام أرسى التوحيد أولا فى القلوب، وجعله يمتد بعدئذ فى دروب الحياة دون عائق. ودور الشريعة بعد رسوخ العقيدة، صوغ القوالب التى يتم فيها العمل الصالح، وتحديد ما نزل من أمر ونهى وحلال وحرام، ولا قيام للشريعة، إلا على مهاد راسخ من الإيمان بالله الواحد...! والله سبحانه وتعالى هو الحاكم فى ملكوته الواسع، يحكم ما يريد، ويحكم من يريد، قوله الحق وحكمه العدل، وعلينا السمع والطاعة والتسليم. ص _049(1/41)
والكافرون بالله المنكرون لوجوده، لا يعرفون له حكما، ولا يلتزمون من أمره بشيء! والمشركون به ـ أيا كان شركهم ـ يحتكمون إلى غيره، ويمضون فى الدنيا على هواهم. والجبهتان المسيطرتان على العالم الآن، تتواصيان بإهدار أحكام الله التى تقررت فى الرسالة الخاتمة، بلى إن بقايا أهل الكتاب من يهود ونصارى، تتناسى الشرائع التى لا تزال بين أيديهم، لم يمحها التحريف والإهمال... والعالم الآن يقر العلاقات الجنسية المحرمة، مادامت برضا الأطراف الآثمة! وكذلك أباح صنوف الربا، كما أباح أنواع الخمور، وألغى القصاص فى النفس وفى الأطراف.. ووضع قوانين كثيرة من عنده بدل الشرائع النازلة من عند الله... ويكاد يكون تحكيم الله فى عباده جريمة والنداء بذلك ضربا من المنكر!! وظاهر من القرآن الكريم أن الله وحده هو الحكم: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ….)؟ (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ). إن التوحيد كما أبنا نظام حياة، وللارتباط بالله الواحد آثار، تتناول الفرد والمجتمع والدولة، وكما نذهب إلى المسجد؛ كيما نسجد لله، نبنى المدرسة؛ لتعلم دينه، ونبنى المحكمة؛ لتقضى بما شرع، ونبنى الدولة؛ لتوجه أجهزتها، كل شئ وفق مراد الله.. وإشارة إلى الأدب النفسى ، والأدب الاجتماعى والأدب العسكرى جاء فى السنة "لا تمس النار عينا بكت من خشية الله. ولا تمس النار عينا غضت عن محارم الله. ولا تمس النار عينا باتت تحرس فى سبيل الله ". إن هذه الأعمال الثلاثة انبجست من عين واحدة، من عقيدة التوحيد. هذه العقيدة ص _050(1/42)
التى تطوى فى إطارها كل شئ وتتجه به إلى الله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). تأملت فى قصة الرجل المغرور صاحب الجنتين، الذى أغراه ثراؤه بالتطاول والكفر! فخذله الله، ودمر جنتيه، وأمسى بعد الغنى هالكا، لا يجد أى شئ، وأخذ يصيح (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ). سألت نفسى: بمن أشرك هذا الرجل مع الله؟ لم يسبق فى سرد القصة اسم صنم معبود، أو جبار يعتز الأغرار بالانتماء إليه..! وكان الجواب العاجل: لقد كانت نفسه صنمه، وإلهه هواه!! ليس من الضروري، أن يعتمد الشرك على صورة تنحت، أو رئيس يتفرعن.. يكفى أن يكون المرء فارغ القلب من الله، فارغ الرأس من الله، مليئا بشهواته وحدها، يذكر دنياه، ويجحد آخرته ، ينطلق فى الدنيا انطلاق الوحش فى الغاب، ما يسمع إلا نداء غرائزه وحسب. إذا لم يكن هذا كفرا فما الكفر؟ إن كشوف العلم الحديث، ارتقت بالفكر الإنساني، وجعلته أذكى، من أن يسجد لحجر، أو خشب، فهل عرف ربه، وسجد له، وارتبط به. واستعد للقائه؟ كلا. وفى أطواء هذا الجهل، عادت جاهلية التفرقة العنصرية، وجاهلية استعباد أو استعمار القوى للضعاف، والغنى للفقراء. ولما كانت شعوب العالم الأول متمردة على الله، متقلبة بين الماركسية والصليبية، فإن القردة المقلدة فى شتى القارات ترنو هى الأخرى لإحدى الجبهتين! ولا إنقاذ إلا بيقظة إسلامية، تجعل التوحيد فلسفة حياة، وروح أمة ونموذج ارتقاء أدبى ومادى، لا شعارا أجوف، ولا دعوى تسئ إلى الحقيقة... ص _0 ص(1/43)
المحور الثانى الكون الدال على خالقه نحن نعيش فى زاوية ضئيلة من زوايا كون ضخم، بيد أن هذه الضآلة، لم تحجب عظمة الملكوت الكبير لأن الأرض ومن عليها صنع الله الذى أتقن كل شئ. وحين ننظر إلى أنفسنا، وإلى عالمنا المحدود، ندرك أن الخالق قدير حكيم عليم، لا منتهى لكماله، ولا حدود للثناء عليه! إن ما غاب من خلقه عن وعينا أكبر مما أحسسنا وعلمنا، والأمر كما قال جل شأنه: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ). لكن ما دخل فى دائرة وعينا، صارخ الدلالة على عظمة البديع الأعلى، شاهد صدق على أنه ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا. إن الجهاز الذى يخترعه أحد العباقرة، ينطق بعقل صاحبه، وشدة تألقه، وتستطيع أن تقول: إن المخترع الكبير ترك " بصماته " على جهازه لدرجة تبعثنا على الإشادة به والتنويه بفضله! وبديع السموات والأرض ـ أى خالقها على غير نموذج سابق ـ أودع فى خلايا الأجسام الحية وفى ذرات الأجرام الميتة ما ينادى بعلمه وحكمته وبركته، وآلاء تتجدد ولا تتبدد، وأمجاد ومحامد تهتف بها خلائق لا تحصى (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون ). إن هذا الكون، هو المسرح الأول لفكرنا، وهو الينبوع الأول لإيماننا. ص _052(1/44)
والذهول عن الكون سقوط إنسانى ذريع، وحجاب عن الله غليظ، وفشل فى أداء رسالتنا التى خلقنا من أجلها، وعجز عن التجاوب مع وصايا القرآن التى تكررت فى عشرات السور!! (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ). وهذه الآيات قل من كثر مما نزل بمكة، وتأكد بالمدينة، لإيقاظ العقول النائمة، وتبصرتها بالدلائل المبثوثة فئ كل شئ تدل على الله، وتشرح أوصافه الجليلة... إن التفكير فريضة إسلامية كما قال العقاد، والمجال الأول للفكر مادة هذا الكون، كما أبان القرآن الكريم، وإن عجبنا لا ينقضى من تلكؤ الفكر فى هذه السبيل. وأعتقد أن الآفة التى أصابتنا، وأزرت بنا، جاءت من تأثرنا بالفلسفة اليونانية، وجرينا وراء خيالاتها، وأوهامها، بدءا من عصر الترجمة، إلى عصر الانحطاط العربى الأخير.. إن أرسطو وغيره يرون أن المادة حقيرة وأن المحسوسات نازلة الرتبة، وإله أرسطو أكبر درجة من أن يفكر فى الكون، أو أن يحيط علمه " الشريف " بجزئياته!! إنه إله يتأمل فى ذاته، ولا يدرى ما يقع فى دنيا الناس! ولو درى لعلم أن ما يجرى فى الأرض أثر لما ينشأ فى السماء، فالمد والجزر من دوران القمر حول الأرض، والحر والبرد، واستطالة الظلال وانكماشها، من دوران ا لأرض حول نفسها، وحول الشمس، وتماسك النجوم فى مداراتها نظام محبوك الصميم والأطراف عبروا عنه بقانون الجاذبية. وإذا كان أرسطو قد تصور الألوهية على نحو قاصر معيب، فإن الحق جل اسمه كشف عن علمه الشامل بالكون كله ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ). ص _053(1/45)
إن القضية ليست قضية علم مجرد ونظرة سلبية، إنها قضية إيجاد وإمداد، كما ذكرنا آنفا، وفى كل طرفة عين أو أقل، تصدر ألوف مؤلفة من الكلمات التى تحكم الوجود وتسيره وتوجهه وفق المشيئة العليا ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ). ونخلص من ذلك إلى أن الذهول عن الكون ودراسته، باب إلى الجهل والضلال، وأن الإسلام يبنى المعرفة على البصر العميق بالكون، والبحث المستمر فيه، وأن انطلاق العلم بعيدا عن هذا المجرى، انحراف إغريقى وليس نهجا إسلاميا، وأن الذين مالوا مع هذا الانحراف أضروا الإسلام ورسالته. وقد كتبت فى مكان آخر أعيب على نفر من المسلمين الأوائل انخداعهم بفلسفة اليونان، وعكوفهم على ترجمتها، وشغل الجماهير بما فيها من خير قليل، وشر كثير!! كما عبت على هؤلاء النفر أنهم لم يكلفوا أنفسهم بترجمة الفلسفة القرآنية، فى المعرفة والأخلاق والمعاملات، وقبل ذلك فى شرح الوحدانية الرفيعة، التى جاء بها القرآن العزيز. إن هذا التقصير ضر عالمية الرسالة الخاتمة، وعكر تيار الفكر عندنا. ولنذكر فى صراحة أن وثبات العلم الحديث إنما تمت مع إدمان النظر فى الكون، والاغتراف من الأسرار، والقوى المودعة فيه ـ وهذا هو نهج القرآن الواضح من آيات النظر الكثيرة ـ ولكن فقر الحضارة الحديثة فى القيم الرفيعة وإفلاسها العقائدى حولا النجاح العلمى إلى تهديد للإنسانية، وضياع لمستقبلها. ونحن هنا نريد إنصاف أنفسنا وديننا وتراثنا مستندين إلى نصوص كتابنا وحده. إن الكون ـ فى الفلسفة القرآنية ـ نفيس القيمة، غال عند صانعه! لا لأنه بذل فيه جهدا، أو دفع فيه ثمنا كلا ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ). إن غلاءه راجع إلى دلالته على خالقه، فقد بنى لبنة لبنة بالحق، وانتظمت أرجاءه ص _054(1/46)
قوانين محكمة، تجلى فيها المجد الإلهى فى أبهى صورة (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون). ولن يحسن معرفة الله، امرؤ يعمى عن سنن الحق، ولن يخدم رسالات الله جهول بهذه السنن، وإنه لمن المزعج أن يعيش سواد المؤمنين فى هذه السنين العجاف مسخرا فى الأرض، والمفروض أن الله سخر له ما فى السموات وما فى الأرض!! وقد لفتنا القرآن الكريم فى آيات كثيرة إلى عظمة الخالق فى كونه؟ كى نزداد به إيمانا وله إذعانا. تدبر قوله تعالى: ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ). يقول العلماء: إن أربعة أخماس الأرض مغمور بالماء، والأرض كرة كالقمر، وعندما نتصور أربعة أخماس السطح الدائرى مواراً بالماء، مستقرا فى الفضاء لا ينسكب عن يمين ولا شمال، مقوسا لا مستقيما كما نألف فى مقادير المياه المستعملة بين أيدينا، عندما نتصور ذلك نتساءل حتما: كيف يقع هذا ومن يمسكه؟؟ إن الله هو الذى أسكنه فى الأرض وكف أمواجه عن الانسياب هنا وهناك... ودورة المياه بين الأحياء جديرة بالنظر، فنحن نشرب، ودوابنا تشرب، وزروعنا تشرب، نشرب كلنا من الأنهار والينابيع التى جاء بها السحب الهامية القادمة من البحار الكبرى، ثم تذوى الأجسام والزروع، ويتسرب ما بها من ماء، عائدا من حيث جاء سالكا ألف فج؛ ليتكون مرة أخرى سحبا وأمطارا وينابيع وأنهارا، وهكذا دواليك تبقى الحياة مع قدر مضبوط من الماء لا يزيد ولا ينقص... وقد أشار القرآن إلى هذه الدورة المتجددة فى ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ). ولنتجاوز حديث الماء إلى حديث الظلال والأضواء! إننى عندما أسمع القرآن الكريم يتحدث فى هذا الموضوع، أشعر كأن الله سبحانه يعلم روعة ما صنع ـ ولله ص(1/47)
_055
المثل الأعلى ـ ويحدثنا عنه؟ لنعجب ونسبح ونسجد ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ). ثم بعد حديث الظل وتقلصه وامتداده، يجئ حديث الليل ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ). تابعت ظلال الأشياء فى أوقات كثيرة وأنا هابط من الطائرة، وهى لما تستقر على الثرى، وظلها يسابقها أو هى تسابق ظلها! قلت: أين كان هذا الظل ونحن فى الجو؟ لقد شاهدت ظلال الجبال، وظلال السحب القريبة، أما السحب العالية فلم أشهد لها ظلا، يبدو أنه ليس هناك ما يمسك الظل المتبدد فى الفضاء!! لكن ظل الأرض السابحة فى جو السماء يجد ما يمسكه، فوجه القمر يتشكل هلالا، وتربيعا، وبدرا، حسب ما يستقبل من هذه الظلال... وقرأت قوله تعالى: ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ). وقوله ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال )!! إن الحى القيوم يهب لكل ذرة فى الكون وجودها، فهى عانية له، مائلة إليه، خاضعة بين يديه، وهى فى الصباح والمساء طوع أمره مستكينة لسلطانه الأعلى! فهل من الرشد استصغار هذا الملك، واستدبار روائعه وآياته؟ إن الجهلة بالكون يحقرون عظيما، ويتنقلون فى أرجائه كما يتنقل الفلاح بين معامل الكيمياء، ومراصد الأفلاك، ومصانع الذرة.. ويمكن أن أسيغ من عبيد البقر أن يجهلوا الكون وربه، ولكنى لا أسيغ أبدا من أتباع القرآن أن يعيشوا عجزة محجوبين، بين أسرار الكون وقواه، وما أوح الله فيه من مرافق ومنافع! كيف وفى الصفحات الأولى من كتابهم: ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) وقبل ذلك نداء عام للإنسانية كلها، أن تعرف ربها وما قدمه للبشر من ثروات وخيرات.. ص _056(1/48)
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم….). ولست أرد إلى الفكر اليونانى وحده، ما أصاب العقل الإسلامى من عوج، إن هناك نوعا من التدين يفهم طلب الآخرة على أنه كراهية الحياة، ويفهم الزهد فى العاجلة على أنه الجهل بها أو العيش على هامشها... وفى الأعصار الأخيرة شاع حذا النوع من التدين، فشان الدين والدنيا معا، وألحق بالمسلمين هزائم رهيبة فى معاشهم ومعادهم على سواء! ما تقول فى شخص يقطع يده، لأنها قد تقترف إثما؟ إنه لن يستطيع بعد ذلك أن يفعل خيرا. وقد روى الجاحظ أنه لقى رجلا شاحبا معلول البدن فسأله ما به؟ فقال له: فكرت فيما تجره الشهوة الجنسية على صاحبها من انحراف وشر، فذهبت فاختصيت! وفقد الأحمق القدرة على الحياة كلها بهذا الحل! إن بعض المتدينين ارتضى هذا المسلك، وعاش فى زاوية ضيقة من الكون الواسع، إيثارا للراحة، أو السلامة، أو البعد عن الفتن، أو الاستعداد للآخرة... وترك ميادين الحياة يعربد فيها الآخرون! ينشرون أهواءهم، وينصرونها. ليس هذا فكرا إسلاميا قط، وإن أمسى فكرا عاما بين جمهرة المسلمين الذين يحيون غرباء ضعفاء فى أنحاء العالم. إن انفتاح المرء على الكون وفقهه لما فيه واستمكانه منه، هو التوجيه القرآنى الأوحد لجملة العقائد والمعالم، التى يقوم الدين عليها.. هل هناك مخلوقات صنعها إله غير الله؟ هل هناك إله خلق الحيوان، وآخر خلق الإنسان؟ هل خالق الشمس غير خالق الأرض؟ إن وحدة الكون فى نظامه وغايته قاطعة فى أن الخالق واحد! ولذلك يقول جل شأنه: ( خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه )؟ ص _057(1/49)
وبهذا المنطق السهل القريب تتقرر عقيدة من أركان الدين.. وعندما يتساءل المرتابون عن إمكان البعث بعد الفناء، يسوق القرآن أدلته الكونية الدامغة ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ). نعم كذلك الخروج! ليس الإحياء الثانى أصعب من الإحياء الذى ترون صوره بين أيديكم فى كل آن!! إن إيقاظ الغافلين، وإشعارهم بخطورة ما هم فيه من جحود وكنود، وإلهامهم النجاة من مواطن العطب، يتم بعد عرض سريع خاطف لآيات الله فى ملكوته (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ). وهكذا ترى مشاهد الكون، هى الدافع إلى الإيمان، الباعث على التوحيد، القائد إلى التوبة، الناقل من الهلاك إلى النجاة. بل إن القرآن يمهد لدعاء الله وحمده، بذكر إبداعه للقارات، وبثه للعمران فى جنباتها، وتكريمه للإنسان صورة ومعنى، وهو يتنقل فى أقطارها ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ). ماذا حدث بعد أن فقد الإيمان مصادره الكونية؟ وتوجيهاته القرآنية؟ تحول إلى فكر غامض وغيبيات مبهمة واستدلالات فلسفية نظرية ميتة. والواقع أن الخلوف التى زحمت أرض الإسلام فى العصور الأخيرة، كانت تعتمد على التقليد، أكثر من الاعتماد على الجهد العقلى القائم على ملاحظة الكون ودراسته.. ص _058(1/50)
ولو أن المسلمين هم الذين يسكنون الأرض وحدهم، لوقع تقصيرهم على أم رأسهم، ولَلَعَقُوا المُرَّ من معاصيهم الفكرية والخلقية! لكن الأرض تعمرها أجناس وملل شتى، فإذا سكنوا وتحرك غيرهم، وإذا تقوقعوا داخل أنفسهم، على حين انطلق غيرهم، وأثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها، فالنتيجة أن الإسلام نفسه يتخلف، وتلحقه هزائم شائنة! وذاك ما حدث! عكف المسلمون على كتب ميتة، أملاها تدين مغشوش، ولم يقرءوا سطرا من كتاب الكون المفتوح، وأصموا آذانهم عن نداءات القرآن المتكررة بدراسة آيات الله فى الكون، فوقفنا حيث وصل بنا الأسلاف الراشدون، ومضى غيرنا يطوى المراحل، فسبق سبقا بعيدا!! قد تقول: إذا كان الآخرون قد أحسنوا دراسة الكون، واستغلوا هذه الدراسة فى دعم حضارتهم، فلماذا لم يؤمنوا بالله بعد ما رأوا آياته فى كل شىء : ونجيب بأن استقراء عقائد المفكرين ـ كما أثبت العقاد ـ يدل على أن جمهورهم مؤمن. ولكنه إيمان عام بوجود الله وعظمته، أما تحول هذا الإيمان إلى صلاة وتسبيح وصيام واستغفار فلا سبيل إليه إلا بالوحى، وأتى لهم هذا الوحى؟ إن المسلمين ظلموا دينهم مرتين: مرة بسوء التطبيق، ومرة بالعجز عن التبليغ. سوء التطبيق عرض الدين نفسه للتهم حتى قيل: إنه ضد الفطرة والحرية والعقل. والعجز عن التبليغ أبقى جماهير كثيفة فى المشارق والمغارب، لا تدرى عن الإسلام شيئا يذكر. ولنترك هذا الاستطراد الموجع ولنعد إلى الدراسات الكونية المهملة، وإلى توجيهات القرآن المعطلة، إن الله أباح للبشر كافة ارتفاق الأرض والمشى فى مناكبها واستخراج كنوزها، يستوى فى ذلك المؤمنون والكافرون فما الحال إذا نشط الكافرون وكسل المؤمنون؟ ما الحال إذا كانت أيدى غيرنا لبقة فى الفلاحة والصناعة والتجارة والإدارة، وكنا نحن مكتوفى الأيدى فى تلك الميادين كلها؟ ص _059(1/51)
أينتصر الإيمان بهذا التبلد العقلى والتماوت المادى والأدبى؟؟ أم يدركه الخذلان فى كل موقعة؟ إن الواقع الأليم يتكلم فلنسكت نحن. كم يغيظنى أن يكلف الأنبياء بصناعات الحديد، وأن يطالبوا بتجويد آلات الحرب وإتقانها وأن يتعلم الصالحون الرمى وإصابة الهدف وأن يكونوا خبراء ببناء الحصون وتشييد الاستحكامات العسكرية.. إلخ بينما صالحونا لا يدرون عن ذلك شيئا. إن إصابة الأهداف من الأرض إلى الأرض، أو من الأرض إلى الجو، أو من البحر إلى البر.. إلخ تتطلب علوما كثيرة من طبقات الأرض، إلى طبقات الجو، ومن الهندسة إلى الطبيعة، والكيمياء، والفلك. أكان داود يعبث عندما قيل له ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد ). أكان ذو القرنين يعبث، عندما أوقد الأفران، وصهر المعادن، وأقام خطا من الحصون المنيعة؟ أكان محمد الفاتح يعبث عندما سير السفن على اليابسة وأكمل الحصار على خصومه؟ إن الذين يحسبون علوم الكون والحياة علوما طفيلية على دين الله، ويظنون العبادة حمل السبح وتحريك حباتها بكلمات جوفاء ناس عميان لا وزن لهم.. " مستضعفون صغار لا حلوم لهم " فلا تغرنك أيد تحمل السبحا لو تعقل الأرض ودت أنها صفرت منهم، فلم ير فيها ناظر شبحا ولن يبصر المسلمون الطريق، إلا إذا عادوا إلى الفلسفة القرآنية العملية، وفقهوا قوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ). وتذييل الآية الكريمة باسمين من أسماء الله الحسنى، يدلان على القوة والعزة، فيه إشارة لأولى الألباب، إلى الوسائل التى تتيح الغلبة والعلو، وإشارة أخرى إلى أن ص _060(1/52)
الحق لا ينتصر بالحماس الجاهل.. فمن فقد عدالة المبدأ وخبرة القدير المدرب فلا يلومن إلا نفسه.. وفى القرآن الكريم حديث عن آلاء الله المبذولة لسكان الأرض كلهم، فى مساكنهم ومآكلهم.. وحلهم وترحالهم! هى نعم يمرح فيها المؤمن والكافر ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ). وقد تأملت فى هذه الخيرات المشاعة فوجدت التأخر العلمى والمادى قد قلل حظوظ المسلمين منها وكأنما خلق الله الأرض لغيرهم!! نقرأ قوله تعالى: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) هذا من على أبناء آدم كلهم، بما يسر الله لهم من خير، وأتاح لهم من تمكين، بيد أنى أنظر فأجد أنصبة المسلمين متضائلة من هذه النعم المبذولة، وأجد أيديهم مغلولة، أو مشلولة فى تصريف هذه القوى! فى شرق العالم الإسلامى وغربه، رأيت مدنا، وقصورا، وجسورا، وطرقا، ومحطات، ومطارات، شادها الأجانب ونحن ننظر! من الذى ينسج السرابيل التى تقى الحر والسرابيل التى تقى البأس؟ من الذى حول جلود الأنعام إلى حقائب وبيوت تصلح للسفر والإقامة؟ من الذى شاد المصانع الكبيرة لنسج الأصواف و الأوبار والأشجار، ونقلها بالبواخر الضخمة إلى شتى الأقطار؟ إننى دهش لأن آيات القرآن لا تجد من يعيها! إن دراسة الكون، نهج قرآنى واضح، لبناء الإيمان أولا، ولدعمه وحراسته ثانيا، ص _061(1/53)
ولمنافع البشر ومتاعهم ثالثا، ومع ذلك فإن أجيالا كثيفة غلقت مشاعرها دون هذه الدراسة.. أحيانا أسمع قوله تعالى: ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ). ثم أقول: هل نظرنا؟ ولماذا كان نظر غيرنا أطول وأعمق؟ وأسمع قوله تعالى: ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ). ثم أقول: هل عقلنا؟ وتنطلق صيحات مدوية عن سياسة التنمية، ومضاعفة الإنتاج، وعن استغلال الثروات القومية! لكن هذه الصيحات ليس وراءها إيمان حقيقى! إنها جزع من الفقر الحاضر، ووجل من نتائجه، وسيبقى هذا الفقر، حتى ترتفع النفوس إلى مستوى الإيمان، وتحسن التعامل مع توجيهات القرآن.. إن الأوروبيين والأمريكيين كانوا أقرب إلى الفطرة الصحيحة، عندما تركوا لعقولهم العنان، تبحث فى الكون، وتفيد من كنوزه وما أودع الله فيه من قوى.. وكنا نحن أبعد عن الفطرة التى هى لباب ديننا ـ عندما فتنتنا فلسفات سخيفة لا خير فيها! وعندما استمعنا إلى بعض المتدينين الهاربين من الحياة الفاشلين فى ميادين الفكر والإنتاج والسلوك، فأسأنا إلى كتابنا ولم نحقق غاياته الكبرى... الإيمان ـ كما يفهم من القرآن ـ قدرة على الحياة فى جميع دروبها، قدرة علمية ومادية يصحبها تطويع كل شئ لإرضاء الله وابتغاء وجهه. أما الحفاة الذين يصرخون بتطبيق الإسلام على الأرض، تاركين غيرهم يرجمهم بقذائفه من الجو، فهم قطعان بينها وبين الإسلام شوط واسع. ولنلق على الموضوع كله نظرة أوسع فيما يلى... ص _062(1/54)
سياحة فكرية الروحانية فى الإسلام :حقيقتها وآفاقها فى سياحة فكرية جادة، ألقيت نظرة سريعة على الكون الذى نحيا فيه، وعلاقة هذا الكون بالله الذى أنشأه من الصفر، وأبرزه من العدم. كانت النظرة تجمع بين المتقابلات البعيدة، وتتحير فيما توحى به من دلالات.. فى عالم المسافات والأرقام، نظرت إلى القمر يدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، والشمس وتوابعها تسبح فى فضاء ملئ بالمجرات، مشحون بألوف من الأفلاك... إن أبعاد هذا الفضاء الرحب لما تكتشف، بيد أن هناك إجماعا علميا على أن هذا الكون ضخم ضخم، وأنه يتجاوز كل الظنون فى سعته ودقته! قلت: فما شأن خالقه؟ وما مدى عظمته؟ إننى لست أحمق حتى أتخيل الأرض إلها، وهى ذرة محدودة فى وجود مطلق، أو أتخيل ما فوقها إلها، وهو فى شروقه وغروبه محكوم بقدرة أعلى... وتذكرت قوله تعالى: ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ). إن ما علانا وما دوننا من ظلمة ونور، وحركة وسكون، يمضى إلى مداه بأمر الله لا يخرج عنه أبدا. ص _063(1/55)
قلت وأنا أتتبع عجائب القدرة العليا: ذاك بالنسبة إلى غيرنا فما الأمر بالنسبة لنا نحن؟ وكان الجواب أن الذى يضبط آفاق السماء، يضبط فى الوقت نفسه، اندفاق الدماء فى عروق خمسة مليارات من البشر تسكن كوكبنا. ويضبط شبكات الأعصاب فى الأجسام، وهى تستجيب لأوامر المخ الصادرة، بما ندرى، وما لا ندرى من توجيهات، ويضبط فى الوقت نفسه عصارات الحياة السارية فى كل نبات ارتفع على ساق، أو امتد على الأرض... إن الإله الذى يدير أجرام السماء، فلا يزيغ جرم عن مداره، يدبر فى الوقت نفسه أجهزة الحياة فى كل طائر يطير بجناحيه، وفى كل دابة تمشى على بطنها، أو على رجلين أو على أربع، وفى كل جرثومة تدق على البصر العادى لضآلتها، ولكنها قد تصرع العمالقة بما تحمل من أذى!! إن الله خلق الناش ليعرفوه غير أنهم ما قدروا الله حق قدره، ولو أنهما قدروه حق قدره لعلموا أنهم ما يسمعون ولا يبصرون إلا بما ركب فى وجوههم من !سماع وأبصار تحيا بإيجاده وتبقى بإمداده ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ) وعيب الحضارة الحديثة، أنها تكتشف الأسرار العظيمة، ثم تقف حيث يجب أن تنطلق.. لقد أدركت أن المخ البشرى يقود أجهزة الحياة فى الجسم الإنسانى، وأن تلافيفه المبهمة، تصنع الصحة والمرض والذكاء والغباء، وأن ألف حاسوب متطور، تعجز عن أداء وظائفه! ثم ماذا؟ ينتهى أمر المخ، وكأنه رطل من اللحم، يبيعه جزار! أما التساؤل الواجب: من صانع هذه الأداة العبقرية؟ ومن الذى يتعهدها فى دماغ الطفل حتى تنمو فى كيان عبقرى ملهم؟ أو فى كيان فران يبيع الخبز؟ وهى على الحالين تقوم بوظائف معجزة!! لا يهتم الماديون بشيء من هذا؟ لأنهم لا يهتمون بما يصلهم بالله! ص _064(1/56)
وأولو الألباب يرفضون هذا المنطق، فدقة الجهاز تدل على عظمة صانعه، وروعة الملكوت تصرخ بإبداع صاحبه. وكل علم لا يقود إلى الله يجب وضعه فى قفص الاتهام، فكيف إذا كان هذا العلم حجابا دون رب العالمين؟؟ وكتابنا العظيم، يجعل النظر فى الكون دليل الإيمان، ومع سعة النظر وعمقه وصدقه، تكون معرفة الله، فالعارفون بالله يستمدون معرفتهم، من قراءة آيات الله فى الكون وفى الإنسان ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ). وشواهد ذلك فى القرآن كثيرة ولا مكان لإثباتها.. ارتباط الذكر والدعاء بمشاهد الخليقة فى الأرض والسماء: ولكننا ننظر إلى السنة الشريفة لنرى كيف يرتبط الذكر والدعاء، بمشاهد الخليقة فى الأرض والسماء، والليل والنهار. تدبر هذا الحديث الصحيح: كان النبى - صلى الله عليه وسلم ـ إذا آوى إلى فراشه يقول: " اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شئ، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شئ، أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين واغننا من الفقر" )!! وهاك دعاء آخر للنبى الذى لم يعرف التاريخ نظيرا له فى العبودية والتبتل وغمر المحاريب بالمشاعر النابضة، والأنفاس الطاهرة والأداء السهل المعجز..! " الحمد لله الذى كفانى وآوانى وأطعمنى وسقانى والذى من على فأفضل، والذى أعطانى فأجزل، الحمد لله على كل حال. ص _065(1/57)
" اللهم رب كل شىء ومليكه، وإله كل شىء أعوذ بك من النار " . وفى حديث آخر: كان رسول الله يقوم فى جوف الليل فيقول: " نامت العيون وغارت النجوم وأنت الحى القيوم، لا يوارى منك ليل داج، ولا سماء ذات أبراج ولا أرض ذات مهاد، تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ". إن حقيقة الدين عندنا، تمزج بين الكون والحياة، والإنسان والسلوك، والعلم والتربية، والذكر والدعاء...! وإحساس المسلم أن الله بكل شئ محيط وبكل شئ بصير، وعلى كل شئ شهيد، وأنه يجير ولا يجار عليه، ويحكم فلا معقب لحكمه.. الخ. هذا الإحساس يترك أثره على قوله وفعله، وجده وهزله، ورضاه وغضبه، أو بإيجاز يخط له خطا واضحا فى شئون الحياة كلها. هذا الكلام بحاجة إلى فضل إيضاح، فإننا مجبولون على حب الشهوات، من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة... وهذا الحب يهيمن على مآربنا وأنشطتنا! فمن انحصر فى هذا المتاع، نسى ربه وآخرته، ومن ضبطه بقيود الإيمان، ولقاء الله، استقام على النهج. إننى أحيانا أغشى مجالس بعض الشباب، أو بعض التجار، وأتسمع ما يدور فيها من أحاديث، فلا ألمح إلا استغراقا فى المستقبل القريب واللذة العاجلة. الحديث عن الأسعار والسلع والغلاء والرخص، أو الحديث عن الرواتب والدرجات والترقيات.. الكل مشدود بحبال وثيقة إلى شواغل الدنيا، لا يعدوها أبدا إلى ما بعدها، ولا يرقى منها، إلى مصرف أمورها، مالك زمامها.. تذكرت قوله تعالى ( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ). ص _066(1/58)
الاهتمام بالدنيا حق على أن تكون وسيلة إلى ما وراءها، أما الانكباب عليها والغفلة عما سواها فضلال بعيد. وصلتنا بالله تصح وتقبل عندما تبلغ من القوة مستوى يعلو الغرائز المهتاجة ويغلب الغفلة الغامرة! يجب إذا رأينا الكون أن نرى قبله أو معه من كونه، والعالم المعاصر تضافر فيه الشرق والغرب على إظهار الأسباب، وإسدال ستار على ربها، كأنه لا وجود له، أو لا عمل له، وكأن هذه الأسباب هى الفاعل الحقيقى وما عداها وهم... وهذا ضلال بعيد! إن لقانون السببية احترامه، والناس يزرعون ليحصدوا، ويتزوجون لينسلوا، بيد أن هذه الوسائل مفاتيح للقدرة العليا، أو هى أغطية تتحرك القدرة تحتها... قال الإمام النووى: روينا فى الصحاح عن زيد بن خالد الجهنى قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فى أثر سماء - سحب وأمطار - كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال. هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم بما قال! قال: أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر! فأما من قال.. أمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكواكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بى مؤمن بالكواكب". ونسارع إلى بيان المراد فى هذا الحديث، إن الذاهلين عن الله المنكرين لسوقه الرياح وتصريفه للسحاب المسخر بين السماء والأرض يقولون: جاءتنا الأمطار من هبوب الريح الفلانية ووقوع تقلبات جوية! وهؤلاء لا إيمان لهم! أما من يعرفون الله، ويرون الرياح والسحب، علامات على قدرته، ودلالات على إرادته، فهم لا يكفرون إذا قالوا: أمطرت السماء الأرض، وأنبت الربيع البقل، وأنضجت الحرارة الفاكهة.. الخ. المهم أن نعرف الفاعل الحقيقى، ونتجه إليه بالشكر حين يعطى، ونقف بساحته ضارعين حين يرجئ ويبتلى... ص _067(1/59)
ترى ما موقف المحبين لله بإزاء ما يملأ الدنيا من جفاف وذهول؟: البعض يضيق ذرعا بالانصراف عن الله، والوقوع فى مساخطه، ويقرر النجاة بنفسه، فيؤثر العزلة، ويرى الموقف السلبى أنجى.. وهؤلاء ـ على ما بهم من خير يشبهون من يكره أماكن التدخين فيجرى بعيدا عنها، تاركا غيره يعكر الجو، ويحرق صحته وماله، ويزكم الأنوف بنتن التبغ المتصاعد. قد تقول: بل الأمر فوق ذلك! إنه ليس انتقالا من جو وبئ إلى جو نقى، إنه فرار بالدين والعرض، من مكان يفتك بالدين والعرض! أين يستقر المؤمن بين أناس تتحرك فى أجسامهم الضغائن والمآرب الرخيصة؟ تختل هذا ذاك، ويخدع ذاك هذا، وكأنهم المعنيون بقول الشاعر: إنما أنفس الأنام سباع يتهارشن جهرة واغتيالا! أين يستقر المؤمن فى مجالس تفيض باللغو والإثم، كأن حديثها بغام هابط، لا تسمع إلا النميمة والغيبة والاستطالة فى الأعراض، وتكبير الصغار، وتصغير الكبار؟ أين يستقر المؤمن بين تقاليد سائدة، تفرض الزلفى والمداهنة ـ لأصحاب السلطان، وتفرض الاستهانة والازدراء بالضعفاء والفقراء؟ أين يستقر المؤمن بين أقوام قلما يذكرون الله، ويلهجون بمحامده وهداياه إلى خلقه، وما أكثرها، فإذا أصابهم حرج كان لهم عويل النساء وإياس الهلكى. إنه لا حديث أبدا عن لقاء الله، وهو حتم! ولا عن عقابه وثوابه ولابد منهما! هل عزلة المؤمن هى الحل؟: خير للمسلم أن يفر بدينه، وينأى بنفسه ويعتزل هذه الطوائف كلها.. وإذا كان لإيمانه ضوء شمعة فليحافظ عليه حتى لا تطفئه الظلمات السائدة. وأجيب: بأن شيئا من هذا لا يبيح العزلة، وقد قالوا: إن ظلمات القطبين كلها، لا تستطيع إطفاء شمعة، ولا يجوز لأهل الخير، أن يلوذوا بالفرار، إذا طفح الشر. ص _068(1/60)
المرء الصالح الذى يلوذ بالفرار اليوم، إنما يمهد لشر قد يجتاحه غدا، أو هو سيجتاح حتما أولاده بعد غد... إن الإسلام يرفض الفرار من الزحف، وهو قد يرخص به إذا كان استئنافا للصراع واستمكانا من ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ). إننا قد نبيح عزلة مؤقتة يحصن المرء فيها نفسه ويسد الثغور التى ينفذ منها عدوه، حتى إذا قوى واستكمل الأهبة خرج منازلا لأعداء الله، ومعليا شعار الحق. أما أن تقرر طوائف من المسلمين التقوقع، أو التجمع على أوراد خاصة وحسب، فهذا هروب من الواجب ونكوص على الأعقاب لا يساغ فيه عذر. إن المرء قد يستجم ليعاود الكدح! أما الاستقالة من الوظيفة فقضية أخرى. وربما تعلل المعتزل، بأنه سيكون أهدأ بالا! وأرق روحا، وأدوم ذكرا لله، وهذا تعلل مرفوض، فإن تعريف الجاهلين بربهم، وتذكير الناسين بولى أمرهم ونعمتهم، أهم وأجدى من صفاء النفس وهدوء الأعصاب... يجب أن نعرف حقيقة الدين الذى ننتمى إليه، إن تذكير الناس بالله هو قمة الذكر المطلوب. وتوقيفهم عند حدوده، وتبصيرهم بحقوقه، واقتيادهم بوحيه، هو صراخ بذكره ـ جل شأنه ـ إذا كان هناك من يكتفى بالتأمل السلبى والاستنارة الباطنية. والأمر يحتاج إلى شرح طويل... فإن فساد الأديان القديمة جاء على أيدى رجال، اكتفوا بالعيش على هامش المجتمع، واستثقلوا أعباء المجاهرة بالحق، وجبنوا عن مقاومة المبطلين، وقالوا نتركهم فى حيرتهم، ونرضى بما أتيح لنا من رشاد...!! هذا الصنف من الناس، هو الذى قال للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ). وسواء كان هذا التساؤل عن بلادة أو يأس فإن مصير هذا الصنف لا يشرف ولا يطمئن، بل إننا نوجل من هذا المصير حينما نقرأ قوله تعالى: ص _069(1/61)
(فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين). ومعنى هذه الآية يؤكد المعنى المستفاد من الآية الأخرى (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) . الله يعلم بسرائر الساكتين عن مناصرة الحق ومقاومة الباطل: هل هى سلبية خور وقهر؟ مع رفض باطنى للعوج السائد؟ أم هى قلة اكتراث وسوء تقدير للعواقب؟ ليكن هذا أو ذاك، فإن ترك الضلال ينفرد بزمام الحياة ينتهى حتما بضربة من القدر لا تبقى ولا وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. ولنتدبر الجملة الأخيرة فى الآية!! إنه قال: (وأهلها مصلحون) ولم يقل وأهلها صالحون، لأن الصلاح الشخصى المنزوى بعيدا، لا يأسى لضعف الإيمان، ولا يبالى بهزيمة الخير، صلاح لا قيمة له ولا خير فيه! كن صالحا مصلحا وراشدا مرشدا... أما أن تجلس بعيدا تنتظر النتائج، وتستسلم للواقع فلا...!! وفهم القرآن الكريم لا يخضع للمصطلحات التى جدت بعد نزوله قديمة كانت أو حديثة، ونحن نأبى وصف الإسلام بأنه مادى أو روحى مثلا، وإنما نستوحى الحكم الجامع من جملة النصوص المقررة فى الكتاب والسنة..! فالله سبحانه خالق العالم، ومديم وجوده، ومدبر أمره! وقيام كل شئ بالله على أنه الأول والآخر والظاهر والباطن حق لا ريب فيه. بيد أن هذا لا يعنى بتة فلسفة وحدة الوجود، كما روجت لها بعض الأديان الأرضية أو السماوية.. والإيمان بأن الحياة الأرضية ممر لا مقر، وأن لقاء الله لابد منه، وأن الإعداد لهذا اللقاء مطلوب، كل ذلك لا يعنى الزهادة فى الدنيا، وقلة الاكتراث بنصيبنا منها، أو قدرتنا عليها! ص _070(1/62)
والمحجوبون عن رؤية آيات الله فى الأنفس والآفاق نماذج رديئة للإسلام، وفتنة عنه ولو أطالوا القراءة وتحريك الشفاه! إن المتماوتين فى زحام الحياة، الخاملين فى معركتها الكبرى هم أشخاص مرضى، ولا يهب لهم نعمة الصحة، أن يكون لهم نسك أو تخشع.. العمى غير البصر، والظلمة غير النور، والظل غير الحر، والحياة غير الموت، كما قال تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور ). وإنه لعجيب أن ينتمى إلى الإسلام أناس، ليس لهم نور يمشون به، لا نور من عقل كشاف أو من يقين ملهم، كل ما يربطهم بالإسلام، قراءة لا فقه فيها، وعبادة لا عمل معها. البعيدون عن الإسلام غزوا الفضاء، ووضعوا أقدامهم على القمر، أما أولئك فهم صرعى القصور العقلى، والعجز الخلقى، والدعوى الفارغة، والرضا عن النفس!، واتهام الآخرين. هل الدعاية للإسلام تنجح مع شيوع هذه الحال؟ كلا فنحن نلهث وراء قليل من المعرفة وقليل من الأجهزة والسلع التى برع فى صنعها الآخرون.. واليد العليا خير من اليد السفلى، والمتخلفون حضاريا واقتصاديا، حين يمدون أيديهم للأخذ، لا يجوز لهم أن ينتظروا إعجاب الآخرين بهم، أو دخولهم فى دينهم! كيف ينبهر المتقدم بالمتخلف، ويتحول تابعا له؟ الروحانية المزعومة: هل السعى لجعل الأمة ترقى فى ميدان الصناعات المدنية والعسكرية يتم على حساب الصفاء الروحى وانتعاش عواطف الحب الإلهي؟ مستحيل؟ إن الذين يفهمون الروحانية على أنها لون من الخدر النفسى، والغيبوبة الفكرية، أناس لا يعرفون الإسلام، بل هم أعداء له. أولى منهم بالله وكتابه ناس يغتر أيديهم وجباههم تراب الحقول أو دخان المصانع أو ص _071(1/63)
الركض فى الأسواق، ثم هم من قبل ومن بعد يحبون ربهم حبا جما، ويجعلون حراكهم الدائم، إعلاء لكلمته، وسياجا لشريعته، وذخيرة يلقونه بها يوم الحساب. كل روحانية مزعومة، تثنى زمام الجماهير عن هذه الغاية، لا يمكن إقرارها، بل تجب مطاردتها فى ساحات العلم والتربية... فى يوم ما كنت أسمع إحدى الإذاعات فرأيتنى فى مصر أتلقى إعانات؟ لإنشاء محطات "الصرف الصحى" من ألمانيا الغربية، ورأيت إخواننا فى اليمن، يتلقون إعانات من الصين؟ لتعبيد عشرات الأميال! من الطرق. وكنت قبل ذلك أحس أن مادة الرغيف الذى آكله مستوردة من الخارج وكذلك السيارة التى أركبها.. فتساءلت أين نحن من دنيا الناس؟ أصحيح أن هناك روحانية تغرينا بهذا العجز؟ الحق يقال: إن هذه الروحانية ضرب من الشلل فى المواهب والتشويه للخصائص البشرية! إلا إن الإسلام شىء آخر، إننا فى واد وهو فى واد. ولسنا نقبل ديننا إلا من كتاب ربنا وسنة نبينا... ولو أن السلف الصالح الأول، وجد الآن ما تراه إلا جنا يركب البحار ويتربص داخل غواصة أو حاملة طائرات. كل ما يفرقه عن الآخرين الآن، أنه فى عمله يسجد لمن تسبح الأمواج باسمه ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. تلك هى الروحانية التى يعرفها ديننا، ولا يعرف سواها... إن الحضارة الحديثة عرفت الكون، وجهلت ربه أو جحدته! فهل نحسن التصدى لها عندما نجهل الكون وننسى ربه ونتجاوز هداه؟ لماذا لا نعرف الكون مثلما يعرفون أو أفضل، ثم ينظر القوم إلينا فلا يجرؤ أحد على انتقاصنا، أو الاستهانة بنا، فإذا حدثناهم عن الله الواحد أعطونا آذانهم مقدرين متأملين… وإذا رأونا نضبط غرائزنا، ونحكم هوانا، ونذكر ربنا بالغدو والآصال لم يقل أحدهم: هذه غيبيات العالم الثالث التى أزرت به وعرقلت سيره…!! الإسلام ـ فوق أرضه المهزومة ـ دين مثخن بالجراح! فالعمل به يقع فى ميدان، ولا ص _072(1/64)
يقع فى آخر! وشعائره قد تبقى مرعية فى المساجد، أما شرائعه فمستبعدة فى ساحات شتى! والانتماء إلى الإسلام فردى لا جماعى، فإن الانتماء إلى الأرض أو إلى العرق يسود الحياة العامة، وليس يقبل الانتماء الدينى إلا داخل النطاق الوطنى أو الجنسى وعلى أنحاء محدودة.. والدعوة إلى الإسلام معطلة أو غامضة فى أرجاء العالم، ذلك أن الثقافة الإسلامية مغشوشة والسياسة الإسلامية معتلة! وقد تكون فى العقيدة بقايا حياة صالحة مغرية بالقبول، لكن العصر الذى نعيش فيه الآن يرفض الفصل بين الإيمان والنظام النابع منه، أو بين العقيدة وشبكة الحقوق الإنسانية التى ترتبط بها... ولما كان المسلمون شديدي التخلف فى المجال الحضارى، والدولى، فإن أحوالهم المزرية كان لابد أن توقف سير الرسالة، وأن تلقى عليها ظلالا سودا... من أجل ذلك أرى أن الروحانية الإسلامية فى الخلق والسلوك، تقترب من العدم، ولا يكاد العالم يعرف عنها شيئا مجديا.. فإن يك هذا أثر الإسلام بين سكان الأرض فما أثر اليهودية والنصرانية؟: الواقع أن البضعة عشر مليونا من اليهود الذين ينتشرون فى أوروبا وأمريكا ويخططون للعودة إلى فلسطين كانوا أنشط وأنجح من المليار مسلم فى نشر أفكارهم والتأثير فى الشعوب التى وجدوا بها.. والقلة العاملة أخطر دائما من الكثرة العاطلة ! ونتساءل: ما أصول الفكر اليهودى وواقعه العملى؟ وما آثاره فى صقل الطباع، ودعم الفضائل، وقبل أن نومئ إلى الجواب نذكر من له قلب بقضايا تاريخية من صلب العهد القديم.. فيعقوب سرق النبوة من أخيه الأكبر بطريق الغش والاحتيال، وعندما نال لقب إسرائيل، ناله بعد مصارعة لرب العالمين، فاز فيها بالنقط، كما يقال فى عالم الرياضة! والحياة التى تقوم على هذه المبادئ، تعنى أن البقاء للأدهى والأقوى، وأن الضياع للحق الساذج الضعيف... ص _073(1/65)
وتستطيع أن تضم إلى ذلك قصة الملك العظيم داود كما يروونها؟ لقد اغتصب امرأة قائده لما اشتهاها، ثم خطط لقتله، حتى ينفرد بعد بها... أى عظمة هذه؟ إنها عظمة السباع الباطشة ومنطق الوحوش فى الغاب..! ومن ثم فنحن لا نصدق بوجود روحانية يهودية؟ قد يكون للوصايا العشر بقايا فى نفوس العامة، تمهد لشيء من الإيمان والخير، وهذا صحيح! وقد تكون بعض النفوس مقطورة على احترام الحق والعدل، كما قال تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ). وهذا أيضا صحيح.. لكن التطبيق الهابط الزائغ المنسوب لقائد الديانة وشعارها، له آثار أسبق وأعمق فى مسالك بنى إسرائيل على امتداد العصور، وما يشعر أحد من أبناء إسرائيل بحرج إذا قلد أباه فى اغتصاب آخر بالخديعة، أو العدوان عليه بالقوة. وهذا سر نقمة العالمين على اليهود من قديم.. وليس يخفف من هذه النقمة انتصارهم على العرب، فعرب اليوم فى محنة، ما مروا بمثلها فى جاهلية ولا إسلام، لأن التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ. والمسلمون اليوم، يلاقون اليهود والنصارى فى جبهة واحدة، تهضم حقوقهم، وتستكثر الحياة عليهم، على أن هناك فرقا بين التصرف اليهودى القائم على الصلف والقسوة، وبين النهج الذى تحب الكنائس المسيحية أن تظهر به، وأن يؤثر عنها... فالرهبانية لا تزال نظاما روحيا وجماعيا يخلص للدين ويستعلى على الدنيا، ويعلن الإيثار والرحمة! ونظام الرهبنة ليس خاصا بالنصرانية، فهناك رهبان بوذيون، وأروع ما فى هذا النظام ـ على اختلاف العقائد ـ تفانيه فى خدمة ما يعتنق، وانخلاعه عن الشهوات التى تحكم الآخرين وتستبد بهم، وانطلاقه فى دروب الحياة مربوطا بمبدأ بارز قد يحترق من أجله كما كان الرهبان البوذيون يفعلون بأنفسهم ليؤكدوا مذهبهم ويراغموا عدوهم.. وفى أيامنا هذه لا يزال نفر كبير من الرهبان النصارى يعملون فى إفريقية وآسيا، وسط ظروف كئيبة لنشر التثليث، وتوسيع الرقعة التى(1/66)
يحتلها، ولديهم إمكانات حسنة ص _074
لإسداء الخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية، وهى وسائل رقيقة، لاجتذاب الأفئدة، وغرس المذاهب والأديان. على أن العقائد أرضية كانت أو سماوية، لا تستطيع هزيمة العقل البشرى، ولا مغالبة الفطرة الصالحة إلى الأبد.. ومع تقدم الحضارة وسيطرة العلم، تراجع الفكر المخرف، وتحرر العالم من أوهام شتى، لكن رجال الدين ـ فى القارات المختلفة ـ لم ييأسوا، فالتحق أكثرهم بالحضارة الغالبة خادمين لا مخدومين... واستطاع الاستعمار والصهيونية تجنيد آلاف الكهنة لمآربه.. وعمل الحقد القديم عمله فى نفوس الأحبار والرهبان، فتركوا أقطار الغرب والشرق للعربدة الجنسية، والكفر الصراح، وانطلقوا إلى أرض الإسلام محاولين الإجهاز عليه، وتسليم بلاده لعبيد الحياة الدنيا... والمحنة التى لا نستطيع تجاهلها، أن الاستعمار حاد الذكاء، طافح الشهوة، بالغ الضغينة، وأن المسلمين جهلة بدينهم، عجزة عن التحليق فى جوه، خالو البال عما يبيت لهم. ومع انتصار الاستعمار الثقافى الماشى خلف الاستعمار السياسى، أو بين يديه فشت أغلاط وانحرافات تتصل بطبيعة الإيمان، ومعالم الصراط المستقيم، نريد أن نشرحها بشيء من البسط.. أغلاط وانحرافات: فالعالم الحديث لا يكترث للدار الآخرة، ولا يستعد لحسابها الثقيل، إنه مشغول بالأرض وحدها، مشدود إلى مغانمها، وإذا سمع أقوالا متناثرة عن الحياة الأبدية تجاوزها على عجل عائدا إلى ما يعنيه من كدح الحاضر وانتظار للأجر القريب... وقد أكد المرسلون كلهم أن الحياة الدنيا مقدمة وجيزة لكتاب طويل، وأن البشر الذين يحكمهم الزمن هنا، سوف ينتقلون إلى حياة أخرى، ينعدم فيها الزمن، كما ينعدم الوزن فى حياة رواد الفضاء الآن! فى الآخرة خلود لا نهاية له، وعلى البشر، لنا أن يهيئوا أنفسهم بالتزكية والتسامى؟ كى يرشحوا أنفسهم لهذا اللون الجديد من البقاء السرمدى. ص _075(1/67)
الغريب أن أسفار موسى الخمسة ـ فى صدر العهد القديم ـ لم يجئ بها ذكر للقاء الله ولا وصف للجنة والنار، ولا إعداد لهذا الخلود الحق! وهذا الإغفال القبيح، لحقيقة ما خلا منها وحى، يعد من أسوأ صور التحريف الذى محق بالتوراة! ونحن المسلمين نتعرف على رسالة موسى من صحائف القرآن المصون لا من كتابات خضعت لشهوات المحو والإثبات! فى وصف رسالة موسى نسمع لهذا النداء : ( فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ). ماذا كان أثر هذا التحريف؟ لقد أمسى بنو إسرائيل أشد الناس تجاهلا للساعة، وصدودا عنها، وأمسوا ـ فى مراكز الإعلام والتوجيه التى يحتلونها ـ دعاة لعبادة الجسد، وعبادة الدنيا، ما تذكرون الله فى شأن جاد، ولا يذكرون بلقائه فى ليل أو نهار. والأمر كذلك مع أتباع الأديان الوثنية، الذين يحرقون جثث الموتى، ثم يذرون رمادها فى الريح، ثم ينسون ما كان ومن كان! ويتفق مع هؤلاء ملاحدة الشرق الشيوعى وعلمانيو الغرب الذى يرتبط اسميا ببعض العقائد، ولا يرفع عينه إلى السماء يوما... إن عقيدة البعث والجزاء امتداد للإيمان بالله وحده. والرغبة الشائعة فى عصرنا عن ذكر الآخرة ترجع إلى اهتزاز ذلك الإيمان أو فراغ القلوب منه.. وقد حرص الإسلام، على ربط السلوك اليومى، بالإيمان المتصل، الذى يجعل الآخرة تتمة للأولى.. قد تنفق مالك لأنك تحب أن تشتهر بالعطاء، وقد تنفقه لتسد ثغور الحاجة عند الفقراء، وقد تنفقه لأنك تحب الاستكثار من الأتباع، وقد تنفقه لأنك ترد دينا عليك.. ص _076(1/68)
لكن القرآن الكريم ينبه إلى سبب آخر للإنفاق هو الذى ينال القبول الأعلى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ). قد تطلب منصبا ما، استكمالا لوجاهتك الاجتماعية، وقد تطلبه لأنك ـ فى رأى نفسك ـ أهل الرياسة والتقدم، وقد تطلبه لأن الآخرين رشحوك له، وقد تطلبه لأنه مصيدة للثراء والمتاع.. إن هذه الأسباب شئ آخر غير قبول المنصب لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإعلاء كلمة الله وتحقيق العدالة بين عباده.. أى أن القيادة هنا كالإمامة فى الصلاة عبادة يرجى بها وجه الله! إن صنوفا من الأسباب النفسية تعمل وراء الإقدام والإحجام، والنشاط والفتور، والصمت والكلام، والرضا والغضب! وإذا لم يكن الإيمان الحق وراء العمل، فلا وزن له. (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ). إن الحضارة الحديثة حضارة أرضية بشرية، ترى أنه لم ينزل من السماء شئ، وأن الإنسان وحده سيد الكون، وأن الساعة الحاضرة هى الجديرة بالعناية، وأن الموت شئ مؤسف لكن ماذا نصنع له؟ فلنستعمل ما قبله فليس بعده ما يعنينا..! وربما بقيت ظلال للأديان الهزيلة التى يتوارثها البعض! فما تجدى هذه الظلال؟ إنها تشبه أدخنة بعض المصانع التى تغير الجو ثم تبددها الريح.. إننى اقتربت من نفوس شباب وشيب، أساتذة وطلاب، حكام ومحكومين، مدنيين وعسكريين، فلم أسمع ـ إلا على ندرة ـ استعدادا للقاء الله واهتماما بالدار الآخرة.. الناس محبوسون فى مآربهم القريبة وحدها، ولا يحبون أن تنفتح فرجة، يطلون منها على الحياة الآتية، ويرفضون مواساة تجئ منها؟ لتخفف من معاناتهم هنا.. ص _077(1/69)
ولا بأس أن يمد الموظف يده " لقبض رشوة يشبع بها لذة سريعة، أما الاستعفاف عنها ابتغاء ما عند الله وأداء الواجب بشرف، فلون من الغباء..!! ويطرد هذا القياس بإزاء أموال الناس وأعراضهم ودمائهم، من قدر على شئ لم يحجزه عنه ذكر جنة أو نار، إن الجنة والنار كلمات رجعية يتعلق بها ناس متخلفون! وهكذا انتصر عالم الشهادة، على عالم الغيب، أو عالم الحس، على عالم الروح، ولست أزعم أن الإلحاد بدعة ظهرت فى العصر الحديث، إن الكفر عوج غائر الجذور فى تاريخ البشر! بيد أنه فى هذه الأيام شمخ ورسخ، واستغل الارتقاء العلمى، فى تفتيت الإيمان، وإقصائه عن مواطن التربية، ومظان التأثير فى الأعمال والأخلاق. وألفت النظر إلى حقيقة فى طبيعة الصراع بين الخير والشر إنه يوم يكون الخير خاطرا، يساور النفس، والشر تيارا عاصفا ملحا، فلابد!ن هزيمة الخير.. يوم يكون الحق صوتا خافتا أو لحنا ممجوجا على حين يقبل الباطل جؤارا عاليا، أو نغما عذبا فلابد من هزيمة الحق. من أجل ذلك جاءت شعائر الإسلام قوية جماعية، تحتشد لها النفوس، وتتعاون فيها قوى كثيرة.. !لصلاة سوق لا تنفض بالغدو والآصال!! يسبقها صراخ بتوحيد الله يطارد الشيطان على أديم الأرض، فما ينقطع صدأه فى مكان! إلا ليتجدد فى مكان آخر! وجراثيم الهوى تبيد فى ذلك الجو الصاحى! أما مع إضاعة الصلوات وجفاف روحانيتها فإن الشهوات تنطلق وتهيمن، قال تعالى! (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ). وقد رأيت الاستعمار الحاقد على الإسلام، يضرب كل تجمع على الإيمان، ويحاصر كل امرئ يتوقع منه القدرة على إنشاء الجماعات ودعمها... ذلك أن المؤمنين الفرادى هم بقايا كيان انهارت لبناته ويوشك على التلاشى، فهم مائتون لا محالة، إن لم يكن اليوم فغدا... وذاك ما حدث لمسلمين آسيا وإفريقيا.. ص _078(1/70)
بل إننى شديد القلق على من رحل إلى أوروبا وأمريكا من المسلمين، وعلى من شرح الله صدره للإسلام فى هاتين القارتين، فإن البيئة الغالبة تبتلع الكثير، وتفسد فطرا كانت سليمة، وتسحق نباتا كان يمكن أن يزهر ويثمر. والدنيا الآن صاغية إلى رواد الفضاء، وغزاة القمر، فإذا قال غر من أولئك: إننى بحثت فى السماء فلم أجد إلها! صدقه قزم محقور الفكر والهمة! ومن ثم ينتشر الإلحاد هنا وهناك.. لقد فكرت مليا فى هذه القضية، وتساءلت: لماذا استحوذ الظلام على هذه المساحات الواسعة من العالم، فضلت جماهير كثيفة وعاشت بعيدة عن ربها أو جاحدة له؟ ورأيت أن للكفر سببين يضارع أحدهما الآخر ويساويه فى الخطر والأثرة. الأول: عقوق بعض الطباع وكفرها بولى نعمتها، واستكبارها على هداياته.. وثانيهما: عرض الدين مشوبا بما يثير الاشمئزاز والسخط..! فى العصور الوسطى كان عرض الدين فى أوروبا على أنه ضد للعلم، وخصومة للحياة السوية! وخليط من أوشاب الأرض فى غلاف مزعوم من السماء... فكان أن كفر العلم، وكفرت الحضارة الحديثة... ومن سوء حظ العالم أنه لم يجد من يأخذ بيده، ويهديه إلى رشده، فظلت المدنية الذكية تستخدم ذكاءها فيما يرديها.. السببان مازالا معا يستبقيان الإلحاد والانحلال.. ولما كنت واحدا من الدعاة المسلمين فإنى أعترف بأن الإسلام لم يجد من يحمل حقائقه، وأن دعاة كثيرين يقولون كلاما يستغربه أولو الألباب حتى شاع أن الإسلام دين حفنة من الحكام المترفين تعيش وسط أمم تبحث عن الأكل، لا تعرف الحرية والكرامة ولا العقل والإبداع. الدين كلفنا أن نملك الدنيا ونسخرها فى خدمة مثله وأهدافه، فقلنا: لا علاقة لنا بالدنيا. الدين أمرنا بإصلاح أجسادنا كى نطوعها لخدمة عزائمنا وآمالنا فقلنا: الدين يستحب الهزال والخفوت والجوع والسهر.. ص _079(1/71)
الدين يأمرنا بحدة النظر، وعمق الفكر، ونحن نترك الفكر يذوى، مكتفين بتلاوات وأذكار لا فقه فيها ولا تدبر معها.. إن أعمال الإسلام كلها تصبح قليلة الجدوى مع سقم العقل وعوج الفطرة... والغريب أن الذين يهولهم الواقع الأليم، ويقررون التوبة، يسلكون الطريق ذاته الذى قاد من قبلنا إلى الهزيمة... طريق تدمير الدنيا، والجهل بها، والبعد عنها! ما كان هكذا سلفنا الكبار. لقد عرفوا أن الدين هو الدنيا موضوعة بين قوسين من الإيمان والتزام هداه، مع ضميمة من العبادات، التى تزكى الروح والجسد معا، وتصلح الدنيا والآخرة جميعا... إن الدين لم يقل لنا: اتركوا الأرض وعيشوا فى كوكب آخر! بل قال الله لنا: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ). الدين لم يقل لنا: ازهدوا فى خيرات الأرض وترفعوا عن ارتفاقها لتكونوا أدنى إلى الملائكة..! بل قال لنا: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ). ويعلم الله أن بعض الناس سوف يتقعر ويتكلف ما لا يحسن ويريد ليشرع للناس ما يظنه أليق بهم! فيقول الله لهؤلاء: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ). ويعلم الله سبحانه أن الأرض سوف تسكنها قلة مؤمنة، وكثرة كافرة، وأن الاستمكان من خيرات الأرض الباطنة والظاهرة قوة لأصحابه، ودعم لمبادئهم، فكيف تكون الحال إذا قدر الكافرون، وعجز المؤمنون؟ أئى للحق ما يمده بالفوز؟ ويرجح كفته فى الكفاح؟ لذلك قال الله فى وصف معدن الحديد ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب )! ص _080(1/72)
كان المفروض ـ إذا ارتفعت صيحة من أنصارى إلى الله ـ أن يهب رجال الحق بما يصنعون من سلاح فيدافعوا العدوان ويكسروا الطغيان! أما أن ترى المؤمنين بين أعزل عاجز، وأحمق قاعد على حين انطلقت للكفر مدرعاته ونفاثاته، فهذه هى المعركة الكبرى والنكبة الجائحة للإيمان وأهله... لذلك قلنا: إن الدين هو الدنيا نفسها محكومة ببواعث الإيمان وأهدافه.. لكن المسلمين شاعت بينهم روحانية كاذبة، ينكرها كل متدبر للقرآن متأدب بأخلاقه! فمشت الجماهير ! هائمة فوق منابع النفط، ومناجم الحديد، والذهب، لا تدرى عنها شيئا، حتى جاء الخواجات ففجروا المنابع والمناجم، واستخرجوا أنعم الله من مكانها واستغلوا كل شئ فى تقوية مللهم ونحلهم، وأنفسهم وأولادهم. وعرى المسلمون بعضهم بعضا فقالوا: نحن غرباء فى الدنيا أصلاء فى الدين! وكذبوا، فقد كانت أعمالهم وأحوالهم فى غربة حقيقية عن كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف العظام!! كانوا غرباء على الدين والدنيا جميعا.. الذى يستخرج الذهب ليذل به الزنوج كما يقع فى جنوب إفريقية ظالم، والذى يستخرجه ليصنع منه أساور فى معصمه أو سلسلة فى عنقه فاجر، والذى يستخرجه ليدعم به موازنته ويقوى به أوراقه المالية عاقل، والذى لا يحسن استخراجه جاهل، والذى يذهب إلى السوق ليشتريه حلية لأنثاه ومتعة لنفسه طائش!! والمسلمون من الصنفين الأخيرين، وقد جاء فى الحقبة الأخيرة من ناقش فى حل الذهب للإناث! ناسيا موقف الإسلام من القصة كلها، والأمر كله يدعو للابتسام المرير وهو مطرد فى أغلب معادن الأرض التى لا يحسن المسلمون استخراجها ولا تصنيعها ولا تنقطع حاجتهم إليها...! إن التخلف المهين الذى حل بالعالم الإسلامى، أغرى بعض أبنائه بالتطلع إلى ص _081(1/73)
الشيوعية أو العلمانية وجرأ طلاب الشهوات على المعالنة بإطلاق الغرائز وعبادة الحياة. وسوف يمضى أولئك جميعا فى طريقهم إذا ظل دعاة الإسلام صرعى ثقافات مغشوشة وروحانيات كاذبة... وإذا ظلوا مولعين بتقليد عصور الانحطاط السياسى والثقافى فى تاريخنا الطويل، وقافين عند قضايا جزئية، وأحكام مبتسرة وصور مشه... ص _083
المحور الثالث القصص القرآنى هذا المحور هو أوسع المحاور القرآنية، وسنقف أولا عند ناحية محدودة منه: هل القصص التى رواها لنا القرآن الكريم، متشابهة فى سياقها وأحداثها وإفاداتها ؟ أعنى: هل هى لون من التكرار الذى يغنى قليله عن كثيره؟ والجواب: لا، لكل قصة فى موضعها إيراد مقصود، وأثر مغاير، يحتاج إليه السامع " لتكتمل به الحقيقة التاريخية والعناصر التربوية. وهذا كلام يحتاج إلى شرح واستدلال! ونحن نذهب إلى قصة آدم التى تكررت سبع مرات فى القرآن الكريم لنستخرج منها نماذج لما نقول.. وقد دفعنى إلى ذلك أن نفرا من جهلة المستشرقين زعم أن هذه القصص متناقضة، وأحسب أن دعواهم عن قصور عقلى لا عن عدوان متعمد.. وأذكر أن العقاد قال: إن الصور تختلف للمكان الواحد عندما يتم التقاطها من زوايا مختلفة، فصورة القاهرة من الجو، غير صورتها من المقطم، غير صورتها من النيل، غير صورتها من الأهرام! القاهرة هى القاهرة، وما يراد إبرازه هنا غير ما يراد إبرازه هناك... وعلى هذا الأساس نقرأ ما قاله القرآن عن آدم! لقد ذكرت قصته فى أول سورة نزلت بعد الهجرة، ومن الخطأ حسبان هذا الذكر أول ما جاء بشأن آدم، وإن كان أول ما ورد فى المصحف الشريف! ص _084(1/74)
بل عند التحقيق نرى أن قصة آدم فى سورة البقرة هى آخر ما نزل بشأنه!! وقد عُنى السياق هنا ـ فى إجمال مقصود ـ بإبراز خطأ آدم، وتحميله مسئولية الخروج من الجنة، ووصفه بأنه عبد خالف ما صدر إليه من أمر، فاستحق العقاب، وأن الله ـ تفضلا منه على عبد ضعيف ـ قد ألهمه التوبة، فلما تاب أهبطه إلى الأرض ليبدأ حياة شاقة، يعود بعدها إلى الجنة، إن هو أحسن. وما سر هذا العرض؟ السر هو تكذيب أوهام اليهود عن آدم كما ذ كرت فى العهد القديم، وتبيين الحقيقة المجردة.. ونورد هنا ما جاء فى الإصحاح الثالث من سفر التكوين "وقال الرب: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا! عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد! فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها، فطرد الإنسان، وأقام شرقى جنة عدن " الكروبيم" الملائكة ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة... "!! فى هذه السطور نرى أن الشجرة التى أكل منها آدم، واستحق غضب الله، هى شجرة المعرفة! أى معرفة؟ معرفة الخير والشر!! كأن الله يريد أن يكون آدم جهولا، لا يدرى ما الخير وما الشر؟ والذى عندنا أن الله علم آدم الأسماء كلها ، وميزه بسعة المعرفة، ويستحيل أن يجعله حيوانا لا يعرف الخير من الشر.. والمضحك أن الله ـ بزعم كاتب العهد القديم ـ خشى أن يرتقى آدم ويضم إلى ما حصل عليه من معرفة، الأكل سن شجرة الحياة، وبذلك يصير من الخالدين بعد أن صار من العارفين! وعبارة كاتب العهد القديم هى "وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا..." وذلك أمر مخوف! واحد ممن؟ إن العالم ليس قطاعا عاما يديره مجلس إدارة منتخب أو معين! (إنما الله إله واحد ) ، وكلمة واحد منا جملة تصدر من متحدث باسم آلهة الأولمب، وأسرة الأوثان التى وعاها أدب الإغريق... ص _085(1/75)
لكن هذا ما قاله العهد القديم، وبنى عليه سبب طرد الإنسان من الجنة، وهبوطه إلى الأرض! وتبقى القصة محتاجة إلى ذيل، إن هناك خوفا من أن يعود أحد إلى الجنة ؛ ليأكل من شجرة الخلد وينافس الآلهة فما العمل؟ هناك " لهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة "!! ممن يتوقع الهجوم، ويتخذ الحراس؟ لكن كاتب العهد القديم لا يعرف أمجاد الألوهية، ولا عظمة الخالق الكبير! إن الإنس والجن والملائكة يستمدون وجودهم لحظة فلحظة من الله تبارك اسمه، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وأى عات يريد اقتحام الطريق إلى هذه الشجرة المزعومة، يحول الله بينه وبين قلبه، فيخر صريعا لليدين وللفم!! ماذا يملك مخلوق بإزاء خالقه؟ لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى، وثنياه فى اليد متى ما يشأ يوما يقده لحتفه ويديك فى حبل المنية ينقد ويتساءل المرء ضاحكا ما هذه الشجرة التى يطعم الإنسان ثمرها فيوهب له الخلود؟ ويرتفع إلى مصاف الآلهة؟ ويخاف منه أن يقوم فى السماء بانقلاب فاشل أو ناجح..؟ وتحكى التوراة قصة اكتشاف الله لخطيئة آدم فتشعر بالعجب العاجب، إن آدم وحواء بعد ما خالفا الأمر الإلهى توجسا الشر وأخذا يرقبان الموقف "... وسمعا صوت الرب الإله ماشيا فى الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجهه فى وسط شجر الجنة!! فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ ". وقبل أن نتم نقل القصة نسجل دهشتنا لإله يتمشى فى الجنة كأنه عساس لا يدرى ما وقع فى ضيعة يحرسها! كما نسجل منظر آدم وزوجته، وهما يستخفيان منه بين الأشجار، حتى لا يراهما. ويصبح هذا الإله سائلا آدم: أين أنت؟ فيجيبه آدم: سمعت صوتك فى الجنة، فخشيت ؛ لأنى عريان فاختبأت..! فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التى أوصيتك ألا تأكل منها. ص _086(1/76)
إنه إله لا يدرى شيئا عما وقع فى ملكه!! فقال آدم: المرأة التى جعلتها معى هى أعطتنى من الشجرة فأكلت! فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذى فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتنى فأكلت..! وهكذا أجرى التحقيق فى القصة التى بدأت بها الإنسانية!! والتى يخيل لقارئها أن واضعها متخصص فى قصص الأطفال.. ونحن نأبى تجاوز هذا الكلام دون تعقيب لابد منه، ننصف به الذات العليا، ونقول لمن يقدسون هذا الهذر من اليهود والنصارى: إن الله أكبر وأجل مما تصفون... إن الكتاب الكريم يحدث أولى الألباب عن الله فيقول: ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) ويقول: ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ). ويقول: ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ). من الجهل المؤسف بالله العظيم، أن يذكر فى بعض الأوراق بهذا الأسلوب، ولذلك جاء هذا النداء فى القرآن الكريم: ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ). ونعود إلى قصة آدم لنذكر أن سياقها فى سورتى البقرة والأعراف جاء بعد وصف الرسالة الإنسانية كلها على ظهر الأرض، والقدرات التى منحها الله أبناء آدم حتى يقوموا بهذه الرسالة. ص _087(1/77)
فى السورة الأولى نقرأ قوله تعالى للبشر ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ). وفى الثانية نجد قوله: ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ) إننا جنس، صاغته العناية، على نحو معين، ووضعت له امتحانا خاصا، وكلفته بلون من الكدح، يرسب فيه، أو يطفو حسب قدرته على العوم ، ورغبته فى النجاة.. وفى السورة الأولى، نرى أن الإنسان وهب له علم قصرت دونه الملائكة، علم يخالف وعيها وإلفها، ولذلك اعترفت بالعجز عن معرفة الأسماء التى عرفها آدم وقالت معتذرة : ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ). وفى السورة الثانية نرى آدم ـ هذا العارف الذكى الذى فاق الملائكة ـ مصابا بما يجعل الشيطان شديد الجراءة عليه شديد الطمع فيه، إنه طائر يسهل صيده! إنه مخلوق ذكى لكن خديعته سهلة وتعكير مستقبله ميسور! من أجل ذلك قال الشيطان عن آدم وذريته: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ). ويمضى السياق فى سورة الأعراف ليكشف كيف يسقط الرجل الذكى، وكيف تم التغرير به، والضحك عليه، والتطويح بمستقبله هو وزوجته، لقد نهى هو وزوجته عن الأكل من الشجرة، وهاهو ذا إبليس يقول لهما ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) وكان آدم يستطيع أن يقول: كيف أطمع أن آكون ملكا وأنا الذى سجدت الملائكة لى؟ إن السيد لا يؤمل أن يكون عبدا ؟؟ ولكن الإنسان الذكى انطلت عليه الخدعة، وصدق النصيحة الكاذبة، وزاد فى غفلته أن الشيطان حلف بالله أنه لآدم وزوجه ناصح أمين 00 ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور ). وهكذا طرد آدم من الجنة، وهكذا يتم التغرير ببنيه إلى يوم يبعثون! ص _088(1/78)
احتيال لا ذكاء فيه، ولكنه بلغ مداه لفشل الضحية فى أن تتماسك وتبصر الواقع، وتتهيأ للغد.. تُرى هل يكرر أبناء آدم المأساة نفسها؟ إن الله رحيم ودود، يلهم عبده المخطئ كيف يعتذر عن خطئه، فإذا أقبل معتذرا هش للقائه، وكان إليه بكل خير أسرع! لذلك لم يترك آدم يواجه عاقبة عصيانه، بل علمه كيف يرجع إلى ربه ويتخلص من ذنبه ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) ( البقرة : 27 ) . لقد لاحظت أن الله يتوب أولا على الإنسان، فإذا تاب عليه تمهد طريق العودة الصالحة أمامه! إن الله ـ تبارك اسمه ـ سبقت رحمته غضبه، ولو ترك الناس لغرائزهم لأهلكتهم خطاياهم، فعصيان الله ليس شيئا تافها، إن عصيان الجليل باب السحق والمحق، وإذا أراد الله خيرا بمذنب فتح له بصيصا من نور يبصر به طريق التوبة، فإذا استوحش من خطئه وحن إلى ربه، وآثر العودة إليه، وجد أمامه إشارة خضراء، تؤذن بالمرور.. وكذلك فعل آدم عندما زل، وكذلك فعلت زوجته عندما تابعته على زلله ، لقد رددا معا هذه الكلمات ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ) ( الأعراف : 23 ـ 25 ). إن سورة الأعراف فصلت ما أجمل فى سورة البقرة، وبعد هذا التفصيل جاءت أربعة نداءات لأولاد آدم تعلمهم كيف يسيرون فى دروب الحياة، وتحذرهم من الغفلة التى طوت أبويهم فذاقوا من عقباها ما ذاقوا. وفى النداءات الأربعة خلاصة لما تحتاج إليه الإنسانية جمعاء من تبصرة وحماية. أما سورة البقرة، فإن الحديث بعد سرد قصة آدم، اتجه إلى بنى إسرائيل، فقد كانوا حملة الوحى القديم، بيد أنهم كانوا شديدى العقوق لمواريث السماء، مدمنى الانحراف عنها، فشاء الله أن يقصر على حملة الوحى الجديد أنباء ما صنع أسلافهم، ص _089(1/79)
وما صُنع بهم، حتى يحسنوا الاستقامة، ويصونوا مستقبل العالم الذى ارتبط بقرآنهم... لكن المسلمين ـ خصوصا المعاصرين ـ لم يحسنوا الاعتبار.. والظلام الذى يهدد بنى آدم فى مختلف القارات يرجع إلى الخيانات الفادحة التى اقترفها المسلمون المفرطون نحو رسالتهم، والحجب التى نسجوها فوق تعاليم دينهم... إن انحطاط المسلمين ألحق بالحضارات الإنسانية خسائر جسيمة، وأتاح لعناصر الفوضى والتضليل أن تبلغ غايتها دون عوائق، وما أشك فى أن حساب المسلمين عسير على هذا المسلك. إنهم ـ لاسيما فى هذا العصر ـ لم يقلوا عن اليهود فى إطراحهم للوحى وتنازلهم عن قيمه، وطلبهم للمجد فى نزعات عرقية، وطلبهم للتسامى فى برامج علمانية ترفض تراث محمد - صلى الله عليه وسلم ـ . القصص القرآنى أداة للتربية: وقد قص القرآن الكريم علينا أمم أخبار الماضين، وسواء كانت القصص مفردة أو مكررة، فهى فى السياق القرآنى أداة تربية، ومصدر توجيه ووعظ يدعم الفرد والجماعة... قصص القرآن قطع من الحياة الماضية، استرجعها الوحى الأعلى للتعليم والاعتبار .. فى المسجلات الكهربائية المتداولة أشعر أحيانا بضرورة لإعادة الشريط الذى سمعته فأرتب الأزرار من جديد، وأبدأ سماع ما كان.. لقد استطاع العلم استبقاء الصوت واستعادته.. والقرآن الكريم عندما يقص ينفخ الحياة فى القرون الهامدة فإذا هى حية تسعى، نسمع فيها ضجيج العراك بين المحقين والمبطلين، إن شريط الأحداث يتحرك ليعيد علينا مراحل مضت من تاريخ الدنيا.. نحن الآن نثير الأرض ونملأ اليوم الحاضر بما نشاء، هل يتلاشى ذلك كله بمرور ص _090(1/80)
زمنه؟ كلا، إنه محفوظ يستطيع رب العالمين أن يعيده عندما يشاء، وهو فى كتابه الخاتم يعرض علينا نماذج منه فى رواية صادقة ؛ لنرى من سبقونا فى هزلهم، وجدهم، وغيهم ورشدهم، واعتدا لهم وكبريائهم، واستقامتهم واعوجا جهم، إنها روايات للواقع المضبوط لا مكان فيها لخيال : ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ). ولسنا الآن بصدد كتابة مفصلة عن القصص القرآنى، إنما نريد التماس بعض الأشفية الإلهية للعلل البشرية، وذلك بالتفرس فى أحوال الماضين، وتقلبهم فى البلاد إلى أن استكانوا تحت الثرى.. ونحن نعلم أن الإنسان هو الإنسان، قد يختلف فى ريفه وحضره وأميته وثقافته، ولكن ذلك الاختلاف يبدو فى وسائله إلى أهدافه.. أما غرائزه فهى هى أصلها ثابت، قلما يعروها تغيير. إن عرام الشهوات فى "هوليود" لا يقل عن أمثاله من عشرات القرون فى أسواق النخاسة أو مواطن البغاء مهما تقدم العلم.. ومخازى الاستعمار، لا تقل عن أمثالها أيام جبروت الأباطرة والفراعنة، وإن لطفت الأسماء، ورقت العناوين... ومن الخطأ أن نحسب الدين تجميدا للحياة على نحو بدائى، أو أن الشخص الساذج أدنى إلى الله من الإنسان الواعى اللبيب، إن لباب الدين، سناء الباطن، ونضارة العقل - هكذا تعلمنا من كتابنا- وساكن القصر الدميث الأخلاق أحب إلى الله من ساكن الكوخ الفظ، وابن الصحراء السائب الشهوات، أبعد عن الله، من ابن المدينة، المضبوط الزمام، البادى العفاف..! وقد نظرت إلى طبيعة الحضارة الحديثة فأحسست العجب، إنها ترى ما فوق القمر ولكنها تعمى عما تحت قدمها، أعجبنى ما كتبه الأستاذ "أحمد بهجت " تعليقا على تقرير الأم المتحدة عن صحة الأطفال.. قال: "فى العام الماضى وحده مات 14 مليون طفل كان الجفاف الناجم عن الإسهال سبب الوفاة فى 70% من الحالات، ثم تأتى الحصبة والملاريا(1/81)
والسعال الديكى لتكمل بقية النسبة". ص _091
وهذا الرقم الكبير عار على عالم نجح فى غزو الفضاء، ويضع الآن البرامج لحرب النجوم... إن عدد الوفيات التى وقعت بسبب الجفاف والإسهال خلال يومين اثنين يفوق عدد الوفيات التى نشأت عن مرض الإيدز خلال عامين! فهل ينفق العالم من اهتمامه بأمراض الطفولة مثلما يفعل مع " الإيدز "؟ وأقول تكملة لهذه الملاحظة: إن العالم يبحث عن "مصل " يأخذه المريض ليبقى صحيح الجسم، معتل الروح والخلق، معتادا للتسول الجنسى والشذوذ الهابط ! إنه لم يفكر فى علاج المرض من المنبع، فيصادر أو يخاصم الشهوات الحرام! لقد استبقى هذه الشهوات تمضى فى طريق الإثم، واستبقى القوانين التى تحميها، ثم إنه حريص على حرية الانحراف ويستحث العلماء على اكتشاف أدوية تصون المنحرفين.. ونحن نؤكد أن الارتقاء العلمى لا يغنى فتيلا عن الارتقاء النفسى، بل إنه سيضاعف الوسائل المعينة على الإسفاف والشرود.. وقديما قامت حضارات على تقدم علمى باهر، وأعجبت الأمم المتقدمة بما لديها من معرفة، وبما أحرزت من تفوق. فأسرفت على نفسها وأساءت إلى غيرها وأصغت أذنيها عن دعوات المصلحين، فماذا حدث لها؟ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ). والحضارة التى تظلنا سبقت سبقا بعيدا فى ميادين العلوم، وتضاعفت أرباحها المادية فى البر والبحر والجو، وهى بلا ريب، واهية الصلة بالله، ضعيفة الإعداد للقائه وزهدها فى الدين كله أن رجال الكهنوت غير جديرين بالاتباع، وأن الفكر الإسلامى ليس له عارض ثقة، ولا تابع صادق!! ومن ثم انطلقت الحضارة الغربية وحدها تخدم الأجناس التى حملتها، تخدم جشعهم وكبرياءهم وعلوهم فى الأرض. وقد نظرت إلى العلل التى توزعت على الأولين وأودت(1/82)
بهم، فوجدتها تتلاقى فى رحاب هذه الحضارة، وتنتشر بين نظمها المختلفة، اشتراكية كانت أو رأسمالية. ص _092
كان عمالقة "عاد" يقولون: من أشد منا قوة؟ وظهرت قوتهم فى بناء القصور الشاهقة وسكنى البروج والقمم بعد جعلها آيات فى الفن والزخرفة! وقد قلنا: إن الله سخر للمؤمنين الأرض وما فيها، فليس بكثير عليهم أن يبنوا ما أحبوا، وأن يعلو القصور ما شاءوا.. المهم أن يعمروها بتقول الله، وألا تكون تنفيسا عن مشاعر الغرور وعبادة الحياة الدنيا.. إن كثيرا من المتطاولين فى البنيان جمعوا ثرواتهم من سرقة الكادحين، ومن تجارة المخدرات والرقيق الأبيض.. وقد استطاع الاستعمار العالمى أن يبنى مدنا كبيرة بعرق الزنوج وأموال المغصوبين من سكان إفريقية وآسيا، ثم سكن هذه العواصم المشيدة من لا يعترفون لله بحق، ولا يذكرونه بخير! ماذا تقول عندما ترى هذه المغانى الزاهرة؟ ألا تذكر قول القرآن الكريم لـ "عاد": ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين). إن أمراض البشر متشابهة ودواؤها واحد، وقد جاءت صفة هذا الدواء القديم فى نصيحة "هود" لقومه، إنهم لم يكتفوا بترك ما هم فيه من نعماء، كلا، لتبق لهم مساكنهم وجناتهم، وليضموا إلى ذلك شيئا واحدا، ما هو؟ ( فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ). إن الله لم يعد التائبين بالحرمان والشظف، بل قال: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ). إن الله استخلف عادا فى الأرض بعدما أهلك قوم نوح بالطوفان، فكانوا أشر خلف لشر سلف، وجدير بالنظر أن قوم هود سكنوا جنوبى جزيرة العرب، أما قوم نوح فكانوا شمالى الجزيرة، فى وادى الفرات، كيف انتقلت خصال السوء من فوق إلى تحت؟ وكيف انتقلت إلى بقاع أخرى متقاربة أو متباعدة(1/83)
حتى قال الله تعالى: ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم ). ص _093
إننا نلحظ فى أحوال الأمم المكذبة أنها لا تبحث قضايا الألوهية والبعث والاستقامة والأدب بحثا موضوعيا تعمل فيه ما وهب لها من عقل، وتمنحه ما يستحق من عناية، إنها تهتم بشيء آخر ينبغى أن نكشفه! فإن جرثومته لا تزال تفسد الأم حتى عصرنا الحاضر.. ماذا طلب نوح من قومه؟ قال لهم: ( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون ). ثم وصف لهم الله الذى يدعوهم إلى عبادته ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ) الخ. لكن قوم نوح لم يفكروا فى هذا الإله وعظمته وحقوقه! بل فكروا فى أنفسهم ومكانتهم ومالهم وجاههم، وحسبوا أن الدعوة الجديدة ستجعل نوحا فوقهم درجة، وتجعل قمت سبق إلى اتباعه أعلى قدرا! والغبى يرى فى الذكاء تحديا له، ويخاصم كل شئ يتوجس منه على وضعه! وتأمل فى رد قوم نوح عليه :( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) إن الرد كله يقوم على نفى ما قد يتميز به نوح على غيره، وعلى تحقير الذين يصدقونه واعتبارهم أراذل المجتمع، وعلى الطعن فى إيمانهم وإخلاصهم، فليسوا أكثر من متمردين على الأوضاع التى ينبغى أن تبقى.. والغريب أن هذه التهم تتكرر على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد واجه مثلها النبى الخاتم عليه الصلاة والسلام، ولا تزال تواجه الدعاة والمصلحين إلى الآن.. وفى البشر ميل عجيب إلى ما يسقى بنظام الطبقات، وإلى تحقير فئات من الناس للونهم أو لفقرهم! وقد طلب قوم نوح منه طرد هؤلاء الأراذل عنه؟ لأنئهم يستنكفون الاجتماع معهم،(1/84)
فأجاب ( وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون )؟ ص _094
وتكرر الطلب إلى صاحب الرسالة الخاتمة فأوحى الله إليه : ( الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ). وخرافة الطبقية ترجمت عن نفسها فى الدين "البرهمى" إذ جعلت ناسا يخلقون من دماغ الإله وناسا يخلقون من قدمه! هم المنبوذون! ولا تحسبن هذه الخرافة قد تلاشت، فهى تصبغ الحضارة الحديثة فى كثير من مسالكها السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية، وإذا كانت وثيقة حقوق الإنسان قد أنكرتها، فإن سيرة الشعوب الأوروبية والأمريكية، تخضع لها وتستوحيها. وعيب "هتلر" أنه كان صريحا فى تفضيل الدم الآرى على غيره من الدماء، والواقع أن الشعوب الغربية تخفى هذه العقيدة فى نفسها، وتظهر فى مسالكها بين الحين والحين.. واليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، ويرون الأجناس الأخرى خلقت لخدمتهم، وقد مكن لهذه الأسطورة انهزام العرب أمامهم فى صورة مخزية، وامتطاؤهم صهوة الجواد الأمريكى ينطلقون به حيث شاءوا.. وإنه لشىء بديع أن يولد المرء عظيما ؛ لأن جلده أبيض، أو لأن أباه غنى أو لأن نسبه عريق.. إن العظمة التى ورثها حطت عنه أعباء الصعود فى سلم الارتقاء، ومنحته ثقة فى نفسه لا تقاوم!! وقوم نوح أول من سنوا هذه البدعة، ثم انتشرت من بعدهم فى سائر الأرجاء ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا). إن تاريخ المجتمع الإنسانى مع ربه سيئ، لا تبيض صفحة منه بعمل صالح إلا سودت صفحات بأعمال رديئة.. وبدا أبناء آدم فى صور دميمة، يسارعون إلى الشر أكثر مما يسارعون إلى الخير، ويغلب نداء الشهوة نداء العقل، وحب العاجلة حب الآجلة... ولم يسكت القدر الساهر عنهم، فقد بين الله سبحانه أنه أوقع بالمجرمين ما ص _095(1/85)
يستحقون، وفصل القصص القرآنى ما أصاب المتمردين على الله المشاقين لرسله (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ). قلنا: إن أخطاء الأولين تتكرر الآن فى الحضارة التى تقود العالم، وتفرض عليه أساليبها فى الحياة! وظاهر أن رذائل الترف والبطر والجحود والأثرة، تسود العالم الأول، وآن رذائل الفرعنة والمسكنة والبلادة الفكرية والنفسية تسود العالم الثالث.. مع ذهول عن الله يلف المجتمع، وإخلاد إلى الأرض! وعكوف على ملذاتها... أما الدين فقلما يتجاوز المظهر إلى الجوهر.. إن العبارة التى قالها العربى الأمى "ربعى بن عامر" لقادة فارس: "جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الأديان إلى سعة الإسلام " هذه العبارة الوجيزة هى خلاصة مواثيق حقوق الإنسان وحقوق الشعوب التى يمضغ كلماتها أكبر ساسة العالم المثقف الآن.. والمعنى الذى تنضح به هذه العبارة الشريفة، والذى فاه به رجل بدوى دون تكلف يعجز عن فهمه والتصريح به رجال دين محترفون، كما يعجز عن الارتفاع إلى مستواه رجال حكم أكلوا شعوبهم، وكانت سيرتهم الاقتصادية والسياسية تجسيدا للوثنيات السياسية التى ابتعد العالم الراقى عنها... أما أقطار العالم الأول فإن الدين انجر فيها إلى مهادنة الشهوات الطافحة، بل لقد انهزم أمام ضراوتها، وذلل لها العقبات. وإن عجبى لا ينقضى من موافقة الكنيسة الإنجيلية فى إنجلترا على إباحة اللواطة ـ بشروط ! ـ وإقرار القوانين التى صدرت عن مجلس العموم واللوردات... والقوم يعلمون أن الله دمر على قوم لوط مدينتهم وجعل عاليها سافلها لهذا الشذوذ الذى اقترفوه.. كما أن عجبى لا ينقضى من بابا الفاتيكان الذى انطلق فى إفريقيه يهاجم تعدد ص _096(1/86)
الزوجات الذى أباحه الإسلام، وهو يعلم أن البكارة تختفى من الفتيات فى الغرب قبل بلوغهن سن الزواج، إن ذلك شىء غير مقلق، والمقلق هو تقدم الإسلام فى إفريقية! وتجب محاصرة عقيدة التوحيد بكل الوسائل!! والمسلمون مسئولون عن بقاء هذا الفساد، بل عن امتداده فى أرضهم! فهم ينزلون على أمر الله فى تحريم الزنا، وهذا حسن بيد أنهم يعقدون الزواج ويجعلون تكاليفه قاصمة للظهر، ويجعلون من سجن المرأة وحجبها عن ميادين الحياة قاعدة السلوك العام.. ولسنا نيسر الزواج لأى صعلوك يعجز عن إعالة نفسه، كما أننا نشجب الاختلاط الماجن المستورد من الغرب بشقيه الصليبى والشيوعى! إن للإسلام نظامه الاجتماعى الفطرى السليم، وتقاليده الطبيعية السهلة، ويستحيل أن يفهمه ويطبقه من يقاتل لإثبات أن وجه المرأة وصوتها عورة، وأن أميتها من شعائر الإسلام. معنى الدين إننا بعد ذلك الاستطراد نلفت النظر إلى معنى الدين منذ بدأت قوافل البشر مسيرها على هذا الثرى، إن الدين يقوم على حقيقتين رئيستين: أولاهما: معرفة الله والشعور بأن البدء منه والمصير إليه. والأخرى: الالتزام بهديه والخضوع لأمره ونهيه والتقيد بمواثيق السمع والطاعة النازلة منه !. ذاك معنى الإسلام، وهو دين الله من الأزل إلى الأبد وهو الذى بلغ الرسل كلهم أصوله، وقادوا أممهم به.. كان الإسلام دين آدم يوم خلقه الله وأمره ونهاه، فلما فرط عوقب! وكان الإسلام دين نوح لما دعا قومه إلى التوحيد والاستغفار والأخوة والأدب ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ). ص _097(1/87)
فلما كابروه وتولوا عنه قال لهم ( فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ). وكان الإسلام دين إبراهيم لما أعلن الحرب على الوثنية وخاصم جبابرة عصره وتنازل عن نفسه وولده لربه ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) وكان دين يعقوب ـ الذى تنسب إليه اليوم دولة إسرائيل ـ وهو نسب مزور، فإن هذا النبى قال لأبنائه، ما جاء من قبل على لسان إبراهيم ( يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وكان يوسف الصديق يتشرف بالانتماء إلى تلك العقيدة، والانضواء تحت علمها وهو يدعو ربه : ( فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين).. وكان سليمان النبى الملك يدعو إلى الله ويشرح دينه عندما كتب إلى ملكة سبأ: ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) وكان موسى يدعو قومه إلى التشبث بحقيقة الدين، ويحثهم على مقاومة الفراعنة، وتحفل أذاهم والبقاء على التوحيد، (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) ، وكان عيسى يدعو إلى الإسلام، ويستصرخ الحواريين أن يلتفوا حوله وهو يرفع رايته، ويزود عنه عدوان اليهود ماله ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ). ثم جاء كبير الأنبياء وخاتمهم محمد، ينفض الغبار عن العقيدة المظلومة، وينحى عنها شبهات أهل الكتاب، ويرذ مفتريات التجسيد والتعديد، ويبرز أمجاد الألوهية فى أكسية لا تبلى من الجلال والجمال، ويقول للناس: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ). ثم شرع يبنى الأمة التى تحمل رسالته على أساس من سيرته الخاصة وعبادته الوضيئة وجهاده الدءوب وخلقه الزاكى،(1/88)
وهو يهتف بأمر الله: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ). ص _098
إن الكمال الإنسانى بلغ مداه فى شخص محمد، وفى أسلوب البناء الذى أقام به أمته، وفى ضمانات البقاء التى جعلت الرسالة الأخيرة لا تبلى على اختلاف الليل والنهار... إن دين الله هو الإسلام، ولا شىء غير الإسلام، ولم يدع نبى سبق إلا إلى هذا الإسلام! والعناوين التى شاعت لتراث بعض الأنبياء هى عناوين مجازية. ولم يقع بتة وحى يقول : إن لله ولدا، وإن هذا الولد افتدى بدمه خطايا الخلق، بل الذى جاء على لسان النبى الذى ينتمى إليه أهل الكتاب جميعا غير ذلك ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى)، وتوراة موسى تؤكد ما ذكرنا عن حقيقة الإسلام وطبيعته ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ). وليس عيسى إلا واحدا من أنبياء بنى إسرائيل، تميز على إخوانه الأنبياء بصبره الطويل وجهاده المرير مما جعله واحدا من الأنبياء أولى العزم.. والعالم الآن يشهد منظرا تقشعر منه الجلود، فقد أحاطت بالمسلمين هزائم مخزية، وأقبل اليهود فى موكب يختال بالبأس والغنى، وظاهرتهم الصليبية العالمية المستولية على المشارق والمغارب! ترى هل يضيع الحق فى حومة هذه المعركة العمياء؟ وهل يسقط علم التوحيد؟ ويتحول المسجد الأقصى إلى هيكل يسكنه " رب إسرائيل " ليحكم الناس من خلال شعبه المختار كما يزعم القوم؟ لقد مر آباؤنا بمثل هذه المحنة، ثم خرجوا منها موفورين بعدما أصلحوا شأنهم واصطلحوا مع الله، فهل نتأسى بهم؟ إن الحق لا يزرى به أن تمر به أيام عجاف، ولا يضيع جوهره؟ لأن عللا عارضة مرت بأهله. ص _099(1/89)
والباطل لا يمسى حقا لأن دورة من أدوار الزمن منحته القوة وأقامت له دولة، ولم تتحول جرائم فرعون إلى فضائل، لأنه ملك سلطة الأمر والنهى واستطاع تذبيح الأبناء واستحياء النساء. ونحن نزن الجماهير والقادة جميعا بمدى اقترابهم من الحق وابتعادهم عن الباطل.. وقد وهت صلة أهل الكتاب برسلهم، وتبخر الوحى الإلهى من بين أيديهم، وفى مسالكهم ومعاملاتهم، وإذا كان اليهود لا يقومون بتوراة موسى، والنصارى لا يقومون بإنجيل عيسى فبم يقومون؟ وإلى أى شىء يدعون؟ من أجل ذلك جاء فى القرآن الكريم: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ). وقد احترم المسلمون بقايا الوحى عند من سبقهم من أهل الكتاب، وأحسنوا العلاقات معهم، غير أن الملوك والساسة والكهان وأصحاب الأطماع، رأوا أن يتجهموا للإسلام ويعرقلوا سيره ويكنوا أشد البغضاء لأمته، وقد وقع ذلك قديما وهو يتكرر الآن فى صور منكرة دميمة.. ولأمر ما تكرر التحذير من هذه المشاعر الآثمة. قال تعالى: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ). (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ). (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ). (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ). وقد نظرت إلى السياسة العالمية ضد الإسلام فوجدت قادتها- وهم معروفون- حراصا على أمور: رفض الانتماء إلى الإسلام بين أممه التى صحت وترجيح الانتماء العلمانى عليه، ورفض الاحتكام إلى التشريع السماوى وتغليب القانون الوضعى عليه... وتقليب الأمور بحيث ينهزم الإسلاميون فى كل مجال... ص _100(1/90)
وأية أمة يحظر عليها الانتماء إلى دينها والاحتكام إلى تعاليمه والحفاظ على شعائره، فإنها قد تبقى جيلا أو جيلين ثم تتلاشى فى الأعقاب التائهين، ويحولها الشتات إلى قطيع يصاد واحدا واحدا. والغريب أن ساسة أهل الكتاب يلقون عبدة الأوثان بروح أطيب، ونفس أهدأ فأى إيمان هذا؟ يقرر العلماء أن قصص القرآن الكريم- قبل أن تكون تأريخا للأشخاص والأحداث - فهى مجلى لعقائده وآدابه، وما شرع من عبادات وسياسات.. والقصة حيث كانت عنصر تربية، وشارة توجيه، وإفرادها أو تكريرها مقرون بحكمة وغاية ويمكن إبراز هذه الحكم والغايات عندما يوضع تفسير موضوعى لسور القرآن الكريم كلها على نحو ما وضع الشيخ محمد عبد الله دراز لسورة البقرة فى كتابه النبأ العظيم... على أننا نختم هذا الباب بإشارة إلى أن الله وصف كتابه بأنه " مبين "، ووصف البلاغ المكتوب على المرسلين بالوصف نفسه: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، إن الإبانة تقطع كل عذر وتكشف كل شبهة، فهل قامت أمتنا بحقوق هذا البلاغ المبين، فجلت للجاهلين برسالة محمد ما أودع الله فيها من حق ورحمة؟ إن أمتنا فى أعصار طويلة- ونقولها آسفين- ما قامت ببلاغ مبين ولا مجرد بلاغ، ولها كغيرها من الأم السابقة قصة يجب أن تحكى!! وقد رأيت قياما بحق الله أن أصف بأمانة موقف المسلمين من رسالتهم وصفا سريعا يميط اللثام عن أسباب الهزائم والتراجع فى أكثر من ميدان، لعل فى هذا الوصف عبرة يفيد منها اللاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون... ص _101(1/91)
موقف المسلمين من رسالتهم إن التاريخ ـ كما هو معروف ـ ذاكرة الأمة، ومستودع تجاربها ومعارفها، وهو عقلها الظاهر والباطن! وخزانة قيمها ومآثرها، وأساس شخصيتها الغائرة فى القدم والممتدة مع الزمان.. عندما يقول الناس: فلان فقد ذاكرته، عرفنا أنه على عتبة الجنون، فما بعد الذهول عما كان إلا العجز عن مواجهة ما يكون. وعندما يقول الناس فلان ليس له مهاد يبنى عليه ولا تقاليد ينبعث منها، ولا تراث يستمد منه، عرفنا أنه زنيم، يرتجل سيرته، ومسلكه دون أساس ولا مقياس، وذاك ما عناه شوقى فى قوله: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عَىَّ فى الحى انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكى من صلة الماضى انقضابا ونحن المسلمين أبناء تاريخ طويل عريض، ربما بدأت رسالتنا، مع بعثة إمام الأنبياء النبى العربى المحمد ! ولكن هذا النبى القمة بين أن الإسلام رسالة الأنبياء كلهم، بيد أن جماهير غفيرة زاغت عنه، وقامت فى الأرض دول مرهوبة تعبد أوهام الخرافة والسلطة وتبتذل خصائص الإنسان العليا بين يدى صنم من الحجارة أو صنم حى من أبناء آدم تلقب بفرعون أو بقيصر أو بشتى الألقاب الخادعة... ومحمد نبى الله اليتيم الفقير هو الإنسان الوحيد الذى هتك سدول الباطل، وساق الجماهير إلى معرفة الله الواحد، واستنقذها بقوة من فتك القوى الشريرة.. وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيرة لما تستكشف أعماقها، ولأمته تاريخ حافل غريب لا أدرى : ص _102(1/92)
لماذا عومل بالطريقة التى عومل بها؟ إنه فى نظرى مجهول الحقائق مخبوء الأسرار، ولا أحسب أمة فى الأولين والآخرين أفقر إلى معرفة تاريخها من أمتنا الإسلامية!! وفى تلك الصحائف، نظرة عامة سريعة إلى هذا التاريخ، منذ بدأ إلى يوم الناس هذا، استجبنا فى عرضه إلى قول الله سبحانه: (أولم يهد) أى يتبين (للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) [ الأعراف : 100] وقوله: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات) إن ما وقع أمس لا يعنى أصحابه وحدهم! يجب علينا أن نكترث به، ونفيد منه، ونوازن ونحكم، وإلا دفعنا ثمن جهالتنا من دمائنا واستقرارنا.. وقد أبان القرآن الكريم أن هناك عقلا يتكون من التجربة، ومن السير فى الأرض، ومن الرحلة إلى الماضى! وبين أن الإنسان الذى تقوم معرفته على قراءات سريعة، وأحكام نظرية، أضعف حسا من إنسان له معاناة فى الدنيا وتجارب مع الناس... هذا العقل المتولد من المدارسة والمعاناة، هو الذى يشير إليه القرآن الكريم عندما يقول: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج : 46] وقد تساءل القرآن الكريم مستنكرا حال قوم يمرون بآثار الماضين الهالكين، ثم لا يرعوون: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا) [الفرقان : 40]. ومن هنا نجد أن دراسة التاريخ فريضة دينية، وهى إلى جوار ذلك فريضة إنسانية، بل إننى- بعد التأمل فى تاريخ المسلمين القريب والبعيد- أشعر بأنها ضرورة بقاء؟ وسياج لحياتنا ورسالتنا، إذا كنا حراصا على صون حياتنا وتبليغ رسالتنا... مازلت أذكر مذابح أنطاكية وبيت المقدس فى الحملة الصليبية الأولى! وكان القتلى عشرات الألوف فى كلتا المدينتين، وبلغت أكوام الجثث ارتفاع بيت من أربعة طوابق! ص _103(1/93)
أكان الصليبيون جديرين بهذا النصر الخسيس، أو قادرين على إحراز شئ منه؟ كلا كلا، كان المرمى خاليا من الحراس، فسجلت فيه إصابات لا حصر لها..!! قال التاريخ: ما تحركت عاصمة إسلامية فى المشرق أو المغرب عندما وقع هذا البلاء، كان المسلمون فى حال مفزعة، من الانقسام والفوضى، والانحصار فى مآربهم الدنيا. ولو تحرك جيش من النساء يحمل المكانس لهزم الصليبيين! فقد كانوا يتساقطون من الإعياء، وكانوا يأكلون الجيف من الجوع، وما كانوا يقدرون على شئ ذى بال..! بيد أنهم وجدوا بلدا يعيش فى بلهنية، مقطوعا عن الأعوان، محفوفا بالخيانات فعاثوا فيه ما عاثوا... ودراسة هذه النكبة كانت جديرة بانعقاد مجامع، وإجماع فقهاء، وصرخات تحذير تدوى فى كل مسجد، ويتحدث بها الركبان. لكن المسلمين بعد استرداد الأرض التى فقدوها، لم يدرسوا التاريخ، ويطرحوا الموضوع كله على بساط البحث، ولذلك لم يمض قرنان ونصف، حتى حتى دها بغداد ما دهاها، فإذا الخلافة العباسية تهوى، وحاضرة الدنيا تحترق، والتتار يدوسون تحت أقدامهم كل شئ.. وشاء الله أن ينهض الأتراك بحمل الخلافة التى ناءت به كواهل العرب وتقدموا شرقى أوروبا، لكن راية ا لإسلام كانت تنزل عن الأندلس، وقوافل التوحيد والحضارة تتراجع ذليلة كاسفة إلى شاطئ البحر الذى وثب منه طارق بن زياد قبل ذلك بثمانية قرون... بأى عقل تمر هذه الأحداث الهائلة فى صمت؟ لماذا لم تنشغل بها الجماهير فى المساجد؟ ويتنادى لبحثها أولو الألباب؟ وتتأخر قضايا أخرى، لتكون هذه المأساة فى الطليعة؟ لقد لاحظت أن علم التاريخ الذى وصل إلينا منقوص فى مساحته المكانية، مهمل فى سرده وربطه بين الأسباب والنتائج، نازل الرتبة بين العلوم الأخرى.. فأما المساحة المكانية فإننا لا ندرى إلا القليل عن إخوان العقيدة فى شرقى آسيا وجنوبها وشمالها ووسطها، كأن الإسلام لم ينتسب إليه إلا العرب ومن جاورهم من فرس وترك.. ص _104(1/94)
وفى هذه الأيام الحافلة بالأحزان رأيت دولة كألبانيا، تأكلها الشيوعية فى صمت، وجمهرة سكانها مسلمون! ما رثى لهم أحد، ولا درس قضاياهم قارئ، ولا تحدث عنهم خطيب!، ربما تشنج وهو يأسف لرفع اليدين، أو عدم رفعها فى الصلاة ! وقضية ألبانيا المسلمة نموذج لعشرات أمثالها فى أرجاء أوروبا وآسيا، حتى لقد تساءلت هل يحسب العرب أن الإسلام شأن من شئونهم الخاصة، أو نزعة من نزعاتهم القومية؟ ومع هذا الذهول المعيب المنكور، فإن فقدان الوعى السليم بتعاليم الإسلام، وحال رسالته، ومسافة القرب والبعد منها جعل الأمة تستقبل سقوط الأندلس بأبيات من الشعر الباكى، ثم سكت المحزونون وقضى الأمر... وحدث مثل ذلك عندما سقطت الأقطار الفيحاء التى تكون الاتحاد السوفييتي فى آسيا، فقد وضع القياصرة البيض أيديهم على أماكن رحبة، وجماهير كثيفة، ورثها عنهم القياصرة الحمر فى هدوء، وكأن شيئا لم يحدث، وكأنه لا يوجد فى ثقافتنا علم للتاريخ يحصى الهزائم والانتصارات، ويسجل ا لأرباح والخسائر، ويروى للأخلاف ما أصاب الأسلاف!! لابد أن أواجه الأمة الإسلامية بقصورها فى جانب مهم من ثقافتها، وأكون شاهدا على هذه الأمة أمام الله؟ لأنها فرطت فى استيعاب ماضيها، فعجزت عن مواجهة حاضرها! أذكر أننى وأنا طالب فى الدراسة ا لابتدائية بالأزهر وعمرى 12 سنة درست مع زملائى تاريخ الدولة العثمانية كله، وظاهر أن العناية بهذا التاريخ وحده كانت بقية من تأثرنا بالتبعية القديمة للأتراك... وأرى أن الواجب يقضى بدراسة العثمانيين، والإندونيسيين فى جنوب آسيا، والنيجريين فى غرب إفريقيا، ودراسة أرض الإسلام كلها باختصار غير مخل فى المراحل العامة، وبتفصيل حسن فى معاهد عالية... إننى واثق من أن أكثر من تسعة أعشار المثقفين بيننا لا يدرى تاريخ الإسلام فى " الفلبين " وكيف انحسر الآن فى جزر " ماندانا " و " صولو " وغيرهما، وكيف صار المسلمون فى هذه البلاد 20%، بعد أن كانوا(1/95)
كثرتها الكبرى.. ص _105
وحاضر العالم الإسلامى شديد الغموض بعد أن سيطر الاستعمار الحديث على تقسيمه فى إفريقية وآسيا واختلق دويلات محكومة بنزعات قبلية وطوائف دينية من صنع التبشير العالمى!! لقد قلت: إننى مصرى عربنى الإسلام، لا ينمينى إلى جزيرة العرب نسب، وما أكترث بأن أكون من قريش ذاتها، إن الذى يعنينى هو دينى.. واللغة العربية مقدمة عندى ؟لأنها لغة الوحى. والإسلام ليس علاقة عرقية فالعرب فيه والهنود والزنوج سواء، وبديه أن تكون قيادته عربية، أعنى عربية اللسان لا عربية الآباء، وقد كان " قطز " الأعجمى المسلم أشرف عند الله والناس من بعض العرب العريقين الذين ما أسدوا للإسلام يدا ولا حققوا له نصرا.. وأجدنى هنا مطالبا بتفسير ولائى لدينى، واهتمامى بتاريخه، حتى لا يفهم البعض أننى امرؤ متعصب، عرف شيئا، فغالى به، وتعسف فى لفت الناس إليه وتجاهل غيره... إننى سأنقد فى هذه الصحائف حكاما إسلاميين كثيرين، ظهروا فى عصور متقدمة، كما أسجل رأيى فى المسالك التى وقعت بإزائهم، مستوحيا حكمى من مصادر الإسلام المعصومة وحدها.. وهدفى ألا يحمل الإسلام أوزار بعض المتحدثين باسمه، أو المتسلطين بالجبروت على مقاليده... فإن الإسلام لا يؤخذ من أحوال المنتمين إليه حاشا الخلافة الراشدة.. أبعاد الإسلام النفسية والاجتماعية: ومن الواجب أن نعرف أبعاد الإسلام النفسية والاجتماعية، إن هذا الدين يتكون من سبعين شعبة تطوى فى دائرتها الأرض والسماء، وتحدد للإنسان علاقته بربه ونفسه وأسرته ومجتمعه كله، وتحدثه عن جملة العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحكام التى يلتزمها والشعائر التى يرفعها... إلخ. ليس الإسلام برنامج حزب سياسى يتولى السلطة فيفشل أو ينجح! إنه قبل ذلك ص _106(1/96)
وبعده دين ينهض على أصول بينة، وصراط يسير المرء فيه عارفا كيف يعاشر القريب والبعيد، والعدو والصديق.. وشعب الإيمان التى تربو على السبعين مجموعات شتى لكل مجموعة محورها الذى تدور عليه، وأنصبة النجاح التى أحرزتها كل مجموعة ليست متساوية، فمعالم العقيدة بقيت متألقة بأشعة التوحيد، وكذلك جملة العبادات والآداب الدينية، وقد تطرأ بدع وانحرافات طفيفة لا تمس الجوهر.. وحدود الحلال والحرام ظلت ثابتة، فبينما استباح أهل الكتاب الربا والزنا واللواط وآثاما أخرى بقى المسلمون يرفضون المنكر، ويتحامونه جهدهم... وقد اضطربت سياسة الحكم وغلبت غرائز الأثرة، كما اضطربت سياسة المال واعوج سيره فى دنيا الناس، ومع ذلك بقى من يأمر وينهى ويعد ويتوعد ويذكر بالله والآخرة! إن أسس العقيدة لم تزدها الأيام إلا ثباتا، ونصوص الشريعة مصونة الأصل، بخلود القرآن وإن كان التطبيق قد تعطل فى بعض الزوايا المهمة. وليس مستغربا أن تغلب أهواء البشر فى بعض المحاولات، وأن يؤثر ذلك على كيان الدولة الإسلامية، ويلحق بها هزائم كبيرة، لكن الإسلام فى جملته ظل ينطلق مشرقا ومغربا، وظل قديرا على منازلة الوثنية ومحورها! وظل كذلك قديرا على مواجهة أهل الكتاب، وإحباط مؤامراتهم، وإزالة العوائق التى يضعونها فى طريقه. إن العملاق الذى يصاب بصداع أو سقام لا يئوده أن يهزم الأقزام الذين يحاولون قتله، وأن يبلغ غايته فى أغلب الأحيان. وقد تحدث المؤرخ الإنجليزى " توينبى " عن أيام الانحلال أو الانحطاط الذى أصاب الحكومة الإسلامية، وذكر أن ذلك لم يمنع دعوته من الانتشار والتوسع! قال: " وفى أواسط آسيا، لم يتراجع الإسلام، مع ضعف دولته، بل على العكس انتشر، ففى أيام الخليفة المقتدر (8 0 9- 932 م)، حين كانت الخلافة العباسية أضعف ما تكون؟ بعث بلغار الفولفا (وهم شعب تركى كان يقيم عند ملتقى الفولفا بكاما) إلى الخليفة يطلبون منه أن يبعث إليهم من يفقههم فى الدين(1/97)
الإسلامى، وقد أرسل الخليفة بعثة إليهم سنة (922 م). ص _107
وقد اعتنق القارلق (وهم أتراك) الإسلام من جيرانهم فيما وراء النهر ـ وهم السامانيون ـ وانتشر القارلق حتى حوض تاريم، وحملوا الإسلام معهم. وهكذا فيما كانت الدولة ا لإسلامية الواحدة تتمزق، كان الناس يدخلون فى الإسلام أفواجا، أكثر مما كانوا يعتنقونه ودولته واحدة قوية . وقال: والذى يجب أن يذكر أن الإسلام انتشر فى جنوب شرق آسيا لأن الحكام المحليين كانوا يعتنقونه طوعا، لا بقوة السيف، وقد قبل الإندونيسيون الإسلام واحتفظوا بالثقافة الهندية التى كان قد مر عليها نحو ألف سنة وجذورها تغور هناك . وقال: لقد تغلب الإسلام فى القرنين (الثانى عشر، والثالث عشر الميلاديين) على الصعوبات المحيطة به بعد الحملات الصليبية المرهقة ـ ليس ذلك فقط بل إنه استمر فى الانتشار. وقد كان هذا إنجازا رائعا، إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار، أن العالم الإسلامى كان ممزقا سياسيا . إن الإسلام ـ من حيث هو دين ـ تقدم ولا يزال، ولكنه من حيث هو دولة تقهقر، ولحقت به خسائر، وقد لاحظ " توينبى " ذلك! ونتساءل نحن فى ألم: هل لاحظ مؤرخونا ذلك؟ وهل حددوا جرثومة المرض، أم أن الكبوات الرهيبة التى أصابت المسلمين لتفريط " سلاطينهم " لم تجد من يتحدث عنها ويحذر منها؟ حتى طلع علينا هذا العصر، والأمة كلها فى عماء! ومستقبلها فى مهب العواصف..!! روى (سير توماس. و. أرنولد) فى كتابه " الدعوة إلى الإسلام " وقائع كثيرة عن حالات التحول إلى الإسلام بين الصليبيين قال: " يظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التى انطوت على البطولة قد أحدثتا فى أذهان المسيحيين فى عصره تأثيرا سحريا ص _108(1/98)
خاصا، حتى أن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين... وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية مثلا- فارس إنجليزى من فرسان المعبد يدعى " روبرت أوف سانت البانس فى سنة 1185 م " واعتنق الإسلام ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح! الدين، وبعد عامين غزا صلاح الدين فلسطين وهزم الجيش المسيحى هزيمة منكرة فى واقعة حطين، وكان " جوى " ملك بيت المقدس بين الأسرى. وحدث فى مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه، قد حقت فيهم روح شريرة؟؟!! وفروا إلى معسكر صلاح الدين، حيث أسلموا بمحض إرادتهم ". وبعد أن يستعرض " توماس أرنولد " حالات التحول من النصرانية فى الحروب الصليبية إلى الإسلام، ويذكر نماذج عدة منها، يعقب على ذلك بقوله: " ولا شك أن هذه الأخبار المبعثرة، تحمل الدليل على أن تحول المسيحيين إلى الإسلام ـ الذى لم يصلنا عنه أى خبر! ـ كان على نطاق واسع. فمن ذلك ما يقال من أن خمسة وعشرين ألفا من المرتدين عن المسيحية كانوا فى مدينة القاهرة حول نهاية القرن الخامس عشر. ولابد أنه كان هنالك أيضا كثيرون من هؤلاء المرتدين فى مدن الأراضى المقدسة، بعد زوال الإمارات اللاتينية فى الشرق. ولكن يظهر أن المسلمين الذين أرخوا هذه الفترة قد بلغ من شدة انهماكهم فى تسجيل مآثر الأمراء! وتقلبات الدول أنهم لم يوجهوا عنايتهم إلى التغير الدينى الذى طرأ على حياة الأفراد المغمورين. وبقدر ما هدانا إليه البحث، فقد كانت ملاحظتهم فى تتبع أخبار دخول المسيحيين فى الإسلام قليلة "! نقول: لماذا كان هذا المتتبع قليلا؟ ألم يك أمرا جديرا بالدرس والإذاعة والفخر؟ بلى! ولكن مؤرخينا- عفا الله- عنهم قلما اكترثوا بشئون الدعوة والثقافة والحضارة. ص _109(1/99)
وقد تراهم يكتبون بالخط الكبير أخبارا صغيرة! وقد يسقطون أنباء شعوب ودول طالت بيننا وبينهم الشقة. وقد يسجلون الأخطاء الواقعة دون التصويب الواجب... ومازلت ألحظ حتى يومنا هذا، خطايا تدفن كان على التاريخ أن ينشرها، بيد أن رهبة السلفة ألجمت الأفواه...!! ومازلت ألحظ روائع للإيمان الحى ، والدعاة الأيقاظ، والمجاهدين المصابرين المحتسبين، يهال عليها التراب كأن غمط الرجال مطلوب..! وفى أيام الهزائم التى عرضت للرسالة الإسلامية كانت هناك مقاومات بطولية أحبطت مؤامرات كبيرة وأنهضت الدين من كبوته أو من تفريط حملته، ومع ذلك فإن أبطال المقاومة من العلماء ومن الجنود، ذهبوا إلى الله لا يعرفهم إلا قليل... والآن نسمع أن ألوفا من الأوروبيين دخلوا فى الإسلام، وأن ألوفا من الزنوج فى إفريقية والهنود فى آسيا، اعتنقوا الدين المستوحش من الأنصار، وآثروه على دعوات المبشرين الغالبين! والغريب أن ذلك كله يطوى فى صمت، بل إن جمهورا من المسلمين المثقفين لا يدرى كم عدد المسلمين فى وطنه؟ فضلا عن عدد المسلمين فى العالم! من أجل ذلك قلت : لابد من فقه التاريخ وفلسفته! ولابد من محاكمة نشاطه البشرى إلى النصوص السماوية التى سار باسمها! ولابد من تنحية الأخطاء التى التصقت به وهو برئ منها... إن مرور الزمان على الأخطاء لا يصححها ولا يقدم لها عذرا، بل نحن فى معترك المذاهب والمبادئ الحديثة أحوج ما نكون إلى ميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث كى لا يشوب وحى الله شئ من أهواء السلاطين ونزغات الشياطين. لقد تحمل الإسلام فى صدر تاريخه أخطاء وخطايا، واستطاع الغلب عليها، والنجاة من غوائلها، لكن العالم الإسلامى فى قرنه الخامس عشر تتجمع فى ربوعه بقايا شتى من انحرافات مضت.. وليست المشكلة فى نظرى الهزائم العسكرية التى جعلت بعض المسلمين يدور فى الفلك الشرقى، والبعض الآخر يدور فى الفلك الغربى. ص _110(1/100)
ولكن المشكلة العصيبة تحول الهزائم العسكرية إلى هزائم ثقافية، وذهول المسلمين عن تراثهم النقى لهيمنة الدخل العلمى والغش الفقهى على عقولهم وسلوكهم، فهم عندما يقدمون فكرهم للناس، أو عندما يلوذون به محتمين من الغزو الحضارى القوى يتحصنون وراء أوهام. فالحكم فردى مستبد! والمال دولة بين الأغنياء! والنشاط العمرانى مهجور موحش! والمرأة رهينة محبسها العتيد فلا علم ولا إصلاح! والفقه وراء جدران بعض العبادات الشخصية، والدعوة الإسلامية ميتة فى مجال العرض الإنسانى الحر، وميتة فى مجال الدفاع العسكرى القوى لأن حملتها فقدوا القدرة على الحياة.. والعاجز فى ميدان الحياة لا يستطيع مساندة عقيدة بل لا يظفر بكرامته الشخصية، ولا يشيع بنظرة احترام...!! نظرت فى أحوال المسلمين أواخر مقامهم بالأندلس، فحكمت بأن طردهم من هذه البلاد كان قضاء عادلا، وسنة حضارية لا محيص منها..!! وماذا بعد أن تشيع بينهم موبقات تأتى على الأخضر واليابس، ولا تقيم لهم عند الله حجة؟ قرأت هذه العناوين فى أحد كتب الأدب: غرناطة والخمرة! غرناطة ومجالس الطرب. الشذوذ الجنسى! ا لربط والشعوذة. يقول شاعرهم فض الله فاه: دع عنك قول عواذل ووشاة وأدر كئوسك يا أخا اللذات واخلع عذارك لاهيا فى شربها واقطع زمانك بين هاك، وهات خذها إليك بكف ساقٍ أغيد لين المعاطف فاتر الحركات ويقول الكتاب الذى بين يدى " لقد سجلت لنا المراجع الغرناطية كثيرا من مظاهر السكر والعربدة، ولم تقتصر الأحفال! الآثمة على مناسبات خاصة، بل كان الغرناطيون يبحثون عن اللذة فى أعياد المسلمين والنصارى على حد سواء... ". أمن أجل ذلك جاء الله بالعرب إلى أسبانيا؟ يقول المؤلف: إن السلاطين اهتموا بتلك الأحفال الماجنة، وخصصوا لها دارات ص _111(1/101)
فى متنزهاتهم وقصورهم، وكانت الطبقة النبيلة الموالية لهم من الوزراء والقادة والقضاة قد سلكت نهجهم، وبنت لها مساكن قبالة الحمراء؟ نظرا لحسن الموقع وطيب الهواء! وتحدث المؤلف فى فصل كالح عن الشذوذ واللوطية والغزل بالمذكر… إلى غير ذلك من الوساخات! أفتظن ذلك يمر دون عقوبة؟ وأين نذهب بقوله تعالى: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) [يونس : 81 ـ 82]. لقد ضاع الأندلس، وطرد العرب منه شر طردة، وما كان ينتظر من قدر الله غير ذلك! على أن ذلك كله بعض الثمار المريرة لأغلاط كبيرة، شملت مساحة مؤسفة من التاريخ، وقد قلت: إن هذه الأغلاط كانت أشبه بالقذى فى تيار كاسح، فشعب الإسلام السبعون مضت بالحياة الإنسانية تجددها وتسددها، وإذا كانت بعض الشعب الإدارية والسياسية قد نال منها العطب، فقد قامت بقية الشعب بتخفيض الأضرار، وتزويد المركبة بالقوة التى تستأنف بها السير، ولكن إلى متى؟ وفى أى الأحوال؟ عندما أنظر إلى تاريخ الإمامة العظمى فأرى عناصر محدودة قد احتكرت المنصب الضخم بضعة عشر قرنا فماذا أقول؟ إن الإسلام لم يسقط القياصرة والأكاسرة والفراعنة ليقوم باسمه حاكم، يتسمى بالخليفة، وهو فرعون مقنع، إن الخلافة وليدة بيعة حرة أو اختيار سليم، ولم تكن- فى دين الله- انحدارا من دم معين أو سلالة لرجل محظوظ.. حتى ولو فقدوا مؤهلات القيادة الصحيحة!! وأعترف بأن عددا من ملوك الإسلام أسدى إلى دين الله خدمات جليلة، وعاش صوافا قواما، يحكم بالعدل، وينصح للأمة، ويؤثر الآخرة، ويجاهد فى سبيل الله إلى آخر رمق.. " وأعترف كذلك بأن كثرتهم تؤمن بالإسلام، وتستمد وجودها فى مناصبها من إعلان العمل له، والحكم به، وإذا كانت قد وصلت إلى الحكم بوسيلة باطلة، فإنها سوغت بقاءها بتبنى غايات الدين، وإظهار شعائره. إنها لم تترك الإسلام، بل صالحت بين حقائقه وشهواتها على نحو ما، لكن هذا ص _112(1/102)
الصلح فى أعصار طويلة تمر على حساب الدين نفسه، فما أنصف الإسلام ولا قمع خصومه!! وما وقع مخالفا للإسلام يجب إنكاره لا إقراره، وهل يجوز أن تضيع حقوق الأمة المسلمة، وتغتصب المناصب الكبرى؟ إن الإسلام رحمة للعالمين، ولم ينزل الوحى الأعلى ليحكم باسمه ناس دون جدارة حتى ولو أهدروا كل حقوق الأمة المسلمة… لكن هكذا طويت الشورى، ووئدت الحريات الشريفة، وأمسى الأمر نصيب الشطار والدهاة... وصحيح أن أعدادا من المؤمنين الكبار رأوا تضييق الفتنة، حتى أن الحسين بن على فى محنته، عرض أن يرسل إلى الميدان؟ ليجاهد الروم تحت لواء القيادة المتغلبة! وصحيح أن جمهورا من السلف الصالح، صلى وراء أئمة الجور، ورأى أن يخدم الإسلام بعيدا عن معركة رآها وضيعة! على أن شيئا من هذا لا يجوز أن ننسى معه المبادئ التى ديست، لاسيما فى هذا العصر الذى علت فيه الصيحات ضد الاستبداد السياسى ، وبعد قرون كادت فيها روح الإسلام، تخمد تحت وطأة الحكم الفردى، ومفاسده المتوارثة... ومن آفات الحكم الفردى، أنه يجمع المال من كل وجه، غير مبال بحل أو حرمة.. وقد استغرب أولو الألباب ما وقع أيام الأمويين، وهم يعاملون البلاد المفتوحة، فقد أسلم أهل خراسان، ودخلوا فى دين الله أفواجا، كما أسلم أهل مصر، وكثر معتنقو الإسلام فيها، غير أن بعض الولاة هنا وهناك استبقوا الجزية على الذين أسلموا! أهذه سيرة دعاة أم سيرة خطافين؟ ثم جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، فألغى هذه السياسة... والحاكم المستبد أشد غيرة من المرأة الوالهة، وهو يكره العظماء من القادة والساسة والعلماء والأدباء، وإذا قبلهم فليلتحقوا به أذنابا، والعظيم المستلحق لا بأس أن يكون ذيل الطاووس، إنه ذيل على كل حال، ولا يقتل أبدا أن يكون عرف الديك. هذا هو السر وراء مصارع القادة الكبار الذين فتحوا المشرق والمغرب، فقد كره الحاكم المستبد أن يحيا إلى جواره رجال لهم أمجاد ومفاخرة قد يدلون بها..(1/103)
وفى هذه البيئة انفصل العلم عن الحكم، ووقعت بين الفقهاء والساسة جفوة ص _113
شديدة. وقد كان هوى أبو حنيفة ومالك ـ رضى الله عنهما ـ مع الثائرين المتمردين. فأما أبو حنيفة فقد رفض كل تعاون مع الدولة، وظل على موقفه حتى مات فى السجن .. وأما مالك فقد ابتعد بأدب، ورأى أن يخدم الإسلام بين عامة الناس دون اشتباك مع الحكام، بيد أن الفتوى فيما يقع من هؤلاء الحكام جعلته يعالن ببطلان الأيمان التى تؤخذ لأولياء العهد، فجوزي على ذلك بالضرب حتى كسرت ذراعه! تم اعتذر الخليفة له بعد ذلك..! وللانفصال بين العلم والحكم آثار عميقة فى تاريخنا الثقافى والسياسى قد نشرحها بعد قليل، لكننا الآن نشير إلى ما عرف عن بعض الأسر الحاكمة من تعصب للعرب! التعصب للعرب : يجب أن يعرف العرب أنهم يعزون عندما يعز الإسلام، فإن هذا الدين بلغتهم جاء، والنبى الخاتم مختار من بينهم، وقبلة الصلوات فى أرضهم! أليست هذه نعمة سابغة، أما ينبغى أن يشكروا الله عليها؟ وأن يترجموا هذا الشكر إلى نسيان لأنفسهم، وتفان فى نشر دينهم؟ ومادام القرآن بلسانهم والعلم من تراثهم فهم قادة الناس! ولن ينازعهم هذا الفضل إلا من سبقهم فى ميدانه.. ويظهر أن بعض الأسر العربية التى حكمت، وغيرهم من الأعاريب ظنوا الإسلام قطارا يحملهم إلى مآربهم، ويرجحهم على غيرهم، بل لقد جاء فى عصرنا هذا من ظن العرب بغير الإسلام شيئا له قيمة، والقضية كلها نتيجة محتومة للجهل بالإسلام، والانسياق مع عصبيات الجاهلية، والعجز عن أعباء التقدم وتكاليف الرجولة! وما أحقر إنسانا يريد لنسب مزعوم أو جلد أبيض أن يتقدم الكادحين والناجحين! لقد رأيت قادة التبشير العالمى ـ وهم يزينون أوهامهم وخرافاتهم ـ ينصبون نفرا من الزنوج أساقفة وكرادلة، ويتركون لهم رياسة الجماهير، أفلا يستحى حملة الحق من فرض جنسهم على الناس، وتقديم أشخاصهم دون سبب؟ ص _114(1/104)
قصة العلم والحكم فى تاريخنا: ونعود إلى قصة العلم والحكم فى تاريخنا، إن منصب الخليفة تلتقى فيه العبادة والدعوة والجهاد ورعاية شئون الدنيا والآخرة، ولأمر ما كان الإمام العادل أول من يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله! ولأمر ما كان يوم واحد من أيامه أفضل من عشرات السنين فى عمر عابد يحيا وحده!! إن خيراً لا حدود له، ينشأ من صلاح الحاكم، وعبقريته فى حراسة الحق، وخذلان الضلال!، وإنصاف الجماهير، وتحقيق المثل العليا.. ومن القصور أن نتصور الحاكم المسلم شخصا بارزا فى علوم الشرع، أو قادرا على ضروب الفتوى. بحسب الحاكم المسلم أن يعرف من علوم الدين ما تكمل به عقيدته، وتصح عبادته، وتشرف أخلاقه، وتستقيم به معاملاته للناس، وليكن طبيبا أو كيماويا أو مهندسا أو أديبا... إلخ، المهم أنه فى منصبه الكبير يحسن الاستعانة بأهل الذكر فى كل فن، ويحشد حوله من المستشارين من يشرحون له الغوامض، ويدلونه على المصلحة العامة، ثم هو مع ذلك كله يعيش فى جو من الشورى الأمينة الذكية، ويحس أن مكانه عند الله وعند الناس بمدى ولائه لقواعد الحكم وأمانات الناس!! وهذا الذى ذكرنا قد لا يتوفر لمن يرفعه إلى دست الحكم أب أو أم عندما يفقد مؤهلات الحكم مهما كانت عراقة النسب، والاقتراب من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فليس فى الإسلام أن يكون العباس أصلا لدولة عباسية، ولا أن تكون فاطمة أصلاً لدولة فاطمية، هذا كله من أهواء الناس وشهوات المفترين على الله، ولا يغترن عاقل بالواقع المريب، وإن غلب على عصور طوال. (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) [المائدة: 100] ولقد كانت ا لأمة الإسلامية قديرة على أن تؤدى رسالتها بأشرف وبأجدى مما حدث، لكن ضياع أمانات الحكم واحتكار بعض الفئات للسلطة، وشيوع الجهالة بين من تولوا الخلافة وما دونها من المناصب، ألحق بأمتنا خساراً كبيرا.. ص _115(1/105)
وقديما قال الأحنف: من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره... وقد لاحظنا على الخلافة العباسية انحرافات شتى.. أ- لقد أنشئ جهاز للترجمة، وهذا حسن فإن الرسالة الإسلامية عالمية ويجب أن تنفتح على أقطار الأرض قاصيها ودانيها، فهل استغل ذلك الجهاز فى نشر تعاليم الإسلام؟ كلا، لقد استغل فى نقل معارف الأمم الأخرى إلينا..! وهكذا بدل أن نعلم الآخرين ما لدينا من وحى شرعنا نتعلم ما عند الآخرين من فكر. ويبدو أن النقلة فتنوا بالجديد الذى ترجموه، وأخذوا يوائمون بينه وبين ما عندهم، فإذا الجو الثقافى يشحن بغيوم، أظلمت معها الآفاق، وكانت فتن لا حصر لها... إن المحور الفكرى الذى صنعه الإسلام، هو دراسة الكون، ذلك الكون الذى أبدعه خالقه، ثم أقسم بسمائه وأرضه وليله ونهاره وأنجمه ورياحه ووالده ومولوده، وامتدت الأقسام، حتى شملت أجزاء الزمان والمكان، وصورت آفاق الجمال! فى الضوء والظلمة! تدبر قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق) [الانشقاق : 16ـ19] إن هذا المحور القرآنى يبنى الإيمان على التأمل المادى والعقلى كما شرحنا آنفا ويبنى عليه كذلك منافع الإنسان القريبة والبعيدة! أما الفلسفة الإغريقية فهى تجريدية تبتعد بالفكر عن المادة، وتعبر المحسوسات إلى قضايا وهمية، ولم يأخذ العالم طريقه إلى الأمام، إلا يوم أن خلفها وراءه، وأعادته الفطرة السليمة إلى منطق القرآن العلمى والعملى! إننى أحب أن أطلع على كل ما لدى الآخرين من حق وخرافة، ويؤسفنى أن عصر الترجمة أضرنا ولم ينفعنا، وأننا بدل أن نهدى سكان الأرض بوحى الله الذى شرفنا به نقلنا إلى بلادنا الأوهام، وسمحنا لها أن تزاحم الحقائق الجليلة... ب- ولقد استبحرت علوم الدين والأدب فى العصر العباسى، وقامت أسواق رائجة لأنواع المعارف والفنون فى المدائن والقرى.. كان أكثر ذلك شعبيا، وأقله ص _116(1/106)
رسميا، فأئمة الفقه والتفسير والسنة والأدب واللغة كانوا يحيون بين الجماهير، وجلهم جفته الدولة أو آذته، ومت اقترب من الحكام، فقد غامر بدينه، إلا من عصم الله... إن الانفصال كان طبيعيا بين العلم والحكم؟ لأن أغلب الحكام قذفت بهم الوراثة ـ حتى ولو كانوا من غير مؤهلات ـ ولم يقل أحد إن الله جعل العبقريات فى ذرية معينه... ومع أن هذا الانفصال مصيبة فادحة، إلا أن المصيبة الأفدح كانت الانفصال! بين الفقه والتربية، أو بين علوم الشريعة والتصوف. إن الإنسان الكامل يقوم بقلبه وعقله جميعا، فالذكاء مع خبث الطوية شر، وسلامة الصدر مع الجهالة والغفلة شر، والثقافات الصحيحة المتكاملة هى التى تصقل اللب والقلب معا.. وقد أشرنا فى مكان آخر إلى أن بيئة التصوف لما حرمت الفقه امتلأت بالأوهام والترهات، وأفسدت الأمة! وأن بيئة الفقه لما حرمت صدق العلاقة بالله، وقوة الثقة فيه، غلبت عليها الصنعة، وطلب الدنيا، والحرمان من التوفيق الأعلى... وقد جثمت الخلافة العباسية على صدر الأمة دهرا.. تأخرت فيه حينا، وجمدت حينا، ولم تتقدم بعيدا وراء الحدود التى بلغها الأمويون! ولم تنهض برسالة الإسلام فى الدعوة الشاملة والتشريق والتغريب.. بل إن فوضاها الضاربة أغرت الأعداء بالغارة عليها، فكانت الحروب الصليبية الأولى، وكانت الهزائم الهائلة التى نالت منا وجرأت علينا الأعداء حتى اليوم.. أما الدولة الفاطمية فكانت دولة شر كامل وليسر لها نصيب من الخير إلا فى أقل القليل.. ! الخلافة العثمانية: وقبل الحديث عن الخلافة العثمانية لابد من تمهيد كاشف.. إن الرحمن الذى خلق الإنسان، وعلمه البيان، لم يجعل أسلوب هذا البيان ص _117(1/107)
واحدا، بل جعل البشر يبينون عن أنفسهم، ويتفاهمون مع غيرهم، بأساليب شتى : (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم: 22 ] وشاء الله أن يودع وحيه الخاتم لغة العرب، فمن أراد معرفته، والفقه فيه، والقيام بحقه، فليقبل على لغة الوحى، يجود فيها ويأخذ الهدى منها. وربما كان أولى بالله من العرب الذين هجروا الوحى، وأبوا الاصطباغ به... وتاريخنا الثقافى ناطق بأن جماهير ضخمة من الأعاجم مهروا فى علوم الدين كلها، بل كانوا أحنى على البلاغة العربية والأدب العربى من أبناء جزيرة العرب. وقد تبوأ هؤلاء مناصب الإمامة، ومشت وراءهم الشعوب، ولم يطعن فى قيادتهم الأدبية عاقل. وأحب أن أكرر هنا ما قلته آنفا، إننى مصرى من وادى النيل، عربنى الإسلام، ولست أكترث بدم من أى فصيلة، ولا أهتم بعدنان ولا قحطان ولا كنعان، فاهتمامى كله بحقائق الإيمان، ومدارج الإحسان...! بهذا التفكير السهل استقبلت قيام الخلافة العثمانية، بعد أن هوت الخلافة العباسية فى منتصف القرن السابع الهجرى، تاركة وراءها سحتا من الأتربة والأدخنة والذكريات الكئيبة! يرى الكاتب الصليبى " فيليب حتى " فى كتابه " تاريخ العرب " أن الحكم العربى سقط وانتهى بزوال الخلافة العباسية، وهذا كلام يحتاج إلى تعليق، فإن العرب باسم الإسلام حكموا، وبالحضارة التى صنعها الإسلام تقدموا وتصدروا الركب البشرى. ولو أنهم وفوا للشعار الذى رفعوه، وأسلموا لله وجوههم، واصطبغوا ظاهرا وباطنا بتعاليمه، ما نكس لهم لواء، ولا ظهر عليهم عدو إن العرب سرعان ما شابوا تعاليم الإسلام بتقاليد الجاهلية، فخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. لماذا يكون لذرية العباس وذرية فاطمة حق دينى يترنح الإسلام وهو يحمله؟ ص _118(1/108)
أنزل وحى أعلى بأن الإيمان مقرون بأفراد هاتين الأسرتين؟ إن دعوى الجاهلية من وراء هذه القيادات المتسلطة! أما نصوص الدين، فقائمة على أن الأمر شورى، وكذلك كانت الخلافة الراشدة وعجيب أن يقود الإسلام فى صراع الحياة أو الموت شخص تافه، يزعم أنه يلبس برد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ... إن هولاكو وزوجته النصرانية، وأوروبا الصليبية، وأمواج المغول الزاحفة من الشرق، هجمت كلها على العاصمة التائهة، فدمرتها، وكذلك كان " فرديناند وإيزابيلا " والفاتيكان ودول أوروبا الحاقدة، لقد هجمت هى الأخرى على أخلاف الأمويين فى الأندلس، ورمت بهم فى البحر.. كانت تلك هى النهاية الفاجعة لتاريخ حافل بالتفريط والفوضى، تاريخ يحمل عنوان الإسلام ولا يحمل حقيقته! تاريخ وئدت فيه الكفايات الإنسانية، والتوجيهات الإسلامية لحساب أفراد، تهيجهم مواريث الحسب والنسب والمفاخرة والمنافرة، وتطويع الدين للأهواء... ودفعت جماهير المسلمين ثمن ذلك ألوفا مؤلفة من القتلى، والأسرى، والإماء، والعبيد، ومكتبات تحولت إلى رماد حينا، أو طوتها الأمواج حينا.. والغريب أن العرب حتى يومنا هذا لا يزالون يحنون إلى عصبياتهم، ويغالون بجنسهم، ويتشدقون بقوميتهم، بدل أن يتأدبوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ويرجعوا إليهما فى استعادة مجدهم، وبناء ما تهدم من كيانهم.. ولنعد بعد هذه النفثة إلى القيادة التركية للإسلام وأمته. كانت بداوة الترك الأوائل أجدى على الإسلام من ترف العرب وتمدنهم الزائف، وكان الإيمان السهل القريب الذى سرى فى أفئدتهم، أفضل من الإيمان النظرى المتقعر، المربوط بمنطق أرسطو، وجدل الكلاميين... لقد وقف سيل الهزائم التى أوقعها بنا التتار والصليبيون، وعادت كفتنا إلى الرجحان، وتصدت العسكرية التركية لأعداء ما ينطفئ لحقدهم ضرام.. والذى أراه أن الترك كانوا أصحاب مقدرة حربية، أكثر مما كانوا أصحاب عبقريات علمية ص _119(1/109)
وسياسية، ولعل عاطفتهم الحارة بعدما اعتنقوا الإسلام وقادوه، كانت لها آثار متضاربة. أذكر أن جنديا تركيا أحس، وهو نائم، أن المصحف فى النافذة التى تتجه إليها أقدامه فوثب من مرقده فزعا، وامتشق حسامه، ووقف بقية الليل يقول: مصحف شريف..!! إننى أحسست الاحترام والحب للجندى، الذى يلوم نفسه ويؤدبها.. وقد أثبت فى مكان آخر ما رأيته بعينى من الأستاذ "محمد فريد وجدى"، وكنت جالسا فى مكتبه بالأزهر بعدما تولى رياسة التحرير لمجلته، رأيته يضع القلم الذى يكتب به ثم يتناول قلما آخر، ثم يعود إلى القلم الأول! فقلت له: ما تفعل؟ قال: لا أكتب آيات القرآن الكريم بالقلم الذى أكتب به مقالتى ، لآيات الكتاب العزيز قلم خاص!! هذه عاطفة لها وزنها، انحدرت إلى الرجل الكبير من أصله التركى.. إن الأتراك ـ بل جملة الأعاجم ـ ينتظمهم ولاء حار، وشعور مفعم بالحب لله ورسوله. ولاشك أن غيرتهم على الإسلام ولسخطهم على ما فعل خصومه بأمته كانا من وراء السيل الدافق الذى دفع جموعهم إلى الانقضاض على جرثومة العدوان فى القسطنطينية والإتيان على الوجود الرومانى فيها، والثأر لدمار بغداد، ونقل الحرب من دار الإسلام إلى أقطار أوروبا نفسها، وتأخير ا لاستعمار الأوروبى عدة قرون عن أراضى العرب، كما قرر ذلك المؤرخ الإنجليزى " توينبى "! ما أغنى الناس عن القتال لو أنهم آثروا الإنصاف! لكن للإنصاف عند الأوروبيين تفسيرا آخر! إذا قتل الرومان عربيا فى الجزيرة، أو مصريا فى وادى النيل، فلا يجوز التعقيب على ذلك.. أما إذا دافع العربى عن فلسطين، وقاتل الغزاة، فهو إرهابى يطارده القانون الدولى، وتدينه الصليبية المقتدرة! بم نواجه هذا المنطق؟ الاستمساك بالدين تعصب، إذا كان الدين هو الإسلام، الذى يريد البقاء! أما الاستمساك بأى دين آخر، فشئ يتبع حرية العقل والضمير، لا يجوز السؤال عنه..!! ص _120(1/110)
إن الأتراك قمعوا هذا الغرور، ومشوا إلى أصحابه يؤدبونهم. غير أن الأتراك ـ مع أنهم قاموا بدور عظيم ـ سرعان ما قلدوا العباسيين وغيرهم، فى الاستبداد السياسى، والاستعلاء الجنسى فى القرن الأخير من حياتهم، وهكذا رأينا القدرة على القيادة التى تبرز فى الرجال الأوائل، تتلاشى فى الأعقاب الوارثين. إن كل النقائص التى سبقت فى العباسيين والفاطميين تسللت إلى آل عثمان، وكأنما كتب على الدين الحق أن يبتلى بنفر من الأدعياء، يتسلمون زمامه، ويشغلون الناس بعنصرهم النبيل، وأمجادهم الموهومة..! وهنا يجئ سؤال لابد منه؟ ماذا كان العرب يفعلون بعد سقوط خلافتهم فى القرن السابع؟ إنهم يعلمون أن الإسلام لا يتعصب لجنس، وليس بمستغرب فى منطقه أن يقود المسلمين كفء يولد فى أى قارة، من أجل ذلك مشوا وراء القيادة التركية يوم وقع فى يدها اللواء، لكن الحكم الصحيح للعالم الإسلامى الرحب يستحيل أن يكون مبتوت الصلة بالعروبة، ليكن المسلم حبشيا كبلال، أو فارسيا كسلمان، أو روميا كصهيب، إن أولئك جميعا أصبحوا عربا بإلف العربية والحياة بها، وتذؤق كتابها وسنة نبيها.. ولو أن الترك اقتدوا بالسلطان محمد الفاتح، ونفذوا وصيته لخدموا الإسلام وخدموا أنفسهم فى آن واحد، إنهم أرادوا تخليد اللسان التركى، الذى لم ينزل به من بدء الخليقة وحى! وابتعدوا عن العربية، فلم ينالوا منها إلا نزرا يسيرا، وهذا نصاب من المعرفة لا يرشح لسيادة المسلمين أبدا.. وانضم إلى ذلك غرور بالقوة، أوحى إلى الترك أن يضفوا بالسلاح كل أرض إسلامية، ويفرضوا عليها سلطانهم... والحق أن علل الموت شرعت تنتشر ببطء فى الكيان الإسلامى كله، مرتقبة أى عارض من عوارض الضعف كى تستعجل له الفناء! أكان العرب قادرين على فعل شئ؟ أقول: كانوا قادرين على فعل الكثير لكنهم تقاعسوا..! من عيوب العرب ا لأولى حبهم للإمارة وتنازعهم على السلطة، وهناك مغارم مادية وأدبية فادحة تتبع هذه العاهة، وما(1/111)
ننكر أن البشر يطمحون إلى الرياسة والتصدر، فهل الحكم وحده هو الطريق للإصلاح! ص _121
منذ مدة كان هناك ملك للحديد، وآخر للنحاس، وآخر للقصدير. إلخ وقد قدرت إنجلترا على حكم الهند بسلطانها التجارى. وتاريخ الاستعمار الإنجليزى فى هذه البلاد الشاسعة، ناطق بأن الإنجليز لم يسفكوا دماءهم عند الاستيلاء عليها، لقد فتلوا من لحى الهنود، القيود التى كبلوهم بها، وقادوا الجماهير بالتفوق التجارى أولا. ماذا على العرب وقد فقدوا السلطة السياسية، أن يمتلكوا السلطة العلمية، وأن يخدموا دينهم بالقلم واللسان، بالفكر والحضارة، بالتوعية والتربية، بالاستيلاء على الأفئدة والألباب، إذا كان الترك قد ملكوا مقاليد الأمر والنهى فى دواوين الحكومة؟ فلو فعلوا ذلك لكفلوا نقص الحكم العثمانى، ولنشروا لغتهم فى أرجاء البلقان، ولجعلوا من الثقافة العربية السناد الروحى والعلمى للدولة الحاكمة، ولاستفاد الإسلام ماديا ومعنويا فى آسيا وأوروبا وإفريقية على سواء.. يالله من أمراض النفوس!! إن شهوة الحكم تربو أحيانا على شهوة " الجنس " وقد رأيت فى بعض الناس شبقا إلى المناصب أشد من اتجاه المجنون إلى ليلاه!! هل الترك أبرياء من هذه االرذيلة؟ كلا، إن تاريخ "الباشوات " حافل بالمآسى، وقد دفع الإسلام ثمن هذه النقائص من حاضره ومستقبله، دفعه فى الداخل والخارج، فبعد سبعة قرون من هلاك الخليفة العباسى، كان هناك خليفة قزم من آل عثمان، يطرد من منصبه بكل احتقار... وانساب الصليبيون الجدد فى أقطار العالم الإسلامى الذاهل ! وتراقصت جيوش الاحتلال فوق الأرض الذليلة: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) [الطلاق : 8 ـ 9] إن دراسة التاريخ ليست نافلة يتطوع بأدائها من يشاء، إنها ضرورة دينية واجتماعية تقوم بها الأمم الحية، ولو أن مؤسسة تجارية غفلت عن حساب الأرباح والخسائر،(1/112)
وارتجلت أعمالها ذاهلة عن ماضيها وتجاربها لأغلقت أبوابها على عجل، وانسحبت من الأسواق لتكون ذكرى... ص _122
والوعى القاصر فى التاريخ السياسى للأمم لا يساويه إلا الوعى القاصر فى التاريخ العلمى والحضارى. والمسلمون لا يحتفظون بسجلات لتاريخ العلوم فى أرضهم، والذين برزوا فى البصريات والفلكيات والرياضيات والكيماويات لا يكاد يحفل بهم أحد! ربما سبقهم شاعر شاذ، أو مؤلف متن فى الوضوء والغسل..! وقد كان لركود ريح الثقافة وإقفار ميادينها أثر مدمر على أمتنا فى القرون الأخيرة، فإن سقوط السلطان التركى لا يشبه سقوط السلطان العباسى.. إن المسلمين يوم هاجمهم التتار كانوا أعلى ثقافة وأرفع مستوى من خصومهم الغالبين، ومن ثم لم يمض وقت كبير، حتى ذاب الغالب فى المغلوب، ودخل التتار فى الإسلام! أما أيام الدولة التركية، فإن العرب جمدوا فى أوضاعهم لم يخدموا أدبا ولا علما وتشبث الترك بلغتهم وعلمهم المحدود، فلما انهار العالم الإسلامى بقيادتهم، كان المسلمون فى القارات الثلاث هملا لا يصلحون لشيء.. وسرعان ما أحاط الغزاة بفلول المهزومين، يحولونهم فى أوروبا إلى أقليات مسلوبة السلطة والكرامة، وفى آسيا وإفريقية إلى قوميات يائسة مهينة، لا تعرف لها ولاء ولا انتماء. إن دراسة التاريخ ركن مهم فى تكوين العقل الإنسانى، وفى استبقاء الرسالات الكبيرة، وأحسب أن ا لأوان قد آن لنستفيق ونستبصر. أريد بعد هذه السطور أن أقول: إن الإسلام أعظم مواريث العالم، وإن كتابه الحصن الحصين للوحى الإلهى كله من بدء التاريخ إلى قيام الساعة : (ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [البقرة : 2] وإن أمته بولائها له وعملها به خير أمة أخرجت للناس، وإن هذا الدين خط مجراه فى أديم الأرض، وغالب الجنادل التى اعترضته، ومضى فى طريقه شديد البأس، ولا يزال موار العباب، قديرا على المضى إلى غايته... ص _123(1/113)
وقد أكون فيما سقته من هنات الأتباع وأخطاء الحاكمين قد أبرزت جانبا معتكرا لكنى لم أفعل ذلك بكاء على أطلال التاريخ، ولا تضخيما لسيئات مضت ومضى أصحابها!! إننى أردت أولا: إنصاف الإسلام، وتبرئته من شبهات يجتهد أعداؤه فى إلصاقها به. وثانيا: أردت التنبيه إلى أن الأخطاء تبدأ محتملة، غير أنها تستفحل وتتنامى على مر الأيام.. وأعرف مصارعين كسبوا مباريات صعبة، وتغلبوا على بعض العلل فى أجسامهم، ثم مرت الأيام وزاد السقام وإذا أبطال الأمس ينسحبون من الميدان، لأنئهم لم يحسنوا علاج ما عرض لهم... والإسلام دين يحمل فى كيانه بذرة الخلود ويستمد من قرآنه أمدادا منعشة كلما دخل فى جو نكد ! ولذلك بقينا، وسوف نبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها... وأسباب البقاء تكمن فى الرباط الوثيق بالقرآن الكريم، والعودة إليه كلما أبعدتنا موجة عاتية عنه.. وسر تنبيهى إلى ما سلف فى تاريخنا من خطأ، أن بعض المتحدثين القليلى الفقه لا يميزون بين تعاليم الإسلام ومسالك الحاكمين باسمه أو المشتغلين بعلومه.. وقد ذكرت فى بعض ما نشرت أن رجلا كاد يقاتلنى لأنى احتقرت الكلمة الشائعة " الشورى مُعلمة لا مُلزمة "! وهى كلمة قادت الأمة إلى الهاوية فى عصور طويلة... على أن شعب الإيمان فى ديننا قد يقوم بعضها بـ " عملية تعويض " عند غياب البعض الآخر لكن إلى حين... فعند تفريط الحكومة فى إقامة العدالة الاجتماعية مثلا قد تدفع عاطفة الأخوة إلى أن تمتد يد بالصدقة المسعفة، أو توفر العمل لعاطل قادر على السعى، فهل يجدى ذلك فى كل مكان وكل زمان ؟ وقد ينهض الدعاة والواعظون بعبء الأمر والنهى، فهل يغنى ذلك عن إقامة سلطات تحسن التغيير والتقرير؟ ص _124(1/114)
أحيانا أنظر إلى شعب الإيمان الكثيرة كما ينظر ابن الرومى إلى أولاده عندما قال: وأولادنا مثل المشاعر أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد! هل السمع بعد العين يغنى مكانها أو العين بعد السمع تهدى كما يهدى؟ وفى صحوتنا الإسلامية المعاصرة أذكر قصة أمتنا مع رسالتها على كر العصور حتى نأخذ العبر ونحسن المسير... ص _125
المحور الرابع البعث والجزاء عندما خلق الله أبناء آدم لم يدعهم يعيشون فى الأرض عدد سنين ثم يفنون، وتبقى لهم ذكرى أو لا تبقى! كلا، إنه أوجدهم ليخلدوا والموت الذى يعترض ميادين على ظهر الأرض هو رقدة مؤقتة أو نقطة فاصلة بين مرحلتين من الوجود، كانت الأولى للغرس والأخرى للحصاد. وخلال لغوب الأحياء فى ميادين الحياة، وسكون الموتى تحت صفائح القبور، يقع حادث كونى واسع المدى، وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) [يس : ص ـ 53]. أما الذين أحسنوا الغراس، واستعدوا للقاء الله فإنهم يقولون: (أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم) [الصافات : 58 ـ 60] وأما الذين ظنوا العيش بين المهد واللحد، هو الوجود الأول والأخير، وجحدوا ما بعده، فلهم شأن آخر: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ) [الملك: 6 - 8] وفى ذلك يقول أبو العلاء المعرى: ص _126(1/115)
خلق الناس للبقاء فضلت أمة يحسبونهم للنفاد! إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد! والبيتان من أجل قصائد المعرى، وأدلها على فلسفته، وأصدقها فى تصوير مشاعره وهى فى رثاء فقيه حنفى عابد زاهد بكاه المعرى بحرقة.. وقد نسب الملاحدة إلى المعرى قوله: ضحكنا، وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا تحكمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعادله سبك إ! والمعرى لا يقول هذا اللغو، وإنما أشاعه عنه من يحبون تجريح العظماء، ويتلمسون للبراء العيب، وهم فى تاريخنا كثير.. فى كثير من الأحيان أترك وطنى إلى أقطار أخرى، تطول فيها الغربة، أو تقصر، ويشتد الحنين أو يخف، إننى خلال تلك الأسفار أرسم الخطط للعودة، وأعلم بيقين من أين جئت وإلى أين أعود ! أنظر إلى الفندق الذى نزلت به شاعرا بأننى عابر سبيل، وأن غرفتى سيحتلها أحد الناس بعدى، كما احتللتها أنا بعده! ولا ريب أن الشعور بالاستقرار الدائم بلاهة! كذلك نحن فى هذه الحياة الدنيا، إنها ممر لا مقر! وذلك ما جعل ابن القيم يقول للمؤمن الصالح: فحى على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم! وما ألهم الشاعر القديم أن يقول على لسان سكان المقابر: أيها الركب المجدون على الأرض المخبونا كما كنتم كذا كنا كما نحن تكونونا ! وقد أكثر القرآن الكريم الحديث عن الدار الآخرة، وحسابها الدقيق، ونعيمها المقيم، وعذابها الدائم، وأكد للبشر أن حياتهم فوق التراب فترة صغيرة، وأن استغراقهم فى الأحزان والأفراح خدعة كبيرة، وأن المسلك الوحيد الرشيد محو الإيمان بالله واليوم الآخر.. ص _127(1/116)
وعندما كان الجدال المر يشتد بين الرسول ومعارضيه يتنزل عليه قول الله: (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) [ الزمر : 30 ـ 31] إن الجدال سوف يستأنف هناك بين خصمين اختصموا فى ربهم، ولكن فى استئنافه شقوة لقوم، وسعدا لآخرين! إن معارك القلم لها اليوم ضجيج يشبه قعقعة السلاح فى المعارك الساخنة، وقد رأيت صحفا وكتبا تمتلىء بالسواد والإفك على الله ورسله، وأحسب أن الموقف الحاشد لسوف يجمع هؤلاء ومعارضيهم فى ساعة فاصلة، لماذا يفعل ربنا ذلك؟ (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) [النحل : 39] هل يحتاج ذلك الجمع إلى جهد؟ لا (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل : 40] إن خط الحياة مطرد مستمر، والإحساس بأن الموت عدم إحساس كاذب! وأغلب الناس لا يتخذ الأهبة للقاء الله، بل ينساق وراء مآربه بطيش ويحتجب داخلها فلا يبصر أى عقبى: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيان يوم القيامة) [القيامة 5 ـ6] من أجل ذلك تكرر ذكر البعث والجزاء فى كتاب الله، لا تكاد تخلو منه سورة. وفى السورة الأولى من القرآن الكريم حمد لله رب العالمين المالك ليوم الدين ، أى يوم الجزاء، وهى سورة يقرؤها المسلم عشرات المرات كل يوم.. وعكس هذا الذكر المتصل نجد أسفار موسى الخمسة التى تتصدر العهد القديم وتسمى التوراة، إنها خالية من أى ذكر للبعث والجزاء، خالية من أى ترغيب فى الجنة أو ترهيب من النار، كأن مؤلف كتاب " رأس المال " هو الذى وضع هذه التوراة! وعجيب أن يخلو دين من التنبيه إلى لقاء الله، وأن يضرب صفحا عن ذكر الدار الآخرة! وهذا الإغفال كان له أثره فى إخلاد اليهود إلى الأرض، وفى صياغة تفكيرهم المادى ، وفى اعتبار جنتهم ونارهم فى هذه الحياة وحدها! ص _128(1/117)
ومع أن بعض أسفار العهد القديم فى أيام متأخرة لفت الأنظار إلى وجود الجنة والنار، فإن هذا اللفت لم يفلح فى تخفيف نهمة اليهود إلى الحياة الدنيا وتعلقهم بها وحدها، والزعم بأنهم- لو كانت هناك آخرة- فهم ورثتها على طريقة من قال: (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) [فصلت : 50] والمتأمل فى حياة اليهود قديما وحديثا يجدهم رتبوا معايشهم على أن الدنيا حق والآخرة وهم وأن النعيم والجحيم هنا، ولذلك توجه القرآن إليهم بهذا التحدى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) [البقرة : 94 ـ 96] وأرى أن النزعات المادية النزقة التى تسود الحضارة المعاصرة ترجع إلى تغلغل اليهود فيها، وضعف المقاومة لها. وموسى برىء من هذا الانحراف، وقد لاحظنا أنه فى أول لقاء لكليم الله مع ربه تلقى هذه التعليمات البينة: (وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) [طه : 14 ـ 16] وقد علمت أنه لا وجود لذكر القيامة فى توراة القوم.. والقرآن مهيمن على غيره من الكتب ومصحح لما قد يقع من أخطاء... ولما كانت أعمارنا هنا قصيرة، ولما كنا نستقبل حياة لا يعروها القضاء فإن إغفال هذا المستقبل خيانة وترك الاستعداد له ضياع! ولا ريب أن الإيمان بالآخرة يعين على مشقات التسامى وأعباء التزكية، وعندما غضب نساء الرسول لما يلاقين من حرمان قيل لهن: تجلدن إن كنتن طلاب آخرة: (إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) [الأحزاب : 28 ـ 29] إننا نحب أن نكسب خير الدنيا والآخرة معا! لكن ما العمل إذا خير المرء بين أحدهما، وكلف أن يرضى بالقليل(1/118)
هنا ليظفر بالكثير هناك؟ ص _129
والمجاهدون وأسرهم أول من يعامل! بهذا القانون، وإن كان من المجاهدين من ذاق خير الدنيا والآخرة جميعا، فعمن خباب: هاجرنا مع رسول الله نبتغى وجه الله فوقع أجرنا على الله. فمنا من مات ولم ياكل من أجره شيئا! ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها 00 أى يجنيها ويستمتع بها. على أن البيت النبوى انطبق عليه القانون العام فلم ينل من العيش إلا الكفاف مع دأب على العبادة والجهاد. عن أم سلمة أن النبى- عليه الصلاة والسلام- استيقظ ليلة فقال: (" سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ من يوقظ صوأحب الحجرات؟- يعنى نساءه- يارلمحب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة ". إن قيام الليل أجمل عقبى من راحة الفراش، ولا خير فى زينة الدنيا إن كانت عطلا فى الآخرة. والاستعداد للمستقبل خلق محمود عند أولى الألباب، لكن الخلاف فى تعريف المستقبل فمن الناس من يحسبه ما وراء اليوم الحاضر إلى حين الوفاة وحسب! وأغلب البشر فى يومنا هذا لا يعرفون المستقبل إلا فى هذا النطاق الضيق! فإذا قال أحد: أنا افكر فى مستقبل! فليس يعنى إلا غده القريب وشيخوخته المقبلة.. أما النظر فى الدار الآخرة وإعداد ما يغنى فيها فالتفكر فيه بعيد مع كثرة النذر وموت العشرات والمئات كل ساعة: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم) [الأنبياء : 1ـ3] وأهل الإيمان الواعى يعرفون أن المستقبل الحقيقى يشمل الأرض والسماء معا، ويتناول القليل الباقى من العمر- ولو كان عشرات السنين- والطويل الباقى من الحياة الأبدية بعد الرحيل من هنا! وهذا ما يلفتنا القرآن إليه عندما يعبر عن الآخرة بالغد فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) [الحشر :(1/119)
18ـ19] ص _130
وذلك ما عناه الشاعر العاقل عندما قال: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التى كان قبل الموت يبنيها! أخلاق طلاب الاخرة: وبناء الآخرة يتطلب أخلاقا معينة! فمن استحلى أخذ رشوة، أو غصب حق، أو أكل حرام فلن يجد إلا منقلبا شئوما وفى الحديث " أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به " وقد وجدت أن مسا أصاب جماهير من الناس، فانطلقوا يركضون فى ساحات الدنيا ركض الوحوش، لا يقع فى مخالبهم شىء إلا ابتلعوه، فهم لصوص مال وجاه، وهم يلتهمون ما يعرض لهم دون تهيب لحرام أو ابتغاء لحلال، ما يفرقهم شىء عن وحوش الغاب! إن هؤلاء لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويستحيل أن يتغير سلوكهم إلا بإيمان صحيح. أما الموقنون بالآخرة فلهم سيرة أخرى، إنهم يتقون الشبهات استبراء لدينهم وعرضهم، ويكترثون بالآخرة أشذ من اكتراث غيرهم بالدنيا، وهم يفهمون بعمق قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) [العنكبوت : 64] قال ابن إسحاق يصف المسلمين فى غزوة أحد: " كان أبو دجانة رجلا شجاعا، يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم أنه سيقاتل حتى الموت ".. كيف يختال رجل وهو يستعد للقاء عدوه، ويتوقع الموت فى هذا اللقاء؟ لقد استخفت فى نفسه مشاعر الرهبة كلها، ولم ير فى الموت إلا نقلة ترفعه إلى عليين!! فليتبختر فوق الثرى فربما وثب منه إلى الفردوس الأعلى فى ساعة استشهاد! وقد كان سلفنا مضرب المثل فى حرصه على الآخرة وجراءته على الحتوف! ص _131(1/120)
أما الخلوف التى تزحم الأرض لنا فلهم مثل السوء فى حب الدنيا وكراهية الموت.. والشائع بيننا أن للدنيا أعمالا كالأحتراف ، وتناول الطعام، وأن للآخرة أعمالا كالصلاة وتلاوة القرآن، وأن لهذه أوقاتا ولتلك أوقاتا أخرى! وهذا التقسيم موضع نظر، بل هو عند التحقيق، تقسيم صورى لا يؤبه له، فمجرى الحياة واحد وزمانها واحد! والصلاح والطلاح يعودان إلى حركة القلب ووجهته، فمن طعم ليقوى على طاعة الله فهو صالح، ومن صلى ليكسب بين الناس مكانة فهو طالح، ولا قيمة للظواهر والعناوين! إنما القيمة لاتجاه الحياة والمحور الذى تدور عليه. ونحن نأخذ بعموم قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) [الأنعام : 48ـ49] وقد جاء فى الصحاح أن أول من تسعر بهم النار ناس مراءون بالصلاة والقراءة والجهاد، كما جاء أن إحسان العلاقة الزوجية لون من القربى إلى الله... إن الذى يجعل حياته لله ونشاطه لله ووجهته إلى الله، ويحتشد للقائه بمشاعره وقواه، وملكاته هو الذى ينجو.. إن التفريق بين شئون الدنيا وشئون الآخرة مع إطراح حركة القلب كان من وراء التخلف الشائن الذى أزرى بأمتنا وأعجزها عن نشر رسالتها، بل عن نصرتها فى د ا رها... وعندما يوازن القرآن الكريم بين الدنيا والآخرة، فهو يعنى الدنيا المقطوعة عن الله، ولو راءت باسمه، وتاجرت بدينه، إن قصور المعرفة، وقسوة القلب، سوء القصد أمراض تفتك بالعبادات ، وتمنعها من الصعود الى السماء... وربما كان إثم البعيدين عن الله واقعا على من لم يوصلوا القول، ولم يقوموا بعبء البلاغ. وفى القرآن الكريم تهديد لأهل الكتاب كلهم، وبينهم المسلمون، إذا لم يتقوا الله، وتدبر قوله تعالى : (ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات(1/121)
وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا) [النساء : 131] ص _132
ثم يعود التهديد مرة أخرى لليهود والنصارى والمسلمين، بأنهم إن لم يصلحوا فى الأرض ذهب الله بهم واستخلف غيرهم: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) [النساء : 133] والتهديد بإفناء الأجيال الفاشلة والمجىء بأشرف منها تكرر فى مواطن كثيرة من الكتاب العزيز. وبعد هذا السياق ودلالاته البعيدة يقول الله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا)[النساء : 134] أى من سقطت همته فلم تتجاوز التراب، فليبق فى دناياه، ومن طلب أفقا أعلى فإن الله لا يضيع عمله، وهو سميع لقوله بصير بعمله. ويشبه هذا قوله تعالى فى التعقيب على غزوة أحد، ومسالك من كان يريد الدنيا ومن كان يريد الآخرة: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين) [آل عمران : 145] وفى طلب الدنيا والآخرة جاءت آيات تحتاج إلى تفسير قريب، منها قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) [هود : 1 ص 6] والآيات تفيد أن هناك أمما وأفرادا، سوف يحيون لهذه الدنيا وحدها، لا يعنيهم ما وراءها ، وسوف يبذلون قواهم ومواهبهم، للاستحواذ على ما فى الحياة من خيرات، والاستمتاع بها، دون شكر لخالقها أو قدره حق قدره... وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم ما طلبوا، ويمكن لهم فى الدنيا بقدر جهدهم، دون بخس ولا حيف! أما الآخرة فلا نصيب لهم فيها، إذ هم لم يعنوها أو يكترثوا بها.. ويبقى أن ينالوا الجزاء الأوفى على تكذيبهم، ونسيانهم لربهم وهو الخلود فى النار! ص _133(1/122)
هل كل مكذب بالآخرة يحيا سعيدا فى الدنيا؟ مادام يكدح فى جنباتها ويريد الفوز بطيباتها؟ إنه ليس لكفور بالله حق قبله، وليس للعمل العاجل ثمن محدد يدفع لصاحبه! والقاهر فوق عباده لا يتحداه أحد منهم، ولذلك جاء توضيح لهذه القضية فى أيات أخرى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) [ الإسراء : 18ـ19] إن الأحياء يتحركون داخل نطاق محكم من المشيئة العليا فى البسط والقبض والسعة والضيق. إن الله لا يمنح كل كافر مراده الذى يشتهيه على ظهر الأرض، قد يمنح هذا ويحرم ذاك، والذى منحه لا ينال كل ما يشتهى، بل ما يأذن الله به من حظوظ الحياة! وهذا التفاوت فى الأرزاق يتصل بطبيعة الاختبار الإلهى للناس، ولا دلالة فيه على الرضا أو السخط (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) [الإسراء : 20] ونحن لا نخشى ظلما يقع من الله، فإنه لا يظلم مثقال ذرة! وإنما نخشى نقصان الفضل الأعلى، وواهب الفضل لا سلطان لأحد عليه، إلا أن يضرع إليه بشر طامعا فى أفضال المليك الجليل، والأمر له وحده، يخفض ويرفع (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) [الإسراء : 21] وبين نتائج العدل ومنازل الفضل، يتفاوت الناس تفاوتا هائلا فى الدنيا والآخرة. ونورد هنا بعض التفاصيل التى ذكرت فى القرآن الكريم والسنة المطهرة عن أحوال! الناس يوم الحساب. إن الناس بعيد البعث يعتريهم ذهول ودهش، ويخيم عليهم صمت يقطعه تساؤل الحيرة بين الحين والحين: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) [طه : 102ـ103] (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) [طه: 108] ص _134(1/123)
والحساب الإلهى يشمل جماهير الخلق كلهم. جاء فى السنة عن عدى بن حاتم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة. ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة !!! ويبدو أن بعض الناس سيظفر بحساب فيه تجاوز ومساهلة ينجو بعده عتيق فضل الله، فقد جاء فى الصحاح ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول نعم! ويقول!: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم! فيقرره- بذنوبه- ثم يقول: إنى سترت عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم..!!)) ثم يعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار فينادى على رءوس الأشهاد: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) [هود : 18] ومن الغرائب أن بعض المذنبين يمارى فيما وقع منه، ويحاول إنكاره، ويقسم أنه برىء! قال تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) [الأنعام : 22ـ23] ويبدو أن خلق الدجل والإفك الذى عاش به بعض الناس فى الدنيا سيبقى معهم حتى اللحظة الأخيرة، وسيحاولون اللغط والفرار! (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) [المجادلة : 18] وفى السنن أن المنافق يسأل يوم القيامة عما كان يفعل؟ فيقول لله مدافعا عن نفسه: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثنى بخير ما ص _135(1/124)
استطاع!! فيقول الله له: ها هنا إذن، أى قف مكانك حتى تسمع ما يتم فى شأنك " ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، فيتفكر فى نفسه من ذا الذى يشهد على؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقى فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه! ذلك هو المنافق الذى يسخط الله عليه " . وإذا كان الكافرون يحاولون الجدال والإفلات فى بعض المواقف فإنهم سيضطرون للاعتراف والاستكانة فى مواقف أخرى، قال تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) [الأعراف :37] والقاتل فى دنيانا عندما يساق إلى المشنقة لا يسأل ولا يتكلم. وذاك يشبه قوله تعالى فى المجرمين: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) [الرحمن : 39] لكنه عند التحقيق يبحث عمله، ويسأل عما اقترف وذلك يشبه قوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون) [الصافات : 24]. إن مواطن الحساب شتى وأساليبه شتى، وكل نص يوضع بإزاء ما يناسبه! ويوم الحساب المرتقب يوم عصيب..! وما ظنك بيوم تسأل فيه البشرية كلها من بدء الخليقة إلى انتهاء الكدح فوق هذا الثرى؟: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد) [هود : 103ـ105] والسؤال العسير يتوجه إلى الأفراد وإلى الأمم، إلى الفرد فى خاصة نفسه ليرى ماذا قدم لغده؟ وفى الحديث " يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج- كأنه شويهة وليدة لضعفه- فيوقف بين يدى الله، فيقول له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يارب جمعته وثمرته فتركته أكثر ما كان، فارجعنى آتك به!! فيقول له: أرنى ما قدمت.. فيقول: يارب جمعته وثمرته فتركته أكثر ما كان فأرجعنى آتك به! فإذا عبد لم يقدم خيرا، فيمضى به إلى النار " . ص _136(1/125)
وكما يحاسب الفرد تحاسب المجتمعات والحضارات والأمم، لتعرف أن تعاونها وتماسكها كان على شر، أو كان على خير؟ (ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون * وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) [الجاثية : 27ـ28] وتاريخ الإنسان فى هذه الدنيا حافل بالجور، منذ أيام كنت أستمع إلى الاحتفال بمرور مائتى عام على اكتشاف أستراليا، وكان هناك حديث يدور همسا عن السكان الأصليين لهذه القارة، لقد أبيدوا فى صمت، وبأخس الوسائل، وورث الجنس الأبيض الغازى الأرض؛ ليعمرها ويتطاول فوقها، وينسى ما قدمت يداه! وما فعل بأستراليا فعك مثله بأمريكا، فإن سكانها الأصليين طاردتهم الحتوف حتى اختفوا، ودعك من دعاوى أناس يرفعون الصليب ساترين فى ظله غرائز الوحوش!! إن جماهير من الناس قد تخدع بهذه الدعاوى، بيد أن يوم القيامة سوف يفضح المجرمين، فرادى أو جماعات. والله تعالى فى قرآنه الكريم يبين أنه سيقيم العدالة، ويقتص من الظالمين! (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) [غافر : 1 ص 7] إن الحياة الدنيا ميدان اختبار، وليست موعدا لإعلان النتائج وإقرار العدل! وفى ذلك الامتحان المعقد الثقيل قد يقتل أنبياء ويصاب شهداء، وتنتشر شائعات على أنها حقائق، وتدرس جهالات على أنها علم ولابد من يوم تعود فيه الاستقامة لهذه الموازين المختلة، وتصح فيه الأوضاع السقيمة! لابد من يوم القيامة (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة : 6ـ8] المحزن أن أكثر الناس مصروف عن هذه الحقيقة! أكان إبليس ذكيا عندما تنبأ بأن أولاد آدم سيهتمون بالعاجلة، ويذرون(1/126)
الآخرة؟ إنه توقع منهم ذلك قال تعالى: ص _137
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ) [سبأ : 20ـ21] كيف يتم الحساب الإلهى وكم يستغرق؟ لا ندرى بدقة، إن القرآن ذكر الخلاصات المهمة التى ينبغى أن يعرفها المؤمنون! وقد جاء فى السنة ما يتطلب إمعان النظر، وإحسان الترتيب، وتمحيص المرويات، وربط ذلك كله بما قال الله فى كتابه.. وقد سئل على بن أبى طالب: كيف يحاسب الله الناس! على كثرتهم؟ فآجاب كما يرزقهم على كثرتهم! ولا ريب أن الله يعرف أبناء آدم، منذ كانوا أسرة صغيرة، إلى أن كرت عليهم الدهور، وانتشروا فى المدائن والقرى، وأمسوا أعدادا لا تحصى! وسيشعر كل فرد من هذا المحيط المائج بأنه يواجه ما قدم ويلقى جزاء ما جنت يداه، لا نسيان، ولا جور. فى ذ!ك اليوم الفذ تسمع صيحتان متناقضتان، إحداهما تنضج بالبشرى والأخرى بالويل! الصيحة الأولى لمؤمن جذلان طروب مسفر الوجه يقول : (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية) [الحاقة : 19ـ22] والأخرى لكافر نادم كالح الوجه حزين يقول: (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه) [الحاقة : 25ـ29] ونلحق بهذا البحث تفسيرا موضوعيا وآخر تحليليا لسورة الواقعة، فيه مزيد من التفصيل والتوكيد للمعانى التى ذكرناها آنفا.. تفسير موضوعى لسورة الواقعة: والواقعة من أسماء شتى ليوم القيامة مثل الحاقة والقارعة والساعة، ومعالم هذه السورة واضحة، فهى تبدأ بحديث وجيز عن انتهاء العالم وبدء الحساب، ثم تذكر ص _138(1/127)
صنوف الناس بعد البعث.. وهم أ صحاب السبق البعيد، وأهل اليمين، وأهل الشمال.. وتسوق بعد ذلك خمسة أدلة على أن البعث حق، وأن إنكاره خبال، وتختم بوصف لرحيل البشر عن هذه الدنيا بالموت، وبوادر تصنيف الأقسام الثلاثة: السابقين وأهل اليمين وأهل اليسار.. تلك هى الملامح العامة للسورة، البعث وأدلته، وأنواع الناس بعده مع إضافات أخرى يسيرة تومئ إلى عظمة الخالق وعظمة الكتاب الذى أنزله يقرر الحقائق التى يحتاج البشر إليها أبد!.. إن كثيرا من الناس تحت مشاغل العيش ووطأة الشهوات وسكرة الحاضر لا يحسون إلا وجودهم المادى الغريب، يقول أحدهم وهو ذاهل: ما أظن الساعة قائمة! ويقول الآخر: إن هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر! وقد يحلفون على هذا المجون، يؤكدون ألا حياة بعد الموت: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) [النحل : 38] وترى ميت الغد يشيع جنازة ميت اليوم، وهو يحدث صاحبه فيما يراوده من أمل ويخامره من طمع غير مستفيد من موكب الموت عبرة! وتمضى القرون وتطوى الجماهير، والمنكرون يزيدون ولا ينقصون، وللكفر صوت عال فى المشارق والمغارب. وبغتة تقوم السماعة، ويخرس صوت الإلحاد، ويتبدد صداه (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة) [الواقعة 1ـ2]، إن الإنسان بطبعه مجادل، عنيد، ولكن ما عساه يقول وقد وقع الهول؟ لقد جفت حلوق الأفاكين فما يقدرون على لغو! (خافضة رافعة)، هناك رؤساء وملوك سيبعثون سوقة وصعاليك لأنهم ما أعدوا لهذا اليوم عدة!! وهناك أخفياء مغمورون سيكونون يوم القيامة قمما! "ورب كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة " إنه يوم تصحيح الأوضاع، وفناء الزور وجلاء الحق! ومن المفسرين من يرى الخفض والرفع فى سطر هذه الأرض كما جاء فى الحديث ص _139(1/128)
"يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كفرصية نقى ليس فيها معلم لأحد" تشبه الأرض رقاقة ملساء لا نجود ولا وهاد، ولا يرى قصر لأحد! الكل حفاة عراة قيام لرب العالمين: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) [طه: 10 ص 07] وكلا التفسيرين يكمل الآخر، ليس بينهما تدافع، فهناك زلزال اجتماعى يهدم ما شاء الناس من أباطيل ووضعوا من أنساب وألقاب. وهناك زلزال مادى بدأ وصفه فى قوله تعالى: (إذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا) [الواقعة : 4ـ6] مع قيام الساعة تهيج زلازل تهد كل شىء، وتتحول بها الصخور الصلدة إلى ذر كتلك الكائنات الدقيقة التى نراها تسبح فى الشعاع! (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) [إبراهيم : 48] ولسنا ندرى كم نبقى هنا قبل أن تتبذل الأرض؟ عشرات ومئات من القرون؟ إن تحديد الرقعة الزمانية غير مهم ، المهم هو استبانة الحصاد الأخير لهذا التاريخ الطويل، وقد بين الله سبحانه أن أبناء آدم سيتوزعون على ثلاث زمر (وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) [الواقعة : 7ـ12] ولنتريث قليلا فى شرح السورة لنتدبر قصة الجزاء الأخروى والزعم بأنه روحانى! من المعلوم أن الإنسان جسم وروح، فهل صحيح أن التسامى المنشود للإنسان لا يتم إلا بتدمير الجسد، وتجاهل مطالبه؟ إننى لم أر فى الكتاب والسنة أى إشارة إلى تعذيب الجسد وإشقائه! نعم هناك صيام مشروع، وتعرض للعطش والجوع! وهناك صلاة قد يطول فيها السجود والقيام، وقد تتورم فيها الأقدام! وربما اكتسب الإنسان رزقه من حرفة ينصب فيها ويتصبب عرقه! وربما انتهت حياته بالقتل فى سبيل الله فتزهق روحه، ويراق دمه، ويتحقق فيه قول ابن الرومى: ص _140(1/129)
فحب به جسما على الأرض إذ هوى وحب بها روحا إلى الله تعرج لكن ذلك كله فحوى الامتحان الإلهى للإنسان روحا وجسدا، وحظ الروح من هذا الامتحان قسيم لحظ البدن، بل دور البدن هنا دور الوسيط، فهو ينقل ما يصيبه إلى الوعى ومع الوعى يكون التحمل واتجاه الإرادة إلى مرضاة الله. ولو وقف الألم مكانه بالبنج مثلا، ولم يشعر المرء بشىء، حتى الموت ما كان له من فضل ! إن الإنسان جنس يتميز بخصائصه، وقد خلقه الله بيديه، ولم يخلقه فى أحسن تقويم، ليجىء رجل أو امرأة فيقول: إن الجسم حقير وينبغى أن يهان ويعذب! وعندما خلق الله آدم قال له: (اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما) [البقرة : 35] فأين تعذيب الجسد فى هذه الإباحة؟ وخلق الله الرسل، وجعلهم صفوة خلقه وقال لهم: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) [المؤمنون : ص ] فأين آثار الحرمان فى هذا التكليف..؟ ويسر الله الأرزاق الطيبة للمؤمنين به، ولم يطلب إلا الشكر على ما أنعم (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) [البقرة : 172] فهل فى هذا حرب على الجسد، وتخطيط لإهانته؟ وبين- جل شأنه- أن أبناء آدم بعد رحلتهم الطويلة فى أرجاء الدنيا، وتوارثهم عمرانها حينا بعد حين سوف يعودون إلى الله كرة أخرى: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) [الأنبياء : 104] فهل تتحقق هذه العودة بقيام الناس صورا لا أرواح فيها أو بقيامهم أرواحا لا أجساد لها؟ هذا تصور أخرق! الناس هم الناس وسوف يحيون بجوارحهم ومشاعرهم التى باشروا بها المعاصى أو الطاعات! وعندما يحاول الذين مردوا على الجدل والمكابرة أن ينكروا ما فعلوا نطقت أركانهم بتكذيبهم ص _141(1/130)
(حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) [فصلت : 20ـ21] إن الإنسان الذى أحس المعاناة والتضحية فى دنياه يكافأ بنعيم مقيم فى الآخرة، روى ابن كثير عن الطبرانى أن النساء المؤمنات أفضل فى الجنان من الحور العين! قالت أم سلمة: " بم ذاك؟ قال بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله!! ". ثم جاء فى هذا الحديث أن النساء المؤمنات يقلن: " نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، طوبى لمن كنا له وكان لنا... ". إن الذين جاهدوا فى الدنيا هم الذين يستريحون فى الأخرى والقول بأن الأجسام تفنى فلا تعود، وأن الآخرة مسرح للأرواح وحدها، وأن ثوابها وعقابها معنوى يشبه تأنيب الضمير أو راحة الضمير ، قول باطل لا أساس له.. ويبدو أنه انتقل إلى النصرانية من بعض الديانات الأرضية المخرفة، وكم سطت الوثنيات على الأديان فقوضت أركانها ومحت معالمها! والغريب أن الذين يحملون فلسفة الرهبانية وقهر الأبدان هم عنصر الهزيمة والاستسلام فى الحضارة المعاصرة، وهى حضارة أسر فت على نفسها فى إرواء الغرائز ويسرت للرعاع من فنوق الملذات ما لم تشهده مقاصير الملوك الأقدمين، وهكذا تقود الأخطاء إلى الخطيئات!! على أن للجزاء المادى وزنه ومكانه، إنه لا غنى عنه، بيد أنه يجىء مكملاً ومجملا للجزاء المعنوى. وفى دنيانا ننظر إلى جائزة " نوبل " مثلا التى يصبو إليها العلماء الراسخون! إن فى منحها تقديرا أدبيا تهمش له النفس! لكن التقدير الأدبى وحده لا يطعم من جوع ولا يؤمن من خوف، ومن هنا كانت الجائزة المرصدة ثمينة وسخية .. ص _142(1/131)
ونمضى فى شرح قصة الجزاء المادى لنقول: إن مطالب الجسم محدودة، وإجابتها قليلة الكلفة عندما تختفى رذائل الترف والسرف! فهل هى فوق الجزاء المعنوى؟ نقول: لا.. وتفاوت المواهب والهمم والجهود يلقى أجزية شتى بعضها أعلى من بعض.. قد يكون لك خادم مخلص، تعطيه طبق الطعام فينطر إليه قبل أن ينظر إليك! وهو يشكرك بقوة لكن عينيه لا تعدوان الطبق، وما فيه كما وكيفا.. وهناك آخر يعرفك ويقدرك ويعرف الناس بك وبقدرك، فإذا قدمت إليه الطبق كانت نظرته إليك أسبق وأعمق، وعندما يتناول الطبق منك، يتمنى لو منحته كتابا من تآليفك يزيده بك علما ولك تقديرا هل يستويان؟ إن من أهل الإيمان من تشغله أمجاد الألوهية فهو معها فى فرح دائم! أو حضور غالب، وهو قى سرائه وضرائه ناظر إلى ربه... وحسب. لكن اللذة والألم قوانين نفسية لا ينفك عنها بشر، وعندما يعتر أهل الإيمان عن أحوالهم فلن يخترقوا أبدا آداب الشرع ويتعدوا حدود الله. إذا قال الله تعالى: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) [آل عمران : 185] فلا يجوز لأحد أن يقول: ما الجنة وما نعيمها؟ إننا نريد وجه الله! هذا كلام سقيم! هل يريد أن يرى وجه الله وهو فى ظل شجرة الزقوم؟ إن كان لها ظل!! إن الله يتجلى برضوانه على عباده المؤمنين وهم يرفلون فى حلل الجنة، ويمشون فى ظلها الدائم! وفيما ذكرنا شرح لقوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) [التوبة : 72] إن الرضوان الإلهى أعلى من كل نعيم، وأقر للعين من كل لذة، ولكننا نرفض سوء الأدب مع عبارات الشارع الحكيم. ص _143(1/132)
وعلماؤنا مجمعون على أن ثواب الآخرة وعقابها ماديان وروحيان، وهناك حشود من الآيات والأحاديث تؤكد ذلك. وقد يخطىء بعض الرجال الطيبين فينظر إلى نفسه وأحواله ثم يصدر حكما عاما غامضا فى شئون الناس، وذاك لا ينبغى! نحن نعلم أن عيسى ويحيى لم يتزوجا لكن كلا الرسولين لم يشن حربا على الزواج، ولم يسن مسالك الرهبانية المستوحشة لأنهما لم يبعثا لدمار الحياة! وعدم زواجهما هو لظروف تخصهما وحدهما.. وقد عاش ابن تيمية عزبا، وكذلك عاش جمال الدين الأفغانى، ولم يؤثر عن أحدهما أنه دعا إلى عزوبة! وهناك نباتيون يكتفون فى غذائهم بما يخرج من الأرض، أعرف منهم العلامة محمد فريد وجدى، لتكن هذه طبيعته! فليس أكل اللحم فريضة دينية.. بيد أننا نعترض هذه الطبيعة إذا حاول صاحبها جعلها دينا، وقد ارتكب أبو العلاء المعرى هذه السخافة عندما قال: غدوت مريض الدين والعقل فالقنى لتعرف أنباء الأمور الصحائح! ومضى فى قصيدته يحرم لحوم الأنعام والطير، بل لقد حرم عسل النحل، فما جمعته كى يكون لغيرها!! إلخ. ومن هذا القبيل ما يجرى على ألسنة بعض الأدباء اليوم من أن الجنة ليست "سوق خضار"! يرمى بذلك إلى إنكار الجزاء المادى وتهوين شأنه!! وهذا فكر شاع فى جنوب آسيا، وربما روج له فلاسفة يونانيون متهم بعضهم بالشذوذ! وقد تأثر به ناس فى تاريخنا القريب والبعيد، وعدوه تساميا، وهو جهل كبير! إن أنس بن النضر كان يرى ربه، ويرى جزاءه الموعود، عندما استنكر موقف المنهزمين فى أحد، وأقبل وحده يقاتل المشركين، ويتحمل بجلد عض السيوف فى جلده، وهو يصيح: إنى أشم ريح الجنة من وراء أحد! ص _144(1/133)
هل هذا المؤمن العظيم رجل واهم؟ وهو الذى قال فيه رب العالمين: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) . وجعفر الطيار، الذى احتضن علم الإسلام بيديه، فما سقط إلا بعد أن انقطعت ذراعاه، فسارع بطل آخر لحمل العلم الغالى. لقد كان جعفر يتشوف إلى الشهادة وهو يقول: " يا حبذا الجنة أو اقترابها طيبة وباردا شرابها! ". فهل تطلع الرجل المعنى إلى الراحة فى ظلال الجنة وهم، أو ضعف فكر؟ كما يزعم أصحاب الخلل فى فطرتهم ونظرتهم!! إن أنصاف المتعلمين والمتدينين الذين يتكلمون فى الإسلام وهم بمعزل عن كتاب الله وسنة رسوله خير لهم أن يصمتوا وأن يستحوا ! وقد قرأت لبعض القساوسة المبشرين بالنصرانية تهكما بالجنة الذهبية وجنهم النارية! وتنديدا بالأجزية المادية التى شرحها الإسلام! إن هؤلاء الناس متأثرون بأفكار أرضية وفلسفات مقطوعة الصلة بالوحى، ولننظر: ماذا أسدوا للإنسانية من خير بهذا الكلام؟ هل ارتقوا بالحضارة المعاصرة وخففوا من كثافتها؟ هل حولوا العوام والخواص إلى روحانيين يكبتون الشهوات ويحلقون فى السموات؟ إنهم أخطئوا فى علاج النفس البشرية، ولم يعرفوا المفتاح الذى يدور فى أقفالها فتنفتح! إن مقادير ضخمة من الترهات تسكن فى عقول القوم وأفئدتهم صرفت أولى الألباب عن الدخول فى الدين، واحترام مواريثه.. إن الإنسان الذى هو مادة وروح لا يصلح إلا بتعاليم تعترف بمادته وروحه معا، وهذه التعليم حمل رايتها الأنبياء كلهم ومن بينهم موسى الذى قال معتذرا عن قومه ص _145(1/134)
(أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) [الأعراف : 15 ص 56] وقبله إبراهيم الذى دعا ربه قائلا. (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم * واغفر لأبي إنه كان من الضالين * ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين) [الشعراء : 83ـ91] تفسير تحليلى لسورة الواقعة: بعد هذه الواقعة، وشرح ما فيها من وصف للنعيم ووصف للجحيم! فهو نموذج لعشرات من أمثاله فى القرآن الكريم.. ينقسم أهل النعيم فى هذه السورة قسمين، الأول: السابقون بالخيرات، والثانى: الفائزون بقدر راجح من الحسنات! أما من بقى فهم أصحاب الشمال... وأخطأ بعض المفسرين فحسب أن هذه الأصناف الثلاثة هى المذكورة فى قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات..) [فاطر :32] إن سورة الواقعة تحدثت عن الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، أما الآية الموهمة فهى تتحدث عن المسلمين خاصة! وصدر الآية يدل على ذلك: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات..) [فاطر : 32]. ووصفت سورة الواقعة أهل السبق بأنهم؟(ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) [الواقعة : 13ـ14] ويرى البعض أن الثلة من الأولين تعنى أصحاب الأنبياء الذين سبقوا محمدا برسالاتهم وأن القلة من الآخرين تعنى المسلمين! ويظنون أن هذا طبيعى لكثرة من سبق من أنبياء وأمم! ص _146(1/135)
والذى نراه أن الوصف هنا لأمة محمد وحدها، وأن الثلة من الأولين هم سلفنا الصالح، الذين نشروا الدين فى أرجاء الأرض بعلمهم وعملهم! وأن القلة من الآخرين، هم الغرباء بتقواهم، وسط قوى مناوئة، وخصومات مؤذية... أما الرسل السابقون فقد كانت رسالاتهم مؤقتة ومحدودة، تمت فى أعصار قليلة ومدن معدودة.. ونحن نحترم أصحاب موسى المؤمنين بتوراته، وأصحاب عيسى المؤمنين بإنجيله، وأين هم من قرون طوال؟ اختفوا واختفت هداياتهم وحل مكانهم من لا صلة له بالسماء. ونلحظ أن أولى أوصاف السابقين، أو أولى الميزات التى يربحونها هى القرب من الله سبحانه، أو هو الرضوان الأكبر، ولذلك قيل (والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) [الواقعة : 10ـ12] فلنتأمل فى حال أولئك الذين سكنوا فى بلاد الأفراح.. إن الإيمان بالغيب الذى عرفوه فى الدنيا أضحى إيمان شهود! وعظمة الله وصفاته التى صدقوا بها نظريا فى الأيام الخالية رأوها معاينة فى هذه الأيام! ومن ثم فهم يلهجون بالثناء على الله وشكره وتحميده وتمجيده! وهذا الذكر الموصول يتم دون معاناة أو كلل أو ملل، بل ينبعث عنهم كما ينبعث الزفير والشهيق من صدورنا شى هذه الحياة...!! وفى الآية: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) [يونس : 10] إنهم يشركون الملائكة فى استدامة التسبيح دونما شعور بكلفة (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [الأنبياء : 20] وإذا كان فى القوم من قام بالقرآن فى الدنيا وعاش له يحميه ويتلوه ويبلغه، فإنه يقال له ما جاء فى الحديث الشريف " يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا.. " نعم لقد أضحى مع السفرة الكرام البررة، بهذه المهارة وتلك الإمامة.. ص _147(1/136)
إن أهل الجنة يحلو فى مذاقهم ترديد الباقيات الصالحات فهم يهتفون بها عن حب ورغبة، ولعلها وسمت بالبقاء والصلاح لأنها تعلو على الفناء، وكيف تفنى هذه الشعارات، سبحان آلله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؟ كانت فى الدنيا قواعد السلوك المؤمن، ثم أضحت فى الآخرة شارة أهل النعيم! ماذا فعل غيرهم؟ استرخى فحجب. وقد قيل: الأحجار فى طريق الكسالى عوائق، وفى طريق الناشطين سلالم، الأولون ينكصون؟ والآخرون يصعدون! ومن ثم قيل فى وصف الجزاء المعد للمقربين (جزاء بما كانوا يعملون) والكريم إذا وفد عليه ضيوف أكرم نزلهم، وأجزل عطاءهم فأين كان أهل الجنة ينزلون بعد عودتهم إلى الله؟ إن أقل ما يقدم لهم هو أعلى وأغلى ما كان ملوك الأرض يتمتعون به! ونحن نعلم أن فى الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ونعلم أن الأسماء التى تطلق على ما فى الجنة هى عناوين تقريبية، وأن ذكرها ضرب من التشويق للعاملين فى الدنيا، والأمر فوق ما نتصور! المهم أن أهل الجنتين- مع ما يتقلبون فيه من نعماء- ليسوا أهل بطالة وخمول، إنهم يلهمون الذكر والشكر، ولا ريب أنهم سعداء بتكريم الله لهم، ولكنهم أسعد بما أتيح لهم من تحية الله ليلا ونهارا، ومناجاته سرا وجهرا.. ونشرح الان بعض الكلمات التى لا نألفها، والتى وردت فى وصف الجنان. (على سرر موضونة) [الواقعة :15] أى مضفورة من المعادن النفيسة (متكئين عليها متقابلين) [الواقعة : 16] أى لهم مجالس مؤنسة يواجه بعضهم بعضا فيها (يطوف عليهم ولدان مخلدون) [الواقعة : 17] تخدمهم فتية يبقون ما حيوا فى سن الشباب! وللقوم مشارب كثيرة من الماء واللبن والعسل والخمر، ولكمن الخمر التى يشربونها فى الآخرة، لا تصيبهم بصداع ولا دوار، وهذا معنى (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) [الواقعة : 19] والنزف الهذيان واختلاط العقل، وهو معروف بين السكارى.. ص _148(1/137)
والحور العين هن بنات آدم بعد صوغهن فى قوالب أخرى تجعل العجائز شواب والدميمة وسيمة! أو هن خلق آخر يبدعه الله فى صور فتيات ساحرات العيون يستمتع بهن أهل الجنة.. والظاهر أن الحور من الصنفين معا، وأن تغييرا كبيرا سوف يقع فى أجسام الرجال والنساء وفى هيئاتهم، وهو تغيير إلى الأشرف والأكمل... فلن تكون لأبناء آدم فضلات، وسيلتئم شمل الأسرة المؤمنة على الحب والرضا مصداق قوله تعالى :( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [الرعد : 23ـ24] والواقع أن الجسم الإنسانى على روعة إبداعه له عوارض محرجة ومزعجة، وما يتم النعيم إلا بتعديل أجهزته على نحو أسمى وأنظف وأقوى وأجمل.. وربما كان خلقه على ما نحس بعض الامتحان الذى فرض علينا فى هذه الدنيا.. ولا توجد فى القرآن الكريم لسورة تستوعب كل الأجزية الحسنة المعدة للمتقين ، وإنما تعرض مناظر، أو تلتقط صور لجوانب من النعيم تناسب كل سورة، وتشرح صدور القارئين بما تثير من أشواق، وتفتح من آمال.. وفى هذه السورة رأينا لونا من النعيم المعد للسابقين، ولونا آخر من النعيم المعد لأصحاب اليمين، وهم أكثر عددا من الصنف الأول (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) [الواقعة : 39ـ40]. ونشرح بعض الكلمات التى وردت فى ثوابهم: (السدر) شجر يثمر النبق! وينبت مع كثرة الماء، ولعل ذلك سر نفاسته عند سكان الصحراء، مع نكهته اللطيفة، ويصحبه دائما شوك قد يخدش لكنه فى الجنة (مخضود) لا شوك فيه! والطلح المنضوض هو الموز المنسق المركوم فى نظام، وقيل ثمر يعرفه أهل الغرب وغيرهم، والظل الممدود، هو الذى لا يتقلص مع وقدة الشمس (أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا) ، والماء المسكوب ما يجرى تحت قصور الجنة أو ما تدفعه النافورات إلى أعلى. ص _149(1/138)
ولما كانت الفواكه فى الأرض موسمية تظهر فى بعض الشهور وتختفى بقية العام وصفت فاكهة الجنة بأنها (لا مقطوعة ولا ممنوعة). والعروب المرأة المتوددة إلى زوجها المقبلة عليه! والجمع عرب، وسواء كن من نساء الدنيا بعد صياغتهن الجديدة أو من الحور المنشآت لأهل الجنة، فهن متقاربات الأعمار، وذاك معنى قوله تعالى (عربا أترابا * لأصحاب اليمين).. والكلم كله- فيما نرى- من البشريات لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالسابقون قلة فى المعاصرين، ولكنهم ثلة كبيرة من الأخلاف.. ويجوز غير ذلك! ثم ينتقل السياق إلى أصحاب المشأمة، أو أصحاب الشمال، وهم جمهور الملاحدة والفسقة والمكذبين ممن شاقوا الرسل، وعادوا الدين كله، ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها وسخروا مما وراءها، ولم يعرفوا فى دنياهم إلا مآربهم. ونفسر الكلمات التى وردت فى صفة عذابهم (في سموم وحميم) السموم الريح اللافحة بحرارتها، من السم، لشدة أذاها، والحميم الماء الساخن الذى يغلى. (وظل من يحموم) اليحموم الدخان الكثيف الأسود، ولا قيمة لظله، ولذلك جاء فى موضع آخر (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغني من اللهب) [المرسلات : 30ـ31] وهو من الحميم جمع حممة، الفحم. وبم استحق أصحاب الشمال هذا العذاب؟ لأنهم لم يتقوه فى الدنيا بعمل صالح، بل هم لم يؤمنوا به أصلا، وكانت معيشتهم على ظهر الأرض تشبعا من اللذات المتاحة، أو جريا وراءها سواء أوجدت أم لم توجد. لذلك يقال فى تسويغ عقوبتهم (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) [غافر : 75]. وقد وصف الله سبحانه معيشة الكافر فى الدنيا، وانحصاره فيها وحدها فقال: (إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور ) [الانشقاق: 13ـ14] ـ يرجع إلى ربه ـ (بلى إن ربه كان به بصيرا) [الانشقاق: 15]. ص _150(1/139)
والكافرون يبنون حياتهم على ألا بعث! وهذا الفكر يكاد يطوى الآن المشارق والمغارب، وهو أساس الإيغال فى المعاصى ، والانكباب عليها دون شعور بقبحها أو ندم على اقترافها.. وذلك هو الخبث العظيم أى المعصية الفادحة التى عناها النظم الكريم فى الآيات (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم * وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون * قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) [الواقعة : 45ـ50] ويعود الكلام مرة أخرى إلى وصف ما يلاقيه الملاحدة من عذاب (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم) [الواقعة : ص ـ52] والزقوم طعام مرير قبيح- أعاذنا الله منه- إذا أكله صاحبه اهتاج إلى طلب الماء فلم يجد إلا ماء يغلى (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) [محمد : 15] ومع أثره الفظيع فإن آكل الزقوم يتطلب المزيد من الشراب لما يحسه من عطش! فهو كالبعير الأهيم المصاب قى أمعائه بحمى تحمله على طلب الماء بنهم لا ينقضى . وقد وصف أهل النار بأنهم يملئون بطونهم من الزقوم تم يبحثون عن الماء بحث الإبل الهيم عما يرويها، وهيهات (هذا نزلهم يوم الدين) [الواقعة : 56]. وصور الثواب والعقاب كلها سيقت للترغيب والترهيب، ودعم تربية سليمة، لاسيما فى هذا العصر الذى تضافر فيه العلم والفن والإعلام الهازل والجاد على تجهيل الناس بالآخرة، وصرفهم عن العمل ! لها.. وإيقاظ مشاعر الرغبة والرهبة لا يكفى! بل لابد من إيقاظ العقل الإنسانى ليفكر ويصدق ويتصرف بروية! ومن ثم شرعت سورة الواقعة فى سرد الأدلة الشاهدة على أن البعث حق، فذكرت خمس أدلة منتزعة من آفاق الكون، وتجارب الناس!! الأول: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) لماذا يتهم صاحب الخلق الأول بالعجز عن الخلق الثانى؟ إننى عندما أنشى درسا أتعب فيه فإذا أعدته كان على سهلا! ص _1 ص(1/140)
وتنزلا مع هذا الفكر يقول الله فى آية أخرى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) وليس عند الله سهل وصعب وهين وأهون، ولذلك أتبع هذا التنزل بقوله (..وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) [الروم : 27]. وقد تكرر هذا الدليل فى سور كثيرة وهو بديهى لا يرده إلا مكابر بليد! (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) [الإسراء : 49ـ ص ] والقرآن الكريم يلح فى طلب النظر، واستقصاء الفكر فى هذا الوجود لمعرفة البدء والعودة! إننا موجودون يقينا، فكيف وجدنا؟ المتأمل فى النشأة الأولى يدرك سهولة النشأة الآخرة، ويرى استبعادها حماقة! (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير * يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون) [العنكبوت : 19ـ21]. وقد لُخصت هذه المعانى كلها فى آية قصيرة (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) [الواقعة :57]. الدليل الثانى: إن الذى خلق العالم لأول! مرة لم يبذل فيه جهده ويستنفذ قدرته! إنه كل يوم، بل كل ساعة، بل فى كل طرفة عين يتجدد خلقه! ويبدو ذلك فى تخلق البشر، واستقبال ذريات جديدة باستمرار.. ويتقرر هذا الدليل فى قوله تعالى (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون) [الواقعة : 58ـ61] والمنى سائل عجيب! فهذا الماء المهين- فى منطق القادر الأعلى- تحمل الدفقة الواحدة منه مائتى مليون حيوان منوى، وهذا الحيوان الذى لا يرى لضآلته يحمل فى كيانه كل خصائص النوع الإنسانى المادية والمعنوية. ذلك معروف من قديم ففى قصة الملاعنة التى وردت بسورة النور يقول الرسول ص _152(1/141)
الكريم فى المرأة الحامل المتهمة: " إن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج السايتين، فهو لشريك بن سحماء الذى رميت به..! ". انظر: كيف انتقلت الصفات الجسدية من الأب للابن عن طريق الحيوانات المنوية، وكما تنتقل هذه تنتقل الصفات العقلية والخلقية! هل فى الخصيتين مصانع عالمية تديرها عصابة من العباقرة تصنع ذلك؟ لا شىء هنالك، إن هذه الغدد تأخذ مادتها من الدم، والدم يجىء من الغذاء، والغذاء يجىء من الطين! والمشرف أولا وآخرا على هذه الأطوار هو الله (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) [السجدة : 7ـ9]. والمدهش أن الإنسان يتخلق من حيوان منوى واحد فقط والبقية الأخرى من المائتى مليون تذهب إلى دورات المياه! كأن الله يقول للإنسان المتكبر: إن إيجادك، وإيجاد مليارات مثلك لا يكلف شيئا. قلت لامرئ أحمق يزعم أنه يشتغل بالفلسفة: من صنع البويضة فى رحم أمك؟ ومن صنع الحيوان المنى الذى اخترقها واستقر فيها؟ إن كلا من أبويك لا يدرى شيئا! وتجيء أنت تصطنع الإلحاد؟ (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون)!!. الدليل الثالث: إن الأرض التى نحيا فوقها حافلة بالروائع، فأنت واجد بها جنات معروشات وغير معروشات، وحقولا وغابات، وأنواعا من الثمار لا حصر لها بين حبوب وفواكه وموالح وزيوت وأنسجة، وألوانا من الأزهار المختلفة الريح و الصبغة..الخ . من منشئ ذلك كله؟ إن الفلاح يشق الأرض ويلقى البذر ولا يدرى شيئا بعد إنه يشهد ما تصنع القدرة العليا، ويستقبل هدايا الله وهو مستسلم! أما يدفع شىء من هذا إلى معرفة المنشئ المبدع؟ أما يبعث ذلك إلى إدراك قصة الحياة والموت؟ ص _153(1/142)
فى سورة الواقعة تجىء إشارات إلى ما فى الزرع والحصاد من دلائل على البعث الأخير (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون) [الواقعة : 63ـ65] إن إحياء الموات قصة تتكرر فى أرجاء الدنيا (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [ يس : 33]. وإخراج البشر من أجداثهم لا يزيد عن إخراج النبات من ظلمات التراب حاملا صنوفا من المعادن والمواد المذهلة (والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) [نوح : 17 ، 18]. وفى سورة أخرى بيان أكثر (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) [ق: 7ـ8] إن التوبة هنا يقظة عقل كان غافيا فصحا، وكان ذاهلا فانتبه، وعرف ربه، وتطرد السياق،(ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) [ق : 9ـ11]. نعم الخروج للقاء الله، ومواجهة الحساب مثل هذه الزروع التى خرجت من التربة العفنة السبخة تحمل السكر والدهن والنشا وتتوزع عليها ألوان الطيف، وشتى المذاقات! ماذا يدعو إلى إنكار البعث، وفى كل حين بعث؟ وقد يتصور الفلاح أن له عملا فيما تتم، فبين الله أنه لو أراد دمر ما أنشأ، وأرسل البلى إلى الزروع ، فأهلكها، أو منع عنها القطر، أو أسلمها إلى أسراب الجراد (لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون) [الواقعة 65ـ 67]. والتفكه من كلمات الأضداد يطلق على ما يسوء وعلى ما يسر، وهو هنا بالمعنى الأول، والغرامة والغرام بمعنى واحد! والمراد أن بعث الأجساد كاستنبات الأرض، عمل تبرز فيه قدرة بديع السموات والأرض، ويجب أن يكون مثار إيمان بالبعث والجزاء. ص _154(1/143)
الدليل الرابع: (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) [الواقعة : 68ـ70] إن الماء أصل الحياة، وأساس بقائها قال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) [الأنبياء : 30] ويكون الماء أربعة أخماس سطح الأرض ، وله دورة تستحق التأمل العميق! فإن الريح تسوق السحب- مثلا- من المحيط الهندى لتسقط المطر فى هضاب الحبشة، ثم يحمل النيل إلينا نطاف الماء فى مصر فنستقى ونسقى أرضنا ودوابنا، ثم يذهب الماء المستعمل إلى مصارفه ومجاريه، ويأخذ سبلا لا ندريها ليعود إلى البحار والمحيطات مكملا دورة، ومبتدئا دورة أخرى لا يزيد ولا ينقص! قال تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) [المؤمنون : 18]. نعم، الذى أوجده قادر على الذهاب به! وهذا كقوله فى الزرع (لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون) [الواقعة : 65] ويقول جل شأنه فى هذه السورة: (لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) [الواقعة : 70]! إن المشيئة العليا وحدها مرجع الإيجاد والإفناء، والماء- وهو الوسط الطبيعى للحياة هنا، وللحياة بعد الموت- عنصر طيع لهذه المشيئة المطلقة، وقد جاء فى السنة أن "الله ينزل مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس " وكانوا فى قبورهم هلكى.. وعذوبة الماء تتم فى الجو، بين تفاعلات كهربائية تحدث عنها علماء الطبيعة، يشرف عليها الله وحده.. الدليل الخامس: (أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) [الواقعة : 71ـ73] هذا دليل- كما أرى- يكشف عنه العلم الحديث، فنحن عندما نتنفس نأخذ " الأوكسجين " ونطرد "ثانى أكسيد الكربون ". وعكس ذلك يفعل النبات، فهو فى تنفسه يأخذ "الكربون " ويدع "الأوكسجين ". والكربون هو الفحم! وعجيب أن تكون الخضرة مخزنا للوقود، وأن يكون رفيف ص _155(1/144)
الحياة ستارا لأسباب الاحتراق والتلاشى ، إن الشجر فى جذوعه وفروعه وأوراقه الخضراء لا يلبث أن يجف ويتحول إلى هشيم تتأجج به النار! وهكذا نرى الموت فى تضاعيف الحياة. إن خواص المادة، مفردة كانت أو مركبة، لا تزال موضع الدراسة والاستفادة، والمركب الكيماوى قد تظهر له صفات مضادة للمفردات التى تألف منها، فالماء مثلا نشربه لنرتوى به ونذهب عطشنا! على حين نرى عنصريه اللذين تكون منهما أقرب إلى الإحراق منها إلى الإرواء! ونحن نبصر فى الحدائق والحقول آيات النضارة والنماء، ولا نبصر ما يتم بعد قليل من مظاهر التلاشى والاحتراق، وكذلك تتعاقب الأضداد، وما أيسر ذلك على القدرة الإلهية (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) [آل عمران : 27] والأخشاب والأحطاب التى تتحول إلى تراب، يتحول ترابها مرة أخرى إلى سماد لأنواع النبات، كما يتحول النبات الذى نطعمه إلى خلايا حية فى أجسامنا! الواقع إن الإنسانية كلها أمام موعدين: أحدهما قريب متعجل، والآخر متراخ متمهل..! إنها أمام الموت الذى لا يطول غيابه، ولابد لكل امرئ أن يذوقه، ثم هى أمام الساعة التى لابد منها وإن طالت الأيام (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) [الأنعام : 2]!! (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران : 9]. والتكرار المتعمد لذكر القيامة ليس تهديدا للحضارات أو وقفا للعمران البشرى- كما فهم القاصرون- وإنما هو لكسر الغرور، وقمع التطلعات الطائشة. والبشر مازالوا بحاجة ملحة إلى تذكر يوم القيامة، فإن هذا التذكر يهذب غرائزهم ويكفكف أطماعهم، والعقل العادى إذا علم أن هذا اليوم حق لم يؤثر قليلا على كثير، ولا فانيا على باق، ولم يزهد فى جزاء الآخرة كما هو مسلك الحضارة المعاصرة! ص _156(1/145)
إن العلم الحديث ربما نجح فى استكشاف بعض أسرار المادة وقوى االكون ، فما دلالة ذلك وما جدواه؟ إنه لا يلغى حكمة الوجود ولا رسالة الأحياء على ظهر الأرض، تلك الرسالة التى لخصها القرآن الكريم فى هذه الكلمات (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) [الملك : 2]. بل إن ميدان الاختبار الإلهى يتسع ويعمق بقدر ما انفتح على الإنسان من إمكانات مادية وأدبية! وقد ختمت سورة الواقعة بلون من التحدى تخسأ أمامه الخلائق: هل يستطيع أحد الإفلات من الجزاء الحتم؟ هل يقدر البشر مهما سند بعضهم بعضا على أن يدفعوا الموت، وينقذوا منه قريبا أو صديقا؟ (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين) [الواقعة : 83ـ87]. لن ترجع نفس إلى الدنيا بعدما استوفت الأجل المكتوب لها! بل سينقسم البشر زمرا وفصائل حسب ما قدموا لآخرتهم ، ويتوزعون على الدرجات التى اكتسبوها. (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم) [الواقعة : 88ـ89] أى فراحة بعد تعب، وأزهار الريحان يحيون بها عند مقدمهم إلى الجوار الكريم فى جنات النعيم، وهذا لون عال من التكريم. (وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين) [الواقعة 90ـ91] هذه تحية الملائكة للناجين الناجحين فى معركة الحياة، تستقبلهم لتكون بشرى سارة يوم عودتهم إلى الله. (وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم) [الواقعة : 92ـ94] هؤلاء هم أصحاب الشمال، وذاك مصيرهم ا لأسود.. هكذا صدق آخر السورة أولها، ولخص مجملها، فهل يعى الناس ما يستقبلون من هذه المصائر؟ سواء وعوا أم ذهلوا فلن يتغير الواقع (إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة : 95ـ96]. ص _157(1/146)
المحور الخامس ميدان التربية والتشريع وهو المحور الخامس من المحاور القرآنية، وحديثنا فى الجزء الأول منه. إن الدارسين لسيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوقنون بأنه أعرف الناس بالله، وأنه- من هذه المعرفة- يعيش فى نهار موصول الشروق، وقد استطاع بروحانيته المشرقة أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن ينقلهم نقلة بعيدة المدى إلى مستويات رفيعة من أدب النفس وتقوى الله! قد يظهر الساسة الكبار إلى جواره أقزاما بعد التغيير الحاسم الذى أحدثه فى العالم، فمحا دولا وأثبت أخرى، أو أنشأها من عدم! لكننا نأبى وصفه بأنه زعيم سياسى لأن الصفة البارزة فى شخصه أنه إنسان ربانى مهمته بعد أن عرف الله الواحد أن يعرف الآخرين به، وأن يملأ أفئدتهم إجلالا له، وأن يجعل كلمة الله هى العليا فى طوايا النفس وأرجاء المجتمع.. كان يعلم الناس أن الرذائل قبيحة، وأنها يجب أن تترك " لأن الموصولين بالله ما يكونون أراذل! وكان يعلمهم أن الفضائل جميلة وأنها خلق الإنسان العالى، بيد أن المهم أن يكون صادقا لله وفيا لله رحيما لله!! إن الربانية خاصة الأمة التى بناها محمد، هى أساس أنشطتها فى اليقظة ورؤاها فى ص _158(1/147)
النوم.. والحضارة الإسلامية تنهض على هذا اللون من الإيمان الذى يجعل الله غاية كل سعى وباعث كل حركة، فلا عجب إذا كان شعارها فى السلام والقتال.. الله أكبر! والبون هائل البعد، بين هذه الحضارة الربانية، وبين الحضارة المعاصرة، التى تصف نفسها بأنها إنسانية، إن الإنسانية صفة شريفة، ولكن علاقتها بالله هى التى تصونها، وتمنعها من ا لانحدار إلى درك الأنانية، والعكوف على المآرب الدنيا! أما الربانية فهى إنسانية عرفت حقيقتها ووظيفتها، وتحركت فى نطاق الحق والخير! وأساس الكمال، عقيدة صحيحة! فإذا كان المعتقد باطلا، كان البنيان على شفا جرف هار! والاعتقاد الصادق، إن لم يدفع إلى التسامى، ويتطلع إلى الطهر، فلا خير فيه. ومن ثم كان الإسلام فى منهاجه التربوى، بعيدا عن الخرافة؟ لأنه قائم على الصدق العقلى! بعيدا عن الظلام ؛ لأنه يسعى نحو النور (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) [النساء : 174ـ175]. البرهان مسار العقل، والنور مسار السلوك... وعندما نتدبر رسالة ا لإنسان، كما وصفها القرآن الكريم، نعرف درجة الرفعة المنشودة له... إن الله لم ينفخ من روحه فى الكيان الآدمى، ليكون الإنسان سبعا ضاريا، بل ليرشحه لمكان كريم. قد رشحوك لأمر، لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل.. وبهذه النفخة العليا استحق أن يقال فى شأنه: (إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة : 30]. والخطأ العارض للإنسان لا يهدم مكانته، إلا إذا صحبه الإصرار والإسفاف، أما ا لإلمام العابر، فإن دائرة الغفران الواسع، تحيط به، وتمحو أثره.. ص _159(1/148)
والعبادة التى خلق من أجلها الإنسان، يجب أن تفهم على وجهها الصحيح! كان الرقيق قديما يكدحون لسادتهم، ويعودون عليهم بثمار لغوبهم، أما رلت العالمين فلا ينتظر من عباده نائلا، إنه هو الذى يطعمهم ويسقيهم! كل ما كلفهم به أن يعرفوا وضعهم منه على حقيقته، فيجعلوا ولاءهم له، وانتماءهم إليه، ويشاركوا الملأ الأعلى فى تسبيحه وتحميده ، فلا يليق أن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره، ولا يليق أن يطلبوا من عباد مثلهم ما لا يقدر عليه إلا هو، ولا يجوز إذا غلطوا معه ألا يعتذروا إليه. أهذه واجبات ثقيلة؟ ما يستثقلها إلا قليل الحياء! وهذا معنى الآيات (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات : 56ـ58]. وتكمل معرفة رسالة الإنسان فى الأرض بمعرفة الحكمة الثالثة من خلقه؟! (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) [هود : 61]. وقد شرحنا فى صدر هذا البحث أن تعمير الأرض يحتاج إلى ملكات نضيرة، وذكاء حاد، ونشاط دءوب، وعلوم تستكشف القوى والأسرار المخبوءة، وأيد مقتدرة تثير الأرض وتحسن ارتفاقها لمصالحها الخاصة، كما تحسن تطويعها لنصرة عقائدهما و مبادئها. وإننى لأشعر بالعار حين أرى شعوبا تنتسب إلى الإسلام قد ذبلت مواهبها، وشلت سواعدها وعاشت على ظهر الأرض ثعالب تأكل من فضلات الأسود، وترنو إلى ما بأيدى الآخرين بعينى عاجز مشدوه، أو متسول فقير! هؤلاء الناس لم يعرفوا رسالة الإنسان فى الحياة كما شرحها الإسلام، ولم يعرفوا مطالب الجهاد لحماية الحق، فهانوا وهان الحق بهم... والتربية الصحيحة تقوم على وعى عام بغايات الوجود، ثم على وعى مفصل بمعالم الكمال التى أسهب الدين فى شرحها، واستفاضت أنباؤها فى الكتاب والسنة... ص _160(1/149)
وقبل الخوض فى هذا التفصيل نذكر أن علماء النفس ذكروا مظاهر الشعور الثلاثة، وأوضحوا ما بينها من ترابط. فهناك الإدراك العلمى، تتبعه الصبغة الوجدانية، يتبعهما النزوع السلوكى... فاستنارة العقل ! تعقب عادة أثرا فى الفؤاد، ثم يجئ العمل والانبعاث إليه نتيجة لازمة... والذين يعرفون ربهم، لابد أن يخضعوا له، وميادين الخضوع ذات شعب، تتفرع فى الحياة، كما تتفرع العروق فى أنحاء الجسم.. على أن الأمور لا تمضى بهذه السهولة عند التطبيق! وكثيرا ما تبرز عوائق تفك الارتباط بين العلم والعمل والرغبة والتنفيذ. ومن هنا كانت التربية الناجحة مهمة شاقة، وكانت صناعة الإنسان من أعقد الصناعات فى هذه الدنيا.. لكن ما منها بد، وإلا تركنا الإنسان ينحدر إلى درك بعيد القاع وتركنا الأمة الإسلامية خاصة تنسى رسالتها، وتجهل الحق الذى آتاها الله، وتكون مصدر فتنة عمياء فى الأرض كما هو واقع الآن! إيمان عقيم وكفر متحرك! إسلام مهيض الجناح وإلحاد حاد السلاح! ادعاء للتقوى، يشينه الغباء، ونسيان الله، يصحبه تفوق علمى فى البر والبحر والجو!! ولنترك العويل ونبدأ السعى، لقد ذكرنا الحكمة من الوجود كما سجلها كتابنا.. لكن الكلام المجمل لا يغنى عن البيان، فلنأخذ بيد أمتنا بالأسلوب الذى أنسناه فى ديننا مبتعدين عن المصطلحات الفنية المحدثة.. ما يحبه الله وما لا يحبه: وأول ما نقف عنده من معانى التربية عبارة " الله يحب، والله لا يحب " فإذا كنا مؤمنين بالله راغبين فى مرضاته أسرعنا إلى فعل ما يحب وترك ما يكره.. وسنلاحظ عند السرد أن ما يحب الله وما لا يحب ينصب على أمور تتسم بالعموم، وأن الإنسان عندما يستصحبها يحقق زكاة نفسه، ورفعة جنسه فى آفاق الحياة كلها، فليس الأمر عبادة داخل مسجد، بل عبادة فى كل مكان.. ص _161(1/150)
إن الله لا يحب المعتدين: أول ما قرأت فى المصحف الشريف: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة : 190]. وبعد سطور قليلة: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [البقرة : 195] هذه قوانين عامة يجب أن تضبط مسالك الناس جميعا.. فى البحار وفى الغابات يسود قانون القوة، فالأسماك الكبرى تبتلع الصغرى! والوحوش الكاسرة تلتهم الحيوانات الأليفة أو الضعيفة.. ليس هناك عقل ولا عدل! فهل تسود هذه الشرعة بنى الإنسان؟ إن هناك أناسا لهم فضول! أموال وأوقات وذكاء وقدرة يحبون أن يقتحموا غيرهم بما أوتوا ويستبيحوا حقوقهم وحرماتهم.. والعالم يعانى من قديم آثار هذه المظالم، والوحى الأعلى من قديم يناشد الناس أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان!! فى صباى شاهدت عقدا بين مالك أرض ومستأجرها، فرأيت المستأجر وقع على بياض تاركا للمالك أن يضع القيمة التى يفرضها، فى اليوم أو فى الغد! ورأيت أولئك الأجراء إذا ظفروا بالكفاف من عملهم طوال العام، حمدوا الله على السلامة. وتغيرت الدنيا، وأمسى لعقد الإيجار معنى آخر، فقد صار عقد تمليك فى الحقيقة، فالمستأجر لا يخرج من الأرض، وإذا أراد صاحبها أن يبيعها قال المستأجر: أرفض إلا إذا أخذت نصف الثمن! وهكذا أصبح المظلوم ظالما، وكأن المجتمع تحكمه قاعدة: إن الله يحب المعتدين! هذا إذا ذكر الله! وسمعت من سنين مقتل عشرة من علماء المساجد فى قطر إسلامى إفريقى، رفضوا انقلابا شيوعيا، يريد إطفاء أنوار الإسلام! وكان الخبر من إذاعة أوروبية، لأن الإذاعات العربية آثرت الصمت! ص _162(1/151)
وغضبت للمأساة لجنة العفو الدولية، وأعلنت استنكارها بصوت عال! فقلت فى نفسى: أصحاب الفطرة السليمة يأبون الصمت على جرائم متدينين كذبة، بعضهم قاتل، وبعضهم يسكت رضا أو جبنا أو عدم مبالاة بجرائم القتل! الحق يقال إن استمرار العدوان، ورؤيته ببلادة يشيع فى الأمة لا يمكن أن يكون إيمانا! هذا مسلك أقوام لا يعرفون الله ولا يبالون بما يحب ولا بما يكره! أليس عجيبا أن تهبط أمتنا إلى هذا الدرك؟ إن الأمة ألفت ألوان الاعتداء سياسية كانت أو اقتصادية، حتى أصبح الأمان سرابا لا يبلغه أحد.. فلنسمع إلى حديث نبينا عليه الصلاة والسلام فى هذا الشأن. قال: " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش فإن الله لا يحب الفاحش والمتفحش، وإياكم والشح فإن الشح دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . وقال: " إن الرجل ترفع له صحيفته يوم القيامة حتى يرى أنه ناج، فما تزال مظالم بنى آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم " . وقال: " ما من مسلم يخذل أمراً مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله فى موطن يحب فيه نصرته " . وقال: " لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعا على وجوههم فى النار " . ص _163(1/152)
وقال: " عرض على أول ثلاثة يدخلون النار : أمير مسلط، وذو أثرة من مال لا يؤدى حق الله فيه، وفقير فخور " . إن الله أعلم الناس بما لهم وما عليهم، فيجب أن نبنى التربية الإسلامية على احترام الحقوق والواجبات، ويجب إذا أحب الله شيئا أن نسارع إليه وإذا كره شيئا أن نبغضه. إن هناك مجتمعات تنتمى إلى الإسلام، تهدر فيها الحقوق، وتضيع الواجبات، ويتقدم فيها الشطار والمكرة، ويتأخر فيها أولو المروءات والنهى، فما قيمة هذا الانتماء وما جدواه:، حيث تغيض منابع التربية الدقيقة، تملك غرائز السوء النشاط كله، فلا ترى إلا تهارش السباع، وتظالم الغالب والمغلوب. روت عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبى مجاب الدعوة: الزائد فى كتاب الله (بالبدع والخرافات). والمكذب بقدر الله (يحسب أن زمام العالم يسير وحده). والمتسلط على أمتى بالجبروت ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله (وما أكثر هؤلاء المتسلطين فى التاريخ القريب والمعيد). والمستحل حرمة الله (مستبيحو الرذائل والمعاصى). والمستحل من عترتى ما حرم الله (قتلة أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام). والتارك السنة (يعنى من يأبى العمل بها . . .) . وقد ذكرت ذلك الحديث لأنه تضمن صورا من الاضطراب الاجتماعى تشيع مع اضطراب الأمن وكثرة الاعتداء على الحقوق. ص _164(1/153)
الإحسان: وننتقل إلى عنصر آخر من عناصر التربية الواعية نأخذه من قوله تعالى : (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [ البقرة : 195] والإحسان فى صورته العليا صفة رب العالمين، لأن الإساءة تنتج عن الجهل والعجز والقصور وما إلى ذلك من أوصاف مستحيلة على الله! إنه سبحانه تحدث عن صنعه للكون الكبير، فقال: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) [النمل : 88]. وطلب إلى الناس أن يفتشوا عن مأخذ فى هذه الصناعة الباهرة يشينها، وهيهات: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) [الملك : 3ـ4]. ووراء ظلمات ثلاث من البطن والرحم والمشيمة ترى القدرة العليا تنشئ الإنسان خلقا من بعد خلق، وتقيم بناءه خلية متراكبة مع خلية وجهازا فوق جهاز حتى يستوى آخر الأمر إنسانا سوى التكوين والتصوير! من فاعل ذلك؟ (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) [السجدة :7]. ص _165(1/154)
والله سبحانه عندما نشر أبناء آدم فوق الثرى، وناط بهم رسالة الحياة كلفهم- كى يكونوا ربانيين- أن يحسنوا العمل، وأن يبلغوا به درجة الكمال وإذا غلبتهم طباعهم الضعيفة فلم يصلوا إلى هذا الشأن وكرروا المحاولات، ولم يستريحوا إلى نقص أو قصور، ولايزالون يجاهدون حتى يبلغوا بأعمالهم درجة الكمال المستطاع. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسان على كل شىء... " . ومر النبى - صلى الله عليه وسلم - على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهى تلحظ إليه ببصرها، قال: أفلا قبل هذا... أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها " ! وعن ابن سيرين " أن عمر- رضى الله عنه- رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا ". إن الدين إذا لم يكن ارتفاعا بمستوى الإنسان فما يكون؟ وفى هذه الأيام العجاف أرى جماهير من المسلمين، أبعد أهل الأرض عن حقيقة ا لإحسان! بيوتهم رديئة، وطرقهم رديئة، وسيرهم رديء، وإذا صنعوا سلعة خرجت من بين أيديهم دون غيرها مما يصنع الناس، وإذا أرادوا عملا استغرق الكثير من الأوقات والجهود، ولم يبلغوا به درجة الاكتمال التى يحققها قن بذل جهدا أضعف ووقتا أقل!! كأنهم من طينة غير طينة البشر خلقوا! هؤلاء الناس فى انتمائهم الدينى ريب كبير، ولكى يعودوا إلى الإسلام يجب أن يعاد تشكيلهم العقلى والخلقى حتى إذا باشروا عملا ما أقبلوا عليه بقواهم المادية والأدبية كلها، فخرج سليما كريما.. لاسيما ونحن فى حضارة صناعية تقاس فيها ا لأبعاد " بالمليمتر " أو بما دونه، ولا تقبل فيها المجازفات والمساهلات والمصادفات العمياء... وللإحسان فى الكتاب الكريم معان عدة يدل عليها السياق، فقوله تعالى: ص _166(1/155)
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان) [النحل : 90] إشارة إلى الفضل مع العدل. فالعدالة لابد منها لضبط الأمور وإنصاف الناس بعضهم من بعض. أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب القرظى أنه قال: دعانى عمر بن عبد العزيز فقال لى: صف العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل أخا وللنساء كذلك! وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، ولا تضربن فى غضبك سوطا وأحدا فتكون من العادين.. ذاك وصف العدل أما الفضل فله سيرة أخرى لعل أقربها ما جاء عن على بن أبى طالب أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: " ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وأن تعفو عمن ظلمك ". وذاك هو الإحسان، ولعله المقصود من الآية الأخرى: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) [آل عمران : 134]. وكظم الغيظ مرتبة عالية، وقد يكون من أسرار الغضب والخصومة، . والمرتبة الأعلى هى العفو مع القدرة، وتلك درجة الإحسان! وقوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [البقرة : 195]، يذكر معنى آخر للإحسان، فالأمم لا تخدم رسالتها بالبخل وكراهية الإنفاق فى سبيل الله، والحروب قديما وحديثا تتطلب مالا كثيرا، وقد بلغت الضرائب على الدخول فى الحرب العالمية الثانية تسعة أعشار ما يكسب الإنسان! والحرب الذرية تستهلك قناطير مقنطرة من الذهب والفضة فى إعداد القذائف وإحسان توجيهها وتدريب الجنود والشعوب على مواجهتها وتحمل آثارها. والعرب وجمهور المسلمين مكلفون بمعرفة هذه الحقائق، ولن يسلم لهم دينهم وتبقى لهم بلادهم إلا إذا توسعوا فى الإنفاق الحربى، وأحسنوا تهيئة كل شئ لكسب المعركة... ويشهد لذلك ما جاء فى آيات أخرى عن حقيقة الإحسان ودائرته الرحبة، فهى ص _167(1/156)
تتطلب الصمود والبسالة إلى الرمق الأخير: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) [آل عمران : 147ـ148]. وهكذا نرى الإحسان يشمل الفرد والمجتمع والدولة، ولن تقوم تربية راشدة إلا إذا غرسنا معنى الإحسان فى النفوس على أنه من محاب الله تبارك وتعالى. إن الله أصلح الأرض بما وضع لها من سنن، وأنزل فيها من وحى ، فلماذا يحاول بعض الناس إفسادها بالفوضى والإهمال والتسيب؟ لقد رأينا من يباشر العمل وهو خامل، ويقبل عليه دون مبالاة بنتائجه، ويتركه يمشى فى غير مساره، ولا يشعر بما يصنع من تخريب يهلك الحرث والنسل! فهل خلق الناس لينشروا هذا العبث؟ (والله لا يحب الفساد) [البقرة : 205] ويقول الله لقارون: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص : 77]. والفساد المكروه له مظاهر شتى، أولها الخروج على سنن الله الكونية والاجتماعية ومعالجة الشئون الخاصة والعامة بالهوس والقصور.. وقد يبدأ ذلك بأمور تافهة، مثل ترك صنبور الماء مفتوحا دون سبب، أو مكسورا دون إصلاح، أو ترك خلل طارئ ليصبح عاهة مستديمة، أو شرر محقور ليتحول إلى حريق مستعرة.. إن الأمور صغيرها مما يهيج له العظيم! وهناك فساد إدارى بالغ الأضرار فى العالم الثالث! فالرجل يتولى المنصب العام فيحسبه متعة خاصة أو جاها شخصيا ولا يعلم أنه مسئولية جسيمة وأمانة صعبة. ومن ثم لا يتيقظ لمطالبه ويلا يسهر على مراقبته، وقد رابنى فى ميدان الإدارة أن الرئيس والمرءوس يحتالان على الهرب، وقد يشتد غيظى عندما يتذرع البعض بإقام الصلاة على ترك الأعمال ساعة أو نصف الساعة قد تصاب فيها الآلات بالعطب أو الإنتاج بالنقص!! ص _168(1/157)
فى أقطار أخرى يتنافس العاملون على أداء العمل فى أقصر وقت، وبأقل جهد، وعلى خير وجه، أما نحن ففى واد آخر من الغفلة والتسيب. والإدارة فن، يقوم على النشاط، والذكاء، والانتباه، والابتداع، وقد ألهم العرب هذه الخصال فغلبوا بها دولا ذات تاريخ عريق. والذين درسوا خطة خالد بن الوليد فى معركة اليرموك، أو خطة الصحابة فى معركة الأحزاب، يعجبون لتفوق المسلمين الإدارى. أما اليوم فإن أساليبنا فى إدارة الأعمال، لا تنبع من فكر ثاقب، أو عزيمة منعقدة، فما قيمة إيمان يفقد هذه العناصر؟ الرسالات العظيمة تنجح عندما تجند لها المواهب العظيمة، وهذه المواهب تبدأ بتعود النظام، وتنمية الملكات، واستكشاف القدرات والخبرات. والتجاوب مع فطرة الله فى الأنفس والآفاق. والكراهية الشديدة للتبلد والكسل والعجز، والكراهية الأشد لإنشاء الفساد، ورؤية الفوضى تدس أصعابها فى كل شئ فتجعل العامر بلقعا، والدين تواكلا وتخلفا وانهزاما أمام إلحاد مقدام. وشهوات جموح..!! إن الله يحب التوابين: وهذا أفق آخر من الكمال المادى والمعنوى وصفه القرآن الكريم بقوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة : 222] . أى يحب سناء الأرواح وكمال الأجسام كما يشير السياق. إن البشر لهم أجساد حافلة بالأجهزة والغدد التى لا تنقضى إفرازاتها وفضلاتها، ولو تركت من غير تنقية وتطهر، لأنتنت وكانت مثار اشمئزاز. كما أنهم يحيون فوق الأرض التى يهيج فوقها الغبار، وترتفع الحرارة فيتلوث الجلد بالعرق والأدران فلا جرم أمر الإسلام بتجديد الوضوء، والتعهد المستمر للنظافة الشاملة للجسم والثوب والمكان. ص _169(1/158)
وليس هناك نظام أرضى أو سماوى اهتم كل هذا الاهتمام بجمال الجسم وطهارته! وكان نقاء المسلمين البدنى شارة تميزوا بها بين الشعوب الأخرى. وفى الحديث أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى المقابر فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون! وددت أنا قد رأينا إخواننا! قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابى! وإخواننا الذين لم يأتوا بعد!، قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرايت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهرى خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من آثار الوضوء! وأنا فرطهم على الحوض "! وجرت العادة أن ينظف المرء نفسه، وأن يصلح هيئته عندما يخرج على الناس، كأنما يكره أن يراه الناس على غير ما يشتهى! وهذا شعور حسن! وأحسن منه أن يحرص على استكمال طهارته ووجاهته، خاليا أو مع الناس، نائما أو يقظان، لا لشيء إلا أنه ينبغى أن يكون جميلا، وأن يراه الله فى أشرف صورة فإن الله جميل يحب الجمال..! وتدبر هذه ا لأحاديث، عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " طهروا هذه الأجساد، طهركم الله تعالى! فإنه ليس من عبد يبيت طاهرا إلا بات معه فى شعاره ملك لا يتقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهرا". وعن معاذ بن جبل عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما من مسلم يبيت طاهرا فيتعار من الليل- يستيقظ- فيسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ". إن المسلمين نماذج رائقة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم، فأين أجسامنا وطرقنا وقرانا ومدننا من هذه التعاليم الوضيئة ؟ على أن جمال الظاهر لا يغنى فتيلا عن جمال الباطن، والبيت الحسن الطلاء لا قيمة له إذا كان رديء المرافق بالى الجدران تسرح فيه العناكيب والهوام.. ص _170(1/159)
ومن هنا أمر الإسلام بتحسين السريرة وتخليص النفس من العلل والمقابح. والإسلام لا يطلب العصمة الدائمة فذاك مستحيل، ولسنا ملائكة نقية المعدن موصولة أبدا بالسماء ونورها. إننا بشر نخطئ ونصيب ونعثر وننهض ونعتكر ونصفو! والمطلوب إذا غلطنا أن نصحح الغلط، وإذا سقطنا أن نتجاوز الزلل! فإن من أصر أحاطت به خطاياه فأردته، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء فى قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها... وإن زاد زادت- إن زاد العصيان زاد السواد- حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذى ذكر الله فى كتابه: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ولما كان الخطأ طبيعة فى الإنسان، وجب أن تكون التوبة عادة لازمة له! ومن لطف الله أنه كتب عدى نفسه الرحمة، وأنه يهش للنادم إذا استقام بعدما انحرف. عن أبى موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" . وإنما وقت قبول التوبة بهذا الحدث الكبير؟ لأنه نهاية المهلة الموضوعة للبشر كى يؤمنوا بملء حرياتهم! فإن الطالب يظل امتحانه صحيحا مادام يكتب من ذاكرته! فإذ! وضع بين يديه كتابا يقرأ منه الجواب بطل الامتحان. ولذلك لا توبة عند الغرق، ولا توبة فى النزع الأخير " عن عبد الله بن عمر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أى عند بلوغ الروح الحلقوم!! والمغريات بالانحراف والذهول كثيرة، وما يعرو الروح منها يساوى ما يعرو البدن من عرقه وفضلاته ومن ثم كان لابد من غسل النفس بالتوبة وغسل الجسد بالماء، وكلاهما طهور، وذاك معنى الآية: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ص _171(1/160)
والإسلام أوضح أن المرء وحده،هو الذى يطهر نفسه ويمحو ذنبه ويصنع عند الله مستقبله، ويستحيل أن يمنك ب!ر شيئا من هذا. فالزعم بأن فلانا قتل تزكية لنفوس هابطة، أو تفدية لقوم مخطئين غير مقبول! إذا اتسخ ثوبك فلا نظافة له إلا بغسله!! وإذا غسل البشر جميعا ثيابهم فلن ينتهى ذلك ثوبك من دونه.. ستبقى على حالك حتى تطهر أنت ما تلوث منك؟ وعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو أخطأتم حتى تبلغ- خطاياكم- السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم "..! يمحق الله الربا: وفى الدنيا صنف من الناس! لا يعرف إلا "هات! " إنه يركض فى فجاج الأرض ليأخذ لا ليعطى، وإذا أخذ هاجت غرائزه إلى المزيد، وإلى أن يضم طريفا إلى تليد، فهو يأكل ولا يشبع، وأثرته تجعله بليد الإحساس بحاجات غيره فليس يبالى- كى يتضخم- أن يجتاح ضرورات الآخرين ويبنى على أنقاضهم صرحه! إنه لا يتصدق، لأن الصدقة عطاء، وهو لم يوق شح نفسه، وفى تجارته، وفى فضول ماله يطلب الربح العاجل أو الآجل! والربا فى منطقه مسلك طبيعى لا يجوز أن يسأل عنه! وهو لا يبالى بآلام الناس! لأنه مشغول بآماله الخاصة، فى هذا الصنف المتوحش يقول الله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) [ البقرة : 276]. وظاهر من كلمة كفار أن الموصوف بها اجتاز عدة مراحل من نسيان الله واعتداء حدوده حتى أمسى الكفر فى نفسه ظلمات بعضها فوق بعض... الحضارة المعاصرة نحيفة الخلق: وفى الحضارة المعاصرة رأينا العالم الأول والثانى يقرضان الشعب البائس فى العالم الثالث على النحو الآتى: عليك ألف، منها ثلاثمائة ثمن سلع من إنتاجنا أنت محتاج إليها فى مشروعات التنمية، وثلاثمائة أخرى أجرة مهندسين وعاملين يشرفون على الآلات ويديرون ص _172(1/161)
للمشروعات! وبقية القرض للنفقات المرتقبة، وعليك أن تدفع 15% فائدة سنوية للمبلغ كله! وبعد سبع سنين يكون المدين البائس قد أدى أكثر مما أخذ، والدين كله باق عليه لم ينقص شيئا! أما الدائن فقد باع سلعه، وشغل أولاده! وبقى ممسكا بعنق المدين يطلب منه الوفاء! إن المدنية الحديثة غليظة العنق نحيفة الخلق، والويل لمن استكان لها، ولم يتحرز من مؤامرتها. وظاهر أن الفكر اليهودى من وراء هذه السيرة الوضعية، والمؤسف أن ساسة الغرب فقدوا كل حصانة دينية لمقاومة سياسة الربا، ومن أين تجيئهم هذه الحصانة؟ ودول العالم الثالث الآن تترنح تحت وطأة ديون تقصم الظهور، ونحن لا نحب أن نجحد حقا لأحد، وقد حذر الإسلام تحذيرا شديدا من أكل أموال الناس بالباطل، ورقب المدين من اللعب بأمانات الناس عنده، بيد أن ما يقع الآن من تظالم يعود إلى ما يسود الدنيا من جشع الأغنياء وبطر الأقوياء.. الإسلام رحمة بالمعسرين: وفى الإسلام جملة من الآثار تنضح بالرحمة، وتغرى الواجد بالسماح إذا رأى معسرا ضاقت به الأرض! عن بريدة عن أبيه قال سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أنظر معسرا فله كل يوم مثله صدقة" ثم سمعته يقول: " من أنظر معسرا فله كل يوم مثليه صدقة " فقلت: يا رسول الله سمعتك تقول: من أنظر معسرا فله كل يوم مثله صدقة، ثم سمعتك تقول: من أنظر معسرا فله كل يوم مثليه صدقة؟ قال له: " كل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة " . وعن حذيفة- رضى الله عنه- قال "أتى الله بعبد من عباده أتاه الله مالا، فقال له: ماذا عملت فى الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثا " قال: يارب أتيتنى مالا فكنت أبايع الناس، وكان من خلقى الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال ص _173(1/162)
الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزا عن عبدى. فقال عقبة بن عامر، وأبو مسعود الأنصارى: هكذا سمعناه من فى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وعن أسعد بن زرارة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر أو ليضع عنه " الربا وأنواعه: وقد تحدث الفقهاء طويلا عن حقيقة الربا ومواضعه فى معاملات الناس، وليس هنا موضع للبحث والترجيح ونجتزئ بذكر سطور من تفسير الإمام الطاهر بن عاشور تلقى بعض الضوء قال: " أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا فى اصطلاح الشرع: الأول. ربا الجاهلية: وهو زيادة على الدين لأجل التأخير... الثانى: ربا الفضل: وهو زيادة فى أحد العوضين، عند بيع الصنف بصنفه- من الأصناف الستة المذكورة فى الحديث- وهى الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح... الثالث: ربا النسيئة: وهو بيع الشيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا، "ثم قال!: وعندى أن أظهر المذاهب هو مذهب ابن عباس، وأن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " (إنما الربا فى النسيئة) . واختلاف الفقهاء لا ينقضى آخر الدهر، بيد أن هناك ما لا خلاف فيه بين علماء الفقه وعلماء التربية: أن حرمة الربا لا ريب فيها، وكذلك حرمة الجشع والأثرة المسعورة وعبادة الدنيا وعبادة الذات. وقد رحبنا ترحيبا غامرا بقيام مصارف إسلامية تنقذنا من الربا وصوره الكالحة... ص _174(1/163)
إلا أن مسالك بعقر العاملين فى هذه المصارف تحتاج إلى تدبر ودراسة! فهناك محافظون ومديرون يحبون أن يأخذوا رواتب أمثالهم فى " بنوك " أوروبا وأمريكا! وقد ألف بعض العاملين شركات خاصة تدر عليهم السمن والعسل.. وقلدهم الموظفون الصغار فى العمل لأنفسهم، ومعاملة الجماهير بجفاء! حتى أن أناسا آثروا البقاء فى البنوك الربوية، ورأوها أسرع فى إنجاز مصالحهم، وإراحة أعصابهم..! إن الله يحب المتقين: إن الإسلام كما حرم الربا حرم قسوة القلب وبلادة الفكر ورداءة الخلق ودوران بعض الناس حول ذواتهم، لا يعرفون غيرها، ولا يحسون إلا حاجاتها... والإسلام ليس شعرا كثيفا أو خفيفا فى بعض الوجوه وإنما هو زكاة نفس وسناء خلق.. إنه ذكاء وابتسام وشرف، وليس عناوين ومظاهر. ويقول الله تبارك وتعالى: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) [آل عمران : 76]. كنا قد شرحنا حقيقة التقوى بأنها استحضار لجلال القائم على كل نفس بما كسبت، وأن هذا الاستحضار يتطلب مسارعة إلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويصنع حصانة قوية ضد ارتكاب الآثام آو التفريط فى الواجبات.. وقد يكون الخوف صانع هذه الحصانة والله أحق من يخشى وقد يكون الحياء والله أحق من يستحى منه! وليست التقوى حالة نفسية تبعث مثلا على الصلاة والصيام، أو تحول دون الربا والخنا بل هى درجة من الانضباط النفسى تحدد مواقف المرء بإزاء العادات والعبادات والمعاملات ومختلف مواقف الإنسان فى الحياة... والآية التى ذكرناها هنا تعليق على موقف اليهود بإزاء غيرهم من الناس ، فإن هؤلاء ص _175(1/164)
اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار، أو أبناء الله وأحباءه، وهذا النسب الخاص يتيح لهم أن يستغلوا الآخرين، ويجتاحوا حقوقهم، بل يحسبون الشعوب الأخرى خلقت لخدمتهم، وهم أولى بما فى أيديها من أموال: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [آل عمران : 75] . والأمى نسب إلى الأمة أو إلى الأم، والنسبة الأولى اصطلاح اليهود فى تسمية الأمم الأخرى كلها.. أما النسب إلى الأم فمعناه الجهل المطلق كأن المرء باق على حالته العقلية التى خرج بها من بطن أمه: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) [النحل : 78] ولا يزال بنو إسرائيل ينظرون إلى جميع الشعوب نظرة استعلاء، ويذهبون بأنفسهم مذهبا هم دونه بيقين، فما يكرم أحد عند الله إلا بالتقوى، ولا قيمة للدماء والأنساب والأموال وسائر فضول الحياة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد * لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله) [آل عمران : 196-198]. وقد أمر المسلمون بتقوى الله فى كل شأن جل أو دق، فعن أبى صعصعة بن يزيد أن رجلا سأل ابن عباس: إنا نصيب فى الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة! قال ابن عباس فتقولون ماذا؟ قال: نقول: لا بأس علينا بذلك. قال: "هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا فى الأميين سبيل! إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم " . وعن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: ليس علينا فى الأميين سبيل! قال نبى الله - صلى الله عليه وسلم - : " كذب أعداء الله! ما من شىء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمى هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفجر ". ص _176(1/165)
والحق أن الفضيلة لا تنقسم ، والإنسان لا يكون أمينا مع هذا وخائنا مع ذاك! الشريف عال فى مسالكه كلها... والتقوى ليست إعلان حرب على الجسد ولا كبتا قاسيا للغرائز! إنها سيرة مستقيمة تستصحب مرضاة الله وتنتظم مع ضوابط الشريعة. قد تخاصم لكن لابد أن تعدل! (اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة : 8]. قد تكره فلا تنس التجمل والإحسان: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) [البقرة : 241] قد يحرجك الصدق! ليكن، وإياك أن تتركه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة : 119]. المهم أن تكون فى أحوالك كلها مرتبطا بربك ملتزما بتوجيهه، والمؤمن الناشط يبدأ عمله بذلك العزم، ومن اللطائف أن النبى- عليه الصلاة والسلام- يذكر المؤمن بالمثل الأعلى الذى يجعله غايته، إن لم يستطع بلوغه اقترب منه! وليستعن فى مسيرته بجهد الصباح والأصيل، وجزء من الليل..! يقول: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدا الا غلبه! فسددوا (اطلبوا الصواب) وقاربوا (إن عجزتم عن الكمال فاقتربوا منه) وأبشروا، واستعينوا بالغدوة (عمل الصباح) والروحة (عمل الأصيل) وشئ من الدلجة (بعض الليل) " . إن العمل الذى تترجم به عن تقواك لربك يبدأ من ساعة خروجك من بيتك إلى مدرستك إن كنت مدرسا، أو إلى شركتك، أو إلى ديوانك، أو دكانك أو حقلك... فى كل ساحة تستطيع أن تترجم عن تقواك لله... ودون ابتداع أو تقعر ضع لنفسك المنهج الدقيق السهل فيما تباشر من عمل، واقصد به إرضاء ربك وخدمة دينك ورفعة أمتك. وفى الحديث "... أحب الدين إليه- إلى الله- ما داوم عليه صاحبه " . ص _177(1/166)
وعن أنس قال لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا بنى إن قدرت أن تصبح وتمسى ليس فى قلبك غش لأحد فافعل! ثم قال: يابنى، وذلك من سنتى ومن أحب سنتى فقد أحبنى، ومن أحبنى كان معى فى الجنة " . قد يحسب البعض أن هذه وصاة خفيفة! لقد رأيت معركة الخبز تخفف وراءها جراحات غائرة فى النفوس، وأنكى منها وأقسى معركة الجاه!! وهل نخر مجتمعنا، وأردى سياستنا، إلا ما فى القلوب من غش وسواد، ولو شغلتنا تقوى الله، لكنا أهدى سبيلا، وأقوم قيلا، إن قسوة القلب جزء من اللعنة التى أنزلهأ الله بأهل الكتاب؟ لما نقضوا مواثيقهم واتبعو! أهواءهم. والمتأمل فى تاريخ أمتنا يرى أن العدوى من السابقين قد أصابتنا- مصداق ما خوفنا منه الرسول الكريم " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم! قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: " فمن إذن؟ " . وفى رواية قيل: " يا رسول الله كفارس والروم؟ قال!: ومن الناس إلا أولئك؟" إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا: ويقول الله تعالى: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) [ النساء : 36] الخيلاء شعور طفولى بالعظمة، والفخر حديث المرء عن نفسه- أو قومه- بإعجاب واعتزاز، وكلا الوصفين ينشأ عن الجهل أو القصور العلمى أو الذهول عن حقوق الآخرين أو الاغترار بالموجود وإن كان تافها والاستهانة بالمفقود وإن كان خطيرا. ص _178(1/167)
فالذى لديه بعض المعرفة، يظن نفسه أوتى العلم كله! وهو فى الوقت نفسه لا يدوى جلال ما غاب عنه، ولم يحط به علما.. وفى ا لأقطار المتخلفة تكون المناصب الرئاسية متنفسا مريحا للكبر والاختيال.. ويستطيع المرضى بجنون العظمة، أن يشمخوا بأنوفهم، وأن يحرجوا غيرهم! أما فى المجتمعات المتمتعة بالصحة النفسية فهيهات أن يقع هذا العوج، إذ عواقب الغرور سيئة كما قال القائل: إذا الملك الجبار صغر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه! وفى الإسلام حرب موصولة ضد الاختيال والاستكبار. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد" . وغزارة المعرفة ونفاسة المواهب وجلالة الشيم ينبغى أن تستر برداء العبودية لله، والإحساس بفضله الأعلى فهو الواهب لكل جميل، وهو ولى الحمد والمنة، وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " من تواضع لله درجة، يرفعه الله درجة، حتى يجعله الله فى أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة، يضعه الله درجة، حتى يجعله فى أسفل سافلين! ". زاد فى رواية " ولو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء، ليس عليها باب ولا كوة، لخرج ما غيبه للناس كائنا ما كان "! ويظهر أن فى الأعمال الصالحة- مهما كتمت طبيعة العطور الفواحة، فهى تنم عن نفسها مهما أخفيت. والشمائل الشريفة وإن لم يتحدث عنها صاحبها تحدثت عنه اليوم أو غدا، وبقدر تواضعه بها يكون ارتفاعها به، وقريب من ذلك قول الشاعر: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم ومن اللطائف الداعية للابتسام، أن يكون الشخص قليلا فى مخبره ومنظره، ثم هو متكبر! ص _179(1/168)
وفى الحديث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إياكم والكبر، فإن الكبر يكون فى الرجل وإن عليه العباءة " . أى وهو يلبس الخيش! وعن أبى هريرة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عرض على أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله منه، وفقير فخور" !! لا شك أن الفقير المختال، يثير العجب، فإن المرء قد يطغى بالغنى، أما أن يطغى بالفقر فلا! وقد يختال فى ملبس فاخر، فيستحق أن يخسف به- كما جاء فى السنة- أما أن يختال بالعرى فشىء جدير بالدهشة... يقول العقاد: " الكبر اعتداء، أو رد اعتداء "، وهذا قول صادق، فبعض المتكبرين يتجاوزون الحدود، ويقترفون المفاسد! وهناك من يشعر بالنقص فيتكبر سترا لنقصه وإخفاء لحقيقته وقد يكون الأول شرا من الثانى، بيد أن الثانى- فى دفاعه عن كيانه- قد يغلو ويستمرئ الغلو فيتورط فى مسالك طائشة.. وخير تعريف للكبر هو قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الكبر بطر الحق وغمط الناس". إن رفض الحق عنادا واستعلاء هو أخسر الصفات، وهو ظلم للحقيقة التى يجب إنصافها على أية حال، والعنيد يأبى الانقياد للحق، ويؤثر إرضاء هواه، والكبر هنا طريق إلى الكفر إن لم يكن إياه، ولعل ذلك معنى الحديث الشريف "لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر" وهو معنى الآية: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) [الزمر : 60]. وقد ألفنا أن يكون العدوان على الحقوق المادية والأدبية المقررة، وهذا نوع مقبوح من الظلم، لكن الشارع عد الاعتداء على الحقائق ظلما أشد وأقسى. ص _180(1/169)
وشر صنوف العدوان ما كان على الحقيقة العظمى، أعنى على وحدة الألوهية وهذا معنى وصية لقمان (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان : 13] ومعنى قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام : 82]. والاستكبار مرفوض فى مواطنه كلها سواء كان على الحقائق أو على الحقوق! قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من كان قى قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه فى النار " . لماذا يشمخ الإنسان بأنفه أو يذهب بنفسه وهو لولا إعزاز الله ذليل ولولا ستره مفضوح؟ وإذا كان لدى البعض فضل ذكاء أو ثراء فمن أين جاءه؟ (إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) [آل عمران : 73] ولو قطع الوهاب إمداده لانتقل العبقرى إلى مستشفى المجانين ولمد القوارين أيديهم متسولين : (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) [الملك : 21]. إن الكبرياء لمن يطعم ولا يطعم، ومن يجير ولا يجار عليه، وسن يحكم لا معقب لحكمه، ومن يستحيل أن يغلب على أمره ومن إليه يرجع الأمر كله، ومن يسجد لذاته أهل السموات والأرض وما بينهما فكيف يجرؤ بشر تسلب حياته جرثومة أن ينازع الله صفاته؟ وأن يتطاول على خلقه؟ إن هناك بشرا يحبون أن تنحنى الظهور لهم، وأن تنشق الحناجر بأسمائهم، وأن يسمع خفق الأقدام خلفهم، فى هؤلاء وأضرابهم روى ابن عباس وغيره قول! رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " يقول الله- جل وعلا-: الكبرياء ردائى، والعظمة إزارى، فمن نازعنى وأحدا منهما ألقيته فى النار " وقال رسول الله: " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب فى الجبارين فيصيبه ما أصابهم "! ص _181(1/170)
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم: ما رأيت شيئا أذهب بالرشد وأجلب للضر وأقتل للتقوى من اللسان السائب! لقد بلوت الكثير من متاعب الناس الخلقية والاجتماعية فوجدتها تعود إلى كلام تنقصه الروية وأحكام ينقصها السداد، ومسالك تقوم على الظنون الغالبة والشائعات الطائرة! ورأيت أن هذا يتكلم ليمدح نفسه، وهذا يتكلم ليذم غيره، وهذا يريد كشف سر مخبوء أو خطأ مستور، وهذا يريد انتقاص كبير أو إهانة كريم، وهذا يريد الغمز واللمز، وهذا يريد الإضحاك والسخرية، وهذا يريد قطع الوقت بلغو لا ثمرة له.. وهذا وهذا. إن الكلام السيئ يضيع المروءة ويميت الصداقة ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، وما يأذن الله لأحد أن يسئ القول إلا فى حالة واحدة: أن يذكر بشر من اعتدى عليه وكأنه يتظلم ممن أصابه وينشد الإنصاف : (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما * إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) [النساء : 148 ـ 149]. يقول الشيخ القطان: " إن الله يحمى سمعة الناس ما لم يظلموا غيرهم، فإن ظلموهم، لم يستحقوا هذه الحماية، وعندئذ يحق للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء فى من ظلمه، وبذلك يوفق الإسلام بين حرصه على العدل وحرصه على الأخلاق ومع ذلك فهو يوجه الناس إلى الخير عامة ويدعوهم إلى العفو عن السوء... ". والكلام صورة حسية لما فى النفوس من طيبة أو خبث، وما فى العقول من ضحالة أو عمق، ولكن يقع كثيرا أن ينطلق اللسان، وليس وراءه فكر ضابط، فيكون الكلام المرسل مؤثرا على النفس لا أثرا لها!! وأغلب الأخطار تجئ من هذا الاضطراب.. فعني سفيان بن عبد الله الثقفى: "قلت: يا رسول الله، حدثنى بأمر أعتصم به، قال: قل ربى الله ثم استقم! ص _182(1/171)
قلت يارسول الله، ما أخوف ما تخاف على؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا" . وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله يقول: " إن الله كره لكم ثلاث: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " . وعن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله يقول: " أكثر خطأ ابن آدم فى لسانه " . ومن المنتمين إلى الدين ناس تؤثر البعد عنهم أو الفرار منهم لأنهم معجبون بأنفسهم، ينظرون إلى غيرهم باستعلاء لاسيما إذا كان منحرفا أو مقصرا، إنه يبسط لسانه فيه وكأنما يتقرب إلى الله بهجائه! ويتصيد التهم له وهو شاعر بالسرور لتجريحه، أو لوقوع العقاب عليه!! إن هذا اللون من التدين بلاء على صاحبه وعلى الناس! وأصحاب القلوب القاسية لا وزن لهم مهما استبحروا فى العلم. وقد روى مالك فى موطئه حديثا كريما ينبغى أن نتدبره طويلا، قال: بلغنى أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسى بعيد من الله ولكن لا تعلمون! ولا تنظروا فى ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فى ذنوبكم كأنكم عبيد! فإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية " . وقد نكبت الأديان من قديم بأقوام غلاظ الأكباد لا يداوون المرضى ولكن يقتلون الأصحاء وهم يسيئون القول ولا يحسنون الفعل.. ولسنا ندافع عن مجرم أو نساند معوجا، بل نكره أن نعين الشيطان على إنسان، أو نجهز على عاثر زلت قدماه، وهو قادر على استئناف السير إذا أنهضناه.. ص _183(1/172)
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما: إن معاصى الجوارح كثيرة، وتجاوز الله عنها مأمول! أما إذا تحول المخطئ إلى فاسق عنيد وانضم إلى شروره إصرار واغترار، فإن الحق والمصلحة، يقضيان بالصرامة معه، ووضع حد لشره. وذلك معنى قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) [النساء : 107]. ومواطن الخيانة والإثم معروفة فى دنيا الناس، وهى تبدأ من الكلمة، يسر بها الرجل إلى صاحبه، فيذيعها ليوقع به أو ينال منه! وتمتد هذه المواطن إلى قمة المجتمعات حيث رياسة الدولة وما يناط بها من أعباء جسام، ثم تتوزع بعد ذلك على جميع الأعمال الإدارية، والفنية، والثقافية التى تتحرك بها الحياة... وللإسلام تعاليم دقيقة فى هذه المجالات كلها إذ الحياة عنده شبكة من المسئوليات التى يحاسب المرء عليها ويهبط أو يعلو حسب موقفه منها. فالمجالس بالأمانات، وإذا حدثك صاحبك بكلمة ثم التفت فهى أمانة! فلا تفش ما استودعت من أسرار، وتأمل فى قول الشاعر: وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على سر بعض غير أنى جماعها لكل امرئ شعب من القلب فارغ وموضع نجوى لا يرام اطلاعها يظلون شتى فى البلاد وسرهم إلى صخرة أعتى الرجال انصداعها وقلما نقلت كلمة إلا مكبرة مرات ومرات، أو مضافا إليها ما يخرجها عن ملابساتها ويميل بها إلى وجهة أخرى والأمانات فى الإسلام كما قلنا، تنتظم الحياة من السفح إلى الأوج، وتجعل المسلم فى البيت أو الشارع، تجاه مسئوليات مادية وأدبية ثقيلة، تجعله يتصرف بوعى، ويضع قدمه بحذر. ص _184(1/173)
وهذا سر ما رواه أنس بن مالك، قال: ما خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا قال: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " !! وما رواه على بن أبى طالب: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفا " . إننا نتعشق المناصب الرفيعة ونسعى إلى توليها، ترى هل نذهب إلى مقار أعمالنا كما نذهب إلى المسجد لنصلى لله؟ إن هذه المناصب أمانات ثقال، وإن التفريط فيها مزلقة إلى النار! ترى هل نعى ذلك؟ أم أننا نحب الرياسة إشباعا لشهوة نفس أو إجابة لجنون عظمة؟ إن الحرص على الإمارة هوى بالمسلمين إلى الحضيض، وإن التنازع على الرياسة هوى بالعرب خاصة إلى أسفل سافلين، وقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبيرا بطبائع الناس عندما قال: " إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ". وفى حديث آخر: " ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا" . والمسلم الصالح يبقى بعيدا عن مظان الطمع والتطلع، فإن طلب لمنصب ورأى أنه قادر على ملئه بفضل الله، قبله على رجاء العون، وإلا فخير له أن يظل عاطلا عنه! وفى الحديث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم مكانة قبيلته قريش بين القبائل العربية، إنها تشبه مكانة إنجلترا الآن بين دول " الكومنولث "، القيادة لها لأسباب حضارية وثقافية واجتماعية ص _185(1/174)
كثيرة، ومن ثم قال: " إن هذا الأمر فى قريش ماداموا إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل " . هل وعت قريش هذا؟ أو هل وعى العرب كلهم هذا؟ إنهم أصابوا الإسلام فى مقاتله بتقاتلهم على الإمارة وتحلب ريقهم إلى الحكم!! إن الوظائف كبراها وصغراها أمانات لا مغانم، وتكليف لا تشريف، وعبادة لا سيادة، وامتحان شاق لا طعمة سائغة. وفى الحديث: " ما من أحد يكون على شئ من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله فى النار " . وقال عبد الله بن مسعود: " الرشوة فى الحكم كفر! وهى بين الناس سحت ". والواقع أن الأجهزة السياسية والثقافية وغيرها تعانى عندنا من أعطاب رهيبة، بل قد أقول: إن خللها عندنا أشد مما يقع فى بلاد أخرى لا تعرف الإسلام ولم تسمع بوصاياه. ولن يستطيع المسلمون استعادة مجدهم وأداء رسالتهم إلا إذا أضحت المصالح العامة والأموال العامة أشد حرمة من المال الخاص والمصلحة الخاصة..؟ لأن الحقوق التى تمثلها المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية واسعة الدائرة تشمل الألوف والألوف من الناس... خيانة وغدر: و الخيانة فى صورها كلها، رذيلة خسيسة، وتزداد خساستها يوم تقترن بالغدر، ذلك ما عنته الآيات: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) [الأنفال : 55ـ58] ص _186(1/175)
وقبل أن نشرح القضية التى نريد شرحها هنا، نصف المجتمع المدنى عقب الهجرة النبوية. قال الشيخ إبراهيم القطان: " لما قدم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة صار الكفار به أقساما ثلاثة: قسما صالحهم ووادعهم على ألآ يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوا له! وهم- مع كفرهم- آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسما حاربوه وناصبوه العداوة، وقسما تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره مع عدوه " . وكان يهود المدينة، وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، من القسم الأول! وقد احترم المسلمون المعاهدة المبرمة مع هذه القبائل كلها فهل بادلهم اليهود وفاء بوفاء؟ كلا كانت قلوبهم تغلى كلما أصابت الدعوة الإسلامية نجاحا، ومن هنا لم تسنح لهم فرصة غدر إلا اهتبلوها..! وبعد معركة بدر التى انتصر فيها الإسلام على الوثنية، ركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة النبى ومن معه! وكان الرجل فى خصومته فاجرا، فرثى قتلى المشركين، وحث على الثأر لهم! ثم عاد إلى المدينة التى تنظم علائق سكانها معاهدة معروفة! فأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتله، فقتل وأخمدت فتنته. والذى يتدبر الآيات التى سمعناها يجد كراهية للغدر والخيانة وأمرا بتأديب الخونة على نحو يخيف أمثالهم ويلزمهم حدودهم: ( فشرد بهم من خلفهم ). وأمر آخر بإدارة القتال! علانية لا ختل فيه بحيث يعلم العدو والصديق ما هنالك ، فلا مكان لمؤامرات الظلام وأساليب المكر السيئ.. ونلفت النظر إلى أن الدعوة نفسها تدور على هذا المحور الجهير الواضح الذى يستوى فى العلم بحقائقه كل طرف من أطراف النزاع ص _187(1/176)
(قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) [ الأنبياء : 108-109]. فى هذا الجو من شرف العرض، وشرف الخصومة، كان تبليغ الدعوة، وكان الموقف الصارم من كل كائد لها ضائق بها. وروى البيهقى فى سننه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء! من عاهدته فوف بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله. ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها مسلما كان أو كافرا. ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلما كان أو كافرا ". من أجل هذا كله شعرت بدهشة عندما قابلنى الأستاذ الحمزة دعبس وقال لى: إن رئيسا لإحدى الجماعات الإسلامية يطلب عقد مناظرة حرة بينه وبين كبار علماء الأزهر فى أمر مهم. قلت: ما هذا الأمر؟ قال: هو يرى أن الإسلام يبيح الاغتيال!... وقبل أن يتم كلامه قلت: ما هذا الحمق؟ قال: إنه يستدل بقتل كعب ابن الأشرف! قلت: يا صديقى هذا جهل بالكتاب والسنة والتاريخ مصيبة هؤلاء أن أحدهم يفتح كتاب حديث ثم يقرأ فيه خبرا مبتورا لا يدرى ما قبله ولا ما بعده، ثم يصدر حكما مكذوبا على الله ورسوله! لقد علمت أن الله لا يحب الخائنين! وعلمت أن الوفاء فرض مع الكافر والمؤمن على سواء. وكعب هذا نقض عهودا، وأعلن حربا، وشرع يلم فلول الكفر من هنا ومن هنا لحرب الإسلام فأصدر رئيس الدولة- وهو هنا رسول الله- حكما بقتله، ونفذ الحكم العدل واختفت بعد مقتله رءوس الفتنة، فكيف يوصف هذا الحكم بأنه اغتيال؟ أكان يراد أن يدخل كعب المدينة مارا بأقواس النصر؟ إنه رجل خائن غادر نال جزاءه! ودعك من هؤلاء المتحدثين عن الإسلام وهم جهلة، إن تصدرهم للفتوى خيانة للدعوة. قال الأستاذ الحمزة دعبس: وهذا المتحدث يرى سل السيف على الحاكم الجائر! ص _188(1/177)
قلت: لعمرى إن الحاكم الجائر جدير بالتأديب، ونحن أشد منه بغضا لهؤلاء الظلمة، ولكننا نرفض السفه والطيش. والذى يريد أن يخوض باسم الإسلام معركة لم يستعد لها الإسلام، امرؤ مشئوم يخطط لهزيمة الدعوة وإظلام مستقبلها! إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فى عمرة القضاء، بعد عشرين سنة من البعثة، طافوا بالكعبة وحولها مئات الأصنام، ما كسروا صنما ولا حاولوا ذلك! أهو حب للأصنام، كلا، إن المعركة مع عبادها لم تحن بعد، وعندما تحين يؤدى الرجال واجبهم! تم أين السيف الذى يريد سله أولئك الجاهلون؟ لعلهم يفكرون فى شرائه من الشرق أو الغرب! ما أحوج أولئك إلى تعليم وترشيد، وتفتيق أذهان، وفتح آفاق جديدة، غير ما يألفون.. إننى أكره الجهل والكبر، وأود ممن يتعالون على الناس أن يتعلموا ويتواضعوا. الكفر فراغ القلب من الله، مع فكر بمر وبصيرة عمياء، وامرؤ هذه حاله لن يكون له عمل يوضع فى موازين الحسنات، أو يلقى قبولا عند الله. على عكس الإيمان الذى يبدأ بعقل واع، وقلب يرنو إلى ربه خاشيا راجيا. والمؤمن الذى يظفر بهذه الاستنارة قوة تدعم الخير وتقهر الشر.. ليس الإيمان والكفر نظرات عائمة أو مشاعر عارضة! إنهما فى دنيا الناس ارتباط بالله وهداياته، أو انقطاع وتمرد.. والحضارات والدول تقوم على هذا أو ذاك! نعم هناك أحوال فردية يعتل فيها الإيمان أو يصح، ويكثف فيها الكفر أو يرق، ولا نريد أن نقف عند هذه الأحوال، فما يخرج أحد من الدنيا إلا وقد تحدد موقفه من ربه، ومكانه بين قومه.. ص _189(1/178)
والقرآن الكريم يعرض الكفر والإيمان من خلال السلوك الظاهر والتحاق الإنسان بحزب الله أو بحزب الشيطان (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) [آل عمران : 32]. وتدبر قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون * ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين) [ الروم : 43ـ45]. إننا- فيما نكتب- نرفض الأسلوب اليونانى الذى فكر به بعض الأقدمين، ونعرض الإيمان منهجا وسلوكا. ويعجبنى قول ابن الرومى: أمامك فانظر أى نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج..! وفى القرآن الكريم وصف لنهج الباطل، ووصف لنهج الحق، وحكم حاسم على الفريقين معا. قال تعالى: ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية). هذه صفة الذين كفروا، وذاك مصيرهم! فما هى صفات الفريق الآخر ومصيره؟ (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية). لاحظ اقتران الإيمان بالعمل فى الترشيح لتلك المكانة الرفيعة، ثم لاحظ أمرا آخر أنه بعد تقرير الجزاء المعد لهم أستكمل الصفات التى لابد منها لاستحقاق هذا الجزاء : (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) هذا هو الجزاء! فما الصفات الباقية لإحراز الفوز؟ (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) [البينة : 6ـ8]. الرضا عن الله والخوف منه! إن الرضا شعور يتولد بعد تجارب مع القدر، يشكر المرء فيها حينا ويصبر حينا. والخوف شعور يتولد مع مقاومة الرغبات الطائشة، ويقظات الضمير العفيف.. ص _190(1/179)
المهم أن الدين القيم ليس نسبا يورث، أو جلدا أبيض أو أسود دون إرادة منا! إنه جهاد نفسى واجتماعى للتسامى الخاص والعام أى لبلوغ الكمال الفردى ثم لإقرار ونصرة الدين القيم فى أرجاء الأرض وآفاق الحياة.. إن الله يحب المتوكلين: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران : 159]التوكل ثقة فى الله، واستناد إليه وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وهجها مهما ترادفت المتاعب.. ومنابع التوكل كثيرة: أولها: طبيعة التوحيد الذى رفع الإسلام شعاره وأعلى مناره، فالله- فى تعريفات الكتاب والسنة- له الأسماء الحسنى والصفات العلى : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض) [الزمر : 62ـ63]. (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) [غافر : 64ـ65]. إذا لم نعتمد على صاحب هذا الملكوت الرحب فعلى من نعتمد؟.. وفى السنة الشريفة حديث طريف ألهمه ملك كريم لأبى بن كعب عندما قال: لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد!! فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثنى عليه، إذا هو بصوت عال من خلفه يقول: "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد إنك على كل شىء قدير... اغفر لى ما مضى من ذنوبى، واعصمنى فيما بقى من عمرى، وارزقنى أعمالا زاكية ترضى بها عنى، وتب على... ". ص _191(1/180)
فأتى أبى بن كعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصر عليه- ما سمع- فقال: " ذاك جبريل عليه السلام!! ". بمن نوثق صلتنا إذا لم نوثقها بذى الجلال والإكرام؟ الذى انفرد بالحكم فى الأرض والسماء، وعنت له الوجوه، وما يمضى أمر إلا إذا أمضاه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... إننى تساءلت عن الباعث النفسى الذى جعل أبيا- رضى الله عنه- يذهب إلى المسجد مسابقا فى الخيرات، منافسا فى الزلفى إلى الله على النحو الذى ذكرنا؟ وكان الجواب قريبا! إنه صاحب الرسالة الخاتمة الذى لم يكن شئ فى الدنيا أحمب إليه من تمجيد الله وتحميده، أليس هو القائل " لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس " . إن الثناء على الله أزكى فى نفسه وأحلى فى مذاقه وأغلى فى قيمته من امتلاك كل شئ على وجه الأرض!! معرفة ا!له بهذه الأمجاد كلها هى أسماس التوكل عليه والتفويض إليه والارتباط القوى به، وهى المنبع الأول من منابع التوكل.. ثم تجئ وعورة الطريق وطول المراحل، وكثرة الأعداء المتربصين وشعور المرء بالحاجة إلى ناصر ومؤنس، مؤنس يذهب عنه الوحشة، وناصر يعضده وهو يقاوم ويكافح.. ومواضع التوكل كما ذكرها القرآن الكريم وسجلها التاريخ تؤكد أنه قرين جهاد صعب فما أكثر شرور البشر، وأقسى أحقادهم، وأضرارهم على المخلصين والناصحين... عندما طلب أهل مدين من المؤمنين أن يرحلوا عن البلد أو يرتدوا عن الحق، كان الجواب : (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [الأعراف : 89]. ص _192(1/181)
وأنصار الحق يتحملون فى سبيل البقاء عليه وتوسيع دائرته عنتا كبيرا، بيد أن لذة الإيمان وإعظام حقيقته والاعتزاز بشرفه يجعلهم مصابرين ثابتين: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) [ابراهيم : 12]. وإذا كان الهدف التافه يكلف أصحابه الجهد والعناء حتى يظفروا به، فكيف بالهدف الجليل؟ ألا تعجب عندما يصف المتنبى نفسه وغربته وبلاءه فيقول : وحيد من الخلان فى كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد! وما المطلوب الذى يتصبب المتنبى عرقا وهو يسعى وراءه؟ منصب أمير أو وزير! إن جنون العظمة سيطر على الرجل، ثم أركسه فى شر غاية! ومع ذلك فهو يخدع نفسه أو تخدعه نفسه فيقول: يقولون لى: ما أنت فى كل بلدة؟ وما تبتغى؟ ما أبتغى جل أن يسمى! قبح الله الاسم والمسمى! أهذه بغية شريفة؟ الشرف أن ترشد الحيارى وأن تعلم الجهال وأن تخرج الناس من الظلمات إلى النور.. الشرف أن تعرف الناس بربهم، وأن تنقذهم من أهوائهم، وأن تحميهم من خزى الدنيا، وعذاب الآخرة.. الشرف أن تعمر الحياة بالحق، وتبث فى جنباتها العدالة، وتغرس فى ترابها الفضائل، والتقاليد الصالحة. إن الرجل الذى يريد من الناس الهتاف باسمه، والدوران حوله ليس إلا صنما حيا ينبغى أن يلقى مصير الأصنام المنحوتة من الحجر والخشب... وأنبياء الله هم قادة هذا المنهج اللاحب.. ولعل إمامهم الأوحد هو الإنسان الذى كلف بالاشتباك مع قوى الشر الغالبة على ا لأرض، واقتياد الأجيال المتعاقبة إلى معالم الوحى. ص _193(1/182)
الإنسان الذى قيل له: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [ الأنبياء : 107] فقال عن نفسه- عندما أوذى وقيل له ادع على من آذاك- إنما أنا رحمة مهداة! فلما ضيق عليه الخناق وتواثب حوله الطغاة واشتد التدافع والعناد نزل عليه، (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) [ هود : 121 ـ 123]. الغريب أن التوكل فى هذه الأيام العجاف راية رفعها العاطلون لا العاملون، والمنسحبون من ميادين الكدح، لا المغاوير المهاجمون للفساد والاستبداد. عندما يخرج المسلم من بيته ليعمك طيلة يومه يقول: "باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إنى أعوذ بك من أن أزل أو أزل- أخطئ أو أوقع فى خطأ - أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل على". وبعد الانتهاء من العمل والعودة إلى البيت يقول: " اللهم إنى أسألك خير المولج، وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا... ثم يسلم على أهله "! الفارق بين المؤمن، وغير المؤمن، أن الأول يعتقد اعتقادا جازما بهيمنة الله على كل شئ، وانحصار كل كائن بين إرادة الله وقدرته! ومن هنا جاء اعتماده على ربه. أما غير المؤمن فهو لا يرى الله، وإذا تصور له وجودا ما فهو يرى شئون الكون تسير كما يقول المثل " حبلها على غاربها " وأن حظوظا عمياء هى التى تقرر مصاير الأشخاص والأشياء... وليت شعرى أين عمل الحظوظ العمياء فى أنظمة الكون المطردة المستقيمة؟ إننى أسمع المذيع يقول: نوجه هذه الإذاعة على موجة طولها كذا وكذا كيلو سيكل مع فاصل كذا وكذا وكذا من الألف، وتلف موجات الإذاعة مشارق الأرض ومغاربها على الموجة المنسابة بلا عوج، وفق ما قدر الله لها أن تسير... ص _194(1/183)
ونرى الريح تهب عاتية أو عليلة وفق سنن مدروسة: ( وكل شيء عنده بمقدار) [الرعد : 8]. فهل كل شئ فى الأرض والسماء يحكمه قانون محترم إلا أفعال البشر فهى تمضى حسب حظوظ عمياء؟ الحق أن الإيمان والتوكل قرينان وهما علم مستيقن، وأن الإلحاد والتسيب قرينان، وهما جهل فاضح ينتشر تحت عنوان الحظوظ العمياء، وما العمى إلا فى أدمغة الكافرين... ويجب أن نكون بالتوكل على الله أقوياء راسخين، أكثر مما يشعر به عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة! فإذا شعر امرؤ بالقوة؟ لأنه ينتمى إلى كبير، أو أمير، أو يستند إلى مال، أو جاه، فلتكن علاقتنا بالله أكثر دفعا، وأعظم وقعا، أو كما قال الرسول!: " لتكن بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك " . إن تاريخ الإسلام الشامخ خطه نفر من المتوكلين على الله، ما هالتهم قوى الباطل المسيطر شرقا وغربا، لقد نازلوه باقتدار مطمئنين إلى وعد الله بالفوز: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين) [الملك: 29]. وعلى المسلمين المعاصرين، أو على الثلة من الآخرين، أن يثبتوا فى مواقعهم تجاه الغارات التى تريد إبادة الإيمان. ومع هذا الثبات المتوكل على الله، سيميل ميزان القوة ضد أعداء الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. إن الله لا يحب المسرفين: على عهد الصبا كنت أصعد السلالم وثبا، وأمشى فى الطريق جريا، وأصل العمل بالعمل دون شعور بتعب، وربما بدأت كتابة مقال جديد بعد الانتهاء من محاضرة مهمة.. وذلك كله مع إقبال على الحياة مقرون بالابتسام، والاستخفاف بالأعباء والتطلع إلى المزيد... ص _195(1/184)
وبديهى أن يتطلب هذا النهج شهوة إلى الأكل، والاستكثار منه، والحفاوة بمواعيده! لقد كان من المستحيل أن يتحمل الجسم تلك الواجبات الثقال! دون تغذية جيدة، ولم أكن أرى حرجا فى الإقبال على أنواع الطعام وسد حاجة البدن منها، ومم أتحرج؟.. ثم عرضت لى قراءات فى كتب التصوف التى ورثتها عن أبى- رحمه الله- غيرت مسلكى ردحا من الزمن فقد صادرت رغباتى الشديدة فى الأكل والشرب وأعلنت حربا عليها!! وسارع الاعتلال إلى جسمى وشغلنى الجهاد السلبى عن الإنتاج المعهود، فشرعت أعود مرة أخرى سيرتى الأولى.. وأدركت أنه لابد من دراسة القضية كلها بوعى واتزان.. إن الجسم يجب أن يستوفى كل ما يمده بالطاقة والنماء وأن يتوافر فى كيانه مدخر لمقاومة الأمراض والنوائب، وليس فى أديان الله كلها ما يصادر هذه المطالب المعقولة : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) [المؤمنون : ص ].. (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) [البقرة : 172]. وفى الحديث: " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة" . ومن ثم فالرهبانية المخاصمة للجسد، والزهادة الجائرة على ضروراته ومرفهاته، من صنع الغلاة وليست من دين الله..! غير أن هناك حقيقة أخرى لا ينكرها العقلاء وهى أن المرء يتوسع فى أهوائه، ويتجاوز ا!دود، حتى يتخم ويصاب. ص _196(1/185)
والدين والعقل معا، يرفضان هذا الإسراف، ويحذران عواقبه... ويمكن أن ينضاف أمر آخر إلى ما ذكرناه وهو أن من الناس، قريبهم أو بعيدهم، من يشعر بالمخمصة، ويسأل الضرورات، وهنا يوجب الإسلام كما تقضى المروءة بالإسراع إلى مواساة الجائع، وقديما قال الشاعر: وكلهم قد نال شبعا لبطنه وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه! وعلى هذا الأساس نفهم الأحاديث الواردة فى الأكل، وهى عند التحقيق لا تعدو ما ذكرنا، ولا تخرج عن نطاق قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأعراف : 31]. جاء عن جابر بن عبد الله قال: " لقينى عمر بن الخطاب وقد ابتعت لحما بدرهم فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: قرم أهلى فابتعت لحما بدرهم! فجعل عمر يردد: قرم أهلى... حتى تمنيت أن الدرهم سقط منى ولم ألق عمر! ". وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، فعمر لا يحرم اللحم على عباد الله، وليس له ولا لغيره ذلك، ولكن الأوضاع فى المدينة كانت تتطلب سياسة تقشف ورعاية للمساكين، ويبدو أن جابرا توسع فيما اشترى بدليل ما روى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر رضى الله عنه أدرك جابرا ومعه حامل لحم- لحم كثير يحتاج إلى حمال- فقال عمر: "أما يريد أحدكم أن يطوى بطنه لجاره؟ وابن عمه ؟ فأين تذهب عنكم هذه الآية: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) [الأحقاف : 20] . ليس شأن أهل التقى! لاسيما إذا كانت هناك أزمات عامة ". وآداب السنة فى هذا قوله عليه الصلاة والسلام " ما ملأ آدمى وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه " . ص _197(1/186)
وقوله: " ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم (فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) [الكهف : 105] والموضوع يحتاج إلى فضل بيان، حتى نستبين فيه المحظور والمباح، وأرى أن الملابسات البعيدة لها دخل كبير فى الحكم.. إن هناك عبيدا للحياة الدنيا، لا يكترثون لما وراءها.. وهؤلاء هم الذين تساق فيهم الآيات: ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) [محمد : 12]. (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) [الحجر : 3]. وأصحاب القلوب الفارغة من الله يصيبهم سعار فى أثناء ركضهم نحو شهواتهم، وفى أثناء إحرازهم لها، سرورهم لا يكدره شئ، ومرحهم لا تقفه حدود، إنهم سكارى لا يفيقون إلا يوم النشور، يوم يقال! فى الواحد منهم وهو يعذب (إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا) [الانشقاق : 13-15]. ولا يجوز الخلط بين حياة هؤلاء ومصيرهم، وبين مؤمنين يأكلون ليعيشوا، ويشبعون ليجاهدوا، وينالون من الطيبات ما يصدهم عن الخبائث، وهمم فيها يأخذون ويتركون وقافون عند حدود الله... والإسراف فى الملذات، وفى نصب الموائد الحافلة، قد يكون عن جهالة وغفلة، وقد يكون رئاء الناس، وطلبا للظهور والسمعة، ومن ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حضور الولائم التى تقام للمباهاة. فعن عبد الله بن عباس " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل " . وفى العالم العربى الآن مباريات دائمة فى أحفال الطعام التى تقام للمناسبات المختلفة، ومن الخير تهذيب هذه التقاليد. ص _198(1/187)
وللنية المصاحبة للعمل مدخل كبير فى شرفه وفى قبوله، وقد لاحظت أن إبراهيم الخليل- عليه السلام- سارع إلى ذبح عجل لأضيافه القلائل، وإكرام الضيف دين.. والغريب أن الحضارة الغربية لا تعرف كرم الضيافة، ولا تألف استقبال الغرباء! ومع عرام القوم فى حب الدنيا فهم يأكلون بمقدار، ويبولون بمقدار، ولا يفكرون إلا فى أنفسهم... إن الله لا يحب الفرحين: وفى قصة قارون نرى أن الله- سبحانه وتعالى- أعلن كراهيته لأمرين يصحبان الغنى المفرط: أولهما: امتلاء النفس بفرح خبيث: يدفع إلى ثانيهما وهو البطر والغرور وازدراء الغير وعبادة الذات، وقد لاحظ قوم قارون هذا كله على رجلهم الواسع الثراء فقالوا له: ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) [القصص : 76]. ماذا يجب على رجل وسع الله عليه وكثر خير الله عنده؟ (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص : 77]. وظاهر أن المال الممدود والحكم المطلق عاملان خطيران فى إذلال العباد وتدمير البلاد، والمسلمون من أمد غير قريب منكوبون بهذا البلاء المزدوج... ص _199(1/188)
إن الله يحب المقسطين: وقد كشف الإسلام أن العبادة الفردية محدودة الثواب إذا قيست بالعبادة الجماعية، فصيام النهار خير، وقيام الليل خير، وإقامة الصلوات خير، والحج خير... و "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة " كما جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإمام العادل أول السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، وفى حديث عن عبد الله ين عمرو قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن المقسطين عند الله على منابر عن يمين الرحمن- وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا". وعن عياض سمعت رسول الله يقول: " أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال ". ويقول الله تعالى: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) [المائدة : 42] وقد تأملت فى حياة الأوروبيين فوجدت أن النظم الديمقراطية- على ما يشينها أحيانا من انحرافات فردية- قد وفرت للناس عدالة وارفة الظلال، وعيشا وطيد الأمان، وأنها قلمت أظافر الفراعنة والقوارين، وأنصفت السوقة والضعفاء، ويسرت للعامل فى مناجم الفحم أن يخاصم الحكومة ويحرجها، وهو آمن مستقر!! ومثل ذلك لا تعرفه أمتنا إلا فى تاريخ السلف... ولا يزال بعض المتدينين عندنا ذاهلا عن قيمة العدالة الضامنة لسلامة المجتمع والدولة، لأنه مشغول بحمل العصا! وإحفاء الشوارب... إن الخلل الذى أصاب العقل الدينى قلب شعب الإيمان رأسا على عقب، وجعل مساحة رحبة من أهم شئون الحياة لا علاقة لها بالإسلام، على حين أقام الدنيا وأقعدها من أجل أمور لا ينقص الإسلام ذرة لو تركها الناس أجمعون! ص _200(1/189)
وسيبقى المسلمون سواد العالم الثالث ما بقوا على تلك الحال. قال حافظ إبراهيم يائسا: لم يبق شئ من الدنيا بأيدينا إلا بقية دمع فى مآقينا كنا- قلادة جيد الدهر فانفرطت وفى يمين العلا كنا رياحينا كانت منازلنا فى العز شامخة لا تشرق الشمس إلا فى مغانيتا وكان أقسى منى نهر " المجرة " لو من مائة مزجت أقداح ساقينا والشهب لو أنها كانت مسخرة لرجم من كان يبدو من أعادينا فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا شزرا وتخدعنا الدنيا وتلهينا حتى غدونا ولا جاه ولا نسب ولا صديق ولا خل يواسينا وقال معروف الرصافى مستنهضا: أرى مستقبل الأيام أولى بمطمح من يحاول أن يسودا فما بلغ المقاصد غير ساع يردد فى غد نظر سديدا وهل إن كان حاضرنا شقيا نسود يكون ماضينا سعيدا فشر العالمين ذوو خمول إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا وخير الناس ذو حسب قديم أقام لنفسه حسبا جديدا تراه إذا ادعى فى الناس فخرا تقيم له مكارمه الشهودا فدعنى والفخار بمجد قوم مضى الزمن اتلقديم بهم حميدا قد ابتسمت وجوه الدهر بيضا لهم ورأيننا فعبسن سودا ص _201(1/190)
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا). إنه لابد من جهاد هائل، كى نستطيع إنهاض أمتنا من كبوتها، وإرشادها للأخذ برسالتها، والاعتصام بالإسلام الذى شرفها أولا ويشرفها آخرا.. والقوى المعادية للإسلام شديدة البأس شديدة البطش، بيد أنها يستحيل أن تغلبنا إذا توحدت كلمتنا على كلمة التوحيد، وتضامت صفوفنا على إعلاء كلمة الله... ما من معركة هزمنا فيها على امتداد التاريخ إلا كنا نحن سبب الخذلان، وكان تفريطنا وتفرقنا الثغرة التى نفذ منها العدو، فاستباح بيضتنا وسود وجوهنا... والجهاد عمل جماعى تحمل الأمة كلها أعباءه وتشرف الدولة على تنظيمه، ويستحيل أن يكون عبادة فردية منعزلة! الجهاد جيوش تحشد وصفوف تعبأ وقوى تتساند وأسلحة تنسق وتمضى إلى غايتها وفق خطط مدروسة.. والمهم أن يكون الفرد وثيق الإيمان، حسن الأداء، يؤدى ما يطلب منه، بجلد وشمجاعة واستماتة، المهم أن يكون الصف متماسكا، كأنه جدار صلب لا يجد العدو خلاله منفذا، حين يهجم، ولا مفرا حين يتراجع. ويقتضى ذلك، أن يكون رجال المؤخرة على أهبة دائمة، لملء الصف إذا خلا، وضبطه إذا اختل.. والقتال قمة البلاء البشرى، والساعة الحرجة التى يدوس المؤمن فيها كل أشواق الحياة، ورغبات الدنيا، ويتقدم بثبات، لأداء واجبه ولقاء ربه.. ولا مكان هنا لدعوى أو مجون : (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) [الصف : 3ـ4]. وفى الحديث: " مقام الرجل فى الصف فى سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة " . وفى رواية: " إن مقام أحدكم فى سبيل الله أفضل من صلاته فى بيته سيعين عاما.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا فى سبيل الله! من قاتل فى سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة " أى برهة قصيرة.. ص _202(1/191)
إن البروز للعدو فى ساعة فداء، لحظة تعدل العمر كله وتفتح لصاحبها أبواب الخلود.. والإسلام يأبى كل الإباء أن يكون الجهاد مشوبا ب!هوة خاصة، يجب أن يتمحص لله تبارك وتعالى، وفى هذه الحال يكون الكر والفر كالركوع والسجود، عبادة خالصة. وفى الحديث: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء، وقلما ترد على داع دعوته: عند حضور النداء- الآذان- والصف فى سبيل الله " وقد حرض الإسلام بشدة على الالتحاق بالجيش والاستعداد للقاء العدو. فعن أبى أيوب قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " غدوة فى سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت ". ولم هذا التحريض كله؟ لأن الجهاد هو الضمان الفذ لبقاء الحقائق لا يمحوها فتان أفاك، ولبقاء الحقوق لا يجتاحها معتد أثيم! إننى أنظر إلى الإسلام فى عصرنا فأجده مطاردا فى الساحات الدولية كأن النطق باسمه منكر! وأجد إحياء تعاليمه، تهمة شنعاء! وأجد أهله مستباحين، تغتصب أرضهم، وترتخص دماؤهم ويوصفون بأنهم إرهابيون..!! إن لإنكار الألوهية مكانا مرموقا فى المنابر العالمية، أما ( لا إله إلا الله) فكلمة رجعية تثير الاشمئزاز! ولو قتل ألف كلب، لهاجت جماعات الرفق بالحيوان، وتصايح حراس البيئة، أما قتل آلاف المسلمين، فالخطب سهل! إن الجهاد فى هذا العصر، كالجهاد فى عصور الأنبياء كلهم، عندما واجه هؤلاء الرسل الكرام طواغيت تحكم بالجبروت، وخرافات تمسك بخناق الوحى..! والحق أن المسلمين ليس أمامهم خيار فإما أن يحيوا بدينهم وفق ما يريدون، وإما اختفوا عن ظهر الأرض! لقد أضحى الجهاد فرض عين، وينبغى أن نتدبر بعمق قول ص _203(1/192)
وسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !: " تضمن الله لمن خرج فى سبيله- لا يخرجه، إلا جهاد فى سبيلى، وإيمان بى، وتصديق برسلى- فهو ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذى خرج منه نائلا ما نال من أجر، أو غنيمة.. والذى نفس محمد بيده ما كلم يكلم فى سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم يكلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك.. والذى نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو فى سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى؟ والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ".. قلنا: إن الجهاد عبادة جماعية لا فردية نعم قد تكون الوحدة خيرا من جليس السوء، ولكن الجليس الصالح أفضل من الوحدة. ربما حلا لفرد أن يناجى ربه وحده! خير من ذلك وأزكى أن يطوى مناجاته فى صدره وأن يرنو ببصيرته إلى ربه منطلقا إلى ساحة الوغى كى يعلى كلمة الله ويجعك كلمة الذين كفروا السفلى.. إن أمل أعداء الإسلام أن يفكوا وحدة الأمة، وأن يردوا الجماعة أفرادا لكل منهم شأن يغنيه، فإذا صارت الأمة كذلك، اقتيد كل فرد إلى مصرعه، كما يذبح الدجاج. إن الجماعة من شعائر الإسلام ويجب أن يحرص المسلمون على جماعتهم وأن يقاوموا كل أسباب الفرقة والاعتزال. وهذا سر الموازنة بين عيادة يؤديها فرد، وجهاد تقوم به الجماعة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " رباط شهر خير من صيام دهر. ومن مات مرابطا فى سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدى عليه برزقه وريح من الجنة، ويجرى عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل " . وعن مجاهد عن أبى هريرة أنه كان فى الرباط ففزعوا إلى الساحل! ثم قيل: لا ص _204(1/193)
بأس، فانصرف الناس وأبو هريرة واقف فمر به إنسان، فقال: ما يوقفك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول! الله يقول: " موقف ساعة فى سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود " . لعمرى إن مستقبل المسجد الحرام والمسجد الأقصى مرتبط بهذه الساعات الغالية، ساعات القتال المر والكفاح الشرس لإحقاق الحق وإبطال الباطل...!!! بقى أن نذكر حقيقة يغفل المسلمون عنها! إن الجهاد الفكرى لابد أن يقارنه جهاد علمى وصناعى واسع الذكاء، واسع الأرجاء! وإن صفا محكما من رجال الفكر والمال ينبغى أن يساند قادة الأسلحة المختلفة، إن البنيان المرصوص يتكون من لبنات شتى تتعاون كلها على إحراز النصر فى البر والبحر والجو، بالمدفع والقلم والمحراث و المطرقة. لقد تخلف المسلمون فى ميادين عديدة، وكان هذا التخلف من وراء هزائمهم المحلية والعالمية، ولكى يستعيدوا أمجادهم ويسترجعوا ما فقدوا لا غنى عن النجاح الثقافى والحضارى، والاقتدار الصناعى والزراعى... وتلك كلها ساحات تتحول إلى مساجد، ويتحول العمل فيها إلى صلاة، مادام القصد الجهاد فى سبيل الله. إننا فى هذا الباب تحدثنا عما يحب الله سبحانه وتعالى وعما لا يحب، ربما أوجزنا أو أطنبنا حسب ما أفاء الله من توفيق... ولكنا نشير إلى أن ما يقال فى مجال الأخلاق العملية قد بسطناه فى كتابينا " خلق المسلم " و " جدد حياتك " وما يقال فى مجال التربية الروحية قد شرحناه فى كتابينا " الجانب العاطفى من الإسلام " و " ركائز الإيمان بين العقل والقلب ". ونرى سرد الآيات الجامعة لمحاب الله ومساخطه فى السطور الآتية: ا- لا يحب المعتدين: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة : 190] ص _205(1/194)
( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)[المائدة : 87] (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) [الأعراف : 55] 2- يحب المحسنين: ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)[البقرة : 195] ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) [آل عمران:134]. (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) [آل عمران : 148] (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) [المائدة : 13]. (ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) [المائدة : 93]. 3- لا يحب المفسدين: (والله لا يحب الفساد) [البقرة : 205]. (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة : 64]. ( ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص :77] 4- يحب التوابين ويحب المتطهرين: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة : 222] ص _206
(فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) [التوبة : 108] 5- لا يحب الكافرين: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) [البقرة :276] ( فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) [آل عمران : 32] (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين) [الروم : 45] 6- لا يحب الظالمين: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين) [آل عمران :57] (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) [آل عمران : 140] (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) [الشورى : 40]. 7- يحب المتقين: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) [آل عمران : 76] (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) [التوبة : 4] (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة : 7] ص _207(1/195)
8- يحب الصابرين: (وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) [آل عمران :146] 9- يحب المتوكلين: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران :159.] 10- لا يحب كل مختال فخور: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا)[النساء : 36] (ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) [لقمان : 18] (ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد : 23] 11- لا يحب الخائنين: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) [النساء : 107] (فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) [الأنفال : 58] (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) [الحج:38]. 12- لا يحب الجهر بالسوء: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) [النساء : 148] ص _208
13- يحب المقسطين: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)[المائدة :42] (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) [الحجرات : 9] (إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة : 8] 14- لا يحب المسرفين: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأنعام : 141] (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأعراف : 31] 15- لا يحب المستكبرين: (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) [النحل : 23] 16- لا يحب الفرحين: (إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) [القصص : 76] 17- يحب الذين يقاتلون فى سبيله. (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) [الصف : 4] صدق الله العظيم(1/196)