الصرفة
دلالتها لدى القائلين بها
وردود المعارضين لها
د. سامي عطا حسن
جامعة آل البيت
[ملخص]
سلك العلماء في بيان وجوه إعجاز القرآن مسالك عديدة ، واتجهوا في البحث عنها وجهات مختلفة ، وقررجمهورهم أن القرآن الكريم معجز بذاته ، لا لسبب خارج عنه ، بينما قرر القائلون بالصرفة أن الاعجاز أمر خارج عن ذات القرآن ، فكان هذا البحث لبيان مضمون القول بالصرفة ، ودلالتها، وحجج القائلين بها وردود المعارضين لها .
الصرفة
دلالتهالدىالقائلين بها
وردود المعارضين لها
تمهيد :-
كان للقرآن الكريم - ولا يزال - مكان الصدارة في دراسات الباحثين ، فهو معجزة الرسول الخاتم - عليه الصلاة والسلام- ، والقانون المنظم للسلوك ، والمرشد إلى معالي الأمور.(1/1)
وكان العرب حين نزول القرآن كأنما شدوا بأمراس كتان الى صم جندل ، فهم يسمعون القرآن ويعجبون به ، ويكادون يسجدون لفصاحته ، ويوقنون -يقين العارف الخبير- أنه ليس من قول البشر (1) ، لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته ، وكانت قدسية القرآن وعظمته مسيطرة على نفوسهم ، وكان الإقرار بالعجز عن الارتفاع إلى مستواه كامنا في النفوس . ومضى القرن الأول ، وتبعه القرن الثاني ، والعلماء لا يمسون نواحي إعجاز القرآن إلا مسا خفيفا، فلما كان القرن الثالث ، وبدأت السليقة العربية تفقد صفاءها ، وبدأت الثقافات المختلفة ، والفلسفات الهندية ، والفارسية ، واليونانية ، تتسلل إلى المجتمع الاسلامي ، اتسعت الخلافات المذهبية ، وتعددت النحل ، وتفرقت الأهواء والسبل ، واحتدمت المعارك ، وقويت الخصومة ، وعنف الجدل حول الآراء الكلامية ، وكان إعجاز القرآن أحد الميادين الكثيرة التي تبارت فيها الفحول ، وتصاولت في رحابها الوسيعة القروم ، وبدأ الحديث عن سبب عجز العرب عن الإتيان بمثل أقصر سورة من سور القرآن ، فبرز قول غريب في البصرة التي كانت تموج بالتيارات الفكرية المختلفة ، مفاده : أن إعجاز القرآن ليس لشيء ذاتي فيه ، وإنما هو لصرف الله تفكير العرب عن معارضته ، وهو القول الذي تبناه فيما بعد : ابراهيم بن سيار النظام ، أحد شيوخ المعتزلة في البصرة ، وعرف هذا القول فيما بعد بالصرفة ، عند ذلك عكف العلماء على دراسة كتاب الله بصورة علمية منظمة لاستجلاء مواطن الجمال في تعبيره الفني ، والأسرار البلاغية في بيانه المعجز (2) ،
__________
(1) - انظر مقال : مذهب الصرفة ، مجلة الأزهر الشريف ، مجلد / 21، 1369هـ ، د. علي محمد حسن العماري ص/41 .
(2) - د. نعيم الحمصي : فكرة إعجاز القرآن ، ص 98 ،..(1/2)
فكان نتيجة لذلك مؤلفات في الإعجاز لها مكانتها ، كما كان من ذلك ثروة كبيرة من الأقوال المبسوطة في إعجاز القرآن تضمنتها كتب علم الكلام وعلم التفسير . ولا أريد في هذا البحث سرد وجوه إعجاز القرآن التي قال بها العلماء ، وإنما سألقي الضوء على قول ظنه بعض العلماء وجها من وجوه الإعجاز ، وهويقينا ليس منها ، وإن كان له كبير الأثر في نشأة علوم البلاغة ، وفي تأليف كتبها فيما بعد .
وقد قسمت هذا البحث إلى : تمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة :
المبحث الأول : بينت فيه معنى الصرفة لغة واصطلاحا .
المبحث الثاني : بينت فيه مصدر القول بالصرفة .
وفي المبحث الثالث : ذكرت القائلين بالصرفة من المعتزلة .
وفي المبحث الرابع : ذكرت القائلين بها من أهل السنة .
وفي المبحث الخامس : ذكرت القائلين بها من الشيعة الإمامية .
وخصصت المبحث السادس : لردود المعارضين للصرفة .
ثم بينت في الخاتمة أهم النتائج التي توصل إليها البحث .
والله أسأل أن أكون قد وفقت في العرض لهذا الموضوع .
المبحث الأول
معنى الصرفة لغة واصطلاحا
الصرفة لغة :على وزن فعلة- بفتح الفاء واللام وسكون العين-:رد الشيء عن وجهه ، يقال: صرفه يصرفه ، صرفا ، فانصرف ،وصارف نفسه عن الشيء :صرفها عنه . قال تعالى : (ثم انصرفوا ) (1) أي: رجعوا عن المكان الذي استمعوا منه ، وقيل :- انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا . وقوله تعالى : -(صرف الله قلوبهم ) (2) أي :- أضلهم الله مجازاة على فعلهم ، وصرفت الرجل عني فانصرف ). (3)
__________
(1) - سورة التوبة / 127 .. والآية بتمامها ( واذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم الى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ).
(2) - سورة التوبة / 127 .
(3) - ابن منظور : لسان العرب –ج7/ صفحة328 ( مادة صرف) .(1/3)
وتعني الصرفة في الاصطلاح : أن الله صرف همم العرب عن معارضة القرآن ، وكانت في مقدورهم ، لكن عاقهم عنها أمر خارجي ، فصار معجزة كسائر المعجزات ، ولو لم يصرفهم عن ذلك ، لجاءوا بمثله . (1)
وقد اختلف القائلون بالصرفة في بيان حقيقة ما يقصده هؤلاء بالصرفة ، فقالوا : إن الله سبحانه- لأجل إثبات التحدي -حال بين فصحاء العرب وبلغائهم ، وبين الإتيان بمثل القرآن بأحد الأمور الثلاثة التالية:-
1-صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة ، فكلما هموا بها ، وجدوا في أنفسهم صارفا ودافعا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة ، ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم عن الانصداع لهذا الأمر ، بل إن المقتضي فيهم كان تاما ، غير أن الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الالتفات لهذا الأمر ، ولولا ذلك لأتوا بمثله .
2- سلبهم - سبحانه - العلوم التي كانت العرب مالكة لها ومتجهزة بها ، وكانت كافية للإتيان بما يشاكل القرآن ، ولولا هذا السلب لأتوا بمثله .
3-إنهم كانوا قادرين على المعارضة ، ومجهزين بالعلوم اللازمة لها ، ولكن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسر من المعارضة ، مع كونهم قادرين ، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم. (2)
وقد بين جمهور العلماء ، أن الصرفة بكل صورها ، تسلب الإعجاز الذاتي للقرآن ، وأنها وهم ذهب إليه خيال القائلين بها ، دون سند ، أو دليل .
المبحث الثاني
مصدر القول بالصرفة
__________
(1) - الزركشي : البرهان في علوم القرآن- ج2/ ص 93 . والسيوطي: الاتقان في علوم القرآن - -ج2 / ص 118.
(2) - العلوي : الطراز -ج3/ ص291. وانظر العماري : حول اعجاز القرآن - سلسلة الثقافةالإسلامية ، عدد: 44 . والخالدي : البيان في اعجاز القرآن ، ص 82-83.(1/4)
يعزى القول بالصرفة عند كثير من الباحثين، إلى أنه من التيارات التي وفدت علينا من الخارج ، وأن بعض المتفلسفين من علماء الكلام ، وقفوا على أقوال البراهمة في كتابهم الفيدا (1) ، وهو يشتمل على مجموعة من الأشعار ، ليس في كلام الناس ما يماثلها
-في زعمهم -، بل يقول خاصتهم : إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله ، لأن
- براهما- (2) صرفهم عن أن يأتوا بمثلها ، يقول-أبو الريحان البيروني ( ت سنة 430هـ) في كتابه - ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة – ما نصه : ( إن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها ، ولكنهم ممنوعون عن ذلك احتراما لها ) (3) ، والظاهر أن هذه الفكرة قد وفدت للساحة الفكرية الإسلامية ، عندما ترجمت الفلسفات الهندية في عهد – أبي جعفر المنصور- (4) ومن جاء بعده من حكام بني العباس ، فتلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الإغراب في أقوالهم ، هذه الفكرة الغريبة الوافدة، ودفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا هذا القول ويطبقوه على القرآن، - وإن كان لا ينطبق- ، فقال قائلهم : إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ، ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ، ونسجه ونظمه ، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله .) (5)
__________
(1) - الفيدا : كتاب يشمل أربعة كتب مقدسة للهندوس ، وقد كتب باللغة السنسكريتية
محمد غلاب : مشكلة الألوهية - ص97.
(2) - براهما :من آلهة الهندوس ، وهو عندهم مرادف للمطلق الأعلى أو ( الأتمان )
المرجع السابق ص 98 .
(3) - نقلا عن د. عرفة بسيوني : فكرة النظم في تطورها وأهدافها ، ص 35 .
(4) - أبو جعفر المنصور : عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس ، ولد سنة 95هوتوفي سنة 158هـ : السيوطي : تاريخ الخلفاء ص 259 .
(5) - أبو زهرة : المعجزة الكبرى- القرآن : - ص 69 -71 ،(1/5)
ومما يؤيد احتمال كون فكرة - الصرفة - من التيارات الفكرية الوافدة ، ما ذكره الجاحظ- في كتابه البخلاء -من صور هذا الغزو الفكري الذي بدأ يتسرب إلي ديار المسلمين في صدر العصر العباسي ، منذ أن اتخذ أبو جعفر المنصور - الطبيب جورجيس بن بختيشوع - طبيبا خاصا له ، قال الجاحظ :( إن طبيبا عربيا مسلما يدعى- أسد بن حاني - كسدت حاله مرة ، فقال له قائل : السنة وبيئة – - أي : كثيرة الأوبئة - والأمراض فاشية ، وأنت عالم ، ولك صبر وخدمة ، ولك بيان ومعرفة ، فمن أين يأتيك الكساد ؟ قال : أما واحدة فإني عندهم مسلم ، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب ، بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب ، واسمي أسد ، وكان ينبغي أن يكون اسمي : صليبا أو يوحنا ، وكنيتي : أبو الحارث ، وكان ينبغي أن يكون : أبو عيسى ، أوأبو زكريا ، أو أبو ابراهيم ، وعلي رداء قطن أبيض ، وكان ينبغي أن يكون علي رداء حرير أسود . ولفظي عربي ، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل – جند يسابور- ) (1) ، وهذه الرواية إن دلت على تسامح المسلمين ، وبعدهم عن التعصب الذي يرميهم أعداؤهم به ظلما وعدوانا، فهي تدل كذلك على تسلل الغزو الفكري ، حتى استمكن وتوطن في عصر كانت الدولة الإسلامية رافعة أعلام عزها ، وباسطة سلطان مجدها .
__________
(1) - الجاحظ : البخلاء - ص 78 .(1/6)
وقد أ لمح الدكتور أحمد فؤاد الأهواني إلى أسباب هذا الغزو الفكري فقال : ( كان معظم المشتغلين بالعلم والفلسفة نصارى ، وصابئة ، وكان من الطبيعي أن يعنى بالفلسفة أولئك الذين كانوا من المشتغلين بها قبل دخولهم في الإسلام ، وكان أغلبهم من السريان ، والصابئة ، ولقد كتب كثير من اليهود ، والنصارى ، والصابئة، مؤلفات باللسان العربي ، بعد انتشار الإسلام ، واستقرار قواعد الدولة الإسلامية .) (1) فلا غرابة في انتقال قول البراهمة في كتابهم المقدس - الفيدا - ، إلى بعض المسلمين ، عن طريق المشتغلين بالفلسفة ، أو الذين يتلقفون كل وافد من الأفكار ، ومنها فكرة الصرفة .
وقد خالف الدكتور أحمد أبو زيد كثيرا من الباحثين حين قال : ( فإيراد قضية إعجاز القرآن في سياق هذا البحث المتعلق بالصرفة ، وفي معرض الرد على الدهريين ، يفيد بأن هذه النظرية إنما وضعت للدفاع عن القرآن ، وتنزيهه عن مطاعن الملحدين . ) (2) فهو يرى بأن المعتزلة وضعت هذه النظرية للدفاع عن القرآن ، ولا ينكر أحد دور المعتزلة في الدفاع عن القرآن ، وبيان إعجازه ، وأسراره البيانية ، إلا أن عدم اتفاقهم علىمفهوم واحد لنظرية الصرفة ، يدل على أنها لم تصدر عن عقيدتهم في كلام الله ، وفي خلق القرآن ، لذا أميل إلى ما ذكره كل من البيروني، والبغدادي ، والشهرستاني ، من أقوال - ذكرت بعضها وسأذكر بعضها الآخر - تبين مصدرها الخارجي ، وإن نشأت وترعرعت في بيئة الإعتزال .
ولأن رواج نظرية - الصرفة- ، يؤدي إلى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته ، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله .
المبحث الثالث
القائلون بالصرفة من المعتزلة
__________
(1) - د. أحمد فؤاد الأهواني : الكندي فيلسوف العرب - سلسلة أعلام العرب عدد/26 .
(2) - د. أحمد أبو زيد : الإستدلال العقلي على إعجاز القرآن ، ص257 .(1/7)
نبت القول بالصرفة أول ما نبت في رواق الفلسفة الكلامية ، قاله شيخ من شيوخها وهو
النظام :( ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري ت سنة 221هـ) ، فهو أول من جاهر
به ، وأعلنه ودعا إليه ، ولاحى عنه، كأنه مسألة من مسائل علم الكلام ، ونقول إنه أول من
جهر به ، ولا نقول إنه أول من فكر فيه ، أو أول من ابتدأ القول به ، لأن الأفكار لا يعرف
ابتداؤها وهي تتكون في خلاياها ، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر ، ويجاهر بها . (1)
__________
(1) - أبو زهرة : المعجزة الخالدة –، ص 71 .(1/8)
تتلمذ على خاله أبي الهذيل العلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه ، وكون مذهبا خاصا به ، مات في ريعان شبابه عن ست وثلاثين عاما ، وكان أستاذا – للجاحظ - (1) ، ترجم له أبو منصورعبد القاهر البغدادي ( ت 424هـ)- في كتابه : ( الفرق بين الفرق ) ، عند ذكره الفرقة النظامية ، فقال : ( عاشر النظام في شبابه قوما من الثنوية (2) وقوما من السمنية (3) ، وخالط قوما من ملاحدة الفلاسفة ، ثم دون مذاهب الثنوية ، وبدع الفلاسفة ، وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات ، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف ، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه) . ثم قال : ( والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ، ليست بمعجزة للنبي – عليه الصلاة والسلام - ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ، ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإن العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم ، والتأليف ) (4)
وترجم له الشهرستاني(أبو الفتح محمد بن عبد الكريم ت 548هـ ) فقال :-
(
__________
(1) - زهدي حسن جار الله ::- المعتزلة - ص120-129.
(2) - الثنوية : قوم يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان . الشهرستاني : الملل والنحل: ص / 80 بهامش الفصل .
(3) - السمنية : فرقة بوذية هندية قالت بقدم العالم وبتناسخ الأرواح - . البغدادي :الفرق بين الفرق - ص270. وخالد العلي، الجهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي ص13.
(4) - البغدادي : الفرق بين الفرق ( مرجع سابق ) ص 128- 150( بتصرف يسير ).(1/9)
والنظامية أصحاب ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام ، طالع ابراهيم كثيرا من كتب الفلاسفة ، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها : قوله في إعجاز القرآن: إنه من حيث إخباره عن الأمور الماضية ، والآتية ، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب من الاهتمام به جبرا ، وتعجيزا ، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله ، بلاغة ، وفصاحة ، ونظما .) (1)
__________
(1) - الشهرستاني : الملل والنحل – بهامش الفصل - : ج 1 / ص67 .(1/10)
فالنظام – إذن - يرى : أن الله قد صرف أوهام العرب عن معارضة القرآن ، أوعن القدرة على الإتيان بمثله ، فانصرفوا عن ذلك ، وتعذرت عليهم المعارضة ، لا لأن القرآن في حد ذاته خارج عن طوق البشر، أو خارقا لمقدرتهم ، ومألوف عادتهم ، فهو في ذلك لا يتفوق على البليغ الفصيح من كلام العرب ، ولا تكاد تكون له مزية أو فضل في ذلك ، ولو ترك لهم المجال ، وأفسح أمامهم الطريق ، لأتوا بمثل القرآن فصاحة ، وبلاغة ، وحسن نظم وتأليف . وقد تابع - النظام- على رأيه هذا نفر من المعتزلة ، منهم : عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المردار (1) ، الذي نسب إليه القول بأن : (الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وبما هو أفصح منه.) (2) ، وعباد بن سليمان (3) ، وهشام الفوطي (4) وأبي اسحق النصيبي (5) وغيرهم . ولهذه الآراء الشاذة ، والمعتقدات الباطلة ، نص كثير من العلماء ، – -- ومن المعتزلة أنفسهم - ، على تكفير النظام ، وفرقته .
__________
(1) - عيسى بن صبيح أبو موسى المردار : - كان معروفا بالناسك ، أخذ الإعتزال عن بشر بن المعتمر ، تولى رئاسة المعتزلة ببغداد ، ( ت سنة 226هـ). ابن المرتضى : طبقات المعتزلة ص 70 .
(2) - البغدادي : الفرق بين الفرق - ص154.وانظر د. عمر السلامي : الإعجاز الفني في القرآن ، ص 52-65.
(3) - عباد بن سليمان الصخري : معتزلي من أهل البصرة من تلاميذ هشام بن عمروالفوطي كان معتزليا ثم تحول إلى مذهب الزنادقة . ابن النديم : الفهرست: ص269، 280 .
(4) - هشام بن عمرو الفوطي : -بصري المذهب ، عده القاضي في نهايةالطبقة السادسة من المعتزلة ، وكان يحظى باحترام المأمون . القاضي المعتزلي : طبقات المعتزلة ص69.
(5) - أبو اسحق النصيبي :- من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة ، وكان يشك في النبوات كلها . أبو حيان التوحيدي: الامتاع والمؤانسة - ج1/ ص141 .(1/11)
ومع أن مفهوم - الصرفة - نشأ في البيئة الاعتزالية بادئ بدء ، إلا أن ذلك لا يعني أن مفهومها عندهم جميعا كان واحدا ، بل كان لها ثلاثة مفاهيم ، هي :-
1- المفهوم النظامي للصرفة الذي ينفي عن القرآن الإعجاز ، ويجعله في مستوى الكلام البليغ الذي استحسنته العرب ، وحظي عندها ، ولا فضل للقرآن في ذلك على غيره ، وكان باستطاعة العرب الإتيان بمثله ، لولا أنهم صرفوا مقهورين بقوة خارجة عنهم ، لا طاقة لهم على دفعها . وهو رأي مرفوض لا يعتد به ، ولا يؤبه له - كما سأبين - . وقد كانت رؤوس المعتزلة أول من رفضه ، ورده ، ولم يتابعه عليه إلا شرذمة قليلة منهم .
يقول الجاحظ (ت 255هـ ) مفندا قول النظام ، حيث قال مخاطبا أحمد بن أبي دؤاد (1)
( ت 240 هـ) :- ( فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي ، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن ، والرد علىالطعان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي ، ولا لحشوي ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) (2) ، فواضح من هذا النص أن النظام لو كان يعترف ولو ضمنيا بأن نظم القرآن وتأليفه معجز ، لكان الجاحظ أول من يعرف ذلك ، ولما تصدى لنقض صرفة النظام وردها ، وإذن فمفهوم الصرفة لدى النظام ، وأصحابه ، ليس مجرد شعور بالعجز ، وانصراف تلقائي ، وإنما مفهومها أن الناس كانوا قادرين على مثل القرآن ، لولا أن منعهم الله بمنع وعجز أحدثهما فيهم ، لذلك لم يجد هذا المفهوم قبولا من الجاحظ ، فاستنكره وتصدى لنقضه، ورده ، واستنكره أيضا جمهور المسلمين ، وردوا عليه ردودا منطقية مقنعة .
__________
(1) - هو أحمد بن أبي دؤاد الملقب بأبي عبد الله القاضي ، من الطبقة الثانية من طبقات المعتزلة ، توفي سنة 240 هـ . القاضي المعتزلي : طبقات المعتزلة ، ص78 .
(2) - الجاحظ : حجج النبوة - ص143-144.(1/12)
منها : ما رد به الفخر الرازي( ت 606 هـ) حيث قال-:( قال النظام : إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليؤيد به النبوة ، بل هو كتاب مثل سائر الكتب المنزلة ، لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، وإنما لم يعارضه العرب ، لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب دواعيهم عن الاعتراض ، ويدل على فساد ذلك وجوه ثلاثة :-
الأول :- لو أن الله صرفهم عن المعارضة ، وأعجزهم عنها، بعد أن كانوا قادرين عليها ، لما استعظموا فصاحة القرآن ، بل العكس هو الصحيح ، وهو أنه يجب أن يكون تعجبهم من تعذرمعارضة القرآن ، بعد أن كانوا قادرين على المعارضة ، وهذا يبطل ما قاله النظام .
الثاني :- أن كلامهم قبل التحدي لم يكن مقاربا لفصاحة القرآن ، ولو كان كذلك ، لوجب أن يعارضوه بذلك ، ولكن الفرق بين كلامهم بعد التحدي وكلامهم قبله ، كالفرق بين كلامهم بعد التحدي وبين القرآن ، مما يبطل هذه الدعوى .
الثالث :- ليس من المعقول أن ينسى العرب الفصحاء أساليبهم وصيغهم المعلومة في مدة يسيرة ، لأن ذلك يدل على زوال العقل ، ومعلوم أن العرب ما زالوا يحتفظون بعقولهم بعد التحدي ، فبطل ما قاله النظام .) (1)
2 - المفهوم الثاني للصرفة : - الذي عرف في البيئة الاعتزالية ، هو مفهوم
__________
(1) - الرازي : تسهيل نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز - ص 21(1/13)
- الجاحظ ، والرماني- لها ، وهو مفهوم لا يقدح في بلاغة القرآن ، ولا ينكر تفوقه ، بل هو يقر بهذا الإعجاز ، ويعترف به ، ويحس أن ما جاء به القرآن الكريم خارج عن طوق البشر ومقدورهم ، فالصرفة عند الجاحظ ضرب من التدبير الإلهي ، والعناية الربانية ، جاءت لمصلحة المسلمين . (1) حتى يحفظ القرآن من عبث العابثين ، وتشكيك المشككين ، الذين يمكنهم أن يخدعوا الناس ، ويزوروا أمامهم الحقائق ، وقد صرف الله نفوس القوم عن معارضة القرآن ، لا لأنهم قادرون على مثله والله منعهم من ذلك كما قال - النظام - ، ولكن لئلا يكون لأهل الشغب وضعاف الإيمان متعلق للطعن والتشكيك ، وإفساد عقائد ذوي النفوس المريضة ، يقول الجاحظ : ( ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب ، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن ، بعد أن تحداهم بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلف بعضهم ذلك، فجاء بأمر فيه أدنى شبهة ، لعظمت القضية على الأعراب ، وأشباه الأعراب ، والنساء، وأشباه النساء ، ولألقى ذلك للمسلمين عملا ، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب ، ولكثر القيل والقال ) (2) . ويذكر الجاحظ هذا المفهوم للصرفة في موضع آخر من كتابه الحيوان ، فيقول:-( وذكرنا من صرف أوهام العرب عن محاولة معارضة القرآن ، ولم يأتوا به مضطربا، ولا ملفقا ، ولا مستكرها ، إذ كان في ذلك لأهل الشغب متعلق ) (3) .
__________
(1) - الجاحظ : الحيوان: - ج4 ص85-89
(2) - الجاحظ : الحيوان - ج6 ص296 .
(3) - الجاحظ : الحيوان -ج4/ ص90.(1/14)
ومن الواضح أن الصرفة عند الجاحظ بمفهومها هذا ، لا ينفي عن القرآن روعته البلاغية ، ودرجته العالية في سلم الفصاحة، والبيان ، وقد أكد الجاحظ هذه الحقيقة أكثر من مرة ، فذهب الى أن وجه الإعجاز في القرآن ، إنما هوالنظم والتأليف ، وأن القرآن الكريم بلغ القمة في روعة نظمه ، والذروة العظمى من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم ، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم ، وقال واصفا بيان القرآن : ( وعبت كتابي في خلق القرآن ، كما عبت كتابي في الرد على المشبهة ، وعبت كتابي في أصول الفتيا والأحكام ، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن ، وغريب تأليفه ، وبديع تركيبه .) (1) . فهناك فرق بين مفهومي النظام ، والجاحظ للصرفة ، فالنظام : يرى قدرة المنشئين على أن ينظموا مثل القرآن ، والإعجاز في صرف الله لهم عن هذا الصنيع . أما الجاحظ : فلم يستعمل الصرفة بمفهومها النظامي الذي سبق أن أنكره عليه ، وإنما استعملها بمفهوم آخر ، لا يتنافى والقول بإعجاز القرآن بالنظم . فانصراف العرب عن معارضة القرآن ، إنما وقع بعد أن تحداهم الرسول
_ صلى الله عليه وسلم – - بنظمه ، وهي لذلك ليست تعني أن الله أحدث فيهم منعا ، وعجزا ، وإنما تعني أن له تعالى تدبيرا ، حفظ به القرآن من شغب المعاندين ، فصرف أوهامهم ونفوسهم ، عن كل محاولة لمعارضة القرآن ، لما قد يدخل بذلك من الشبه على ضعاف العقول ، ولما قد ينشأ عنه من الفتنة .
__________
(1) - الجاحظ : الحيوان – ج1 / ص 9(1/15)
ومما يدل على أن الجاحظ لم يكن يحس بأي تعارض بين الصرفة بهذا المفهوم وبين نظرية النظم ، أنه جمع بين النظريتين في مكان واحد ، فبعد أن انتهى من تقرير مبدأ الصرفة ، قال :( وفي كتابنا المنزل الذي يدل على أنه صدق ، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد ، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها من جاء به ) (1) . فكلام الجاحظ ينص على أن الذي أعجز العرب ، هو نظم القرآن البديع ، وأن النظم هو الذي تحداهم به الرسول – - صلى الله عليه وسلم - . أما حديثه عن صرف الله لهمم العرب عن محاولة محاكاته ، فهو يبرز معنى فيه منة امتن الله بها على المسلمين ، حين لم يتكلف بعض المتكلفين معارضة القرآن ، ولو فعل ذلك بعضهم ، فليس المخوف عندئذ أن يأتي بكلام من مثله ، فذلك مستحيل بنص كلام الجاحظ السابق ، ولكن المخوف هو أن يأتي بكلام ينخدع به بعض الضعفاء ، ويتعلقون به ، كما تعلق أصحاب مسيلمة بما ألفه لهم من هراء ، وعندئذ يحدث ما يشوش على القرآن ، عندما يوجد من يستجيد ما ادعي أنه معارضة له ، فيدافع عنه ، ويزعم أنه قد عارض ، وقابل ، وناقض ، فيكثر القيل والقال ، فكان هذا التدبير الإلهي ، لئلا يكون لأهل الشغب متعلق يتعلقون به . (2) فلم يكن إذن تناقض ، أو اضطراب في رأي الجاحظ ، في إعجاز القرآن
__________
(1) - للجاحظ : الحيوان ، ج4/ ص 90 .
(2) - د. عبد الغني محمد سعد بركة : الإعجاز القرآني ، وجوهه وأسراره ، ص 62 . والسيوطي : الإتقان ج4 / ص 6 .(1/16)
- على حد قول الأستاذ نعيم الحمصي (1) ، أوالإمام مصطفى صادق الرافعي (2) - بل هو في نظره رأي مستقيم ، ونظرية سليمة (3) ، لأن علة العجز في نظره - أي الجاحظ - كائنة في نظام الكلام ، ومخرجه من لفظه وطابعه ، وأن العرب قد تبين لهم ذلك واستيقنوه ، وأنهم عجزوا عجز من يعرف علة عجزه ، وليس عجز المتحير المصروف . (4)
والصرفة عند الرماني( أبو الحسن بن عيسى بن علي بن عبد الله ت 384هـ ) :- تشبه الصرفة عند الجاحظ ، فهي لا تقدح في بلاغة القرآن ، وحسن تأليفه ، فقد ذكر الرماني أن القرآن في أعلى مراتب البيان ، ولا يدانيه شيء من كلام فصحاء العرب ، وبلاغييهم ،
فهو مقتنع بإعجاز البلاغة القرآنية ، التي لولاها لجاءوا بمثله.
يقول الرماني :- (وأما الصرفة : فهي صرف الهمم عن المعارضة ، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم ، في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ، وذلك خارج عن العادة ، كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة ، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز ، التي يظهر منها للعقول .) (5)
3- وأما المفهوم الثالث للصرفة عند المعتزلة ، فهو : مفهوم القاضي عبد الجبار
(قاضي القضاة أبوالحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني ت415هـ ) وقد خالف فيه جميع من تقدموه ممن تحدثوا عنها ، ولم يرض عن تفسيراتهم ، فقد أبعد مفهوم الجبرية ، الذي ساد في حديث – النظام – والجاحظ- والرماني – عنها ، لأنها كانت عندهم جميعا ، شيئا خارجا عن إرادة القوم ، مجبورين عليها جبرا (6) .
__________
(1) - د. نعيم الحمصي : : تاريخ فكرة إعجاز القرآن ، ص 53 .
(2) - مصطفى صادق الرافعي : إعجاز القرأن ، ص 164-165.
(3) - د. أحمد أبو زيد : المنحى الإعتزالي في البيان وإعجاز القرآن ، ص 269.
(4) - د. محمد محمد أبو موسى: الإعجاز البلاغي ، ص 360 .
(5) – الرماني : النكت في إعجاز القرآن ، ص 110 .
(6) - د. وليد قصاب : التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة ص/ 320 .(1/17)
وقدم بين يدي ذلك أدلة منها :-
( أولا :- لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان
- على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .
ثانيا : - ولو ثبت هذا المنع ، لكان في حد ذاته هو المعجز، وليس القرآن ، فإن من سلك هذا المسلك في القرآن ، يلزمه أن لا يجعل له مزية ألبتة .
ثالثا : - ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره ، لبطل بعض القرآن ، ولما كان صحيحا قوله تعالى :- ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) . (1)
__________
(1) - سورة الإسراء ، آية / 88(1/18)
رابعا : - القول بالصرفة يتعارض مع الآية السابقة ، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء : إن بعضها يكون ظهيرا لبعض ، لأن المعاونة، والمظاهرة ،إنما تمكن مع القدرة ، ولا تصح مع العجز ، والمنع .) (1) . وبعد أن قدم - القاضي عبد الجبار- هذه الأدلة التي نقض بها مفهوم من تقدموه عن - الصرفة -، توصل القاضي الى مفهوم جديد للصرفة ، وهو في هذه المرة يرتبط بالقوم أنفسهم ، وليس شيئا خارجا عنهم ، أو مفروضا عليهم فرضا ، وهذا المفهوم هو : -( أن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنها غير ممكنة ، على ما دللنا عليه ، ولولا علمهم بذلك ، لم تكن لتنصرف دواعيهم ، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة ..) (2) . فهي صرفة تشبه اليأس الذي يعتري الانسان من أمر ما حاوله عدة مرات ، وكان يمنى كل مرة بالإخفاق الذريع ، فإذا بعزيمته تتثبط ، وهمته تنهار ، وذلك كان شأن القوم مع القرآن ، فلم يكن تركهم للمعارضة لأمر خارجي ، وإنما لإحساسهم باليأس ، وتيقنهم من العجز عن الإتيان بمثل القرآن ، ثم ينهي- القاضي-حديثه عن مفهومه للصرفة ، فيقول :-( فالصحيح ما قلناه ، من أنهم علموا بالعادة تعذر مثله ، فصار علمهم صرفا عن المعارضة .) (3) .
__________
(1) - القاضي عبد الجبار : المغني ج 16/ ص324 .
(2) - المغني ( مرجع سابق ) ج16 / ص 334 .
(3) - المغني : (مرجع سابق) ج16 / ص 325 ، والقاضي عبد الجبار : شرح الأصول الخمسة ، 586-589.(1/19)
فالصرفة بهذا المفهوم الجديد عند القاضي عبد الجبار ، ليست تلك الصرفة التي عند النظام ، أو الجاحظ ، والتي تعني : القهر ، والجبر ، إنما هي صرفة ذاتية ، فهم أدركوا بالفطرة ، أن أسلوب القرآن في علوه وسموه ، وروعة نظمه وبيانه ، لا يمكن مجاراته ، ومعارضته ، فانصرفوا ذاتيا بلا قهر، أو جبر من قوة خارجية عن المعارضة ، اقتناعا منهم ويقينا بالعجز، أي أن العقل فكر وجرب ، ثم اقتنع بأن إدراكاته التي وصل إليها، تمنعه من الإتيان بمثل هذا القرآن ، فالأمر في الحقيقة : انصراف ، وليس صرفة . (1)
المبحث الرابع
القائلون بالصرفة من أهل السنة
قد يستغرب كثيرمن الباحثين عندما يقرأ أن بعض كبار علماء أهل السنة يقولون بالصرفة بمفهوميها النظامي ، أوالجاحظي ، يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم ( ت548هـ ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري : - ( والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة ، والنظم ، والفصاحة ، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة ، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة ، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي ، وهو المنع من المعتاد ) (2) .
وقال الشيخ السفاريني : محمد بن أحمد ( 1189هـ) : -( وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن ( الأشعري – ) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون ، فمنعهم الله هذا ، وعجزهم عنه .) (3)
__________
(1) - د. وليد قصاب : ، التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة ، ( مرجع سابق ) ص 320-323 . بتصرف .
(2) - الشهرستاني : الملل والنحل ، بهامش الفصل ، ج1/ ص 135- 136 .
(3) - محمد بن أحمد السفاريني: لوامع الأنوار البهية ، ج1/ ص 175.
والملا علي القاري: شرح الشفاء ج1/ ص 550(1/20)
ومن علماء أهل السنة من يقول بالصرفة -على سيل الفرض والاحتمال- : كالرازي، وابن كثير ، ومنهم من عدها وجها من وجوه الإعجاز ، مثل :- الاسفراييني ، والراغب الأصفهاني ، والماوردي، وابن حزم الأندلسي الظاهري ، وإمام الحرمين ، والغزالي .
ومنهم من تضاربت أقواله بين القول بالصرفة ، أو نفيها، مثل : ابن تيمية ، وابن القيم .(1/21)
فالرازي ( محمد بن عمر بن الحسين بن علي الملقب بفخر الدين ت606هـ ) يقول بها مرة في السور القصار ، منعا من المكابرة ، والتهمة في الدين ، ويطلق القول بها ثانية على عمومه بلا تحديد ، ففي تفسيره ( لآية التحدي ) في سورة البقرة ، يقول : - ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب ) ، فههنا أطلق القول ، ولم يحدد ذلك بسورة معينة ، ثم يقول بعد ذلك :- ( فإن قيل : قوله (فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر ، وسورة ( قل يا أيها الكافرون) ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله ، أو بما يقرب منه ممكن ، فإن قلتم : إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر، كان ذلك مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن الأمر كذلك ، كان امتناعهم عن المعارضة - مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره -معجزا ، فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز .) (1) .
__________
(1) -– الرازي : مفاتيح الغيب ،ج1/ ص 116-117 ، ومحسن عبد الحميد: الرازي مفسرا ، ص 233-234 .(1/22)
بينما يقول في مقدمة كتابه ( نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ) : ( والدليل على كون القرآن معجزا : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – دعا العرب وتحداهم إلى معارضته ، ولكنهم عجزوا عن ذلك ، ولولا عجزهم ، ما تركوا المعارضة ، ليعرضوا أنفسهم لأطراف الأسنة ، ويقتحموا موارد الموت ، ولما آثروا القتال على الكلام .) (1)
ويراها ابن كثير (الحافظ عماد الدين اسماعيل ابن كثير ت 774هـ) صالحة على سبيل التنزل ، والمجادلة ، والمنافحة عن الحق ، فقال في تفسيره ( وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة ، وقول المعتزلة في الصرفة ، فقال : إن كان القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ، ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ، ولم يفعلوا مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ، لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة -وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا - إلا أنها تصلح على سبيل التنزل ، والمجادلة ، والمنافحة عن الحق ، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار ، كالعصر ، وإنا أعطيناك الكوثر.) (2)
__________
(1) - الرازي : - تسهيل نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ، ص 21 .
ومفاتيح الغيب : ج17/ ص195 .
(2) -، ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ج1/ ص60 .(1/23)
أما أبو اسحاق الاسفراييني(ابراهيم بن محمد بن ابراهيم ت 418هـ) فقد عدها وجها من وجوه الإعجاز ، قال في شرح المواقف - أثناء حديثه عن وجوه إعجاز القرآن - : ( وقيل : إعجازه بالصرفة ، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة ، لكن الله صرفهم عن معارضته ، واختلف في كيفية الصرف ، (فقال الأستاذ) أبو اسحاق منا ، (والنظام ) من المعتزلة ، ( صرفهم الله عنها مع قدرتهم ) عليها ، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها ، مع كونهم مجبولين عليها ، خصوصا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم ، كالتقريع بالعجز ، والاستنزال عن الرياسات ، والتكليف بالانقياد ، فهذا الصرف خارق للعادة ، فيكون معجزا .) (1)
وعدها الراغب الأصفهاني ( الحسين بن محمد ت 425هـ ) كذلك وجها من وجوه الإعجاز ، فقال : -(اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين ، أحدهما : إعجاز يتعلق بنفسه ، والثاني : بصرف الناس عن معارضته ، إلى أن يقول : فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة ، الذين يهيمون في كل واد من المعاني - بسلاطة لسانهم - إلى معارضة القرآن ، وعجزوا عن الإتيان بمثله ، ولم يقصدوا لمعارضته ، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة مصروفة في الباطن عنها. ) (2)
__________
(1) - القاضي عضد الدين الإيجي : شرح المواقف ج8 / ص 246 .
(2) - السيوطي : معترك الأقران في إعجاز القرآن ، ج1/ ص 5-6 . والإتقان في علوم القرآن ج4/ ص10-12 . والراغب الأصفهاني : : مفردات ألفاظ القرآن ، ص7-15 .(1/24)
وقال في جامع التفاسير : -( فلما رئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم ألبتة للتصدي لمعارضته ، لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد أبي تمام :
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع .
والله ولي التوفيق والعصمة . ) (1)
وقال الماوردي ( أبو الحسن علي بن محمد ت 450هـ ) بالصرفة :-
فبعد أن ذكر وجوه إعجاز القرآن في كتابه - أعلام النبوة - قال : ( الوجه العشرون من أوجه إعجازه : الصرفة عن معارضته ، واختلف من قال بها : هل صرفوا عن القدرة على معارضته مع دخوله في مقدورهم ..؟ على قولين :
أحدهما :- إنهم صرفوا عن القدرة ، ولو قدروا لعارضوا .
والقول الثاني :- إنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم .
والصرفة إعجاز على القولين معا ، في قول من نفاها ومن أثبتها ، فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة ، ثم يقول : فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها ، صح أن يكون كل واحد منها معجزا ، فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر ، وحجاجه أظهر ، وصار كفلق البحر ، واحياء الموتى ، لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله ) (2)
__________
(1) - الراغب الأصفهاني : مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة
ص 109 . وانظر علوم القرآن عند المفسرين ، ج2/ ص402-403.
(2) - الماوردي : أعلام النبوة - ص 85-86 .(1/25)
وقال في تفسيره النكت والعيون : - ( فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله ، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه، إلى أن يقول : والثامن : أن إعجازه هو الصرفة ، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته ، مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم تحركهم أنفة التحدي ، فصبروا على نقص العجز ، فلم يعارضوه ، وهم فصحاء العرب ، مع توفر دواعيهم على إبطاله ، وبذل نفوسهم في قتاله ، فصار بذلك معجزا لخروجه عن العادة كخروج سائر المعجزات عنها . واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين :
أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة عليه ، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني : -أنهم صرفوا عن التعرض له ، مع كونه في قدرتهم ، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه . فهذه ثمانية أوجه ، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا ، فإذا جمعها القرآن ، وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره ، صار إعجازه من الأوجه الثمانية ، فكان أبلغ في الإعجاز ، وأبدع في الفصاحة والإيجاز ) (1)
ومن القائلين بالصرفة ابن حزم الظاهري ( علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ت 456هـ ) :- ومما قاله في الفصل في الملل والأهواء والنحل :-
(
__________
(1) - الماوردي : تفسير النكت والعيون ، ج1/ ص 30- 31 ،(1/26)
والنحو الرابع : ما وجه إعجازه ..؟ فقالت طائفة : وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة ، وقالت طوائف :- إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط ، فأما الطائفة التي قالت : إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة ، فإنهم شغبوا في ذلك ، بأن ذكروا آيات منه، مثل قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة) (1) ونحوهذا ، وموه بعضهم بأن قال : لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط ، لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام ، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ ) . وبعد رده على هذين الدليلين قال : (فلا بد لهم من هذه الخطة ، أو من المصير إلى قولنا: إن الله منع من معارضته فقط ).
وقال : ( فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وأن الله منع الناس من مثله ، وكساه الإعجاز ، وسلبه جميع كلام الخلق ) ، ثم قال في آخر كلامه :- [ والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ..) (2) وأن كل كلمة قائمة المعنى ، يعلم إذا تليت أنها من القرآن ، فإنها معجزة ، لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبدا ، لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك ] (3) .
ولو تأملنا قول ابن حزم السابق ( منع الناس عن مثله وكساه الإعجاز ) نجده كلاما فيه تناقضا ، لأنه لا معنى لأن يكسوه الله الإعجاز ، إذا كان عجز البشر عنه منعا منه سبحانه ، وما دام الوجه هو منع الناس ، فلا يوصف النظم بالإعجاز ، لأن المعجز هو منع الناس عن الإتيان بمثله ، فالمنع يخلع صفة الإعجاز عن النظم ، وينقلها إلى المنع .
__________
(1) - سورة البقرة / آية 179 .
(2) -سورة الإسراء ، آية / 88 .
(3) - ابن حزم : الفصل ، ج3/ ص17-21 . وانظر د. مصطفى مسلم : مباحث في إعجاز القرآن ، ص 63.(1/27)
وقال بها كذلك : إمام الحرمين( أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت478هـ) ، فبعد أن قرر في كتابه –الإرشاد (1) -أن وجه الإعجاز في القرآن هو ( اجتماع الجزالة مع الأسلوب ،والنظم المخالف لأساليب كلام العرب ، فلا يستقل النظم بالإعجاز على التجريد ، ولا تستقل الجزالة أيضا ، ثم الإخبارعن الغيوب الماضية والمستقبلية) ، يتراجع في(العقيدة النظامية ) (2) ويناقض رأيه معلنا : أن وجه الإعجاز هو : الصرفة فقال : (وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن ، وتقطعوا فيه أيادي سبأ ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة ، خارج عن المعتاد في ذلك ، ثم زعم زاعمون : أن إعجازه في شرف جزالته ، وذهب آخرون : إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة ، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر ، والخطب ، والأراجيز، ثم يقول : - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات ، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء ،واللسن الفصحاء ، فقد حاد عن مدرك الحق ) ، ثم يقرر الجويني : أن عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن كان بسبب الصرفة ، فيقول :- (فتبين قطعا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم ، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها ، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير ، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدا وتأييدا .
__________
(1) -الجويني : الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الإعتقاد، ص 349 .
(2) - ألفه الجويني بعد كتابه الارشاد ، كما ذكر محققا الارشاد ( محمد يوسف موسى ، وزميله ) انظر المقدمة : ص / س.(1/28)
إلى أن يقول : فإذا لم تجر المعارضة ، لم يبق لامتناعها ، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق ، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن ، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة ، وشفاء الصدور في الحكم ؟ فإن مثله من مقدورات الخلق ، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم ) (1)
وعدها الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد ت 505هـ ) :- وجها من وجوه الإعجاز، فقال في كتابه –الاقتصاد في الإعتقاد : ( فإن قيل :ما وجه إعجاز القرآن ؟ قلنا : الجزالة والفصاحة مع النظم العجيب ، والمنهاج الخارج عن مناهج كلام العرب في خطبهم وأشعارهم ، وسائر صنوف كلامهم ، والجمع بين هذا النظم وهذه الجزالة معجز خارج عن مقدور البشر ، نعم ، ربما يرى للعرب أشعار وخطب حكم فيها بالجزالة ، وربما ينقل عن بعض من قصد المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن ، ولكن من غير جزالة ، بل مع ركاكة ، كما يحكى عن ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال : الفيل وما أدراك ما الفيل .. الخ ، فهذا وأمثاله ربما يقدر عليه ، مع ركاكة يستغثها الفصحاء ، ويستهزئون بها ، وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العرب منها العجب ، ولم ينقل عن واحد منهم تشبث بطعن في فصاحته ، فهذا إذن معجز وخارج عن مقدور البشر من هذين الوجهين ، أعني من اجتماع هذين الوجهين .
__________
(1) - الجويني : العقيدة النظامية في الأركان الاسلامية - ص 72-73 ( باختصار يسير )(1/29)
فإن قيل : لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ، ولو قصدت لقدرت عليه ، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به ، والجواب : - إن ما ذكروه هوس ، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف ، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي ، وشن الغارات ، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا ، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى ، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات .) (1)
وهنا أقول مع شيخ مشايخنا ، محمد عبد العظيم الزرقاني : - ( إني لأعجب من القول بالصرفة في ذاته ، ثم ليشتد عجبي وأسفي ، حين ينسب إلى نفر من علماء المسلمين ، الذين نرجوهم للدفاع عن القرآن ، ونربأ بأمثالهم أن يثيروا هذه الشبهات في إعجاز القرآن . على أن الحق لا يعرف بالرجال ، إنما يعرف الحق بسلامة الاستدلال ، وها قد طاش هذا الرأي في الميزان - كما سنبين - ، فلنرده على قائله أيا كان .
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر ) (2)
المبحث الخامس
القائلون بالصرفة من الشيعة الإمامية الاثنى عشرية
قال بها الشيخ المفيد في كتابه أوائل المقالات ، وإن حكي عنه غيره ، وقال بها الشريف المرتضى في رسالة خاصة له ، تحت عنوان :( الموضح عن جهة إعجاز القرآن ) ، والشيخ الطوسي : في شرحه لجمل ( الشريف المرتضى ) ، وإن رجع عنه في كتابه ( الاقتصاد )، وقال بها كذلك ابن سنان الخفاجي .
__________
(1) – الغزالي : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص129-130 .
(2) - محمد عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ، ج2/ ص 315 . بتصرف يسير .(1/30)
قال الشيخ المفيد (محمد بن محمد النعمان البغدادي ت338هـ ) في وجه إعجاز القرآن :- ( إن جهة ذلك : هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي – صلى الله عليه وسلم – بمثله في النظام ، عند تحديه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله – وإن كان في مقدورهم – دليلا على نبوته ، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان ، وهذا أوضح برهان في الإعجاز ، وأعجب بيان ، وهو مذهب – - النظام – وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال ) (1) .
هذا وقد نقل المجلسي في : - بحار الأنوار- قولا آخر للشيخ المفيد في بيان وجوه إعجاز القرآن ، جاء فيه :- ( ما ذهب إليه الشيخ المفيد ، وهو أنه إنما كان معجزا من حيث اختص برتبة في الفصاحة خارقة للعادة ، قال :- لأن مراتب الفصاحة إنما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها الله في العباد ، فلا يمنع أن يجري الله العادة بقدر من العلوم ، فيقع التمكن بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية ، ويكون ما زاد على ذلك غير معتادة ، معجزا خارقا للعادة ) (2) .
وقال بها كذلك -الشريف المرتضى :( علي بن الحسين بن موسى بن محمد ت355هـ):- فقد نقل عنه الطوسي قوله : - ( إن الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن ، متى راموا المعارضة ، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم ) (3)
__________
(1) - جعفر السبحاني : الإلهيات ، ص 341 ، نقلا عن أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 31
(2) - الإلهيات : ( مرجع سابق ) ص 341 ، نقلا عن بحار الأنوار للمجلسي ج92/ ص 137 .
(3) - الإلهيات : ( مرجع سابق) - ص341 ، نقلا عن الاقتصاد للشيخ الطوسي ص 172 وانظر لوامع الأنوار البهية ( مرجع سابق ) ، ج1/ ص174 . وشرح المصطلحات الكلامية ، ص / 187 ، إعداد قسم الكلام ، في مجمع البحوث الإسلامية . وشرح المواقف ( مرجع سابق ) ج8/ ص 246 .(1/31)
ومؤدى كلامه : أن العرب أوتوا القدرة على معارضة القرآن ، والإتيان بمثله ، بما كانوا عليه من بيان ، وبلاغة ، وفصاحة ، ولكنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ، لأنهم سلبوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن .
وقال الطوسي ( نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن ت 385هـ) بالصرفة : في كتابه: (تمهيد الأصول في علم الكلام ) - وهو شرح على كتاب :( جمل العلم والعمل ) للمرتضى - ثم تراجع عنه بعد ذلك في كتابه - الاقتصاد- فقال :-
( وأقوى الأقوال عندي ، قول من قال : إنما كان معجزا خارقا للعادة ، لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص ، دون الفصاحة بانفرادها ، ودون النظم بانفراده ، ودون الصرفة ، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة ، على ما كان يذهب اليه المرتضى - رحمه الله - ، من حيث شرحت كتابه ، فلم يحسن خلاف مذهبه ) (1) .
وقال بها كذلك ابن سنان ( عبد الله محمد بن سعيد الخفاجي ت466هـ) في كتابه – سر الفصاحة - ، يقول ابن سنان : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك ، ثم يقول :- إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف . وقال في موضع آخر :- متى رجع الانسان الى نفسه ، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه ... !! ) (2) .
__________
(1) - المرجع السابق نفسه ونفس الصفحة . وانظر فكرة إعجاز القرآن( مرجع سابق ) ص 109 .
(2) - ابن سنان الخفاجي : سر الفصاحة ، ص 89 ، 217(1/32)
وهذا رأي عجيب من ابن سنان ، لأنه على ما يبدو ، إنما ألف كتابه – - سر الفصاحة – ليبين أن أسرار إعجاز القرآن تكمن في فصاحته ، فكيف استطاع أن يوفق بين قوله بأن إعجاز القرآن يكمن في فصاحته ، وبين قوله بالصرفة ..؟ أم أنه كما يقول الدكتور محمد محمد أبو موسى : ( وكان الأمير الخفاجي – رحمه الله وأثابه – قليل التدقيق والتروي ، وفي كتابه تجاوزات كثيرة . مرجعها غالبا إلى واحد من أمرين : السرعة المؤدية إلى عدم إحكام مقالة أهل العلم ، أو ضعف سليقة الرجل ، وإحساسه بالفروق بين طبقات الكلام ، وهذا لا يدفع أن الرجل قد هدي إلى كثير من الدقائق ..) (1)
المبحث السادس
بطلان القول بالصرفة
مما سبق تبين لنا أن الصرفة نشأت في بيئة المعتزلة على يد -النظام -ومن تابعه، واعتبروها وجها من وجوه إعجاز القرآن ،- مع اختلافهم على مفهومها - ، وقال بها كذلك طائفة من علماء أهل السنة، والظاهرية ، والشيعة الامامية ، مع عدم موافقة بعضهم على مفهوم - النظام – لها، ويمكننا أن نتعرف من أقوال القائلين بالصرفة على المفاهيم التالية :-
المفهوم الأول : مفهوم النظام ومن تابعه، فقد ذهبوا إلى أن العرب صرفوا عن المعارضة جبرا ، ولم يتوجهوا إليها ، ولو توجهوا لاستطاعوا الإتيان بمثل القرآن ، وهذا المذهب ينفي عن القرآن الإعجاز .
والمفهوم الثاني : قال به الشريف المرتضى ، وابن سنان الخفاجي، ومن تابعهما ، فقد ذهبوا إلى أن الله سلب من العرب علومهم التي يحتاجون إليها في معارضة القرآن ، والإتيان بمثله ، ولو توجهوا لمعارضته ، لما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن .
__________
(1) - د. محمد محمد أبو موسى : الإعجاز البلاغي ( مرجع سابق ) ص/ 370- 371 .
وانظر د. أحمد سيد محمد عمار : نظرية الإعجاز القرآني ، وأثرها في النقد العربي القديم ، ص 42 وما بعدها . ( بتصرف ) ط1، 1998م ، دارالفكر ، دمشق .(1/33)
المفهوم الثالث : وهو مفهوم الجاحظ ، والرماني لها ، وهولا يقدح في إعجاز القرآن ، بل هو ضرب من التدبير الإلهي ، فصرف نفوس العرب وأوهامهم عن معارضة القرآن ، ليحفظه من عبث العابثين .
المفهوم الرابع :- وهو ما ذهب إليه القاضي عبد الجبار ، حيث رفض المفاهيم السابقة للصرفة ، واعتبر أن الصرفة مرتبطة بالقوم أنفسهم ، وليست شيئا خارجا عنهم ، أو مفروضة عليهم فرضا ، بل إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم أنها غير ممكنة ، فهي في الواقع انصراف ، وليست صرفة .
وقد تصدى نفر من العلماء لهذه المفاهيم جميعها ، وقاموا بردها وتفنيدها بأدلة منها:-
1- قال الخطابي :( أبو سليمان أحمد بن محمد بن ابراهيم ت388هـ) :- إن قوما ذهبوا الى أن العلة في إعجازه – أي القرآن – الصرفة ، أى صرف الهمم عن المعارضة ، ولم يرتض الخطابي ذلك، بل رد عليهم بقوله : ( إن دلالة الآية تشهد بخلافه ، وهي قوله تعالى :
( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) (1) ، فأشار سبحانه في ذلك إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد ، وسبيله التأهب والاحتشاد ، والمعنى في الصرفة التي وصفوها ، لا يلائم هذه الصفة ، فدل على أن المراد غيرها .) (2)
2- رد الباقلاني (أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم ت 403هـ) الصرفة بردود منها : -
__________
(1) - سورة الاسراء / آية 88 .
(2) - الخطابي : في بيان اعجاز القرآن ، ص 23-24 .(1/34)
أولا :- لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة
- حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .
ثانيا :- إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله ، علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان
ثالثا :- إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.) (1) .
__________
(1) - الباقلاني: إعجاز القرآن ، ص 42 .(1/35)
3- أفرد الإمام عبد القاهر الجرجاني( أبو بكر بن عبد الرحمن ت 471هـ ) فصلا كاملا في رسالته – الشافية – ( في الذي يلزم القائلين بالصرفة ) ، أبطل فيه مذهبهم ، بردود كاقية شافية ، منها : - ( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.(1/36)
ومنها :-الأخبار التي جاءت عن العرب في شأن تعظيم القرآن ، وفي وصفه بما وصفوه به من نحو :-( إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ) فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه .
وخلاصة القول : - إن دليل النبوة عند القائلين بالصرفة ، إنما كان في الصرف والمنع عن الإتيان بمثل نظم القرآن ، لا في نفس النظم ، ولو كان ذلك صحيحا ، لكان ينبغي إذا تعجب متعجب ، أن يقصد بتعجبه إلىالمنع من شيء كان يستطيعه ، لا أن يقصد بتعجبه وإكباره الى الممنوع وهو القرآن الكريم ، وهذا واضح لا يشكل .) (1)
4- رد الحاكم الجشمي ( أبو سعد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي ت 494هـ )
- الزيدي المذهب ،المعتزلي العقيدة - الصرفة ، وأبان عن فسادها بقوله :- ( وقول من يقول بالصرفة لا يصح لوجوه ، منها : أن القوم في أيامه لم يكونوا ممنوعين من الكلام ، فإن أراد صرفهم عن العلم الذي معه يتأتى مثله ، فهو الذي نقول ، وإن أراد صرفهم - وتلك العلوم قائمة والدواعي إلى المعارضة متوافرة - فذلك يستحيل ، وإن قال يصرفهم عن الدواعي ، فقد بينا ثبوت الدواعي فيهم . وبعد ، فلو كان الإعجاز الصرفة ، لكان أدون في الفصاحة آكد في الإعجاز ، ولكنه كان لا يصح التحدي به ) (2)
__________
(1) الجرجاني : - عبد القاهر ، الرسالة الشافية ص 146- 154 ، بتصرف .
(2) - د. عدنان زرزور : الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير ، ص 446 .(1/37)
5- رد ابن عطية : ( القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب ت 546هـ ) القول بالصرفة فقال :- ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .(1/38)
والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد . إلى أن يقول : فصورة قيام الحجةبالقرآن علىالعرب : أنه لما جاء محمد – - صلى الله عليه وسلم – به وقال : ( فأتوا بسورة من مثله ) (1) ، قال كل فصيح في نفسه : وما بال هذا الكلام حتى لا آتي بمثله ؟ فلما تأمله وتدبره ، ميز منه ما ميز الوليد بن المغيرة حين قال : والله ما هو بالشعر ، ولا هو بالكهانة ، ولا بالجنون ، وعرف كل فصيح بينه وبين نفسه أنه لا قدرة لبشر على مثله ، فصح عنده أنه من عند الله ، فمنهم من آمن وأذعن ، ومنهم من حسد كأبي جهل وغيره ، ففر إلى القتال ، ورضي بسفك الدم ،عجزا عن المعارضة ، حتى أظهر الله دينه ، ودخل جميعهم فيه ، ولم يمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي الأرض قليل من العرب يعلن كفره . ) (2)
5- قال أبو حيان ( أبو علي محمد بن يوسف بن علي الأندلسي ت 654هـ) :
(
__________
(1) - سورة البقرة ، آية / 23 .
(2) - ابن عطية : المحرر الوجيز ، ج1/ ص 71- 73 ، و القرطبي : الجامع لأحكام القرآن – ، ج1/ ص51 .(1/39)
اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ، ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته . والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية ، فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق .) (1)
7- إجماع الأمة قبل ظهور القول بالصرفة على أن إعجاز القرآن ذاتي ، وقد حكى الإمام القرطبي:( محمد بن أحمد ت684هـ) الإجماع في كتابه (الجامع لأحكام القرآن ) فقال بعد أن ذكر قول القائلين بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .) (2)
8- تحدث العلوي : ( يحيى بن حمزة ت 749هـ ) عن الصرفة كذلك وردها، بعد أن بين أن لها تفسيرات ثلاثة ، فقال: -
(
__________
(1) - أبو حيان : البحر المحيط ج1/ ص 8-9 .
(2) - القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ،ج1/ ص75. وانظر :د. عبد الفتاح محمد سلامة: قضية الإعجاز بين المتقدمين والمتأخرين ، ص 154 .(1/40)
التفسير الأول : -أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة، مع أن أسباب توفر الدواعي في حقهم حاصلة من التقريع بالعجز، والاستنزال عن المراتب العالية ، والتكليف بالإنقياد والخضوع ، ومخالفة الأهواء .
التفسير الثاني :- أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلبهم العلوم التي لا بد منها في الإتيان بما يشاكل القرآن ، ويقاربه ، ثم إن سلب العلوم يمكن تنزيله على وجهين ،
أحدهما أن يقال : إن تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الاستمرار ، لكن الله تعالى أزالها عن أفئدتهم ، ومحاها عنهم .
وثانيها أن يقال : إن تلك العلوم ما كانت حاصلة لهم ، خلا أن الله تعالى صرف دواعيهم عن تجديدها ، مخافة أن تحصل المعارضة .
التفسير الثالث :- أن يراد بالصرفة : أن الله تعالى منعهم بالإلجاء على جهة القسر عن المعارضة - مع كونهم قادرين - ، وسلب قواهم عن ذلك ، فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة .
وحاصل الأمر في هذه المقالة : أنهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن ، إلا أن الله تعالى منعهم بما ذكرناه ، والذي غر هؤلاء حتى زعموا هذه المقالة ، ما يرون من الكلمات الرشيقة ، والبلاغات الحسنة ، والفصاحات المستحسنة ، الجامعة لكل الأساليب البلاغية في كلام العرب الموافقة لما في القرآن ، فزعم هؤلاء أن كل من قدر على ما ذكرناه من تلك الأساليب البديعة ، لا يقصر عن معارضته ، خلا ما عرض من منع الله إياهم بما ذكرنا من الموانع ، والذي يدل على بطلان هذه المقالة براهين : -
البرهان الأول منها : أنه لو كان الأمر كما زعموه ، من أنهم صرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها ، لوجب أن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة ، وأن يميزوا بين أوقات المنع ، والتخلية ، ولو علموا ذلك ، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجب ، ولو تذاكروا لظهر وانتشر على حد التواتر، فلما لم يكن ذلك، دل على بطلان مذاهبهم في الصرفة .(1/41)
البرهان الثاني : لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .
البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . ) (1)
9- رد الشريف الجرجاني ( السيد علي بن محمد ت 812هـ ) شبه القادحين في إعجاز القرآن فقال : - ( وأما القول بالصرفة فلوجوه ، الأول : الاجماع قبل هؤلاء) القائلين بها (على أن القرآن معجز ، و)على هذا القول يكون المعجز هو الصرف لا القرآن ، ألا ترى أنه
(
__________
(1) - يحيى بن حمزة العلوي: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة ، المجلد 3/ ص 391-395 .( باختصار ) .(1/42)
لو قال : أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه ، وكان كذلك ، لم يكن قيامه معجزا ، بل عجزهم عن القيام) ، فهذه المقالة خارقة لإجماع المسلمين السابقين على أن القرآن معجزة لرسول الله دالة على صدقه .
(الثاني ): إنهم (لو سلبوا القدرة) -كما قال به الشريف المرتضى - لعلموا ذلك من أنفسهم ، و(لتناطقوا به عادة ولتواتر) عنهم( ذلك) التناطق ، لجريان العادة بالتحدث بخوارق العادات ، لكنه لم يتواتر قطعا ، (فإن قيل : إنما لم يتذاكروه) ولم يظهروه (لئلا يصير حجة عليهم )، ملجئة لهم إلى الإنقياد مع أنهم كانوا حراصا على إبطال حجته ، وانتكاس دعوته ، فلا يتصور منهم حينئذ إظهار ما علموه من أنفسهم ،( قلنا : إن كان ذلك) ، أي سلب القدرة عنهم (موجبا لتصديقه) إيجابا قطعيا ، (امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته) ، والإعراض بالكلية عن مقتضاه ، (وإن لم يكن موجبا لتصديقه بل احتمل السحر وغيره) كفعل الجن (مثلا لتناطقوا به ، وحملوه عليه) ، وقالوا : قد سلب عنا قدرتنا ، إما بالسحر ، وإما بغيره ، فلا يلزمهم بإظهاره صيرورته حجة عليهم .
(الثالث ): إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم (كانوا) حينئذ (يعارضونه بما اعتيد منهم) من مثل القرآن الصادر عنهم (قبل التحدي به) ، بل قبل نزوله ، (فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به ) فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة] (1)
__________
(1) - شرح المواقف : ( مرجع سابق ) ج8/ ص 249 .(ما بين القوسين من كلام الإيجي ، وما عداه فهو للشريف الجرجاني )(1/43)
10- قرر السيوطي : (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911هـ ) بطلان مذهب الصرفة ، فقال: :( زعم النظام أن إعجازه بالصرفة ، أي أن الله صرف العرب عن معارضته ، وسلب عقولهم ، وكان مقدورا لهم ، لكن عاقهم أمر خارجي ، فصار كسائر المعجزات، وهذا قول فاسد بدليل : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن .. الآية ) (1) فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة إعجاز إلى القرآن ، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز ، بل المعجز هو الله تعالى ، حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله ؟ وأيضا فيلزم من القول بالصرفة : زوال إعجازه بزوال زمن التحدي ، وخلو القرآن من الإعجاز ، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة : أن معجزة الرسول العظمى باقية ، ولا معجزة له باقية سوى القرآن . ) (2)
11- قال الآلوسي : ( أبو الفضل شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي البغدادي ت 1270هـ ) - بعد أن ذكر بعض وجوه إعجاز القرآن - :
( قال الأستاذ أبو اسحاق الاسفرايني ، والنظام ، إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته ، وقال المرتضى : بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة ، واعترض بأربعة أوجه : -
الأول :- أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة ، لا القرآن ، وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل .
الثاني : أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب ، فلو كان الإعجاز بالصرفة ، لكانت على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه ، فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له ، والمعتاد لكل ليس هوالكلام الفصيح بل خلافه، فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك .
__________
(1) - سورة الإسراء ، آية / 88 .
(2) - السيوطي : الإتقان ( مرجع سابق ) ، ج4/ ص6-7 . .(1/44)
الثالث : أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد ، فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها .
الرابع : وهوخاص بمذهب المرتضى ، أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ، ولو تناطقوا لشاع ، إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق ، فحيث لم يكن ، دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار . واستدل بعضهم على فساد القول بها بقوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن ..) (1) فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لأنه بمنزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره .. إلى أن يقول : وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة ، حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى ، كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه ، واتسع عطنه.) (2)
12 - قال السيد أبو القاسم الخوئي : (ت 1413هـ ) -من علماء الشيعة الإمامية - : بعد أن ذكر وجوه إعجاز القرآن ، وتحدث عن بعض الأوهام حول إعجاز القرآن وقام بتفنيدها ، قال : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد .
__________
(1) - سورة الإسراء : آية / 88 .
(2) - الآلوسي : روح المعاني ، ج1/ ص 27- 33 .(1/45)
الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف :
أولا : لأن الصرفة التي يقولون بها ، إن كان معناها : أن الله قادر على أن يقدر بشرا على أن يأتي بمثل القرآن ، ولكنه تعالى صرف هذه القدرة من جميع البشر ، ولم يؤتها لأحد منهم فهو معنى صحيح ، ولكنه لا يختص بالقرآن ، بل هو جار في جميع المعجزات .
وإن كان معناها : أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن ، ولكن الله صرفهم عن معارضته ، فهو واضح البطلان ، لأن كثيرا من الناس تصدوا لمعارضة القرآن ، فلم يستطيعوا ذلك ، واعترفوا بالعجز .
ثانيا : لأنه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . ) (1)
__________
(1) - علوم القرآن عند المفسرين ، مركز الثقافة والمعارف القرآنية التابع لمكتب الإعلام الإسلامي –إيران . . ج2/ ص 542-543 ، نقلا عن تفسير البيان ج1/ ص 51- 114 .(1/46)
13-قال الزرقاني ( محمد عبد العظيم ) : تحت عنوان شبهة القول الصرفة :- ( ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة ، أي : صرف الله العرب عن معارضته ، على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية ، وضربوا لذلك مثلا ، فقالوا : إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الإختيارية ، ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته ، إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر ، وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعده همته ، وثبط عزيمته ، وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه ، فعطل آلاته ووسائله ، وعاق قدرته قهرا عنه ، على رغم انبعاث همته نحوه ، وتوجه إرادته إليه ، فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ، لم ينشأ من أن القرآن بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذي لا تسمو إليه قدرة البشر عادة ، بل لواحد من ثلاثة :
أولها : أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم .
ثانيها : أن صارفا إلهيا زهدهم في المعارضة ، فلم تتعلق بها إرادتهم ، ولم تنبعث إليها عزائمهم ، فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعي .
ثالثها : أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية ، وعاق قدرتهم البلاغية ، وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها .(1/47)
بهذا التوجيه أو نحوه ، يعزى القول بالصرفة إلى : أبي اسحق الاسفراييني من أهل السنة ، والنظام من المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة . وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها ، أو التمست لهم ، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجئ من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم ، بل جاءت على الفرضين الأولين ، من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة ، ولو أنهم حاولوها لنالوها ، وجاءت على الفرض الأخير ، من ناحية عجزهم عنها بسبب خارجي عن القرآن ، وهووجود مانع منعهم منها قهرا ، ذلك المانع هو : حماية الله لهذا الكتاب ، وحفظه إياه من معارضة المعارضين ، وإبطال المبطلين . ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله ،لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه .
وبعد أن ذكر الزرقاني شبه القائلين بالصرفة ، أخذ في تفنيد شبههم فقال : وهذا القول بفروضه التي افترضوها ، أو بشبهاته التي تخيلوها ، لا يثبت أمام البحث ، ولا يتفق والواقع .
أما الفرض الأول : فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر ، من أن دواعي المعارضة كانت قائمة موفورة ، ودوافعها كانت ماثلة متآخذة ، وذلك لأدلة كثيرة :
منها : أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه ، ثم سجل العجز عليهم ، وقال بلغة واثقة : إنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ، ولن يفعلوا ، ولو ظاهرهم الإنس والجن ، فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا ، ولو كانوا أجبن خلق الله .؟
ومنها : أن صناعتهم البيان ، وديدنهم التنافس في ميادين الكلام ، فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة .؟
ومنها : أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شيء لديهم ، وهي عقائدهم المتغلغلة فيهم ، وعوائدهم المتمكنة منهم ، فأي شيء يلهب المشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا ..؟ ما دامت المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا .(1/48)
وأما الفرض الثاني : فينقضه الواقع التاريخي أيضا ، ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء ، من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ، ونالت منالها من عزائمهم ، فهبوا هبة رجل واحد ، يحاولون القضاء على دعوة القرآن ، بمختلف الوسائل ، فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ، ولم يدعوا بابا إلا دخلوه . لقد آذوه ، وآذوا أصحابه ، فسبوا من سبوا ، وعذبوا من عذبوا ، وقتلوا من قتلوا . ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة ، لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ، ولا يتزوجون منهم ، ولا يزوجون ، واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر . ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة ، وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية ، منها : أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا ، وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه ، وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا ، وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن . كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به . ولما أبى عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم ، فيعبد آلهتهم سنة ، ويعبدون إلهه سنة ، فأبى أيضا .(1/49)
ولقد اتهموه – صلى الله عليه وسلم – بالسحر ، وأخرى بالشعر ، وثالثة بالجنون ، ورابعة بالكهانة ، وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم ، فيبهتونه ، ويكذبونه أمام من لا يعرفونه ، ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ، ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم . ولقد تآمروا على الرسول أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، لولا أن حفظه الله وحماه من مكرهم ، وأمره بالهجرة من بينهم . ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره ، فشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة ، منها سبع وعشرون غزوة ، وثمان وأربعون سرية . فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله : إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ، ونبي القرآن ، وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل ، زاهدين في النزول إلى هذا الميدان .؟
وأما الفرض الثالث : فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته ، اقتناعا بإعجازه ، وعجزهم الفطري عن مساجلته ، ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية ، لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي شرحناها ، ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ، ولكان هذا مثار عجب لهم ، ولأعلنوا ذلك في الناس ، ليلتمسوا لأنفسهم العذر ، وليقللوا من شأن القرآن في ذاته ، ولعمدوا إلى كلامهم القديم ، فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن ، يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ، ولكانوا بعد نزول القرآن أقل فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله ، ولأمكننا نحن الآن ، وأمكن المشتغلين بالأدب العربي في كل عصر ، أن يتبينوا الكذب في دعوى إعجاز القرآن ، وكل هذه اللوازم باطلة ، فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة ..) (1)
__________
(1) - الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن، ( مرجع سابق ) ج2/ ص310-315 ( باختصار يسير )(1/50)
14- وأخيرا لا آخرا تأثير القرآن في أنفس العرب : - فقد أجمع أساطين الأدب والبيان- قديما وحديثا - ، على أن للعرب في عصر الرسالة قدما راسخة في البيان ، وبلاغة المنطق ، وتذوق الكلام ، والتمييز بين جيده ورديئه ، وليس أدل على ذلك مما قاله الجاحظ في كتابه
-حجج النبوة - ، حيث قال :- ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا ..
إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ ) (1) .
ومع عناد مشركي مكة ، ومحاربتهم لدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم-فإن فصحاءهم لم يكتموا إعجابهم ببلاغة القرآن ، وحسن تعبيره ، وقوة تأثيره ، وجمال نظمه ، وروعة إيقاعه.
__________
(1) - الجاحظ : حجج النبوة : -ضمن رسائل الجاحظ - ص 149. ود. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي - ص76.(1/51)
وقد صدرت عن فصحائهم وبلغائهم أقوال صريحة تشير الى علو كعبه في هذا المضمار ، وذلك إبان تفكيرهم في القرآن ، وحيرتهم في جمال نظمه وجلال معناه ، ولعل الوليد ابن المغيرة - وهو من بلغاء عصر الوحي - أول من تنبه إلى عظمة القرآن ، فكانت كلمته المأثورة أول تقريظ ناله القرآن من بلغاء عصره ومصره والتي يقول فيها :-
(والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق - يشبهه بالنخلة التي ثبت أصلها وقوي وطال فرعها- ، وإن غرسه لجنا – أي كثير الجنى وهو الثمر – وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ) (1) ، وما كان له أن يقولها لوعلم إمكان معارضته .
وروى الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك
أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها .
__________
(1) - ابن هشام : السيرة النبوية - ج1 / ص234-235.(1/52)
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟
قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] (1) ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟
قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .) (2) .
__________
(1) - سورة فصلت / 1-4.
(2) - ابن هشام :السيرة النبوية ، ( مرجع سابق )ج1/ ص234-235.(1/53)
وأمر - الطفيل بن عمرو الدوسي - كأمر هؤلاء الذين أثر فيهم القرآن ، كان شريفا في قومه ، شاعرا نبيلا ، قدم مكة ، فمشى إليه رجال من قريش يحذرونه من اتباع محمد – صلى الله عليه وسلم - قائلين :إنا نخشى عليك وعلى قومك ، فإذا ما دخل عليك فلا تكلمه ولا تسمع منه ، يقول الطفيل : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت - أي قصدت وعزمت -على أن لا أ سمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت المسجد فحشوت أذني كرسفا ( أي قطنا ) فرقا ( أي خوفا ) من أن يبلغني شيئا من قوله ، فإذا رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة ، فقمت قريبا منه ، فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله ، فسمعت كلاما حسنا ، فقلت في نفسي : أنا ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني من أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت ،وإن كان قبيحا تركت ، فمكثت حتى انصرف إلى بيته ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لي كذا وكذا ، حتى سددت أذني بكرسف كي لا أسمع قولك ، فاعرض علي أمرك ،فعرض عليه الاسلام ، وتلا عليه القرآن ، قال الطفيل : والله ما سمعت قط قولا أحسن من هذا ، ولا أمرا أعدل منه ، فأسلمت .) (1)
وأكتفي بما ذكرته من أخبار منسوبة لمشركي قريش ، تدل على اعترافهم الصريح بإعجاز القرآن الكريم ، وبلوغه درجة في البيان لم يبلغها شاعر ، ولا خطيب منهم ، وتبين تأثيره في القلوب التي كانت تهفو لمعرفة الحق ، وتتوق للوصول إلى الطمأنينة والأمان ، وفي القلوب الصلدة رغم المكابرة والعداوة ، فلامس القرآن شغاف قلوب بعضهم ، وملك أفئدتهم وعقولهم فعرفوا مزيته وإعجازه ، فقادهم إلى صراط الحق القويم .
الخاتمة
بعد هذا العرض لمفهوم الصرفة ، تبينت لي حقيقتان هامتان ، أشير إليهما بإجمال :
__________
(1) - ابن هشام: السيرة النبوية ، ( مرجع سابق) ، ج2 / ص 18- 21.(1/54)
الحقيقة الأولى :- أن قريشا مع شدة ملاحاتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومع أن القرآن قد ذكر آباءهم بغير ما يحبون ، وذكر أوثانهم بغير ما يؤمنون ، لم يتحركوا لأن يقولوا مثله ، إذعانا لبلاغته وفصاحته ، مع أن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه ، فما فعلوا لئلا يسفوا في تفكيرهم ، فدل هذا على عجزهم المطلق ، ( إذ نابذوه وناصبوه الحرب ، فهلكت النفوس ، وأريقت المهج ، وقطعت الأرحام ، وذهبت الأموال ، ولو كان ذلك في وسعهم ، وتحت مقدورهم لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة ، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة ، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول ، إلى الحزن الوعر من الفعل ، وهذا ما لا يفعله عاقل ، ولا يختاره ذو لب راجح ..) (1)
الحقيقة الثانية :- أن القرآن جذب كثيرا من العرب إلى الإيمان بما فيه من قوة بيان وإيجاز معجز ، وأقوال محكمة ، وقصص تطول وتقصر ، وهي مملوءة بالعبر في طولها وقصرها ، وإطنابها الرائع ، وإيجازها الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أوفاها حقها ، بالعبارة الناصعة ، والإشارة الواضحة ، فأدركوا أن إعجازه ذاتي ، نابع منه ، وأنه فوق طاقة البشر . وهذا يقودنا إلى أن القول بالصرفة قول باطل ، وساقط عن الاعتبار ، وإن قال به نفر من أعلام العلماء ، فالحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف بسلامة الاستدلال .
وأن إعجاز القرآن ذاتي ، فهو معجز بنظمه ، وصحة معانيه ، وتوالي فصاحة ألفاظه ، مما جعل العرب يستعظمون بلاغة القرآن وفصاحته ، ولو كانوا مصروفين عن المعارضة ، لكان تعجبهم للصرف ، لا للبيان المعجز ، ولو كان هناك سلب لعلومهم ، لكان الفرق بين كلامهم بعد التحدي وكلامهم قبله ، كالفرق بين كلامهم بعد التحدي وبين القرآن ، ولما لم يكن كذلك ، بطل القول بالصرفة .
مراجع البحث
__________
(1) -الخطابي : بيان إعجاز القرآن ، ( مرجع سابق ) ص/ 21 .(1/55)
1- أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري : د. محمد زغلول سلام ، تقديم د. محمد خلف الله أحمد ، ط3 ، دار المعارف بمصر .
2- إعجاز القرآن : أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني ( ت403هـ ) ، تحقيق السيد أحمد صقر ، دار المعارف بالقاهرة ، 1954م .
3- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية : مصطفى صادق الرافعي ، حققه محمد سعيد العريان ط3 ، 1945 ، مطبعة الاستقامة بالقاهرة .
4- أعلام النبوة : أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، (ت 450هـ ) : الطبعة الأولى 1987م – مكتبة الآداب ، مصر تعليق : د. عبد الرحمن حسن محمود
5- الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911هـ ) تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار التراث بالقاهرة ، ط 3 ، 1985م .
6- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد : إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني :( ت478هـ) ، تحقيق : د. محمد يوسف موسى وزميله ، طبع الخانجي بمصر سنة 1950 م .
7- الإعجاز البلاغي: د. محمد محمد أبو موسى، ط2، 1977م ، مكتبة وهبة ، القاهرة .
8- الإعجاز الفني في القرآن : د. عمر السلامي ، نشر وتوزيع مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله ، تونس ، 1980 م .
9- الإعجاز القرآني، وجوهه وأسراره : د . عبد الغني محمد سعد بركة ، ط1، 1989م، مكتبة وهبة بالقاهرة .
10- الاقتصاد في الاعتقاد : حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ،
( ت 505هـ)، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت .
11- الإلهيات : جعفر السبحاني ، منشورات المركز العالمي للدراسات الاسلامية – إيران .
12- الإمتاع والمؤانسة : لأبي حيان التوحيدي : )ت 414هـ) ، تحقيق أحمد أمين وزميله ، لجنة االتأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1939م.(1/56)
13- البرهان في علوم القرآن : بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ( ت794هـ ) تحقيق : محمد أبو الفضل ابراهيم ، الطبعة الأولى ، دار إحياء الكتب العربية ، مصر 1957م .
14- البخلاء : لأبي عثمان عمرو بن بحرالجاحظ ( ت 255هـ )، ، اصدار دار الشئون الثقافية العامة ببغداد سنة 1991م
15- بيان إعجاز القرآن الكريم : لأبي سليمان حمد بن محمد بن ابراهيم الخطابي
( ت388هـ ) ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تحقيق محمد خلف الله أحمد ، وزميله ، ط3، دار المعارف ، بالقاهرة .
16- البيان في إعجاز القرآن: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي ، دار عمار - عمان ، الأردن .
17- تاريخ الخلفاء ، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ، تعليق : محمود رياض الحلبي ، دار المعرفة – بيروت 1977م .
18- تسهيل نهاية الايجاز في دراية الاعجاز : محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي
( ت606هـ ) تيسير عبد القادر حسين ، دار الاوزاعي ، قطر ، 1989م .
19- تفسير البحر المحيط : لأبي حيان الأندلسي : محمد بن يوسف ( ت745هـ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
20- تفسيرالقرآن العظيم : لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ( ت774هـ) ، مطبعة الإستقامة ، القاهرة .
21- التراث النقدي والبلاغي لمعتزلة حتى نهاية القرن السادس الهجري : د. وليد قصاب، دار الثقافة ، الدوحة – قطر ، 1985م .
22- الجامع لأحكام القرآن : لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت671هـ ) دار الكتب العلمية ، بيروت 1993م .
23- الجهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي : خالد العلي ، دار الإرشاد ، بغداد ، 1965م .
24- حجج النبوة : لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ت 255هـ ) - ضمن رسائل الجاحظ- تحقيق : عبد السلام محمد هارون ،ط1 ، الخانجي ،القاهرة ، 1979م .
25- حول إعجاز القرآن : علي العماري ، سلسلة الثقافة الاسلامية - عدد: 44 ، حزيران 1963 م ، القاهرة .(1/57)
26- الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن : د.عدنان زرزور ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر .
27- الحيوا ن : لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 255هـ) ، تحقيق عبد السلام هارون ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط3 ، 1969م .
28- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني : لأبي الفضل شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي البغدادي ( ت 1270هـ) ، بيروت ، 1978م.
29- سر الفصاحة : لأبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي
( ت466هـ ) ،تصحيح وتعليق عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده ، القاهرة ، 1953م .
30- السيرة النبوية : لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري
( ت218هـ) - حققها وضبطها مصطفى السقا وزملاؤه .الطبعة الأولى - دار الخير بدمشق -1996
31- شرح الأصول الخمسة ، تحقيق د. عبد الكريم عثمان ،مكتبة وهبة ، ط1 ، مصر ، 1965م .
32- شرح الشفا للقاضي عياض : للإمام الملا علي القاري ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .
33- شرح المواقف للقاضي عضد الدين عبد الرحمن الإيجي ( ت756هـ) : السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني : ( ت ص812هـ ) ط1، مطبعة السعادة ، مصر 1907م .
34- طبقات المعتزلة : ابن المرتضى ( أحمد بن يحيى ) ، تحقيق سوسنة ريفلد فلزر ، ط بيروت 1961 م .
35- طبقات المعتزلة : القاضي المعتزلي عبد الجبار بن أحمد ( ت415هـ) ، تحقيق علي سامي النشار ، ط مصر 1972م .
36- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز : يحيى بن حمزة اليمني العلوي ( ت 749هـ ) ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت .
37- العقيدة النظامية في الأركان الاسلامية : لإمام الحرمين عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني ، تحقيق : د. أحمد حجازي السقا ، مكتبة الكليات الأزهرية بمصر.(1/58)
38- علوم القرآن عند المفسرين ، مركز الثقافة والمعارف القرآنية ، مكتب الإعلام الإسلامي ط1، 1416هـ ، ايران .
39- الفرق بين الفرق : عبد القاهربن طاهرالبغدادي ( ت 424هـ )، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت 1978م .
40- الفصل في الملل والأهواء والنحل : علي بن أحمد بن حزم ( ت456هـ) ، دار صادر ، بيروت .
41- فكرة إعجاز القرآن : نعيم الحمصي ، ط2،1980م ، مؤسسة الرسالة – بيروت .
42- فكرة النظم في تطورها وأهدافها : د. بسيوني عرفة ، ط 1، دار الرسالة بالقاهرة ، 1982م.
43- الفهرست : لابن النديم ، محمد بن اسحق ( ت 383هـ) ، ط بيروت 1964م .
44- قضية الإعجاز بين المتقدمين والمتأخرين : د. عبد الفتاح محمد سلامة ، دار التوفيقية للطباعة ، الأزهر ، 1980م.
45- كتاب أبو الحسن الماوردي : د. محمد سليمان داود ، مؤسسة شباب الجامعة ، الاسكندرية .
46- الكندي فيلسوف العرب : أحمد فؤاد الأهوا ني ، سلسلة أعلام العرب عدد/26 ، المؤسسة المصرية العامة للطباعة والترجمة والنشر ، القاهرة
47- لسان العرب : لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي
(ت 711هـ) ، الطبعة الثالثة ، 1999م، عني بتصحيحها أمين محمد عبد الوهاب وزميله ، دار إحياء الثراث العربي ، بيروت _ لبنان .
48- لوامع الأنوار البهية ، وسواطع الأسرار الأثرية : محمد بن أحمد السفاريني
( ت1189هـ)، ط2 دمشق ، 1402 للهجرة .
49- مباحث في إعجاز القرآن : د. مصطفى مسلم ، دار المسلم للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط2، 1996م .
50- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : لابن عطية الأندلسي ، عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن ( ت 541هـ ) ، تحقيق عبد الله بن ابراهيم الأنصاري، وزميله، ط1، قطر.
51- مشكلة الألوهية : د. محمدغلاب : ، ط2، 1951م ، دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي ، القاهرة .(1/59)
52- معترك الأقران في إعجاز القرآن : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( ت 911هـ) تحقيق علي محمد البجاوي ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
53- المعتزلة : زهدي حسن جار الله : منشورات النادي العربي ، يافا ،1947م .
54- المعجزة الكبرى- القرآن : لأبي زهرة محمد بن أحمد بن مصطفى( ت1974م) ، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة _ بدون تاريخ .
55- ) المغني في أبواب التوحيد والعدل : للقاضي المعتزلي عبد الجبار بن أحمد (ت 415هـ) تحقيق : أمين الخولي – ( ج 16 - إعجاز القرآن ) ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، الجمهورية العربية المتحدة .
56- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير : فخر الدين محمد بن عمرالرا زي ( ت606هـ) ، ط2، دار الكتب العلمية ، طهران .
57- مقدمة جامع التفاسير ، مع تفسير الفاتحة ومطالع سورة البقرة ، للإمام العلامة أبي القاسم الراغب الأصفهاني ، حققه وقدم له وعلق حواشيه ، أ. د . أحمد حسن فرحات ، ط1، 1984م ، دار الدعوة ، الكويت
58- الملل والنحل : لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ( ت548هـ) ، ( على هامش الفصل لابن حزم الاندلسي ) ، دار صادر ، بيروت .
59- مناهل العرفان في علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني ، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي ، القاهرة .
60- المنحى الإعتزالي في البيان وإعجاز القرآن : د. أحمد أبو زيد ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ،الرباط .
61- نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم : د. أحمد سيد محمد عمار ط1، 1998م . دار الفكر بدمشق .
62- النكت في إعجاز القرآن ( ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ): علي بن عيسى الرماني ( ت386هـ) الطبعة الثالثة ، دار المعارف بمصر ، تحقيق د. محمد خلف الله أحمد وزميله(1/60)
63- النكت والعيون : لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ، راجعه وعلق عليه : السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط! ، 1412 للهجرة .
64- مجلة الأزهر الشريف ، مجلد / 21 ، 1369هـ .(1/61)