الشرح اليسير على مقدمة أصول التفسير
د. مهران ماهر عثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الشرح يصلح أن يقال فيه : إنه اختصار لشرح الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله ، والشيخ محمد عمر بازمول مع قليل من الإضافات.
وهذه كلمة تجب عليَّ في حقهما .
هذا، وقد فُرغ من بثه في إذاعة طيبة بالسودان في شعبان 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (2)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا هو اللقاء الثاني نجتمع فيه حول مائدة القرآن ؛ للنهل من علم أصول التفسير ..
وفي بداية هذا اللقاء أذكر من كان يتابع معنا كلام شيخ الإسلام بأنّ هذه المقدِّمة ، أو المقدَّمة –يجوز الوجهان- في مجموع الفتاوى المجلد الثالث عشر ، من صفحة ثلاثَ مائة وثلاثين .
وتوقف الكلام في قول شيخ الإسلام رحمه الله :" وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ"
ثم قال رحمه الله :"
وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ"(1/1)
تكلم الشيخ رحمه الله –هنا- عن ضرورة فهم كتاب الله ، والإنسان إذا كان ممتحَناً في نظرية لعالمٍ فيزيائي أو كيميائي لأتعب نفسه في فهم مراده ليجتاز هذا الامتحان، فكيف بكلام رب العالمين الذي لا نجاة للعبد إلا في اتباعه؟! ولهذا فلا شكّ أن الحاجة ماسة لفهمه .
وهذه الجمل التي أتى بها الشيخ رحمه الله تضمنت نعت القرآن الكريم ووصفَه.. وقد جاءت في خبر مرفوعٍ وموقوف ، المرفوع أي ما أُسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والموقوف ما أُسند إلى الصحابي . ولكنّ الصحيح أنّه موقوف على علي - رضي الله عنه - . كما قرره شيخ الإسلام وابن كثير وغيرُهما من أهل العلم .
فهو حبل الله ؛ لأنه موصل إلى الله تعالى. والمتين: القوي، فلا وسيلة تعرف العبد بربه أقوى من القرآن الكريم .
وهو الذكر الحكيم، كما قال تعالى –في آل عمران- : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } ، فهو ذكر لأنه مذكِّرٌ، وفيه الذكرى، ومن تمسك به رُفع ذكرُه وشُرِّف به كما قال ربنا : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك } ، وقال : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } . وهو حكيم : محكمٌ لفظه، متضمن للحكمة في أحكامه .
وهو الصراط المستقيم : والصراط الطريق ، والمستقيم الذي لا ميلَ فيه . ولتعلم أيها المسلم الكريم أنّ لله صراطين، صراطاً في الدنيا وهو القرآن، وصراطاً في الآخرة ينصب على متن جهنم، فمن حسن سيره على صراط الدنيا اجتاز صراط الآخرة .
الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ : لا تميل به أهواء الناس فهو ثابت مهما عظمت أهواء الناس .
وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ : لا تخلتط به الألسن، ولذا تجد بعض الأعاجم ممن لا يحسن أن يتكلم بالعربية يجيد قراءة القرآن الكريم قراءةً مجودةً متقنةً ، كما أنه لا يمكن أن يُترجم القرآن الكريم ترجمةً حرفيةً أبداً .(1/2)
وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ : يخلق : يبلى. مهما أكثر المؤمن من قراءته فلا يمكن أن يملَّ، بخلاف ما لو قرأ معلقة لأفصح الناس بياناً وأحسنِهم عبارةً فلن تُطيق نفسه أن يكررها . أما القرآن نعيده تلاوةً ونعيده في الصلوات ولا يمكن أن يسأم المؤمن من تكراره .
وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ: المعاني التي يدل عليها ، أما التوسع في هذا الباب وتحميل القرآن الكريم ما لا يحتمله وإخضاعه للنظريات العلمية التي هي محل الأخذ والرد والمناقشة، فهذا ليس بذاك، وسيأتي الكلام عن هذا إن شاء الله تعالى بالأدلة الواضحة في بحث مستقل .
ولهذا فالقرآن َلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ . لكثرة المعاني التي تتوارد إلى أذهانهم كلما أمعنوا النظر فيه .
مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ : لأن من تكلم به من قال : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا } ، وقال : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } .
وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ: يعني أُثيب على عمله .
وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ: ولا يُفهم أنّ الحكم به بالخيار ، فمن شاء حكم به، وإلا فلا، فإن القرآن شاهد بكفر من لم يحكم به. وإذا كان الحكم بالقرآن عدلاً، فإنّ الحكم ببغيره من القوانين الوضعية ظلم .. ظلم للحاكم الذي أهلك نفسه بذلك، وظلم للمحكوم ، إذ : فما ذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد العدل إلا الظلم والجور .
وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ : من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، وهُدي إلى صراط مستقيم؛ لأنه الصراط المستقيم ، فمن دعا إلى الصراط المستقيم كان على الصراط المستقيم، ولذا الواجب على الدعاة أن تكون دعوتهم إلى القرآن ، لا إلى حزبهم ، ولا إلى أنفسهم، ولا إلى جماعتهم .
وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ : لقول الله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } .(1/3)
وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ : من ترك القرآن وأعرض عنه قصم ظهره، ولا يرد علينا : أننا نجد من الجبابرة الآن من ترك القرآن ولم يحلَّ بساحته العذابُ؛ لأننا نقول: إن الأخذ والنكال والقصم قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، فهذا إن فاته في الدنيا لم يفته في الآخرة.
ثم أرد رحمه الله ما يلي من الآيات :
قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } .(1/4)
فهذه الآيات التي أوردها شيخ الإسلام تدل لما سبق من نعت القرآن الكريم ، والخلاصة : أنه لا نجاة لنا إلا في اتباع كتاب ربنا، ولا سعادةَ لنا إلا بالقرآن، ومهما ابتغينا الهداية في غيره كان الضلال والمقت .
ثم قال رحمه الله :" وَقَدْ كَتَبْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ الْفُؤَادِ، وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ."
وهذا مما يبين المكانة العلمية لشيخ الإسلام ابنِ تيمية رحمه الله رحمةً واسعةً . وهذا هو الفرق بيننا وبين علمائنا ، العالم الحق علمه في صدره .. فليس بعلم ما حوى القمطر ، إنما العلم ما حواه الصدرُ .
قال رحمه الله :
فَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا(1/5)
هذه قاعدة مهمة ، دلت عليها الآية السابقة : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، والذكر القرآن، نزل القرآن وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - . واللم في { لتبين } للتعليل، وليست للأمر ؛ لأن الفعل بعدها منصوب. وقال : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . فبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن نوعان : 1/ بيان لفظه . ففي صحيح البخاري أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : "جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : ((اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) . قَالَ أَنَسٌ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } ".
2/ بيان معناه . مثلاً { إنا أعطيناك الكوثر } ، قال - صلى الله عليه وسلم - :« نهر في الجنة أعطاني الله إياه» [الترمذي] .(1/6)
وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ : ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ .
فهذه الآثار دليل على أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين معانيَ القرآن الكريم لأصحابه، واستدل بها الإمام أبو جعفر في مقدمة تفسيره على ما سبق من بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن . وأثر عائشة التي جاء فيه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفسر إلا آيات معدودة لا يصح ؛ فيه جعفر ابن محمد الزبيري.
ثم قال رحمه الله :"(1/7)
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ . بين رحمه الله هنا أنّ الصحابة كانوا يبقون أمداً طويلاً في الحفظ لأن الله أمر بالتدبر .. ومعلوم أنّ التدبر لا يمكن أن يحصل إلا بفهم المعاني، وفهم معاني القرآن هو التفسير، فتنتج من هذه المقدمات أنّ التفسير مأمور به.
ثم قال : وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ؟
فهو بلا شك أولى بالتفسير والاهتمام . أكتفي بهذا القدر ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وإلى لقاء قادم إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (3)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، الإخوة الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا هو اللقاء الثالث ، في شرح مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .(1/8)
وسبق الكلام عن مسألة مهمة ، وهي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن معاني القرآن الكريم لصحابه رضي الله عنهم.. وجملة الأدلة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله سبعة أدلة :
الأول: قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } . فبين - صلى الله عليه وسلم - لفظه ومعناه .
الثاني : الآثار التي فيها بيان أنهم رضي الله عنهم تعلموا القرآن والعمل . تعلموا لفظه ومعناه .
الثالث : الأمر بتدبر القرآن ، والتدبر لا يمكن للصحابة أن يقوموا به إلا إذا بُين لهم معناه .
الرابع : ما ذكره من قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قال : وعَقْلُ الكلام متضمن لفهمه . والعَقْل : هو ربط الشيء وإحكامه ، تقول: فلان عَقَلَ الدابة ، أي : ربطها وأحكمها ، وحينما تقول : فلان عَقَل الشيء ، أي : أحكم فهمه في ذهنه . ومن أولى الناس بأن يتعقل القرآن ويتحقق فيه قوله سبحانه وتعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ؟ الصحابة الذي أبلغهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه .
و(لعلكم تعقلون) أي : لتعقلوا. فلعل من الله واجبة .(1/9)
الدليل الخامس قال: ( وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ ) قال: القرآن كلام الله ، فإذا كان كل كلام المقصود منه : فهم معانيه ؛ فكلام الله أولى الكلام بأن تفهم معانيه ، فإذا قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة كلام الله ، فلا بد أن يكونوا قد فهموا معانيه ، إما بحسب لغة العرب التي عرفوها ، ويكون إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفهمهم سنة تقريرية، وإما أن يكون عن طريق البيان المباشر ، وإما عن طريق التطبيق العملي في واقع الحياة الإسلامية ، أو من خلال التخلق به، وفي هذه الأحوال جميعها يكون الرسول بين لهم القرآن إما بالقول أو بالفعل أو بالتقرير، فصح أن الرسول بين للصحابة جميع القرآن!
الدليل السادس : يقول :(َالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه) أي: لا يطلبون شرحه ، يقول : العادة تمنع أن يقرأ على شخص كتاباً في فن من الفنون لا يطلبون شرحه وبيانه!
إذا كان الصحابة قرأوا القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبحسب ما جرت به العادة لا بد أن يكونوا قد سألوه عما غاب عن أفهامهم، ففهمهم إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيتحصل أنهم فهموا جميع القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .
السابع : قلة اختلاف الصحابة في القرآن .
وهنا يقول رحمه الله :
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أكثر(1/10)
لسائل أن يطرح هذا السؤال : لماذا كان النزاع في التفسير في عهد الصحابة أقل؟
لثلاثة أسباب : الأول : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لهم تفسير القرآن، فكان عصرهم أشرف . الثاني : لنزول القرآن بلغتهم؛ فكانوا أفهم الناس له. الثالث : قلة الأهواء فيهم .
فهذه سبعة أدلة ذكرها شيخ الإسلام تدل على أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فسّر القرآن لأصحابه رضي الله عنهم .
سؤال آخر لعله الآن في أذهان بعض المستمعين .. ما الذي تترتب على تقرير هذه القاعدة ؟
الجواب :
أولاً : أن نشهد أنّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، فبين للناس لفظه وتفسيره بالطرق التي سبقت الإشارة إليها .
ثانياً: زيادة الاعتناء بآثار الصحابة في التفسير ؛ لأنهم تلقوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثاً : كل تفسير خالف تفسير الصحابة فإننا نرده؛ لأنهم أعلم الناس بالقرآن .وليس معنى ذلك أننا حجَّراً واسعاً ، ولكن المراد أن لا يُقحم في القرآن معنىً دخيل فاسد .
رابعاً : ضرورة الاهتمام بتفسير التابعين الذين تلقوه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا قال رحمه الله :(1/11)
وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
ليس بغريب أن كون التابعين يزيدون على الصحابة في الاستدلال والاستنباط ؛ لأنه حدثت أمور لم تكن معهودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا كلما طرأت أمور جديدة لم يُنصَّ على عينها في الكتاب والسنة فلا بد من أن يكون هناك استنباط واستدلال لعلماء العصر، حتى يطبقوها على ما في الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة لم يأتيا بكل مسألة تحدث بعينها إلي يوم القيامة.
إذ لو أتى بذلك لكان المصحف أكبر مما هو عليه آلاف المرات . وأيضاً لأتى الناس بما لا يعرفونه . ولهذا كلما ابتعد العصر احتاج الناس إلى توسع واستطراد ليرجعوا المسائل المستحدثة إلى أصلها .
فمثلاً : الربا في السابق لكنت صوره معدودة .. واستجدت معاملات في هذا العصر حكم عليها الفقهاء بأنها داخلة في باب الربا.. فالذي يفسر آيات الربا ربما تطرق لذكر هذه المعاملات الكثيرة وبين للناس أنها من الربا فيستطرد استطراداً لم تكن له حاجة من ذي قبل .(1/12)
ثم قال رحمه الله :"
الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ
هنا أثبت المؤلف أن السلف قد يكون بينهم خلاف في تفسير القرآن، لكن خلافهم في تفسير القرآن أقل من خلافهم في الأحكام
وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ
ما هو اختلاف التنوع ؟ وما هو اختلاف التضاد ؟
الجواب: اختلاف التضاد لا يمكن الجمع فيه بين القولين؛ لأن الضدين لا يجتمعان. واختلاف التنوع يمكن الجمع فيه بين القولين المختلفين؛ لأن كل واحد منهما ذكر نوعاً، والنوعان يشملهما جنس واحد .
واختلاف التنوع قسمان : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى ،كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ .
فلو قال الأول في تفسير السيف هو المهند، وقال الثاني : وهو الحسام، والثالث: هو المهند فهذا من باب اختلاف التنوع.
ومثل الشيخ بأسماء الله الحسنى ؛ لأنها متغايرة ولكنها تدل على مسمىً واحد . واعلم –أيها المستمع الكريم- أنّ أسماء الله الحسنى مترادفة من حيث دلالتها على الذات، متباينة من حيث اختصاص كل اسم منها بالمعنى الخاص به .
مثلاً : الرحمن ، والغفور . باعتبار دلالة الاسمين على ذات الله فهما مترادفان ، وباعتبار دلالة هذين الاسمين على معناهما وأنهما تضمنا صفة الرحمة والمغفرة فهما متباينان .(1/13)
وكذلك أسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - متعددة، فهي باعتبار دلالتها على الذات مترادفة ، وباعتبار دلالة كل لفظ منها على معنى آخر متابينة. وكذلك القرآن يسمي القرآن ، والفرقان، التنزيل وغير ذلك، فهذه الألفاظ باعتبار دلالتها على القرآن مترادفة، وباعتبار أن كل واحد منها له معني خاص متباينة.
إذاً هذا هو النوع الأول من نوعي اختلاف التنوع ، أن يعبر المفسر بكلمة ، ويعبر غيره بأخرى ، والمعنى واحد . كما في الآية : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ، فلو قال الأول : الكتاب القرآن، والثاني : الكتاب الفرقان، وقال الثالث : الكتاب الذكر فهذا اختلاف تنوع .
النوع الثاني من نوعي اختلاف التنوع : أَنْ يَذْكُرَ كل مفسر مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ .
مثلاً : قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } .
فمنهم من يقول في معنى قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } : المضيع للواجبات . فهذا على سبيل المثال ، فلا تعارض بينه وبين من يقول : هو الواقع في المحرمات . فالذي يعاقر الخمر ظالم لنفسه، والذي يضيع الصلاة ظالم لنفسه ، وإنما ذُكر القولان للتمثيل لا للحصر، فلا خلاف بينهما .
فإذا وجدت في كتب التفسير من يفسر هذه الاية : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } : بآكل الربا، أو العاق لوالديه، أو الزاني ... فهذا لا تعارض فيه لأنه تفسير بالمثال .(1/14)
فمثلاً : تفتح التفسير فتجد أحد السلف يقول في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) قال : القرآن ، آخر قال : الإسلام ، آخر قال: طريق الجنة ، آخر قال: السنة ، آخر قال: ما كان عليه الصحابة ، هذه الأقوال الأربعة هي قول واحد، إذ إن الصراط المستقيم هو القرآن وهو السنة وهو طريق الجنة وهو ما كان عليه الصحابة، تنوعت الألفاظ والمعنى واحد، فهو اختلاف تنوع .
فما فائدة التفسير بالمثال ؟ يخبرنا مصنف الكتاب رحمه الله فيقول : فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ . إذاً غالب الاختلاف بين السلف في التفسير هو من باب التنوع ، وهو قسمان الأول : أن يعبروا عن المعنى الواحد بأكثر من لفظ. الثاني : أن يكون كلامهم من باب التمثيل، من باب المثال ، ولا يقصدون به الحصر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (4)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، الإخوة الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . يتجدد اللقاء بكم ومعكم، فمرحباً بالإخوة الأكارم حول مائدة كتاب الله تعالى .
نواصل الحديث عن بعض صور اختلاف التنوع، فمن صوره عباراتهم في أسباب النزول ، قال رحمه الله :(1/15)
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا ؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِمْ إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عويمر العجلاني أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَإِنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ الْحَدِيثَ ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .(1/16)
فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ .(1/17)
سبب النزول ما نزل بصدده قرآنٌ من حَدث أو سؤال. وأفادنا شيخ الإسلام أنّ الآية التي نزلت في شخص تختص بنوعه لا بشخصه. مثلاً نأخذ حديثاً مثّل به ابن دقيق في إحكام الأحكام، وهو الحديث المعروف :«ليس من البر الصيام في السفر» [متفق عليه]. سببه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً مُظللاً عليه في سفر وهو صائم فذكره. فهل هذا الحكم يختص بذاك الشخص الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم بكل من شقَّ عليه الصيام في السفر؟ أم أنّ الصيام في السفر ليس من البر وإ لم يشق؟ الثاني هو الصحيح، وهو القول الوسط . فكل من كان حاله كحاله كان حكمه كحكمه. أما القول بأنّ الحكم يختص بشخصه فلا قائل به منا قرره شيخ الإسلام . وأما التعميم فلا وجه له؛ لأنه يجب أن يُعدَّى الحكم الوارد على سبب معين إلي نوع ذلك المعين فقط لا إلى العموم، ولا أن يختص بنفس ذلك الشخص. فربطه بعلته أولى من التعميم. إذاً العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن لابد من النظر قرائن الأحوال وملابسات الوقائع، فهذا الحديث ليس من العام المحفوظ، وإنما هو من العام الذي أُريد به الخصوص، ولذا صام النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر وهو سيد الأبرار . وهذه مسألة مهمة أشار إليه القاسمي في محاسن التأويل المجلد الثالث صفحة إحدى وثمانين. ثم قال رحمه الله :
وَمَعْرِفَةُ " سَبَبِ النُّزُولِ " يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بالمسبَّب؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا .(1/18)
أذكر مثالاً ذكره شرَّاح المقدمة – وبهذه المناسبة أُفصح عن أنّ أكثر شرح أستقي منه لهذا البرنامج شرح الشيخ محمد عمر بازمول ، وشرح العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة- المثال : لو أن رجلاً رأى مع امرأته شخصاً ظنه أجنبياً، فبان محرماً فإنها لا تطلق؛ لأنه كأنه قال: أنت طالق لأنك صاحبتي رجلاً أجنبياً.
وكذلك أيضاً الحالف لو قال: والله لا أزور فلاناً، لأنه قيل له إن الرجل فاسق، ثم تبين له أنه ليس بفاسق ، فإنه لا بأس أن يزوره ولا كفارة عليه؛ لأن السبب كالمشروط، فكأنه قال: والله لا أزوره لأنه فاسق. وهذه قاعدة مهمة في باب الأيمان وفي باب الطلاق، لكن لو قال الحالف أنا نويت والله لا أزور فلاناً مطلقاً، لا أزوره لشخصه ، سواء كان فاسقاً أم عدلاً، فإذا زاره حنث لأننا هنا علمنا مراده. والقاعدة في ذلك: أن كل لفظٍ بني على سبب فتبين انتفاء ذلك السبب فإنه لا حكم له.
... والمسبَّب هو الآية النازلة أو الحديث الوارد، فمثلاً: سبب نزول آية اللعان قذف هلال بن أُمَيَّة زوجته بشَريك ابن سَحْمَاء فهذا هو السبب ، والمسبب الذي حصل من أجل هذا السبب هو نزول الآية. فورود الحديث ونزول الآية هذا هو المسبَّب. فالآية أو الحديث قد يكون معناها خفياً إلا إذا عرفت سبب النزول. والأولى للمفسر أن يبدأ ببيان سبب النزول قبل بيان مناسبة الآية. وفي المسألة خلاف، وهذا هو الصحيح إن شاء الله .
ومن الكتب في بيان أسباب النزول (أسباب النزول) للواحدي، و(لباب النقول في معرفة أسباب النزول) للسيوطي، و(العجاب في بيان الأسباب) لابن حجر ، وفي الحديث هناك كتاب أسباب ورود الحديث، للسيوطي –رحمة الله عليهم جميعاً-. قال رحمه الله:(1/19)
وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا .
لدينا ثلاث صيغ : الأولى : (حصل كذا وكذا، فأنزل الله كذا)، الثانية: (سبب نزول هذه الآية كذا وكذا) ، الثالثة:(نزلت هذه الآية في كذا وكذا).
أما الأولى : (سبب نزول هذه الآية كذا وكذا)، فهي صريحة في أن هذا سبب النزول.
وأما الثانية: (حصل كذا وكذا، فأنزل الله كذا) فهي ظاهرة أيضاً- وليست بصريحة ، ظاهرة يعني تحتمل وهذا هو الأرجح- ظاهرة في أن هذا سبب النزول؛ لأن حمل الفاء في مثل هذا التعبير على السببية أولي من حمله على العطف المجرد والترتيب.
أما الثالثة:(نزلت هذه الآية في كذا وكذا). فهذه فيها احتمال متساوي الطرفين، بين أن يكون المراد أن هذه الآية معناها كذا وكذا فيكون تفسيراً للمعنى، وبين أن يكون ذلك ذكراً لسبب النزول، فعلى الاحتمال الأول تكون (( في)) للظرفية، وعلى الاحتمال الثاني تكون (( في)) للسببية، كما في حديث : «دخلت امرأة النار في هرة ...» أي بسبب هرة .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ .(1/20)
معنى هذا الكلام إذا قال الصحابي (حصل كذا وكذا، فأنزل الله كذا)، فكل العلماء يدخلون في المسند، أي يجعلونه جارياً مجرى المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . أما قوله : (نزلت في كذا) فمنهم من يجعله من المرفوع، ومنهم من لم يرض ذلك . قال: وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ
فيقول صحابي نزلت في كذا ويقصد تفسيرها بمثال ، ويقول غيره: نزلت في كذا ويذكر مثالاً آخر. فلا غرابة في ذلك.
قال : وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا ؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ .
عزى شيخ الإسلام رحمه الله الاختلاف في ذكر سبب النزول ، بأن يقول الأول: سبب نزول هذه الآية كذا، ويذكر الثاني أمراً آخر .. هذا يرجع لواحد من أمرين ..
الأول : أن تجتمع أسباب عديدة، فتنزلَ الآية، فيخبرَ كلٌّ بما يعلم .
الثاني : أن تنزل الآية مرات عديدة لحوادث مختلفة . ولعلي بسؤال انقدح الآن في أذهان بعض المستمعين الأكارم، ألا وهو: هل يمكن أن يتكرر نزول القرآن ؟
الجواب نعم يمكن. ما الدليل؟ إليكم الدليل..
نزول القرآن على سبعة أحرف، فإنه لم ينزل بها دَفعة واحدة، فَتَكرر نزوله . قال - صلى الله عليه وسلم - :« نزل عليَّ جبريل بالقرآن فأقرأني إياه على حرف فاستزدته فزادني حرفاً» . فهذا يدل على التَّكرار .(1/21)
ولعل هذا يوضح بعض الأمور ، فمثلاً : الشائع عند العلماء أن سورة ( الكوثر ) مكية ، حتى إنه في آخرها أشار إلى الوليد بن عقبة بقوله : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3) ، من كفار قريش ، الشائع عندهم أنها مكية ، فإن ثبت سند بذلك فهي مكية، قال القرطبي :" سورة الكوثر، وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل". لكن في صحيح مسلم عَنْ أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }، وأنس بن مالك كان في المدينة ، إذاً هذه السورة على هذا الحديث في صحيح مسلم تكون مدنية ، فإذا قام دليل صحيح صريح أن السورة مكية ؛ عندها نجمع بين هذين القولين : بتكرار النزول .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (5)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم في كل مكان .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت إذا شئت تجعل الحَزْن سهلاً .
هذه هي الحلقة الخامسة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن يجعل هذه المجالس مجالس خير وبركة ونفع .
سبق الكلام عن خلاف السلف في التفسير، وكان الحديث عن اختلاف التنوع، وذكر له الشيخ صنفين بقوله:(1/22)
وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ : تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ، هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ
ثم قال رحمه الله :
وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللَّفْظِ كَلَفْظِ ( قَسْوَرَةٍ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ . وَلَفْظِ ( عَسْعَسَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ . وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}.
الألفاظ في لغة العرب على أنواع : وهذه مقدمة لابد منها حتى يُفهمَ كلامُ الشيخ رحمه الله:
الأول: الألفاظ المتباينة .
وهي أن يستقل كل لفظ بمعنى يختلف فيه عن الآخر ، فالليل غير النهار، والضياء غير الظلام.
الثاني : المشترك اللفظي :
وهو: ما اتحد لفظه وتعدد معناه، فيكون اللفظ مشترَكاً بين معنيين، ومثاله: (القسورة) وهو مشترَك بين الرامي وبين الأسد. ونحو كلمة (قروء) ، فالقَرْءُ: الحيض والطهر. قال الشافعي رحمه الله :" القَرْء اسم للوقت، فلما كان الحَيْضُ يَجِيء لِوقتٍ والطُّهرُ يجيء لوَقْتٍ جاز أَن يكون الأَقْراء حِيَضاً وأَطْهاراً" . ومنه (عسعس) يعني: أقبل وأدبر .
ومن خلال الأمثلة السابقة يتضح لك –أيها المستمع الكريم- أنّ المشترك اللفظي على قسمين:(1/23)
الأول : أن يكون المعنيان متضادين، كلفظ القَرء الذي يحتمل أن يكون الطهر أو الحيض. والثاني : أن يدل على معنيين ولا يلزم أن يقع تضاد بينهما، كلفظ القسورة الذي يُراد به الرامي أو الأسد .
الثالث من أنواع الألفاظ : المترادف . أن يكون للشيء الواحد أكثرُ من لفظ، كالسيف والحسام والمهند والصارم .
وقد اختلف أهل اللغة : هل يوجد المترادف في لغة العرب أم لا ؟
من العلماء من قال : لا توجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة بحيث لا يكون بين اللفظين فرق ألبتةَ ، ومن العلماء من قال: إنه يوجد فيها ذلك ، والصحيح : أنه توجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة بمعنى أنها تتشابه في أصول معانيها ، لكن لكل لفظ التنبيه على صفة ليست في اللفظ الآخر، أما أن يوجد لفظان يتفاق في كل شيء، ومن كل وجه ، ولا يزيد أحدهما على الآخر في المعنى شيئاً فلا يوجد مثل هذا . مثلاً : الجلوس والقعود. معناهما واحد. ولكن لا يسوغ لك أن تقول :(كان متكئاً فقعد)، وإنما قل:( كان متكئاً فجلس) ؛ لأن الجلوس يكون عن اتكاء، والقعود عن قيام.
والحكم في المشترك اللفظي إذا لم يكن من باب ألفاظ التضاد ولم يوجد مرجح فينبغي أن نحمل الآية على كلا المعنيين.
{ فرت من قسورة } نقول : قسورة : الرامي والأسد، لأن اللفظ يصدق عليهما ولا مرجح لأحدهما. ومثله : { وليال عشر } قيل : الأولى من ذي الحجة، وقيل الأخيرة من رمضان، فنحمل الآية على القولين إذ لا تعارض بينهما ولا مرجح. فإذا ترجح أحد اللفظين المشرَكين قدَّمنا الراجح. كما في الآية : { والليل إذا عسعس } ، قد يكون المراد: أقبل، أو أدبر. ولكن ترجح أقبل، ليقابل قوله : { والصبح إذا تنفس } . فإذا لم يوجد مرجح حملنا الآية على كلا المعنيين .(1/24)
أما في ألفاظ التضاد –وهي من أقسام المشترك اللفظي- فلا بد من تعيين أحد المعنيين؛ لأن الضدين لا يجتمعان. فلا يمكن أن نقول : إن المراد بقوله : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } أطهار وحِيَض ! هذا لا يمكن.
النوع الرابع من أنواع الألفاظ : الألفاظ المتواطئة، والمواطأة الموافقة، والمراد بها : أن يواطئ اللفظ المعنى ، لكن لهذا المعنى أفراد كثيرة. إذاً اللفظ الذي يصدق معناه على أفراد كثيرة يسمى متواطئ لفظي . مثلاً: (إنسان) له معنى معين، ويصدق على أفراد كثر: على عمرو وبكر وزيد . مثال آخر (مدينة) يصدق على الخرطوم، وبحري ، وأمدرمان. فهذه الألفاظ لا تكون متواطئة إلا إذا صدقت على كل فرد على سبيل التساوي. مثلاً لو قلت لك (مدينة). ثم قلت لك: أيَّ المدن قصدت: الخرطوم أم بحري؟ فلن تعرف قصدي ، لأن هذا الكلمة كما تصدق على الخرطوم، تصدق على غيرها على سبيل التساوي.
لكن أحياناً نجد كلمة تصدق على كثير من أفرادها لكن لا على سبيل التساوي.
مثلاً : كلمة شجاع. أقول (عنترة شجاع) ، و(زيد شجاع) ولكنَّ الشجاعة في عنترة أظهر. إذاً كلمة شجاع ليس من قبيل المتواطئ اللفظي ، وإنما هي من قبيل المُشّكَّك اللفظي .
وهذا هو النوع الخامس : المشكك اللفظي . مثال آخر كلمة (مؤمن)، تصدق على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعلى غيره. ولكنها في أبي بكر أظهر؛ لأن إيمانه يزن إيمان الأمة كلِّها كما صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذه هي أقسام الألفاظ، ومن الكتب التي تفيد في هذا الباب كتاب (فقه اللغة) للثعالبي.
فما الذي أراد أ يقرره شيخ الإسلام رحمه الله ؟ الجواب : أراد أن يقرر ما يلي :
أولاً : من أسباب التنازع بين المفسرين أن تكون الكلمة من قبيل المشترك اللفظي ، كلفظ قسورة، التي تطلق على الرامي، وتطلق على الأسد .(1/25)
ثانياً : من أسباب النزاع أيضاً أن تكون الكلمة من قبيل المتواطئ اللفظي، تصدق على هذا وعلى هذا . فيحملها بعض المفسرين على الأول، ويحملها آخرون على الثاني ، فيحدث التنازع بينهم بهذا . مثلاً : الضمير في : { ثم دنا فتدلى } هل الضمير المستتِر في الفعل (دنا) يعود على نبينا - صلى الله عليه وسلم - أم على جبريل عليه السلام؟ خلاف. وقيل بغيرهما.لماذا اختلفوا؟ لأن الضمير من قبيل الألفاظ المتواطئة التي تصدق على أفراد كثيرين . فإذا عُدم المرجح ولم يكن من تعارض حُملت الآية على كلا القولين .
فمثل هذه الأشياء- قال رحمه الله - كَلَفْظِ : { وَالْفَجْرِ } { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي .
إذاً الخلاصة :
إذا تقرر عندنا جواز تكرار نزول القرآن ؛ فلا مانع من أن ينزل القرآن أولاً ليقرر معنىً من المعاني التي يحتملها لفظ الآية، ثم ينزلَ ثانياً ليقرر فيه معنى آخر ، والمعنيان لا تنافيَ بينهما .(1/26)
أو أن يكون اللفظ الذي جاء في الآية من قبيل المشترك اللفظي ، وعند العلماء : لا مانع من أن يفسر اللفظ الذي هو من قبيل المشترك اللفظي بجميع معانيه بشرط أن لا يكون هناك تمانع أو تنافي بينهم ، أو أن لا يقوم دليل على تحديد أحد هذه المعاني. وهذا موطن ينبغي أن يتفطن له المسلم ، فهناك آيات وأحاديث تحتمل أكثر من معنى ولا تمانع بينها ، فلا مانع من تفسير الأحاديث بهذه المعاني أو الآية بهذا المعنى وهذا المعنى، إلا إذا قام دليل يمنع ، كأن يقوم دليل على تحديد أحد هذه المعاني في المشترك اللفظي، أو أن تقوم علة تمنع حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه.
وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إلى أن القول بجواز حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه هو قول أكثر أهل العلم.
أو أن يكون اللفظ في الآية من قبيل المتواطئ اللفظي الذي يصدق على أفراد كثيرين فيكون هذا النوع من الصنف الثاني الذي فيه التفسير من باب ضرب المثال .
أكتفي بهذا القدر، سائلاً الله العلي القدير أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه، وأن لا يكون فيها شيء لغيره، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (6)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن ترضى عنهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه هي الحلقة السادسة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن يبارك لنا في القرآن الكريم، وأن ينفعنا به، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا .
قال الشيخ رحمه الله :"(1/27)
وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ
سبق الكلام عن الترادف في اللغة، وشيخ الإسلام هنا يقرر أنّ الترادف في القرآن قليل أو معدوم. فإنّ الآية إذا سيقت لمعنىً معين لا يستطيع إنسان أن يأتي بلفظ يؤدي هذا المعنى كما جاء في لفظ الآية ، وهذا حقيقة الإعجاز في النظم القرآني . أن كل لفظ في القرآن الكريم مهما أتيت بلفظ آخر لا يمكن أن يقوم مكانه في أداء المعنى. والأمثلة على ذلك كثيرة ولكني أكتفي بذكر نموذج واحد ذكره علماء البلاغة، في قول الله تعالى في سورة يوسف: { وما أنت بمؤمن لنا } لو طُلب منك أن تأتي بكلمة ترادف كلمة { بمؤمن } ويدخل تحتها من المعاني ما يدخل تحت كلمة { بمؤمن } لنا لما وجدت. فإن قيل: ألا تفي كلمة { بمصدق لنا } بذلك؟ فالجواب : لا. لماذا؟ لأنهم أرداوا أنه لن يطمئن إليهم ولو كانوا صادقين، ومعنى الاطمئنان تتفرد به كلمة { بمؤمن لنا } ، بخلاف ما لو قالوا : لن تصدقنا .
مثال آخر قال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، لو طُلب منك أن تأتي بكلمة بديلة لكلمة { على خلق } ماذا تقول؟ وإنك لذو خلق؟ لم تعط المعنى حقه؛ لأن { على خلق } تدل على الاتصاف والتمكن من هذه الأخلاق، بخلاف : ذو خلق الدالة على الاتصاف دون التمكن.(1/28)
ولهذا فالمفسرون يريدون تقريب المعنى لأنهم لن يجدوا كلمة ترادف الكلمة التي يريدون توضيحها وتفسيرها من كل وجه، فيعبر زيد بكلمة يرى عمرو أنّ غيرَها أفضلُ منها فيُظنُّ أنهما اختلفا، والواقع بخلافه. لم يختلفا وإنما عبّر كلٌّ منهما بكلمة لتقريب المعنى. هذا هو معنى كلام الشيخ رحمه الله .
ثم ذكر الشيخ رحمه الله بعض النماذج التي تدل على ما سبق ، أي أنّ المفسرين لا يمكنهم الإتيان بألفاظ مرادفة لما في القرآن وإنما هو تقريب للمعنى ..
المثال الأول : قوله تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا } . لو قال قائل: المور الحركة، فهذا تقريب للمعنى لأن المَوْرَ حركة خفيفة سريعة. فأين الكلمة الواحدة التي تجمع بين كل هذه المعاني سوى (المور)؟ سبحان الله! فهذا من الإعجاز في كتاب ربنا سبحانه ..
المثال الثاني : قوله تعالى : { أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } . قال المفسرون : الوحي : الإعلام. وهذا تقريب للمعنى؛ فالوحي إعلام سريع خفي .
المثال الثالث : قوله : { وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ } . قالوا: قضينا هنا : أعلمنا. ومنهم من قال : أنزلنا. والمعنى : أوحى إليهم وأعلمهم وأنزل إليهم وأوجب عليهم. فهذا تقريب منهم للمعنى، وأين الكلمة التي تتناول بين ثناياها كلَّ هذه المعاني؟
ثم انتقل الشيخ إلى مسألة يحتاج إليها كلُّ من رام تفسير كتاب الله فقال :
وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ
هذا ما يُسمّى بالتضمين .
من المهم في التفسير أن نعلم أننا إذا وجدنا فعلاً تعدى بغير الحرف الذي يتعدى به فلا نقول إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض هذا مشهور بين الناس، وهو رأي لبعض النحاة من أهل الكوفة، والصواب ما عليه البصريون، أنّ الفعل ضُمِّنَ معنى فعل آخر.(1/29)
لنأخذ مثالاً، وبالمثال يتضح المقال : قال تعالى : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه } . قال بعضهم: المعنى: بسؤال نعجتك مع نعاجه. فأبقى العامل وجعل الحروف ينوب بعضها عن بعض. وهذا يقول عنه شيخ الإسلام: خطأ. والصحيح أن يُضمن الفعل معنى فعل آخر يناسب الحرف . فنقول : إنّ معنى الآية : لقد ظلمك بضمِّ نعجتك إلى نعاجه.
مثال آخر : قال تعالى : { عيناً يشرب بها عباد الله } .. لا نقول يشرب منها، وإنما نقول : يروى بها، فنضمن الفعل معنى فعل آخر ونعديه تعديته .
قال ابن هشام في مغني اللبيب:" باب في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصوابُ خلافها، وهي كثيرة، والذي يحضرني الآن منها عشرون موضعاً "... الثالث عشر: قولهم ينوب بعضُ حروف الجر عن بعض. وهذا أيضاً مما يتداولونه ويستدلون به، وتصحيحه بإدخال قد على قولهم ينوب، وحينئذ فيتعذر استدلالهم به، إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة، ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم، على أن البصريين ومَنْ تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باقٍ على معناه، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف، لأنّ التجوّز في الفعل أسهل منه في الحرف" .
وقال صفحة سبعٍ وتسعين وثمانمائة : "القاعدة الثالثة: قد يُشرِّبون لفظاً معنى لفظ فيعطونه حكمه، ويُسمى ذلك تضميناً، وفائدته أن تؤديَ كلمةٌ مُؤدَّى كلمتين".(1/30)
وقال ابن القيم رحمه الله -في مسألة أن الحروف ينوب بعضها عن بعض-:" وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضُون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيُشَرِّبون الفعل المتعدِّي به معناه ، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن وهذا نحو قوله تعالى { عينا يشرب بها عباد الله } " اهـ من بدائع الفوائد مج2 ص ثمانٍ وخمسين ومئتين .
مثال آخر ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى : { من أنصاري إلى الله } ، قيل: المعنى من أنصاري مع الله، والصواب: من ينيب معي إلى الله . فيبقى الحرف كما هو.
مثال آخر : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } . بعضهم قال: عن بمعنى في، أقول لك: لا تفتنُ فلاناً في دينه. ولكن الصواب أن يُقال: ضمن(يفتنونك) معنى (يزيغونك) . فهذه الطريقة فيها زيادة معنى، بخلاف طريقة الكوفيين الجامدة .
قد يُقال : ما الضابط لهذا ؟
نقول : الضابط حرف التعدية الذي يشير إلى الفعل المضمَّن ، وعلى المفسِّر أن ينظر في السياق والسباق ، وينظر في الفعل المناسب لهذا الموضوع والحرف .
أما القول بتناوب الحروف فهذا لا يتناسب مع مكانة القرآن الكريم وبلاغته .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ، ولا يُقال : من القوم، أي: على القوم .
فلماذا جاء شيخ الإسلام بهذه المسألة هنا :
لأن بعض المفسرين يفسر الآيات التي اشتملت على هذه الأحرف تفسيراً ناقصاً بالقول بنيابة الحروف، ولو قال بالتضمين لكان قوله نوراً على نورٍ لما يكون به من زيادة في المعنى تناسب بلاغة كتاب الله .
أختم هذه الحلقة بقوله رحمه الله :(1/31)
وَمَنْ قَالَ: { لَا رَيْبَ } : لَا شَكَّ، فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ، كَمَا قَالَ : «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك»،
فالريب ليس مجرد الشك، فهو شك في اضطراب وقلق، وعدم استقرار وهدوء. فمن فسّر ببعض هذا فقد فسّره بجزء معناه .قال:
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: "مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ: «لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ»، فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ. وَلَفْظُ "الشَّكِّ" وَإِنْ قِيل: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى; لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وأما الظبي الحاقف : الذي ضُرب بسهم، لا يريبه: لا يحركه أحد.
أكتفي بهذا القدر إن شاء الله ..
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً..
اللهم آتي نفوسنا تقواها ، وزكها أ،ت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك وأنعم على خير عبادك وسيد أوليائك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (7)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن ترضى عنهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه هي الحلقة السابعة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن يبارك لنا في القرآن الكريم، وأن ينفعنا به، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا .
ما زال الحديث عن المترادف، وأنّ وجوده في القرآن عسير أو معدوم، وأنّ تفسير ألفاظ القرآن بألفاظ أخرى لا تعطي ذات المعنى، وإنما هو تقريب له.(1/32)
ومن الأمثلة : لو أنّ أحداً قال في قول ربنا تعالى: { ذلك الكتاب لا ريب فيه } ، أي : هذا القرآن لا ريب فيه لكان تفسيره قاصراً.. فهو قد قرَّب المعنى ولكنه لم يؤدِّه كاملاً .. لماذا؟ لأنه فسر { ذلك } الذي يُشار به إلى البعيد، بـ(هذا) الذي يُشار به إلى القريب. وإنما جاءت الإشارة إليه بـ { ذلك } للإشارة إلى بعد مكانته وعلو قدره، فكأنك تشير إليه وهو في الأفق البعيد مكانةً ودرجةً فتقول : ذااالك الكتاب .
من جهة أخرى يندرج تحت لفظ (الكتاب) من المعاني ما لا يندرج تحت لفظ (القرآن) .. فَلَفْظُ " الْكِتَابِ " يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا
ولهذا كان تفسيرهم تقريباً للمعنى .
ومنه تفسيرهم لقول ربنا – في سورة الأنعام- : { وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } ، أن تبسل أي : لئلا تبسل. منهم من قال: تُحبس. ومنهم من قال: تُرتَهن . والمحبوس قد يكون مرتهناً وقد لا يكون، ولذا فهذا تقريب للمعنى.
ولما كانت أقوال المفسرين لا يمكن أن ترادف اللفظَ القرآني كان جمعُ جميع أقوالهم في الآية أحسن وأكمل، لأن زيداً ينبهك على معنىً لم يَفْطِن له عمروٌ.
ومن التفاسير التي عُنيت بجمع الأقوال تفسير الطبري، وابنِ كثير، وزاد المسير لابن الجوزي .
ثم قال رحمه الله :" . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنْ الاتفاق مَعْلُومٌ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(1/33)
كل هذه الأمور لا اختلاف فيها وكلها مواطن اختلاف. ووقوع الاختلاف في بعض فروع الباب لا يوجب شكاً في هذا الباب المعين. وذكر الشيخ مثالاً بمسألتين من مسائل الفرائض وقع فيها خلافٌ، فهل ذلك يعني أنّ مسائل الفرائض كلها مختلف فيها. أبداً ما قال أحد بذلك ، قال الشيخ :
ثُمَّ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ ؛ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأشار الشيخ إلى مسألتين :
المسألة الأولى: الجد والإخوة. فيها خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ؟
الرأي الأول : مذهب أبي بكر - رضي الله عنه - وغيره أن الجدَّ يحجب الإخوة ولا يرثون شيئاً . وهو مذهب أبي حنيفة .
فمثلاً هلك هالك عن جد وأخ شقيق , المال للجد وأما الأخ الشقيق فليس له شيء.
الرأي الثاني : رأي الجمهور، لهم تفصيل، وهو رأي زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يرى أن الإخوة يرثون مع الجد، وهذا أخذ به أكثر أهل العلم رحمهم الله ولهم تفاصيل طويلة .(1/34)
المسألة الثانية : المشرَّكة. صورتها أن يجتمع في الإرث : زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء .ورد عن عمر - رضي الله عنه - فيها رأيان :
الرأي الأول :
الزوج يأخذ النصف , الزوجة تأخذ السدس , الإخوة لأم يأخذون الثلث . انتهت المسألة ما بقي شيء للأشقاء ؛ لأنهم عصبة . عمر - رضي الله عنه - تارة قضى بحجب الإخوة الأشقاء، وتارة قضى بالتشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم .
مثل هذا الخلاف يقول الشيخ هذا لا يوجب ريباً في جمهور مسائل الفرائض .
فالشيخ رحمه الله أراد دفع شبهة، فهو يقول : لا يظنن ظان أن وجود الاختلاف يوجب الشك ، فإن الاختلاف إذا كان من باب التنوع فالأمر واضح ولا إشكال، أما إذا كان الاختلاف ليس من باب التنوع فهذا مرجعه إلى المجتهدين الذين يجتهدون في هذه الأمور ، فالاختلاف من جهة الاجتهاد لا من جهة الشرع ، فلا مطعن في الشرع لأنّ الحق واحد لا يتعدد، والمصيبَ واحدٌ لا غير، وإن كان المجتهدان مأجورين .
ثم ذكر الشيخ أسباب الاختلاف بين العلماء بقوله :
وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ لِذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ .
ذكر الشيخ هنا .... أسباب لاختلاف العلماء :
الأول : خفاء الدليل والذهول عنه .
فإذا لم يتبين عالم الدليل أو ذهَل عنه ولم يقل به وقع الاختلاف .
مثال ذلك يأتي عالم من العلماء ويقول : إن حديث كذا دليل على سبع فوائد. آخر يقول دليل على عشر فوائد. الأول غفل عن ثلاث فوائد، فوقع اختلاف بسبب الذُّهول عن الدليل . فالناس قدرات، والإمام الشافعي رحمه الله استنبط سبعين فائدةً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخ انس ابن مالك :« ما ذا فعل النغير يا أبا عمير» .(1/35)
الثاني : لعدم سماع العالم بالحديث.
مثلاً الإمام مالك - رضي الله عنه - لم يبلغه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في صوم ستٍّ من شوال فلم يقلْ به.
الثالث : للغلط في فهم النص .
كمن وضع خيطين تحت وسادته لما سمع الآية : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } .
الرابع : أو يكون الدليل قد بلغ العالم لكنه رجّح غيره عليه بإحدى الرجحات المعروفة في علم الأصول .
ومن أراد أن يتعرف على أسباب الاختلاف بين العلماء وما يترتب على ذلك والموقف الشرعي من اختلافهم فأدله على كتابين:
الأول: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لابن تيمية .
الثاني : (خلاف العلماء وموقفنا منه) لابن عثيمين .. رحمهما الله تعالى .
إذاً من أهم الأمور التي تُفهم من خلال دراسة هذا الفصل :
? أنه لا يمكن ترجمة القرآن .
? أن ترجمة معاني القرآن إنما تأتي ببعض معاني الآية.
? أن تفسير ألفاظ القرآن بالكلمة ومعناها لا يعطي تفسيرا جامعاً لمعاني الآية، إنما يقرب - فقط - المعنى.
? أن بعض المواضع في تفسير القرآن يكون معنى الآية في مجموع الأقوال الواردة عن السلف في تفسيرها لا في بعضها.
? خطورة التفسير بالرأي، ولابد من مراعاة شروط قبوله، حتى يكون سائغاً. ويأتي الكلام عنه بإذن الله تعالى .
أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن الكريم وعلومه؛ إنه جواد كريم .
وصَلَّى الله وسلمَ وباركَ وأنْعَمَ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (8)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن ترضى عنهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/36)
هذه هي الحلقة الثامنة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن يبارك لنا في القرآن الكريم وعلومه، وأن ينفعنا به، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا .
قال الشيخ رحمه الله :"
فَصْلٌ : الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذْ الْعِلْمُ؛ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ . وَالْمَنْقُولُ؛ إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ. وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ . وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - مِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا
قد يرد إلينا اختلاف في التفسير ويكونُ مستنده النقل، وهذا. ومن حيث العموم أقول: التفسير الذي يستند إلى النقل إما أن يكون النقل فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإما أن يكون عن الصحابة. والمنقولات عموماً منها ما يمكن الوقوف صحتها وثبوتها، ومنها ما لا يمكن أن يتم ذلك معها .
وكل نص تحتاجه الأمة لو وقع اختلاف فيه يمكن الوقوف على صحته، وعامة ما لا يمكننا الجزم به هو مما لا يتوقف عليه عمل، و لا تحتاجه الأمة، فهو مما لا فائدة فيه، والعلم بها هو من فضول الكلام.
وإليكم الأمثلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله :(1/37)
قال تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [الكهف: 18] . فما لون كلب أصحاب الكهف؟
أرأيت لو قيل لك: إنَّ لونه أحمر، أو أبيض، ماذا ستسفيد من ذلك؟ هذه مسألةٌ العلم بها لا ينفع وجهلها لا يضر.
مثال آخر: قال تعالى في قصة قتيل بني إسرائيل : { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [البقرة: 73] بأي جزء منها ضُرب الميت؟ بذنبها، بأذنها؟ بيدها؟ هذا لا يهم .
ما مقدار سفينة نوح؟ كم طولها؟ ما لونها؟ ما نوعُ خشبها؟ لا يهم.
من هو الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام؟ لا يهم . وأقول هنا –استطراداً- هل تعلم ايها المستمع الكريم لماذ سُمي الخضر بهذا الاسم؟ الجواب: ، سُمي بذلك لأنه جلس على حشيشة يابسة فاهتزت تحته خضراء، فقيل له الْخَضِر لأجل ذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ» [حديث صحيح خرّجه الترمذي في جامعه] والفروة : الحشيش .
فما لم يأت بيانه فهذا لا يضر الجهل به، لكن الأمور التي يحتاجها الناس لا بد لها من بيان، ولا بد أن يُنقلَ ، ولا بد أن يَثْبت.
هذه المبهمات، تُعرَف في علوم القرآن بعلم مستقل اسمه : (مبهمات القرآن)؛
والقاعدة في علم مبهمات القرآن :
أن المبهمات على قسمين :
القسم الأول : ما استأثر الله بعلمه، كتحديد زمن قيام الساعة، وكتحديد عمر الدنيا، وكذكر مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
هذا القسم يحرم طلب العلم به ، وتكلفه لا يجوز ، لأنك تطلب ما أخبرك الشارع أنه لا يعلمه أحد، فطلب العلم به تكذيب للشرع .(1/38)
وهذا ليس هو موضوع التصنيف في هذا العلم ، ومن تكلم فيه فإنما تكلم بجهل ووقع في أمر محظور شرعاً .
القسم الثاني من أنواع المبهمات : ما لم يستأثر الله بعلمه ، ولم يأت في القرآن أو في السنة ما يفيد ذلك فهذا على أنواع :
النوع الأول : ما أبهمه في محل وفسره في محل آخر .
مثاله : من هم الذين أنعم الله عليهم في قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة:6-7] ؟ أبهمه هنا وفسره في موضع آخر، فقال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69] .
من هم المغضوب عليهم ومن هم الضالون ؟ فسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاَّل».
حكم هذا النوع : هذا النوع يُطلب بيانه والعلم به .
ولماذا أُبهم في موضع وبُيِّن في آخر؟
لشحذ الهمم للبحث والنظر وهو من أوجه التفسير ، فتارة يكون من باب تفسير القرآن بالقرآن، وتارة يكون من باب تفسير القرآن بالسنة ، وتارة يكون من باب تفسير القرآن بقول الصحابي . وفائدة هذا التشويق أن المعلومة بعده تكون أرسخ في ذهن من طلبها. مثلاً: لو قلت لك: اسلك صراط المُنعم عليهم. ولم أخبرك بهم، وأنت تعلم أنّهم مذكورون في كتاب معين فراجعته، حينها لا يمكن أن تنسى هذه المعلومة بخلاف مالو أخبرتك بها ابتداءً .
النوع الثاني : ما أبهمه الله سبحانه وتعالى ، أو أبهمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقصد الستر .
مثاله : قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } [الأحقاف: من الآية] ، فهذا أبهمه الله تعالى فلم يبين من هو بقصد الستر ، والله حييٌّ ستير يحب السَّترَ ويحب الحياء كما أخرج أبو داود عن نبينا وحبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/39)
حكمه : هذا النوع لا ينبغي طلب كشفه .
النوع الثالث : ما أبهمه الله سبحانه وتعالى بقصد التعظيم ، كأمور من صفات الجنة ، وأمور من أحوال الآخرة ، أبهمها بقصد أن تكون في الأذهان شيئاً عظيماً ، إما لشرفه وعلوه ، أو لشدته وغلظته.
النوع الرابع : ما أبهمه الله تعالى بقصد التعميم .
النوع الخامس : ما أبهمه الله تعالى لعدم تعلق فائدة به ، مثل : عدد أصحاب الكهف، واسم كلبهم كما مرّ معنا قبل قليل .
إذاً نقول : المبهمات على نوعين :
1- مبهمات استأثر الله بعلمها ، فطلبها حرام .
2- ومبهمات لم يستأثر الله بعلمها ، فطلبها على أنواع ، ولكل نوع حكم . فكلها يجوز طلبها إلا النوع الذي فيه طلب الستر فإنه لا ينبغي .
مع ملاحظة : أنه لا يجوز الجزم بتعيين شيء من المبهمات في هذه الأنواع ما لم يأتِ الدليل الصحيح الصريح فيها . وليس مجرد ذكرها في كتب التفسير يجعلنا نجزم بها .
مثال ذلك : قوله تعالى : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ } [القصص: من الآية20]، ما هي المدينة ؟ في كتب التفسير كثيرون يقولون : هي (أنطاكية) ، هذا غير صحيح لأنه لم يأت في نص صحيح صريح فكيف يُساق مساق المسلَّمات ؟
إذاً : القاعدة هذه تنبهك على أنواع المبهمات ، وتنبهك على أمر خطير وهو : أنه لا يمكنك أن تجزم بشيء من تعيين هذه المبهمات ما لم يكن لديك دليل صحيح صريح ، ولا حرج من أن تُذكر على سبيل الاحتمال. مثل ما قال نبيُّنُا عليه أفضل صلاة وأتم تسليم : «مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ» [أخرجه الإمام أحمدُ في المسند وابو داود في السنن وهو صحيح الإسناد].(1/40)
وقد اختلفت الأحاديث الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإسرائيليات – أخبار أهل الكتاب – ففي بعض الأحاديث نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة كتب أهل الكتاب وعن النظر فيها وبالتالي عن حكايتها، من هذا حديث جابر رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المراد قُرئ عليه لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقرأ- فَغَضِبَ، فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ - التَّهَوُّك التَّهَوُّر وزناً ومعنىً، وهو الوُقُوع في الأمْرِ بِغَيْرِ رَوِيَّة- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» [أحمد والدارمي]، هذا النص أفاد عند العلماء : عدم جواز مطالعة كتب أهل الكتب وبالتالي لا يجوز النظر في أخبارهم .
نصٌ ثانٍ : يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» [صحيح البخاري] ، فهنا : ينفي الحرج .
نصٌ ثالث : وهو ما أشار إليه المصنِّف – رحمه الله – يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) .
جمع العلماء بين هذه النصوص ، وذكر قولهم الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في أول التفسير قال : قال العلماء – رحمهم الله - : إن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع :(1/41)
النوع الأول : ما نعلم بطلانه بما جاءنا من الوحي ، فهذا لا يجوز لنا أن نحكيَه ولا أن نسوقَه ، وإن سقناه فإننا نرده ونكذِّبه ، وذلك لما قام لدينا في شرعنا من الدليل على أن هذا من الباطل .
النوع الثاني : ما جاءنا من أخبار أهل الكتاب مما نعلم صدقه لموافقته ما أخبرنا الله عز وجل به ، وهذا كثير من الأشياء في التوراة والإنجيل نجدها توافق ما عندنا ، وبالذات في باب القصص والأخبار ، فهذا النوع هو الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، أي : فيما عَلِمْتم أنه يوافق ما عندكم .
النوع الثالث : ما لا يوافق ولا يخالف ، فهذا هو الذي عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) . ( لا تصدقوهم ) لأنه لا تعلمون صدقهم فيه ، ( ولا تكذبوهم ) يعني : أنتم لا تعلمون كذبهم فيه.
إذاً : لا يجوز الجزم بشيء من المبهمات ما لم يكن هناك مستند صحيح صريح في هذا الموضوع .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (9)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن ترضى عنهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه هي الحلقة التاسعة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً .
آخر نقطة تم الدرس السابق بها هي ما يتعلق بأخبار أهل الكتاب، وتفصيل القول في مبهمات القرآن ..(1/42)
ثم قال الشيخ رحمه الله :" وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ. وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى. وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ. وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ!؟
ولذا إذا جاءنا أثر موقوف على صحابيٍّ يفسر فيه آيةًً فلا ينبغي أن نحكم بأنه أخذ ذلك عن أهل الكتاب ، فالجرأة على رد ما جاء عن الصحابي بدعوى أنه من أخبار أهل الكتاب لا يليق؛ لعلمهم، وفضلهم، وورعهم، رضي الله عنهم وأرضاهم. فالصحابي إذا فسر القرآن الكريم فالغالب على الظن أنه مما تلقاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولا يليق كما قرر الشيخ أن يُقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب .
مثلاً أخرج الطبراني في معجمه الكبير أنّ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال فِي قَوْلِهِ: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا, وَنَزَّلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِجَوَابِ كَلامِ الْعِبَادِ , وَأَعْمَالِهِمْ" . جزم بعض المتأخرين أنّ هذا مما أُخذ عن أهل الكتاب ، وهذا مردود لما يلي :
أولاً : لا دليل على هذا الزعم .(1/43)
ثانياً : هذا مما جزم ابن عباس به فلا يمكن أنْ يكون من أهل الكتاب .
ثالثاً : لا علاقة لكلامه بالقصص أو الأخبار أو الكتب سابقة، وإنما الكلام عن القرآن .
رابعاً : لم يخالف صحابي ابنَ عباس في هذا ، فكان إجماعاً .
خامساً : كان ابن عباس رضي الله عنهما ينهى عن الأخذ عنهم .. ثبت في صحيح البخاري أنّه - رضي الله عنه - قال :" يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ " .
ولهذا جزم غير واحد من أهل العلم بأنّ هذا الأثر له حكم الرفع .
والصحابي الذي يخبر عنهم لا يمكن إذا جزم بشيء في تفسير آية لا يمكن أن يكون مما أخذه من أهل الكتاب ، فينبغي للإنسان أن يعرف قدْر الناس ويُنَزِّلهم منازلهم ، وهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أعلم بالدين، وأورع، وأعلى فقهاً منا، وأتقى لله تعالى .
وكثير مما نُقل عن الصحابة وزُعم أنّهم أخذوه عن أهل الكتاب إما أن يكون الإسناد غير صحيح . أو أن يقال: إنهم نقلوا التفسير بالاستنباط أو بما فهموه من القرآن والسنة، ويظن الناس أن هذا عن بني إسرائيل، وهذا كثير من الأقوال التي تُنسب لابن عباس خاصة.
ومسألة الإسرائليات مضى تفصيل القول فيها.(1/44)
ثم قال الشيخ :" وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ; بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ
إذا المنقول في التفسير نوعان :
1- منقول لا يحتاج الناس إلى معرفته .
2- منقول يحتاج الناس إلى معرفته.
النوع الأول لن نقف عنده وسبق الكلام عليه .
أما النوع الثاني فلابد من أن يكون هناك سبيل للتعرف على ثبوته، أعني ما يحتاج الناس إلى معرفته : لا بد أن يأتي ما يدل على ثبوته. إذ كيف يتعبدنا الله بأمر ويجبه علينا ولا سبيل إلى معرفته؟!
وهذه المنقولات منها الصحيح ومنها ما لا يصح ..
لكن هنا سؤال في غاية الأهمية .. ما هو؟ السؤال : هل أعامل ما يُنقل في التفسير معاملة ما ينقل في السنة؟
هل يُشترط في قبول الأخبار الواردة في التراجم والسير وكتب التاريخ ما يشترط في قبول الحديث والأثر؟! فإنَّ الآثار المنقولة في التفسير يكثر الضعف فيها؛ إما أن تكون ضعيفة لضعف أحد رواتها، أو ضعيفة لجهالة بعض الرواة، أو أن تكون ضعيفة بالإرسال أو نحو ذلك ..(1/45)
ونقل الشيخ ما قاله الإمام أحمد يرحمه الله في ذلك :" ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ : التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي. وَيُرْوَى: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ.
وهذه الجملة : أعني (ليس له أصل) ، يراد بها أمور :
تطلق بمعنى لا سند لها. وتطلق بمعنى أن أسانيدها غيرُ متصلة، فهي مرسلة أو منقطعة، أو معضلة. وتطلق بمعنى أن ما جاء فيها لا أصل له في الشرع.
بالنسبة للمغازي فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أهلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ؛ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ
فما جاءنا من خبر يتعلق بالمغازي عن طريق هؤلاء ولم يكن في متنه نكارة فإننا نقبله ولا نشدد فيه، فالعلماء لا يشددون في أمر المغازي .
وكذلك "التَّفْسِيرُ" فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
فهؤلاء إذا جاءت الرواية عن طريقهم في التفسير نقبلها ولا نُشدد فيها.
فالمرسل هنا نقبله إذا تعددت طرقه وخلا من المواطأة ..(1/46)
ما معنى هذا الكلام ؟ المرسل هو حديث التابعي يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن الصلاح، والتابعي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أدرك الصحابي ، فإذا تعددت طرقه وخلا من المواطأة قبلناه.
فإذا جاءك شخص أنت لا تثق به وقال: رأيت حادثاً في طريق مدينة كذا . وجاءك آخر لا تثق به وقال ذات الكلام. وجاء ثالث وذكر ما ذكر صاحباه، ولم يكن بينهما مواطأة واتفاق على الكذب . فهذا لا شك يجعلك تقبل خبرهم وتطمئن إليه، فهذا معنى كلامه : أنّ المرسل إذا تعددت طرقه وخلا من المواطأة قُبل .
ومن الغرائب أنّ بعض الناس كتب بحثاً علمياً في الآيات التي فسرها ابن عباس وإذا هي بالعدد؟ أيعقل هذا ؟ ابن عباس الذي كان شغله تفسير كتاب الله لا يثبت من تفسيره إلا القليل؟ هذا أمر لا يقبله العقل. لكن أتعرفون لماذا خلص الباحث لى هذه النتيجة؟ لأنه طبق القواعد التي يطبقها العلماء في أحاديث الأحكام طبقها بحذافيرها في هذه الآثار فكانت هذه الخلاصة الغريبة التي أنكرها أهل العلم عليه . فالتفسير لا يُشدد في أمره . لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإذا شهدت لغة العرب لهذا الأثر الذي جاءنا في التفسير ولم يكن منكراً فإننا لا نرده، ولا نجري عليه القواعد التي نجريها في أحاديث الأحكام .
ثم ذكر الشيخ دليلاً عقلياً على هذه المسألة ، قال : فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ; فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ
هذه قسمة عقلية؛ وهذا اسستطراد من الشيخ، والشيخ كثيراً ما يستطرد في مؤلفاته؛ لغزارة علمه، فهو إذا كتب كان كالسيل المتدفق. يقول : الخبر إما أن يكون صِدقاً مطابقاً للواقع، وإما أن لا يكون.(1/47)
فإذا لم يكن صدقاً مطابقاً للواقع؛ فإما أن يكون ناقل الخبر تعمد الكذب ، وإما أن يكون أخطأ ووهم لضعف الضبط.
فما تعمد فيه الكذب : فهو الموضوع، وما لم يتعمد فيه الكذب، أي : وقع فيه الخطأ والوهم بسبب ضعف الضبط فهذا الذي يسميه العلماء: الضعيف.
فإذا جاءنا خبر يطابق الواقع، ولكن ناقله عُرِف أنه من النوع الثاني الذي يكثر في كلامه الخطأ والوهم، بل قد يكون ناقله ممن عُرف بالكذب ، ماذا يكون حال خبره ؟
يقول شيخ الإسلام : ( متى سَلِم من الخطأ العمد والكذب كان صدقاً بلا ريب ) .
لكن هذا الراوي نحن نعرف أنه كذاب ، فكيف يَسْلَم من الكذب؟
قال : يَسْلَم من الكذب بأن يُنقَل هذا الخبر بطرق يستحيل تواطؤ أصحابها على الاتفاق على الكذب، إذا نُقِل الحديث بطرق استحال عقلاً أن يتفق أصحابه على الكذب، حتى ولو كانوا هم في أنفسهم أهل كذب؛ فإن خبرهم يُقبَل .
ولهذا قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ما قال فردوا. تأمل. لم يأمر برد خبر الفاسق، وإنما أمر بالتبين والتثبت ولم يردَّه ، والمعنى : خبر الفاسق إذا جاءكم انظروا في القرائن، فإذا دلَّت القرائن على قبول خبره فاقبلوه، وإذا دلَّت القرائن على ردِّ خبر فرُدُّوه، بخلاف خبر العدل، فالأصل في العدل : أن خبره مقبول، وهذا مفهوم المخالفة في الآية.
ومن القرائن : أن يأتي الخبر نفسه من طرق متعددة ، ولو كانت هذه الطرق عمن هذه صفتهم ولكن بدون مواطأة واتفاق ، هذه من القرائن . كما ذكرنا قبل قليل : لا يمكن أن يأتيك ثلاثة أشخاص كلهم ضعيف، لكنهم يؤكدون حقيقةً واحدة، ولم يتقابلوا حتى يكون خبرهم بها عن مواطأة واتفاق ، أليست هذه قرينة تفضي إلى قبول خبرهم؟ الجواب : بلى.
ولكن : هذه الطريقة يثبت بها الخبر في الجملة ، أما دقائق الأحداث التفصيلية فلا تثبت بها .(1/48)
مثلاً : لو أخبرني ثلاثة من أماكن شتى ممن لا يوثق بهم لو أخبروني بوقوع حادث فهذا أقبله إذا لم يتواطؤوا، أما التفاصيل الدقيقة من الأمور المتعلقة بهذا الحادث كتحديد زمن وقوعه على جهة التفصيل فلا يمكن قبوله منهم ، إلا أن خبرهم مقبول عموماً .
وهذا القيد أشار إليه الشيخ بقوله :"
لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ
إذاً الخلاصة : إذا جاء الخبر متفق في معنى القصة من جهات متعددة بلا اتفاق ولا تواطؤ فهو وإن كان مرسلاً أو كان ضعيفاً أو كان الناقل فاسقاً أو غيره فإن هذا مما يقتضي – ليس فقط صحته – وإنما القطع بصحته.
ولو أردنا أن نطبق هذا الكلام في المغازي –مثلاً – نقول: جاءت قصة من رواة لا يوثق بهم ، ولكن نثبتها لأنهم من أماكن متفرقة، ولم يتواطؤوا على التحدث بها، أما لو اشتملت هذه القصة على أمر دقيق كحكم شرعي من الأحكام فلا نقبله، وإنما نقبل القصة من حيث العموم .
فهذا : أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، إنه خير مسؤول
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وأستودعكم الله ، وإلى لقاء قادم بإذن الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (10)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن ترضى عنهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/49)
هذه هي الحلقة العاشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدأ حديثي سائلاً الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً.
قال الشيخ رحمه الله :" و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا; فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ
سبق الكلام عن هذا بما يغني عن الإعادة . وذكر الشيخ مثالاً لذلك قصة شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعير جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فالقصة في الصحيحين وقد تلقتهما الأمة بالقبول، وإن حدث اضطراب في ثمن البعير، فهذا لا يشكك في ثبوت القصة؛ لأن هذا الاضطراب لا يعود إلى أصل الحديث، وإنما إلى جزيئة فيه . ثم استطرد الشيخ في ذكر أمور لا يفي بذكرها وتفصيل القول فيها مثل هذا البرنامج الإذاعي المختصر.
ثم قال الشيخ رحمه الله :" وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ;(1/50)
سبق للمصنف رحمه الله أن قال: " الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذْ الْعِلْمُ؛ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ"اهـ، وهو فيما سبق تكلم عن التفسير الذي مستنده النقل وما يتعلق بقواعد النقل، وخصوصية أهل الحديث فيه، وخصوصية علماء التفسير فيما يروونه. وفي هذا الفصل يتكلم المصنف عن التفسير الذي مستنده الاستدلال، فذكر جهتين لدخول الخطأ في التفسير الذي مستنده الاستدلال.
وقبل أن يذكر الجهتين بيَّن رحمه الله أنّ التفسير بالمأثور لا يكاد يوجد فيه شيء من هاتين الجهتين ..
إذاً الكلام هنا عن نقطتين .. ما هو التفسير بالمأثور ؟ ما هما جهتا دخول الخطأ في التفسير الذي يستند إلى الاستدلال؟
أما التفسير بالمأثور فهو نقل الآثار والأحاديث المتعلقة بالآيات بدون توجيه أو ترجيح من الناقل؛ لأنه قد يوجد توجيه وترجيح في ذات الآثار التي ينقلها وهذا لا يؤثر. ومن التفسير بالمأثور : تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم، وتَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة وسُنَيْد وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ماجه، وَابْنِ مَردويه.
فما هما جهتا الخطأ اللتان توجدان في التفسير الذي يستند إلى الاستدلال؟
الجهة الأولى : أن يعتقد الإنسان عقيدة ثم يحاول أن يوجد لها أدلة من القرآن !(1/51)
زيدٌ من الناس يعتقد عقيدة باطلة، ماذا سيصنع؟ سيحاول أن يوجد لها أدلة من القرآن، وبالتالي سيلوي أعناق النصوص لتوافق عقيدته الباطلة. ولهذا تجد أهل البدع لهم أدلة قرآنية، ليس لأن القرآن يدل عليها، بل لأنهم أخضعوها لعقيدتهم وحرفوا مدلولها. ولهذا استدل قبل أن تعتقد والزم الأمر العتيق ، فكل خير في اتباع من سلف، وكلُّ شرٍّ في ابتداع من خلف. تجد بكراً ينكر صفات الله؟ لماذا؟ يقول : لأن الله قال : { ليس كمثله شيءٌ } .. سبحان الله! أولا يسوغ أن نثبت ما أثبته الله لنفسه بلا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تفويض؟ الجواب : بلى. ولهذا لما نفى الله عن نفسه المثل قال : { وهو السميع البصير } ، فنثبت صفات الله بلا تشبيه، وننزه الله بلا تعطيل .
الجهة الثانية : أن يفسر القرآن – وليس عنده اعتقاد سابق- ولكن يقول بما يدل عليه اللفظ بقطع النظر عن المتكلم به، والمنزل عليه، والمخاطب به!
والكلام يختلف معناه بحسب المتكلم به، وبحسب المخاطب كذلك؟ ولعلك أيها المستمع الكريم تريد دليلاً على ذلك، وسأذكره لك إن شاء الله ..
أرأيت لو ذهب رجلان إلى عمرو ، أحدهما عف اللسان كريم الأخلاق، والثاني بذيء عربيد سيء الخلق، فقال له سيء الخلق: (أنت مجرم) قالها لعمرو. والثاني قال له ذات الكلمة؟ ممن سينزعج عمرو؟ لا شكَّ أنه سينزعج من ذي الأخلاق الفاضلة؛ فالأول بذاءة اللسان طبع فيه ولهذا لن يتأثر به . فهذا يدل على أنّ الكلام يختلف معناه بحسب المتكلم به، ولذا عدّ إبراهيم ما قاله واعتذر بسببه عن الشفاعة لأهل الموقف كذباً مع أنّها كلمات في ذات الله كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولو كانت من غيره لجعلها أرجى أعماله ، فصلوات الله وسلامه عليه، وليس هذا مما يستغرب فإنه خليل الله.(1/52)
ويختلف معنى الكلام بحسب المخاطب به. فلفظ واحد إذا توهت به لعمرو أفاد معنىً لم يفده ما لو توجهت به إلى زيد .. مثلاً : كلمة (رجيل) كما مثل الشارح رحمه الله، هي تصغير لكلمة رجل يعني تقال بمعنى كدت أن تصبح رجلاً ولمَّا. لو قلتها لصبي كان مدحاً، ولو قلتها لرجل كبير راشد لكانت قدحاً وذماً وعيباً .
فالمهم أراد الشيخ أنّ من الخطأ أن نفسر القرآن بالكلمة والمعنى دون النظر في قرائن الأحوال والمتكلم والمخاطب .
يمكن أن تتعرف على أهمية هذه القاعدة هنا من خلال المثال التالي، قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، فالذي يتكلم دون مراعاة تلك الأشياء يمكن أن يقول : إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به. يعني من صنائع المشركين أنهم كفروا بالله وبالمسجد الحرام. اللغة العربية وقواعدها تسعف هذا القول، لكن عند التأمل والنظر يتضح أنّ المعنى : أكبر من قتل المسلمين في الشهر الحرام كفر الكافرين، وصدهم عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام. انظر كيف تغير المعنى.
مثال آخر : قال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } . من جعل القرآن كالمعلقات الشعرية قال : الواو في { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } واو القسم ! زاد المسير - (ج 2 / ص 149) والأظهر – وحكاه ابن كثير- أنه منصوبٌ على المدح ، فالمعنى : اذكر المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة . وأنشدوا : النازلين بكلِّ معترَكٍ".(1/53)
ولذا قال ابن القيم يرحمه الله في كتابه بدائع الفوائد مجلد الثالث صفحة سبعٍ وعشرين "وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه، وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما؛ فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن، فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره؛ وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن".
ومما قاله ابن هشام في مغني اللبيب - وهو إمام اللغة العربي- :" فقد تأتي أوجه من الإعراب للألفاظ تسوغ لغة ونحواً ولكن لا تسوغ تفسيراً" .
بل للقرآن عرْفٌ خاص ومعانٍ معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عُرْفِه والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه أجل الألفاظ ، وأفصحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل. وهذه من أنفس القواعد التي قررها شيخ الإسلام في هذا الكتاب. ولذا لابد من الاستعانة بالكتب المعرفو في التفسير حتى لا نتخبط كتفسير الطبري وابن كثير رحمهما الله .
وربما دل على هذه القاعدة من طرف خفي أنّ الصحابة كانوا يخطئون في فهم الآية، فيصصح فهمهم لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما نزل القرآن بلغتهم ، فهذا يدل على الإلمام بلغة العرب لا يكفي لتأويل كتاب رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين .
ومن أنفع الكتب للتعرف على المزيد في هذا الباب (الحقيقة الشرعية في تفسير ألفاظ القرآن والسنة النبوية)، ومن آثار هذه الطريقة ضياع الحقائق الشرعية .(1/54)
ومن مظان هذا الخطأ الكتب الصغيرة التي تسمى (كلمات القرآن) ، فإن أغلب أصحابها يفسرون كلمات القرآن من حيث اللغة، وقد سبق ذكر أمر آخر يقع في مثل هذه الكتب وهو: أنه قد يأتي للفظة القرآنية أكثر من معنى وهو لا يورد إلا معنى واحداً، وهذا قصور كما سبق بيانه .
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، إنه خير مسؤول
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وأستودعكم الله ، وإلى لقاء قادم بإذن الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (11)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، ومن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم ، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه هي الحلقة الحادية عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، أسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما آتانا وعلمنا ..
سبق الحديث عن جهتي الخطأ اللتين توجدان في التفسير الذي يستند إلى الاستدلال، وهما :
الجهة الأولى : أن يعتقد الإنسان عقيدة ثم يحاول أن يوجد لها أدلة من القرآن !
الجهة الثانية : أن يفسر القرآن – وليس عنده اعتقاد سابق- ولكن يقول بما يدل عليه اللفظ بقطع النظر عن المتكلم به، والمنزل عليه، والمخاطب به!
فمن لوى أعناق النصوص لتتوافق مع عقيدته رَاعَى الْمَعْنَى الَّذِي رآه مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ. وهم قسمان :
الأول : من يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ. دلّ القرآن –مثلاً- على إثبات الصفات للرب وهم يقولون : لم يدل على هذه الصفة . هذا قسم.
القسم الثاني :من يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ. كمحاولة جعل القرآن دالاً على نظرية ليست محلَّ اتفاق، بل ربما ثبت خلافها بدراسة علميةٍ صحيحة .(1/55)
فلا تدخل في القرآن معنى لم يدل عليه، ولا تخرج منه معنىً دل عليه .
فَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ. ما معنى هذا الكلام؟ المدلول : مادلَّ الدليل عليه. مثلاً، قال تعالى : { واركعوا مع الراكعين } هذا دليل. المدلول : وجوب الصلاة في جماعةٍ .
وهذا الخطأ بقسميه –يقول الشيخ- : كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.
هذا أصل مهم . كل ما تكلم به العلماء في القرآن ؛ يكون مثله في الحديث، ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أحمدَ- : «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»؟! اللهم إلا ما اختص به القرآن مما دلَّ الدليل على اختصاصه.. في القرآن يوجد محكم ومتشابه، وفي الحديث كذلك.. وفي القرآن توجد أسباب نزول وفي الحديث أسباب ورود الحديث.. السنة وحي من عند الله. ففي صحيح مسلم أنّ رجلاً َقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«كَيْفَ قُلْتَ»؟ قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِي ذَلِكَ» .(1/56)
القرآن معجز في ألفاظه، والسنة معجزة من جهات أخرى:
الجهة الأولى : ما تضمنته سنته - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة والبلاغة. الجهة الثانية : ما تضمنته سنته - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار عن أمور غيبية.
الجهة الثالثة : ما تضمنته سنته - صلى الله عليه وسلم - من الآيات التي رآها الصحابة حساً. الجهة الرابعة : ما تضمنته سنته - صلى الله عليه وسلم - من تشريعات صالحة لكل زمان ومكان .
ثم أخذ الشيخ يحدثنا عن الذين أخطئوا في الدليل والمدلول من المبتدعة ، فذكر منهم الخوارج الذين يجعلون القرآن دليلاً على كفر مرتكب الكبيرة، فيستدلون بمثل قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } ، ويذرون وراءهم مثلَ قوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فأثبت الله الأخوة الإيمانية بين المتقاتلين، ومثلَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
وذكر المعتزلة ، وذكر الشيخ أصولهم بعد ذلك. والروافض، وسيأتي ذكرُ تلاعبهم بالقرآن، وذكر القدرية، وهم قسمان غلاة، قالوا : إن الأمر أنف لا يعلمه الله إلا بعد وقوعه، وغير غلاة، قالوا : إن أفعال العباد غير مخلوقة . والمرجئة الذين أخّروا وأخرجوا العمل عن مسمّى الإيمان وقالوا : لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، فإيمان أفسق الفاسقين كإيمان صحابة النبي الأمين عليه الصلاة والتسليم.(1/57)
وذكر الشيخ رحمه الله بعض التفاسير للمعتزلة، مثلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيسان الْأَصَمِّ، وَمِثْلَ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجُبَّائي، وَالتَّفْسِيرَ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمذاني، والجامع لعلم القرآن لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ، وَالْكَشَّافِ للزمخشري؛فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ.
كتاب الكَشاف هذا معروف متداول، لكن إذا لم يكن للإنسان علم بمذهب الاعتزال، وما عليه أهل السنة لضلّ، لهذا ينبغي على الإنسان أن يكون على حذر عند قراءته، لأنه يدس مذهبه في تفسيره بطرق خفية.. أعطيك مثالاً، في قول الله تعالى : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } ، قال الزمخشري:" حصل له الفوز المطلق، المتناولُ لكل ما يُفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلَّد". قد تبدوا العبارة صحيحة، ولكن الأمر ليس كذلك؛ لأنه ينكر فوزاً عظيماً ، لا أعظم منه، وهو النظر إلى وجه الله تعالى، الذي كان يسأله نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، أسأل الله ألاَّ يحرمَنا لذة النظر إلى وجهه . أما إذا تكلم في البلاغة والعربية فهو إمام.
ثم استطرد الشيخ في ذكر أصول مذهب الاعتزال .. قال رحمه الله :" وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ : التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .
لو قرأت هذه الأصول لأول مرة لقلت ما شاء الله إنهم لهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ولكن .. تمهّل.. على رسلك، حتى تعلم من القوم!(1/58)
يا معتزلة ما تقصدون بالتوحيد.. فكلنا يقول : من لم يحقق التوحيد لم تنفعه عبادة ولو فعل ما فعل من الخيرات والحسنات، إذا لم يحقق التوحيد وألمّ بشيء من الشرك كدعاء غير الله لم ينفعه ذلك، فما هو التوحيد عند المعتزلة ؟ هو عدم إثبات الصفات، يقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم .. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
ما هو العدل عندهم ؟ أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يشأ ذلك منهم. لم يُرد إلا ما أمر به شرعاً، وما سوى ذلك فليس بمرادٍ له، والرد عليهم ليس موضوع برنامجنا، ولو فرّقوا بين الإرادة الشرعية والقدرية لما وقعوا في مثل هذا الخلل والخطل.
ويقولون في مرتكب الكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين، ولكنه في الآخرة مخلَّد في النار ولا تنفعه شفاعة الشافعين، هذا إنفاذ الوعيد. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقيقته عندهم : الأمر بالإنكار على السلطان والحث على الخروج عليه ورفع السيف، قال شيخ الإسلام في موضع آخر: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة ، وقتالهم بالسيف" وهذا مخالف لما أجمع عليه أهل السنة من حرمة الخروج على ولاة الأمر .
هذا باختصار، وهذا منهجي في شرح هذه المقدِّمة، ما كان فيها من استطراد فإنني لن أقفَ عنده طويلاً. والمقصود من كل هذا الاستطراد أنّ أهل البدع يعتقدون ثم يحملون القرآن على رأيهم، والقرآن يقود ولا يُقاد، يسوق ولا يُساق، يهدي ولا يُضل. هذا ما أرد الشيخ أن يقرره وركز عليه.
سؤال مهم .. لماذا التركيز على هذه المسألة ؟
الجواب : لكثرة البدع وسرعةِ انتشارها في الأمة، ولا شكّ أن كل صاحب بدعة يريد أن يُخضع النصوص القرآنية لتكون دالة على بدعته التي دان بها .
وذكر الشيخ أمثلةً لبعض أهل البدع الذين فسروا القرآن بأهوائهم .. قال رحمه الله :(1/59)
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرَوِّجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ
وذلك لقوة أساليبهم وتعمقهم في علوم العربية، ولذا أيها المستمع الكريم ينبغي على الإنسان أن لا ينقل إلا من الكتب الموثوقة، ولقد حذر علماؤنا من مطالعة كتب أهل البدع ككتب المرجئة والخوارج، لا ينبغي أن يطالعها إلا متمكنٌ .
ومن أهل البدع الذين تلاعبوا بالقرآن الرافضة، وذكر شيخ الإسلام لهم هذه الأقاويل، الخاليةَ من الدليل، المجانبةَ لسواء السبيل، الناطقةَ بأنواع الأباطيل..(1/60)
قال :" ومن ذلك تفسير الرافضة كَقَوْلِهِمْ : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.- عياذاً بالله- ، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ، يعني من أقرّ بأحقية أبي بكر بالخلافة أشرك وحبِط عمله، وقالوا في {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هِيَ عَائِشَةُ-سبحان الله-وفي قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ. و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. و {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.و {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} هُوَ عَلِيٌّ وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ.
ولولا ضيق الوقت لأرجعتكم إلى مصادرهم التي ورد فيها ذلك وغيره من جبال كفرياتهم وتلال خزعبلاتهم.
هذا خطل ولعب .. هذا التأويل يسميه الأصوليون لغباً . صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل يسميه الأصوليون لعباً ، قال في مراقي السعود في تعريف التأويل :
حمل لظاهر على المرجوح ... واقسمه للفاسد والصحيح
صحيحه وهو القريب ما حمل ... مع قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد ... وما خلا فلعبا يفيد.(1/61)
أكتفي بهذا القدر ، سائلاً الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأن يزيدنا علماً، وأترككم في حفظ الله ورعايته، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك وخليلك وكليمك محمدٍ وعلى آله وخلفائه وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (12)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، ومن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم ، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه هي الحلقة الثانية عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، أسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما آتانا وعلمنا ..
سبق الحديث عن أنّ من الخطأ أن تعتقد قبل أن تستدل، وأنّ من الخطأ أن يُجعل من الآية دليلاً على أمر لم تدل عليه، أو أن يدل القرآن على أمر فتعطله..
في الحلقة الماضية كان الشيخ يحدثنا عن بعض النماذج لتأويل أهل البدع كالرافضة، الذين أخضعوا القرآن لأهوائهم، فقالوا في : { إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } : عائشة. تعالى الله عما يقول الظالمون. ألا يكفي عائشة شرفاً أنّ الله لما ذكر ما أشاعه المنافقون من أمر الإفك قال: { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } ، رماها الناس فسبح الله نفسه.. فياليت قومي يعلمون كم في هذه الآية من معاني المدح لأم المؤمنين، رضي الله عنها وأرضاها، وغضبه ومقته على من سبها وقلاها. فسبق ذكر نماذج من تفسير الرافضة أرادوا بها الحض من مكانة الصحابة، والصحابة لا شيء يحط من مكانتهم ، ومن سعى إلى ذلك قلنا له ما قاله الأعشى :
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيَفْلِقَهَا * فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ(1/62)
هؤلاء تلاعبوا بالقرآن ليذموا الصحابة، طائفة أخرى أرادت أن ترفع من مكانة الصحابة فتكلمت في القرآن بغير علم ، قال رحمه الله : وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا –يريد:فعل من تلاعب بالقرآن ليجعله دالاً على ذم بعض الصحابة - مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَبُو بَكْرٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عُمَرُ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عُثْمَانُ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عَلِيٌّ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : {وَالتِّينِ} أَبُو بَكْرٍ {وَالزَّيْتُونَ} عُمَرُ {وَطُورِ سِينِينَ} عُثْمَانُ {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} عَلِيٌّ. هذا لعب بالقرآن.. واعلم أيها المستمع الكريم –رعاك الله- أن البدعة لا تجابه ببدعة مثلها.. وإنما بنور الوحي .
وهذا يذكرني بما يفعله بعض أهل الناس في يوم عاشوراء.. يوم عاشوراء يتخذه بعض أهل البدع يوم مأتم وعويل؛ لأنه يوافق اليوم الذي قُتل فيه الحسين رضي الله عنه أرضاه وغضب الله على من سبه وقلاه، آخرون من أهل البدع ممن يُبغض آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخذ هذا اليوم يوم فرح وسرور، وكلا الفريقين على ضلال . البدعة إذا واجهتها ببدعة كان الحصيلة وجودَ بدعتين.. لكن إذا واجهتها بسنةٍ كانت الحصيلة اختفاء البدعة وظهور السنة .(1/63)
فهذا سمّاه شيخ الإسلام بالخرافات .. ولعلي أستطرد هنا قليلاً دفعاً للسآمة فأقول : يقولون خرافة رجل من العرب خطفته الجن ، فلما عاد بعد غيبته عندهم سنين صار يخبر عما شاهد من تهاويل وأمور لم يقبلها أحد ممن سمعه، فصار الناس إذا سمعوا كلاماً لا يصدقونه قالوا: حديث خرافة، أي كحديثه الذي لا يقبله عقل، و لا يصدق.
ثم شرع الشيخ يحدثنا عن بعض التفاسير الموجودة ..
ذكر الشيخ تفسير ابن عطية، وهو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، كان فقيهاً عالماً بالتفسير والأدب، توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. وتفسيره المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز .
والذي أخذه الشيخ على هذا التفسير أنه لم يراعِ عدم مخالفة التفسير بالمأثور، فدخل في تفسيره القصورُ من هذه الناحية، وحصلت فيه أقوال تخالف المأثور وهو لا يشعر، وحصلت عنده نقول عن أهل البدع تقرر كلام أهل البدع وهو لا يشعر. قال الشيخ :" و تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ ابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ; لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.(1/64)
الكلام هنا عن أربع مسائل:
الأولى : رأي الشيخ في تفسير ابن عطية، وقد سبقت الإشارة غليه.
الثانية: ثناؤه على تفسير ابن جرير. وهو من أجل كتب التفسير، ولذا ينبغي على طالب العلم أن يُعنى به، وأن يدمن النظر فيه .
الثالثة : أراد الشيخ بقوله في أهل الكلام : وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ; لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. قال ابن عثيمين رحمه الله:" وهو يدل على أن الرجل منصف وعادل، وأن الحق ولو كان من أهل البدع، يجب أن يقبل ، وأن أهل البدع إذا كان بعضهم أقرب إلي السنة من بعض يجب أن يثنى عليهم بهذا القرب، وأما أن نرد ما قاله أهل البدع جملة وتفصيلاً، حتى ما قالوه من الصواب، ونقول هذا قاله صاحب بدعة، فهذا خطأ؛ لأن الواجب أن يقول الإنسان الحق أينما كان ولا ينظر إلي قائله ، ولهذا قال يجب أن يعرف الرجال بالحق ، لا الحق بالرجال، وأنت إذا عرفت الحق بالرجال فمعناه أنك مقلد محض، لكن إذا عرفت الرجال بالحق، وأنه إذا كان ما يقولونه حقا فهم رجال حقا فهذا هو العدل، فالشيخ رحمه الله يقول: يجب أن يعطي كل ذي حق حقه حتى ولو كان من أهل البدع وكان قريبا من أهل السنة فإننا نعطيه حقه، ونقول إن هذا المبتدع أقرب إلى السنة من هذا المبتدع" .
نعم، الإنسان مأمور أن يقبل الحق ولو جاءه من بغيض بعيد ، ويردَّ الباطل ولو جاءه من حبيب قريب. ألم يقبل أبو هريرة الحق من الشيطان لما أرشده إلى قراءة آية الكرسي؟ لو رددت الحقّ من مبتدعٍ لأجل بدعته لكنتَ مبتدعاً .
الرابعة: لعلي هنا-والشيخ يذكر التفسير بالمأثور عند الكلام علة تفسير ابن عطية- ألتقط طرف الخيط لأدلف إلى مسألة مهمة ..
إذا اختلف الصحابة في الآية أو في الحديث على أقوال هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول خارج عن أقوالهم ؟(1/65)
الصحيح : أنه لا يجوز ، قال العلماء : لأن اختلافهم على هذه الأقوال في تفسير الآية أو تفسير الحديث ؛ دليل أن الآية أو الحديث لا يحتمل شيئاً من المعنى إلا ذلك ، فهذا كالإجماع منهم على أن الآية أو الحديث لا تحتمل من المعنى إلا هذا . ولذلك قال العلماء - صحت الرواية بذلك عن أحمدَ والشافعيِّ ومالكٍ وأبي حنيفةَ رضي الله عنهم - : أنه إذا اختلف الصحابة في المسألة: نتخير من أقوالهم ، فننظر إلى أيها أقرب إلى الدليل فنتبعه إن ظهر الدليل ، فإن لم يظهر ؛ نتخير من هذه الأقوال ، ولم يقل أحد بإحداث قول جديد لم يقله الصحابة .
وفي أخبار أبي حنيفة للصيمري ص10، وإيقاظ همم أولي الأبصار ص70، قال ابن المبارك رحمه الله: سمعت أبا حنيفة [رضي الله عنه] يقول: "إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نختار من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"اهـ.
وفي ترتيب المدارك (1/193)، قال مالك : "فيه-أي في الموطأ- حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقول الصحابة والتابعين ورأيهم. وقد تكلمت برأيي على الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره"اهـ.
وفي المدخل إلى السنن للبيهقي ص110، قال الشافعي رحمه الله: "العلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة؛ إذا ثبتت السنة. ثم الثانية : الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و لا نعلم له مخالفاً منهم. والرابعة: اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم. والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى".(1/66)
وفي المسودة ص276، قال أحمد بن محمد بن حنبل: "إذا كان في المسألة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث؛ لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة و لا من بعدهم خلافه. وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول غيرهم. وإذا لم يكن فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و لا عن الصحابة قول؛ نختار من أقوال التابعين...".
وأراد بقوله نختار بحسب قربه من الدليل، لا بحسب أهوائنا وأمزجتنا .
هذا كلام الأئمة لم يكونوا يخرجون عن كلام الصحابة ، لكن أن تُحدِث قولاً هو في معنى كلامهم، في معنى عباراتهم لا يخالفه مخالفة تضاد ؛ فهذا في الحقيقة ليس بقول محدَث ، إنما هو في معنى الكلام الذي قالوه فلا بأس به ، أما إذا خالف كلامهم مخالفة تضاد فهو قول باطل مردود على صاحبه ، وهذا يدل على مدى أهمية أن يعتمد المفسر على التفسير بالمأثور ، وليس لأحد أن يفسر من عند نفسه ، أو من حيث اللغة ، لا بد أن تذكر أولاً التفسير بالمأثور ، وميِّزه وحرره، ثم اجتهد إذا أردت أن تجتهد في دائرة المعاني التي قررها.
الخلاصة : أنّ الخطأ في التفسير من أسبابه أن المبتدع يعتقد ثم يلوى أعناق النصوص..فهؤلاء أخطئوا في الدليل والمدلول، وهناك خطأ في المدلول لا في الدليل كمن زعم معنى صحيحاً ولكنّ الآية لا تدل عليه .
أكتفي بهذا القدر ، سائلاً الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأن يزيدنا علماً، وأترككم في حفظ الله ورعايته، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك وخليلك وكليمك محمدٍ وعلى آله وخلفائه وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (13)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، ومن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم ، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/67)
هذه هي الحلقة الثالثة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في القرآن الكريم ..
يقول الشيخ رحمه الله :" فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
نقف اليوم مع هذه العبارة بإذن الله .
أيها المستمع الكريم : هب أنّ هذا الحوارَ جَرى بين عمروٍ وزيد ..
قال عمرو لزيد : عندي ثوبٌ قَشيبٌ . والقشيب من الأضداد، يطلق على الجديد ، ويطلق على القديم البالي.
فسأله زيد: أيَّ المعنيين تقصد؟ فقال: عندي ثوب جديد. الآن أرشد عمرو إلى مراده. فهل يسوغ لزيد أن لا يصدقَه؟ أم الواجب أن يعتقد أنّ كلمة (قشيب) التي قالها عمرو تحمل على ما أراده؟ لا شك أنّنا نحمل كلام المتكلم على مراده، فالمتكلم أدرى الناس بقصده .
ولهذا أيها الإخوة فإنّ أفضل طرق التفسير أن يُفسر القرآن بالقرآن .. وهذا ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله .
ولذا جعله الشيخ هنا أولَ طريق من طرق التفسير. وقال وقال ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) : إنه من أبلغ التفاسير.
وهنا سؤال مهم .. ما هو تفسير القرآن بالقرآن؟ نريد بياناً لهذا المصطلح ؛ لئلا يُدخل فيه ما سواه .
المراد أن تبين آيةٌ قرانيةٌ آيةً أخرى .(1/68)
مثلاً : خرّج الشيخان في صحيحهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ -ظنوا أنّ المراد : ظلم النفس بالمعصية، وظلمُ الأخ لأخيه بغيبةٍ ونحوها - - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } » .
فتفسير القرآن بالقرآن : أن تبين آية آيةً أخرى .
وسأذكر مثالين منتقدين يوضحان هذا التعريف :
الأول : يقول بعض العلماء: "ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة ، فيذكر بعضها في موضع ، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر، ومثاله: قوله تعالى: { وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا } [الأنعام: 97]. فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيينَ السماء الدنيا ، ورجمَ الشياطين أيضاً ، كما بينّه –تعالى- بقوله: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5] وقوله: { إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [الصافات: 6 ، 7].
هذا المثال منتقد، فالآية الأولى جمع إليها هذا العالم ما يوافقها في موضوعها، فجمع الآيات التي تتحدث عن موضوع واحد هو الحكمة من خلق النجوم، ولم يأت بآيةٍ تبين لفظاً فيها. هذا جعله بعض أهل العلم من تفسير القرآن بالقرآن وليس الأمر كذلك.
مثال آخر منتقد ..(1/69)
قال الشيخ محمد حسين الذهبي: "ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ ، ومن طينٍ في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصالٍ ، فإنَّ هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه" [التفسير والمفسرون ، مج الأول في صفحة اثنتين وأربعين] .
فهذا جمع بين الآيات، وفهم الآيات لا يمكن إلا به، ولكنه ليس من تفسير القرآن بالقرآن، إذ هذا المصطلح لا ينطبق إلا على آية جاء بيان لفظ فيها في أية أخرى . وهذا المثالان من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح .
ومما أدخله العلماء في باب تفسير القرآن بالقرآن ، وهو توسع في التطبيق:
جمع الآيات التي تكرر فيها معنىً معين .
مثال ذلك : قوله تعالى: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] ، تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: قال تعالى : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر: 88] وفي الكهف: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]. وفي فاطر: { فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]. وفي النحل: { إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ } [النحل: 37]. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم .
وذكر هذا النوع الأمير الصنعاني في [مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن] .
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط هذا التوسع في التطبيق بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا لا يدخل فيه.
ولذا يمكن اعتبار كتب (الوجوه والنظائر) وهي الكتب التي تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات ، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع. يمكن اعتبار هذه الكتب من كتب تفسير القرآن بالقرآن .(1/70)
كذلك بسبب هذا التوسع يمكن اعتبار كتب (متشابه القرآن) من كتب تفسير القرآن بالقرآن .
وتنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها ، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة ، وهذا المقصود هنا ، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره. فمثل هذا الكتاب بذاك التوسع في تطبيق المصطلح يمكن أن يدخل في الكتب التي تُعنى بتفسير القرآن بالقرآن .
ومن أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، المتوفى عام اثنين وثمانين ومائة رحمه الله تعالى .
أما كتب التفسير ، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير في كتابه (تفسير القرآن العظيم).
(2) الأمير الصنعاني في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن).
(3) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)
رحمهم الله رحمة واسعة .
ويمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة ، وهي كالتالي:
1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي ، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير ، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
بقيت مسألة أخيرة :
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً ، فإنه يكون أبلغ التفاسير ، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَحَلّهُ القبول، ولا شكّ في أنّه حجة يجب أن يقبل.(1/71)
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مفاتح الغيب خمسٌ ، { إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34] [أخرجه البخاري] .
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر ، والاجتهاد معرَّض للخطأ، فمثل هذا الاجتهاد لابد من مناقشته.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً ، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يقول أحدهم : هذه الآية تفسرها الآية من سورة كذا.. هذا اجتهاد يُناقش ولا نسلم به، بخلاف ما لو ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابيٍّ لم يخالفه غيره.
هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وهذه المباحث وبعض المباحث القادمة إن شاء الله مستفادة من بحوث للشيخ الفاضل د. مساعد بن سليمان الطيّار حفظه الله ونفع به وبارك فيه. هذه كلمة واجبة علينا في حقه كان لابد من قولها .
أكتفي بهذا القدر؛ سائلاً الله تعالى أن يجعل القرآن الكريم حجة لنا لا علينا.
وأسأله تعالى أن يبارك لنا في تاب ربنا
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على خير عبادك، وسيد أوليائك، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله
الحلقة (14)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، ومن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم ، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/72)
هذه هي الحلقة الرابعة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، أبدؤوها شاكراً لكم حسن استماعكم ومتابعتكم، سائلاً الله أن ينفع بها وبسابقاتها كلّ من سعى في شيء منها، وأخص بالذكر د. نزار محمد عثمان مدير إذاعة طيبة الذي كان السبب في إقامة هذا البرنامج ، نفع الله به، وبارك فيه.
المستمعون الأكارم .. سبق الحديث عن تفسير القرآن بالقرآن، وهو أبلغ طريق للتفسير ؛ لسبب لا شك أنك تعلمه، وهو أنّ المتكلم أدرى بمعنى كلامه من غيره .
وحديثي معكم اليوم أجملة في نقطتين :
الأولى :
هذه بعض أقوال علمائنا تبين مكانة هذا النوع من التفسير ..
قال ابن كثير رحمه الله -في تفسير القرآن العظيم -:" فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر".
وقال الدكتور عبد الله بن أحمد بن علي الزيد في مقدمة مختصر البغوي :" ومن المعلوم أن أحسن طرق التفسير هي تفسير القرآن بالقرآن".
وسبق ذكر كلام ابن القيم ، ومن قبله كلام شيخه شيخ الإسلام رحمهما الله في ذلك .
الثانية :
أنّ مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) على نوعين، وسأذكر هنا بالنوعين، وأشفع بذكر أمثلة لهما :
النوع الأول : أن تفسر آيةٌ آيةً أخرى، وهذا هو التطبيق الدقيق لهذا المصطلح .
الثاني : ومنهم من توسع في ذلك فجعل جمع الآيات التي تتحدث عن أمر معين والتي يكتمل بها موضوعٌ واحد يشمل مباحث عديدة، والآيات التي تكرر فيها معنىً واحد وغير ذلك .. جعلوها –توسعاً- من أنواع تفسير القرآن بالقرآن .
والمصطلح الأول تندرج تحته كثير من الأنواع، منها :
النوع الأول : وهو أن تخصص آية آية أخرى .. من أمثلة ذلك :(1/73)
قوله تعالى: { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا } [الإسراء: 24]عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر ، وهو مخصوص بقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى } [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين ، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان.
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله :"وقال جماعة من أهل العلم: إن قول الله جلّ ثناؤه { وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } منسوخ بقوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ". وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ المتقدمين يسمون التخصيص نسخاً. فكل آيةٍ جاءت مخصصةً لآيةٍ عامة تصلح مثالاً لتفسير القرآن بالقرآن.
مثال آخر :
في قوله تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ } [الشورى: 5] ، لمن في الأرض هذا لفظ عام، (من) تفيد العموم. جاء تخصيصه في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [ غافر: 7].
النوع الثاني :
الآيات التي أُجملت في موضع، وجاء بيانها في موضع آخر، مثالها:(1/74)
مثلاً : قال تعالى في بداية سورة البقرة- مادحاً المتقين، ذاكراً صفاتهم- : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة: 3] ، وبين في موضع آخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة ، قال ربنا تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } [البقرة: 219] قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله - في الأضواء :" والمراد بالعفو : الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور" .
فهذا إجمال وبيان ..
مثال آخر : في قوله تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المائدة: 1] ، إجمال في المتلو ، وقد بيّنه قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [المائدة: 3].
النوع الثالث :
أن تقيد آيةٌ إطلاق آية أخرى ..
مثلاً : قال تعالى : { فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا } ، أي: عمل عملاً يرجع به إلى الله ويؤوب به إليه. هذه الآية قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير:28-29] أي: أن لنا الخيار فيما نذهب إليه، لا أحد يكرهنا على شيء، لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله، وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير:29]
النوع الثالث :
أن تبين آية معنى آية، أن توضح كلمة كلمةً أخرى، كما في قوله تعالى : { وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ } .
مثال آخر :(1/75)
التسوية في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } [النساء: 42] ، ما معنى لو تُسوى بهم الأرض؟ المعنى: يودّون لو كانوا تراباً وجُعِلوا مع الأرض سواءً ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: { وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ: 40].
هذه أمثلة للمصطلح الأول الدقيق لمعنى تفسير القرآن بالقرآن.
لكن لو قلنا بالمصطلح الثاني المتوسع الذي يعدُّ كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.. فهذا يشمل أنواعاً كثيرةً .. منها :
النوع الأول :
الجمع بين ما يتوهم أنّه مختلف .
هذا جعله المتوسعون في التطبيق للتعريف من تفسير القرآن بالقرآن ..
مثلاً أسند الله الوفاة إلى ملك الموت فقال : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } -وهنا تنبيه أنه يجب علينا أن نتأدب بأدب القرآن وأن نسميه ملك الموت، ولا يصح تسميته بعزرائيل، لن تجد نصاً واحداً صحيحاً سُمي فيه ملك الموت بعزرائيل- ففي الآية آنفة الذكر أسند الوفاة لملك الموت، وأسندها إلى الملائكة فقال : { حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } ، وأسندها غلى نفسه سبحانه فقال : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } .. ولا تعارض .. فأسندها لملك الموت لأنه يباشر قبض الأرواح، وأسندها إلى الملائكة لأنهم أعوانه إذا خرجت أخذوها منه ولم يدعوها عنده طرفة عين كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، وأسندها إليه لأن ذلك وغيره لا يحدث إلا بإذنه سبحانه .
نوع ثاني :
ذكر تتمات القصة الواحدة.
مثلاً قال تعالى : { إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ } [طه: 40] ، ورد في سورة القصص ثلاثةُ أمور لم ترد في هذه الآية ، وهي:(1/76)
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله تعالى: { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 11 ، 12]. راجع أضواء البيان مج الرابع صفحة أربع وثمانين .
نوع ثالث :
جمع الآيات المتشابهة في موضوعها . وهذا ذكرته في الحلقة السابقة ، مثال ذلك : قوله تعالى: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] ، تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: قال تعالى : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر: 88] وفي الكهف: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]. وفي فاطر: { فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]. وفي النحل: { إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ } [النحل: 37]. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم .
أكتفي بهذا القدر؛ سائلاً الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن الكريم، وأن يزيدنا علماً، وأن يسبل علينا ثوب ستره، وعافيته، وإحسانه.
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على خير عبادك، وسيد أوليائك، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله
الحلقة (15)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، ومن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم ، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير.(1/77)
هذه هي الحلقة الخامسة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، مضى الكلام في الحلقتين السابقتين عن تفسير القرآن بالقرآن، والحديث في هذه الحلقة عن تفسير القرآن بالسنة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :" فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ، بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}. وَقَالَ تَعَالَى : {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي السُّنَّةَ. وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ; لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ .اهـ.
ليس المراد من كلام الشيخ رحمه الله أنّنا إذا وجدنا آيةً فيها تفسير آيةٍ فلا نعبأ بما ورد في ذلك من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما المراد تقسيم الكلام وترتيبه للإيضاح والإفهام . أما لو وجدت آية تفسرها آيةٌ وحديثٌ فاذكر كلَّ ذلك عندها، ليكون كلامك نوراً على نور .(1/78)
وقد أورد الشيخ رحمه الله الأدلة على حجية السنة وأنها وحي من عند الله تعالى؛ ولأهمية هذا الموضوع سأفرد له هذه الحلقة إن شاء ، وليس هذا من الاستطراد الذي لا تعلق له بلب الموضوع؛ فإنّ تعلقه بموضوع أصول التفسير ظاهر، فالكلام عن طرق التفسير، ومن هذه الطرق : السنة، فلابد من إثبات أنّ السنة حجة يجب قبولها والانقياد لها. –ولا نقول : الانصياع لها؛ فها من الأخطاء الشائعة، نقول : يجب الانقياد لها- .
الإخوة الأكارم:
الآيات الدالة على حجية السنة كثيرة، ولو أردنا أن أنّا أردنا اسقصاءها لطال المقام بنا! حسبي التذكير ببعض الأدلة القرآنية:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } والرد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون إلى شخصه حال حياته، وإلى سنته بعد موته.
وقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } كلُّ شيء جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن نأخذه، وإن تفسيراً لكتاب الله . فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا بالحق، قال تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .(1/79)
ولا يمكن أن يدعي شخصٌ الإيمان وهو يرد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو ما قال الله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } . قال الإمام العلامة البحر الحبر محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته القيمة الماتعة الفريدة تحكيم القوانين :" وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن مَّن لم يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقسم ، قال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يُضيفوا إلى ذلك عدمَ وجود شيء من الحرج في نفوسهم بقوله جلَّ شأنه : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ } ، والحرج : الضيق . بل لابد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب . ولم يكتف تعالى هنا أيضاً بهذين الأمرين حتى يضموا إليهما التسليم ، وهو كمال الانقياد لحكمه - صلى الله عليه وسلم - بحيث يتخلون هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء ، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم ، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد وهو قوله جل شأنه : { تسليما } المبيِّن أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم . بل لابد من التسليم المطلق ".اهـ كلامه رحمه الله وجمعنا وإياه في جنته. وهو كلام يكتب بماء العين على جدار القلب.
وتوعد الله مخالف سنته بالفتنة ، قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، قال الإمام أحمد :"أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الشرك فيهلك".(1/80)
وبيان رسولنا وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - للسنة على نوعين :
الأول : تبليغه - صلى الله عليه وسلم - للفظ القرآن الكريم ، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ : "جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : ((اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) . قَالَ أَنَسٌ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ "[أخرجه البخاريُّ في صحيحه].
الثاني : تبليغ معناه ، وذلك كتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - للزيادة في قوله تعالى : { للذين أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } ، بأنها النظر إلى وجه الله الكريم [أخرجه مسلم] . ونحن نُشهد الله أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - قام بهذين الواجبين خير قيام، وبيّن القرآن خير بيان، فجزاه مولانا عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
ولقد تنبأ النبي بهؤلاء الشرذمة الذين يتجاسرون على السنة بالإنكار فقال :(( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ ، مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ، يَأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ))[أحمد وأهل السنن إلا النسائي].
والسنة لها أحوال مع القرآن الكريم :
الأولى : أن تكون مؤكدةً لما في القرآن الكريم .
مثال ذلك : فرض الله الحج بقوله : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا)) [أخرجه مسلم] .
القسم الثاني : أن تكون منشئةً لحكم ليس في القرآن ..(1/81)
لو قلت لك –أيها المستمع الكريم- هات دليلاً من القرآن يحرم علينا الجمع بين الأختين، فستبادر إلى ذكر قول الله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } ، لكن أرأيت لو قلت لك: اذكر دليلاً يقضي بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؟ لن تجد دليل ذلك في القرآن ، السنة أنشأت هذا الحكم الجديد، قال - صلى الله عليه وسلم - :((لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا)) [البخاري] .
القسم الثالث : أن تكون مبينةً لما في القرآن الكريم وهذا النوع سيأتي الحديث عنه في الحلقة القادمة بإذن الله .
واسمح لي أيها المستمع الكريم أن أحاور من ينكر السنة بهذا الحوار :
يا من تنكر سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تصلي ؟
فإن كنت لا تصلي فأنت كافر بنص القرآن الذي تدعي أن الحجة فيه فقط ، قال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وإن كنت تصلي فما هي الكيفية التي توقع بها الصلاة ؟
لا يخلو حالك من أحد أمرين ..
لابد أنّ صلاتك على هيئة معينة، إذ كل موجود منعوت. لكن هذه الهيئة لابد أن تكون مرضية عند الله، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } ، تأمل، قال : { وسعى لها سعيها } ولم يقل : سعيه؛ ليعلمنا ربنا أنّ للآخرة سعياً معيناً لا يقبل الله ما سواه. وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فيامن ينر السنة ويصلي ، إما أنك تصلي بكيفية تخالف كيفية النبي - صلى الله عليه وسلم - فما دليلك عليها؟ ولماذا لا تفعل غيرها؟ وما ذا لو قمت بتغيير هذه الكيفية ؟
أو أنك تصلي كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأين تجد ذلك في القرآن الكريم ؟ فهذا اعتراف عملي منك بأنه لا يمكنك الاستغناء عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/82)
والسنة يجب الأخذ بها سواء كانت متواترة أم آحاداً .. بعض الناس –هداهم الله – لا يقبلون في العقائد إلا السنة المتواترة، ويأخذون بالآحاد فقط في الجانب العملي، أما في جانب الاعتقاد فلا يقبلون إلا المتواتر، قالوا: لأن العقائد لا تثبت إلا بالمتواتر! وأقول رداً عليهم: قولكم : العقائد لا تثبت إلا بالمتواتر، هذه عقيدة في حد ذاتها، فأين الدليل المتواتر الذي استندتم إليه في تقرير هذه العقيدة. وسوف لن يجدوا دليلاً ضعيفاً فضلاً عن كونه صحيحاً، وفضلاً عن كون الصحيح متواتراً !
المستمعون الأكارم :
اعلموا –رعاكم الله – أنّ سنة سيدنا محمد يجب الأخذ بها، سواء فسرت القرآن، أو أكدته، أو جاءت بحكم جديد. وهي محفوظة كما أنّ القرآن محفوظ، وأختم بهذه الدرة لأبي محمد بن حزم يرحمه الله، في كتاب الإحكام في أصول الأحكام مج الأول صفحة خمس عشرة ومائة- قال :" فبالضروري ندري أنه لا سبيل ألبتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين ، ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين ، إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ، ولكان قول الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } كذباً ووعداً مخلفاً ، وهذا لا يقوله مسلم . فإن قال قائل : إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه ؟ قلنا له -وبالله تعالى التوفيق - : هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان ، وتخصيص للذكر بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل ؛ لقوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فصحَّ أن لا برهان له على دعواه ، فليس بصادق فيها. والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن أو من سنة وحي يُبيَّن بها القرآن".
ونواصل إن شاء الله في بيان هذا الطريق من طرق التفسير .(1/83)
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيداً علماً وهدىً وتقىً وعفافاً وغنىً.
أستودكم الله، وصل اللهم وسلم وبارك على أفضل عبادك، وخير رسلك، وسيد أوليائك، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ارض عنهم ، وعنّا معهم، والسلام عليكم ورحمة الله .
الحلقة (16)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير.
هذه هي الحلقة السادسة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، سبق ذكر شيء عن تفسير القرآن بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن حجية السنة ووجوب الانقياد لها. ومواصلة لهذا المبحث المهم أقول :
من مظان التعرف على التفسير النبوي للقرآن : كتب السنة، فمثلاً تجد في صحيح البخاري (كتاب التفسير)، وهكذا في غيره من كتب السنة كصحيح مسلم وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم وفي غيرها من الكتب، وخصص ابن الثير في جامع الأصول مجلداً كاملاً للمروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير القرآن. وإن كان مقصود كثيرٍ منهم بالتفسير أنهم يريدون كل ماله تعلق بالآية ولو لم يكن تفسيراً لها كما أفاده أبو مسعود في كتابه (لامع الدراري: المجلد التاسع الصفحة الرابعة). مثال ذلك : البخاري رحمه الله عند قوله باب قول الله تعالى : { وهو ألد الخصام } ، ذكر حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاعَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» . ومن المظآنِّ أيضاً كتب التفسير بالمأثور كتفسير الطبري، والدر المنثور للسيوطي رحمهما الله .(1/84)
وأما ما يصلح أن يكون تفسيراً نبوياً للآية ما أورده الإمام الترمذي في كتاب التفسر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب (ومن سورة السجدة)، تحت الآية : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } أورد حديث الْمُغِيرَةِ بْنَ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :«إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً؟ قَالَ: رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلْ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَقَدْ نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ قَدْ رَضِيتُ. فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ هَذَا وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ أَيْ رَبِّ. فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ أَيْ رَبِّ. فَيُقَالُ لَهُ : فَإِنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ» .
فلا إله إلا الله ، ما أعظمَ فضلَ الله ! الشاهد هذا يصلح مثالاً للتفسير النبوي .
ويمكننا أن نقسم التفسير النبوي للقرآن كما يلي :
1/ بيان معنى كلمة في الآية .
مثاله : قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } ، ثبت في صحيح البخاري أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«الوسط العدل». وهذا القسم لم يأت كثيراً؛ لأنّ الصحابة عرب وقد نزل القرآن بلسانهم، فخفيت عنهم بعض الكلمات فبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم.
2/ بيان حكم فقهي في الآية. بتحديد مقداره، أو تقييد لإطلاقه، أو تخصصٍ لعمومه ونحو ذلك ..(1/85)
مثاله : ما رواه البخاري عند قول الله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ } : أنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - قال: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي زمن الحديبية، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ». قلت : نعم. قال: «فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لكل مسكين نصف صاع، أو اذبح شاة» . ففي الآية أوجب الله على من كان به أذى في رأسه أن يصوم. كم يوم؟ هذا حدده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أوجب الله فيه الصدقة، ما مقدارها؟ حدده رسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
مثال آخر: قال تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } ، قد يُفهم تحريم المباشرة. ولكن ثبت في السنة قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - :«اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ». فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ. [أخرجه مسلم].
3/ بيانه - صلى الله عليه وسلم - لمشكل .
والإشكال يُعرف بسؤال الصحابة عنه، ولولا أنه شكل لما سألوا .(1/86)
مثاله : قال تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، قتلوا وأحياء!! كيف ذلك؟ قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :" سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ :هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا :يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» [أخرجه مسلم] .
مثال آخر : عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ يَا أُخْتَ هَارُونَ. وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ :«إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» [أخرجه مسلم] . وفيه من الفوائد أنه ينبغي الإحسان في تسمية المولود، والتسمي بأسماء الصالحين والمرسلين.
4/ أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً ثم يذكرَ ما يصدقه من القرآن الكريم .(1/87)
مثاله : قال ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :««مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } [أخرجه البخاري ومسلم] .
المستمع الكريم :
إنّ معرفة التفسير النبوي للقرآن الكريم يفيد كثيراً في علم أصول التفسير . كيف ذلك؟ يفيد في تأصيل بعض الأساليب التي سلكها المفسرون ..
لقائل أن يقول : أفصح ومثل.. وها أنا اذكر مثالين يدلان على أنّ التفسير النبوي يؤصل لنا بعض الأساليب التي سار عليها المفسرون السابقون :
المثال الأول : من أساليبهم التفسير بالمثال وسبق الكلام عن هذا .
التفسير النبوي دل على هذا الأسلوب .. أين ؟ قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ } قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :«أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» [أخرجه مسلم] .
فهل يجب علينا أن نسعى لتطوير أنفسنا عسكرياً وآلياً وحتى نووياً أم لا؟ الجواب : نعم. فهل هذا التطوير والإعداد بمحاولة اقتناء كل ما هو حديث في عالم الأسلحة من المدفعية والطائرات والصواريخ داخل في قول الله تعالى { وأعدوا لهم } أم لا؟ لا إخال أحداً يقول : إنّه لا يدخل في الآية. بلا شك أنّ هذا يدخل في عموم الآية . إذاً: لماذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرمي ؟ ذكره - صلى الله عليه وسلم - للتمثيل. فعلمنا بذلك أنّ من فوائد التفسير النبوي التأصيلَ لمثل هذه الأساليب التي استخدمها المفسرون . ولهذا قال الطبري يرحمه الله :" تفسير الطبري - (ج 14 / ص 37)(1/88)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل ، ولا وجه لأن يقال: عُني بـ "القوة"، معنى دون معنى من معاني "القوة"، وقد عمَّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إن القوة الرمي" قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن القوة الرمي"، ولم يقل: دون غيرها"[المجلد الرابع عشر، صفحة سبع وثلاثين].
مثال آخر : من الأساليب التي أصلها لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - بتفسيره للقرآن: مسألة تفسير القرآن بالقرآن .
قال تعالى : { َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ } [سورة الأنعام]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :«مفاتح الغيب خمس: { إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان] [أخرجه البخاري] .
ومن العجائب أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر آيتين في الأنعام بآيتين في لقمان. الأولى هذه التي سبق ذكرها، والثانية : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ، فسرها بآية لقمان : { إن الشرك لظلم عظيم } .(1/89)
ولكن هناك بعض الأحاديث التي فسر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - آياتٍ لا يجوز أن نتجاوز دلالتها، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في إيضاح : { فاعتزلوا النساء في المحيض } ، قال :«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» فلا يسوغ أن يُقال : لا ينبغي أن نأكل مع الحائض؛ لقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - :« اصنعوا كل شيء»، ولا يسوغ أن يُقال : يجوز غشيانها. لقوله - صلى الله عليه وسلم - :« إلا النكاح» . ولهذا نقف حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز ذلك .
في هذا القدر كفايةٌ، وفق الله المستمعين الأكارم لكل ما يحبه ويرضاه .
وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وأستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله .
الحلقة (17)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير.
هذه هي الحلقة السابعة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير، وهي الثالثة في موضوع تفسير القرآن الكريم بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ..
ولارتباط ما سبق بهذه الحلقة هذا تذكير بخلاصة ما كان في الحلقتين السابقتين .. فقد سبق تقرير ما يلي :
أنّ السنة حجة كالقرآن الكريم يجب الانقياد لها..
أنّها تبين كتاب الله؛ قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية :" والسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ ، وَتُبَيِّنُهُ ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَتُعَبِّرُ عَنْهُ" والشيخ أخذها من كلام الإمام أحمد رحمه الله .
تفسر القرآن: هذه واضحة. تبينه: وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن نوعان : بيان لفظه، وبيان معناه. وقريباً منها في المعنى (تدل عليه) فهي عبارة دائرة في فلك العبارتين الأوليين، وأما معنى (تعبر عنه) أي تأتي بأحكام جديدة.(1/90)
ومما سبق تقريره أنّ للسنة ثلاثَ أحوال مع القرآن: تأتي مؤكدةً، ومنشأةً لجديدٍ، ومبينةً .
وأنّ التفسير بها من أفضل طرق التفسير فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بمراد الله سبحانه، وقد قال الله تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } .
وأنّها محفوظة كالقرآن الكريم. وتعرفنا كذلك على تقسيم البيان النبوي للقرآن الكريم، وأنّ معرفة التفسير النبوي للقرآن الكريم يفيد كثيراً في علم أصول التفسير، في تأصيل بعض الأساليب التي سلكها المفسرون .
المستمعون الكرام :
سبق الحديث عن أنواع بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم.. وذكرتُ هذا التقسيم :
الأول: بيان معنى كلمة في الآية. الثاني : بيان حكم فقهي في الآية. بتحديد مقداره، أو تقييد إطلاقه، أو تخصص عمومه ونحو ذلك .. الثالث : بيانه - صلى الله عليه وسلم - لما أشكل على الصحابة . الرابع : أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً ثم يذكرَ ما يصدقه من القرآن الكريم . وسبق ذكر الأمثلة .
كل هذه الأنواع التي سبق ذكرها من باب البيان النبوي النصي للقرآن الكريم .
هل يُفهم أنّ هناك بياناً نبوياً غير نصيٍّ ؟ الجواب : نعم .
فيمكن بهذا الاعتبار أن أقول : بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن على أنواع :
وهذا التقسيم مستفاد من بحث ماتع بعنوان : (التفسير النبوي للقرآن الكريم) للشيخ سلمان العودة وفقه الله .
الأول : البيان النصي .
وسأذكر هنا مثالين لم يسبق ذكرهما..(1/91)
الأول: قال تعالى : { يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا } [الأنعام:158]. فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله :« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ { لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا } » [أخرجه البخاري ومسلم] .
الثاني : ورد في الصحيحين من حديث البراء، في تفسير قوله تعالى: { يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ } . قال - صلى الله عليه وسلم - :«إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } .
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: البيان الاستنباطي.
وذلك بأن يرد في القرآن الكريم معنىً معين فيذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويمكن التعرف عليه بأن تأتي إلى معنى جاء في السنة، فتستخرجَ من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف ممن اعتنى به ابن كثير يرحمه الله.
وقد ذكر أحد الفضلاء أنّ بعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتابًا يشمل كلَّ ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجًا من القرآن الكريم استنباطًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولعلك – أيها الأخ الكريم- تنتظر مني ذكر بعض الأمثلة..(1/92)
المثال الأول : قال تعالى : { كَلاَّ لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب } أي واقترب من الله بسجودك وسائر عباداتك. هذا المعنى مذكور في قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلمٍ :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد». وقد ربط بينهما ابن كثير رحمه الله في تفسيره في المجلد الثامن صفحة تسع وثلاثين وأربعِمائة .
مثال آخر : قال تعالى : { وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكهُم فِي الأموَالِ وَالأولادِ وَعِدهُم } [الإسراء:64]، هذا المعنى مذكور في حديث رسولنا - صلى الله عليه وسلم - :«إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء» [أخرجه مسلم] فمن مشاركة الشيطان لك في مالك أن يأكل ويشرب ويبيت معك .
مثال آخر : قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ) [النور:58].
فبداية الأوقات الفجر ونهايتها العشاء، فتكون الصلاة الوسطى التي خصها الله بالذكر في قوله تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى } [البقرة:238]هي صلاة العصر .
هذا المعنى جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب :«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا» [أخرجه الشيخان] .
ولذلك كان مسلك بعض الفقهاء وكثيرٍ من المحدِّثين في ذكر المواقيت في كتب الفقه، أن يبدأوا بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.(1/93)
من الأمثلة كذلك : قوله تعالى: { إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم } [يس:12]، فمن الآثار التي تُكتب خطى الإنسان إلى المسجد ذهابًا وإيابًا.
هذا المعنى ثابت في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَلَتْ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمْ :«إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ»؟ قَالُوا :نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ :«يَا بَنِي سَلِمَةَ؛ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» [أخرجه مسلم]. دياركم بنصبها على الإغراء، أي : الزموا دياركم وابقوا فيها. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كره أن يُخْلُوا أنحاء المدينة، وأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، ولا يكونون موجودين فقط حول المسجد، وتخلو بقية الأحياء عنهم.
الثالث : البيان الفعلي .
وقد سأل سعد بن هِشام عائشة رضي الله عنها عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ : بَلَى. قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ" [أخرجه مسلم] .
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ عليه الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا" [أخرجه البخاري ومسلم] . وهذا مما يجلي لنا أهمية دراسة السيرة النبوية .
ومن أمثلة أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي هي تفسير للقرآن:
أولاً : صلاته عليه الصلاة والسلام، فقد صلَّى وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [أخرجه البخاري] ، فأفعاله في الصلاة تفسير لقول الله : { وأقيموا الصلاة } .(1/94)
ثانياً : قوله تعالى : { وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ } [آل عمران:97]. فسرها عملياً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوادع .
ج - وهكذا بيَّن لنا أحكام الصيام بعمله صلى الله عليه وسلم، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة:183].
د- وبيَّن لنا مقادير الزكاة، فكلها تفسير لقوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43].
ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان ، لا يفترقان إلى يوم القيامة، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة.
أكتفي بهذا ، ووفقكم الله لكل خير ، وصرف عنكم كل ضير .
وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وأستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (18)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي الحلقة الثامنة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير.. يتجدد بها لقاؤكم ، فأسعد الله أوقاتكم بكل خير.
الحديث اليوم عن طريق آخر من طرق التفسير ، وهو التفسير بأقوال الصحابة رضي الله عنهم .(1/95)
قال الشيخ رحمه الله :" وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا; وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ".
رضي الله عنهم ، وهذه بعض الآثار التي تبين إلمام الصحابة بمعاني القرآن الكريم أوردها الشيخ رحمه الله ..
منها ما قاله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :"وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ ، وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته" .
فهذا يدل على عظيم علمه وإلمامه بكتاب ربه - رضي الله عنه - .
قال مسروق رحمه الله: "لقد جالست أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فوجدتهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ" [المدخل إلى السنن الكبرى، صفحة ست عشَرة] .
وثبت عنه - رضي الله عنه - أنه قال: "كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ" .
فتعلموا العمل والعمل ، وهذه هي الغاية من دراسة القرآن وحفظه وتلاوته أن نعمل به .
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما .(1/96)
ويصدق فيه ما قاله الشاعر الدكتور العشماوي وفقه الله في غيره :
أنت حبر .. بحر .. ربح .. حرب .. كيف قلبتها إليك تؤول .
نال هذا العلمَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ حَيْثُ قَالَ : «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» . ولهذا قال عنه ابن مسعود - رضي الله عنه - :" نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ" . ما أجملها من تزكية .. الصحابة لم يكونوا مثلنا .. ما كانوا يعرفون الحسد، ويعترفون بالفضل لبعضهم . فرضي الله عنهم وحشرنا معهم .
قال شيخ الإسلام : وابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - مات فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً ، فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟
عَنْ أَبِي وَائِلٍ قال : اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ – يعني موسم الحج - فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ فقرأ سُورَةَ النُّور - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.
ولابد أن يكون هذا حالهم ، فإنما اختارهم الله لنصرة دينه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إنّ الله اختار أصحابي على الثقلين» [أخرجه البزار] . اختار واصطفاهم لنصرة دينه ، فحفظ الله بهم الإسلام، والقرآن، وتفسير القرآن . وقال تعالى : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } قال ابن عباس: أي الصحابة . قوم اصطفاهم الله ليتقوى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليتعلموا منه تأويل القرآن حتى يبلغوه الناس . وإني لأجتر نفسي اجتراراً لئلا أستطر في الحديث عنهم ؛ لأن الحديث عنهم عذب ماتع شيق . فرضي الله عنهم .(1/97)
أعرّج بعد ذلك إلى طرح هذا السؤال .. ما هي الدلائل المؤكدة على أهمية تفسير الصحابة ؟
الجواب :
أولاً: لتلك الآثار التي مرت معنا والتي تبين سعة علمهم بكتاب الله .
ثانياً : أنه شهدوا التنزيل وعرفوا أحواله .
والشاهد يدرك من الفهم ما لا يدركه الغائب ، ويرى ما لا يرى الغائب . أنت الآن لو شاهدت حدثاً معيناً ، لا استطعت أن تفصح عن هذا الحدث وما كان فيه ، وما هو المراد من كلام زيد وعمرو فيه ما لا يستطيعه من حُكي له .
ثالثاً : هم أعلم الناس بأسباب النزول .
واسمع هذه القصة للتبين أهمية الوقوف على أسباب النزول وأهمية التعرف عليها ..
خرّج الحاكم في مستدكه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتيَ برجلٍ من المهاجرين - وقد شرب الخمر - ، فأمر عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟! بيني وبينك كتاب الله، قال: وأين تجد في الكتاب أني لا أجلدك؟ قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: { لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا.. } [المائدة: 93]، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟
فقال ابن عباس: هذه الآيات نزلت عذراً للماضين، وحجّة على الباقين، عذراً للماضين؛ لأنهم لَقُوا الله قبل أن يحرّم الله عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: { إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رجس من عمل الشيطان } [المائدة: 90]. حتى بلغ الآية الأخرى)
فانظر كيف خفي على هذا الصحاربي - رضي الله عنه - وهو بدري حكم هذه الآية لمّا لم يكن يعلم سبب نزولها؟
رابعاً : أنهم عرفوا أحوال من نزل القرآن فيهم .(1/98)
يقول الشاطبي ـ في بيان أهمية معرفة الأحوال في التفسير ـ: "ومن ذلك: معرفةُ عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمّ سبب خاص، لا بدّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشّبه والإشكالات التي يتعذّر الخروج منها إلا بهذه المعرفة" [الموافقات مج الثالث ، صفحة تسع وعشرين ومائتين] .
وتأمل هذا المثال الذي يدل على ما قرره ذاك الإمام رحمه الله ..
ثبت في صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ – يعني الاتجار في الحج – فَنَزَلَتْ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } ،
فكان ابن عباس يقرأ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } في الحج .
ومن الأمثلة أيضاً : ما ثبت في الصحيحين ، عن عُرْوَةَ - رضي الله عنه - قال : سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقُلْتُ لَهَا : أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؟(1/99)
قَالَتْ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي ! إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ : لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا ، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ - الثَّنِيَّة الْمُشْرِفَة عَلَى قُدَيْد- فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لمناة لم يطف بين ِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }
الْآيَةَ .. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا".
خامساً : أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن .
ثبت عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ... } قال :" كَانَ نَاسٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنْ الْجِنِّ ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِينِهِمْ".
قال ابن حجر رحمه الله :"اِسْتَشْكَلَ اِبْن التِّين قَوْله : " نَاسًا مِنْ الْجِنّ " مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّاس ضِدّ الْجِنّ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّهُ مِنْ نَاس إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ ذُكِرَ لِلتَّقَابُلِ حَيْثُ قَالَ : نَاس مِنْ الْإِنْس وَنَاسًا مِنْ الْجِنّ ، وَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَلَى مَنْ يَعْتَرِض" . يعني كيف يعترض على من نزل القرآن بلسانهم . فلله در ابن حجر رحمه الله .
سادساً : حسن فهمهم .(1/100)
سابعاً : سلامة قصدهم ، فالبدع لم تظهر إلا بعد عهدهم ..
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء ؟ قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: «ما زلتم ها هنا»؟ قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلِس حتى نصلي معكم العشاء؟ قال: «أحسنتم »، فرفع رأسه إلى السماء -وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء- فقال: «النجومُ أمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمَنَةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» أخرجه مسلم .
قال النووي رحمه الله : "ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون» أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً، وقد وقع كل ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم - : «وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ".
فهذا كله يدل على أهمية معرفة تفسيرهم للقرآن الكريم ..
لعلي أكتفي بما سبق .. على أمل اللقاء بكم مجدداً بإذن الله ، وإلى ذاك الحين أستودعكم الله ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (19)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/101)
هذه هي الحلقة التاسعة عشرة من شرح مقدمة أصول التفسير .. نكمل فيها ما انقطع من حديث حول تفسير الصحابي للقرآن الكريم .
سبق ذكر ما يدل على أهمية تفسير الصحابي للقرآن الكريم ..
فهذه المزايا التي ذُكرت تُوجِبُ على دارسِ التفسير أن يرجع إلى أقوالهم، وأن يَفْهَم تفسيراتِهم، ليَعْتَمِد عليها في التفسير، ويبنيَ عليها مسائل الآيات وفوائدها.
ولكنْ للأسف كثيراً ممن يُدَرِّس أو يَدرُس التفسير لا يهتم بإيراد أقوال الصحابة ، وكثيراً ما تراه يكتفي بأن ينسب التفسير إلى المتأخرين من المفسرين كابن عطية والقرطبي وابن كثير... وغيرهم. وفي هذا المسلك ما يقطعُ على طالب العلم شرف الوصول إلى علوم هؤلاء الصحابة وأفهامهم، بل قد يجعله ينظر إلى أقوالهم نظر المقلّلِ من شأنها، ويرى أن تفسيراتهم سطحيّة، لا عمق فيها، ولا تقرير!! بخلاف تفسير المتأخرين لكثرة ما يسمع من عبارة (قال ابن كثير) ولقلة ما يسمع من عبارة (قال ابن عباس) ..
وسبيل أهل العلم الراسخين فيه أنهم (يكثرون من ذكر تفسير الصحابة رضي الله عنهم)، وانظر كم الفرق بين أن يُقال: هذا قول ابن عباس في الآية، أو يقال: هذا قول ابن عطية في الآية. انظر إلى ما ستميل إليه نفسك؟ ويطمئن إليه قلبك ؟
سبق أيها المستمعون الكرام في الحلقة السابقة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابن عباس رضي الله عنهما :«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ..
ما معنى التأويل ؟
التأويل يذكر عند السلف وفي نصوص الكتاب والسنة بمعنيين :
1- بمعنى : الإيضاح والبيان . وهذا هو المراد في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : أي علمه تفسير القرآن ومعناه . ومنه قول ابن جرير :" القول في تأويل قول الله تعالى ".(1/102)
2- ويطلق بمعنى : حقيقة الشيء التي يؤل إليها . فتأويل الأمر امتثاله ، أقول لك : تصدق . تأويل الأمر أن تتصدق . وتأويل الخبر وقوعه . ومنه قول يوسف عليه السلام : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْياي } [يوسف: من الآية100] . يعني : هذا الذي حصل هذا حقيقة الرؤيا التي رأيتها . ومنه قوله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله } . أي : ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء.
وللتأويل مصطلح حادث وهو : استعمال اللفظ لغير ما وُضِعَ له، وهذا المعنى حادث لا يُحمل عليه كلام السلف ولا كلام الله تعالى ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فاعلم ذلك -وفقك الله- لتجتنب سبيل من ضل في باب الصفات .
ولتفسير الصحابة مرجعان :
الأول : ما يرجع إلى النقل.
الثاني : ما يرجع إلى الاستدلال .
أما ما يرجع إلى النقل :
فقد يتعلق بالمشاهدة :
كما في أسباب النزول ، فقد شاهدها الصحابة رضي الله عنهم .
وقد يتعلق بالسماع
وهذا بأن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آية فيبن لهم تفسيرها . أو بأن يخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتفسيرها من غير سؤال . فأحياناً يسأل الصحابي عن آية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
مثاله : ما خرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ؟ قَالَ : فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ :«هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» ، لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ .
وربما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية مباشرة للصحابي ..(1/103)
مثال : حديث البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَقَالَ : «يَا أَبَا ذَرٍّ ، أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ» . قال : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ؟ قَالَ :«فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } » . فهذا من تفسير الصحابي الذي يرجع إلى النقل ويتعلق بالسماع .
وبعض الأخبار عن الصحابة فيما يتعلق بالغيبيات مندرجة تحت تفسيرهم الذي يرجع إلى النقل .
أما تفسير الصحابي الذي يرجع إلى الاستدلال ..
فهو ثلاثة أقسام :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
فربط الصحابي بين آيتين هذا من باب الاجتهاد ، ولو كان الذي ربط بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذكر ذلك الصحابي .
كما في تفسير : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ... } فسرت بقوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } . ولما كان المفسر لها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصحابي ذلك كما مر معنا .
ومثال تفسير الصحابي القرآن بالقرآن باجتهاده :
ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى : { وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: تزويجها: أن يجمع كل قوم إلى شَبَهِهِم، قال تعالى : { احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } [الصافات:22] .
فهذا تفسير صحابي مرجعه الاجتهاد وليس النقل .
الثاني : تفسير القرآن بحديث مما لم ينص فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء .(1/104)
ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي - رضي الله عنه - ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً ، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ» . إلى هنا انتهى الحديث .
قال أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } . هذا الربط لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو عن اجتهادٍ من صحابي .
الثالث : التفسير بناء على المعنى اللغوي، أو ما تحتمله الآية .
وقد نزل بالقرآن بلغتهم وهو أعرف الناس بها . وسبق الكلام عن أنّ الآية إذا احتملت معانٍ عديدة لم يكن بينها تعارض تُحمل عليها جميعاً .
والصحابة كانوا يجتهدون في باب التفسير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
مثاله : حديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ (وضُبطت : السَّلاسل وهذا هو الأشهر)، قال: فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«يَا عَمْرُو ، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ ، وَقُلْتُ : إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ
: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.(1/105)
وقد يخطئون في اجتهادهم فيصوبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمن قرأ : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } فعمد عِقَالَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ ؟ قَالَ :«إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ» ثم بين له أن المقصود بياض النهار وسواد الليل .
ختاماً :
هذا الطريق من طرق التفسير تجب العناية به ، أعني تفسير الصحابة ؛ لما سبق من الأدلة الدالة على أهمية تفسيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
وأما تفسير التابعي فالحديث عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله .
لعلي أكتفي بما سبق .. على أمل اللقاء بكم مجدداً بإذن الله ، وإلى ذاك الحين أستودعكم الله ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة (20)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي الحلقة العشرون من شرح مقدمة أصول التفسير .. أستهلها بعد حمد ربي بقول ابن تيمية رحمه الله :" إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ".
التابعي : من رأى الصحابي مؤمناً . والمرسل أن يقول التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن أعلم التابعين بالتفسير مجاهد بن جبر رحمه الله ، فقد قال عن نفسه :" عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ مرات ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.(1/106)
وعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ رحمه الله قَالَ : رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ . قَالَ : فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : اُكْتُبْ . حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ. وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وهذا مما يدل على أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القرآن كلَّه وسبق ذكر سبعة أدلة على ذلك .
وممن عرفوا بالتفسير : سَعِيد بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاحٍ ، وَالْحَسَن الْبَصْرِيِّ، وَمَسْرُوق بْن الْأَجْدَعِ، وَسَعِيد بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيع بْن أَنَسٍ ، وقتادة ، وَالضِّحَاك بْن مُزَاحِمٍ.
رحمهم الله جميعاً ، وجمعنا بهم في فسيح جناته .
مما ذكره الشيخ هنا في هذا الباب أنّ تفسير التابعين للقرآن الكريم إذا رجع إليه القارئ يجد تبايناً في الألفاظ ، فيظنُّ أنهم مختلفون ، قال : وليس الأمر كذلك ، فإنّ منهم من يفسر الشيء بلازمه ، ومنهم من يفسر الشيء بعينه ، وهكذا .
هل تفسير التابعي حجة ؟
هذه مسألة الإجابة عنها في آخر الدرس ، وآخر الدرس يفصلني عنه أمرٌ في غاية من الأهمية .. ما هو ؟
المعروف – أيها المستمع الكريم – عن بعض أهل العلم أنه يعرِّف التفسير بالمأثور بقوله : " تفسير القرآن بالقرآن ، وبالسنة ، وبأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين".
انظر مثلاً مناهل العرفان على سبيل المثال ..
وهذا خطأ ، وسأنقل كلام أهل العلم الذين انتقدوا هذا المصطلح ..
هذه التقسيمات الأربعة لا إشكال في كونها طرقاً من طرق التفسير ، بل لا إشكال في أنها أفضل طرق التفسير . فمن أراد أن يفسر فعليه أن يرجع إليها .(1/107)
فلماذا انتُقد هذا التعريف ، أعني قول من عرف التفسير بالمأثور بقوله :" هو تفسير القرآن بالقرآن ، وبالسنة ، وبأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين" ؟
الجواب انتُقد لما يلي :
أولاً :
جعلوا تفسير القرآن بالقرآن من أقسام التفسير بالمأثور وهذا خطأ ..
فالمأثور : ما أثر عن السلف ، وكلمة (مأثور) يندرج تحتها ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهل ينطبق هذا على تفسير القرآن بالقرآن ؟ الجواب : لا .
يقول الشيخ د. الطيار :" إن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه حتى يكون طريقُه الأثر ، بل هو داخلٌ ضمن تفسير من فسر به" .
بمعنى :
* إذا كان المفسر للقرآن بالقرآن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من التفسير النبوي.
* وإن كان المفسر به الصحابيَّ ، فله حكم تفسير الصحابي.
* وإن كان المفسر به التابعي ، فله حكم تفسير التابعي.
وهكذا كل من فسر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه.
ثانياً :
هذا التعريف لا يُدخل هذا النوع ، فهو تعريف ليس بجامع وليس بمانع .
كيف ذلك ؟
ليس بجامع لأنه أخرج ما أُثر عن تابعي التابعين ، فالمأثور في التفسير يشمل ما أُثر عن تابعي التابعين كذلك ، بل وما أُثر عمن دونهم في الطبقة .
وليس بمانع لأنه أدخل تفسير القرآن بالقرآن وليس هو من التفسير بالمأثور كما سبق بيانه .
ولابد في الحد والتعريف أن يكون جامعاً مانعاً ، وليس ذا بذلك .
ثالثاً :
وهو خطأ يتعلق بالحكم .
بعض من عرّف التفسير بالمأثور بهذا التعريف المنتقد ذكر أنه يجب الأخذ به !!
انظر مثلاً مباحث في علوم القرآن للقطان ، صفحة خمسين وثلاثِمائة . ...
مع أنّ من يقول بوجوب الأخذ به يحكي الخلاف في مسألة هل تفسير الصحابي حجة أم لا ؟ هل تفسير التابعي حجة أم لا ؟
وهنا سؤال لمن أوجب علينا أن نأخذ بتفسير التابعي : ما تقول في اختلاف التابعين ؟ كيف يؤخذ بقولهم في مسألة اختلفوا فيها ؟(1/108)
ولعدم دقة هذا المصطلح نشأ خطأ آخر ، وهو أنهم جعلوا التفسير بالرأي في مقابل التفسير بالمأثور ، ويقصدون الأنواع الأربعة السابقة ، فصار في هذه المسألة خلط وتخبط، فمن ذلك :
أن بعضهم يقررون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه برأيهم ، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ، ناسين ما قرروه من أنهم قالوا بالرأي ، فيُجعل قولهم مأثوراً وقولُ غيرهم رأياً ؟
ومن ذلك كذلك : أنهم يجعلون –مثلاً- تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور ، ولا ريب أنّ ابن جرير شيخ المفسرين ، وأنّ تفسيره اشتمل على كثير من المأثور . لكن لو أردت تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور ، فإنك ستجد اختيارات ابن جرير وترجماته ، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف يحكم عليه بأنه مأثور؟! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن جرير ، فهناك فرق بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور ، أو نقول هو تفسير بالمأثور.
بعد ذلك يتأتى لنا أن نطرح هذا السؤال الذي انقدح في فؤاد كثيرٍ منكم ..
وهو : هل يوجد تفسير يسمى مأثوراً؟
الجواب (نعم) .
فالمأثور هو ما أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن صحابته رضي الله عنهم ، وعن التابعين ، وعن تابعيهم ، ممن عُرفوا بالتفسير، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية على اجتهادهم.
وعلى هذا درج من ألف في التفسير بالمأثور؛ كبقي بن مخلد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وغيرهم.
وقد جمع السيوطي رحمه الله في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) من ذلك شيئاً كثيراً . وذكر الروايات الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ، وتابعيهم ، وتابعي تابعيهم .
فإذا كان هذا هو تعريف التفسير بالمأثور فهل يجب الأخذ به ؟(1/109)
الجواب : هذا النوع من التفسير لا ينبني عليه حكم من حيث القبولُ والردُّ ، ولكن يقال: إن هذه الطرق هي أحسن طرق التفسير ، وإن من شروط المفسر أن يتعرف على هذه الطرق ؛ لئلا يتخبط .
سؤال آخر في غاية الأهمية ..
ما هو التفسير الذي يجب علينا – نحن المسلمين – أن نأخذ به ؟
الجواب :
ما يجب اتباعه والأخذ به في التفسير يمكن تقسيمه إلى أربعة أنواع:
الأول: ما صح من تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - . إذا فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية فلا عبرة بأي كلام يخالف كلامه . ويجب الأخذ به، والإذعان إليه، ومن خالفه طُرح قوله ولا كرامة. فليس بعد تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسير، وليس بعد قوله قول .
الثاني: ما صح مما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع كأسباب النزول والغيبيات وما لا يُقال من قبيل الرأي والاجتهاد .
الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون ؛ لأن إجماعهم حجة يجب الأخذ به.
الرابع: ما ورد عن الصحابة خصوصاً أو عن التابعين ممن هم في عصر الاحتجاج اللغوي من تفسير لغوي ، فإن كان مجمعاً عليه فلا إشكال في قبوله ، وحجيته ، وإن ورد عن واحد منهم أنه فسر كلمة بمعنىً معينٍ ولم يُعرف له مخالفٌ فهو مقبول . قال الزركشي رحمه الله: "ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان ، فلا شك في اعتمادهم" [البرهان في علوم القرآن ، المجلد الثاني ، صفحة اثنتين وسبعين ومائة] .
وأما إن اختلفوا في معنى لفظة لاحتمالها أكثر من معنى ، فهذا يُرجع فيه إلى المرجحات.
لعلي أكتفي بما مضى ، وأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأستودعكم الله ، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا وحبيبنا وسيدنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه، اللهم ارض عنهم ، وعنّا بحبنا لهم معهم ، والسلام عليكم ورحمة الله .
الحلقة (21)(1/110)
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، أما بعد، المستمعون الأكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي الحلقة الحاديةَ والعشرون من شرح مقدمة أصول التفسير، وهي الأخيرة في هذه السلسلة التي أسأل الله أن يبار فيها ..
لقد ختم شيخ الإسلام رسالته هذه بمسألة التفسير بالرأي ..
وأورد بعض الآثار عن السلف التي تبين أنهم كانوا يتحرجون من التفسير ، مثال ذلك : قال يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ ، فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ " .
والتحقيق في مسألة التفسير بالرأي أنه ينقسم إلى قسمين :
الأول : الرأي المحمود ، والثاني : الرأي المذموم .
ومما يدل على أن هناك رأياً محموداً ما يلي :
أنّ الله تعالى أمر بتدبر القرآن في مثل قوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } .
والتدبر : التفكر الذي يفضي إلى فهم القرآن ، وكلما أمعن المتدبر النظر وأعمل الفكر تكشفت له معانٍ لم تكن ظاهرةً له من ذي قبل كما أفاده الطبري رحمه الله . فالتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبر من أجل فهم معاني الخطاب القرآني ومراداته، ولا شك أنّ ما يظهرُ له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيُه الذي وصل إليه.(1/111)
وليس ببعيد أن يُقال : إنّ التفسير بالرأي ظهر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تدل لذلك الآثار التي اجتهد فيها الصحابة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - تيمم في غزوة ذات السُّلاسل – ويجوز : السَّلاسل- ، ولما سألن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبب ذلك قال له :" وذكرتُ قول الله: { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } ، فتيمّمْتُ، ثم صليت. فضحك نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً. ففي هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد ، وأعمل رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الاجتهاد والرأي.
ومن الأدلة على وجود الرأي المحمود كذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس :« اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل» ، ولو كان المراد المسموعَ والمأثور من تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيرُه ، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن كما أفاد ابن عاشور في التحرير والتنوير، وهذا الفهم إنما هو رأيٌ لصاحبه.
ولما سئل الصديق الأكبر أبو بكر - رضي الله عنه - عن آية الكلالة قال :" أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان".
فما هي شروط الرأي المحمود في التفسير ؟
بعض المتأخرين اجتهد في بيان جملة العلوم التي يحتاجها من يفسر برأيه حتى يخرج عن كونه رأياً مذموماً. فالراغب الأصفهاني جعلها عشرة علوم، وهي:
علم اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسّيَر، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة .
فمن جمع هذه العلوم فسّر القرآن برأيه فيما ليس فيه نصٌّ.
فأين يكون التفسير بالرأي ؟
سبق الكلام عن نوعي التفسير ، فالأول : جهته النقل ، والثاني جهته الاستدلال .(1/112)
فالأول لا مجال للرأي فيه . كالاكلام في أسباب النزول ، والأمور الغيبية ، ومما يدخل هنا : أن لا تحتمل الكلمة إلا معنىً واحداً فليس من سبيل هنا لإقحام الرأي .
فالتفسير بالرأي يكون فيما جهته الاستدلال .
فلو قال قائل : هل يمكن أن تذكر لنا صوراً من الرأي المذموم ؟
الجواب : من صور ذلك :
1/ الكلام عن الغيبيات بدون دليل ، كالكلام عن كيفية الدابة التي تكلم الناس .
2/ الكلام عن الآيات التي علم تفسيرها بالأثر . كالآيات التي فسرها الصحابة رضي الله عنهم .
3/ الاعتماد في التفسير على اللغة العربية فقط وسبق الكلام عن هذا ، فالوجه المعين قد يصلح إعراباً ولا يصلح تفسيراً.
4/ أن يخضع القرآن لبدعته .
ومن المسائل المهمة هنا :
لقد بان لنا أنّ مِن الصحابة والتابعين وأتباعهم مَنْ فسر القرآن برأيهم، فهل نُسمِّي ما ورد عنهم تفسيراً بالمأثور، وما ورد عن غيرهم تفسيراً بالرأي؟
الجواب : هذا التقسيم على هذا النحو فيه قصورٌ ظاهرٌ ، وذلك لأمرين:
الأول: أن أغلب من قسّم هذا التقسيم جعل حكم المأثور وجوبُ الأخذ به على إطلاقه، مع أن بعضهم يحكي خلاف العلماء في قبول أقوال التابعين، كما ينسى حكم ما اختلفوا فيه: كيف يجب الأخذ به مع وجود الاختلاف بينهم؟
الثاني: أن في ذلك تناسياً لجهود السلف في التفسير، وتجاهلاً لرأيهم فيه ، فهم أول من بذر بذرته .
إن هؤلاء السلف قالوا في القرآن بآرائهم، كما قال المتأخرون بآرائهم، ويا بعد ما بين الرأيين ؛ فرأي السلف هو المقدّم بلا إشكال.
ومما سبق تقريره في الحلقة الماضية : أنّ المقابلة بين التفسير بالمأثور (على أنه تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (على أنه ما عدا ذلك) خطأ محضٌ لا دليل عليه .(1/113)
وأما تسمية تفسير السلف تفسيراً بالمأثور باعتبار أن طريق الوصول إليه هو الأثر تسميةٌ لا غبار عليها، وهو بهذا لا يقابل التفسير بالرأي، بل التفسير بالرأي ممزوج به ؛ لأن من تفسيرهم ما هو نقلٌ لا يصح تركه أو إنكاره؛ كأسباب النزول، ومنه ما هو استدلال وقولٌ بالرأي كما لا يخفى .
وبناءً على ما وقع من مقابلة التفسير المأثور بالتفسير بالرأي، وقع تقسيم التفاسير إلى تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي، وقد نشأ بسبب ذلك قصورٌ آخر، وذلك في أمرين:
الأول: أنه قَلّ أن تترك التفاسير المعتبرة أقوال السلف، بل تحرص على حكايتها، ومع ذلك تجد أن بعض هذه التفاسير حُكِمَ عليه بأنه من التفسير بالمأثور والآخر من التفسير بالرأي.
والصواب أن يقال: إن المفسر الفلاني مكثر من الرواية عن السلف مكثر من الاعتماد على أقوالهم، والآخر مقلّ من الرواية عنهم أو الاعتماد عليهم.
الثاني: أن من حُكِمَ على تفسيره بأنه من التفسير بالمأثور قد حِيفَ عليه في الموازنة والترجيح بين الأقوال التي يذكرها عن السلف، وأشهر مثالٍ لذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري، حيث يعدّه من يقابل بين التفاسير بالمأثور والتفسير بالرأي من المفسرين بالأثر، وهذا فيه حكم قاصرٌ على تفسير الإمام ابن جرير، وتجاهلٌ لأقواله الترجيحية المنثورة في كتابه.
قال ذلك د. سليمان الطيار حفظه الله ثم قال :" هل التفسير منسوب إليه أم إلى من يذكرهم من المفسرين؟! فإذا كان تفسيره هو؛ فأين أقواله وترجيحاته في التفسير؟! أليست رأياً له؟ أليست تملأ ثنايا كتابه الكبير؟! بل أليست من أعظم ما يميّز تفسيره بعد نقولاته عن السلف؟! إن تفسير ابن جرير من أكبر كتب التفسير بالرأي، غير أنه رأي محمود؛ لاعتماده على تفسير السلف وعدم خروجه عن أقوالهم، مع اعتماده على المصادر الأخرى في التفسير.(1/114)
كما أن تفسيره من أكبر مصادر التفسير المأثور عن السلف، وفَرْقٌ بين أن نقول: فيه تفسير مأثور، أو أن نقول: هو تفسير بالمأثور؛ لأن هذه العبارة تدل على أنه لا يذكر غير المأثور عن السلف، وتفسير ابن جرير بخلاف ذلك؛ إذ هو مع ذكر أقوالهم يرجِّح ويعلِّل لترجيحه، ويعتمد على مصادر التفسير في الترجيح. ولكي يَبِين لك الفرق في هذه المسألة: وازن بين تفسيره وتفسير عَصْرِيّهِ ابنِ أبي حاتم الذي لا يزيد على ذكر أقوال السلف، وإن اختلفت أقوالهم فلا يرجح ولا يعلق عليها، أليس بين العالمين فرق؟ " انتهى كلامه وفقه الله .
وبهذا تم الكلام والتعليق على هذه المقدمة المباركة ، فما كان من صواب فمن الله وحده، وما كان من غيره فمني والشيطان ، وأسأل الله أن يغفر ذلك ويمحو أثره .
لم يبق إلا أن أرفع أكف الضراعة إلى ربها متوجهاً إليه بقلبي ، قائلاً بلساني :
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا وغمومنا ، اللهم اجعله شفيعاً لنا في الآخرة ، حجةً لنا لا علينا .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً .
الإخوة الأكارم ، جزاكم الله على حسن استماعكم ، وبارك فيكم ، وففكم ..
وأكرر شكري لإخواني المجاهدين في إذاعة طيبة ، نفع الله بهم وأيدهم ، وأجزل المثوبة لهم ووفقهم .
اللهم لا تجعل عملنا وبالاً علينا .
وأستودعكم الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/115)