وكُتِب "تُغْنِ" إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين: قال بعضُ النحويين: وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ "تُغْني" حَمْلاً لـ"ما" على "لم" فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ "لم". قال مكي: "وهذا خطأٌ؛ لأنَّ "لم" تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً، و "ما" تنفي الحالَ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما".
* { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ }
قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ}: منصوبٌ: إمَّا بـ"اذْكُرْ" مضمرةً وهو أقربُها، وإليه ذهب الرُّمَّاني والزمخشري، وإمَّا بـ"يَخْرُجون" بعده وإليه ذهب الزمخشريُّ أيضا، وإمَّا بقولِه "فما تُغْني"، ويكون قولُه "فَتَوَلَّ عنهم" اعتراضاً، وإمَّا منصوباً بقولِه {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} وفيه بُعْدٌ لبُعْدِه منه، وإمَّا بقولِ "فَتَوَلَّ" وهو ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المعنى ليس أَمْرَه / بالتوليةِ عنهم في يومِ النفخ في الصُّورِ، وإمَّا بحذفِ الخافض، أي فَتَوَلَّ عنهم إلى يوم؛ قاله الحسن. وضُعِّف من حيث اللفظُ، ومن حيث المعنى. أمَّا اللفظُ: فلأنَّ إسقاطَ الخافضِ غيرُ مُنْقاسٍ. وأمَّا المعنى: فليس تَوَلِّيه عنهم مُغَيَّا بذلك الزمان، وإمَّا بـ انتظرْ مضمراً. فهذه سبعةُ أوجهٍ في ناصب "يومَ". وحُذِفَتْ الواوُ مِنْ "يَدْعُ" خَطَّاً اتِّباعاً للِّفْظِ، كما تقدَّم في {يُغْنِ} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وشبهِه، والياءُ من "الداعِ"، مبالغةً في التخفيف إجراءً لأل مُجْرى ما عاقبها وهو التنوينُ فكما تُحْذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها.
(13/238)
---(1/5313)
قوله: {نُّكُرٍ} العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل، وفُعُل في الصفات عزيزٌ، منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجلٌ شُلُل، وناقةٌ أُجُد، وروضةٌ أُنُفٌ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ. وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ. وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً في اليُسْر والعُسْر في المائدة. وسُمِّي الشيءُ الشديدُ نُكُراً لأن النفوس تُنْكِره قال مالك بن عوف:
4148 - اقْدُمْ مَحاجِ إنه يومٌ نُكُرْ * مِثْلي على مِثْلِك يَحْمي ويَكُرّْ
وقرأ زيدُ بنُ علي والجحدري وأبو قلابة "نُكِرَ" فعلاً ماضياً مبنياً للمفعولِ؛ لأنَّ "نَكِرَ" يتعدى قال: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ}.
* { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }
قوله: {خُشَّعاً}: قرأ أبو عمر والأخَوان "خاشِعاً" وباقي السبعة "خُشَّعاً". فالقراءةُ الأولى جاريةٌ على اللغةِ الفُصْحى مِنْ حيث إن الفعلَ وما جرى مَجْراه إذا قُدِّمَ على الفعلِ وُحِّد. تقول: تَخْشَع أبصارُهم ولا تقولُ: تَخْشَعْن أبصارُهم، وأنشدوا قولَ الشاعر:
4149 - وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ * مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَدّْ
وقال آخر:
4150 - يَرْمي الفِجاجَ بها الرُّكبانُ معْتَرِضاً * أعناقَ بُزَّلِها مُرْخى لها الجُدُلُ
وأمَّا الثانيةُ فجاءَتْ على لغة طَيِّىء يقولون: أكلوني البراغيث. وقد تقدَّم القولُ في هذا مشبعاً في المائدة والأنبياء. ومثلُه قولُ الآخر:
4151 - بمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحاح كُعُوبُه * وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسا
(13/239)
---(1/5314)
وقيل: وجمعُ التكسير في اللغة في مثل هذا أكثرُ من الإِفراد. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله "خاشعةً" على تَخْشَعُ هي. وقال الزمخشري: "وخُشَّعاً على: تخشَعْن أبصارهم، وهي لغةُ مَنْ يقول: أكلوني البراغيث وهم طيىء"، قال الشيخ: "ولا يَجْري جمعُ التكسيرِ مَجْرى جمعِ السلامةِ، فيكون على تلك اللغةِ النادرِ القليلةِ. وقد نَصَّ سيبويه على أنَّ جمعَ التكسيرِ في كلام العربِ أكثرُ، فكيف يكونُ أكثرَ، ويكون على تلك اللغةِ النادرةِ القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإِفراد مذكراً ومؤنثاً وجمعَ التكسيرِ، قال: "لأنَّ الصفةَ متى تَقَدَّمَتْ على الجماعة جاز فيها جميعُ ذلك، والجمعُ موافِقٌ لِلَفْظِها فكان أشبهَ" قال الشيخ: "وإما يُخَرَّجُ على تلك اللغةِ إذا كان الجمعُ جَمْعَ سلامةٍ نحو: "مَرَرْتُ بقومٍ كريمين آباؤُهم" والزمخشريُّ قاسَ جَمْعَ التكسيرِ على جَمْعِ السلامةِ وهو قياسٌ فاسدٌ يَرُدُّه النَّقْلُ عن العربِ: أنَّ جَمْعَ التكسيرِ أجودُ من الإِفرادِ، كما ذكره سيبويهِ، ودَلَّ عليه كلامُ الفراء". قلت: قد خَرَّج الناسُ قولَ امرىء القيس:
4152 - وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ * يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
على أنَّ "صحبي" فاعل بـ"وقوفاً" وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في "وقوفاً. وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ به وناصبُه "يَدْعُ الداعِ وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ فاعل "يَخْرُجون" المتأخرِ عنه. ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ. ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب: "شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة"، فـ"شتى" حالٌ من "الحلَبَة" وقال الشاعر:
4153 - سَريعاً يهون الصَّعْبُ عند أُولي النُّهى * إذا برجاءٍ صادقٍ قابلوا البأسا
(13/240)
---(1/5315)
الثالث: أنه حالٌ من الضمير في "عنهم" ولم يذكر / مكيٌّ غيره. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولَ "يَدْعُو" المحذوفِ تقديره: يومَ يَدْعوهم الداعي خُشَّعاً، فالعامل فيها "يَدْعو"، قاله أبو البقاء. وهو تكلُّفُ ما لا يحاجةَ إليه.
وارتفع "أبصارهم" على وجهين: إمَّا الفاعلية بالصفةِ قبلَه وهو الظاهرُ، وإمَّا على البدلِ من الضمير المستتر في "خُشَّعاً" لأنَّ التقديرَ: خُشَّعاً هم. وهذا إنما يتأتَّى على قراءةِ "خُشَّعاً" فقط.
وقرِىء "خُشَّعٌ أبصارهم" على أنَّ خشعاً خبرٌ مقدمٌ و "أبصارُهُمْ" مبتدأ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ وفيه الخلافُ المذكورُ مِنْ قبلُ كقوله:
4154 - ............................. * وَجَدْتُه حاضِراه لجودُ الكرمُ
قوله: {يَخْرُجُونَ} يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في "أبصارُهم"، وأنْ يكونَ مستأنفاً. والأَجْداث: القبورُ. وقد تقَدَّم ذكرُه في سورةِ يس.
قوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "يَخْرُجون" أو مستأنفةً. و "مُهْطِعين" حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ "يَخْرُجون" عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: "ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في "مُنْتَشِرٌ" عند قوم. وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في "مُنتشِر" للجراد، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل "يَخْرُجون" أو من الضمير المحذوف" انتهى. وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول.
والإِهْطاعُ: الإِسراعُ وأُنْشِد:
4155 - بدِجلَةَ دارُهُمْ ولقد أَرَاهُمْ * بدِجْلةَ مُهْطِعين إلى السَّماع
وقيل: الإِسراعُ مع مَدِّ العُنُق. وقيل: النظر. وأنشد:
4156 - تَعَبَّدَني نِمْرُ بنُ سَعْدٍ وقد أُرَى * ونِمْرُ بنُ سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهْطِعُ
(13/241)
---(1/5316)
قوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} قال أبو البقاء: "حالٌ من الضمير في "مُهْطعين". وفيه نظرٌ من حيث خلوُّ الجملةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بذي الحال. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ "الكافرون" هم الضميرُ في المعنى، فيكونُ من باب الربطِ بالاسمِ الظاهر عند مَنْ يرى ذلك، كأنه قيل: يقولون هذا. وإنما أَبْرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفةِ القبيحةِ.
* { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ }
قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}: مفعولُه محذوفٌ، أي: كَذَّبَتِ الرسلَ؛ لأنهم لَمَّا كذَّبوا نوحاً عليه السلام فقد كَذَّبوا جميعَ الرسل. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من باب التنازع؛ إذ لو كان منه لكان التقدير: كَذَّبَتْ قبلَهم قومُ نوحٍ عبدَنا فكذَّبوه، ولو لُفِظ بهذا لكان تأكيداً، إذ لم يُفِدْ غيرَ الأولِ. وشرطِّ التنازعِ أَنْ لا يكونَ الثاني تأكيداً، لذلك منعوا أَنْ يكونَ قولُه:
4175 - ............................. * أتاكِ أتاكِ اللاحقون احْبِسِ احبسِ
من ذلك. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُجَوِّزُه فإنه أخرجه عن التأكيدِ فقال: "فإنْ قلتَ ما معنى قولِه "فكذَّبوا" بعد قولِه "كَذَّبَتْ"؟ قلت: معناه كذَّبوا فكذَّبوا عبَدنا أي: كذَّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيبٍ كلما مضى منهم قَرَنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعه قرنٌ مكذبٌ" فهذا معنى حسن يسوغُ معه التنازعُ. و "مجنون" خبرُ ابتداءٍ مضمر أي: هو مجنون. والدالُ في "ازْدُجِر" بدلٌ مِنْ تاء كما تَقَدَّم. وهل هو مِنْ مَقولِهم، أي: قالوا: إنه ازْدُجِرَ، أي: ازْدَجَرَتَهُ الجنُّ، وذهبَتْ بلُبِّه، قاله مجاهد، أو هو مِنْ كلام الله تعالى، أخبر عنه: بأنه انْتُهِر وزُجِرَ بالسبِّ وأنواع الأذى.
* { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ }
(13/242)
---(1/5317)
قوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ}: العامَّةُ على فتح الهمزة، أي: دعاه بأني مغلوبٌ وجاء هذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظِ لقال: إنه مغلوبٌ، وهما جائزان. وقرأ ابنُ أبي إسحاق والأعمشُ ورُويت عن عاصمٍ بالكسر: إمَّا على إضمارِ القولِ، أي: فقالن فَسَّر به الدعاءَ، وهو مذهبُ البصريين، وإمَّا إجراءً للدعاءِ مُجْرى القولِ وهو مذهبُ الكوفيين. وقد تقدَّم الخلاف في "فَتَحْنا" في الأنعام ولله الحمد.
* { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ }
قوله: {مُّنْهَمِرٍ}: المنهمر: الغزيرُ النازلُ بقوة. وأُنشد:
4158 - راحَ تَمْرِيْه الصَّبا ثم انتحى * فيه شُؤْبُوْبُ جَنوبٍ مُنْهَمِرْ
/ واسْتُعير ذلك في قولهم: هَمَر الرجلُ في كلامِه، وفلانٌ يُهامِر الشيءَ، أي: يَجْرُفُهُ، وهَمَرَه مِنْ ماله: أعطاه بكثرةٍ.
وفي الباء في "بماء" وجهان، أظهرهما: أنها للتعدية ويكونُ ذلك على المبالغة في أنه جَعَلَ الماءَ كالآلةِ المُفْتتحِ بها كما تقول: فَتَحْتُ بالمفتاح. والثاني: أنها الحال، أي: فَتَحْنا ملتبسةً بهذا الماء. وقرأ عبدالله وأبو حيوة وعاصم في رواية "وفَجَرْنا" مخففاً، والباقون مثقلاً.
* { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ }
قوله: {عُيُوناً}: فيه أوجهٌ، أشهرها: أنه تمييزٌ، أي: فَجَّرْنا عيونَ الأرض فنَقله من المفعوليةِ إلى التمييز، كما يُنقل من الفاعلية.
(13/243)
---(1/5318)
ومنعه بعضُهم، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} أبلغُ مِنْ "فَجَّرْنا عيونَ الأرض" لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ. الثاني: أنه منصوبٌ على البدلِ من "الأرض". ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل. ويُجاب عنه: بأنَّه محذوفٌ، أي: عيوناً منها كقوله {الأُخْدُودِ النَّارَ} فالنار بدلُ اشتمالٍ. ولا ضميرَ فهو مقدرٌ. . الثالث: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن "فَجَّرنا" معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً. الرابع: أنها حالٌ. وفيه تَجَوُّزان: حَذْفُ مضافٍ، أي: ذات يعون، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً.
قوله: {فَالْتَقَى المَآءُ} لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ: فالتقى الماء، كأنه: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. هذه قراءة العامَّة وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب، - وتُرْوَى عن أمير المؤمنين أيضاً - "الماءان" يتثنيةٍ، والهمزةُ سالمةٌ. وقرأ الحسن أيضاً "الماوان بقَلْبها واواً. قال الزمخشري: "كقولهم: عِلْباوان يعني: أنه شَبَّه الهمزةَ المقبلةَ عن هاء بهمزةِ الإِلحاق. ورُوِي عنه أيضاً "المايان" بقَلْبها ياءً وهي أشدُّ مِمَّا قبلَها.
وقوله: {قَدْ قُدِرَ} العامَّةُ على التخفيفِ. وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد، وهما لغتان قُرِىء بهما: قولُه {قَدَّرَ فَهَدَى}، {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} كما سيأتي.
* { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }
قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}:، أي: سفينةٌ ذاتُ ألواحٍ قال الزمخشري: وهي من الصفات التي تقوم مَقام الموصوفات فتنوب مَنابها وتؤدي مُؤَدَّاها، بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها. ونحوه:
4159 - ........................... ولكنْ * نَ قميصي مَسْرودةٌ مِنْ حديدِ
أراد: ولكنَّ قميصي دِرْع. وكذلك:
4160 - ........................ * ولو في عيونِ النازياتِ بأَكْرُعِ
(13/244)
---(1/5319)
أراد: ولو في عين الجَراد. ألا ترى أنَّك لو جَمَعْتَ بين السفينة وبين هذه الصفاتِ أو بين عيونِ الجراد والدِّرْع وهاتَيْن الصفتَيْن لم يَصِحَّ، وهذا من فصيحِ الكلام وبديعِه". والدُّسُرُ: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه المساميرُ جمع دِسار نحو: كُتُب في جمع كِتاب. وقال الزمخشري: "جمعُ دِسار وهو المِسمارُ فِعال، مِنْ دَسَره إذا دَفَعه؛ لأنه يُدْسَرُ به مَنْفَذُه" وقال الراغب: "الواحدُ دَسُر - يعني فيكونُ مثلَ: سَقْف وسُقُف - وأصل الدِّسْرِ الدَّفْعُ الشديدُ بقَهْر، دَسَرَه بالرُّمْح، ومِدْسَرٌ مثلُ مِطْعَنْ ورُوِي: "ليس في العَنْبَر زكاةٌ إنما هو شيءٌ دَسَرَه البحرُ"، أي: دفعه. الثاني: أنها الخيوطُ التي تُشَدُّ بها السفنُ. الثالث: أنها عَوارِضُ السفينة. الرابع: أنها أضلاعُها.
* { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ }
قوله: {بِأَعْيُنِنَا}: أي: مُلْتبسةً بحِفْظِنا وهو في المعنى كقولِه تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيا}. وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال "بأَعْيُنَّا" بالإِدغام.
قوله: {جَزَآءً } منصوبٌ على المفعولِ له ناصبُه "فَفَتْحْنا" وما بعده. وقيل: منصوب على المصدرِ: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ، ي: جازَيْناهم جزاءً، وإمَّا على التجوُّزِ: / بأنَّ معنى الأفعالِ المتقدِّمة: جازَيْناهم بها جزاءً.
قوله: {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} العامَّةُ على "كُفِرَ" مبنياً للمفعول والمرادُ بـ مَنْ كُفِر نوحٌ عليه السلام، أو الباري تعالى. وقرأ مسلمة به محارب "كُفْر" بإسكان الفاء كقوله:
4161 - لو عُصْرَ منه المِسْكُ والبانُ انعصَرْ
(13/245)
---(1/5320)
وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة "كَفَر" مبنياً للفاعل. والمرادُ بـ"مَنْ" حينئذٍ قومُ نوحٍ. و "كُفِرَ" خبرُ كان. وفيه دليلُ على وقوع خبر كان ماضياً مِنْ غير "قد" وبعضُهم يقولُ: لا بُدَّ من "قَدْ" ظاهرةً أو مضمرةً. ويجوز أَنْ تكونَ "كان" مزيدةً. وضميرُ "تَرَكْناها" إمَّا للقصة. أو الفَعْلة، أو السفينة، وهو الظاهرُ.
* { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }
قوله: {مُّدَّكِرٍ}: أصلُه مُذْتَكِر، فأُبْدِلت التاءُ دالاً مهملة، ثم أُبْدِلت المعجمة مهملةً لمقاربتها وقد تَقَدَّم هذا في قوله: {مُذَكِّرٌ} وقد قُرِىء "مُذْتكِر" بهذا الأصلِ وقرأ قتادة - فيما نَقَل عنه أبو الفضل - "مُذَكِّر" بفتح الذالِ مخففةً وتشديد القاف مِنْ ذَكَّر بالتشديد، أي: ذكر نفسه أو غيره بما مضى مِنْ قَصَص الأولين. ونَقَلَ عنه ابنُ عطية كالجماعة، إلاَّ أنَّه بالذال المعجمة وهو شاذٌّ، لأنَّ الأولَ يُقْلَبُ للثاني، لا الثاني للأولِ.
* { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }
قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي}: "كان" الظاهرُ فيها أنها ناقصةٌ فـ"كيف" خبرٌ مقدمٌ. وقيل: يجوزُ أَنْ تكون تامة فتكون "كيف" في محلِّ نصبٍ: إمَّا على الظرف، وإمَّا على الحال، كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة.
* { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }
ومعنى يَسَّرْنا القرآن: هَيَّأْناه للذِّكْر مِنْ قولِهم: يَسَّر فَرَسَه، أي: هَيَّأه للركوب بإلْجامِه. قال الشاعر:
4162 - فَقُمتُ إليه باللِّجام مُيَسَّراً * هنالك يَجْزِيني الذي كنتُ أصنع
* { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }
(13/246)
---(1/5321)
قوله: {صَرْصَراً}: أي الشديدةُ الصوتِ مِنْ صَرْصَرَ البابُ أو القلمُ إذا صوَّت، أو الشديدة البرد مِنْ الصِّرِّ وهو البرد. وهو كله أصولٌ عند الجمهور. وقال مكي: أصلُه صَرَّر مِنْ صرَّ البابُ إذا صَوَّتَ لكنْ أبدلوا من الراء المشدة صاداً". قلت: وهذا قول الكوفيين. ومثلُه: كَبْكَبَ وكَفْكَفَ، وتقدَّم هذا في فُصَّلَتْ وغيرها.
قولُه: {يَوْمِ نَحْسٍ} العامّةُ على إضافة "يوم" إلى "نَحْس" بسكونِ الحاءِ. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه من إضافة الموصوف إلى صفتِه. والثاني: وهو قَولُ البصريين أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أي: يوم عذابِ نحس، وقرأ الحسن بتنوينه ووَصْفِه بـ نَحْس، ولم يُقَيِّدْه الزمخشريُّ بكسر الحاء. وقَيَّده الشيخ. وقد قُرِىء قولُه تعالى {فِيا أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} بسكونِ الحاءِ وكسرِها. وتنوين "أيام" عند الجميع كما تقدَّم تقريره "ومُسْتمر" صفةٌ لـ"يوم" أو "نَحْسٍِ" ومعناه كما تَقدَّم، أي: دامَ عليهم حتى أهلكهمِ أو مِنْ المرارة.
* { تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ }
و "تَنْزِعُ" في موضع نصبٍ إمَّا نعتاً لـ"ريحاً"، وإمَّا حالاً منها لتخصُّصِها بالصفةِ ويجوز أن تكون مستأنفةً. وقال "الناس" لتَضُمَّ ذَكَرهم وأُنثاهم، فأوقع الظاهر موقعَ المضمرِ لذلك، وإلاَّ فالأصلُ: تَنْزَعُهم.
قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} حالٌ من الناسِ مقدرةً. و "مُنْقَعِر" صفةً لـ"نَخْلٍ" باعتبار الجنس، ولو أَنَّثَ لاعتبر معنى الجماعة، كقوله {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وقد تقدَّم تحقيق اللغتين فيه، وإنما ذَكَّر هنا وأَنَّثَ في الحاقةِ مراعاةً للفواصل في الموضعَيْن. وقرأ أبو نهيك "أَعْجُزُ" على وزن أَفْعُل نحو: ضَبُع وأضْبُع، وقيل: الكاف في موضع نصبٍ بفعل مقدرٍ تقديرُه: فتركهم كأنهم أعجازٌ، قاله مكي، ولو جُعِلَ مفعولاً ثانياً على التضمين، أي: يُصَيِّرهم بالنَّزْع كأنهم، لكان أقربَ.
(13/247)
---(1/5322)
والأَعْجاز: جمعُ عَجُزٍ وهو مُؤَخَّرُ الشيءِ ومنه "العَجْزُ" لأنه يُؤَدِّي إلى تأخُّرِ الأمورِ. والمُنْقَعِرُ: المُنْقَلعُ مِنْ أصله، قَعَرْتُ النخلةَ: قَلَعْتُها مِنْ أصلها فانقَعَرَتْ. وقَعَرْتُ البئر: وصَلْتُ إلى قعرها. وقَعَرْتُ الإِناء: شَربْتُ ما فيه حتى وَصَلْتُ إلى قَعْرِه، وأَقْعَرْتُ البئر: ، أي جعلتُ لها قَعْراً، وقَعَرْتُها: وَصَلْتُ إلى قَعْرها.
* { فَقَالُوااْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }
(13/248)
---(1/5323)
قوله: {أَبَشَراً}: منصوبٌ على الاشتغالِ، وهو الراجحُ، لتقدُّم أداةٍ هي بالفعل أَوْلَى، "ومِنَّا" نعتٌ له. و "واحداً" فيه وجهان، أظهرهما: أنه نعتٌ لـ"بَشَراً" إلاَّ أنه يُشْكِلُ عليه تقديمُ الصفةِ المؤولة على الصريحة. ويُجاب: بأنَّ "مِنَّا" حينئذ ليس وَصْفاً بل حالٌ من "واحداً" قُدِّمَ عليه. والثاني: أنه نصبٌ على الحالِ من هاء "نَتَّبِعُه" وهو تخلُّصٌ من الإِعرابِ المتقدِّم. إلاَّ أنَّ المُرجِّحَ لكونه صفةً قراءتهما مرفوعَيْنِ: أبَشرٌ مِنا واحد نَتَّبِعُهُ على ما سيأتي فهذا يُرَجِّحُ كونَ / "واحداً" نعتاً لـ"بشراً" لا حالاً. وقرأ أبو السَّمَّال - فيما نقل الهذلِيُّ والدانيُّ - برفعِهما على الابتداء، و "واحدٌ" صفتُه "ونَتَّبعهُ" خبرُه. وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً، فيما نَقَل ابن خالويه وأبو الفضل وابن عطية برفع "بَشَرٌ" ونصب "واحداً" وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ "أبَشَرٌ" مبتدأًً، وخبرُه مضمر، تقديره: أَبَشَرٌ منا، يُبْعَثُ إلينا أو يُرْسَلُ. وأمَّا انتصابُ "واحداً" ففيه وجهان، أحدهما: أنَّه حالٌ من هاء بالابتداءِ أيضاً، والخبر "نَتَّبِعُه" و "واحداً" حالٌ على الوجهَيْن المذكورَين آنفاً. الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمر بمني للمفعول تقديره: أيُنَبَّأُ بَشَرٌ و "مِنَّا" نعتٌ و "واحداً" حالٌ أيضاً على الوجهَيْن المذكورَيْن آنفاً. وإليه ذهبَ ابنُ عطية. قوله: {وَسُعُرٍ} يجوزُ أن يكون مفرداً، أي: جنون. يقال: ناقةٌ مَسْعُورة، أي: كالمجنونة في سَيْرها. قال الشاعر:
4163 - كأنَّ بها سُعْراً إذا العِيْسُ هَزَّها * ذَمِيْلٌ وإرْخاءٌ من السير متعبُ
وأَنْ يكونَ جمعَ سَعير، وهو النار، والاحتمالان منقولان.
* { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }
قوله: {مِن بَيْنِنَا }: حالٌ من هاء "عليه"، أي: أَلْقى عليه منفرداً مِنْ بيننا.
(13/249)
---(1/5324)
قوله: {أَشِرٌ} الأَشِرُ: البَطِرُ. يقال: أَشِر يأْشَر أَشَراً فهو أشِرٌ كفَرِح، وآشِر كضارب، وأشْران كسَكران، وأُشارى كسُكارى. وقرأ أبو قُلابةِ وجعلهما أَفْعَلَ تفضيلٍ تقول: زيدٌ خيرٌ مِنْ عمروٍ وشرٌّ مِنْ بكر. ولا نقول: أَخْبرُ ولا أَشَرُّ إلاَّ في نُدورٍ كهذه القراءة وكقول رُؤْبة:
4164 - بِلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ
وَثَبَتَتْ فيهما في التعجب نحو: ما أَخْيره وما أشَرَّه. ولا تُحْذَفُ إلاَّ في نُدورٍ عكسَ أفعل التفضيل. قالوا: "ما خيرَ اللبنِ للصحيح وما شَرَّه للمبطلون" وهذا مِنْ محاسِن الصناعة. وقرأ أبو قيس الأوْدِيُّ، ومجاهد الحرفَ الثاني "الأُشُرُ" ثلاث ضماتٍ. وتخريجها: على أنَّ فيه لغةَ "أَشُر" بضم الشين كحَذُر وحذِر، ثم ضُمَّت الهمزة على أصلِ تيْكَ اللغةِ كحَذُر.
* { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ }
قوله: {سَيَعْلَمُونَ}: قرأ ابنُ عامر وحمزةُ بالخطاب. وفيه وجهان، أحدهما: أنه حكاية قول صالحٍ لقومِه. والثاني: أنه خطابُ اللهِ تعالى على جهة الالتفاتِ. والباقون بالياء غَيْبَةً، وهي ظاهرةٌ لجَريان الغيب قَبلَه في قوله: {فَقَالُوااْ أَبَشَراً} واختارها مكي لأن عليها الأكثر. و "غداً" في قوله ليس المرادُ به الذي يلي يومَك بل الزمانُ المستقبلُ، كقول الطرمَّاح:
4165 - ألا عَلِّلاني قبل نوحِ النوائحِ *وقبلَ اضطراب النَّفْسِ بين الجوانحِ
وقبلَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ *إذا راح أصحابي ولستُ برائحِ
* { إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ }
قوله: {فِتْنَةً}: مفعولٌ له أو مصدرٌ من معنى الأول، أو في موضع الحال.
* { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ }
(13/250)
---(1/5325)
وقرأ العامة "قِسْمَةٌ" بكسر القاف. ورُوي عن أبي عمروٍ فتُحها وهو قياس المَرَّةِ. والضمير في "بَيْنَهم" لقوم صالحٍ والناقة، فغلَّب العاقلَ.
* { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ }
قوله: {فَنَادَوْاْ}: قبله محذوفٌ، أي: فتمادَوْا على ذلك ثم مَلُّوْهُ فعزمُوا على عَقْرِها فنادَوْا صاحبَهم / وتَعاطَى: مطاوعٌ وعاطَى، كأنهم كانوا يتدافَعُونْ ذلك حتى تَوَلاَّه أَشْقاها.
* { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ }
قوله: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}: العامَّةُ على كسر الظاء اسم فَاعلٍ وهو الذي يَتَّخِذُ حَظيرةً مِنْ حَطَب وغيرِه. وقرأ أبو السَّمَّال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها. فقيل: هو مصدرٌ، أي: كَهَشِيم الاحتظار وقيل: هو مكانٍ. وقيل هم اسمُ مفعولٍ وهو الهَشيمُ نفسهُ، ويكون من بابِ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه كمسجدِ الجامع. والحَظْرُ: المَنْعُ، وقد تقدَّم تحريرُه في سبحان.
* { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ }
قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مُتصلٌ ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصِبَ على الجميع إلاَّ أهلَه فإنه لم يرسِلْ عليهم. والثاني: أنه منقطعٌ، ولا أدري ما وجهُه؟ فإنَّ الانقطاعَ وعدمَه عبارةٌ عن عدم دخولِ المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلا. وقال أبو البقاء: "هو استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: متصلٌ، لأنَّ الجميع أُرْسِلَ عليهم الحاصبُ فهَلَكوا إلاَّ آل لوطٍ. وعلى الوجهِ الأولِ يكون الحاصِبُ لم يُرْسَلُ على آلِ لوطٍ" انتهى. وهو كلامٌ مُشْكِلٌ.
وقوله: {نَّجَّيْنَاهُم} تفسيرٌ وجوابٌ لقائلِ يقولُ: فما كان مِنْ شأنِ آلِ لوطٍ؟ كقولِه "أبى" بعد قولِه {إِلاَّ إِبْلِيسَ} وقد تقدَّم في البقرة.
(13/251)
---(1/5326)
"وبسَحَرٍ" الباءُ حاليةٌ أو ظرفيةٌ. وانصرف "سَحَر" لأنه نكرةٌ، ولو قُصِدَ به وقتٌ بعينِه لمُنعَ للتعريفِ والعَدْلِ عن أل، هذا هو المشهورُ وزعم صدرُ الأفاضل أنه مبنيُّ على الفتح كأمسِ مبنياً على الكسر.
* { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ }
قوله: {نِّعْمَةً}: إمَّا مفعولٌ به، وإمَّا مصدرٌ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أو مِنْ معنى "نَجَّيْناهم" لأنَّ تَنْجِيَتَهم إنعامٌ، فالتأويلُ: إمَّا في العامل، وإمَّا في المصدر "ومِنْ عندِنا": إمَّا متعلقٌ بنعمة، وإمَّا بمحذوفٍ صفةً لها. والكاف في "كذلك" نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: مثلَ ذلك الجزاء نَجْزِي. وقرأ العامَّةُ "فَطَمَسْنا" مخففاً. وابن مقسم مُشَدَّداً على التكثيرِ لأجلِ المتعلَّق أو لشِدَّة الفعلِ في نفسِه.
* { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ }
قوله: {بُكْرَةً}: انصرفَ لأنه نكرةٌ، ولو قُصِد به وقتُ بعينه امتنع للتعريف والتأنيثِ. وهذا كما تقدَّم في "غُدْوة" ومَنَعَها زيد بن علي الصرفَ، ذَهَب بها إلى وقتٍ بعينه.
* { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }
قوله: {أَخْذَ عِزِيزٍ}: مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه.
* { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ }
و : {أَمْ يَقُولُونَ}: العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً. وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواري بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم مِنْ قوله "أكُفَّاركم" إلى آخره.
* { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }
(13/252)
---(1/5327)
والعامَّةُ على "سَيُهْزَمُ" مبنياً للمفعول. و "والجَمْعُ" مرفوعٌ به. وقُرِىء "ستَهْزِمُ" بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام، "الجمعَ" مفعولٌ به، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب "سَنَهْزِمُ" بنونِ المعظِّمِ نفسَه، و "الجمعَ" منصوبٌ أيضاً، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة "سَيَهْزِمُ" بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل، "الجمعَ" منصوبٌ، أي: سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ. "ويُوَلُّوْن" العامَّة على الغَيْبة. وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ "وتُوَلُّون" بتاء الخطاب ، وهي واضحةٌ.
والدُّبُرُ هنا: اسمُ جنسٍ. وحَسُنَ هنا لوقوعِ فاصلةً بخلافِ {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ}. وقال الزمشخري: "أي: الأدبار، كما قال:
4166 - كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعْفُّوا * ......................
وقُرىء "الإِدْبار". قال الشيخ: "وليس مثل / "بعضِ بَطْنكم" لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ "بَطْنكم".
* { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ }
قوله: {ذُوقُواْ}: على إرادةِ القولِ، وقرأ أبو عمروٍ وفي روايةِ محبوبٍ عنه "مَسَّقَر" وخَطَّأه ابن مجاهد. وهو معذورٌ لأنَّ السينَ الأخيرةَ مِنْ "مَسَّ" مُدْغَم فيها فلا تُدْغَمُ في غيرها لأنها متى أُدْغِم فيها لَزِم تحريكُها، ومتى أُدْغمت هي لَزِم سكونُها فتنافس الجَمْعُ بينهما. قال الشيخ: "والظَّنُّ بأبي عمروٍ أنه لم يُدْغِمْ حتى حَذَفَ أحد الحرفينِ، لاجتماع الأمثال ثم أَدْغم" قلت: كلامُ ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه إنه أدغم، أمَّا إذا حَذَفَ وأَدْغَمَ فلا إشكالَ.
"وسَقَر" عَلَمٌ لجهنم - أعاذَنا اللَّهُ منها - مشتقةٌ مِنْ سَقَرَتْه الشمسُ والنارُ، أي: لَوَّحَتْه ويُقال: صَقَرَتْه بالصاد، وهي مبدلَةٌ من السين لأجل القاف. قال ذو الرمة.
4167 - إذا ذابتِ الشمسُ اتَّقى صَقَراتِها * بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْبِلِ(1/5328)
(13/253)
---
"وسَقَر" متحتمُ المنعِ؛ لأن حركةَ الوسطِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلةَ الحرفِ الرابع كعَقْرب وزينب.
* { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ}: العامَّةُ على نصب "كل" على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع. وقد رَجَّحَ الناسُ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال: لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة. وذلك أنه إذا رُفع "كل شيء" كان مبتدأً "وخَلَقْناه" صفةٌ لـ"كل" أو لشيء. و "بقَدَر" خبرهُ. وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بَقَدَر، كذا قَدَّره بعضُهم. وقال أبو البقاء: "وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر". وقال مكي بن أبي طالب: "كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع "كل" كما أن الاختيارَ عندهم في قولك "زيدٌ ضربْتُه" الرفعُ، والاختبارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولِنا "زيد أكرمتُه" لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو "إنَّ" والاختيارُ عندهم النصبُ فيه. وقد أجمع القرّاءُ على النصبِ ف "كل" على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مَنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى، وإنما دلَّ النصبُ في "كلَّ" على العموم؛ لأن التقديرَ: إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ لـ"خَلَقْنا" المضمر الناصبِ لـ"كلَّ". وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ: إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ. ولا يجوز أَنْ يكون "خَلَقْناه" صفةً لـ"شيءٍ" لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ، ولا يكونان تفسيراً لِما يعملُ(1/5329)
فيما قبلهما،
(13/254)
---
فإذا لم يَبْقَ "خَلَقْناه" صفةً لم يَبْقَ إلاَّ إنه تفسراً لِما يعملُ فيما قبلهما، فإذا لم يَبْقَ "خَلَقْناه" صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب، وذلك يَدُلُّ على العموم. وأيضاً فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ "إنَّا" عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به، فالنصبُ عندهم في "كل" هو الاختيارُ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصب أَوْلى من الرفع". وقال ابن عطية: / "وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع". وقال أبو الفتح: "هو الوجهُ في العربية، وقراءتُنا بالنصب مع الجماعة". وقال الزمخشري: "كلَّ شيء" منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ. وقُرِىء "كلُّ شيءٍ" بالرفع. والقَدْر والقَدَر: التقديرُ، وقُرِىء بهما، أي: خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّراً مُحْكَماً مُرَتَّباً على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّراً مكتوباً في اللوح، معلوماً قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه" انتهى. وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع.
وقال قومٌ: إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ، ومنه هذا الموضعُ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ، وأن الخبرَ "بقدَر". وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية: فأهلُ السُّنَّة يقولون: كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رُفِع الأولُ على الابتداء. وقال القَدَرية: القَراءةُ برفع "كل" و "خَلَقْناه" في موضع الصفة لـ"كل"، أي: إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا: كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه.
(13/255)
---(1/5330)
وقال بعضُ العلماء: في القَدَر هنا وجوهٌ، أحدها: أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته. والثاني: التقديرُ كقولِهِ {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}. وقال الشاعر:
4168 - ....................... * وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ
أي: ما هو مُقَدَّر. والثالث: القَدَرُ الذي يُال مع القضاء كقولِكَ: كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله "بقَدَرٍ" على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءةِ الرفع في محلِّ رفع، لأنه خبرٌ لـ"كل" و "كل" وخبرُها في محل رفع خبراً لـ إنَّ.
* { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }
وسيأتي قريباً آيةٌ عكسَ هذه أعني في اختيار الرفع وهي قولُه {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فإنَّه لم يختلف في رفعِه قالوا لأنَّ نصبَه يُؤدَّي إلى فسادِ المعنى لأنَّ الواقعَ خلافُه، وذلك أنَّك لو نَصَبْتَه لكان التقديرُ: فعلوا كلَّ شيءٍ في الزبُر، وهو خلافُ الواقع؛ إذ في الزُّبُر أشياءُ كثيرةٌ جداً لم يفعلوها. وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتؤَدِّي أنَّ كلَّ شيءٍ فعلوه هم، ثابتٌ في الزُبُر وهو المقصود فلذلك اتُّفِقَ على رفعِه، وهذان الموضعان مِنْ نُكَتِ المسائلِ العربيةِ التي اتَّفق مجيئُها في سورةٍ واحدةٍ في مكانَيْن متقاربين ومما يَدُلُّ على جلالةِ علمِ الإِعراب وإفهامهِ المعانيَ الغامضةَ. والجاهلون لأهل العلم أعداءٌ.
* { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ }
(13/256)
---(1/5331)
وقرأ العامَّةُ "مُسْتَطَرٌ" بتخفيف التاءِ من السَّطر وهو الكَتْبُ، أي: مُكْتَتب. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وتُرْوَى عن عاصم بتشديدها. وفيه وجهان. أحدهما: أنه مشتقٌ مِنْ طَرَّ الشاربُ والنبات، أي: ظهر ونَبَتَ، بمعنى: أنَّ كلَّ شيءٍ قلَّ أو كثُر ظاهرٌ في اللوح غيرُ خفي، فوزنُه مُسْتَفْعَل كمُسْتَخْرج. والثاني: أنَّه من الاستطار، كالقراءة العامة وإنما شُدِّدَت الراءُ من أجل الوقفِ كقوله: "هذا جَعْفَرّ وفَرَجّ" ثم أُجري الوصلُ مُجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلَ كقراءة الجمهور.
* { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }
قوله: {وَنَهَرٍ}: العامةُ بالإفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ. وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة. وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ، وإنما المرادُ به سَعَةٌ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم: /
4169 - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَزْتُ فَتْقَها * يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها
أي: وسَّعْتُ. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي "ونُهُر" بضم النونِ والهاءِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو: أُسُد في أَسَد. والثاني: أن يكون جمعَ الساكنِ نحو: سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في "جنات" وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة {وَمَلاائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} بالإِفرادِ، وأنه أكثرُ مِنْ "الكتب". وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك، فعليك . . .
(13/257)
---(1/5332)
قوله تعالى {فِي مَقْعَدِ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه "في جنات" وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ، لأن المقعدَ بعضُها، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ، والأولُ أظهرُ، والعامَّةُ على إفراد "مَقْعَد" مُراداً به الجنس كما تقدَّم في "نَهَر". وقرأ عثمان البتِّي "مقاعِدِ" وهو مناسبٌ للجمع قبلَه. ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ: في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه. والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ، أي: صُدِّقوا في الإِخبار به، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ.
و "مليك" مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلأِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً، وإنْ كان قد وقع في قراةِ هشام "أَفْئِيدَةً" في آخر إبراهيم، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه.(1/5333)
سورة الرحمن
* { الرَّحْمَانُ }
قوله: {الرَّحْمَانُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: اللَّهُ الرحمنُ. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الرحمنُ ربُّنا. وهذان الوجهان عند مَنْ يرى أنَّ "الرحمن" آيةٌ مع هذا المضمرِ معه، فإنهم عَدُّوا "الرحمن" آيةً ولا يُتَصَوَّرُ ذلك إلاَّ بانضمامِ خبرٍ أو مُخْبَرٍ عنه إليه، إذ الآيةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ مفيدةً، وسيأتي ذلك في قولِه "مُدْهامَّتان". الثالث أنه ليس بآيةٍ، وأنه مع ما بعده كلامٌ واحدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه "عَلَّم القرآنَ".
* { عَلَّمَ الْقُرْآنَ }
(13/258)
قوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}: فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عَلَّم المتعديةُ إلى اثنين أي: عَرَّف، من التعليم، فعلى هذا المفعولُ الأولُ محذوف فقيل: تقديره: عَلَّم جبريلَ القرآنَ. وقيل: علَّم محمداً. وقيل: عَلَّم الإِنسانَ. وهذا أَوْلَى لعُمومِه، ولأنَّ قولَه "خَلَق الإِنسانَ" دالٌّ عليه. والثاني: أنها من العلامةِ. فالمعنى: جَعَله علامةً وآيةً يُعْتنى بها.
وهذه الجملُ التي جيْءَ بها من غيرِ عاطفٍ لأنها سِيْقَتْ لتعديدِ نعمةٍ كقولك: فلانٌ أَحْسَنَ إلى فلانٍ: أكرمه، أشاد ذِكْرَه، رَفَعَ مِنْ قَدْرِه، فلشِدَّةِ الوصلِ تَرَكَ العاطفَ. والظاهر أنها أخبارٌ. وقال أبو البقاء: و "خَلَق الإِنسان" مستأنفقٌ وكذلك "عَلَّمه" يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الإِنسان مقدرةً و "قد" معها مرادةٌ". انتهى. وهذا ليس بظاهرٍ بل الظاهرُ ما قدَّمتهُ ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه: فإن قيل: لِمَ قَدَّم تعليمَ القرآنِ للإِنسان على خَلْقِه وهو متأخرٌ عنه في الوجودِ؟ قيل: لأنَّ التعليمَ هو السببُ في إيجادِه وخَلْقِه.
* { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }
قوله: {بِحُسْبَانٍ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن "الشمس" مبتدأ و "بحُسْبان" خبرُها على حَذْفِ مضافٍ تقديره: جَزْيُ الشمس والقمر بحُسْبانٍ، أي: كائن أو مستقر أو استقرَّ بحُسْبان. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديره: يَجْريان بحسبان، وعلى هذين القولَيْن فيجوز في الحُسْبان وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مفردٌ بمعنى الحُسْبان، فيكونُ كالشُّكران والكُفْران. والثاني: أنه جمعُ حِساب كشِهاب وشُهْبان. / والثالث: أنَّ الحُسْبَانَ خبرُه، والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في، أي: كائنان في حُسْبان، وحُسْبان، وحُسْبان على هذا اسمٌ مفرد، اسمٌ للفَلَكِ المستدير، شَبَّهه بحُسْبان الرَّحى الذي باستدارته تستدير الرحى، قاله مجاهد.
* { وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }(1/5334)
(13/259)
---
قوله: {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا}: العامَّةُ على النصب على الاشتغال مراعاً لعَجُزِ الجملةِ التي يُسَمِّيها النحاةُ ذاتَ وجهين. وفيها دليلٌ لسيبويه حيث يُجَوِّزُ النصبَ، وإنْ لم يكنْ في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ عائدٌ على المبتدأ الذي تضمَّنَتْه الجملةُ ذات الوجهين. والأخفشُ يقول: لا بُدَّ من ضميرٍ، مثالُه: "هند قامَتْ وعمراً أكرمْتُه لأجلها" قال: "لأنك راعَيْتَ الخبرَ، وعَطَفْتَ عليه، والمعطوفُ على الخبرِ خبرٌ فيُشْترط فيه ما يُشْترط فيه، ولم يَشْتَرِطِ الجمهورُ ذلك وهذا دليلُهم، قال الفراء: "كلهم نَصَبُوا مع عدم الرابط إلاَّ شذَّ منهم. وقد تقدَّمَ هذا محرراً في سورة يس عند قولِه تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} فهناك اختلف السبعةُ في نَصْبِه ورفعِه ولله الحمدُ.
قوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} العامَّةُ على "وَضَع" فعلاً ماضياً. و "الميزانَ" نُصِبَ على المفعولِ به. وقرأ إبراهيم. "ووَضْعَ الميزانِ" بسكون الضاد وخفض "الميزانِ". وتخريجُها: على أنه معطوفٌ على مفعولِ "رَفَعَها"، أي: وَرَفَعَ وَضْعَ الميزان، أي: جَعَلَ له مكانةً ورِفْعَةً لأَخْذِ الحقوق به، وهو مِنْ بديعِ اللفظِ، حيث يصير التقديرُ: ورَفَعَ وَضْعَ الميزان.
(13/260)
---(1/5335)
وقال الزمخشري: "فإن قلتَ: كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت: بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتْ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ [عليه] من الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلأُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ. فإنْ قلت: أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت: إن الشمسَ والقمرَ سماوين، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللَّهِ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ".
* { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }
قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ}: في "أنْ" هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها الناصبةُ، و "لا" بعدها نافيةٌ، و "تَطْغَوْا" منصوبٌ بـ"أنْ"، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً، تتعلَّقُ بقولِه: "ووَضَع الميزانَ" التقدير: لئلا تَطْغَوا، وهذا بَيِّنٌ. وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وعلى هذا تكونُ "لا" ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول، وليسَتْ موجودةً. قلت: وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال: "وأَنْ بمعنى أَيْ، والقولُ مقدَّرٌ"ن فجعل الشيءَ المفسَّرَ بـ"أَنْ" مقدَّراً لا ملفوظاً بها، إلاَّ أنه قد يُقال: قولُه / "والقولُ مقدرٌ" ليس بجيدٍ، لأنها لا تُفَسِّرُ القولَ الصريحَ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فصْلاحُه أَنْ يقولَ: وما هو بمعنى القول مقدرٌ.
ان
* { وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }
(13/261)
---(1/5336)
قوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ}: العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ، أي: نَقَصَ كقولِه: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}. وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً. يقال: خَسِر الميزانَ وأخسَره، بمعنىً واحدٍ نحو: جَبَر وأَجْبَر. ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره: ولا تَخْسَروا في الميزان. ذكره الزمخشري وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: "لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ "خَسِرَ". قلت: وهذا ليس مِنْ ذاك. ألا ترى أنَّ "خَسِروا أنفسَهم". و "خَسِر الدنيا والآخرةَ" معناه: أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما، وأنَّما معدومان. وهذا المعنى ليس مُراداً في الآيةِ قطعاً، وإنما المرادُ: لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان. وقُرِىء "تَخْسُروا" بفتح التاء وضمِّ السينِ. قال الزمخشري: "وقُرِىء ولا تَخْسروا بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها. يقال: خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره. وأمَّا الفتحُ: فعلى أنَّ الأصلَ "في الميزان" فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه" وكَرَّر لفظ الميزان، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقولِه:
4170 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
* { وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }
قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا}: كقولِه: {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا}. وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدأً. و "للأَنام" عليةٌ للوَضْع. والأَنام. قيل: الحيوان. وقيل: بنوا آدمَ خاصةً. وقيل: هم الإِنسُ والجنُّ، ووزنُه فَعال كقَذال، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة: امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة: على أُنُم، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل.
* { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ }
(13/262)
---(1/5337)
قوله: { فِيهَا فَاكِهَةٌ}: يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالاً من الأرض، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ. ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ، و "فاكهةٌ" رَفْعٌ بالفاعليَّةِ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى، والأَكْمام: جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة.
* { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ }
(13/263)
---(1/5338)
قوله: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}: قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصُّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو الأرض. قال مكي: "لأنَّ قولَه "والأرضَ وَضَعَها"، أي: خلقها، فعطف "الحَبَّ على ذلك". الثالث: أنَّه منصوبٌ بـ"خَلَق" مضمراً، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: "أو وخَلَقَ الحَبَّ" وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ "ذا" بالألف. وجَوَّزوا في "الرَّيْحان" أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ / المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه كـ{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ "الرَّيْحان" عطفاً على "العَصْفِ"، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة، أي: وفيها أيضاً هذه الأشياءُ. ذكر أولاَّ ما يتلذَّذُون به من الفواكهة، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ. ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضاً، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُفِعلَ به ما تقدَّم.
والعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن "العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع" وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: "سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه"، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ.
(13/264)
---(1/5339)
وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: "فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في "أَشاورى". والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي: "ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ". ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قا: "وقال بعضُ الناسِ" فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.
* { فَبِأَيِّ آلااءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
قوله: {فَبِأَيِّ}: متعلقٌ بـ"تُكذِّبان" والعامَّةُ على إضافة "أيّ" إلى الآلاء. وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ "أيّ" وتخريجُها. على أنه قَطَع أيَّاً عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر، ثم أَبْدَل منه "آلاء ربِّكما" بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ. وتقدَّم الكلامُ في "الآلاء" وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد. والخطابُ في "رَبِّكما" قيل: للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور. وقيل: للذكر والأنثى. وقيل: هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ، كقولِه تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وقولِ الخبيث الثقفي: "يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه" وقد تقدَّم ما فيه. و "كالفَخَّار" نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه.
* { وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ }
والجانُّ قيل: هو اسم جنس كالإِنسان. وقيل: هو أبو الجنِّ إبليسُ. وقيل: هو أبوهم وليس بإبليسَ.
(13/265)
---(1/5340)
قوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } "مِنْ" الأولى لابتداء الغاية. وفي الثانيةِ وجهان، أحدهما: أنها للبيانِ. والثاني: أنها للتبعيض. والمارِجُ قيل: ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأًفَر وأخضرَ، وهذا مُشاهَدٌ في النار، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطاً بعضُها ببعض. وقيل: الخالِصُ. وقيل: الأحمرُ. وقيل: الحُمْرَةُ في طرفِ النار. وقيل: المختلطُ بسواد. وقيل: الخالصُ. وقيل: اللهبُ المضطربُ. و "مِنْ نار" نعتٌ لـ"مارج". وقوله: فبأيِّ" إلى آخره. توكيدٌ وتكريرٌ، كما تقدَّم في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} وكقولِه فيما سيأتي: {َوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ.
* { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ }
(13/266)
---(1/5341)
قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ}: العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه "مَرَج البحرَيْن" وما بينهما / اعتراضٌ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هوَ رَبُّ أي: ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في "خَلَق". وابن أبي عبلة "ربِّ" بالجر بدلاً أو بياناً لـ"ربِّكما". قال مكي: "ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ "ربِّكما" كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءةٌ منقولةٌ والمَشْرقان، قيل: مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما. وقيل: مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما. وقيل: مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها. قال الشيخ: "وعن عباس: للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة". وقال الشيخ: "فالمشرقان والمغربان للشمس" قلت: وهذا هو القولُ الذي يقول: مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما، فهو داخلٌ في أحدِ القولَيْن المذكورَيْن ضرورةً.
* { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ }
(13/267)
---(1/5342)
قوله: {يَلْتَقِيَانِ}: حالٌ من "البحرَيْنِ" وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ. ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً. و "بينهما بَرْزَخٌ" يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ. والبَرْزَخ: فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد. وفي صاحبِ الحال وجهان، أحدُهما: هو "البحرَيْن"، والثاني: هو فاعلُ "يَلْتقيان" ولا يَبْغِيان" حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي: مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن، أو يلتقيان يغرَ باغيين، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما. وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى: لئلا يَبْغِيا. وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال: أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا، ثم حَذَفَ حرفَ العلة، وهو مُطَّرِدٌ مع "أَنْ" و "أَنَّ"، ثم حُذِفَتْ "أَنْ" أيضاً وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} فلمَّا حُذِفَتْ "أَنْ" ارتفع الفعلُ، وهذا غيرُ ممنوعٍ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ، وله أَنْ يقولَ: قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا، كما تقدَّم في {قَابَ قَوْسَيْنِ}، وكما سيأتي في قولِه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}
* { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }
قوله: {يَخْرُجُ}: قرأ نافع وأبو عمرو "يُخْرَج" مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعل على المجاز. قالوا: وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ احدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من الحبرِ العَذْبِ، حتى عابُوا قولَه:
4171 - فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ * على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ
(13/268)
---(1/5343)
قال مكي: "كما قال تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أي: مِنْ إحدى القريَتيْن، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ" وقيل: هو كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما الناسِي فتاه، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة. وقيل: يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ، ومن الآخر المَرْجانُ. وقيل: بل يَخْرجان منهما جميعاً، ثم ذكروا تأويلَ منها: أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين، وهو قولُ الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما. ومنها قولُ ابنِ عباس: تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ. ومنها: أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال: الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى. ومنها أنه قيل "منهما" من حيث هما نوعٌ واحدٌ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وإنما هو في واحدةٍ منهن.
وقد الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِمَ قال "منهما" وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت: لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال: يَخْرجان منهما، كما يقال: يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه. وتقول: خَرَجْتُ من البلد، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره. وقيل: لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب" انتهى. وقال بعضُهم: كلامُ الله أَوْلى بالاعتبار من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون.
(13/269)
---(1/5344)
واللؤلؤ قيل: / كبارُ الجوهر. والمَرْجانُ صغاره، وقيل بالعكس، وأنشدوا قولَ الأعشى:
4172 - مِنْ كلِّ مَرْجانةٍ في البحرِ أَحْرَزها * تَيَّارُها ووقاها طِيْنَها الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤةَ الكبيرةَ. وقيل: المَرْجان حجرٌ أحمرٌ. وقيل: حجرٌ شديد البياض، والمَرْجانُ أعجميُّ. قال ابن دريرد: "لم أسمَعْ فيه فعلاً متصرفاً. واللؤلؤ بناءٌ غريبٌ، لم يَرِدْ على هذه الصيغة إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ.
اللُّؤلُؤ، والجُؤْجُؤ وهو الصَّدْر، والدُّؤْدُؤُ، واليُؤْيُؤُ لطائر، والبُؤْبؤ بالموحَّدتين، وهو الأصلُ. واللؤلؤُ بضمتين والهمز هو المشهورُ، وإبدال الهمزةِ واواً شائعٌ فصيحٌ وقد تقدَّم ذلك.
وقرأ طلحة "اللُّؤْلِىءُ" بكسر اللام الثالثة، وهي لغةٌ محفوظةٌ. ونَقَل عنه أبو الفضلِ "اللُّؤْلِىءُ" بقَلْبِ الهمزة الأخيرة ياءً ساكنة كأنه لَمَّا كسَر ما قبل الهمزة قلبها ياءً استثقالاً. وقرأ أبو عمرو في رواية "يُخْرِجُ" أي الله تعالى. ورُوِي عنه أيضاً وعن ابن مقسم "نُخْرِجُ" بنون العظمة. واللؤلؤُ والمَرْجان في هاتين القراءتَيْن منصوبان.
* { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ }
قوله: {الْجَوَارِ}: العامَّة على كسرِ الراء لأنه منقوصٌ على مَفاعِل، والياءُ محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين. وقرأ عبد الله والحسن - وتُروَى عن أبي عمروٍ - "الجَوارُ" برفع الراء تناسياً للمحذوف ومنه:
4173 - لها ثنايا أربعٌ حِسانُ * وأربعٌ فثَغْرُها ثَمانُ
(13/270)
---(1/5345)
وهذا كما قالوا: "هذا شاك" وقد تقدَّم تقريرُ هذا في الأعراف عند قولِه: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} قوله: {الْمُنشَئَاتُ} قرأ حمزةُ وأبو بكر بخلافٍ عنه بكسرِ الشينِ بمعنى: أنها تُنْشِىء الموجُ بجَرْيِها، أو تُنْشِىء السيرَ إقبالاً وإدباراً، أو التي رَفَعَتْ شُرُعَها أي: قِلاعَها. والشِّراع: القِلْع. وعن مجاهد: كلما رَفَعتْ قِلْعَها فهي من المُنْشَآت، وإلاَّ فليسَتْ منها. ونسبةُ الرَّفْع إليها مجازٌ كما يقال: أنْشَأْتِ السحابةُ المطرَ. والباقون بالفتح وهم اسمُ مفعول أي: أنشأها اللَّهُ أو الناسُ، أو رفعوا شُرُعَها. وقرأ ابن أبي عبلة "المُنَشَّآت" بتشديد الشين مبالغةً. والحسنُ "المُنْشات" بالإِفراد، وإبدالِ الهمزة ألفاً وتاءٍ مجذوبة خَطَّأً فأْفَردَ ثقةً بإفهام الموصوف الجمعيةَ، كقولِه {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} وأمَّا إبدالُه الهمزةَ ألفاً، وإن كان قياسُها بينَ بينَ فمبالَغَةٌ في التخفيف، كقوله:
4174 - إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا في مَرابِضِها * .............................
أي: لتهدَأ. وأمَّا كَتْبُها بالتاءِ المجذوبة فإتباعاً للفظها في الوصلِ. و "في البحر" متعلقٌ بالمُنْشِئات أو المنشَآت. ورسمُه بالياء بعد الشين في مصاحفِ العراقِ يُقَوِّي قراءةَ الكسرِ ورَسْمُه بدونِها يُقَوِّي قراءةَ الفتح، وحَذَفُوا الألفَ كا تُحْذَفُ في سائر جميع المؤنث السالم. و "كالأَعْلام" حالٌ: إمَّا من المضيرِ المستكنِّ في "المُنْشَآت"، وإمَّا مِنْ "الجوار" وكلاهما بمعنىً واحد. والأَعلام: الجبالُ جمعُ عَلَم. قال:
4175 - رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَم * تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
* { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }
(13/271)
---(1/5346)
وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}: غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ على غيره، وجميعُهم مُرادٌ. والضميرُ في "عليها" للأرضِ. قال بعضُهم. "وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ كقولِه: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. وقد رُدَّ على هذا القائلِ وقالوا: بل تَقَدَّم ذِكْرُها في قولِه: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا}
* { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }
قوله: {ذُو الْجَلاَلِ}: العامَّةُ على "ذو" بالواو صفةً للوجه. وأبَيٌّ وعبدُ الله "ذي" بالياءِ صفةً لـ"ربِّك" وسيأتي خلافٌ بين السبعةِ في آخر السورة إنْ شاءَ الله تعالى.
* { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }
قوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ}: فيه وجهان: أحدهما: هو مستأنفٌ. والثاني: انه حالٌ مِنْ "وَجْه" والعاملُ فيه "يَبْقَى أي: يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السمواتِ والأرضِ.
قوله: {كُلَّ يَوْمٍ} منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه "في شَأْنٍ" والشَّأْنُ: الأَمْرُ.
* { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ }
(13/272)
---(1/5347)
قوله: {سَنَفْرُغُ}: قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي: سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى. والباقون من السبعة بنون العظمة، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ. وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ، وتحتمل وجهَيْن، أحدهما: أَنْ تكونْ مِنْ فَزَعَ بفتحِ الراء في الماضي، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ. والثاني: أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ، فيكون هذا مضارعه / وهذه لغةُ تميمٍ. وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال "سَنِفْرَغُ" بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ "سَنِفْرَغُ" بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ. وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء. والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء. ورُوي عن أبي عمروٍ. وقد تقدَّم قراءةُ "أيها" في النور. والفَراغُ هنا استعارةٌ. وقيل: هو القَصْد. وأُنْشِد لجرير:
4176 - ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ * فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
وأنشد الزجاج:
4177 - ............................. * فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ "سَنَفْرُغُ إليكم" أي: سَنَقْصِدُ إليكم. والثَّقَلان: الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ. وقيل: لثِقَلِهم بالذنوب وقيل: الثَّقَلُ: الإِنسُ لشَرَفَهم. وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة. والثَّقَل. العظيم الشريف. وفي الحديث: "إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي
"
* { يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }
(13/273)
---(1/5348)
قوله: {فَانفُذُواْ}: فأمرُ تعجيزٍ: والنُّفوذُ: الخروج بسرعة وقد تقدَّم في أولِ البقرة: أنَّ ما فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ يَدُلُّ على الخروج كنَفَق ونَفَرَ. و "إلاَّ بسُلْطان" حالٌ أو متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه. وقرأ زيد بن علي "إنْ اسْتَطَعْتما" خطاباً للثَّقَلَيْن، وحَقُّه أَنْ يمشيَ على سَنَنٍ واحدٍ فيَقْرأَ "أنْ تَنْفَذا، لا تنفُذان" والعامَّةُ جعلوه كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} إذ تحت كلِّ واحدٍ أفرادٌ كثيرةٌ وقد رُوْعي لفظُ التثنية في قوله بعدُ: "يُرْسَلُ عليكما" فلا تبعدُ قراءةُ زيدٍ.؟
* { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }
قوله: {شُوَاظٌ}: قرأ ابن كثير بكسر الشين. والباقون بضمِّها، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ. والشُواظُ: قيل: اللَّهَبُ معه دُخانٌ. وقيل: بل هو اللهبُ الخالِصُ. وقيل: اللَّهَبُ الأحمرُ. وقيل: هو الدخانُ الخارجُ مِن اللهَب. وقال رؤبة:
4178 - ونارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظا
وقال حسان:
4179 - هَجَوتُكَ فاخْتَضَعْتَ لها بذُلٍّ * بقافِيَة تَأَجَّجُ كالشُّواظِ
و "يُرْسَلُ" بمنيٌّ للمفعولِ؛ وهو قراءةُ العامَّةِ. وزيد بن علي "نُرْسِلُ" بالنونِ، "شواظاً ونُحاساً" بالنصب. و "مِنْ نار" صفةٌ لشواظ أو متعلِّقٌ بـ"يُرْسَلُ".
قوله: "ونُحاس" قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ بجرِّه عطفاً على "نارٍ"، والباقون برفعِه عطفاً على "شُواظ". والنحاس قيل: هو الصُّفْرُ المعروفُ، يذيبه اللَّهُ تعالى ويُعَذِّبهم به. وقيل: الدخان الذي لا لَهَبَ معه. قال الخليل: وهو معروفٌ في كلامِ العرب، وأنشد للأعشى:
4180 - يُضيْءُ كضَوْءِ سراجِ السَّلِيْـ * ـــطِ لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا
(13/274)
---(1/5349)
وتُضَّمُّ نونُه وتُكْسَرُ، وبالكسرِ قرأ مجاهد وطلحة والكلبي. وقرأ ابن جندب "ونَحْسٌ" كقولِه: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} وابن أبي بكرة وابن أبي إسحاق "ونَحُسُّ" بضم الحاء والسين مشددةً من قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي: ونقتلُ بالعذاب. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً "ونَحُّسٍ" بضمِّ الحاء وفتحِها وكسرِها، وجرِّ السين. والحسن والقاضي.
"ونُحُسٍ" بضمتين وجرِّ السين. وتقدَّمَتْ قراءةُ زيدٍ "ونُحاساً" بالنصبِ لِعَطْفِه على "شواظاً" في قراءته.
* { فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ }
قوله: {فَإِذَا انشَقَّتِ}: جوابُه مقدرٌ أي: رأيت هَوْلاً عظيماً، أو كان ما كان.
قوله: {وَرْدَةً} أي: مثلَ وَرْدَةٍ فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تُشَمُّ، شَبَّهها بها في الحُمْرة، وأنشد:
4181 - فلو كُنْتُ وَرْداً لَوْنُه لعَشِقْنَني * ولكنَّ ربي شانَني بسَواديا
وقيل: هي من لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْد، وإنما أُنِّثَ لكونِ السماءِ مؤنثةً. وقال الفراء: "أراد لونَ الفرسِ الوَرْدِ، يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي اشتدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرة، فشبَّه تلوُّنَ السماءِ بتلَوُّنِ الوَرْدَةِ من الخيل". وقرأ عبيد بن عمير "وَرْدَةٌ" بالرفع. قال الزمخشري: "بمعنى: فَحَصَلَتْ سماءٌ وردةٌ، وهو من الكلام الذي يُسَمَّى التجريدَ، كقوله:
4182 - فَلَئِنْ بَقِيْتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوةٍ * تَحْوِي الغنائمَ أو يموتُ كريمُ
قوله: {كَالدِّهَانِ} يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ نعتاً لوردة. وأَنْ يكونَ حالاً من اسم "كانت". وفي "الدِّهان" قولان، أحدُهما: أنه جمعُ دُهْن نحو: قُرْط وقِراط، ورُمْح ورِماح، وهو في معنى قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، فقال الزمخشري: "اسمُ ما يُدْهَنُ به كالجِزام والإِدام وأنشد:
(13/275)
---(1/5350)
4183 - كأنَّهما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ * فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنا بدِهان
/ وقال غيرُه: هو الأديمُ الأحمرُ، وأنشد للأعشى:
4184 - وأَجْرَدَ مِنْ كِرامِ الخَيْلِ طِرْفٍ * كأنَّ على شَواكِله دِهانا
أي: أديماً أحمرَ، وهذا يَحْتمل أنْ يكونَ جمعاً. ويؤيِّده ما أنشده منذرُ بنُ سعيد:
4185 - يَبِعْنَ الدِّهانَ الحُمْرَ كلَّ عَشِيَّةٍ * بموسِمِ بَدْرٍ أو بسُوْقِ عُكاظِ
فقوله "الحُمْرَ" يؤيِّدُ كونَّه جمعاً، وقد يُقال: هو كقولِهم: "أهلك الناسَ الدنيارُ الحُمْرُ والدرهمُ البِيْضُ"، إلاَّ أنَّه خِلافُ الأصلِ. وقيل: شُبِّهَتْ بالدِّهانِ، وهو الزَيْتُ لذَوْبِها ودَوَرانِها، وقيل: لبَريقِها.
* { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }
قوله: {فَيَوْمَئِذٍ}: التنوينُ عِوَضٌ من الجملةِ، أي: فيومَ إذ انشَقَّت السَّماءُ. والفاء في "فيومئذٍ" جوابُ الشرط. وقيل: هو محذوفٌ، أي: فإذا انشَقَّتِ السماءُ رَأَيْتُ أَمْراً مَهُولاً، ونحون ذلك. والهاءُ في "ذَنْبه" [تعودُ على أحد المذكورِيْن]. وضميرُ الآخرِ مقدرٌ، أي: ولا يُسْأَل عن ذنبِه جانٌّ أيضاً. وناصبُ الظرفِ "لا يُسأَلُ" و "لا" غيرُ مانعةٍ. وقد تقدَّم خلافُ الناسِ فيها في الفاتحة. وتقَدَّمَتْ قراءة "جأَنّ" بالهمز فيها أيضاً.
* { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }
وقرأ حماد بن أبي سليمان "بسِيْمائِهم" بالمدِّ. وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آخر البقرة.
(13/276)
---(1/5351)
قوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي} "يُؤْخَذُ" متعدٍّ، ومع ذلك تَعَدَّى بالباء؛ لأنه ضُمِّنَ معنى يُسْحَبُ، قاله الشيخ. وسحب إنما يُعَدَّى بـ"على" قال تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} فكان يَنْبغي أَنْ يقولَ: ضُمِّنَ معنى يُدَعُّوْن، أي: يُدْفَعون. وقال مكي: "إنما يُقال: أَخَذْتُ الناصِيةَ وأخَذْتُ بالناصية. ولو قلت: أَخَذْتُ الدابَّةَ بالناصيةِ لم يَجُزْ. وحُكي عن العرب: أَخَذْتُ الخِطامَ، وأَخَذْتُ بالخِطام بمعنى. وقد قيل: إنَّ تقديرَه: فيُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ بالنَّواصي، وليس بصوابٍ، لأنه لا يَتَعَدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بالباء، لِما ذكَرْنا. وقد يجوز أَنْ يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بحرفِ جرّ غيرِ الباء نحو: أَخَذْتُ ثوباً من زيد.
فهذا المعنى غيرُ الأولِ، فلا يَحْسُن مع الباء مفعولٌ آخرُ، لاَّ أَنْ تجعلَها بمعنى: مِنْ أَجْل، فيجوزُ أن تقولَ: أَخَذْتُ زيداً بعمروٍ، أي: مِنْ أجلِه وبذنبِه" انتهى. وفيما قاله نَظَرٌ، لأنك تقولُ: أَخَذْتُ الثوبَ بدرهمٍ، فقد تعدَّى بغير "مِنْ" أيضاً بغير المعنى الذي ذكره.
وأل في النواصي والأقدام ليسَتْ عِوَضاً مِنْ ضمير عند البَصْريين فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عِوَضٌ. والنَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرأسِ. وقد تقدَّم هذا مستوفى في هود. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "ما لكم لا تَنْصُون مَيِّتكم"، أي: لا تَمُدُّون ناصِيته. والنَّصِيُّ مَرْعى طيب. وقولهم: "فلانٌ ناصيةُ القوم" يُحتمل أن يكونَ من هذا، يَعْنون أنه طيب مُنْتَفَعٌ به، أو مثلَ قولِهم: هو رأسُ القوم.
* { هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ }
(13/277)
---(1/5352)
قوله: {هَاذِهِ جَهَنَّمُ}: أي: يُقال لهم و "آن" بمعنى: حار متناهٍ في الحرارة، وهو منقوصٌ كقاضٍ يُقال: أنى يَأْني فهو آن كقَضى يَقْضي فهو قاضٍ. وقد تَقَدَّمَ في الأحزاب. والعامَّةُ يَطوفون مِنْ طاف. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن "يُطافُون" مبنياً للمفعول، مِنْ أطافهم غيرُهم. والأعمش وطلحة وابن مقسم "يُطَوِّفُون" بضمِّ الياء وفتح الطاءِ وكسرِ الواوِ مشددةً، أي: يُطَوِّفُون أنفسَهم. وقرأت فرقةٌ "يَطَّوَّون" بتشديد الطاء والواو. والأصلُ: يتطَوَّفون.
* { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }
قوله: {مَقَامَ رَبِّهِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ مكاناً. فإِنْ كان مصدراً، فيُحْتمل أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه، أي: قيامَ ربِّه عليه وحِفْظَه لأعمالِه مِنْ قولِه: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ويُرْوَى هذا المعنى عن مجاهد، وأن يكونَ مضافاً لمفعولِه والمعنى: القيام بحقوق الله فلا يُضَيِّعُها. وإنْ كان مكاناً فالإِضافةُ بأَدْنى مُلابسة لَمَّا كان الناسُ يقومون بين يَدَيِ اللّهِ تعالى للحاسب في عَرَصات القيامة. قيل: فيه مَقامُ الله. والظاهرُ أن الجنَّتَيْن لخائفٍ واحدٍ. وقيل: جنةٌ لخائفِ الناسِ، وأُخرى لخائفِ الجنِّ، فيكون من بابِ التوزيعِ. وقيل "مَقام" هنا مُقْحَمٌ والتقدير: ولِمَنْ خاف ربَّه وأنشد:
4186 - .................... ونَفَيْتُ عنه * مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللعينِ
أي: نَفَيْتُ الذئبَ، وليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الاسمِ ليسَتْ بالسهلة.
* { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ }
قوله: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ}: صفةٌ لـ جَنَّتان، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هما ذواتا. وفي تثنية "ذات" لغتان: الردُّ إلى الأصلِ، فإنَّ أصلَها "ذَوْيَة" فالعينُ واوٌ، واللامُ ياءٌ، لأنَّها مؤنثةُ ذو. والثانية: التثنيةُ على اللفظِ فيُقال: ذاتا.
(13/278)
---(1/5353)
والأَفْنان: فيه وجهان، أحدُهما: أنه جمعُ فَنَن كطَلَل وهو الغُصْنُ. قال النابغة الذبياني:
4187 - بكاءَ حمامةٍ تَدْعو هَدِيلاً * مُفَجَّعةٍ على فَنَنٍ تُغَنِّي
وقال آخر:
4188 - رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ بالضُّحى * ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر:
4189 - ............................ * على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
والثاني: أنه جمعُ فَنّ كدَنّ، وإليه أشار ابنُ عباس. والمعنى: ذواتا أنواعٍ وأشكالٍ. وأنشدوا:
4190 - ومِنْ كلِّ أفنانِ اللَّذاذَةِ والصِّبا * لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ ناضِرُ
إلاَّ أنَّ الكثيرَ في "فَنّ" أَنْ يُجْمع على "فُنون".
* { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }
قوله: {مُتَّكِئِينَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ "مَنَ" في قولِه: "ولِمَنْ خافَ"، وإنَّما جُمعَ حَمْلاً على معنى "مَنْ" بعد الإِفراد حَمْلاً على لفظها. وقيل: حالٌ عامِلُها محذوفٌ أي: يَتَنَعَّمون مُتَّكئين. وقيل: منصوبٌ على الاختصاصِ. والعامَّةُ على "فُرُش" بضمَّتين. وأبو حيوة بضمةٍ وسكونٍ وهي تخفيفٌ منها. /
(13/279)
---(1/5354)
قوله: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. والظاهر أنَّها صفةٌ لـ"فُرُش". و "مِنْ إستبرق" قد تَقَدَّم الكلام في الاستبرق وما قيل فيه في سورة الكهف. وقال أبو البقاء هنا: "أصلُ الكلمةِ فِعْلٌ على اسْتَفْعَلَ فلمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ همزتُه. وقيل: هو أعجميُّ. وقرِىء بحَذْفِ الهمزةِ وكسر النونِ، وهو سَهْوٌ؛ لأنَّ ذلك لا يكون في الأسماءِ بل في المصادرِ والأفعال". انتهى. أمَّا قولُه "وهو سهوٌ لأن ذلك لا يكون" إلى آخرِه، يَعْني أنَّ حَذْفِ الهمزةِ في الدَّرْجِ لا يكونُ إلاَّ في الأفْعال والمصادرِ، وأمَّا الأسماءُ فلا تُحْذَفُ هَمَزاتُها لأنَّها هَمَزات قَطْعٍ. وهذا الكلامُ أحقُّ بأن يكونَ سَهْواً؛ لأنَّا أولاً لا نُسَلِّمُ أنَّ هذه القراءةَ مِنْ حَذْفِ همزةِ القطعِ إجراءً لها مُجْرى همزةِ الوَصْلِ. وإنَّما ذلك مِنْ بابِ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلَها، وحركةُ الهمزةِ كانَتْ كسرةً فحركةُ النونِ حركةُ نَقْلِ لا حركةُ التقاءِ ساكنين. ثم قولُه: "إلاَّ في الأفعال والمصادرِ" ليس هذا الحصرُ بصحيح اتفاقاً لوجودِ ذلك في أسماءٍ عشرةٍ ليسَتْ بمصادرَ، ذكرْتُها في أولِ هذا الموضوع.
قوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مبتدأٌ وخبرٌ. ودانٍ أصلهُ دانِوٌ مثلَ غازٍ، فأُعِلَّ كإِعلالِه. وقرأ عيسى بن عمر "وجَنِيَ" بكسر النون. وتوجيُها: أن يكونَ أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف الألف لالتقاءِ السَّاكنين، وأبقى إمالة النون فَظُنَّتْ كسرةً. وقُرِىء "وجِنَى" بكسر الجيم، وهي لغة. والجَنى: ما يُقْطَفُ من الثمار. وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض والنَقَص.
* { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ }
(13/280)
---(1/5355)
قوله: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}: اختُلِفَ في هذا الضمير، فقيل: يعود على الجنات، فيقال: كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِى بضمير جَمْع؟
فالجوابُ: أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها. وإمَّا أن يقالَ: عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين، وإمَّا أَنْ يقالَ: إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة. وقيل: يعودُ على الفُرُش. وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ.
وقال الزمشخري: "فيهِنَّ: في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى". قال الشيخ: "وفيه بُعْدٌ" وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال: على الفِراش كذا، ولا يقال: في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ: "فيهن" بحرف الظرفيَّة، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها. وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ. وقال الفراء: "كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ: فيهِنَّ، والقاصِراتُ: الحابساتُ الطرفِ، أي: أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن. ومعناه: قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ. قال امرؤ القيس:
4191 - مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ * من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
وقاصراتُ الطرفِ: مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال: قَصَرَ طَرْفَه على كذا وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به، أي: على أزواجِهِنَّ، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: المعنى: قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ، أي: إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ.
(13/281)
---(1/5356)
قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ، كقولِه {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} و [وقوله]:
4192 - يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ * ............................
وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة. واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ: فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ - في ضَمِّ أيِّهما شاءَ - القارىءَ. ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط، وهما لغتان. يُقال: طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها. وأصلُ الطَّمْثِ: الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع: طَمْثٌ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ. وقيل: الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع. وقيل: الطَمْثُ المَسُّ الخاص. وقرأ الجحدري "يَطْمَثْهُنَّ" بفتح الميم في الحرفَيْن، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ. والضميرُ في "قبلَهُمْ" عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه "قاصراتُ الطَّرْفِ" أو الدالِّ عليه "مُتَّكئين".
* { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ }
قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ}: هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون نعتاً لقاصِرات، وأن تكونَ حالاً منها. ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه. والمَرْجان لقاصِرات، وأن تكونَ حالاً منها. ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه. والمَرْجان تقدَّم ما هو؟ والياقوتُ: جوهرٌ نفيسٌ. يُقال: إن النارَ لم تُؤَثِّرْ فيه، ولذلك قال الحريري:
4193 - وطالما أُصْلِيَ اليقاوتُ جَمْرَ غَضَا * ثم انْطفا الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ
أي: باقٍ على حالِه لم يتأثَّرْ بها. ووجهُ التشبيهِ كما قال الحَسَنُ. في صفاءِ الياقوتِ / وبياضِ المَرْجان. وهذا على القول بأنه أبيضُ وقد تقدَّم، وقيل: الوجهُ في . . . ونفاسَتِهما ولذلك سَمَّوْا بمَرْجانة ودُرَّة وشبهِ ذلك.
(13/282)
---(1/5357)
* { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ }
وقرأ ابن أبي إسحاق "إلاَّ الحِسانُ"، أي: إلاَّ الحُوْرُ الحِسان.
* { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }
قوله: {وَمِن دُونِهِمَا}: أي: مِنْ دونِ تَيْنَكَ الجَنَّتَيْن المتقدِّمتين: جَنَّتان في المنزلةِ وحُسْنِ المنظرِ. وهذا على الظاهر مِنْ أنَّ الأُوْلَيَيْنِ أفضلُ من الأُخْرَيَيْنِ. وقيل بالعكس، ورَجَّحه الزمخشري.
* { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }
والنَّضْخُ: فوق النَّضْحِ بالحاءِ، لأنَّ النَّضْحَ بالحاءِ: الرَّشُّ والرَّشْحُ، والنَّضْخُ بالخاء: فَوَرانُ الماء. والادْهِيْمامُ: السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر، ولذلك قالوا: "سوادُ العراق" لكثرةِ شَجَره وزروعِه.
* { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }
قوله: {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}: استدلَّ بعضُهم بها على أنهما ليسا من الفاكهة لاقتضاءِ العطفِ المغايرة. فلو حَلَفَ: "لا يأكلُ فاكهةً" لم يَحْنَثْ بأَكْلهما. وبعضُهم يقول: هو من باب ذِكْر الخاص بعدج العام تفصيلاً له كقولِه: {وَمَلاائِكَتِهِ} ثم قال: "وجبريلَ وميكَال" وهو تَجَّوُّزٌ؛ لأنَّ فاكهة ليس عامَّاً؛ لأنه نكرةٌ في سياقِ الإِثْبات، وإنما هو مُطْلَقٌ، ولكنْ لَمّضا كان صادقاً على النخل والرمَّان قيل فيه ذلك.
* { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }
قوله: {خَيْرَاتٌ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ "خَيْرَة". بزِنةِ فَعْلَة بسكونِ العين. يقال: امرأةٌ خَيْرَةٌ وأخرى شَرَّةٌ. والثاني: أنه جمعُ خَيْرة المخففة مِنْ خَيِّرة. ويَدُلُّ على ذلك قراءة ابن مقسم واليزيدي وبكر بن حبيب "خَيِّرات" تشديد الياء. وقرأ أبو عمروٍ "خَيَرات" بفتح الياء جمع "خَيْرَة" وهي شاذَّةٌ، لأن العين معتلةٌ؛ إلاَّ أن بني هُذَيلٍ تُعامِله معاملةَ الصحيح فيقولون، جَوَزات وبَيَضات وأُنْشِد:
(13/283)
---(1/5358)
4194 - أخو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأَوِّبُ * رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوْحُ
* { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }
ومَقْصورات، أي: مَحْبوسات، ومنه "القَصْر" لأنه يَحْبِسُ مَنْ فيه، ومنه قولُ النحاة "المقصور" لأنه حُبِس عن المدِّ أو حُبس عن الإِعراب، أو حُبِس الإِعرابُ فيه، والنساء تُمْدَحُ بملازَمَتِهِنَّ البيوتَ كما قال [أبو] قيس بن الأسلت:
4195 - وتَكْسَلُ عن جيرانِها فيَزُرْنَها *وتَعْتَلُّ عن إتْيانِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال: امرأةٌ مَقْصورة وقَصيرة وقَصورة، بمعنىً واحد. قال كثير عزة:
4196 - وأنتِ التي حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ *إليَّ ولم تَعْلَمْ بذاك القَصائرُ
عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ *قَصارَ الخُطا شَرُّ النساءِ البَحاتِرُ
والخِيام: جمعُ خَيْمة وهي تكونُ مِنْ نَمَّام وسائرِ الحَشيش، فإنْ كانَتْ مِنْ شَعْرٍ فلا يُقال لها: خَيْمةٌ بل بَيْتٌ. وقال جرير:
4197 - متى كان اخيامُ بذي طُلوحٍ *سُقِيْتِ الغَيْثَ أيتها الخيامُ
* { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }
(13/284)
---(1/5359)
قوله: {رَفْرَفٍ}: الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ. وقيلك بل هو اسمُ جمعٍ، نقلهما معاً مكيٌّ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب. وقال الجوهريُّ: "ثيبٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ، الواحدةُ رَفْرَفة" واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ: أي: ارتفع في الهواء. ورَفْرَفَ بجناحَيْه: إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع. وقال الراغب: "رفيفُ الشجر: انتشارُ أغصانِه. ورَفَّ الطائرُ: نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ. ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ. ومنه "ماله حافٌّ ولا رافٌّ"، أي: مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه. والرَّفْرَفُ: المنتشِرُ من الأوراقِ. وقولُه {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ}: ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض. وقيل: الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ واخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأطنْابِ والأوتادِ. وذكر الحسن أنه المَخادُّ" انتهى. وقال ابن جُبير: "رياضُ الجنَّة، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن. وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ. ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} وبالمفردِ. وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان. وقرأ العامَّةُ "رَفْرَفٍ" وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم "رَفارِفَ خُضْرٍ" بالجمع وسكونِ الضاد. وعنهم أيضاً "خُضُرٍ" بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء. وقيل: هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ. وأُنْشد لطرفة:
4198 - أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا * جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر:
4199 - وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف * ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
(13/285)
---(1/5360)
وقرؤوا "عباقِرِيَّ" بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً / على مَنْعِ الصرفِ. وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ. وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ "وعباقِرِيٍّ" موناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ "رَفارِفٍ" بالصرف. وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ "عقاقِرِيَّ" إنَّه لما جاوزَ "رفارِفَ" الممتنعَ امتنع مُشاكلةً. وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ: إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب كـ{سَلاسلاً وأَغْلالاً} كما سيأتي.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً "خَضَّارٍ" كضَرَّاب بالتشديد. وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ.
والجمهورُ "وعَبْقِرِيٍّ" منسوب إلى عَبْقَر، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا: هذا عَبْقريٌّ. وفي الحديث: "فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّة" والمرادُ به هنا قيل: البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ. وقيل: هي الزَّرابِيُّ. وقيل: الطَّنافِسُ. وقيل: الدِّيباج. وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ، كما تقدَّم في رَفْرفَ. وقيل: هو واحدٌ دالٌّ على الجمع، ولذلك وُصِف بحسان.
* { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }
قوله: {ذِي الْجَلاَلِ}: قرأ ابن عامر "ذو الجَلال" بالواو، وجَعَله تابعاً للاسم، وهكذا هي مرسومةٌ في مصحف الشاميين. والباقون بالياء صفةً للرَّبِّ، فإنه هو الموصوفُ بذلك، وأَجْمَعوا على الواوِ في الأول إلاَّ مَنْ ذكَرْتُه فيما تقدَّم.(1/5361)
سورة الواقعة
* { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}
* {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }
(13/286)
قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}: فيها أوجهٌ أحدها: أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها "ليس". والثاني: أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: بم انتصبت "إذا"؟ قلت: بليس، كقولك: "يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ" ثم قال: "أو بإضمارِ اذكُرْ". قال الشيخ: "ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ". قال: "لأن "لَيْسَ" مثل "ما" النافية، فلا حَدَثَ فيها، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ. فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها"، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى. ثم قال: "وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً لـ"ليس" بل للخبر، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها، وهي مسألةُ خلاف" انتهى. قلت: الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ. ومعنى كلامِ الزمخشريِّ: أنَّ النفي المفهومَ مِنْ "ليس" هو العاملُ في "إذا" كأنه قيل: ينفي كَذِبٌ وقوعِها إذا وَقَعَتْ. ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء: "والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}، أي: إذا وقعت لم تكذبْ" فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في "ما" النافية أيضاً، فالجواب: أنَّ الفعلَ أٌربُ إلا الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ.
(13/287)
---(1/5362)
الثالث: أنَّها شرطيةٌ. وجوابُها مقدرٌ، أي: إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ، وهو العاملُ فيها. والرابع: أنها شرطيةٌ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها، وهو اختيارُ الشيخ، وتبَع في ذلك مكيَّاً. قال مكي: "والعاملُ فيها "وَقَعَتْ" لأنها قد يُجازى بها، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمِل في "ما" و "مَنْ" اللتَيْن للشرط في قولك: ما تفعَلُ أفعَلْ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ"، ثم ذكر كلاماً كثيراً. الخامس: أنها مبتدأٌ، و "إذا رُجَّتْ" خبرُها، وهذا على قولِنا: إنها تَتَصرَّفُ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب "خافضةً رافعةً" على الحالِ. وحكاه بعضُهم عن الأخفش، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب.
السادس: أنه ظرفٌ لـ"خافضة" أو "رافعة"، قاله أبو البقاء، أي:
إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ. السابع: أَنْ يكونَ ظرفاً لـ"رُجَّتْ" "وإذا" الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها. الثامن: أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله: "فأصحابُ المَيْمَنَةِ"، أي: إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها. التاسع: أنَّ جوابَ قولُه: "فأصحابُ المَيْمنةِ" إلى آخره.
(13/288)
---(1/5363)
و "لِوَقْعَتِها" خبرٌ مقدمٌ و "كاذبة" اسم مؤخرٌ. و "كاذبة" يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ، وهو صفةٌ لمحذوف، فقَدَّره الزمخشريُّ: "نفسٌ كاذبةٌ، أي: إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد" ثم قال: "واللامُ مثلُها في قولِه {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول: لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها: لم تكونين أو هو مِنْ قولهم: كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له: إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ. ألا ترى إلى قولِه تعالى {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف". وقَدَّره ابن عطية: "حالٌ كاذبةٌ" قال: "وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين، أحدهما: كاذبة، أي: مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا، كما تقول: هذه قصةٌ كاذبةٌ، أي: مكذوبٌ فيها. والثاني:
أي: / لا يَمْضي وقوعُها كقولك: فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ. والثاني: أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو: خائنة الأعين. قال الزمخشري: "مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ، أي: فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط. وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير:
4200 - لَيْثٌ بعَثَّر يَصْطادُ الرجالُ إذا * ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا
أي: إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ"، انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ جداً.
(13/289)
---(1/5364)
ثم لك في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ: إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف. والثاني: أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال، قاله ابن عطية، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك.
وقرأ العامَّةُ برفعِ "خافضةٌ رافعةٌ" على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أو يكونُ المعنى: أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال: "لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به" انتهى. ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا. واخْتُلف في ذي الحال، فقال أبو البقاء: "من الضمير في "كاذبة" أو في "وَقَعَتْ"، وإصلاحُه أن يقولَ: أو فاعل "وقعَتْ" إذ لا ضميرَ في "وقعَتْ". وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ "الواقعة"، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ عن كلامِهما. قال أبو الفضل: "وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في "إذا وَقَعَتْ" محذوفاً يَدُلُّ عله الفحوى، أي: إذا وقعتْ يُحاسَبون.
* { إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً }
(13/290)
---(1/5365)
قوله: {إِذَا رُجَّتِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "إذ" الأولى، أو تأكيداً لها أو خبراً لها على أنها مبتدأةٌ كما تقدَّم تحريرُ هذا جميعِه، وأَنْ يكونَ شرطاً، والعامل فيها: إمَّا مقدَّرٌ وإمَّا فِعْلُها الذي يليها كما تقدَّم في نظيرتِها. وقال الزمشخري: "ويجوز أَنْ تنصِب بخافضة رافعة، أي: تَخْفِضُ وترفعُ وقتَ رَجِّ الأرض وبَسِّ الجبالِ، لأنه عند ذلك ينخفضُ ما هو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ". قال الشيخ: "ولا يجوزُ أَنْ تنصِبَ بهما معاً بل بأحدِهما، لأنه لا يجتمعُ مؤثِّران على أثرٍ واحد". قلت: معنى كلامِه أنَّ كلاً منهما متسلِّطٌ عليه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من التنازع، وحيئنذٍ تكون العبارةُ صحيحةً إذ يَصْدُقُ أنَّ كلاً منهما عاملٌ فيه، وإن كان على التعاقُب.
والرَّجُّ: التحريكُ الشديدُ بمعنى زُلزلت. وبُسَّت الجبالُ: سُيِّرت مِنْ قولهم: بَسَّ الغنمَ، أي: ساقَها أو بمعنى فُتِّتَتْ كقوله: {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} يدلُّ عليَه {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً}. وقرأ زيد بن علي "رَجَّتْ" و "بَسِّتْ" مبنيين للفاعل على أنِّ رجَّ وبَسَّ يكونان لازمَيْن ومُتَعَدِّيَيْن، يك اُزِيحت وذهَبَتْ. وقرأ النخعي "مْنْبَتَّاً" بنقطتين مِنْ فوق، أي: متقطعاً من البَتِّ. ومعنى الآية يَنْبو عنه.
* { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }
(13/291)
---(1/5366)
قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}: "أصحاب" الأولى مبتدأٌ، و "ما" استفهامٌ فيه تعظيمٌ مبتدأٌ ثانٍ، و "أصحاب" الثاني خبرُه والجملةُ خبرُ الأولِ، وتكرارُ المبتدأ هنا بلفظِه مُغْنٍ عن الضمير ومثلُه {الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ} {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} ولا يكون ذلك إلاَّ في مواضعِ التعظيم. وهنا سؤالٌ: وهو أنَّ "ما" نكرةٌ وما بعده معرفةٌ، فكان ينبغي أَنْ يقال "ما" خبر مقدمٌ، "وأصحاب" الثاني وشبهُه مبتدأٌ؛ لأن المعرفة أحقٌّ بالابتدءا من النكرةِ. وهذا السؤال واردٌ على سيبويه من مثل هذا، وفي قولك: "كم مالُك" و "مَرَرْتُ برجل خيرٌ منه أبوه"، فإنه يُعْرِبُ ما الاستفهامية و "كم" و "أَفْعَل" مبتدأ، وما بعدها خبرُها. والجوابُ: أنه كَثُرَ وقوعُ النكرةِ خبراً عن هذه الأشياء كثرةً متزايدةً، فاطَّردَ البابُ ليجريَ على سَننٍ واحدٍ. هكذا أجابوا، وهذا لا ينهضُ مانعاً مِنْ جوازِ أَنْ تكونَ "ما" و "كم" وأفعلُ خبراً مقدماً. ولو قيل به لم يكنْ خطأ بل أقربُ إلى الصوابِ.
والمَيْمَنَةُ: مَفْعَلَةُ من لفظِ اليُمْن وكذلك المَشْأَمَة من اليدِ الشُّؤمى وهي الشِمالُ لتشاؤمِ العربِ بها، أو من الشُّؤْم.
* { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }
قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: فيه أوجهٌ: أحدُها: أنهما مبتدأٌ وخبرٌ. وفي ذلك تأويلان، أحدهما: أنه بمعنى السابقون، هم الذي اشْتُهِرَتْ حالُهم بذلك كقولِهم: أنت أنت، والناسُ الناسُ، وقولِه:
4201 - أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري
وهذا يُقال في تعظيمِ الأمرِ وتفخيمهِ، وهو مذهبُ سُيبويه.
التأويل الثاني: أنَّ مُتَعلَّقَ السَّبْقَتْينِ مختلفٌ، إذ التقدير: والسابقونَ إلى الإِيمانِ السابقونَ إلى الجنة، / أو السابقونَ إلى طاعةِ اللَّهِ السابقون إلى رحمتِه، أو السابقون إلى الخيرِ السابقون إلى الجنة.
(13/292)
---(1/5367)
الوجه الثاني: أَنْ يكونَ "السابقون" الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيَّاً، و "أولئك المقرَّبون" جملةٌ ابتدائيةٌ في موضوع خبرِ الأولِ، والرابطُ اسمُ الإِشارةِ، كقولِه تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ} في قراءة مَنْ قرأ برفع "لباسُ" في أحد الأُوجه.
الثالث: أَنْ يكونَ "السابقون" نعتاً للأول، والخبرُ الجملةُ المذكورةُ. وهذا ينبغي أَنْ يُعَرَّجَ عليه، كيف يُوْصَفُ الشيءُ بلفِظه وأيُّ فائدةٍ في ذلك؟ والأقربُ عندي - إنْ وَرَدَتْ هذه العبارةُ مِمَّن يُعتبر - أَنْ يكون سَمَّى التأكيدَ صفةً، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا.
الرابع: أَنْ يكونَ الوقفُ على قولِه "والسابقون" ويكونَ قولُه "السابقون، أولئك المقرَّبون" ابتداءً وخبراً، وهذا يقتضي أن يُعْطَفَ "والسابقون" على ما قبلَه، لكنْ لا يليق عَطْفُه على ما قبلَه ويليه، وإنما يليقُ عطفُه على "أصحابُ المَيْمنة" كأنه قيل: وأصحابُ الميمنة ما أصحابُ الميمنة، والسابقون، أي: ما السابقون تعظيماً لهم، فيكون شركاءَ لأصحابِ الميمنة في التعظيم، ويكون قولُه على هذا "وأصحابُ المَشْأمَةِ، ما أصحابُ المشأمة" اعتراضاً بين المتعاطفَيْن. وفي هذا الوجهِ تكلُّفٌ كثير جداً.
* { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: يجوز أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ حالاً من الضمير في "المقرَّبون" وأَنْ يكونَ متعلقاً به، أي: قَرُبوا إلى رحمةِ الله في جنات، ويَبْعُدُ أن تكون "في" بمعنى "إلى". وقرأ طلحة "في جنة" بالإِفراد.
* { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
قوله: {ثُلَّةٌ}: خبرُمبتدأ مضمرٍ، أي: هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ، أي: منهم ثُلَّةٌ، أي: من السابقين يعني: أن التقسيمَ وقع في السابقين، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أو قولُه "على سُرُر" فهذه أربعةُ اوجهٍ.
(13/293)
---(1/5368)
والثُّلَّة: الجماعةُ من الناس. وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد:
4202 - وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خنْدِفِيَّةٌ * بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ
ولم يُقَيِّدْها غيرُه، بل صَرَّاح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ. وقال الراغب: "الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثَلَّة. قلت: يعني بفتح الثاء، ومنه قولُه:
4203 - أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا * لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا * أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا
انتهى. ثم قال الراغب: "ولاعتبار الاجتماع قيل: "ثُلَّة من الأوَّلين، وثُلَّة من الآخِرين"، أي: جماعة وثَلَّلْتُ كذا: تناوَلْتُ ثُلَّةً منه. وثَلَّ عرشَه: أسقطَ ثُلَّة منه. والثَّلَلُ: قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها. وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه. وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ: تَهَدَّمَتْ" انتهى. فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق. و "مِنْ الأوَّلِين" صفةٌ لثُلَّة، وكذلك "مِنْ الآخِرين" صفةٌ لقليل.
* { عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ }
وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال "سُرَر" بفتح الراء الأولى وقد تقدَّم أنها لغةٌ لبعضِ كلبٍ وتميم. والمَوْضونة: المَنْسوجة وأصلُه مِنْ: وضَّنْتُ الشيءَ، أي: رَكَّبْتُ بعضَه على بعض. ومنه قيل للدِّرْعِ: مَوْضونة لتراكُبِ حِلَقِهِا. قال الأعشى:
4204 - ومِن نَسْجِ داودَ مَوْضَوْنَةً * تسيرُ مع الحيِّ عِيْراً فَعِيْرا
ومنه أيضاً "وَضِين الناقة، وهو حِزامُها لتراكُبِ طاقاته قال الراجز:
4205 - إليك تَعْدُو قِلقاً وضِيْنُها * مُعْتَرضاً في بَطْنِها جنينُها
وقال الراغب: "الوَضْنُ: نَسْيجُ الدِّرعِ. ويُسْتعال لكل نَسْجٍ مُحْكَم"، فجعله أصلاً في نَسْج الدَّرْع. قال الشاعر:
4206 - تقولُ وقد دَرَأْتُ لها وَضِيْني * أهذا دينُه أبداً ودِيني
أي: حِزامي.
(13/294)
---(1/5369)
* { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ }
قوله: {مُّتَّكِئِينَ ، مُتَقَابِلِينَ}: حالان من الضمير في "على سُرُر" ويجوز أَنْ تكونَ حالاً متداخلةً، فيكون "متقابلين" حالاً من ضمير "متَّكئين".
* { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ }
قوله: {يَطُوفُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، وأنْ يكون استئنافاً.
* { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ }
و "بأكْواب" متعلقٌ بـ"يَطُوف". والأباريق: / جمع إبْريق، وهو مِنْ آنيةِ الخَمْر قال:
4207 - أَفْنى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ * قَرْعُ القواقيزِ أَفْواهَ الأباريقِ
وقال عدي بن زيد:
4208 - وتداعَوا غلى الصَّبوحِ فجاءتْ * قَيْنةٌ في يمينِها إبْريقُ
وقال آخر:
4209 - كأن إبْريقَهم ظبيٌ على شَرَفٍ * مُفَدَّمٍ بسَبا الكَتَّانِ مَلْثُوْمُ
ووزنُه إفْعيل لاشتقاقِه مِنْ البَريق والإِبريقُ ما له خُرطومٌ. قال بعضهم: وأَذُنٌ. وتقدَّم تفسيرُ الأكواب.
* { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ }
قوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً من الضمير في "عليهم" ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي: بسببها. قال الزمخشري: "وحقيقتُه: لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها" والصُّداع: هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانُ في رأسِه، والخبر تؤثِّر فيه. قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:
4210 - تِشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها
ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ
(13/295)
---(1/5370)
ولام قرأت هذا الدواين على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقال لي: لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقيل: لا يُصَدَّعون: لا يُفَرِّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض الدنيوية. ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه: "فتصدَّع السحابُ عن المدينة"، أي: تفرَّق. ويُرَجِّحه قراءة مجاهد "لا يَصَّدَّعون" بفتح الياءِ وتشديد الصادِ. والأصلُ: يَتَصَدَّعون، أي: يتفرَّقون كقوله: تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وحكى الزمخشري قراءةً وهي "لا يُصَدِّعون" بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً. قال: أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً، أي: لا يُفَرِّقُونهم. وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في "يُنزِفُونَ" وتفسيرُ ذلك.
وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ، أي: اسْتُقِيَ ما فيها. والمعنى: لا تَنْفَذُ خمرُهم. قال الشيخ: "وابن أبي إسحاق أيضاً، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي: لا يَفْنى لهم شراب". قلت: وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرؤون في الواقعة بكسر الزاي، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.
* { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ }
قوله: {وَفَاكِهَةٍ}: العامَّةُ على جَرِّ "فاكهة ولحم" نَسَقاً على "أكواب" أي: يطوفون عليهم بهذه الأشياء: المأكول والمشروبِ والمتفكّهِ به، وهذا كمالُ العِيشةِ الراضيةِ. وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما، على الابتداء، والخبرُ مقدَّرٌ أي: ولهم كذا.
* {وَحُورٌ عِينٌ}
(13/296)
---(1/5371)
قوله: {وَحُورٌ} قرأ الأخَوان بجرِّ "حور عين". والباقون برفعِهما. والنخعيُّ: "وحِيرٍ عين" بقلب الواو ياءً وجرِّهما، وأُبَيٌّ وعبد الله "حُوْراً عيناً" بنصبهما. فأمَّا الجرُّ فمن أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض، وهو فُهْمُ أعجمي". قلت: والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري. وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف. الثاني: أنه معطوفٌ على "بأكواب" وذلك بتجوُّزٍ في قوله: "يطُوفُ" إذ معناه: يُنَعَّموْن عليه حقيقةً، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً، فإن فيه لذةً لهم، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّةِ بعد المنكوحِ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب. ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء: "عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها".
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً، عطفاً على "ولْدانٌ"، أي: إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك، كما الوَلائدُ في الدنيا. وقال أبو البقاء: "أي: يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة" قلت: / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني: أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في "مُتَّكِئين" وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما. الثالث: أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه: لهم هذا كلُّه وحورٌ عين، قاله الشيخ، وفيه نظر؛ لأنَّه عُطِف على المبتدأ وحدَهُ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه.
الرابع: أَنْ يكونَ مبتدأً، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: ولهم، أوفيها، أو ثَمَّ حورٌ. وقال الزمخشري "على حُوْرٌ كبيت الكتاب:
4211 - .......................... * إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
(13/297)
---(1/5372)
الخامس: أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حورٌ قوله أبو البقاء. وأمَّا النصبُ ففيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل، أي: يَعْطَوْن، أو يَرِثُون حُوْراً، والثاني: أن يكونَ محمولاً على معنى: يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا. وقال مكي: "ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يَعْطَوْن كذا وكذا، ثم عطف حوراً على معناه" فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً.
وأمَّا قراءةُ "وحِيْرٍ" فلمجاورتها "عين" ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو، ونظيرهُ في في التغيير للمجاورة: "أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث" بضم دال "حَدُث" لأجل "قَدُم" وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط، وقوله عليه السلام: "وربِّ السموات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ" وقوله عليه السلام: "أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب" فَكَّ "الأَرْبَبَ" لأجل "الحَوْءَب".
وقرأ قتادة "وحوُ عينٍ" بالرفع والإِضافة لـ"عين" وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب. وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً. وقرأ عكرمةُ "وحَوْراءَ عَيْناءَ" بإفرادِهما على إرادةِ الجنس. وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله، وأن تكونَ جرَّاً، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين. وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين.
* { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}
* {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
: و {كَأَمْثَالِ} صفةٌ أو حالٌ. و "جزاءً" مفعول من أجله، أو مصدر، أي: يُجْزَوْن جزاءً.
* { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }
(13/298)
---(1/5373)
قوله: {إِلاَّ قِيلاً}: فيه قولان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ وهذا واضحٌ؛ لأنه لم يندَرِجْ تحت اللَّغْو والتأثيم. والثاني: أنه متصلٌ وفيه بُعْدٌ، وكأن هذا رأى أن الأصلَ لا يَسْمعون فيها كلاماً فاندرَج عند فيه. وقال مكي: "وقيل: منصوبٌ بيَسْمعون" وكأنه أرادَ هذا القول.
قوله: {سَلاَماً سَلاَماً} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ "قيلاً" أي: لا يسمعُون فيها إلاَّ سلاماً سلاماً. الثاني: أنه نعتٌ لقِيلا. الثالث: أنه منصوبٌ بنفس "قيلاً" أي: إلاَّ أَنْ يقولوا: سلاماً سلاماً، هو قولُ الزجَّاج. الرابع: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، ذلك الفعلُ مَحْكِيٌّ بـ"قيلاً" تقديره: إلاَّ قيلاً اسْلَموا سَلاماً.
وقُرىء "سَلامٌ" بالرفع قال الزمخشري: "على الحكاية". قال مكي: "ويجوزُ في الكلام الرفعُ على معنى: سلامٌ عليكم، ابتداءٌ وخبرٌ" وكأنه ليم يَعْرِفْها قراءةً.
* { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ }
قوله: {مَّخْضُودٍ}: المخضودُ: الذي قُطِع شَوْكُه، مِنْ خَضَدْتُه أي: قَطَعْتُه. وقيل المُوْقَرُ من الحَمْل حتى لا يَتَبَيَّن ساقُه وتَثَنِيَ أغصانُه مِنْ خَضَدْت الغصنَ أي ثنيْتُه. قال أمية بن أبي الصلت:
4212 - إن الحَدائقَ في الجِنان ظليلةٌ * فيها الكواعِبُ سِدْرُها مَخْضُوْدُ
(13/299)
---(1/5374)
والطَّلْحُ: جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه. وقيل: هي أم غَيْلان. قال مجاهد: ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل. وقيل: هو المَوْزُ. ومعنى مَنْضود أي: متراكبٌ. وفي التفسير: لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه. وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد "وطَلْع" بالعين، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال: وما شَأْنُ الطَّلْح؟ واستدلَّ بقولِه: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} فقيل له: أنُحَوِّلُها؟ فقال: آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ. ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه. ومَسْكوب: أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ. وقُرِىءَ برفع "فاكهة" أي: وهناك، أولهم، أو فيها، أو ثَمَّ فاكهة.
* { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }
قوله: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ}: فيه وجهان، أظهرهُما: أنه نعتٌ لفاكهة "ولا" للنفي، كقولك: "مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصير" ولذلك لزم تكرارُها. والثاني: هو معطوفٌ على فاكهة، / و "لا" عاطفةٌ قاله أبو البقاء. وحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ موصوفٍ أي: لا فاكهةٍ مقطوعةٍ؛ لئلا تُعْطَفَ الصفةُ على موصوفِها.
* { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ }
قوله: {وَفُرُشٍ}: العامَّةُ على ضمِّ الراء جمع فِراش. وأبو حيوة بسكونها وهي مخففةٌ من المشهورة. والفُرُشُ قيل: هي القماشُ المعهودُ. ومرفوعة على الأَسِرَّة. وقيل: هي كنايةٌ عن النساءِ، كما كُنِي عنهنَّ باللِّباس، قاله أبو عبيدة وغيرُه. قالوا: ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ باللِّباس، قاله أبو عبيدة وغيرُه. قالوا: ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ في قوله: "إنَّا أنشأناهنَّ". وأجاب غيرُهم: بأنه عائدٌ على النساءِ الدالِّ عليهنَّ الفُرُشُ. وقيل: يعودُ على "حُور" المتقدمة. وعن الأخفش: هُنَّ ضميرٌ لمَنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، يعني يدلُّ عليه السِّياقُ.
* { عُرُباً أَتْرَاباً }
(13/300)
---(1/5375)
قوله: {عُرُباً}: جمع عَروب كصَبور وصُبُر. والعَرُوْب: المتحبِّبة إلى بَعْلِها. وقيل: الحسناءُ. وقيل: المُحْسِنة لكلامها. وقرأ حمزة وأبو بكر بسكونِ الراء، وهذا كرسُل ورُسْل، وفُرُش وفُرْش، وقال ابن عباس: "هي العواتِقُ". وأنشد للبيد:
4213 - وفي الخُدورِ عَروبٌ غيرُ فاحِشةٍ * رَيَّا الرَّوادِفِ يَعْشى دونَها البصَرُ
قوله: {أَتْرَاباً} جمع تِرْب وهو المساوي لك في سِنِّك؛ لأنَّه يَمَسُّ جِلْدَها الترابُ في وقتٍ واحد، وهو أكد في الائتلافِ، وهو من الأسماءِ التي لا تتعرَّفُ بالإِضافةِ لأنه في معنى الصفةِ، إذ معناه: مُساويك، ومثلُه "خِدْنُك" لأنَّه في معنى صاحبك.
* { لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ }
قوله: {لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ}: في هذه اللامِ وجهان؛ أحدهما: أنها متعلِّقةٌ بـ"أَنْشَأْنَاهُنَّ" أي: لأجل. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"أَتْراباً" كقولك: هذا تِرْبٌ لهذا أي: مُساوٍ له.
* { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ }
واليَحْموم وزنه فَيْعول. قال أبو البقاء: "مِنْ الحِمَم أو الحَميم" واليَحْموم قيل: هو الدُّخان الأسود البهيم. وقيل: وادٍ في جهنم. وقيل: اسمٌ من أسمائها، والأولُ أظهرُ.
* { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ }
قوله: {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ}: صفتان للظلِّ كقولِه: "من يَحْموم". وفيه أنه قد قَدَّم غيرَ الصريحة على الصريحة، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ صفةً ليَحْموم، وإن كان السياقُ يُرْشِدُ إلى الأول.
وقرأ ابنُ أبي عبلة {لا باردٌ ولا كريمٌ} برفعهما أي: هو لا باردٌ كقوله:
4214 - ........................... * فأَبِيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ
* { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ }
(13/301)
---(1/5376)
قوله: {الْحِنثِ}: هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما، قاله الخطابي: وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي: لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالباً، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه "لم يَبْلُغوا الحنث" وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب. وتَحَنَّثَ فلانٌ أي: جانَبَ الحِنْثَ. وفي الحديث: "كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء" أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو: تَحَرَّجَ فـ تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب.
* { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }
قوله: {أَإِذَا مِتْنَا}: قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات. وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد.
* { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ }
(13/302)
---(1/5377)
قوله: {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} : فيه أوجه، أحدها: أَنْ تكونَ "مِنْ" الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان أي: مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم. الثاني: أَنْ تكونَ "مِنْ" الثانيةُ صفةً لشجر، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: مستقرٍ. والثالث: أَنْ تكونَ "مِنْ" الأولى مزيدةً أي: لآكلون شجراً، و "مِنْ" الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن. الرابع: عكسُ هذا، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي: لآكلون زَقُّوماً، و "مِنْ" الأُولى للابتداء، أو ي محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ "زَقُّوم" أي: كائناً مِنْ شجرٍ، ولو تأخَّر لكان صفةً. الخامس: أنَّ "مِنْ شجر" صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: لآكلون شيئاً مِنْ شجرٍ، "ومِنْ زَقُّوم" على هذا نعتٌ لشجر، أو لشيء المحذوفِ. السادس: أنَّ الأولى للتبعيض، والثانيةَ بدلٌ منها، والضمير في "منها" عائدٌ على الشجر. وفي "عليه" للشجر أيضاً، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه، وأنهما لغتان. وقيل: في "عليه" عائدةٌ على الزقوم. وقال أبو البقاء: "للمأكول". وقال ابن عطية: "للمأكول أو الأكل". انتهى وفي قوله: "الأكل" بُعْدٌ. وقال الزمخشري: "وأنَّثَ ضميرَ الشجرة على معنى، وذكَّره على اللفظ في "منها" و "عليه". ومَنْ قرأ {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرةِ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويل الزَّقُوم لأنه تفسيرُها.
* { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ }
(13/303)
---(1/5378)
قوله: {شُرْبَ الْهِيمِ}: قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيلك المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسروُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. / وقال الكسائي: يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً. ويروى قولُ جعفر: "أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال" بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال:
4215 - كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ * سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة:
4216 - فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ * صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
(13/304)
---(1/5379)
الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جميع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمكعُ "هُيام" بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغة ً في "الهَيام" بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: "فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين - على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء - أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيءن" انتهى يعنى قولَه: "فشاربون عليه من الحميم، فشاربون" وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه.
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} تفسيرٌ للشَرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمَ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبٌ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين.(1/5380)
(13/305)
---
وقال الشيخ: "والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه" انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟
* { هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ }
وقرأ العامَّةُ "نُزُلُهم" بضمتين. ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمتةٍ وسكونٍ، وهو تخفيفٌ. وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ. وقيل: هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّماً بمَنْ أُعِدَّ له، وهو في المعنى كقولِ أبي السرع الضَّبِّي:
4217 - وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه * جَعَلْنَاه القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
* { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ }
قوله: {فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ}: تحضيضٌ. ومتعلَّقٌ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه: فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا.
* { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ }
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ}: هي بمعنى أَخْبِرْني. ومفعولُها الأولُ "ما تُمْنُوْن"، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا.
* { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ }
و {أَأَنتُمْ}: يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعل / فعلٍ مقدرٍ أي: أتخلقونه، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ، وهذا من بابِ الاشتغال. والثاني: أنَّ "أنتم" مبتدأٌ، والجملةُ بعده خبرُه. والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام.
(13/306)
---(1/5381)
وقوله: {أَم} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ. والثاني: أنها متصلةٌ. وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها: بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد "نحن" أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال: "أم نحنُ" لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ. ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال: [مَنْ] في الدار؟ زيدٌ في الدار، أو زيدٌ فيها، ولو اقْتُصِر على "زيد" لكان كافياً. قلت: ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملة بتأويلِ المفردِ. ومفعولُ "الخالقون" محذوفٌ لفَهْم المعنى أي: الخالِقوه.
وقرأ العامّضةُ "تُمْنُوْن" بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْنى. وابن عباس وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي. وقال الزمخشري: يقال: "أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها. قال اللَّهُ تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} انتهى. فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي، وليس يه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضاً "تُمْنَى" كقول: "أنت تُكْرَم" وهو مِنْ أَكْرَم.
* { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }
وقرأ ابن كثير "قَدَرْنا" بتخفيفِ الدال. والباقون بالتشديد هنا، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ.
* { عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"مَسْبوقين" وهو الظاهرُ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي: يُعْجِزْنا يُقال: سبقَه على كذا أي: أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: "قَدَّرنا" أي: قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي: نُمَوَّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى، قال معناه الطبري. فعلى هذا يكون قولُه: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معترضاً، وهو اعتراضٌ حسنٌ.
(13/307)
---(1/5382)
ويجوز في "أمثالَكم" وجهان، أحدهما: أنه جمعُ "مِثْل" بكسر الميم وسكون الثاء، أي: نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قوماً آخرين أمثالَكم، ويؤيِّده: "إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين" والثاني: أنه جمع "مَثَل" بفتحتين، وهو الصفةُ أي: نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها.
* { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ }
وتقدَّم قراءتا "النشأة" في العنكبوت.
* { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ }
قوله: {أَفَرَأَيْتُم}: وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه. وأُتي هنا بجواب "لو" مقروناً باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قولِه: "جَعَلْناه أُججاً" لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب.
وقرأ طلحة "تَذْكُرُون" بسكون الذال وضمِّ الكاف.
* { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }
قوله: {فَظَلْتُمْ}: هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم ا لكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة أبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ "فظَلِلْتُمْ" على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضاً.
والعامةُ "تَفَكَّهون" بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ: تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرُ باللازم.
(13/308)
---(1/5383)
وقرأ أبو حرام العكلي "تَفَكَّنون" بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: "تَفَكَّةَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ". وفي الحديث: "مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون" أي: يَتَنَدَّمون.
* { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ }
قوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}: قرأ أبو بكر "أإنا" بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر. وقبلَ هذه الجملةِ قولٌ مقدرٌ على كلتا القراءتين. وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون: إنا لمُغْرَمون أي: لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقَنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا، من الغَرام وهو الهلاكُ. قاله الزمخشري. ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قولُه:
4218 - إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَراماً وإنْ يُعْـ * ــطِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي
* { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}
* {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ }
(13/309)
---(1/5384)
قوله: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}: / قد تقدَّم عدومُ دخولِ اللامِ في جواب "لو" هذه. وقال الزمشخري: "فإن قلتَ: لِمَ ُدخِلَتِ اللامُ في جواب "لو" في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت: إنَّ "لو" لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط كـ"إنْ" ولا عاملةً مثلَها، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقاً، من حيث إفادتُها في مضومنَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلماً على هذا التعليقِ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَماً على ذلك، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَماً مشهوراً مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوقاً ومَأْنوساً به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ، استغناءً بمعفرةِ السامع. ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول: "خبر" لمَنْ يقولُ له: كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه. وناهِيك بقولَ أوس:
4219 - حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها * كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا
فحذفَ "لم أَرَ" حَذْفُها اختصارٌ لفظي، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما. على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها. والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً. ويجوزُ أَنْ يُقال: إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ، فأُدِخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ، للدلالةِ على أنَّ أَمْرَ المطعوم مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعاً للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تَسْقى ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قولِ أبي العلاءِ:
(13/310)
---(1/5385)
4220 - إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضاً * سَقَوْا أضيافَهم شَبِماً زُلالا
وسُقِي بعضُ العربِ فقال: أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب" انتهى.
قال الشيخ: "وقد طوَّل الزمخشريُّ" فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ، ثم ذَكَر بعض كلامِه، وواخَذَه في قولِه: "إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول" وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين، ثم ذكر عبارةَ سيبويه، وهي: حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وذكر أنَّ قولَ مَنْ قال: "امتناع لامتناع" فاسدٌ بقولك: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية. ومِثْلُ هذه الإِراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه. على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ.
وقوله: {مِنَ الْمُزْنِ}: السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة. قال الشاعر:
4221 - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقال الآخر:
4222 - ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا * كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ
* { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ }
قوله: {تُورُونَ}: مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي: قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي: خَرَجَتْ نارُه: وأصل تُوْرُوْن تُوْرِيُون.
* { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ }
قوله: {لِّلْمُقْوِينَ}: يُقال: أَقْوَى الرجلُ: إذا حلَّ في الأرض القِواءِ، وهي القَفْرُ، كأصْحَرَ: دَخَلَ في الصحراء. وأَقْوَتِ الدار: خَلَتْ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْراً. قال النابغة:
4223 - يا دارَميَّة بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ * أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ
* { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ }
(13/311)
---(1/5386)
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}: قرأه العامَّةُ "فلا"، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ "لا" وخبرِها. قال الشيخ: "ولا يجوز" ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه:
4224 - ......................... * فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه:
4225 - أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ
(13/312)
---(1/5387)
قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام "أَفْئِيْدَة". قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى / "فَلأُقْسِمُ" بالمٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} فنفسُ "ليَحْلِفُنَّ" قسمٌ جوابُه "إنْ أرَدْنَا" وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرذِجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: "لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال" وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: "وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال" يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: "أَنْ يُقْرن بها النونُ" هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه:
4226 - لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ * لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه:
4227 - وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ .......... * ..........................
(13/313)
---(1/5388)
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير {لأُقْسِمُ بيوم القيامة}.
وقرأ العامَّة "بمواقِع" جمعاً، والأخَوان "بموقع" مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها. وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه "وإنَّه لَقَسَمٌ"، و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} والمُقْسَمُ عليه قولُه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: "وإنه لَقَسَمٌ" بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: "لو تعلمون" بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: "وإنَّه لَقَسَمٌ" اعتراضاً فقال: "وإنه لَقَسَمٌ" تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: "لو تعلمون" قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.
* { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }
(13/314)
---(1/5389)
قوله: {لاَّ يَمَسُّهُ}: في "لا" هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ فالضمةُ في "لا يَمَسُّه" ضمةُ إعرابٍ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان، أحدهما: أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً لـ"كتاب" والمرادُ بـ"كتاب": إمَّا اللوحُ المحفوظُ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم. والثاني: أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآن، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي: لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه. لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ. ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله "ما يَمَسُّه" بـ"ما" النافيةِ.
والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها ناهيةٌ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} ولكنه أَدْغم، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ. وفي الحديث: "إنَّا لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ" وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفا، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ / مَنْ رَدَّ: بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال: "لا يَمَسَّه" بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه. وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً: بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ، وقولُه بعد ذلك "تنْزيلٌ" صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه. وفي حرف ابن مسعود "ما يمسُّه" انتهى.
(13/315)
---(1/5390)
وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلذِم أنَّ "تنزيل" صفةٌ، فـ"لا يَمَسّثه" صفةٌ أيضاً، فيُعْترض علينا: بأنه طلبٌ. فيُجاب: بأنه على إضمارِ القولِ أي: مقولٌ فيه: لا يمسُّه، كمنا قالوا ذلك في قوله: "لتنةً لا تصيبَنَّ" على أنَّ "لا تصيبنَّ" نَهْيٌ وهو كقولِه:
4228 - جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ
وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ، وهو مبنيٌّ على هذا، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب "أحكام القرآن" إن شاء الله تعالى إتمامَه.
وقرأ العامَّةُ "المُطَهَّرون" بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول، وعن سلمان الفارسي كذلك، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي: المُطَهِّرون أنفسَهم، فحذف مفعولَه. ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر. يد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً "المُطَّهِّرُوْن" بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم. وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً.
* { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
وقرِىء "تنزيلاً" بالنصب على أنه حال من النكرة. وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ، أو أَنْ يكونَ مصدراً لعاملٍ مقدر أي: نُزِّل تنزيلاً، وغَلَب التنزيلُ على القرآن.
و "من رَبِّ" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له، وأمَّا على قراءةِ "تنزيل" بالرفعِ فيجوز الوجهان.
* { أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ }
(13/316)
---(1/5391)
قوله: {أَفَبِهَاذَا}: متعلِّقٌ بالخبر، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآنُ. ومعنى "مُدْهِنون".: مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي: يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُناً به يقال: أَدْهَن فلانٌ أي: لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ. قال الشاعر:
4229 - الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْـ * إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ
وقال الراغب: "والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القُراد، عبارةً عن ذلك".
* { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك: "شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه" أي: عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه:
4230 - كأن شُكْرَ القَوْمِ قضيةَ الإِحسان المِنَنِ * كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ
أي: شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم، الثاني: أنَّ ثَمَّا مضافَيْنِ محذوفَيْنِ، أي: بَدَل شُكْرِ رِزْقِكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك، وقد تقدَّم لك في قولِه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أكثرُ من هذا. الثالث: انَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة: ما رَزَقَ فلانٌ فلاناً أي: ما شكره، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ، ويُؤَيِّدُهُ قراءةُ علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس ر ضي الله عنهم "وتَجْعَلون شُكْرَكم" مكان "رِزْقَكم".
وقرأ العامَّةُ "تُكَذِّبون" من التكذيب. وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه "تَكْذِبون" مخففاً من الكَذِب.
* { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }
(13/317)
---(1/5392)
قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}: ترتيبُ الآيةِ / الكريمة: فلولا تَرْجِعُونها - أي النفسَ - إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين. و "فلولا" الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ. قاله الزمخشريُّ. قلت: فيكونُ التقدير: فلولا فلولا تَرْجِعونها، من باب التوكيد اللفظي، وتكون "إذا بَلَغَت" ظرفاً لـ"تَرْجِعونها" مقدَّماً عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه، أي: فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ. وقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} جملةٌ حالية مِنْ فاعل بَلَغَتْ، والتنوينُ في "حينئذٍ" عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها "إذا"، أي: إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافاً للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ، وقد مضى تحقيقُه.
* { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }
وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ "حينئذٍ" لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه "تَنْظُرون" وعيسى بكسرها، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءةِ {الْحَمْدُ للَّهِ} بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص.
* { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ }
قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم، وأن تكونَ مستأنفةً، فتكونَ اعتراضاً، والاستدراكُ ظاهرٌ. و البَصَرُ: يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي: لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ.
* { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ }
(13/318)
---(1/5393)
و {إِن كُنتُمْ}: شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ "فلولا": مَجْرى الطعامِ. و "مَدِيْنين" أي: مَسُوسين، أو محاسَبين، أو مجازِين، وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ. وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّراً. وقال أبو البقاء: "وتَرْجِعونها جوابُ "لولا" الأولى، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك. وقيل: لولا الثانيةُ تكريرٌ" انتهى. وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه الثانيةُ تكريرٌ" انتهى. وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ} وقال ابن عطية: "وقولُه: "تَرْجِعونها" سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ، و "إذا" مِنْ قولِه: "فولا إذا" و "إنْ" المكررة، وحَمَلَ بعضَ القولِ بعضاً إيجازاً "واقتضاباً" انتهى. فجعل "إذا" شرطيةً. وقولُه: "الأجوبة" يعني لـ"إذا" ولـ"إنْ" ولـ"إنْ" في قولِه: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ، ولذلك فَسَّرْتُها.
قال الشيخ: "وإذا ليسَتْ شرطاً؛ بل ظرفاً يعمل فيها "تَرْجعونها" المحذوفُ بعد "لولا" لدلالةِ "تَرْجِعونها" في التحضيض الثاني عليه، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّداً بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ. وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقاً على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم" انتهى. فجعل "تَرْجِعونها" المذكورَ لـ"لولا" الثانية، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم.
* { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
* {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ }
(13/319)
---(1/5394)
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: شرطٌ آخرُ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو: "إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق" حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا: إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ.
قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} قد تقدَّم الكلامُ في "إمَّا" في أولِ هذا الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ. وهنا أمرٌ زائدةٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها. واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها: هل هو لـ"أمَّا" أو لـ"إنْ"، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه، أو الجوابُ لهما معاً؟ ثلاثةُ أقوالٍ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قولَيْه، وله قولٌ آخرُ كسيبويهِ، والثالث للأخفش، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن. وقال مكي: "ومعنى "إمَّا" عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ، أي: دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره". قلت: وعلى هذا فيكونُ الجوابُ لـ"إنْ" فقط لأنَّ "إمَّا" ليسَتْ شرطاً. ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ لـ"أمَّا"؛ لأنَّ "إنْ" كَثُرَ حَذْفُ جوابِها / منفردةً، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى. والضميرُ في "كان" و "كان" للمتوفَّى لدلالةِ قولِه: "فلولا تَرْجِعُونَها".
* { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ }
والرَّوْحُ: الاستراحةُ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحسن: الرَّوْحُ: الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ. وعنه أيضاً: رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان. وقد تقدَّم الكلامُ على {وَرَيْحَانٌ} والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِ في السورةِ قبلها.
و [قوله]: {فَرَوْحٌ} مبتدأٌ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي: فله رَوْحٌ. ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ.
(13/320)
---(1/5395)
* { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ }
قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ}: مبتدأٌ وخبرٌ. و "مِنْ أصحاب". قال الزمخشري: "فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ، أي: يُسَلِّمون عليك". وقال ابن جرير: "معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ". وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقولِ الزمخشريِّ، ويكونَ "أنت" تأكيداً للكافِ في "لك"، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ "نت" مبتدأٌ و "من أصحابِ" خبرُه، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى: فيُقال لهم: سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين. وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه.
* { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ }
قوله: {وَتَصْلِيَةُ}: عطفٌ على "فُنُزُل" أي: فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى وزالمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفاً على "مِنْ حميمٍ".
* { إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ }
قوله: {حَقُّ الْيَقِينِ}: فيه وجهان، أحدهما: هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه. والثاني: أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ. وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما. وإذا كانوا فعلوا ذلك في اللفظِ الواحدِ فقالوا: صوابُ الصوابِ، ونفس النفس، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافش اللفظِ أَوْلَى.
* { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }
قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحا لأي: فسَبِّحْ مُلْتَبِساً باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}، وأَنْ تكونَ للتعديةِ، على أنَّ "سَبَّح" يتعدَّى بنفسه تارةً كقولِه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} وبحرفِ الجرٍِّ تارةً كهذه الآيةِ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ.
(13/321)
و "العظيم" يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلاً منهما مجرورٌ. وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ} و "ذي الجلال". ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف.(1/5396)
سورة الحديد
* { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله: {للَّهِ}: يجوزُ في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ كهي في "نَصَحْتُ لزيدٍ" و "شكرْتُ له" إذ يقال: سَبَّحْت الله تعالى. قال تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. والثاني: أَنْ تكونَ للتعليلِ، أي: أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى.
* { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ }
قوله: {لَهُ مُلْكُ}: جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ.
قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو له مُلك. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في "له" فالعامل فيها الاستقرارُ، ولم يُذْكَرْ مفعولاً الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط.
* { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}: قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى الواوِ؟ قلت: الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين الظهورِ والخَفاءِ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأَوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين".
* { لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }
(13/322)
---(1/5397)
قوله: {تُرْجَعُ الأُمُورُ}: قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن. وقال الشيخ هنا: "وقرأ الجمهور "تُرْجَعُ" مبنياً للمفعول. والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنياً للفاعل" وهذا عجيبُ منه، وقد وقع له مَثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه. /
وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ.
* { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ}: مبتدأ وخبرٌ، وحالٌ، أي: أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟
وقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} جملةٌ حالية من "يُؤمِنون". قال الزمخشري: "فهما حالان متداخلان و "لِتُؤْمنوا" متعلِّق بـ"يَدْعوا" أي: يدعوكم للإِيمان كقولك: دَعَوْتُه لكذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ، أي: يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ. وقيه بُعْدٌ.
قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} حالٌ أيضاً وقرأ العامَّةُ "أَخَذَ" مبنياً للفاعلِ، وهو اللّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وأبو عمرو "أُخِذ" مبنياً للمفعول، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به. و "ميثاقَكم" منصوبٌ في قراءة العامةِ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ. و "إنْ كنتم" جوابُه محذوفٌ تقديرُه: فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ. وقيل: تقديرُه: إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما، فهذا هو الموجِبُ. وقدَّره ابنُ عطية: "إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ. وقد تقدَّمَتْ قراءتا "يُنَزَّل" تخفيفاً وتشديداً في البقرة. وزيد بن علي "أَنْزَل" ماضياً.
(13/323)
---(1/5398)
* { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قوله: {أَلاَّ تُنفِقُواْ} كقوله {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} فالأصلُ: في أن لا تُنْفِقُوا، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ. وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة.
قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه، أي: وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السمواتِ والأرضِ له، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم.
(13/324)
---(1/5399)
قوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق} في فاعل "يَسْتوي" وجهان، أظهرُهما: أنه مِنْ أَنْفَق، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ، فقدَّره الزمخشري: "لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة" وقَدَّره أبو البقاء "ومَنْ لم يُنْفِق" قال: "ودلَّ على المحذوفِ قولُه: {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ. والثاني: أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاق، أي: لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح، ومنه ما وَقَعَ بعدَه، فهذان النوعان متفاوتان. وعلى هذا فتكون "مَنْ" مبتدأ و "أولئك" مبتدأٌ ثانٍ و "أَعظَمُ" خبرثه، والجملةُ خبرُ "مَنْ" وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه: "منكم" ولو أعربَ هذا القائلُ "منكم" خبراً مقدماً، و "مَنْ" مبتدأ مؤخراً. والتقدير: مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً، ولكنه سها عن لفظةِ "منكم".
قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم "وكلاً" بألفٍ، وابنُ عامر برفعِه، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه ارتفعَ على الابتداءِ، والجملة بعدَه خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: وعده اللهُ. ومثلُه:
4231 - قد أصبحَتْ أمُّ الخيار تَدَّعِي * عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
برفع "كلُّه"، أي: لم أَصْنَعْه. والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه:
4232 - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا * بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ
(13/325)
---(1/5400)
وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ "كلاً" أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ، وهذا لم أَرَه لغيره. وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ولم يُرْوَ قولُه: "كلُّه لم أصنَع" إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول: "كلَّه لم أصنعِ" مفعولاً مقدَّماً. قال أهل البيان: لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ، فإن الأولَ أبلغُ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام: "كل ذلك لم يكنْ" ولو قال: "لم يكن كلُّ ذلك" لكان سَلْباً للعُمو، والمقصودُ عمومُ السَّلْب.
والثاني: أن يكونَ "كل" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، و {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} صفةٌ لما قبله، والعائدُ محذوف، أي: وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى. فإن قيل: الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه. فالجوابُ: أنَّ حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ. ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه:
4233 - وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ * وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا
أي أصابوه، ومثله كثيرٌ. وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ "وكلٌّ" بدون ألف، فقد وافق كلٌّ مصحفَه. و "الحُسْنى" مفعولٌ ثانٍ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ / على عامِله.
* { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
(13/326)
---(1/5401)
قوله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ}: قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً، واختلافُ القرَّاءِ فيه في سورةِ البقرة. وقال ابن عطية هنا: "الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ". وقرأ عاصم "فيضاعِفَه" بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام. وفي ذلك قَلَقٌ، قال أبو علي: "لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلاً مردوداً على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى، كأنَّ قولَه {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِض} بمنزلةِ قولِه أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ" انتهى. وهذا الذي قالَه أبو علي ممنوعٌ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ نحو: "أين بيتُك فأزورَك" ومثلُ ذلك: "مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له" و "متى تسير فأرافِقك" و "كيف تكونُ فأصْحَبَكَ" فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال، لا عن الفعل. وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب: أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه.
* { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله: {يَوْمَ تَرَى}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في "لهم أجرٌ"، أي: استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم. الثاني: أنه مضمرٌ، أي: اذكرْ فيكون مفعولاً به. الثالث: أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه. الرابع: أنَّ العاملَ فيه "يَسْعى"، أي: يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم، هذا أصلُه. الخامس: أنَّ العاملَ فيه "فيضاعفَه" قالهما أبو البقاء.
(13/327)
---(1/5402)
قوله: {يَسْعَى} حالٌ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلاً في "يوم" و "بين أيديهم" ظرفٌ للسَّعْي، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ "نورُهم".
قوله: {وَبِأَيْمَانِهِم}، أي: وفي جهةِ أيمانهم. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين. وقيل: الباءُ بمعنى "عن"، أي: عن جميعِ جهاتِهم، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ. وقرأ أبو حيوةَ وسهلُ بن شعيب بكسرِها. وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه.
والباءُ سببيةٌ، أي: يسعى كائناً وكائناً بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء تقديرُه: وبإيمانِهم استحقُّوه، أو بإيمانهم يُقال لهم: بُشْراكم.
قوله: {بُشْرَاكُمُ} مبتدأٌ، و "اليومَ" ظرفٌ. و "جناتٌ" خبرهُ على حذفِ مضافٍ، أي: دخولُ جناتٍ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مقدر، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم. وقال مكي: "وأجاز الفراءُ نصبَ "جنات" على الحال ويكون "اليومَ" خبرَ "بُشْراكم" قال: وكونُ "جنات" حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل. وأجاز أَنْ يكونَ "بُشْراكم" في موضع نصبٍ على: يُبَشِّرونهم بالبُشرى، وتُنْصَبُ "جنات" بالبُشْرى. وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم" انتهى. وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل، ولا يجوزُ صناعةً، كيف تكون "جنات" حالاً وماذا صاحبُ الحال؟.
* { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }
(13/328)
---(1/5403)
وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ}: بدلٌ مِنْ "يومَ ترى" أو معمولٌ لـ"اذْكُر". وقال ابن عطية: "ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه {ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ويجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ". قال الشيخ: "وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ "يومَ" معمولٌ للفوز. وهو لا يجوزُ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلايجوزُ إعمالُه، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز، أي: الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ". قلت: وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال: "ويومَ ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ، أو هو بدلٌ من "اليوم" الأول".
قوله: {خَالِدِينَ} نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ: بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار: دخولُ جنات، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "بُشْراكم" هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي. وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال: "خالدين نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم" والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ "بُشْراكم" هو العاملَ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه.
قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} اللامُ للتبليغ. و "انْظُرونا" قراءةُ العامَّةِ "انظرونا" أَمْراً من النظر. وحمزة "أَنْظِرونا" بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار، أي: انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم. والقراءةُ الأولى يجوزُ أضنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال: نَظَره بمعنى انتظره، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ، فيقول المنافقون:
(13/329)
---(1/5404)
انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصراُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ، وهذا أليقُ بقولِه {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} قال معناه الزمخشري. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى بـ"إلى"/
قوله: {وَرَآءَكُمْ} فيه وجان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ بـ ارْجِعوا على معنى: ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نوراً بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نوراً آخرَ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ. والثاني: أنَّ "وراءكم" اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ، أي: ارْجِعوا ارْجعوا، قاله أبو البقاء، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفاً لـ ارْجِعوا قال: لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء. وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرءحُها.
قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ "بسورٍ" وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ الظرفَ. وقال مكي: "الباءُ مزيدةٌ، أي: ضُرِب سورٌ" ثم قال: "والباءُ متعلِّقةٌ بالمصدر، أي: ضرباً بسُور" وهذا متناقضٌ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ، والأصل "أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر"، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ. وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ.
والسُّور: البناءُ المحيطُ. وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ.
قوله: {لَّهُ بَابٌ} مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً لـ سُوْر.
قوله: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعٍ جرٍّ صفةً ثانيةً لـ"سُوْر"، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً لـ"بابٌ"، وهو أَوْلَى لقُرْبِه. والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ.
وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير "فَضَرَبَ" مبنياً للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ.(1/5405)
(13/330)
---
* { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
قوله: {يُنَادُونَهُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ الاً من الضميرِ في "بَيْنهم" قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وهو الظاهرُ.
قوله: {أَلَمْ نَكُن} يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ مقدرٍ.
قوله: {الْغَرُورُ} قراءةُ العامَّة بفتح الغَيْن، وهو صفةٌ على فَعول، والمرادُ به الشيطانُ. وقرأ سماك بن حرب "الغُرور" بالضم، وهو مصدرٌ، وتقدَّم نظيرُه.
* { فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله: {فَالْيَوْمَ}: منصوبٌ بـ"يُؤْخَذُ". ولا يُبالَى بـ"لا" النافيةِ، وهو قولُ الجمهورِ. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ. وقرأ ابن عامر "تُؤْخَذُ" بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية. والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ.
قوله: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، أي: ولايتكم، أي: ذاتُ وِلايتكم. وأَنْ يكونَ مكاناً، أي: مكانَ ولايتكم، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم، كقولك: هو مَوْلاه. وبئس المصيرُ، أي: هي.
* { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوااْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
(13/331)
---(1/5406)
قوله: {أَن تَخْشَعَ} : فاعلُ "يَأْنِ"، أي: ألم يَقْرُبْ خشوعُ قلوبِهم. واللامُ قال أبو البقاء: "للتبيين" فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: أَعْني الذينَ، ولا حاجةَ إليه. والعامة "أَلَمْ". والحسن وأبو السَّمَّال "ألَمَّا" وقد عَرَفْتَ الفرقَ بين الحرفين ممَّا تقدَّم. والعامَّةُ أيضاً "يَأْنِ" مضارعَ أنَى، أي: حان وقَرُبَ مثل: رمى يَرْمي. والحسن "يَئِنْ" مضارع آن بمعنى حانَ أيضاً مثل: باع يبيع.
قوله: {وَمَا نَزَلَ} قرأ نافع وحفص "نَزَل" مخففاً مبنياً للفاعلِ. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنه مشدَّدٌ. والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمروٍ في روايةٍ "نُزِّلَ" مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. وعبد الله "أَنْزَل" مبنياً للفاعلِ هو الله تعالى. و "ما" في "ما نَزَلَ" مخففاً يتعيَّنُ أَنْ تكونَ اسميةً. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً؛ لئلا يَخْلو الفعلُ من الفاعل، وما عداها يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي. فإن قلتَ: وقراءةُ الجحدريِّ ومَنْ معه ينبغي أَنْ تكونَ فيها اسميةً، لئلا يخلوَ الفعلُ مِنْ مرفوعٍ. فالجواب: أنَّ الجارَّ وهو قولُه "من الحق" يقوم مَقامَ الفاعل.
والعامَّةُ على الغيبة في "ولا يَكونوا" جَرْياً على ما تقدَّم. وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بالتاء مِنْ فوقُ على سبيل الالتفات. ثم هذا يُحْتمل أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على "تَخْشَعَ" كما في قراءةِ الغَيْبة وأَنْ يكونَ نهياً، فتكونَ "لا" ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. ويجوزُ أَنْ يكونَ نهياً في قراءة الغَيْبة أيضاً، ويكونُ ذلك انتقالاً إلى نهيِ أولئك المؤمنين عن كونِهم مُشْبِهين لمَنْ تَقَدَّمهم نحو: لا يَقُمْ زيدٌ.
قوله: {الأَمَدُ} العامَّةُ على تخفيف الدال بمعنى العامَّة كقولك: أَمَدُ فالنٍ، أي: غايتُه. وابن كثير في روايةٍ بتشديدِها وهو الزمنُ الطويلُ.
(13/332)
---(1/5407)
* { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
قوله: {الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}: خَفَّفَ الصاد منها ابنُ كثير وأبو بكر، وثَقَّلها باقي السبعة. فقراءةُ ابنِ كثيرٍ من التصديق، أي: صَدَّقوا رسولَ الله صل الله عليه وسلم فيما جاء به كقولِه تعالى: {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}، وقراءةُ الباقين من الصدقة وهو مناسِبٌ لقولِه "وأَقْرَضوا" والأصل: المُتَصَدٍِّقين والمتُصدِّقات فَأَدْغَمَ، وبها قرأ أُبَيٌ. وقد يُرَجَّحُ الأولُ. بأنَّ الإِقراضَ مُغْنٍ عن ذِكْرِ الصدقة.
قوله {وَأَقْرَضُواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على اسم الفاعلِ في "المُصَّدِّقين" لأنَّه لمَّا وقع صلةً لأل حَلَّ مَحَلَّ الفعلِ، فكَأنَّه قيل: إن الذين صَدَّقوا وأَقْرضوا، وعليه جمهورُ المُعربين. وإليه ذهب الفارِسيُّ والزمخشري وأبو البقاء. وهو فاسدٌ لأنه يَلْزَمُ الفصلُ بين أَبْعاضِ الصلة بأجنبي. ألا ترى أنَّ "المُصَّدِّقات" عطفٌ على "المصَّدِّقين" قبل تمام الصلةِ، ولا يجوز أن يكونَ عطفاً على المُصَّدِّقاتِ لتغايُرِ الضمائرِ تذكيراً وتأنيثاً.
الثاني: أنه معترضٌ بين اسم "إنَّّ" وخبرها وهو "يُضاعَفُ". قال أبو البقاء: "وإنما قيل ذلك لئلاَّ يُعْطفَ الماضي على اسم الفاعل" ولا أَدْري ما هذا المانعُ؟ لأنَّ اسمَ الفاعلِ متى وقع صلةً لأل صَلَحَ للأزمنةِ الثلاثة، ولو مَنَع بما ذكَرْتُه من الفصلِ بالأجنبي لأصابَ، ولكن خَفي عليه كما خَفي على مَنْ هو أكبرُ منه: الفارسيُّ والزمخشريُّ.
الثالث: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ لدلالةِ الأول عليه كأنه قيل: والذين أَقْرضوا كقولِه:
4234 - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ * ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءُ
(13/333)
---(1/5408)
أي: ومَنْ ينصُرُه واختاره الشيخ: وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه في أوائلِ هذا التصنيفِ.
قوله {يُضَاعَفُ لَهُمْ} القائم مقامَ الفاعلِ فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أنَّه الجارُّ بعده. والثاني: أنَّه ضميرُ التصديقِ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابُ التصديق.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}: [مبتدأ] و "أولئك" مبتدأ ثان و "هم" يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ ثالثاً و "الصِّدِّيقون" خبرُه، وهو مع خبرِه خبرُ الثاني، والثاني وخبرُهُ الأول. ويجوزُ أَنْ يكون "هم" فصلاً فأولئك وخبرُه الأول.
قوله {وَالشُّهَدَآءُ} يجوز فيه وجهان: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، ويكون الوقفُ على الشهداء تاماً. أخبر عن الذين آمنوا أنهم صِدِّيقون شهداءُ. فإنْ قيل: الشهداءُ مخصوصون بأوصافٍ أُخَرَ زائدةٍ على ذلك كالسبعَةِ المذكورين. أجيب: بأنَّ تَخْصِيصَهم بالذِّكْر لشَرَفِهم على.
والثاني: أنه مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان، أحدهما: أنه الظرفُ بعده. والثاني: أنه قولُه "لهم أَجْرهُم" إمَّا الجملةُ، وإمَّا الجارُّ وحدَه، والمرفوع فاعلٌ به. والوقفُ لا يَخْفَى على ما ذكَرْتُه من الإِعراب.
والصِّدِّيقُ: مثالُ مبالغةٍ، ولا يجيءُ إلاَّ من ثلاثي غالباً.قال بعضُهم: وقد جاء "مِسِّيك" مِنْ أمَسْك. وهو غَلَطٌ لأنه يقال: مَسَك ثلاثياً فمِسِّيك منه.
(13/334)
---(1/5409)
* { اعْلَمُوااْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
قوله: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}: العامَّةُ على تنوين "تَفاخُرٌ" موصوفٌ بالظرفِ أو عاملٌ فيه، والسُّلميُّ أضافه إليه.
قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يجوزُ أنَّ يكونَ في موضعِ نصبٍ حالاً من الضمير في "لَعِبٌ" لأنه بمعنى الوصفِ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ذلك كمثَل. وجَوَّزَ ابن عطية أَنْ يكونَ في موضعِ رفع صفةً لِما تقدَّم. ولم يُبَيِّنْه مكي فقال: "نعت لـ تَفاخُر". وفيه نظرٌ لتخصيصه له مِنْ بين ما تقدَّم. وجَوَّزَ أَنْ يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا.
وقُرِىء "مُصْفارَّاً" مِنْ اصفارَّ وهي أبلغُ مِنْ اصْفَرَّ.
قوله: {مُصْفَرّاً} خبرٌ مقدمٌ وما بعده مبتدأ. أخبر أنَّ في الآخرةِ عذاباً شديداً، ومغفرةً منه ورضواناً، وهذا معنىً حسنٌ، وهو أنه قابل العذابَ بشيئين: بالمغفرة والرضوان فهو من باب "لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين".
* { سَابِقُوااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ}: مبتدأٌ وخبرٌ. والجملةُ صفةٌ لجنة وكذلك "أُعِدَّتْ". ويجوزُ أَنْ يكونَ "أَعِدَّتْ" مستأنفةٌ.
(13/335)
---(1/5410)
* { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيا أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
قوله: {مِن مُّصِيبَةٍ}: فاعلُ "أصاب". و "مِنْ" مزيدةٌ لوجودِ / الشرطين. وذَكَّر فعلَها لأنَّ التأنيث مجازيُّ.
قوله {فِي الأَرْضِ} يجوزُ أَنْ يتعلَّق بـ أصاب، وأَنْ يتَعلَّقَ بنفسِ "مصيبةٍ"، وأَنْ يتَعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمصيبة وعلى هذا فيَصْلُح أَنْ يُحْكَمَ على موضِعه بالجرِّ نظراً إلى لفظِ موصوفِه وبالرفعِ نظراً إلى مَحَلِّه، إذ هو فاعلٌ. والمُصيبة غَلَبَتْ في الشر. وقيل: المرادُ بها جميعُ الحواديثِ مِنْ خيرٍ وشرٍ، وعلى الأول يُقال: لِمَ ذُكِرَتْ دون الخير؟ وأجيب: بأنه إنَّما خَصَّصها بالذِّكْرِ لأنها أهمُّ على البشر.
قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} حال مِنْ "مصيبة"، وجاز ذلك وإنْ كانت نكرةً لتخصُّصِها: إمَّا بالعملِ أو بالصفةِ، أي: إلاَّ مكتوبةً.
قوله {مِّن قَبْلِ} نعتٌ لـ كتاب، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به قاله أبو البقاء؛ لأنه هنا اسمٌ للمكتوبِ، وليس بمصدرٍ. والضمير في "نَبْرَأَها" الظاهرُ عَوْدُه على المصيبة. وقيل: على الأنفس. وقيل: على الأرض أو على جميع ذلك، قاله المهدويُّ، وهو حسنٌ.
* { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
قوله: {لِّكَيْلاَ}: هذه اللامُ متعلقةٌ بقولِه "ما أصابَ"، أي: أَخبْرَناكم بذلك لكيلاَ يَحْصُلَ لكم الحزنُ المُقْنِط أو الفرحُ المُطْغي، فأمَّا دون ذلك فالإِنسانُ غيرُ مؤاخذٍ به. و "كي" هنا ناصبةٌ بنفسِها فهي مصدريةٌ فقط لدخولِ لام الجرِّ عليها، وقرأ أبو عمرو "بما أتاكم" مقصوراً من الإِتْيان، أي: بما جاءكم. وباقي السبعة "آتاكم" ممدوداً من الإِيتاء أي: بما أعطاكم اللَّهُ إياه. وقرأ عبد الله "أُوْتيتم".
(13/336)
---(1/5411)
* { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}: قد تقدَّم مثلُ هذا في سورة النساء، وتكلمتُ عليه بما يَكْفي، فلا معنى لإِعادته.
قوله {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} قرأ نافع وابن عامر "فإن الله الغنيُّ" بإسقاطِ "هو" وهو ساقطٌ في مصاحف المدينةِ والشام. والباقون بإثباتِه وهو ثابتٌ في مصاحفِهم، فقد وافق كلٌّ مصحَفه. قال أبو علي: "مَنْ أثبت "هو" يَحْسُنْ أَنْ يكونَ فصلاً، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ ابتداءً؛ لأنَّ الابتداءَ لا يَسُوغ حَذْفُه" يعني أنه تُرَجَّعُ فصليَّتُه بحذفه في القراءةِ الأخرى، إذ لو كان مبتدأً لضَعُف حَذْفُه، لا سيما إذا صَلَحَ ما بعده أَنْ يكونَ خبراً لِما قبله، ألا تراك لو قلت: "إنَّ زيداً هو القائمُ" لم يَحْسُنْ حَذْفُ "هو" لصلاحيةِ "القائمُ" خبراً لـ"إنَّ": وهذا كما قالوا في الصلة: إنه يُحْذَفُ العائدُ المرفوعُ بالابتداء بشروطٍ منها: أن لا يكونَ ما بعدَه صالحاً للصلة نحو: "جاء الذي هو في الدار" أو "هو قائم أبوه" لعدمِ الدلالةِ. إلاَّ أنَّ للمنازعِ أن ينازعَ أبا عليٍ ويقول:لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى، وكم مِنْ قراءتَيْنِ تغاير معناهما كقراءتَيْ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} و "وضَعَتْ"، إلاَّ أنَّ توافُقُ القراءتَيْن في معنىً واحدٍ أَوْلى، هذا ما لا نزاعَ فيه.
* { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }
قوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}: جملةٌ حاليةٌ من "الحديد".
(13/337)
---(1/5412)
قوله: {مَّعَهُمْ} حالٌ مقدرة، أي: صائراً معهم، وإنَّما احتَجْنا إلى ذلك لأنَّ الرسلَ لم يُنْزَلوا، ومقتضى الكلامِ أن يَصْحبوا الكتابَ في النزولِ. وأمَّا الزمخشريُّ فإنه فَسَّرَ الرسلَ بالملائكةِ الذين يَجيئون بالوحيِ إلى الأنبياءِ فالمعيَّةُ متحققةٌ.
قوله: {وَلِيَعْلَمَ} عطفٌ على قولِه "ليقومَ الناسُ"، أي: لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنا وفَعَلْنا كيتَ وكيتَ ليقومَ الناسُ وليعلَمَ اللَّهُ. وقال الشيخ: "علةٌ لإِنزالِ الكتابِ والميزانِ والحديدِ"، والأول أظهرُ لأنَّ نصرةَ اللَّهِ ورسلِه مناسبة للإِرسال.
قوله {وَرُسُلَهُ} عطفٌ على مفعولِ "يَنْصُرُه"، أي: وينصُرُ رسُلَه. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "مَنْ" لئلا يُفْصَلَ به بين الجارِّ وهو "بالغَيْب" وبينَ ما يتعلَّق به وهو "يَنْصُرُ". قلت: وجَعْلُه العلةَ ما ذكرَه مِنْ الفصلِ بين الجارِّ وما يتعلَّق به مَنْ يُوْهِمُ أَنَّ معناه صحيحٌ لولا هذا المانعُ، وليسَ كذلك إذ يصيرُ التقديرُ: وليعلمَ اللَّهُ مَنْ ينصرُه بالغيبِ. ولِيَعْلَمَ رَسُلَه. وهذا معنىً لا يَصِحُّ البتة فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ ذلك. و "بالغيب" حالٌ وقد تقدم مثلُه أولَ البقرةِ.
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
قوله: {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ}: الضميرُ يجوزُ عَوْدُه على الذُّرَّيَّة، وهو أَوْلَى لتقدُّم ذِكْرِه لفظاً. وقيل: يعودُ على المُرْسَل إليهم لدلالة "أَرْسَلْنا" والمرسلين عليهم.
(13/338)
---(1/5413)
* { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
قوله: {الإِنجِيلَ}: قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران. قال الزمخشري: "أَمْرُه أهونُ / مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب". وقال أبو الفتح: "هو مثالٌ لا نظيرَ له".
قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} في انتصابِها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على "رأْفَةً ورحمةً". و "جَعَلَ" إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر، و "ابْتدعوها" على هذا صفةٌ لـ"رَهْبانية" وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه. وجوابُه ما تَقَدَّم: مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها. وقال أيضاً: "وقيل: هو معطوفٌ عليها، وابتدعوها نعتٌ له. والمعنى: فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها، ولهذا قال: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}.
(13/339)
---(1/5414)
والوجه الثاني: أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ. وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون: ما كانَ مِنْ فَعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْل اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه. والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ، وسأبِّينُّه إنْ شاء الله في "الأحكام".
ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرباَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و "رهبانيةً" نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال. وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أولاً اشتراطَ ذلك، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ "سورةً أنزَلْناها" بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه. ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ. ومِنْ ذلك قولُه:
4235 - عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي * فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله:
4236 - تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا * مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
(13/340)
---(1/5415)
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك. و قرأ الحسن "رَآفة" بزنة فَعالة. والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم: "الخَشْيان" مِنْ خَشِي. وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء. قال الزمخشري: "كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان". قال الشيخ: "والأَوْلَى َنْ يكونَ منسوباً إلى رَهْبان يعني بالفتح وغُيِّر؛ لأنَّ النسبَ بابُ تغيير، ولو كان منسوباً لرُهبان الجمع لرُدَّ إلى مفردِه، إلاَّ إنْ كان قد صار كالعَلَم فإنه يُنْسَبُ إليه كالأَنْصار".
قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا} صفةٌ لـ"رَهْبانيةً"، ويجوزُ أَنْ يكونَ استئناف إخبارٍ بذلك.
قوله: {إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه أوجه، أحدها: أنه استثناء متصلٌ ممَّا هو مفعولٌ من أجلِه. والمعنى: ما كَتَبْناها عليهم لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لابتغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ، ويكون "كتب" بمعنى قضى، فصار: كَتَبْناها عليهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ، وهذا قولُ مجاهد. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: - ولم يذكُرْ غيرَه -، أي: ولكنهم ابْتَدعوها. وإلى هذا ذهبَ قتادةُ وجماعةٌ، قالوا: معناه لم يَفْرِضْها عليهم ولكنهم ابتدعوها. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في "كَتَبْنَاها" قاله مكيُّ وهو مُشْكِلٌ: كيف يكونُ بدلاً، وليس هو الأولَ ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه؟ وقد يُقال: إنه بدلُ اشتمالٍ، لأن الرهبانيةَ الخالصةَ المَرْعِيَّةَ حَقَّ الرِّعاية قد يكون فيها ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ، ويصير نظيرَ قولِك "الجاريةُ ما أحببتها إلاَّ أدبَها" فإلاَّ أدبَها بدلٌ من الضمير في "أَحْبَبْتُها" بدلُ اشتمالٍ، وهذا نهايةُ التمحُّلِ لصحةِ هذا القولِ واللَّهُ أعلمُ.
(13/341)
---(1/5416)
والضميرُ المرفوعُ في "رَعَوْها" عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ. والمعنى: أنهم لم يَدُوموا كلُّهم على رعايتها، وإنْ كان وُجِدَ هذا في بعضِهم. وقيل: يعودُ على الملوكِ الذين حاربوهم. وقيل: على أحلافِهِم. و "حَقَّ" نصبٌ على المصدر.
* { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ}: هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ، إذ التقدير: إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا، لئلا يعلمَ. وفي "لا" هذه وجهان، أحدهما: / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} على خِلافٍ في هاتين الآيتين. والتقدير: أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْلِ بيدِ الله، وهذا واضح بَيَّنٌ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً.
والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ. والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ، وكان قد قال قبلَ ذلك: "لا" زائدة والمعنى: ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم" وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ}؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير: ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه.
(13/342)
---(1/5417)
وقراءةُ العامَّةِ "لئلا" بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ. وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قاسيٌّ نحو: مِيَة وفِيَة، في: مئة وفئة. ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة "لِيَعْلَم" بإسقاطِها، وقراءةُ حطان ابن عبد الله "لأَنْ يعلمَ" بإظهار "أَنْ". والجحدري أيضاً والحسن "لِيَنَّعَلَمَ" وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش "لِيَلاَّ" ثم أَدْغَمَ النون في الياء. وقال الشيخ: "بغير غُنَّة كقراءة خلف "أَنْ يَضْرِبَُ" بغيرِ غُنَّة" انتهى. فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ. وقوله: "بغير غنَّة" ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولوأَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ.
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد "لَيْلاً يَعْلَمَ" بلام مفتحةٍ وياءٍ ساكنةٍ، كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها. وتخريجُها: على أنَّ أصلَها: لأَنْ لا، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة، وأنشدوا:
4237 - أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها. . . * ................................
بفتح اللام، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً، فصار اللفظُ "لَيْلا" - كما ترى - ورُفِع الفعل؛ لأنَّ "أَنْ" هي المخففةُ لا الناصبةُ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي.
(13/343)
وقرأ الحسن أيضاً - فيما روى عنه قطرب - "لِيْلا" بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل، وهي كالتي قبلها في التخريج. غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة لاشهيرة. ورُوي عن ابن عباس "لكي يعلَمَ"، و "كي يعلم" وعن عبد الله "لكيلا" وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحق.
وقرأ العامَّةُ {أَنْ لا يَقْدِرُون} بثوبت النون على أنَّ "أَنْ" هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ "أَنْ" هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ.
وقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} الظاهرُ أنه مستأنف. وقيل: هو خبرُ ثانٍ عن الفضل. وقيل: هو الخبرُ وحدَه، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة.(1/5418)
سورة المجادلة
* { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيا إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
قوله: { قَدْ سَمِعَ}: "قد" هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: "لأنه عليه السلام والمجادِلَة كانا يتوقعان أن يَسمعَ الله مجادلتَها وشكواها، ويُنَزِّلَ في ذلك ما يُفَرِّجُ عنها. وإظهار الدالِ عند السينِ قراءةُ الجماعة إلاَّ أبا عمروٍ والأخوين. ويُنْقَلُ عن الكسائي أنه قال: "مَنْ بَيَّنَ الدالَ عند السين فلسانُه أعجميٌّ وليس بعربي" وهذا غيرُ مُعَرَّجٍ عليه. و "في زَوْجِها" أي في شأنِه من ظِهارِه إياها.
قوله: {وَتَشْتَكِيا إِلَى اللَّهِ} يجوزُ فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على "تُجادِلُك" فهي صلةٌ أيضاً. والثاني: أنَّها في موضع نصبٍ على الحالِ أي: تجادِلُك شاكيةً حالَها إلى اللَّهِ، وكذا الجملةُ مِنْ قولِه: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} والحاليةُ فيما أَبْعَدُ. /
(13/344)
---(1/5419)
* { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}: قد تقدَّم الخلافُ في "يُظاهِرون" في سورةِ الأحزاب وكذا في "اللائي" فأَغْنَى عن إعادتِه هنا وأُبي هنا "يَتَظاهَرُون" وعنه أيضاً "يَتَظَهَّرُوْن". وفي "الذين" وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، وخبرُه قولُه: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}. والثاني: أنَّه منصوبٌ بـ"بصير" على مذهبِ سيبويهِ في جوازِ إعمالِ فَعيل، قاله مكي، يعني أنَّ سيبويه يُعْمل فعيلاً من أمثلةِ المبالغةِ، وهو مذهبٌ مَطْعونٌ فيه على سيبويِهِ؛ لأنه استدلَّ على إعمالِه بقولِ الشاعر:
4238 - حتى شآها كَليلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ * باتَتْ طِراباً وبات الليلَ لم يَنَمِ
ورُدَّ عليه: بأنَّ "مَوْهِناً" ظرفُ زمانٍ، والظرفُ تعملُ يها روائحُ الأفعالِ. وللكلامِ في المسألةِ موضعٌ هو ألأيقُ به مِنْ هنا ولكنَّ المعنى يَأْبى ما قاله مكيٌّ.
وقرأ العامَّة "أمَّهاتِهم" بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى كقولِه: {مَا هَاذَا بَشَراً} وعاصم في روايةٍ بالرفعِ على اللغةِ التميميةِ، وإنْ كانَتْ هي القياسَ لعدمِ اختصاصِ الحرفِ. وقرأ عبدُ الله "بأمَّهاتهم" بزيادة الباءِ، وهي تحتمل اللغتين. وقال الزمخشري: "وزيادةُ الباء في لغة مَنْ ينصِبُ". قلت: هذا هو مذهبُ أبي علي، يرى أنَّ الباءَ لا تُزاد إلاَّ إذا كانَتْ "ما" عاملةً فلا تُزاد في التميمية ولا في الحجازيةِ إذا مَنَعَ مِنْ عملها مانعٌ نحو: "ما إنْ زيدٌ بقائمٍ". وهذا مردودٌ بقولِ الفرزدق وهو تميمي:
4239 - لَعَمْرُك ما مَعْنٌ بتارِكِ حقِّه * ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيِّسرُ
وبقول الآخر:
4240 - لَعَمْرُك ما إنْ أبو مالكٍ * بواهٍ ولا بضعيفٍ قِواهْ(1/5420)
(13/345)
---
فزادها مع "ما" الواقع بعدها "إنْ".
قوله: {مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} نعتان لمصدر محذوف أي: قولاً منكراً، وزوراً أي: كذباً وبُهْتاناً قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير: ليقولون قولاً منكراً من القول، فيصير قولُه "من القول" لا فائدةً فيه. والأَوْلَى أَنْ يُقال: نعتان لمعفولٍ محذوفٍ لفهم المعنى أي: ليقولونَ شيئاً مُنْكراً من القولِ لتفيدَ الصفة غيرَ ما أفاده الموصوفُ.
* { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}: مبتدأٌ. وقولُه: "فتحريرُ رقبةٍ" مبتدأٌ، وخبرُه مقدرٌ أي: فعليهم. أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: فيلزَمُهم تحريرُ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فالواجبُ عليهم تحريرُ. وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط.
(13/346)
---(1/5421)
قوله: {لِمَا قَالُواْ} في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ بـ"يعودون". وفيه معانٍ، أحدُها: والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام. الثاني: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه: "عادَ غيثٌ على ما أفسَد" أي: تداركه بالإِصلاح والمعنى: أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار. الثالث: أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} والمعنى: ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ، قال ذلك الزمخشريُّ. قلت: وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري: ثم يعودون للوَطْء أي: يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارة عند هؤلاء. الرابع: "لما قالوا" أي: يقولونه ثانياً فلو قال: "أنتِ عليَّ كظهر أمِّي" مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال. وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين. الخامس: أن المعنى: أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه، فهذا هو العوْدَ لِما قال، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً. وقال: / العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ.
(13/347)
---(1/5422)
وقال مكي: "اللامُ متعلقةٌ بـ"يعودون" أي: يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ، وهُنَّ الأزواجُ، فـ"ما" والفعلُ مصدرٌ أي: لموقلِهم، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو: "هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير" أي: مَضْرُوبُه، فيصير معنى "لقولهم" للمقولِ فيه الظِّهارُ أي: "لوَطْئِه". قلت: وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري مالك، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ "ما" مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول.
وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز ذلك، وإنْ كانت "ما" غيرَ مصدرية، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ، ذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلفُ الأصلِ، فيلزمُ الخروجُ عن الاصل بشيئين: بالمصدرِ المؤولِ. ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضَعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه. لا يُقال: إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي: يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها، أو يعودون لإِمساكِها، والأصلُ عدمُ الحذفِ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم، فإنكم تقولون أيضاً: لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي: يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ. ويدل على جوازِ كَوْنِ "ما" في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء، فإنه قال: "يتعلَّقُ بـ"يعودون" بمعنى: يعودون للمقول فيه. هذا إنْ جَعَلْتَ "ما" مصدريةً، ويجوز أَنْ بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً".
(13/348)
---(1/5423)
الثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بـ"تحرير". وفي الكلامَ تقديرُ وتأخيرٌ. والتقدير: والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك. وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش. قال الشيخ: "وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية". وفيه نظرٌ. لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل.
الثالث: أن اللامَ بمعنى "إلى". الرابع: أنها بمعنى "في" نَقَلهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ بـ"يَعُودون". الخامس: أنها متعلِّقةٌ بـ"يقولون". قال مكي: "وقال قتادةُ: ثم يعودونِ لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ بـ"يقولون". قلتُ: ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي، وكيف فَهم تعلُّقَها بـ"يقولون" على تفسيرِ قتادةَ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها بـ"يَعودون"، وليس لتعلُّقِها بـ"يقولون" وجهٌ.
* { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله: {فَصِيَامُ} و "فإِطعامُ" كقولِه: {فَتَحْرِيرُ} في ثلاثة الأوجهِ المتقدمةِ. و "مِنْ قبلِ" متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي: فيلزَمُه تحريرُ أو صيام، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما. والضميرُ في "يتماسَّا" للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما.
* { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوااْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
(13/349)
---(1/5424)
قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بـ"عذابٌ مُهينٌ". الثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. فقدَّره أبو البقاء "يُهانون أو يُعَذَّبون"، أو استقرَّ لهم ذلك يومَ يَبْعَثهم" وقَدَّره الزمخشري بـ اذْكُرْ قال: "تعظيماً لليوم". الثالث: أنه منصوبٌ بـ"لهم"، قاله الزمخشري. أي: بالاستقرار الذي تَضَمَّنه لوقوعِه خبراً. الرابع: أنه منصوبٌ بـ"أَحْصاه" قاله أبو البقاء. وفيه قَلَقٌ؛ لأنَّ الضميرَ في "أحْصاه" يعود على ما عَمِلوا.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى}: "يكونُ" تامةٌ و "من نَجْوى" فاعلُها. و "مِنْ" مزيدةٌ فيه. ونجوى في الأصل مصدرٌ فيجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على أصلِه، ويكون مضافاً لفاعِله، أي: ما يوجَدُ مِنْ تناجي ثلاثةٍ. ويجوز أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ ذوي نَجْوى. ويجوزُ أَنْ يكونَ أطلق على الأشخاصِ المتناجينِ مبالغةً، فعلى هذَيْن الوجهَيْن ينخفضُ "ثلاثة" على أحدِ وجْهَين: إمَّا البدلِ مِنْ ذوي المحذوفة، وإمَّا الوصفِ لها على التقدير الثاني، وإمَّا البدلِ أو الصفةِ لـ"نَجْوَى" على التقدير الثالث.
(13/350)
---(1/5425)
وقرأ ابن أبي عبلة "ثلاثةً" و "خمسةً" نصباً على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ مع رافعِه، تقديرُه: يتناجَوْن ثلاثةً، وحُذف لدلالةِ "نجوى" عليه. والثاني: أنه الضمير المستكِنُّ / في "نجوى" إذا جَعَلْناها بمعنى المتناجِين، قاله الزمخشريُّ. قال مكي: "ويجوز في الكلام رَفْعُ "ثلاثة" على البدل مِنْ موضع "نَجْوى"، لأنَّ موضعَها رفعٌ و "مِنْ" زائدةٌ، ولو نصَبْتَ "ثلاثة" على الحال من الضمير المرفوع إذا جَعَلْتَ "نجوى " بمعنى المتناجين جازَ في الكلام". قلت: أمَّا الرفعُ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ، وهو جائزٌ في غير القرآن كما قال. وأمَّ النصبُّ فقد عَرَفْتَ مَنْ قرأ به فكأنَّه لم يَطَّلعْ عليه.
قوله: {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} "إلاَّ هو خامسُهم" {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} كلُّ هذه الجملِ بعد "إلاَّ" في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي: ما يوجَدُ شَيْءٌ من هذه الأشياءِ إلاَّ في حالٍ مِنْ هذه الأحوالِ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ من الأحوال العامة.
وقرأ أبو جعفر: "ما تكونُ" بتاءِ التأنيث لتأنيث النجوى. قال أبو الفضل: إلاَّ أنَّ الأكثرَ في هذا البابِ التذكيرُ على ما في العامة؛ لأنه مُسْنَدٌ إلى "مِنْ نجوى"، وهو اسمُ جنسٍ مذكرٌ.
قوله: {وَلاَ أَكْثَرَ} العامَّةُ على الجرِّ عطفاً على لفظ "نجوى". وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوبُ "ولا أكثرُ" بالرفع. فويه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على موضع "نَجْوى" لأنه مرفوعٌ، و "مِنْ" مزيدةٌ فيه. فإن كان مصدراً كان على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم أي: مِنْ ذوي نجوى، وإن كان بمعنى المتناجِين فلا حاجةَ إلى ذلك. والثاني: أن يكونَ "أَدْنى" مبتدأ، و {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} خبرُه، فيكون "ولا أكثرُ" عطفاً على المبتدأ، وحينئذ يكون "ولا أَدْنَى" من باب عطفِ الجملِ لا المفرداتِ.
(13/351)
---(1/5426)
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل "ولا أكبرُ" بالباء الموحدة والرفعِ على ما تقدَّم. وزيد بن علي "يُنْبِهِمْ" مِنْ أَنْبأ؛ إلاَّ أنه حذف الهمزةَ وكسرَ الهاءَ، وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بإثباتِ الهمزةِ وضمِّ الهاءِ. والعامَّةُ بالتشديد مِنْ نَبَّأ.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيا أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ}: قرأ حمزة "يَنْتَجُوْنَ" من الانتجاء من النجوى. والباقون "يتناجَوْن" من التناجي مِن النجوى أيضاً. قال أبو علي: "والافتعال والتفاعُلُ يجريان مَجْرىً واحداً، ومِنْ ثَمَّ صَحَّحوا: ازدَوَجُوا واعْتَوَرَوا لَمَّا كانا في معنى: تزاوَجُوا وتعاوَنوا. وجاء {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ} و {ادَّارَكُواْ} قلت: ويؤيِّد قراءةَ العامة الإِجماعُ على "تناجَيْتُمْ" و "فلا تَتَناجوا"، و "وتناجَوْا"، فهذه مِن التفاعُل لا غيرُ، إلا ما روي عن عبد الله أنه قرأ. "إذا انْتَجَيْتُم فلا تَنْتَجُوا" ونقل الشيخُ عن الكوفيين والأعمش "فلا تَنْتَجُوا" كقراءةِ عبد الله. وأصل تَنْتَجُون. تَنْتَجِيُوْن". ويتَناجَوْن يتناجَيُون فاسْتُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فحذفت الياءُ لالتقائِهما. أو نقول: تحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، فالتقى ساكنان فحذِف أوَّلهما وبقيت الفتحةُ دالةً على الألف.
[وقرأ] أبو حيوة "بالعِدْوان" بكسرِ العين.
(13/352)
---(1/5427)
* { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
وقد تقدَّم قراءتا "ليحزنَ" بالضم والفتح في آل عمران. وقُرِىء بفتح الياءِ والزاي على أنه مسندٌ إلى الموصولِ بعده فيكونُ فاعلاً.
وقوله: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ اسمُ "ليس" ضميراً عائداً على الشيطان، وأَنْ يكونَ عائداً على الحزنِ المفهومِ مِنْ "ليحزنَ" قاله الزمخشري. والأولُ أَوْلَى للتصريحِ بما يعود عليه. [وقرأ] الضحاك "ومعصيات" جمعاً.
قوله: {لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا} هذه الجملةُ التحضيضيةُ في موضع نصبٍ بالقول.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
وقرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو بكرٍ بخلافٍ عنه بضم شين "انشُزوا" في الحرفَيْن، والباقون بكسرِها، وهما لغتان بمعنىً واحد. يُقال: نَشَزَ أي ارتفع يَنْشِز ويَنْشُزُ كعَرَش يَعْرِش ويَعْرُش، وعَكَفَ يَعْكِف ويَعْكُف. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة.
قوله: {فِي الْمَجَالِسِ} قرأ عاصم "المجالس" جمعاً اعتباراً بأنَّ لكِّ واحدٍ منهم مجلساً. والباقون بالإِفراد، إذ المرادُ مجلسُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وهو أحسنُ مِنْ كونِه واحداً أريد به الجمعُ. وقُرىء "في المجلَس" بفتح اللام وهو المصدرُ أي: تَفَسَّحوا في جلوسِكم ولا تتضايَقوا. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وعيسى وقادة "تَفاسَحُوا" والفُسْحَةُ: السَّعَةُ. وفَسَح له أي: وسَّعَ له.
(13/353)
---(1/5428)
قوله: {وَالَّذِينَ أُوتُواْ} يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على "الذين آمنوا" فهو مِنْ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الذين أُوْتوا العلمَ بعضُ المؤمنين منهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ "والذين أُوْتُوا" مِنْ عطفِ الصفاتِ أي: تكونُ الصفاتُ لذاتٍ واحدةٍ، كأنه قيل: يرفعُ الله المؤمنين العلماءَ. و "دَرَجاتٍ" مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على نحوِ ذلك في الأنعام. وقال ابنُ عباس: تمَّ الكلامُ عند قولِه "منكم" وينتصِبُ "الذين أُوْتُوا" بفعلٍ مضمرٍ أي: ويَخُصُّ الذين أوتوا اللمَ بدرجات /، أو ويرْفعُهم درجاتٍ.
* { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} في "إذْ" هذه ثلاثة أقوالٍ، أحدها: أنها على بابِها من المُضِيِّ. والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ، قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّها بمعنى "إذا" كقولِه : {إِذِ الأَغْلاَلُ} وقد تقدَّم الكلامُ فيه. الثالث: أنها بمعنى "إنْ" الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين "إنْ" و "إذا" معروفٌ. ورُوي عن أبي عمرو {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالياءِ مِنْ تحتُ. والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
(13/354)
---(1/5429)
قوله: {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ}: يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب. أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ. ولا من الكافرين الخلَّصِ، بل كقولِه {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلااءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلااءِ}. فالضميرُ في "ما هم" عائدٌ على الذين تَوَلَّوا، وهم المنافقون. وفي "منهم" عائدٌ على اليهود أي: الكافرين الخُلَّص. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل "تَوَلَّوا" والمعنى: على ما تقدَّم أيضاً. والثالث: أنها صفةٌ ثانيةً لـ"قوماً"، فعلى هذا يكون الضميرُ في "ما هم" عائداً على "قوماً"، وهم اليهودُ. والضميرُ في "منهم" عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني: اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون، قاله ابن عطية. إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في "ويَحْلِفون" عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي: يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها.
* { اتَّخَذْوااْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
* {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}: مفعولان لـ"اتَّخذوا". وقرأ العامَّةُ "أَيْمانَهم" بفتحِ الهمزةِ جمع يمين. والحسن بكسرِها مصدراً. وقوله: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} قد تقدَّمَ في آل عمران.
* { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }(1/5430)
(13/355)
---
قوله: {اسْتَحْوَذَ}: جاءَ به على الأصلِ، وهو فصيحٌ استعمالاً، وإنْ شَذَّ قياساً. وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ "استحاذ" كاستقام، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قولِه: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ}
* { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيا إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }
قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ}: يجوز أَنْ يكونَ "كَتَبَ" جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به. وقال أبو البقاء: "وقيل: هي جوابُ "كَتَبَ" لأنَّه بمعنى قال". وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ "قال" لا يَقْتضِي جواباً فصوابُه ما قَدَّمْتُه. ويجوزُ أَنْ يَكون "لأَغْلِبَنَّ" جوابَ قسمٍ مقدرٍ، وليس بظاهر.
* { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوااْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
قوله: {يُوَآدُّونَ}: هو المفعولُ الثاني لـ"تَجِدُ" ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي، فيكون "يوادُّون". حالاً أو صفةً لـ"قوماً". والواوُ في "ولو كانوا" حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ مرة. وقدَّم أولاً الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم، ثم ثّنَّى. بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها:
4241 - فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا *أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ
الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع. قال:
(13/356)
---(1/5431)
4242 - أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له *كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه *وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟
راع. قال:
4242 - أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له *كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه *وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟
ثم رَبَّع بالعشيرةِ، لأنَّ بها يسْتغاثُ، وعليها يُعْتمد. قال:
4243 - لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم *في النائباتِ على ما قال بُرْهانا
وقرأ أبو رجاء "عشيراتِهم" بالجمع، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك. وقرأ العامَّةُ "كَتَبَ" مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، "الإِيمانَ" نصباً وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل "كُتِبَ" مبنياً للمفعول، "الإِيمانُ" رفعٌ به. والضميرُ في "منه" للَّهِ تعالى. وقيل: يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ.(1/5432)
سورة الحشر
* { هُوَ الَّذِيا أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِي الأَبْصَارِ }
قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: "مِنْ" يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ، فتتعلَّق بمحذوفٍ، أي: أعني من أهل الكتاب. والثاني: أنها حالٌ من "الذين كفروا".
قوله: {مِن دِيَارِهِمْ} متعلق بـ"أَخْرَجَ" ومعناها ابتداءُ الغايةِ. وصَحَّتْ إضافةُ الديارِ إليهم لأنهم أَنْشَؤُوها.
(13/357)
قوله: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} هذه / اللامُ تتعلقُ بـ"أَخْرَجَ" وهي لامُ التوقيتِ كقولِه: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، أي: عند أول الحشر. قال الزمخشري: "وهي اللامُ في قولِه تعالى: {يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} وقولِك "جئتُ لوقْتِ كذا". قلت: سيأتي الكلامُ على هذه اللامِ في الفجرِ، إنْ شاءَ الله تعالى.
قوله: {مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم} فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ "حصونُهم" مبتدأً، و "مانِعَتُهم" خبرٌ مقدٌ. والجملةُ خبرُ "أنهم" لا يُقال: لم لا يُقال: "مانِعَتُهم" مبتدأٌ؛ لأنه معرفةٌ و "حصونُهم" خبرُه. ولا حاجةَ لتقديمٍ ولا تأخيرٍ؛ لأنَّ القصدَ الإِخبارُ عن الحصون، ولأنَّ الإِضافةَ غيرُ مَحْضَةٍ، فهي نكرةٌ. والثاني: أَنْ يكونَ "مانِعَتُهم" خبرَ "أنهم" وحصونُهم" فاعلٌ به. نحو: إنَّ زيداً قائمٌ أبوه، وإنَّ عَمْراً قائمةٌ جاريتُه. وجعله الشيخ أَوْلى؛ لأنَّ في نحو: قائمٌ زيد - على أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ومبتدأً مؤخراً - خلافاً والكوفيون يمنعونَه فمحلُّ الوِفاق أَوْلى.
وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْقٍ بين قولِك "وظنُّوا أنَّ حصونَهم تمنعُهم، أو مانِعَتُهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: [في] تقديمِ الخبرِ على المبتدأ دليلٌ على فَرْطِ وُثوقِهم بحَصانتِها ومَنْعِها إياهم، وفي تصييرِ ضميرِهم اسماً لـ"أنَّ" وإسناد الجملةِ إليه دليلٌ على اعتقادِهم في أنفسِهم أنَّهم في عِزَّةٍ ومَنَعَة لا يُبالي معها بأحد يَتَعرَّضُ لَهم، وليس ذلك في قولك "حُصُونهم تَمْنعم" انتهى. وهذا الذي ذكره إنما يَتأتَّى على الإِعرابِ الأولِ، وقد تقدَّم أنه مَرْجوحٌ، وتَسَلَّطَ الظنُّ هنا على "أنَّ" المشددةِ، والقاعدةُ أنه لا يعملُ فيها ولا في المخففةِ منها إلاَّ فعلُ عِلْمٍ ويقينٍ، إجراءً له مُجْرى اليقين لشدَّتِه وقوتِه وأنَّه بمنزلةِ العلم.
(13/358)
---(1/5433)
قوله: {يُخْرِبُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً للإِخبار به، وأن يكونَ حالاً مِنْ ضميرِ "قلوبِهم" وليس بذاك. وقرأ أبو عمرو "يُخَرِّبون" بالتشديد وباقيم بالتخفيفِ وهما بمعنى واحدٍ؛ لأن خرَّب عَدَّاه أبو عمروٍ بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمروٍ أنه فَرَّق بمعنىً آخرَ فقال: "خرَّب بالتشديد: هَدَم وأَفْسد، وأَخْرَبَ بالهمزة: تَرَكَ الموضوعَ خراباً وذهَب عنه. واختار الهذليُّ قراءةَ أبي عمروٍ لأجل التكثير. ويجوزُ أَنْ يكونَ "يُخْرِبون" تفسيراً للرعب فلا مَحَلَّ له أيضاً.
* { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ }
قوله: {الْجَلاَءَ}: العامَّةُ على مَدَّة وهو الإِخراجُ، أَجْلَيْتُ القومَ إجلاءً، وجلا هو جلاءً. وقال الماوردي: "الجلاءُ أخصُّ من الخروجِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ لجماعةٍ، والإِخراجُ يكون للجماعةِ والواحد" وقال غيرُه: الفرقُ بينهما أنَّ الجلاءَ ما كان مع الأهلِ والولدِ بخلاف الإِخراجِ فإنه لا يَسْتلزِمُ ذلك.
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح "الجَلا" بألفٍ فقط. وطلحة مهموزاً من غيرِ ألفٍ كالنبأ. وقرأ طلحة "ومَنْ يُشاقِقْ" بالفكِّ كالمتفق عليه في الأنفال.
* { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
قوله: {مَا قَطَعْتُمْ}: "ما" شرطيةٌ في موضع نصب بـ"قَطَعْتم" و "مِنْ لينةٍ" بيانٌ له. و "فبإِذنِ اللهِ" جزاء الشرطِ. ولا بُدَّ مِنْ حذفٍ، أي: فقَطْعُها بإذنِ الله، فيكون "بإذنِ الله" الخبرَ لذلك المبتدأ. واللينةُ فيها خلافٌ كثير، قيل: هي النخلةُ مطلقاً، وأُنْشِد:
4244 - كأن قُتودي فوقها عُشُّ طائرٍ * على لِيْنَةٍ سَوْقاءَ تَهْفوا جُنوبها
وقال آخر:
(13/359)
---(1/5434)
4245 - طِراقُ الخوافِي واقعٌ فوقَ لِينة * نَدَى لَيْله في ريشه يَتَرَقْرَقُ
وقيل: هي النخلة ما لم تكن عجوةً. وقيل: ما لم تكن عَجْوةً ولا بَرْنِيَّة. وقيل: هي النخلةُ الكريمة. وقيل: ما تَمْرُها لُوْنٌ، وهو نوعٌ من التمر، قال سفيان: هو شديدُ الصُّفْرة يَشِفُّ عن نواةٍ. وقيل: هي العَجْوة. وقيل: هي الفُسْلان وأنشد:
4246 - غَرَسوا لينةً بمَجرى مَعِيْنِ * ثم حُفَّ النخيلُ بالآجامِ
وقال آخر:
4247 - قد جَفاني الأَحْبابُ حين تَغَنَّوا * بفراقِ الأحبابِ مِنْ فوقِ ليْنَهْ
وقيل: هي أغصان الشجر للينِها.
وفي عين "لِينة" قولان، أحدهما: أنها واوٌ لأنه من اللون، وإنما قُلِبَتْ ياءً لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها كدِيْمة وقيمة. الثاني: أنها ياءٌ لأنها من اللِّين. وجَمْعُ اللِّينة لِيْن لأنه من بابِ اسم الجنس كتَمْرة وتَمْر. وقد كُسِّر على "لِيان" وهو شاذٌّ؛ لأنَّ تكسيرَ ما يُفَرَّقُ بتاءِ التأنيث شاذٌّ كرُطَبَة ورُطَب وأَرْطاب. وأُنْشد:
4248 - وسالفةٌ كسَحُوْقِ اللِّيا * ن أَضْرَمَ فيه الغَوِيُّ السُّعُرْ
/ والضميرُ في "تَرَكْتموها" عائدٌ على معنى "ما" وقرأ عبدُ الله والأعمش وزيد بن علي "قُوَّماً" على وزنِ ضُرَّب؛ جمعَ "قائم" مراعاةً لمعنى "ما" فإنه جمعٌ. وقُرِىءَ "قائماً" مفرداً مذكراً. وقُرِىء "أُصُلِها" بغير واو. وفيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ "أَصْلٍ"، نحو: رَهْن ورُهُن. والثاني: أن يكونَ حَذَفَ الواوَ استثقالاً لها.
قوله: {وَلِيُخْزِيَ} اللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ، أي: ولِيُخْزِيَ أَذِنَ في قَطْعِها، أو ليُسِرَّ المؤمنين ويُعِزَّهم ولِيُخْزِيَ.
* { وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(13/360)
---(1/5435)
قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ}: الفاءُ جوابُ الشرطِ، أو زائدةٌ، على أنها موصولةٌ مضمَّنَةٌ معنى الشرط. و "ما" نافيةٌ. والإِيجافُ: حَمْلٌ البعيرِ على السيرِ السريع يقال: وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفاً ووَجِيْفاً ووَجَفاناً. وأَوْجفْتُه أنا إيجافاً. قال العَجَّاج:
4249 - ناجٍ طواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا
وقال نُصِيب:
4250 - ألا رُبَّ رَكْبٍ قد قَطَعْتُ وجيفَهم * إليك ولولا أنت لم توجِفِ الرَّكْبُ
قوله: {مِنْ خَيْلٍ} "مِنْ" زائدةٌ، أي: خَيْلاً. والرِّكاب: الإِبلُ.
* { مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله: {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ}: قال الزمخشري: "لم يُدْخِلِ العاطفَ على هذه الجلمةِ لأنها بيانٌ للأولى، فهي منها غيرُ أجنبيةٍ".
(13/361)
---(1/5436)
قوله: {يَكُونَ دُولَةً} قرأ هشام "تكون" بالتاء والياء "دُوْلةٌ" بالرفع فقط، والباقون بالياء مِنْ تحتُ ونصب دُوْلَةً. فأمَّا الرفعُ فعلى أنَّ "كان" التامَّةُ. وأمَّا التذكيرُ والتأنيثُ فواضحان لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ. وأمَّا النصبُ فعلى أنها الناقصةُ. واسمُها ضميرٌ عائدٌ على الفَيْءِ، والتذكيرُ واجبٌ لتذكيرِ المرفوع. و "دُولة" خبرها. وقيل:عائد على "ما" اعتباراً بلفظِها. وقرأ العامَّةُ "دُوْلة" بضم الدال. وعلي بن أبي طالب والسُّلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً وهما ما يَدُول لإِنسان، أي: يدور من الجِدِّ والعَناء والغَلَبة. وقال الحُذَّاقُ من البصريين والكسائيُّ: الدَّوْلة بالفتح: من المُلك بضم الميم، وبالضم من المِلْكِ بكسرِها، أو بالضمِّ في المال، وبالفتح في النُّصْرة وهذا يَرُدُّه القراءة المرويَّةُ عن علي والسلمي؛ فإنَّ النصرةَ غيرُ مرادةٌ هان قطعاً. و "كيلا" علةٌ لقولِه: "فللَّهِ وللرسول"، أي: استقرارُ لكذا لهذه العلَّةِ.
* { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }
(13/362)
---(1/5437)
قوله: {لِلْفُقَرَآءِ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ "لذي القُرْبى" قاله أبو البقاء والزمخشري. قال أبو البقاء: "قيل هو بدلٌ مِنْ "لذي القُربى" وما بعده" وقال الزمخشري: "بدلٌ مِنْ قوله "ولذي القُربى" وما عُطِف عليه. والذي مَنَعَ الإِبدالَ مِنْ "لله وللرسول" والمعطوفِ عليهما وإنْ كان المعنى لرسول الله أن اللّهَ عزَّ وجلَّ أخرجَ رسوله من الفقراءِ في قولِه: {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأنه تعالى يترفَّعُ برسوله عن تسميته بالفقير، وأنَّ الإِبدالَ على ظاهرِ اللفظ من خلافِ واجب في تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ" يعني لو قيلك بأنَّه بَدَلٌ مِنْ "لله" وما بعدَه لَزَمَ فيه ما ذُكِرَ: مِنْ أنَّ البدلَ على ظاهرِ اللفظِ يكونُ من الجلالةِ فيُقال: "للفقراء" بدلٌ مِنْ "لله" ومِنْ "رسولِه" وهو قبيحٌ لفظاٌ، وإن كان المعنى على خلافِ هذا الظاهرِ، كما قال: إن معناه لرسولِ الله، وإنما ذُكر اللهُ عزَّ وجلَّ تفخيماً، وإلاَّ فاللهُ تعالى غنيٌّ عن الفَيْءِ وغيره، وإنما جعله بدلاً مِنْ "لذي القُرْبى" لأنه حنفيٌّ، والحنفية يشترطون الفقرَ في إعطاءِ ذوي القُربى مِنَ الفَيْءِ.
الثاني: انه بيانٌ لقولِه {وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وكُرِّرتُ لامُ الجر لَمَّا كانت الأُولى مجرورةً باللام؛ ليُبَيِّنَ أنَّ البدلَ إنما هو منها، قاله ابنُ عطية، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ جداً. الثالث: أن "للفقراء" خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: ولكنَّ الفَيْءَ للفقراء. وقيل: تقديرُه: ولكن يكونُ "للفقراء". وقيل: تقديرُه: اعجَبوا للفقراء.
قوله: {يَبْتَغُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً. في صاحبِها قولان، أحدهما: للفقراء. والثاني: واو "أُخْرِجوا" قالهما مكي.
(13/363)
---(1/5438)
* { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا}: يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على الفقراء، فيكونُ مجروراً، ويكونُ من عَطْفِ المفرداتِ، ويكون "يُحبُّون" حالاً. والثاني: أَنْ يكونَ مبتدأ، خبرُه "يُحِبُّون"، ويكون حينئذٍ مِنْ عطفِ الجُمل.
قوله: {وَالإِيمَانَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه ضُمِّنَ "تَبَوَّؤوا" معنى لزِموا، فيَصِحُّ عَطْفُ الإِيمان عليه؛ إذ الإيمانُ لا يُتَبَوَّأ. والثاني: أنه منصوبٌ بمقدرٍ، أي: واعتقدوا، أو وأَلِفوا، أو وأحَبُّوا. الثالث: أن يُتَجَوَّز في الإِيمان فيُجْعَلَ لاختلاطِه بهم وثباتِهم عليه كالمكانِ المُحيطِ بهم، فكأنَّهم نَزَلوه، وعلى هذا فيكونُ جَمَعَ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ، وفيه خلافٌ مشهورٌ. الرابع: أَنْ يكونَ الأصلُ: / دارَ الهجرة ودارَ الإِيمان، فأقامَ لامَ التعريفِ في الدار مُقام المضافِ إليه، وحَذَفَ المضافَ مِنْ دار الإِيمان، ووَضَعَ المضافَ إليه مَقامه. بالخامسُ. أَنْ يكونَ سَمَّى المدينة لأنَّها دارُ الهجرة ومكانُ ظهورِ الإِيمان بالإِمان، قال هذين الوجهَيْنِ الزمخشريُّ، وليس فيه إلاَّ قيامٌ أل مَقامَ المضافِ إليه، وهو مَحَلُّ نَظَر، وإنما يُعْرَفُ الخلافُ: هل تقوم أل مَقامَ الضميرِ المضاف إليه؟ الكوفيون يُجيزونه كقولِه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، أي: مَأْواه، والبصريون يمنعونه ويقولون: الضميرُ محذوفٌ، أي: المَأْوى له وقد تقدَّمَ تحريرُ هذا. أمَّا كونُها عِوَضاً من المضاف إليه فلا نَعْرِفُ فيه خلافاً.
(13/364)
---(1/5439)
السادس: أنَّه مصنوبٌ على المفعولِ معه، أي: مع الإِيمان معاً، قاله ابن عطية، وقال: "وبهذا الاقترانِ يَصِحُّ معنى قولِه "مِنْ قبلهم فتأمَّلْه" قلت: وقد شَرَطوا في المفعول معه أنَّه يجوز عَطْفُه على م قبلَه حتى جَعَلوا قولَه {فَأَجْمِعُوااْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} مِنْ بابِ إضمار الفعل لأنَّه لا يُقال: أجمعتُ شركائي إنما يقال جَمَعْتُ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك - ولله الحمد - مشبعاً.
قوله: {حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الحاجةَ هنا على بابِها من الاحتياج، إلاَّ أنها واقعةٌ مَوْقعَ المحتاجِ إليه، والمعنَى: ولا يجدون طَلَبَ محتاجٍ إليه ممَّا أُوْتي المهاجرون من الفيء وغيِه، والمُحتاج إليه يُسَمَّى حاجةً تقول: خُذْ منه حاجتَك، وأعطاه مِنْ مالِه حاجتَه، قاله الزمشخري. فعلى هذا يكون الضميرُ الأول للجائين مِنْ بعدِ المهاجرين، وفي "أُوْتوا" للمهاجرين. والثاني: أنَّ الحاجةَ هنا مِنْ الحَسَدِ، قاله بعضُهم، والضميران على ما تقدَّم قبل. وقال أبو البقاء: مَسَّ حاجةٍ، أي: إنه حُذِف المضافُ للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوَّؤوا الدارَ والإِيمان.
قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ} واوُ الحال وقد تقدَّم الكلامُ عليها.
والخَصاصَةُ: الحاجةُ، وأصلُها مِنْ خَصاصِ البيت، وهي فُروجهُ، وحالُ الفقير يتخَلَّلُها النَّقْصُ، فاسْتُعير لها ذلك.
قوله: {وَمَن يُوقَ} العامَّةُ على سكون الواو وتخفيفِ القافِ مِنْ الوِقاية. وابنُ أبي عبلة وأبو حيوة بفتحِ الواو وشدِّ القافِ. والعامَّةُ بضمِّ الشينِ مِنْ "شُحَّ" وابنُ أبي عبلة وابنُ عمر بكسرها.
* { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
(13/365)
---(1/5440)
قوله: {وَالَّذِينَ جَآءُوا}: يحتمل الوجهَيْن المتقدمَيْن في "الذين" قبلَه، فإن كان معطوفاً على المهاجرين فـ"يقولون" حالٌ كـ"يُحِبُّون" أو مستأنف، وإنْ كان مبتدأً فـ"يقولون" خبرُه.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
قوله: {لإِخْوَانِهِمُ}: اللامُ هنا للتبليغ فقط بخلافِ قولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} فإنَّها تحتملُ ذلك وتحتمل العلةَ، وقوله: {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ}، أي: في قتالِكم، أو في خِذْلانكم.
وقوله: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أُجيب القسمُ المقدرُ لأنَّ قبل "إنْ" لاماً موطِّئة حُذِفَتْ للعِلْم بمكانِها، فإنَّ الأكثرَ الإِتيانُ بها. ومثلُه قولُه: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} وقد تقدَّم.
* { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }
قوله: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ}: إلى آخره أُجيب القسمُ لسَبْقِه، ولذلك رُفِعَتِ الأفعالُ ولم تُجْزَمْ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالةِ جوابِ القسمِ عليه، ولذلك كان فِعلُ الشرطِ ماضياً. وقال أبو البقاء: "قولُه: "لا يَنْصُرُوْنَهم" لَمَّا كان الشرطُ ماضياً تُرِكَ جَزْمُ الجوابِ" انتهى. وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ "لا يَنْصُرونهم" ليس جواباً للشرطِ، بل هو جوابٌ للقسم، وجواب الشرطِ محذوفٌ كما تقدَّمَ تقريرُه، وكأنه توهَّم أنه من بابِ قوله:
4251 - وإن أتاه خليلٌ يومَ مَسْأَلَةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
(13/366)
---(1/5441)
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عيطة إلى ما يُوْهِم شيئاً من ذلك، ولكنه صرَّح بأنه جوابُ القسم، وقال: "جاءت الأفعالُ غير مجزومةٍ في "لا يَخْرجون" ولا "يَنْصرُون" لأنها راجعةٌ على حكم القسم لا على حكمِ الشرط. وفي هذا نظرٌ" وقوله: "وفي هذا نظر" مُوْهِمٌ أنه جاء على خلافِ ما يقتضيه القياسُ، وليس كذلك، بل جاء على ما يَقْتضيه القياسُ. وفي هذه الضمائرِ قولان، أحدهما: أنها كلَّها للمنافقين. والثاني: أنها مختلفةٌ، بعضُها لهؤلاء وبعضُها لهؤلاء.
* { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }
قوله: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً}: "رهبةً" مصدرٌ مِنْ رُهِبَ المبنيِّ للمفعولِ، فالرهبةُ واقعةٌ من المنافقين لا مِنْ المخاطبين، وهو كقولِ كعبِ بن زهير - رضي الله عنه - في مَدْح رسوِ الله صلَّى الله عليه وسلم:
4252 - فَلَهْوَ أَخْوَفُ عندي إذا أُكَلِّمُهُ *وقيل: إنك محبوسٌ ومقتولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بثَراءِ الأرضِ مُخْدَرُه *ببَطْنِ عَثَّر غِيْلٌ دونَه غِيْلُ
و "رُهْبةً" تمييز.
* { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ }
قوله: {جَمِيعاً}: حالٌ و {إِلاَّ فِي قُرًى} متعلقٌ بـ"يُقاتِلونكم".
(13/367)
---(1/5442)
وقوله: {جُدُرٍ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو "جدار" بالإِفرادِ. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه أرادَ به السُّوْرَ، والسُّوْرُ الواحد يَعُمُّ الجميعَ من المقاتِلةِ ويَسْتُرهم. والثاني: أنه واحدٌ في معنى الجمع لدلالة السِّياقِ عليه. والثالث: أنَّ كلَّ فِرْقة منهم وراءَ جدار، لا أنَّهم كلَّهم وراءَ جدار. والباقون قَرَؤُوا جُدُر بضمتين / اعتباراً بنَّ كلَّ فِرْقةٍ وراءَ جدار، فجُمِعَ لذلك. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش، ويُرْوى عن ابن كثير وعاصمٍ وسكونٍ، وهي تخفيفُ الأُولى. وقرأ ابن كثير أيضاً في وراية هارونَ عنه، وهي قراءةُ كثيرٍ من المكيين "جَدْرٍ": بفتحة وسكون فقيل: هي لغةٌ في الجِدار. وقال ابن عطية: "معناه أصلُ بنيانٍ كالسُّور ونحوه" قال: "ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ جَدْر النخيل، أي: أو مِنْ وراءِ نخيلهم. وقُرِىء "جَدَر" بفتحتين حكاها الزمخشريُّ، وهي لغةٌ في الجِدار أيضاً.
قوله: {بَيْنَهُمْ} متعلِّقٌ بشديد و "جميعاً" مفعولٌ ثانٍ، أي: مجتمعين و "قلوبُهم شَتَّى" جملةٌ حاليةٌ أو مستأنفةٌ للإِخبار بذلك. والعامَّةُ على "شتى" بلا تنوينٍ لأنَّها ألفُ تأنيثٍ. ومِنْ كلامهم: "شتى تَؤُوب الحَلَبةُ"، أي: متفرِّقين. وقال آخر:
4253 - إلى اللهِ أَشْكو فِتْنَةً شَقَّت العِصا * هي اليومَ شَتَّى وهْي أَمْسِ جميعُ
وقرأ مبشر بن عبيد "شتىً" منونة، كأنه جعلها ألفَ الإِلحاق.
* { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(13/368)
---(1/5443)
قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ}: خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: مثلُهم مثلُ هؤلاء. و "قريباً" فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ بالتشبيه المتقدم، أي: يُشَبِّهونهم في زمنٍ قريب سيقع لا يتأخر، ثم بَيَّنَ لك بقوله: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ}. والثاني: أنه منصوبٌ بـ"ذاقوا"، أي: ذاقوه في زمنٍ قريب سيقع ولم يتأخَّرْ. وانتصابُه في وجهَيْه على ظرف الزمان. وقوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} كالبيان لقولِه: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}.
* { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ }
قوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ}: العامَّةُ على نصب "عاقَبَتُهما" بجَعْلِه خبراً، والاسمُ "أنَّ" وما في حَيَّزها؛ لأنَّ الاسمَ أَعْرَفُ مِنْ "عاقبتَهُما". وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آل عمران والأنعام. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم برفعِها على جَعْلِها اسماً، و "أنَّ" وما في حَيِّزها خبراً كقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} قوله: {خَالِدِينَ} العامَّةُ على نَصْبِه حالاً من الضمير المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً. وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة برفعِه خبراً، والظرفُ مُلْغَى فيتعلَّق بالخبر، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظياً للحرفِ وأُعيد معه ضميرُ ما دَلَّ عليه كقولِه: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} وهذا على مذهب سيبويه فإنه يُجيز إلغاءَ الظرفِ وإنْ أُكِّدَ، والكوفيون يَمْنَعونَه وهذا حُجَّةٌ عليهم. وقد يُجيبون: بأنَّا لا نُسَلِّمُ أَنْ الظرفَ في هذه القراءةِ مُلْغَى، بل نجعلُه خبراً لـ"أنَّ" وخالدان خبرٌ ثانٍ، وهو مُحْتمِلٌ لِما قالوه إلاَّ أنَّ الظاهرَ خلافُه.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(1/5444)
(13/369)
---
قوله: {وَلْتَنظُرْ}: العامَّةُ على سكونِ لامِ الأمرِ. وأبو حيوة ويحيى بنُ الحارث بكسرِها على الأصل. والحسنُ بكسرها ونصبِ الفعل، جَعَلَها لامَ كي، ويكونُ المُعَلَّلُ مقدراً، أي: ولْتنظر نفسٌ حَذَّركم وأَعْلمكم. وتنكيرُ النفسِ والغدِ. قال الزمخشري: "أمَّا تَنْكيرُ النفسِ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قَدَّمْنَ للآخرةِ، كأنه قيل: لتنظرْ نفسٌ واحدةٌ. وأمَّا تنكيرُ الغد فلتعظيمِه وإبهامِ أَمْرِه كأنه قيل: لِغدٍ لا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لعِظَمِه".
وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تأكيد: وقيل: كُرِّر لتغايُرِ متعلَّق التَّقْوَيَيْنِ فمتعلَّقُ الأولى أداءُ الفرائضِ لاقترانِه بالعمل، والثانيةِ تَرْكُ المعاصي لاقترانِه بالتهديد والوعيدِ، قال معناه الزمخشري.
* { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ}: العامَّةُ على الخطابِ. وأبو حيوة بالغَيْبة على الالتفاتِ.
* { لاَ يَسْتَوِيا أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ }
قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ}: كالتفسير لنفي تساوِيْهما. و "هم" يجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأ، فعلى الأول الإِخبارُ بمفردٍ، وعلى الثاني بجملةٍ.
* { لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
قوله: {خَاشِعاً}: حالٌ؛ لأن الرؤيةَ بَصَرية. وقرأ طلحة "مُصَّدِّعاً" بإدغام التاء في الصاد.
(13/370)
---(1/5445)
وأبو ذر وأبو السَّمَّال "القَدُّوس" بفتح القاف. وقرأ العامَّةُ "المُؤْمِنُ" بكسر الميم اسمَ فاعل مِنْ آمَن بمعنى أَمَّن. وأبو جعفر محمد بن الحسين - وقيل ابن القعقاع -: بفتحها. فقال الزمخشري: "بمعنى المُؤْمَنِ به على حَذْفِ حرف الجر، كما تقول في قومَ موسى مِنْ قولِه {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} المختارون". وقال أبو حاتتم: "لا يجوزُ ذلك، أي: هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان "المؤمَنُ به" وكان جارَّاً، لكن المؤمَنَ المطلقَ بلا حرفِ جر / يكون مَنْ كان خائفاً فأُمِّنَ" فقد رَدَّ ما قاله الزمخشريُّ.
* { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله: {الْجَبَّارُ}: اسْتَدَلَّ به مَنْ يقول: إن أمثلةَ المبالغةِ تأتي من المزيدِ على الثلاثةِ، فإنه مِنْ أَجْبَره على كذا، أي: قهره. قال الفراء: "ولم أسمع فعَّالاً مِنْ أَفْعلَ إلاَّ في جَبَّار وَدَّراك مِنْ أدرك" انتهى. واسْتُدْرك عليه: أَسْأَر فهو سَأر. وقيل: هو من الجَبْر وهو الإِصلاحُ. وقيل: مِنْ قولِهم نَخْلَةٌ جَبَّارة، إذ لم تَنَلْها الجُناةُ. قال امرؤ القيس:
4254 - سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُه * وعالَيْنَ قِنْواناً مِن البُسْر أَحْمرا
* { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(13/371)
---(1/5446)
قوله: {الْمُصَوِّرُ}: العامَّةُ على كسرِ الواوِ ورفعِ الراءِ: إمَّا صفةً، وإمَّا خبراً. وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن وابن السَّمَيْفَع وحاطب بن أبي بَلْتعة بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجُها: على أن يكونَ منصوباً بالباري والمُصَوَّر هو الإِنسانُ: إمَّا آدمُن وإمَّا هو وبنوه. وعلى هذه القراءةِ يَحْرُم الوقفُ على "المصوَّر" بل يجب الوصلُ ليظهرَ النصبُ في الراء، وإلاَّ فقد يُتَوَهَّمُ منه في الوقفِ ما لا يجوزُ. ورُوي عن أمير المؤمنين أيضاً فَتْحُ الواوِ وجَرُّ الراءِ. وهي كالأُولى في المعنى، إلاَّ أنه أضاف اسمَ الفاعل لمعمولِه تخفيفاً نحو: الضاربُ الرجلِ. والوقف على المصوَّر في هذه القراءةِ أيضاً حرامٌ. وقد نَبَّه عليه بعضُهم. وقال مكي: "ويجوز نصبُه في الكلام، ولا بُدَّ مِنْ فتح الواوِ، فتنصبُه بالباري، أي: هو اللهُ الخالقُ المصوَّر، يعني آدمَ عليه السلام وبنيه" انتهى. قلت: قد قُرِىء بذكل كما تقدَّم. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليه. وقال أيضاً: "ولا يجوز نصبُه مع كسرِ الواوِ، ويُرْوى عن علي رضي الله عنه" يعني أنه إذا كُسِرَت الواوُ كان من صفاتِ اللهِ تعالى، وحينئذٍ لا يَسْتقيم نصبُه عنده؛ لأنَّ نَصْبَه باسمِ الفاعلِ قبلَه. وقوله: "ويُروى"، أي: كسرُ الواوِ ونصبُ الراء. وإذا صَحَّ هذا عن أمير المؤمنين فيتخرَّج على أنه من القطع. كأنه قيل: أَمْدَحُ المصوِّر كقولِهم: "الحمدُ لله أهلَ الحمد" ينصب أهلَ، وقراءةِ مَنْ قرأ {للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بنصب "ربَّ" قال مكي: "والمصوِّر: مُفَعِّل مِنْ صَوَّر يُصَوِّرُ، ولا يحسُنُ أَنْ يكونَ مِنْ صار يَصير؛ لأنه يلزمُ منه أَنْ يقال: المُصَيِّر بالياء" ومثلُ هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.
(13/372)
---(1/5447)
سورة الممتحنة
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }
قوله: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ}: هذان مفعولا الاتخاذ. والعدوُّ لَمَّا كان بزنةِ المصادِر وقعَ على الواحدِ فما فوقَه، وأضاف العدوَّ لنفسه تعالى تغليظاً في جُرْمِهم.
(13/373)
---(1/5448)
قوله: {تُلْقُونَ} فيه أربعةُ اوجهٍ، أحدها: أنه تفسيرٌ لموالاتِهم إياهم. الثاني: أنه استئنافُ إخبارٍ بذلك فلا يكون للجلمة على هذين الوجهَين محلٌّ من الإِعراب. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعل "تَتَّخِذوا" أي: لا تتخذوا مُلٌِْين المودةَ. الرابع: أنها صفة لـ"أولياءَ". قال الزمخشري: "فإن قلتَ: إذا جَعَلْتَه صفةً لأولياء، وقد جَرَى على غير مَنْ قوله، فأين الضميرُ البارزُ، وهو قولُك: تُلْقُون إليهم أنتم بالمودة؟ قلت: ذاك إنما اشترطوه في الأسماءِ دونَ الأفعالِ لو قيل: أولياءَ مُلْقِين إليهم بالمودَّة على الوصف لَما كان بُدٌّ مِن الضميرِ البارزِ" قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً، وفيها كلامٌ لمكي وغيرِه. إلاَّ أن الشيخَ اعترضَ على كونِها صفةً أو حالاً بأنهم نُهُوا عن اتخاذِهم أولياءً مطلقاً في قولِه: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} والتقييدُ بالحالِ والوصفِ يُوهم جوازَ اتِّخاذهم أولياءَ إذا انتفى الحالُ أو الوصفُ. ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه معلومٌ من القواعدِ الشرعيةِ فلا مفهومَ لهما البتةَ. وقال الفراء: "تُلْقون من صلةِ أولياء" وهذا على أصولِهم مِنْ أنَّ النكرةَ تُوْصَلُ كغيرها من الموصولات.
(13/374)
---(1/5449)
قوله: {بِالْمَوَدَّةِ} في الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ والمفعولُ محذوفٌ، ويكون معنى الباءِ السببَ. كأنه قيل: تُلْقُوْن إليهم أسرارَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبارَه بسبب المودةِ التي بينكم. / والثالث: أنها متعلقةٌ بالمصدرِ الدالِّ عليه "تُلْقُون" أي: إلقاؤُهم بالمودَّةِ، نقله الحوفيُّ عن البصريين، وجَعَلَ القولَ بزيادةِ الباءِ قولَ الكوفيين. إلاَّ أن هذا الذي نَقَله عن البصريين لا يُوافقُ أصولَهم؛ إذ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله، وهو لا يجوزُ عندَهم. وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ الجملةِ برأسِها، فإنَّ "إلقاءَهم" مبتدأ و "بالمودة" متعلقٌ به، والخبرُ أيضاً محذوٌ. وهذا إجحافٌ.
قوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ} فيه أوجهٌ: الاستئناف، والحالُ مِنْ فاعِل "تتَّخذوا" والحالُ مِنْ فاعلِ "تُلْقُون" أي: لا تتولَّوْهم ولا توادُّوهم وهذه حالُهم. والعامَّةُ "بما" بالباء، والجحدري وعاصمٌ في روايةٍ "لِما" باللام أي: لأجلِ ما جاءكم، فعلى هذا الشيءِ المكفورِ غيرُ مذكور، تقديره: كفروا باللَّهِ ورسولِه.
قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ تفسيراً لكُفْرِهم، فلا مَحَلَّ له على هذَيْن، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل "كفروا".
(13/375)
---(1/5450)
قوله: {وَإِيَّاكُمْ} عطفٌ على الرسول. وقُدِّم عليهم تَشريفاً له. وقد استَدَلَّ به مَن يُجَوَّزُ انفصالَ الضميرِ مع القدرةِ على اتصالِه، إذ كان يجوز أَنْ يُقال: يُخْرجونكم والرسولَ، فيجوز: {يُخْرجون إياكم والرَّسولَ} في غيرِ القرآنِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حالةَ تقديمِ الرسولِ دلالةٌ على شَرَفِه. لا نُسَلِّمُ أنه يُقَدَرُ على اتِّصاله. وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه الآيةِ عند قولِه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} في سورةِ النساء فعليك باعتباره.
قوله: {أَن تُؤْمِنُواْ} مفعولٌ له. ناصبُه: "يُخْرِجون" أي: يُخْرجونكم لإِيمانِكم أو كراهةَ إيمانِكم.
قوله: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} جوابُه محذوفٌ عند الجمهور لتقدُّمِ "لا تتَّخذوا"، ومقدم وهو "لا تتخذوا" عند الكوفيين ومَنْ تابعهم. وقد تقدَّم تحريرُه. وقال الزمخشري: و {إِنْ كَنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلِّقٌ بـ"لا تَتَّخذوا". يعين: لا تتولَّوْا أعدائي إنْ كنتم أوليائي. وقولُ النحويين في مثلِه: هو شرطٌ، جوابُه محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه" انتهى. يريد أنَّه متعلِّقٌ به من حيث المعنى. وأمَّا من حيث الإِعراب فكما قال جمهورُ النَّحْويين.
قوله: {جِهَاداً . . . وَابْتِغَآءَ} يجوزُ أَنْ يُنْصَبا على المفعول له أي: خَرَجْتُمْ لأجلِ هذَيْن، أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: تُجاهِدون، وتبتَغُون، أو على أنهما في موضع الحال.
(13/376)
---(1/5451)
قوله: {تُسِرُّونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه، وأن يكونَ حالاً ثانية مِنْ ما انتصب عنه "تُلْقُون" حالاً، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "تُلْقُون"، قاله ابن عطية. ويُشْبه أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ لأنَّ إلقاءَ المودةِ يكون سرّاً وجَهْراً، فَأَبْدَل منه هذا للبيانِ بأيِّ نوعٍ وقع الإِلقاء، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: أنتم تُسِرُّون، قاله ابن عطية، ولا يَخْرجُ عن معنى الاستئناف. وقال أبو البقاء: "هو توكيدٌ لـ"تُلْقُون" بتكريرِ معناه" وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الإِلقاءَ أعمُّ مِنْ أَنْ يكونَ سِرَّاً أو جَهْراً.
وقوله: {بِالْمَوَدَّةِ} الكلامُ في الباء هنا كالكلامِ عليها بعد "تُلْقُون".
قوله: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل "تُسِرُّون" أي: وأيُّ طائلٍ لكم في إسْراركم وقد عَلِمتم أن الإِسرارَ والإِعلان سيَّانِ في علمي؟ و "أعلمُ" يجوز أن يكونَ أفعلَ تفضيل وهو الظاهرُ، وأَنْ يكون فعلاً مضارعاً. قال ابن عطية: "وعُدِّي بالباء لأنك تقول: علمتُ بكذا".
قوله: {وَمَن يَفْعَلْهُ} في الضمير وجهان، أظهرهما: أنه يعود على الإِسرار؛ لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنه يعودُ على الاتخاذ، قاله ابنُ عطية.
قوله: {سَوَآءَ السَّبِيلِ} يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظَّرْفِ إنْ قلنا: "ضَلَّ" قاصرٌ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به إنْ قلنا: هو متعدٍّ.
* { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوااْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّواءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }
(13/377)
---(1/5452)
قوله: {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ}: في "وَدُّوا" وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على جواب الشرطِ وهو قوله: "يكونوا" و "يَبْسُطوا" قاله الزمخشري. ثم رتَّب عليه سؤالاً وجواباً فقال: "فإنْ قلتَ: كيف أورَدَ جوابَ الشرط مضارعاً مثلَه ثم قال: "وَدُّوا" بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإنْ كان يجري في باب الشرط مَجْرى المضارع في علم الإِعراب، فإن فيه نكتةً، كأنه قيل: وودُّوا قبل كلِّ شيءٍ كُفْرَكم وارتدادَكم، يعني: أنهم يريدون أن يُلْحِقوا بكم مَضارَّ الدنيا والآخرةِ جميعاً". والثاني: أنه معطوفٌ على جملةِ الشرط والجزاء، ويكون تعالى قد أخبر بخبَرَيْن: بما تَضَمَّنَتْه الجملةُ الشرطيةُ، وبودادتهم كُفْرَ المؤمنين.وجعل الشيخُ هذا راجحاً، وأسقط به سؤالَ الزمخشريِّ وجوابَه فقال: "وكان الزمخشريُّ فَهِمَ مِنْ قولِه: "وَوَدُّوا" أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ. والذي يظهرُ أنه ليس معطوفاً عليه لأنَّ / ودادتَهم كفرَهم ليسَتْ مترتبةً على الظفر بهم والتسليطِ عليهم، بل هم وادُّون كفرَهم على كلِّ حالٍ، سواءً ظَفِروا بهم أم لم يظفروا بهم". انتهى.
قلت: والظاهرُ أنه عطفٌ على الجواب. وقوله: هم وادُّون ذلك مُطلقاً مُسَلَّمٌ، ولكن ودادتَهم له عند الظفرِ والتسليطِ أقربُ وأطمعُ لهم فيه.
وقوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ} يجوزُ أَنْ يتكونَ لما سيقعُ لوقوع [غيرِه]، وأَنْ تكونَ المصدريةَ عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدَّم تحريرهما في البقرة.
* { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّقَ بما قبلَه أي: لن ينفعَكم يومَ القيامة فَيُوقَفُ عليه ويُبْتدأ "يَفْصِلُ بينكم". والثاني: أَنْ يتعلَّقُ بما بعده أي: يَفْصِلُ بينكم يومَ القيامة، فيوقف على "أولادكم" ويُبتدأ "يوم القيامة".
(13/378)(1/5453)
---
والقُرَّاء في "يَفْصِلُ" بينكم على أربعِ مراتبَ، الأولى: لابن عامر بضم الياءِ وفتح الفاءِ والصادُ مثقَّلةٌ. الثانية: كذلك إلاَّ أنَّه بكسرِ الصاد للأخوَيْن. الثالث: بفتح الياء وسكونِ الفاءِ وكسرِ الصاد مخففةً لعاصم. الرابعة: بضمِّ الياء وسكونِ الفاءِ وفتح الصادِ مخففةً للباقين، وهم نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ هذا في السَبعة. وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ وأبو حيوةَ بضم الياء وسكون الفاء وكسرِ الصادِ مخففةً، مِنْ أفْضَلَ. وأبو حيوة أيضاً "نُفْصِلُ" بضمِّ النونِ مِنْ أَفْصَلَ. والنخعيُّ وطلحة "نُفَصِّلُ" بضم النون وفتح الفاء وكسر الصاد مشددةً. وقرأ أيضاً وزيد بن علي "نَفْصِلُ" بفتح النون وسكون الفاء وكسرِ الصاد مخففةً. فهذه أربعٌ فصارت ثمانِ قراءاتِ.
فمَنْ بناه للمفعولِ فالقائمُ مقام الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ أي: يُفْصَل الفصلُ أو الظرف، وبُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} في أحدِ الأوجه، أو الظرفُ وهو باقٍ على نصبِه كقولك: "جُلس عندَك".
* { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيا إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
(13/379)
---(1/5454)
قوله: {فِيا إِبْرَاهِيمَ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ بـ"أُسوة" تقول: "لي أُسْوَة في فلان". وقد منع أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ بها. قال: "لأنها قد وُصِفَتْ" وهذا لا يُبالى به لأنه يُغتفر في الظرفِ ما لا يُغتَفر في غيره. الثاني: أنه متعلق بحسنة تعلُّقَ الظرفِ بالعامل. الثالث: أنَّه نعتٌ ثانٍ لأُسْوَة. الرابع: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في "حسنةٌ". الخامس: أن يكونَ خبرَ كان، و "لكم" تبيينٌ. وقد تقدَّم لك قراءتا "أسْوة" في الأحزاب، والكلامُ على مادتِها.
قوله: {إِذْ قَالُواْ} فيه وجهان،: أحدهما: أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنه متعلقٌ بخبرها، قالهما أبو البقاء. ومَنْ جَوَّزَ في "كان" أَنْ تعملَ في الظرف عَلَّقه بها.
قوله: {بُرَءآؤاْ} هذه قراءةُ العامَّةِ بضمِّ الباءِ وفتح الراءِ وألفٍ بين همزتَيْن، جمعَ بريء، نحو: كُرَماء في جمع كريم. وَعيسى الهمذاني بكسرِ الباء وهمزةٍ واحدةٍ بعد ألف نحو: كرام في جميع كريم. وعيسى أيضاً، وأبو جعفر، بضم الباءِ وهمزةٍ بعد ألف. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه جمعُ بَرِيْء أيضاً، والأصلُ كسرُ الباء، وإنما أبدل من الكسرةِ ضمةً، كـ رُخال ورُباب قاله الزمخشري. الثاني: أنه جمع أيضاً لـ بَرِيء، وأصلُه برَآء كالقراءةِ المشهورة، إلاَّ أنه حَذَفَ الهمزة الولى تخفيفاً، قاله أبو البقاء. الثالث: أنه اسمُ جمعٍ لـ بريء نحو: تُؤَام وظُؤَار اسءمَيْ جمعٍ لتَوْءَم وظِئْر. وقرأ عيسى أيضاً: "بَراء" بفتح الباء. وهمزة بعد ألف كالتي في الزمخرف، وصَحَّ ذلك لأنه مصدرٌ والمصدرُ يقع على الجمع كوقوعِه على الواحد. قال الزمخشري: "والبَراء والبراءةُ كالظَّماء والظَّماءة". وقال مكي: "وأجاز أبو عمروٍ وعيسى ابن عمر "بِراء" بكسر الباء جعله ككريم وكِرام. وأجاز الفراء "بَراء" بفتح الباء" ثم قال: "وبَراء في الأصلِ مصدرٌ" كأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً منقولةً.
(13/380)
---(1/5455)
قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه: "في إبراهيم" ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ الكلامُ، تقديرُه: في مقالات إبراهيم / إلاَّ قولَه كيت وكيت. الثاني: أنه مستثنى مِنْ "أسوةٌ حسنةٌ" وجاز ذلك لأن القولَ أيضاً من جملة الأُسْوة؛ لن الأسوةَ الاقتداءُ بالشخص في أقوالِه وأفالشه، فكأنه قيل لكم: فيه أُسْوة في جميع أحوالِه من قَوْلٍ وفِعْلٍ إلاَّ قولَه كذا. وهذا عندي واضحٌ غيرُ مُحْوِجٍ إلى تقديرِ مضافٍ وغيرُ مُخْرِجِ الاستثناءِ من الاتصالِ الذي هو أصلُه إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه قال: "فإنْ قلتَ مِمَّ استثنى قَولَه: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}؟ قلت مِنْ قولِه: "أُسْوَةٌ حسنةٌ" لأنه أرادَ بالأُسوةِ الحسنةِ قولهم الذي حَقَّ عليهم أَنْ يَأْتَسُوا به ويتخذوه سنةً يَسْتَنُّون بها. فإنْ قلت: فإنْ كانَ قولُه: "لأستغفرَنَّ لك" مستثنى من القولِ الذي هو أُسْوَةٌ حسنةٌ فما بالُ قولِه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناء. ألا ترى إلى قولِه: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} قلت: أرادَ استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه، والقصدُ إلى موعدِ الاستغفارِ له وما بعده مبنيٌّ عليه وتابعٌ له. كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلاَّ الاستغفارُ". الثالث: قال ابن عطية: "ويحتمل أن يكون الاستثناءُ من التبرُؤِ والقطيعة التي ذُكِرت أي: لم تُبْقِ صلةً إلاَّ كذا". الرابع: أنه استثناءٌ منقطع أي: لكنْ قولُ إبراهيم. وهذا بناءً مِنْ قائليه على أنَّ القولَ لم يَنْدَرِجْ تحت قولِه: "أُسْوة" وهو ممنوعٌ.
* { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(13/381)
---(1/5456)
قوله: {رَبَّنَا}: يجوز أنْ يكونَ مِنْ مقولِ إبراهيمَ والذين معه فهو من جملةِ الأُسْوَةِ الحسنةِ، وفَصَلَ بينهما بالاستثناءِ ويجوز أَنْ يكونَ منقطعاً ممَّا قبله على إضامرِ قولٍ، وهو تعليمٌ من الله تعالى لعبادِه كأنَّه قال لهم: قولوا ربَّناعليك تَوَكَّلْنا. والأولُ أظهرُ.
* { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو}: بدلٌ من الضمير في "لكم" بدلُ بعضٍ مِنْ كل. وقد تقدَّم مثلُه في الأحزاب. والضميرُ في "فيهم" عائدٌ على إبراهيم ومَنْ معه وكُرِّرَتْ الأُسْوةُ تأكيداً.
* { لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوااْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ ، أَن تَوَلَّوْهُمْ}: بدلان من "الذين" قبلَهما بدلُ اشتمالٍ. والمعنى: لا يَنهاكم اللَّهُ تعالى عن مَبَرَّةِ هؤلاء، إنما يَنْهاكم عن تَوَلِّي هؤلاء.
(13/382)
---(1/5457)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}: قيل: هو تأكيد للأول لتلازُمِهِا. وقيل: أراد استمرارَ الحكم بينهم فيما يَسْتقبِلُ، كما هو في الحال ما داموا مشركين وهُنَّ مؤمناتٌ. وقوله: "المؤمنات" تسميةٌ للشيء بام يقارِبُه ويُشارِفُه أو في الظاهر. وقُرِىء "مُهاجراتٌ" بالرفع وخُرِّجَتْ على البدلِ. الجملةُ مِنْ قولِه: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فائدتُها: بيان أنَّه لا سبيلَ لكم إلى ما تطمئنُّ به النفس ويُثلج الصدرَ من الإِحاطة بحقيقةِ إيمانهنَّ، فإنَّ ذلك ممَّا استأثر اللَّهُ به. قاله الزمخشري: وسُمِّي الظنُّ الغالِبُ في قولِه: "عَلِمْتُموهُنَّ" عِلْماً لما بينهما من القُرْب، كما يقع الظنُّ موقعَه. وتقدَّم ذلك في البقرة.
وقوله: {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي: في أَنْ. وقوله: "إذا آتيْتُمُوهُنَّ" يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً مَحْضاً، وأَنْ يكونَ شرطاً، جوابُه مقدَّرٌ أي: فلا جُناحَ عليكم.
(13/383)
---(1/5458)
قوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ} قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وشدِّ السين، وباقي السبعة بتخفيفها مِنْ وأَمْسَك بمعنىً واحد. ويقال: أَمْسَكْتُ الحَبْل إمساكاً ومَسَّكْتُه تَمْسكياً. وفي التشديد مبالغةٌ، والمخفَّفُ صالحٌ لها أيضاً. وقرأ الحسن وابنُ أبي ليلى وأبو عمروٍ وابنُ عامرٍ في روايةٍ عنهما "تَمَسَّكُوا" بالفتح في الجميعِ وتشديدِ السينِ. والأصلُ: تَتَمسَّكوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما. وعن الحسن أيضاً "تَمْسِكوا" مضارع مَسَكَ بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما. وعن الحسن أيضاً "تَمْسِكوا" مضارع مَسَكَ ثلاثياً. والعِصَمُ: جمع عِصْمة، والكوافر: جمع كافرة كضَوارب في ضاربة. ويُحكى عن الكَرْخِيِّ الفقيهِ المعتزليِّ أنه قال: الكوافِرُ يشملُ الرجالَ والنساءَ. قال الفارسي: / "فقلت له: النَّحْويون لا يَرَوْن هذا إلاَّ في النساءِ جمعَ "كافرة" فقال: أليس يُقال: طائفة كافرة، وفِرْقَةٌ كافرة. قالأبو علي: فبُهِتُّ وقلتُ: هذا تأييدٌ إلهيٌّ" قلت: وإنما أُعْجِبَ بقولِه لكونِه معزليّاً مثلَه. والحقُّ أنه لا يجوز "كافِرة" وصفاً للرجل، إلاَّ أن يكونَ الموصوفُ مذكوراً نحو: هذه طائفة كافرة، أو في قوةِ المذكور. أمَّا أنه يقال: "كافرة" باعتبارِ الطائفة غير المذكورة، ولا في قوةِ المذكورة بل لمجردِ الاحتمالِ، ويُجمع جَمْعَ فاعِلة، فهذا لا يجوزُ. وقولُ الفارسي: "لا يَرَوْنَ هذا إلاَّ في النساء" صحيحٌ ولكنه الغالِبُ. وقد يُجْمَعُ فاعِل وصفُ المذكرِ العاقلِ على فواعِل وهو محفوظٌ نحو: فوارِس ونواكِس.
قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له. والثاني: أنه حالٌ مِنْ "حُكْمُ". والراجعُ: إمَّا مستترٌ أي: يحكم هو أي: الحكم على المبالغةِ، وإمَّا محذوفٌ أي: يحكمُه. وهو الظاهرُ.
(13/384)
---(1/5459)
* { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيا أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
قوله: {شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ}: يجوز أَنْ يتعلَّقَ "مِنْ أزواجِكم" بـ"فاتَكم" أي: مِنْ جهةِ أزواجِكم، ويُراد بالشيء المَهْرُ الذي غُرِّمَه الزوجُ؛ لأنَّ التفسيرَ وَرَدَ: أنَّ الرجلَ المسلمَ إذا فَرَّتْ زوجتُه إلى الكفار أَمَرَ اللَّهُ تعالى المؤمنين أَنْ يُعْطُوْه ما غُرِّمَه، وفَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع جمعٍ مِن الصحابة، مذكورون في التفسير، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّه صفةٌ لشيء، ثم يجوز في "شيء" أَنْ يُرادَ به ما تقدَّم من المُهورِ، ولكن على هذا لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ مُهورِ أزواجِكم ليتطابقَ الموصوفُ وصفتُه، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بشيء والنساءُ أي: شيءٌ من النساء أي: نوعٌ وصنفٌ منهنَّ، وهو ظاهرٌ، وصَفَه بقولِه: "مِن أزواجِكم".
(13/385)
---(1/5460)
وقد صرَّح الزمخشري بذلك فإنه قال: "وإنْ سبقكم وانفَلَت منكم شيءٌ مِنْ أزواجكم، أحدٌ منهن إلى الكفار وفي قراءة ابنِ مسعود "أحد" فهذا تصريحٌ بأنَّ المرادَ بشيء النساءُ الفارَّاتُ. ثم قال: فطإنْ قلتَ: هل لإِيقاع "شيء" في هذا الموقعِ فائدةٌ؟ قلت: نعم الفائدةُ فيه: أن لا يُغادِرَ شيئاً من هذا الجنسِ، وإنْ قَلَّ وحَقُر، غيرَ مُعَوَّضٍ منه، تَغْليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه" ولولا نَصُّهُ على أنَّ المرادَ بـ"شيء" "أحد" كما تقدَّم لكَان قولُه: "أن لا يغادِرَ شيئاً من هذا الجنس وإن قَلَّ وحَقُر" ظاهراً في أنَّ المرادَ بـ"شيء" المَهْرُ؛ لأنه يُوْصَفُ بالقلة والحَقارة وصفاً شائعاً. وقوله: "تغليظاً وتشديداً" فيه نظرٌ؛ لأنَّ المسلمين ليس [لهم] تَسَبُّبٌ في فِرار النساءِ إلى الكفار، حتى يثغَلَّظَ عليهم الحكمُ بذلك. وعَدّضى "فات" بـ"إلى" لأنه ضُمِّن معنى الفِرار والذَّهابِ والسَّبْقِ ونحوِ ذلك.
قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} عطفٌ على "فاتَكم". وقرأ العامَّةُ "عاقَبْتُم" وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه من العقوبة. قال الزجاج: "فعاقبْتُم: فَأَصَبْتُموهم في القتالِ بعقوبةٍ حتى غَنِمْتُم". الثاني: أنه من العُقْبة وهي النَّوْبَةُ، شبَّه ما حَكَم به على المسلمين والكافرين مِنْ أداءِ هؤلاء مهورَ نساءِ أولئك تارةً، وأولئك مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى، بأَمْرٍ يتعاقبون فيه كما يُتعاقَبُ في الرُّكوب وغيرِه، ومعناه: فجاءَتْ عُقْبَتُكم مِنْ أداء المَهْر" انتهى.
(13/386)
---(1/5461)
وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ والزهريُّ وأبو حيوةَ وعكرمةُ وحميدٌ بشَدِّ القاف، دون ألفٍ، ففَسَّره الزمخشريُّ على أصلِه بعَقَّبه إذا قفَاه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِبَيْن يَقْفي صاحبه وكذلك "عَقَبْتُم" بالتخفيف يقال: "عَقَبه يَعْقُبُه" انتهى. قلت: والذي قرأه بالختفيف وفتحِ القافِ النخعيُّ وابن وثاب والزهري والأعرج أيضاً، وبالتخفيف وكسر القافِ مَسْروقٌ والزهريُّ والنخعي أيضاً.
وقرأ مجاهد "أَعْقَبْتُمْ". قال الزمخشريُّ معناه: "دَخَلْتُم في العُقْبة".
وأمَّا الزجَّاجُ ففَسَّر القراءاتِ الباقيةَ: فكانت العُقْبى لكم أي: كانت الغلبةُ لكم حتى غَنِمْتُم. والظاهرُ أنه كما قال الزمخشريُّ من المعاقبة بمعنى المناوَبة. يقال: عاقَبَ الرجلُ صاحبَه في كذا أي: جاء فِعْلُ كلِّ واحد منهما بعَقِبِ فِعْلِ الآخرِ ويُقال: أَعْقَبَ أيضاً، وأُنشِد:
4255 - وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولم يكُنْ * لعُقْبَةِ قِدْرِ المُسْتعيرينَ مُعقِبُ
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {يُبَايِعْنَكَ}: حالٌ. وشيئاً مصدرٌ أي: شيئاً من الإِشراك. وقرأ علي والسُّلمي والحسن "يُقَتِّلْن" بالتشديد و "يَفْتَرِيْنَه" صفةٌ لبُهتان، أو حالٌ مِنْ فاعل "يَأْتين".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ }
وقوله: {غَضِبَ اللَّهُ}: صفةٌ لـ"قَوْماً وكذلك "قد يَئِسُوا".
(13/387)
قوله: {مِنَ الآخِرَةِ} "مِنْ" لابتداء الغاية أي: إنهم لا يُوقنون بالآخرةِ البتةَ. و {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها لابتداء الغايةِ أيضاً، كالأولى، والمعنى أنهم لا يُوقنون ببَعْثِ الموتى البتَةَ، فيَأْسُهم من الآخرةِ كيأسِهم مِنْ مَوْتاهم لاعتقادِهم عَدَم بَعْثِهم. والثاني: أنَّها لبيانِ الجنس، يعني / أنَّ الكفارَ هم أصحابُ القبورِ. والمعنى: أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يَئِس الكفارُ، الذين هم أصحابُ القبور، مِنْ خيرِ الآخرة، فيكون متعلَّقُ "يَئِس" الثاني محذوفاً. وقرأ ابنُ أبي الزناد "الكافرُ" بالإِفراد. والله أعلمُ.(1/5462)
سورة الصف
* { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }
قوله: {كَبُرَ مَقْتاً}: فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مِنْ باب نِعْم وبِئْسَ، فيكون في "كَبُرَ" ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بالنكرة بعدَه. "وأَنْ تقولوا" هو المخصوصُ بالذمِّ فيجيء فيه الخلافُ المشهورُ: هل رَفْعُه بالابتداء، وخبرُه الجملة مقدمةً عليه، أو خبرُه محذوفٌ، أو هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، كما تقدَّم تحريرُه. هذه قاعدةٌ مُطَّردةٌ: كلُّ فعلٍ يجوز التعجبُ منه يجوزُ أَنْ يُبْنَى على فَعُلَ بضم العين ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكام. والثاني: أنه من أمثلةِ التعجبِ. وقد عدَّه ابنُ عصفور في التعجبِ المبوبِ له في النحو فقال: "صيغة ما أفْعَلَه وأَفْعِلْ به ولَفَعُل نحو: لَرَمُوَ الرجل". وإليه نحا الزمخشري فقال: "هذا مِنْ أفصحِ كلامٍ وأبلغِه في معناه: قَصَدَ في "كَبُرَ" التعجَب من غير لفظه كقوله:
4256 - ......................... * .......... غلَتْ نابٌ كُلَيْبٌ بَواؤُها
(13/388)
---(1/5463)
ثم قال: "وأَسْند إلى "أَنْ تقولوا" ونَصَبَ "مَقْتاً" على تفسيره دلالةً على أنَّ قولَهم ما لا يفعلون مَقْتٌ خالِصٌ لا شَوْبَ فيه". الثالث: أنَّ كَبُرَ ليس للتعجبِ ولا للذَّمِِّ، بل هو مُسْنَدٌ إلى "أَنْ تقولوا" و "مَقْتاً" تمييزٌ محولٌ من الفاعلية. والأصل: كَبَُ مَقْتُ أَنْ يقولوا أي: مَقْتُ قَوْلِكم. ويجوز أن يكونَ الفاعلُ مضمراً عائداً على المصدرِ المفهومِ مِنْ قولِه: "لِم تقولونَ" أي: كَبُر هو أي: القولُ مَقْتاً، و "أَنْ تقولوا" على هذا: إما يدلٌ من ذلك الضميرِ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أن تقولوا. وقرأ زيد بن علي "يُقاتَلون" بفتح التاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقُرِىء "يُقَتَّلون" بالتشديد.
* { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ }
قوله: {صَفّاً}: نصبٌ على الحال أي: صافِّين، أو مَصْفُوفين.
قوله: {كَأَنَّهُم} يجوزَ أَنْ يكونَ حالاً ثانيةً مِنْ فاعل "يُقاتِلون"، وأنْ يكونَ حالاً من الضمير في "صَفّاً"،قاله الحوفيُّ: وعاد الضميرُ على "صَفّاً" جمعاً لأنه جمعٌ في المعنى كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}. وقيل: هو من الضتامِّ، مِنْ تراصِّ الأسنان. وقال الراعي:
4257 - ما لَقِيَ البيضُ من الحُرْقوصِ * يَفْتَحُ بابَ المُغْلَقِ المَرْصوصِ
* { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوااْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
قوله: و {وَقَد تَّعْلَمُونَ}: جملةٌ حالية.
(13/389)
---(1/5464)
* { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }
قوله: {مُّصَدِّقاً}: حالٌ وكذلك "مُبَشِّراً" والعاملُ "رسول" لأنَّه بمعنى المُرْسَل، قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ بِمَ انتصَبَ مُصَدِّقاً مُبَشِّراً، أبما في الرسول مِنْ معنى الإِرسال أم بإليكم؟ قلت: بمعنى الإِرسال؛ لأنَّ "إليكم" صلةٌ للرسول، فلا يجوزُ أن تعملَ شيئاً، لأنَّ حروفَ الجرِّ لا تعملُ بأنفسِها، ولكنْ بما فيها مِنْ معنى الفعل، فإذا وقعَتْ صِلاتٍ لم تتضمَّنْ معنى فعلٍ فمِنْ أين تعملُ" انتهى. يعني بقوله: "صلات" أنها متعلقةٌ برسول صلةً له، أي: متصلٌ معناها به، لا الصلةُ الصناعيةُ. و "يأتي مِنْ بعدي" و "اسمُه أحدُ" جملتان في موضعِ جرٍّ نعتاً لرسول أو "اسمُ أحمدُ" في موضعِ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل "يَأْتي" أو تكونُ الأولى نعتاً، والثانيةُ حالاً. وكونُهما حالَيْن ضعْيفٌ لإِتيانِهما من النكرة، وإنْ كان سيبويه يُجَوِّزه. و "أحمدُ" يَحْتمل النقلَ من الفعل المضارع، أو من أفعلِ التفضيل، والظاهرُ الثاني، وعلى كلا الوجهَين فمنعُه من الصَرفِ للعلميةِ والوزنِ الغالبِ، إلاَّ أنه على الأول يمتنعُ معرفةً وينصرف نكرةً، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً، لأنه تَخْلُفُ العلميةَ الصفةُ. وإذا نُكِّر بعد كونِه عَلَماً جَرى فيه خلافُ سيبويه والأخفشِ، وهي مسألةٌ مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان رضي الله عنه يمدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصَرَفَه:
4258 - صلَّى الإِلهُ ومَنْ يَحُفُّ بعرشِه * والطيبونَ على المباركِ أحمدِ
"أحمد" بدل أو بيان للمبارك.
قوله: {هَاذَا سِحْرٌ} قد تقدَّم خلافُ القراء فيها في المائدة.
(13/390)
---(1/5465)
وقال الشيخ هنا: "وقرأ الجمهور "سِحْرٌ" وعبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب "ساحر"، وترك ذِكْرَ الأخوَيْن.
* { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله: {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ}: جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ "افترى"، وهذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحة "يَدَّعي" بفتح الياء والدال مشددة مبنياً للفاعل، وفيها تأويلان، أحدهما - قاله الزمخشري - وهو أن يكونَ يَفْتَعِل بمعنى يَفْعَلُ نحو: لَمَسَه والتمَسه. والضميران أعني "هو" والمستتر في "يَدَّعي" لله تعالى، وحينئذٍ تكون القراءتان / بمعنى واحدٍ، كأنَّه قيل: واللَّهُ يدعو إلى الإِسلام. وفي القراءة الولى يكون الضميران عائدَيْن على "مَنْ". والثاني: أنه مِنْ ادَّعى كذا دَعْوَى، ولكنه لَمَّا ضُمِّن "يَدَّعي" معنى يَنْتَمي وينتسبُ عُدِّي بـ"إلى" وإلاَّ فهو متعدٍّ بنفسه. وعلى هذا الوجهِ فالضميران لـ"مَنْ" أيضاً، كما هي في القراءةِ المشهورة.
وعن طلحة أيضاً "يُدَّعى" مشددَ الدال مبنياً للمفعولِ. وخَرَّجَها الزمخشريُّ على ما تقدَّم مِنْ: ادَّعاءه ودَعاه بمعنىً نحو: لَمَسه والتمسه. والضميران عائدان على "مَنْ" عكسَ ما تقدَّم عنده في تخريج القراءة الأولى فإنَّ الضميرَيْن لله تعالى، كما تقدّضم تحريرُه.
* { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }
(13/391)
---(1/5466)
قوله: {لِيُطْفِئُواْ}: في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُها: أنها مزيدةٌ في مفعولِ الإِرادةِ. قال الزمخشريُّ: "أصلُه: يُريدون أَنْ يُطْفِئوا، كما جاء في سورة التوبة. وكأنَّ هذه اللامَ زِيْدَتْ مع فعل الإِرادة توكيداً له لِما فيها من معنى الإِرادة في قولِك: "جِئتُ لأكرمَك" كما زِيْدَت اللامُ في "لا أبالك" تأكيداً لمعنى الإِضافةِ في "لا أباك". وقال ابن عطية: "واللامُ في "لِيُطْفِئوا" لامٌ مؤكِّدة دخلَتْ على المفعول لأنَّ التقديرَ: يُريدون أَنْ يُطْفئوا. وأكثر ما تَلْزَمُ هذه اللامُ المفعولَ إذا تقدَّمَ. تقول: "لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولِرؤيتِك قصَدْتُ" انتهى. وهذا ليس مذهبَ سيبويه وجمهورِ الناس. ثم قولُ أبي محمد: "وأكثر ما تَلْزَمُ" إلى آخره ليس بظاهرٍ لأنه لا قولَ بلزومِها البتةَ، بل هي جائزةُ الزيادةِ، وليس الأكثرُ أيضاً زيادتَها جوازاً، بل الأكثرُ عَدَمُها.
الثاني: أنَّها لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي: يُريدون إبطالَ القرآنِ أو دَفْعَ الإِسلام أو هلاكَ الرسولِ عليه السلام لِيُطْفِئوا.
الثالث: أنها بمعنى "أَنْ" الناصبةِ، وأنها ناصبةٌ للفعل بنفسِها. قال الفراء: "العربُ تجعلُ لامَ كي في موضع "أَنْ" في أرادَ وأمر" وإليه ذهب الكسائيٌّ أيضاً. وقد تقدَّم لك نحوٌ مِنْ هذا في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء.
قوله: {مُتِمُّ نُورِهِ} قرأ الأخَوان وحفص وابن كثير بإضافة "مُتِمُّ" لـ"نورِه" والباقون بتنوينه ونصبِ "نورَه" فالإِضافةُ تخفيفٌ، والتنوينُ هو الأصلُ. والشيخُ ينازعُ في كونِه الأصلَ وقد تقدَّم. وقوله: "واللَّهُ متمُّ" جملةٌ حالية مِنْ فاعلِ "يريدون" أو "يُطفئوا" وقوله: "ولو كَرِه" حالٌ من هذه الحالِ فهما متداخلان. وجوابُ "لو" محذوفٌ أي: أتَمَّه وأظهرَه، وكذلك {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
(13/392)
---(1/5467)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله: {تُنجِيكُم}: الجملةُ صفةٌ لـ"تجارة" وقرأ ابن عامر "تُنْجِّيكم" بالتشديد. والباقون بالتخفيف. مِنْ أَنْجى، وهما بمعنىً واحدٍ؛ لأن التضعيفَ والهمزةَ مُعَدِّيان.
* { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله: {تُؤْمِنُونَ}: لا محلَّ له لأنه تفسير لتجارة. ويجوز أَنْ يكونَ محلُّها الرفعَ خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي: تلك التجارةُ تؤُمنون، والخبرُ نفسُ المبتدأ فلا حاجةَ إلى رابطٍ، وأَنْ تكونَ منصوبةَ المحلِّ بإضمارِ فعلٍ أي: أعني تؤْمنون. وجاز ذلك على تقديرِ "أَنْ" وفيه تَعَسُّفٌ. والعامَّةٌ على "تُؤْمنون" خبراً لفظاً ثابتَ النون. وعبد الله "آمِنوا" و "جاهِدوا" أمرَيْن. وزيد بن علي "تؤمنوا" و "تجاهِدوا" بحذف نونِ الرفع. فأمَّا قراءةُ العامَّة فالخبرُ بمعنى الأمرِ يَدُلُّ عليه القراءتان الشاذَّتان؛ فإن قراءةَ زيدِ بنِ علي على حَذْفِ لام الأمر أي: لِتؤمنوا ولتجاهِدوا كقوله:
4259 - محمدُ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نفسٍ * ............................
وقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ} في وجهٍ أي: لِتَفْدِ، وليقيموا، ولذلك جُزِمَ الفعلُ في جوابِه في قولِه: "يَغْفِرْ" وكذلك قولُهم: "اتقى اللَّهَ امرؤ فَعَلَ خيراً يُثَبتْ عليه" تقديرُه: ليتقِ اللَّهِ. وقال الأخفش: "إنَّ "تؤمنون" عطفُ بيان لتجارة" وهذا لا يُتَخَيَّلُ إلاَّ بتأويل أن يكونَ الأصلُ: أنْ تؤمنوا فلمَّا حَذَفَ "أن" ارتفع الفعلُ كقوله:
4260 - ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أَحْضُرَ الوغَى * ..........................
(13/393)
---(1/5468)
الاصل: أن أَحْضُرَ. وكأنه قيل: هل أدلُّكم على تجارة مُنْجية: إيمانٍ وجهاد. وهو معنى حسنٌ لولا ما فيه من التأويل. وعلى هذا فيجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ تجارة. وقال الفراء: هو مجزومٌ على جوابِ الاستفهام وهو قولُه: "هل أدلُّكم" واختلف الناسُ في تصحيح هذا القولِ: فبعضُهم / غلَّطه. قال الزجاج: ليسُوا إذا دَلَّهم على ما ينفعهم يَغْفِرُ لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا" يعني أنه ليس مرتَّباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرَّدِ الدلالة. وقال المهدوي: "إنما يَصِحُّ حَمْلاً على المعنى: وهو أَنْ يكونَ "يؤمنون" ويُجاهدون عطفَ بيان على قولِه: "هل أدلُّكم" كأنَّ التجارةَ لم يُدْرَ ما هي؟ فبُيِّنَتْ بالإِيمان والجهاد، فهي هما في المعنى فكأنه قيل: هل تُؤْمنون وتجاهدون؟ قال: فإنْ لم تقدِّر هذا التقديرَ لم يَصِحَّ؛ لأنه يَصيرُ: إنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لكم. والغُفْرانُ إنما يجبُ بالقَبولِ والإِيمانِ لا بالدَّلالةِ. وقال الزمخشري قريباً منه أيضاً. وقال أيضاً: "إنَّ "تُؤْمنون" استئنافٌ، كأنهم قالوا: كيف نعملُ؟ فقال: تؤْمنون". وقال ابن عطية: "تُؤْمنون فعلٌ مرفوعٌ، تقديرُه: ذلك أنَّه تُؤْمنون"، فجعله خبراً لـ"أَنَّ"، وهي وما في حَيَّزها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ. وهذا محمولٌ على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الإِعرابِ، فإنَّه لا حاجةَ إليه.
* { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله: {يَغْفِرْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مجزومٌ على جوابِ الخبرِ بمعنى الأمر، كما تقدَّم تقريرُه. والثاني: أنه مجزومٌ على جواب الاستفهامِ، كما قاله الفراءُ، وتقدَّم تأويلُه. الثالث: أنه مجزومٌ بشرطٍ مقدَّرٍ أي: إنْ تُؤْمنوا يَغْفِرْ لكم.
(13/394)
---(1/5469)
* { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {وَأُخْرَى}: فيها خمسةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّها في موضِع رفعٍ على الابتداءِ، وخبرُها مقدَّر أي: ولكم أو ثَمَّ، أو عنده خَصْلَةٌ أخرى، أو مَثُوْبةٌ أخرى. و "تُحبُّونها" نعتٌ لها. الثاني: أن الخبرَ جملةٌ حُذِفَ مبتدَؤُها تقديرُه: هي نصرٌ، والجملةُ خبرُ "أُخْرى"، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ كثيرٌ؛ لأنه تقديرٌ لا حاجةَ إليه. والثالث: أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ للدلالةِ عليه بالسِّياق، أي ويُعْطِكُمْ، أو يَمْنَحْكم مَثوبةً أخرى. و "تُحبونها" نعتٌ لها أيضاً.
والرابع: أنها منصوبةٌ بفعلِ مضمرٍ يُفَسِّره "تُحبُّونها" فيكونُ من الاشتغالِ، وحينئذٍ لا يكون "تُحِبُّونها" نعتاً؛ لأنه مفسِّرٌ للعاملِ قبله. الخامس: أنها مجرورةٌ عطفاً على "تجارة". وضُعِّفَ هذا: بأنها ليسَتْ مِمَّا دَلَّ عليه، إنما هي ثوابٌ مِنْ عندِ الله. وهذا الوجهُ منقولٌ عن الأخفش.
قوله: {نَصْرٌ مِّن اللَّهِ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: "تلك النعمةُ - أو الخَلَّةُ الأُخْرى - نَصْرٌ. و "من الله" نعتٌ له، أو متعلِّقٌ به، أي: ابتداؤه منه. ورَفْعُ "نصرٌ وفَتْحٌ" قراءةُ العامَّةِ، ونَصَبَ ابنُ أبي عبلةَ الثلاثةَ. وفيه أوجهٌ، ذكرها الزمخشريُّ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ. الثاني: أن ينتصِبْنَ على المصدريَّة أي: يُنْصَرون نَصْراً، ويُفتح لهم فتحاً قريباً. الثالث: ان ينتَصِبْنَ على البدلِ مِنْ "أُخْرى" و "أُخْرى" منصوبٌ بمقدَّرٍ كما تقدَّم أي: يَغْفِرْ لكم، ويُدْخِلْكم جناتٍ، ويؤْتِكم أُخْرى، ثم أبدل منها {نَصْراً وفَتْحاً قريباً}.
(13/395)
---(1/5470)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوااْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيا إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيا إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }
قوله: {أَنصَارَ اللَّهِ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "أنصاراً" منوناً، "لله" جارَّاً ومجروراً. والباقون "أنصارَ" غيرَ منونٍ بل مضافاً للجلالة الكريمة، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن معاً. واللامُ يُحتمل أَنْ تكونَ مزيدةً في المفعولِ للتقوية لكونِ العاملِ فَرْعاً، إذ الأصلُ: أنصاراً اللَّهَ، وأَنْ تكون غيرَ مزيدةٍ، ويكونَ الجارُّ والمجرورُ نعتاً لـ"أَنْصاراً" والأولُ أظهر. وأمَّا قراءةُ الإِضافةِ ففرعُ الأصل المذكورِ. ويؤيِّدُ قراءةَ الإِضافةِ الإِجماعُ عليها في قوله: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}. ولم يُتَصَوَّرْ جَرَيانُ الخلافِ هنا لأنه مرسومٌ بالألفِ.
قوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ على إضمارِ القولِ أي: قُلْنا أي: قُلْنا" لهم ذلك ، كما قال عيسى. الثاني: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفِ تقديرُه: كونوا كَوْناً، قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ لا يُؤْمَرُون بأن يكونوا كَوْناً. الثالث: أنه كلامٌ محمولٌ على معناه دون لفظِه، وإليه نحا الزمخشريُّ، فإنه قال: "فإنْ قلتَ ما وجهُ صحةِ التشبيهِ، وظاهرُه تشبيهُ كونِهم أنصاراً بقولِ عيسى صلوات الله عليه مَنْ أنصاري؟ قلت: التشبيهُ محمولٌ على المعنى، وعليه يَصِحُّ، والمرادُ: كونوا أنصارَ الله كما كان الحواريُّون / أنصارَ عيسى. حين قال لهم: {مَنْ أَنَّصَارِيا إِلَى اللَّهِ}.
(13/396)
---(1/5471)
وتقدَّم في آل عمران تَعَدَّى "أَنْصَاري" بـ"إلى"، واختلافُ الناسِ في ذلك. وقال الزمخشري هنا: "فإنْ قلتَ: ما معنى قولِه: {مَنْ أَنَّصَارِيا إِلَى اللَّهِ} قلت: يجبُ أَنْ يكونَ معناه مطابقاً لجوابِ الحواريين: نحن أنصارُ الله. والذي يطابِقُه أَنْ يكونَ المعنى: مَنْ جُنْدِيٌّ متوجِّهاً إلى نصرةِ الله؟ وإضافةُ "أَنْصاري" خلافُ إضافةِ "أنصار الله"؛ فإنَّ معنى "نحن أنصارُ الله": نحن الذين يَنْصُرون الله، ومعنى "مَنْ أنصاري": مَنْ الأنصارُ الذين يختصُّون بي، ويكونون معي في نُصْرَةِ اللَّهِ. ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معناه مَنْ يَنْصُرني مع الله؛ لأنه لا يطابِقُ الجوابَ، والدليل عليه قراءةُ مَنْ قرأ "أنصارَ الله" انتهى. قلت: يعني أنَّ بعضَهم يَدَّعي أنَّ "إلى" بمعنى مع أي: مَنْ أنصاري مع الله؟ وقولُه: "قراءةُ مَنْ قرأ أنصارَ الله" أي: لو كانت بمعنى "مع" لَما صَحَّ سُقوطُها في هذه القراءةِ. وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ كلَّ قراءةٍ لها معنىً يَخُصُّها، إلاَّ أن الأَوْلَى توافُقُ القراءتَيْن.
قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ} مِنْ إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ فيهما، تَنْبيهاً على عداوةِ الكافرِ للمؤمن؛ إذ الأصلُ: فأيَّدْناهم عليهم، أي: أيَّدْنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتَيْن المذكورتَيْن.(1/5472)
سورة الجمعة
* { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
(13/397)
---
قوله: {الْمَلِكِ}: هذه قراءةُ العامَّة أعني جرَّ "الملِكِ" وما بعده نعتاً له والبدلُ ضعيفٌ لاشتقاقِها. وقرأ أبو وائل ومسلمة ابن محارب ورؤبةُ بالرفعِ على إضمار مبتدأ مُقْتَضٍ للمدح. قال الزمخشريُّ: "ولو قُرِىء بالنصب على قولهم "الحمدُ الله أهلَ الحَمْد" لكان وجهاً".وقرأ زيد بن علي "القَدُّوس" بفتح القاف. وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى الأمِّيِّ والأمِّيِّين جَمْعِه. و "يَتْلُوا" وما بعده صفاتٌ لرسول.
* { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله: {وَآخَرِينَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مجرورٌ عطفاً على الأمِّيِّيْنَ، أي: وبَعَثَ في آخرين من الأمِّيِّيْنَ. و {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفةٌ لـ"آخرين" قبلُ. والثاني: أنه منصوبٌ عَطْفاً على الضمير المنصوبِ في "يَعَلِّمُهم"، أي: ويُعَلِّمُ آخرين لم يَلْحقوا بهم وسيَلْحقون، وكلُّ مَنْ يَعْلَم شريعةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى آخرِ الزمان فرسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمه بالقوة؛ لأنه أصلُ ذلك الخيرِ العظيمِ والفَضْل الجَسيمِ.
* { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله: {حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ}: هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر "حَمَلوا" مخففاً مبنياً للفاعل.
(13/398)
---(1/5473)
قوله {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ عبدُ الله "حِمارٍ" منكَّراً. وهو في قوة قراءةِ الباقين؛ لأنَّ المراد بالحمارِ الجنسُ. ولهذا وُصِفَ بالجملةِ بعده كما سيأتي. وقرأ المأمون ابن هارون الرشيد "يُحَمَّلُ" مشدَّداً مبنياً للمفعول. والجملة مِنْ "يَحْمِلُ" او "يُحْمَّلُ" فيها وجهان، أحدُهما: - وهو المشهورُ - أنَّها في موضع الحال من "الحمار" والثاني: أنَّها في موضع الصفةِ للحمار لجريانِه مَجْرى النكرة؛ إذ المُرادِ به الجنسُ. قال الزمخشري: "أو الجرِّ على الوصفِ؛ لأنَّ الحمارَ كاللئيمِ في قوله:
4261 - ولَقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني * ......................
وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وأنَّ منه عند بعضِهم {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ} وأنَّ "نَسْلَخُ" نعتٌ لـ"الليل. والجمهورُ يَجْعَلون حالاً للتعريف اللفظي. وأمَّا على قراءةِ عبد الله فالجملةُ وصفٌ فقط، ولا يمتنعُ أَنْ تكونَ حالاً عند سيبويه.
والأَسْفار: جمعُ سِفْرٍ، وهو الكتابُ المجتمعُ الأوراقِ.
(13/399)
---(1/5474)
قوله {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} فيه أوجهٌ، أحدها: - وهو الظاهرُ المشهور - أنَّ "مَثَلُ القوم" فاعلُ "بِئْس". والمخصوصُ بالذَّمِّ الموصولُ بعده فَيُشْكِلُ؛ لأنه / لا بُدَّ مِنْ تصادُقِ فاعلِ نِعْم وبِئْسَ والمخصوصِ، وهنا المَثَلُ ليس القومَ المكذِّبين. والجواب: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ، أي: بِئْسَ مَثَلُ القومِ مَثَلُ الذين كَذَّبوا. الثاني: أنَّ "الذين" صفةٌ للقوم فيكونُ مجرورَ المحلِّ، والمخصوصً بالذمِّ محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى تقديره: بِئْس مَثَلُ القومِ المكذِّبين مَثَلُ هؤلاء، وهو قريبٌ من الأولِ. الثالث: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، وأنَّ مَثَلَ القومِ هو المخصوصُ بالذِّم، تقديرُه: بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القوم، ويكونُ الموصولُ نعتاً للقوم أيضاً، وإليه يَنْحو كلامُ ابنِ عطيةً، فإنه قال: "والتقديرُ: بِئْسَ المَثَلأُ مَثَلُ القومِ. وهذا فاسدٌ؛ لأنَّه لا يُحْذَفُ الفاعلُ عند البَصْريين، إلاَّ في مواضعَ ثلاثةٍ، ليس هذا منها، اللهم إلاَّ أَنْ يقولَ بقولِ الكوفيين. الرابع: أَنْ يكونَ التمييزُ محذوفاً، والفاعل المُفَسَّرُ به مستترٌ تقديرُه: بئس مَثَلاً مَثَلُ القوم، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشريِّ فإنه قال: "بئْسَ مَثَلاً مَثَلُ القوم" فيكونُ الفاعلُ مستتراً، مُفَسَّرٌ بـ"مَثَلاً"، و "مَثَلُ القومِ" هو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ له، وحُذِفَ التمييزُ، وهذا لا يُجيزه سيبويهِ وأصحابُه البتةَ، نَصُّوا على امتناعِ حَذْفِ التمييزِ، وكيف يُحْذَفُ وهو مُبَيِّنٌ؟
* { قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوااْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله: {أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ}: سادٌّ مَسَد المفعولَيْنِ، أو المفعولِ، على الخلافِ. و "لله" متعلِّقٌ بـ"أَوْلياء" أو بمحذوف نعتاً لـ أولياء و {مِن دُونِ النَّاسِ} كذلك.(1/5475)
(13/400)
---
وقوله {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} جوابُ الشرطِ. والعامَّةُ بضمِّ الواوِ، وهو الأصلُ في واو الضميرِ. وابن السَّمَيْفع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها، وهو أصلُ التقاءِ الساكنين. وابن السَّميفع أيضاً بفتحها، وهذا طَلَبٌ للتخفيف، وتقدَّم نحوُه في قولِه {اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} وحكى الكسائيُّ إبدالَ الواوِ همزةً.
* { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
قوله: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ}: وقال في البقرة "ولن يتمنَّوْه" قال الزمشخري: "لا فرقَ بين "لا" و "لن" في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما نفيٌ للمستقبل، إلاَّ أنَّ في "لن" تأكيداً وتشديداً ليس في "لا"، فأتى مرةً بلفظ التأكيد "ولن يتمنَّوْه"، ومرةً بغير لفظِه "ولا يتمنَّوْنه". قال الشيخ: "وهذا رجوعٌ منه عن مذهبِه: وهو أنَّ "لن" تَقْتَضي النفي على التأبيد إلى مذهبِ الجماعة وهو أنَّها لا تَقْتَضْيه" قلت: وليس فيه رجوعٌ، غايةُ مافيه أنه سكَتَ عنه، وتشريكُه بين "لا" و "لن" في نفي المستقبل لا يَنْفي اختصاصَ "لن" بمعنى آخرَ. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا بأشبعَ منه هنا في البقرة.
* { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
(13/401)
---(1/5476)
قوله: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ}: في الفاءِ وجهان أحدُهما: أنها داخلةٌ لِما تَضَمَّنه الاسمُ مِنْ معنى الشرطِ، وحُكْمُ الموصوفِ بالموصول حكمُ الموصولِ في ذلك. والثاني: أنَّها مزيدةٌ مَحْضَةٌ لا للتضمين المذكور. وأفسدَ هؤلاء القولَ الأول بوجهَيْن، أحدُهما أنَّ ذلك إنَّما يجوز إذا كان المبتدأُ أو اسمُ "إنَّ" موصولاً، واسمُ "إنَّ" هنا ليس بموصولٍ، بل موصوفٌ بالموصول. والثاني: أنَّ الفِرارَ مِنْ الموتِ لا يُنْجَي منه، فلم يُشْبِهِ الشرطَ، يعنى أنه متحققٌ فلم يُشْبه الشرطَ الذي هو مِنْ شأنِه الأحتمالُ.
وأُجيب عن الأول: بأنَّ الموصوفَ مع صفتِه كالشيءِ الواحد، ولأن "الذي" لا يكونَ إلاَّ صفةً. فإذا لم يُذْكَرِ الموصوفُ دخلَتِ الفاءُ، والموصوفُ مرادٌ، فكذلك إذا صَرَّح بها. وعن الثاني: بأنَّ خَلْقاً كثيراً يَظُنُّونَ أنَّ الفِرارَ مِنْ أسبابِ الموتِ يُنَجِّيهم إلى وقتٍ آخر. وجوزَّ مكي أَنْ يكونَ الخبرُ قولَه {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ}، وتكون الفاءُ جوابَ الجملة. قال: "كما تقول: زيدٌ منطلقٌ فقُمْ إليه" وفيه نظر؛ لأنه لا تَرَتُّبَ بين قولِه: {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وبين قولِه: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} فليس نظيراً لِما مَثَّله.
وقرأ زيد بن علي "إنه" دونَ فاء وفيها أوجه، أحدُها: أنَّه مستأنفٌ، وحينئذٍ يكونُ الخبرُ نفسَ الموصولِ كأنه قيلَ: إنَّ الموتَ هو الشيءُ الذي تَفِرُّونَ منه، وحينئذٍ يكونُ الموصولُ نعتاً للموت. الثالث: أَنْ يكونَ "إنَّه" تأكيداً؛ لأنَّ الموتَ لَمَّا طال الكلامُ أُكِّدَ الحرفُ توكيداً لفظيَّاً، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُؤَكَّدُ كذلك إلاَّ بإعادةِ ما دَخَلَ عليه. أو بإعادةِ ضميرِه، فأُكِّد بإعادةِ ضمير ما دَخَلَتْ عليه "إنَّ" وحينئذٍ يكون الموصولُ نعتاً للموتِ، و "مُلاقِيكم" خبرُه كأنه قيل: إنَّ الموتَ إنَّه مُلاقيكم.
(13/402)
---(1/5477)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله: {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ}: "مِنْ" هذه بيانٌ لـ"إذا" وتفسيرٌ لها قاله الزمخشريُّ. وقال أبو البقاء: إنَّها بمعنى "في"، أي: في يوم. وقرأ العامَّةُ "الجمعة" بضمَّتَيْن. وقرأ ابن الزبير وزيد ابن علي وأبو حيوة وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ الميم. فقيل: هي لغةٌ في الأولى وسُكِّنَتْ تخفيفاً، وهي لغةُ تميم. وقيل: / هو مصدرٌ بمعنى الاجتماع. وقيل: لَمَّا كان بمعنى الفعل صار كرجل هُزْأَة، أي: يُهْزَأ به، فلمَّا كان في الجمعة معنى التجمُّع أُسْكِن؛ لأنه مفعولٌ به في المعنى، أو يُشْبُهه فصارَ كهُزْأَة الذي يُهْزأ به. قاله مكي، وكذا قال أبو البقاء: "هو بمعنى المُجْتَمَع فيه مثلَ: رجل ضُحْكَة، أي: يُضْحك منه" وقال مكي: "يجوزُ إسكان الميم استخفافاً. وقيل: هي لغةٌ". قلت: قد تقدَّم أنها قراءةٌ، وأنها لغةُ تميم. وقال الشيخ: "ولغةٌ بفتحِها لم يُقْرَأ بها" قلت: قد نقلها قراءةً أبو البقاء فقال: "ويقرأ بفتح الميم بمعنى الفاعِل، أي: يومَ المكان الجامع. مثلَ: رجلٌ ضُحْكَة، أي: كثيرُ الضَّحِك" وقال مكي قريباً منه، فإنه قال: "وفيه لغةٌ ثالثةٌ بفتح الميم على نسبةِ الفعل إليها، كأنَّها تَجْمع الناسَ كما يُقال: رجلٌ لُحَنَة، إذا كان يُلَحِّن الناس، وقُرَأَة، إذا كان يُقْرِىءُ الناس"، ونقلها قراءةً أيضاً الزمخشري، إلاَّ أنه جعلَ الجُمْعةَ بالسكون هو الأصلَ، وبالمضموم مخفَّفاً منه فقال: "يوم الجُمعة: يوم الفوجِ المجموعِ كقولهم: ضُحْكَة للمضحوك منه. ويومُ الجُمعة بفتح الميم: يومُ الوقتِ الجامعِ كقولهم: ضُحَكة ولُعَبة، ويومُ الجُمُعة تثقيلٌ للجُمْعَة كما قيل: عُسُرة في عُسْرة وقُرِىء بهن جميعاً" وتقديرُه: يوم(1/5478)
(13/403)
---
الوقتِ الجامعِ أحسنُ من تقدير أبي البقاءِ: يوم المكانِ الجامعِ؛ لأنَّ نسبةَ الجمعِ إلى الظرفَيْن مجازٌ فالأَوْلى إبقاؤُه زماناً على حالِه.
* { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوااْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
قوله: {انفَضُّوااْ إِلَيْهَا}: أعاد الضمير على التجارة دونَ اللهو؛ لأنها الأهمُّ في السبب. قال ابن عطية: "وقال: إليها ولم يقل: إليهما تَهَمُّماً بالأهمِّ، إذ كانَتْ هي سببَ اللهوِ ولم يكن اللهوُ. سبَبَها. وتأمَّلْ أنْ قُدِّمِتْ التجارةُ على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهمُّ وأُخِّرت مع التفضيل، لتقعَ النفسُ أولاً على الأَبْيَن" انتهى. وفي قولِه "لم يَقُلْ إليهما" ثم أَجابَ بما ذكَرَ نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنَّ العطفَ بـ"أو" لا يُثنَّى معه الضميرُ ولا الخبرُ ولا الحاُ ولا الوصف؛ لنها لأحدِ الشيئَيْن، ولذلك تأوَّل الناسُ "إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فاللَّهُ أَوْلى بهما" كما قَدَّمتهُ في موضعِه، وإنما الجوابُ عنه: أنه وَحَدَّ الضميرَ لأنَّ العطفَ بـ"أو" وإنما جيْءَ بضميرِ التجارة دونَ ضمير اللهوِ وإن كان جائزاً لِما ذكَره ابنُ عطيةَ مِنْ الجوابِ، وهو الاختمام كما قاله غيرُ واحدٍ. وقد قال الزمخشريُّ قريباً ممَّا قاله ابنُ عطية فإنه قال: "كيف قال:إليها، وقد ذكرَ شيئَيْن؟ قلت: تقديرُه: إذ رأوا تجارةً انفَضُّوا غليها أو لَهْواً انفَضُّوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكورِ عليه، وكذلك قراءةُ مَنْ قرأ "انفَضُّوا إليه" انتهى. قوله: قلتُ تقديرُه إلى آخره، يُشْعِرُ، بأنَّه كان حقُّ الكلام أَنْ يُثَنَّى الضمير، ولكنه حُذِف. وفيه ما قَدَّمتُه لك: مِنْ أنَّ المانعَ مِن ذَلك أمرٌ صناعيٌ وهو العطفُ بـ"أو".
(13/404)
وقرأ ابن أبي عبلةَ "غليه" أعاد الضميرَ إلى اللهو وقد نَصَّ على جوازِ ذلك الأخفش سَماعاً من العرب نحو: "إذا جاءك زيد أو هند فأَكْرِمه" وإن شئْتَ "فأكرِمْها". وقرأ بعضهُم "إليهما" بالتثنية. وتخريجُها كتخريجِ "إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً" وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله: {وَتَرَكُوكَ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل "انفَضُّوا" و "قد" مقدرةٌ عند بعضِهم وقولِه {مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ} "ما" موصولَةٌ مبتدأ، و "خيرٌ" خبرُها.(1/5479)
سورة المنافقون
* { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }
قوله: {إِذَا جَآءَكَ}: شرطٌ. قيل: جوابُه قالوا. وقيل: محذوفٌ. و "قالوا" حالٌ، أي: جاؤوك قائلين كيتَ وكيتَ، فلا تقبَلْ منهم. وقيل: الجوابُ {اتَّخَذُوااْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وهو بعيدٌ، و "قالوا" أيضاً حالٌ.
قوله: {قَالُواْ نَشْهَدُ} جرى مَجْرى القسمِ كفعل العِلْم واليقين، ولذلك تُلُقِّيَتْ بما يُتَلَقَّى به القسمُ في قوله: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ} وفي قوله:
4262 - ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي * إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُها
وقد تقدَّم خلافُ الناسِ في الصدق والكذبِ واستدلالُهم بهذه الآيةِ، والجوابُ عنها، أولَ البقرة.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} جملةٌ معترضةٌ بين قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ} وبين قولِه: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ} لفائدةٍ، قال الزمخشري: "لو قال: قالوا نشهد إنَّك لرسول الله، واللَّهُ يَشْهد إنَّهم لكاذبون، لكان يُوْهِم أنَّ قولَهم هذا كذبٌ، فوَسَّط بينهما قولَه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليُميط هذا الإِبْهام".
* { اتَّخَذُوااْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(13/405)
---(1/5480)
قوله: {اتَّخَذُوااْ}: قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط، ويجوز أَنْ يكون مستأنفاً، جيْءَ به لبيانِ كذبِهم وحَلْفِهم عليه، أي: إنَّ الحاملَ لهم على الإِيمان / اتِّقاؤهم بها عن أنفسِهم. والعامَّةُ على فتح الهمزة جمعَ "يمين" والحسن بكسرِها مصدراً. وتقدَّم مثله في المجادلة. والجُنَّةُ: التُّرْسُ ونحوُه، وكلُّ ما يَقيك سوءاً. ومن كلامِ الفصحاء: "جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ" وقال أعشى همدان:
4263 - إذا أنتَ لم تجعلْ لِعرْضِكَ جُنَّةً * من المالِ سار الذَّمُّ كلَّ مَسِيرِ
قوله: {سَآءَ مَا كَانُواْ} يجوز أن تكونَ الجاريةَ مَجْرَى بئْسَ، وأَنْ تكونَ على بابها، والأولُ أظهرُ، وقد تقدَّم حكمُ كلٍ منهما ولله الحمد، وقوله: "فطُبِعَ" هذه قراءةُ العامَّة أعني بناءَه للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعدَه. وزيد بن علي "وطَبَعَ" مبنياً للفاعل. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، ويَدُلُّ عليه قراءةُ الأعمشِ، وقراءتُه هو في روايةٍ عند "فَطَبَعَ اللَّهُ" مُصَرَّحاً بالجلالةِ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ مِمَّا قبلَه، أي: فطَبَعَ هو، أي: تَلْعابُهم بالدين.
* { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
(13/406)
---(1/5481)
قوله: {تَسْمَعْ}: العامَّةُ بالخطاب، و "لِقولهم" متعلِّقٌ به وضُمِّنَ "تَسْمَعْ" معنى تُصْغي وتميلُ، فلِذلك عُدِّيَ باللام. وقيل: بل هي مزيدةٌ، أي: تسمعُ قولَهم. وليس بشيءٍ؛ لنَصاعةِ معنى الأول. وقرأ عطيةُ العَوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنياً للمفعول، والقائم مَقامَ الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ. ومَنْ اعتقد زيادةَ اللامِ أولاً لم يَجُزْ أَنْ يعتقدَها هنا، أي: تَسمعْ قَوْلَهم؛ لأنَّ اللامَ لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبه.
قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها مستأنفةٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم كأنَّهم، قالهما الزمخشري. والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في "قولِهم" قاله أبو البقاء. وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ "خُشْب" بضمٍ وسكونٍ، وباقي السبعةِ بضمتين. وقرأ السعيدان: ابنُ جبير وابنُ المسيَّب بفتحتين، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيرَه. فأمَّا القراءةُ بضمتَيْن فقيل: يجوزُ أَنْ تكونَ جمع خشَبَة نحو: ثَمَرَة وثُمُر، قاله الزمشخريُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن هذه الصيغةَ محفوظةٌ في فَعَلَة لا تَنْقاس نحو: ثَمَرَة وثُمُر. ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي أنه جمعُ خَشْباء، وأَحْسَبُه غَلِطَ عليه لأنه قد يكون قال "خُشْب" بالسكون جمع خَشْباء نحو: حَمْراء وحُمْر؛ لأنَّ فَعْلاء الصفةَ لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ. وقوله "الزبيدي" تصحيفٌ: إمَّا منه وإمَّا من الناسخِ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء، نقل ذلك الزمخشري. وقال أبو البقاء: "وخُشْب بالضمِّ والإِسكان جمعُ خَشَب مثل: أَسَد وأُسْد" انتهى. فهذا يُوهم أنه يقال: أُسُد بضمتين وليس كذلك.
(13/407)
---(1/5482)
وأمَّا القراءةُ بضمةٍ وسكونٍ فقيل: هي تخفيفُ الأُولى. وقيل: هي جمعُ خَشْباء وهي الخَشَبةُ التي نُخِر جَوْفُها، أي: فُرِّغَ، شُبِّهوا بها لفراغِ بَواطنِهم مِمَّا يُنْتَفَعُ به. وقيل: هي جمعُ خَشَبة نحو بَدَنَة وبُدْن، قاله الزمخشري.
وأمَّا القراءةُ بفتحتَيْن فهو اسمُ جنسٍ، وأُنِّثَتْ صفتُه كقولِه: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وهو أحدُ الجائزَيءن.
وقوله: {مُّسَنَّدَةٌ} تنبيهٌ على أنها لا يُنْتَفَعُ بها، كما يُنتفعِ بالخَشَبِ في سَقْفٍ وغيرِه، أو شبهوا بالأصنامِ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان.
قوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان، أظهرهما: أنَّ "عليهم" هو المفعولُ الثاني للحُسْبان، أي: واقعةً وكائنةً عليهم، ويكون قولُه: "هم العدوُّ" جملةً مستأنفةً، أخبر تعالى بذلك. والثاني: أَنْ يكونَ "عليهم" متعلقاً بصيحة، و "هم العدوُّ" الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان. قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ "هم العدوُّ" هو المفعولَ الثاني: كما لو طَرَحْتَ الضميرَ. فإنْ قلتَ: فحقُّه أن يُقالَ: هي العدو قلت: منظورٌ فيه إلى الخبر، كما ذُكِر في قوله: {هَاذَا رَبِّي}، وأَنْ يُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ على "يَحْسَبُون كلَّ أهلِ صحيةٍ" انتهى. وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ.
قوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} "أنَّى" بمعنى كيف. وقال ابن عطية: ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ "أنَّى" ظرفاً لـ"قاتَلَهم" كأنَّه قال: قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا" انتهى. وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ "أنَّى" إنما هي بمعنى كيف، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ.
(13/408)
---(1/5483)
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }
قوله: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}: هذه المسألةُ عَدَّها النحاةُ من الإِعمالِ، وذلك أنَّ "تعالَوا" يطلبُ "رسولُ الله" مجروراً بـ إلى، أي: تعالَوا إلى رسولِ الله، و"يَسْتغفر" يَطْلبه فاعلاً، فأعمل الثاني، ولذلك رفعَه، وحَذَف من الأول؛ إذ التقدير: تعالَوْا إليه، ولو أَعْمل الأولَ لقيل: إلى رسولِ الله / يَسْتغفر، فيُضمر في "يَسْتغفر" فاعلٌ ويمكن أَنْ يقال: ليَستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنَّ قولَه: "تعالَوْا" أمرٌ بالإِقبال من حيث هو، لا بالنَّظر إلى مُقْبَلٍ عليه.
قوله: {لَوَّوْاْ} هذا جوابُ "إذا". وقرأ نافع "لَوَوْا" مخففاً، والباقون مشدَّداً على التكثير و "يَصُدُّون" حال لأنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ، وكذا قولُه "وهم مُستكبرون" حالٌ أيضاً: إمَّا من صاحب الحالِ الأولى، وإمَّا مِنْ فاعل "يَصُدُّون" فتكونُ متداخلةً. وأتى بـ"يَصُدُّون" مضارعاً دلالةً على التجدُّدِ والاستمرار. وقرِىء "يَصِدُّون" بالكسر وقد تقدَّمنا في الزخرف.
* { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
(13/409)
---(1/5484)
قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ}: قراءةُ العامَّةُ بهمةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مَدّ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ. وقرأ يزيد ابن القعقاع "آسْتَغْفَرْت". بهمزةٍ ثم ألفٍ، فاختلف الناس في تأويلِها، فقال الزمخشري: "إشْباعاً لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان، لا قَلْباً لهمزة الوصل كما في "آلسحرُ" و "آللهُ" يعني أنه أشبع فتحةَ همزةِ التسويةِ فتولَّد منها ألفٌ، وقَصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها، لا أنه قَلَبَ الوصَل ألفاً كما قَلَبها في قولِه: "آلسحرُ" "آللهُ أَذِنَ لكم" لأنَّ هذه الهمزةً الوَصْلَ، فهي تَسْقُط في الدَّرْج. وأيضاً فهي مكسورةً فلا يَلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر: بخلاف "آلسحر" و "آلله". وقال آخرون: هي عِوَضٌ من همزةِ الوصلِ. كما في "آلذَّاكَرَيْن" وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدَلُ ألفاً؟ وأيضاً فإنما قَلَبْناها هناك ألفاً ولم نحذِفْها، وإن كان حَذْفُها مُسْتحقاً، لئلا يلتبسَ الاستفهامُ بالخير، وهنا لا لَبْسَ.
(13/410)
---(1/5485)
وقال ابن عطية: "قرأ أبو جعفر - يعني زيدي بن القعقاع - "آستغفرْتَ" بمَدَّة على الهمزةِ. وهي ألفُ التسوية. وقرأ أيضاً بوَصْلِ الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كلِّه ضَعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت هَمزةَ الوصلِ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام، وفي الثانية حَذَفَ همزةَ الاستفهام، وهو يُريدها، وهذا ممَّا لا يُسْتعملُ إلاَّ في الشعر". قلت: أمَّا قراءتُه "استغفرْتَ" بوَصْلِ الهمزة فرُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ، إلاَّ أنه هو يضُمُّ ميم "عليهم" عند وَصْلِه الهمزةَ؛ لأن أصلَها الضمُّ، وبو عمرو بكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين. وأمَّا قولُه: "وهذا ممَّا لا يُسْتعمل إلاَّ في شعرٍ" فإنْ أراد بهذا مَدَّ هذه الهمزةِ الاستفهام فليس بصحيح لأنَّه يجوزُ حَذْفُها إجماعاً قبل "أم" نثراً ونَظْماً، وأمَّا دونَ "أم" ففيه خلافٌ، والأخفشُ يُجَوِّزُهُ ويجعلُ منه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} وقولَه:
4264 - طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ * ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقول الآخر:
4265 - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شصائصاً نَبْلا
وأمَّأ قبل "أم" فكثير كقولِه:
4266 - لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإنْ كنتُ داريا * بسبَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْر أم بثمانٍ
وقد مَرَّتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ولله الحمدُ
* { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }
(13/411)
---(1/5486)
قوله: {يَنفَضُّواْ}: قرأ العامَّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ. وقرأ الفضلِ بن عيسى الرقاشي "يُنْفِضُوا" مِنْ أَنْفَضَ القومُ: فَنِيَ زادُهم. ويقال: نَفَضَ الرجلُ وعاءَه من الزاد، فأَنْفَضَ، فيتعدَّى دونَ الهمزةِ ولا يتعدَّى معها، فهو من بابِ: كَبَبْتُه فأَكَبَّ. قال الزمخشري: "وحقيقتُه: حانَ لهم أَنْ يَنْفُضُوا مَزاوِدَهُم".
* { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ}: قراءةُ العامَّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ، مسْنداً إلى "الأعزُّ"، و "الأذلَّ" مفعولٌ به، والأعزُّ بعض المنافقين على زعمه. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ "لَنُخْرِجَنَّ" بنون العظمة وبنصبِ "الأعَزَّ" على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ، وبه استشهد مَنْ جَوَّز تعريفَها. والجمهورُ جَعلوا أل مزيدةً على حَدِّ:
4267 - فَأَرْسَلَها العِراكَ ......... * ..........................
(13/412)
---(1/5487)
وادخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً على المفعول به، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ، أي: مُشْبهاً الأذلَّ. وقد خَرَّجَه الزمخشريُّ على حَذْفِ مضافٍ، أي: خروجَ الأذلِّ، أو إخراجَ الأذَلِّ، يعني بحسَبِ القراءتَيْن: مِنْ خَرَجَ وأَخْرَجَ. فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ. ونَقَلَ الدانيُّ عن الحسن أيضاً / "لنَخْرُجَنَّ" بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ "الأعزَّ" على الاختصاصِ كقولهم: "نحن العربَ أَقْ{ى الناس للضيفِ".، و "الأذلَّ" نصبٌ على الحالِ أيضاً، قاله الشيخ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم: بأنهم يَخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ، أي: أخصُّ الأعزَّ، ويَعْنُون بالأعزِّ أنفسَهم؟ وقد حكى هذه القراءةَ أيضاً أبو حاتمٍ، وحكى الكسائي والفراء أنَّ قوماً قرؤوا "ليَخْرُجَنَّ" بفتح الياء وضم الراء ورفع "الأعزُّ" فاعلاً ونصب الأول حالاً وهي واضحةٌ. وقُرِىء ليُخْرَجَنَّ بالياء مبنياً للمفعول "الأعزُّ" قائماً مَقام الفاعل، "الأذلَّ" حالٌ أيضاً.
* { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاا أَخَّرْتَنِيا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }
(13/413)
---(1/5488)
قوله: {وَأَكُن}: قرأ أبو عمروٍ "وأكونَ" بنصب الفعل عطفاً على "فأصَّدَّقَ" و "فأصَّدَّقَ" منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: "لولا أَخَّرتني" والباقون "وأكُنْ" مجزوماً، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: "عطفاً على محلِّ "فأصَّدَّقَ" كأنه قيل: إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ". وقال ابنُ عطية: "عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ: إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم" انتهى. وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين. ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير:
4268 - بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى * ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
(13/414)
---(1/5489)
فخفضَ "ولا سابقٍ" عطفاً على "مُدْرِكَ" الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جواز ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظاً. وقال أبو عبيد: "رأيتهُ في مصحف عثمان "وأكُنْ" بغير واوٍ. وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال: "الفرقُ بينهما: أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ" انتهى. قلت: مثالُ الأول: "هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً" فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو "ضارب" موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرىء القيس:
4269 - فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ * صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهَّم أنه أضاف "منضج" إلى "صَفيف"، وهو لو أضافَه ليه لَجَرَّه فعطفَ "قدير" على "صفيف" بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة. /
وقرأ عبيد بن عمير "وأكونُ" برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح.
* { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(13/415)
وقرأ أبو بكر "بما يعملون" بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان. وقرأ أُبَي وعبد الله وبن جبير "فأَتَصَدَّقَ" وهي أصلُ قراءةِ العامةِ ولكنْ أُدْغِمَتْ التاءُ في الصاد.(1/5490)
سورة التغابن
* { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: {لَهُ الْمُلْكُ}: مبتدأٌ وخبرٌ. وقدَّمَ الخبر ليفِيد اختصاصَ المُلْكِ والحمدِ بالله، إذ المُلُْ والحمدُ لله حقيقةٌ.
* { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
(13/416)
قوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} "أنَّى" بمعنى كيف. وقال ابن عطية: ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ "أنَّى" ظرفاً لـ"قاتَلَهم" كأنَّه قال: قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا" انتهى. وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ "أنَّى" إنما هي بمعنى كيف، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }(1/5491)
قوله: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}: هذه المسألةُ عَدَّها النحاةُ من الإِعمالِ، وذلك أنَّ "تعالَوا" يطلبُ "رسولُ الله" مجروراً بـ إلى، أي: تعالَوا إلى رسولِ الله، و"يَسْتغفر" يَطْلبه فاعلاً، فأعمل الثاني، ولذلك رفعَه، وحَذَف من الأول؛ إذ التقدير: تعالَوْا إليه، ولو أَعْمل الأولَ لقيل: إلى رسولِ الله / يَسْتغفر، فيُضمر في "يَسْتغفر" فاعلٌ ويمكن أَنْ يقال: ليَستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنَّ قولَه: "تعالَوْا" أمرٌ بالإِقبال من حيث هو، لا بالنَّظر إلى مُقْبَلٍ عليه.
قوله: {لَوَّوْاْ} هذا جوابُ "إذا". وقرأ نافع "لَوَوْا" مخففاً، والباقون مشدَّداً على التكثير و "يَصُدُّون" حال لأنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ، وكذا قولُه "وهم مُستكبرون" حالٌ أيضاً: إمَّا من صاحب الحالِ الأولى، وإمَّا مِنْ فاعل "يَصُدُّون" فتكونُ متداخلةً. وأتى بـ"يَصُدُّون" مضارعاً دلالةً على التجدُّدِ والاستمرار. وقرِىء "يَصِدُّون" بالكسر وقد تقدَّمنا في الزخرف.
(14/1)
---
* { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(1/5492)
قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ}: قراءةُ العامَّةُ بهمةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مَدّ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ. وقرأ يزيد ابن القعقاع "آسْتَغْفَرْت". بهمزةٍ ثم ألفٍ، فاختلف الناس في تأويلِها، فقال الزمخشري: "إشْباعاً لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان، لا قَلْباً لهمزة الوصل كما في "آلسحرُ" و "آللهُ" يعني أنه أشبع فتحةَ همزةِ التسويةِ فتولَّد منها ألفٌ، وقَصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها، لا أنه قَلَبَ الوصَل ألفاً كما قَلَبها في قولِه: "آلسحرُ" "آللهُ أَذِنَ لكم" لأنَّ هذه الهمزةً الوَصْلَ، فهي تَسْقُط في الدَّرْج. وأيضاً فهي مكسورةً فلا يَلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر: بخلاف "آلسحر" و "آلله". وقال آخرون: هي عِوَضٌ من همزةِ الوصلِ. كما في "آلذَّاكَرَيْن" وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدَلُ ألفاً؟ وأيضاً فإنما قَلَبْناها هناك ألفاً ولم نحذِفْها، وإن كان حَذْفُها مُسْتحقاً، لئلا يلتبسَ الاستفهامُ بالخير، وهنا لا لَبْسَ.
(14/2)
---(1/5493)
وقال ابن عطية: "قرأ أبو جعفر - يعني زيدي بن القعقاع - "آستغفرْتَ" بمَدَّة على الهمزةِ. وهي ألفُ التسوية. وقرأ أيضاً بوَصْلِ الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كلِّه ضَعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت هَمزةَ الوصلِ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام، وفي الثانية حَذَفَ همزةَ الاستفهام، وهو يُريدها، وهذا ممَّا لا يُسْتعملُ إلاَّ في الشعر". قلت: أمَّا قراءتُه "استغفرْتَ" بوَصْلِ الهمزة فرُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ، إلاَّ أنه هو يضُمُّ ميم "عليهم" عند وَصْلِه الهمزةَ؛ لأن أصلَها الضمُّ، وبو عمرو بكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين. وأمَّا قولُه: "وهذا ممَّا لا يُسْتعمل إلاَّ في شعرٍ" فإنْ أراد بهذا مَدَّ هذه الهمزةِ الاستفهام فليس بصحيح لأنَّه يجوزُ حَذْفُها إجماعاً قبل "أم" نثراً ونَظْماً، وأمَّا دونَ "أم" ففيه خلافٌ، والأخفشُ يُجَوِّزُهُ ويجعلُ منه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} وقولَه:
4264 - طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ * ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقول الآخر:
4265 - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شصائصاً نَبْلا
وأمَّأ قبل "أم" فكثير كقولِه:
4266 - لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإنْ كنتُ داريا * بسبَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْر أم بثمانٍ
وقد مَرَّتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ولله الحمدُ
* { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }
(14/3)
---(1/5494)
قوله: {يَنفَضُّواْ}: قرأ العامَّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ. وقرأ الفضلِ بن عيسى الرقاشي "يُنْفِضُوا" مِنْ أَنْفَضَ القومُ: فَنِيَ زادُهم. ويقال: نَفَضَ الرجلُ وعاءَه من الزاد، فأَنْفَضَ، فيتعدَّى دونَ الهمزةِ ولا يتعدَّى معها، فهو من بابِ: كَبَبْتُه فأَكَبَّ. قال الزمخشري: "وحقيقتُه: حانَ لهم أَنْ يَنْفُضُوا مَزاوِدَهُم".
* { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ}: قراءةُ العامَّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ، مسْنداً إلى "الأعزُّ"، و "الأذلَّ" مفعولٌ به، والأعزُّ بعض المنافقين على زعمه. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ "لَنُخْرِجَنَّ" بنون العظمة وبنصبِ "الأعَزَّ" على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ، وبه استشهد مَنْ جَوَّز تعريفَها. والجمهورُ جَعلوا أل مزيدةً على حَدِّ:
4267 - فَأَرْسَلَها العِراكَ ......... * ..........................
(14/4)
---(1/5495)
وادخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً على المفعول به، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ، أي: مُشْبهاً الأذلَّ. وقد خَرَّجَه الزمخشريُّ على حَذْفِ مضافٍ، أي: خروجَ الأذلِّ، أو إخراجَ الأذَلِّ، يعني بحسَبِ القراءتَيْن: مِنْ خَرَجَ وأَخْرَجَ. فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ. ونَقَلَ الدانيُّ عن الحسن أيضاً / "لنَخْرُجَنَّ" بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ "الأعزَّ" على الاختصاصِ كقولهم: "نحن العربَ أَقْ{ى الناس للضيفِ".، و "الأذلَّ" نصبٌ على الحالِ أيضاً، قاله الشيخ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم: بأنهم يَخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ، أي: أخصُّ الأعزَّ، ويَعْنُون بالأعزِّ أنفسَهم؟ وقد حكى هذه القراءةَ أيضاً أبو حاتمٍ، وحكى الكسائي والفراء أنَّ قوماً قرؤوا "ليَخْرُجَنَّ" بفتح الياء وضم الراء ورفع "الأعزُّ" فاعلاً ونصب الأول حالاً وهي واضحةٌ. وقُرِىء ليُخْرَجَنَّ بالياء مبنياً للمفعول "الأعزُّ" قائماً مَقام الفاعل، "الأذلَّ" حالٌ أيضاً.
* { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاا أَخَّرْتَنِيا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }
(14/5)
---(1/5496)
قوله: {وَأَكُن}: قرأ أبو عمروٍ "وأكونَ" بنصب الفعل عطفاً على "فأصَّدَّقَ" و "فأصَّدَّقَ" منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: "لولا أَخَّرتني" والباقون "وأكُنْ" مجزوماً، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: "عطفاً على محلِّ "فأصَّدَّقَ" كأنه قيل: إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ". وقال ابنُ عطية: "عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ: إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم" انتهى. وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين. ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير:
4268 - بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى * ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
(14/6)
---(1/5497)
فخفضَ "ولا سابقٍ" عطفاً على "مُدْرِكَ" الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جواز ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظاً. وقال أبو عبيد: "رأيتهُ في مصحف عثمان "وأكُنْ" بغير واوٍ. وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال: "الفرقُ بينهما: أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ" انتهى. قلت: مثالُ الأول: "هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً" فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو "ضارب" موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرىء القيس:
4269 - فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ * صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهَّم أنه أضاف "منضج" إلى "صَفيف"، وهو لو أضافَه ليه لَجَرَّه فعطفَ "قدير" على "صفيف" بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة. /
وقرأ عبيد بن عمير "وأكونُ" برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح.
* { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(14/7)
---(1/5498)
وقرأ أبو بكر "بما يعملون" بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان. وقرأ أُبَي وعبد الله وبن جبير "فأَتَصَدَّقَ" وهي أصلُ قراءةِ العامةِ ولكنْ أُدْغِمَتْ التاءُ في الصاد.
سورة التغابن
* { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: {لَهُ الْمُلْكُ}: مبتدأٌ وخبرٌ. وقدَّمَ الخبر ليفِيد اختصاصَ المُلْكِ والحمدِ بالله، إذ المُلُْ والحمدُ لله حقيقةٌ.
* { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
قوله: {وَصَوَّرَكُمْ}: قرأه العامَّةُ بضم الصادِ، وهو القياسُ في فُعْلَة. وقرأ زيدٌ بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرِها، وليس بقياسٍ، وهو عكسُ "لُحَى" بالضمِّ، والقياسُ لِحى بالكسر.
* { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله: {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}: العامَّةُ على الخطابِ في الحرفَيْن. ورُوِي عن أبي عمروٍ وعاصمٍ بياء الغَيْبةِ، فتحتملُ الالتفاتَ وتحتملُ الإِخبارَ عن الغائبين.
* { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوااْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
قوله: {بِأَنَّهُ}: الهاءُ للشأنِ والحديثِ، و {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم} خبرُها و "استغنى" بمعنى المجرَّد. وقال الزمخشري: "ظَهَر غِناه فالسين ليسَتْ للطلبِ".
قوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يجوزُ أَنْ يرتفعَ على الفاعلية، ويكونَ من الاشتغال، وهو الأرجحُ لأنَّ الأداةَ تطلبُ الفعلَ، وأن يكونَ مبتدأً وخبراً. وجُمع الضميرُ في "يَهْدوننا" إذ البشرُ اسمُ جنسٍ.
(14/8)
---(1/5499)
* { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
قوله: {أَن لَّن يُبْعَثُواْ}: "أنْ" مخففةٌ، لا ناصبةٌ لئلا يَدْخُلَ ناصبٌ على مثلِه، و "أنْ" وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدّ المفعولَيْنِ للزعمِ أو المفعول. و "بلى" إيجابٌ للنفي، و "لَتُبْعَثُنَّ". جوابُ قسم مقدرٍ.
* { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ}: منصوبٌ بقولِه: "لَتُنَبَّؤُنَّ" عند النحاس و بـ"خَبيرٌ" عند الحوفي، و بـ"اذكُر" مضمراً عند الزمخشري، فيكون مفعولاً به، وبما دَلَّ عليه الكلامُ، أي: تتفاوتون ويومَ يجمعُكم، قاله أبو البقاء. والعامَّةُ بفتح الياءِ وضمِّ العين. ورُوِي سكونُها وإشمامُها عن أبي عمروٍ. وهذا منقولٌ عنه في الراء نحو {يَنصُرُكُمْ} وبابِه كما تقدَّم في البقرة. وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي "نجمعكم" بنونِ العظمة.
والتَّغابُنُ: تفاعُلٌ من الغَبْن في البيعِ والشراءِ على الاستعارة وهو أَخْذُ الشيءِ بدون قيمتِه. وقيل: الغَبْنُ: الإِخفَاءُ ومنه: غَبْنُ البيعِ لاستخفائِه. والتفاعُل هنا من واحد لا من اثنين ويقال: غَبَنْتُ الثوبَ وخَبَنْتُه، أي: أخَذْتُ ما طالَ منه مقدارِك فهو نقصٌ و إخفاءٌ. وفي التفسير: هو أن يكتسبَ الرجلُ مالاً مِنْ غيرِ وجهه، فَيَرِثَه غيرُه فيعملَ فيه بطاعةِ اللهِ، فيَدْخلَ الأولُ النارَ والثاني الجنةَ بذلك المالِ، فذلك هو الغَبْنُ البيِّنُ.
(14/9)
---(1/5500)
* { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ}: بالياءِ مجزوماً جواباً للشرط قراءة العامَّة. وابن جبير وابن هرمز وطلحة والأزرق بالنون والضحاك وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن "يُهْدَ" مبنياً للمفعولِ "قلبُه" قائم مقامَ الفاعلِ. ومالك بن دينار وعمرو بن دينار" يَهْدَأْ" بهمزة ساكنة، "قلبُه" فاعلٌ به بمعنى يطمئنُّ ويَسْكُن. وعمرو بن فائد "يَهْدا" بألفٍ مبدلة من الهمزة كالتي قبلَها، ولم يَحْذِفْها نظراً إلى الأصل وهو أفصح اللغتين. وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً يَهْدَ بحذفِ هذه الألفِ إجراءً لها مُجرى الألفِ الأصليةِ كقولِ زهير:
4270 - جَريءٌ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بِظُلْمِه * سريعاً وإنْ لا يُبْدَ بالظلمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّم إعرابُ ما قبلَ هذه الآيةِ وما بعدها.
* { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
قوله: {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ}: فيه أوجهٌ، أحدها: - وهو قولُ سيبويه - أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ، أي: وَأْتُوا خيراً كقولِه: {انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ}. الثاني: تقديرُه: يكنِ الإِنفاقُ خيراً، فهو خبرُ كان المضمرة، وهو قولُ أبي عبيد. الثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، وهو قولُ الكسائيِّ والفارء، أي: إنفاقاً خيراً. الرابع: أنه حالٌ وهو قولُ الكوفيين. الخامس: أنه مفعولٌ بقولِه: "أَنْفِقوا"، أي: أَنْفقوا مالاً خيراً. وقد تقدَّم الخلافُ في قراءةِ "يُضاعِفْه" و {يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}(1/5501)
سورة الطلاق
(14/10)
* { ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }
قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيماً كقوله:
4271 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سواكمُ * وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
/ الثاني: أنه خطابٌ له ولأمَّته والتقدير: يا أيها النبيُّ وأمَّتَه إذا طلَّقْتُمْ فحذف المعطوفَ لدلالةِ ما بعده عليه، كقوله:
4272 - ..................... * إذا حَذْفَتْه رِجْلُها ................
أي، ويَدُها، وتقدَّم هذا في سورة النحل عند {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. الثالث: أنه خطابٌ لأمَّتِه فقط بعد ندائِه عليه السلام. وهو مِنْ تلوينِ الخطابِ خاطبَ أمتَه بعد أَنْ خاطبه. الرابع: أنَّه على إضمارِ قول، أي: يا أيها النبيُّ قُلْ لأمتك: إذا طلَّقتْم. الخامس: قال الزمخشري:
"خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء وعَمَّ بالخطابِ؛ لأنَّ النبيَّ إمامُ أمَّتِه وقُدْوَتُهم، كما يُقال لرئيس القومِ وكبيرِهم: يا فلانُ افعلوا كيتَ وكيتَ اعتباراً بتقدُّمِه وإظهاراً لترؤُسه" في كلامٍ حسنٍ، وهذا هو معنى القولِ الثالثِ الذي قَدَّمْتُه.
وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}، أي: إذا أَرَدْتُمْ كقولِه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} وتقدَّم تحقيقُ ذلك.
(14/11)
---(1/5502)
قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} قال الزمخشري: "مُسْتَقْبِلاتٍ لِعِدَّتهن، كقولِك: "أتيتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ من المحرَّم"، أي: مُسْتقبلاً لها، وفي قراءةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {من قُبُل عِدَّتِهِنَّ} انتهى. وناشقه الشيخ في تقديره الحالَ التي تَعلَّق بها الجارُّ كوناً خاصاً. وقال: "الجارُّ إذا وقع حالاً إنما يتعلَّق بكونٍ مطلقٍ" وفي مناقَشَتِه نظرٌ لأنَّ الزمخشري لم يَجْعَل الجارَّ حالاً بل جَعَلَه متعلِّقَاً بمحذوف دَلَّ عليه معنى الكلامِ. وقال أبو البقاء: "لِعِدَّتِهِنَّ، أي: عند أول ما يُعْتَدُّ لهنَّ به، وهُنَّ في قُبُل الطُّهْر" وهذا منه تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعرابٍ. وقال الشيخ: "هو على حَذْفِ مضاف، أي: لاستقبالٍ عِدَّتِهِن، واللامُ للتوقيت نحو: لَقِيْتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيْتَ مِنْ شهرِ كذا" انتهى. فعلى هذا تتعلَّقُ اللامُ بـ"طَلِّقُوهن".
قولِه: {لَعَلَّ اللَّهَ} هذه الجملةُ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ بما لها بما قبلَها؛ لأنَّ النحاةَ لم يَعُدُّوها في المُعلِّقات. وقد جَعَلَها الشيخ. مِمَّا يَنْبغي أَنْ يُعَدَّ فيهنَّ، وقَرَّر ذلك في قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} فهناك يُطْلَبُ تحريرُه.
* { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }
وقرأ العامَّةُ: {أَجَلَهُنَّ}: لأنَّ الأجلَ - من حيث هو - واحدٌ وإنْ اختلفَتْ أنواعُهُ بالنسبةِ إلى المعتدَّات. والضحاك وابن سيرين "آجالَهُنَّ" جمع تكسير، اعتباراً بأنَّ أَجَلَ هذه غيرُ أجلِ تَيْكَ.
(14/12)
---(1/5503)
* { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }
قوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ}: قرأ حفص "بالغُ" مِنْ غير تنوين، "أمرِه" مضافٌ إليه على التخفيفِ. والباقون بالتنوينِ والصنبِ وهو الأصلُ خلافاً للشيخ. وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمروٍ في رواية "بالغٌ أمرُه" بتنوين "بالغٌ" ورفْع "أَمْرُه" وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ "بالغٌ" خبراً مقدماً، و "أمْرُه" مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملة خبرُ "إنَّ" والثاني: أَنْ يكونَ "بالغٌ" خبرَ "إنَّ" و "أَمْرُه" فاعلٌ به. وقرأ المفضَّلُ "بالغاً" بالنصب، "أَمْرُه" بالرفع. وفيه وجهان، أظهرهما: وهو تخريج الزمخشري أَنْ يكونَ "بالغاً" نصباً على الحال، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ} هو خبرُ "إنَّ" تقديرُه: إن اللَّهَ قد جعل لكلِّ شيءٍ قَدْراً بالغاً أمْرُه. والثاني: أَنْ يكونَ على لغةِ مَنْ ينْصِبُ الاسمَ والخبرَ بها، كقولِه:
4273 - ..................... * ................إنَّ حُرَّاسَنا أُسْدا
ويكون "قد جَعَل" مستأنفاً كام في القراءةِ الشهيرةِ. ومَنْ رفع "أَمْرُه" فمفعولُ "بالغ" محذوفٌ تقديره: ما شاء. وجناح بن حبيش "قَدَرا" بفتح الدال.
* { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً }
(14/13)
---(1/5504)
قوله: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ}: قد تقدَّم الخلافُ فيه، وأبو عمروٍ يقرأ هنا "واللايْ يَئِسْنَ" بالإِظهار، وقاعدتُه في مثلِه الإِدغامُ، إلاَّ أنَّ الياء لَمَّا كانَتْ عنده عارضةً لكونِها بدلاً مِنْ همزةٍ، فكأنه لم يجتمعْ مِثلان. وأيضاً فإنَّ سكونَها عارضٌ، فكأنَّ ياء "اللاي" محرَّكةٌ، والحرف ما دام متحركاً لا يُدْغَمُ في غيرِه / وقرأ "يَئِسْنَ" فعلاً ماضياً، وقُرِىء "يَيْئَسْنَ" مضارعاً. و "مِنْ المحيض مِنْ نسائكم" "مِنْ" الولى لابتداءِ الغاية، وهي متعلِّقةٌ بالفعل قبلَها، والثانيةُ للبيان، متعلِّقةً بمحذوف و "اللائي" مبتدأ، و "فعِدَّتُهُنَّ" مبتدأ ثانٍ، "وثلاثةُ أشهر" خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ، والشرطُ معترضٌ، وجوابُه محذوف. ويجوزُ أَنْ يكونَ "إنِ ارْتَبْتُم" جوابُه {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} والجملةُ الشرطيةُ خبرُ المبتدأِ، ومتعلَّقُ الارتيابِ محذوفٌ فقيل: تقديرُه: إنِ ارْتَبْتُمْ في أنها يَئِسَتْ أم لا لإِمكانِ ظهورِ حَمْلٍ. وإن كان انقطع دَمُها. وقيل: إنِ ارتَبْتُمْ في دَمِ البالغاتِ مَبْلَغَ اليأسِ: أهو دَمُ حيضٍ أم استحاضةٍ؟ وإذا كان هذا عِدَّةَ المرتابِ فيها فغيرُ المرتابِ فيها أَوْلَى، وأغربُ ما قيل: إنَّ "إنْ ارتَبْتُمْ" بمعنى تَيَقَّنْتُم فهو من الأضداد.
قوله: {وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ} مبتدأٌ، خبرُه محذوفٌ. فقدَّروه جملةً كالأولى، أي: فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ أيضاً، والأَوْلَى أن يقدَّرَ مفرداً، أي: فكذلك، أو مِثْلهنَّ ولو قيل: بأنَّه معطوفٌ على "اللائي يَئِسْنَ" عَطْفَ المفرداتِ، وأخبر عن الجميع بقولِه "فعِدَّتُهنَّ" لكان جوهاً حسناً. وأكثرُ ما فيه توسُّطُ الخبرِ بين المبتدأ وما عُطِف عليه، وهذا ظاهرُ قولِ الشيخ: {وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ} معطوفٌ على قولِه "واللائي يَئِسْن" فإعرابُه مبتدأ كإعراب "واللائي.
(14/14)
---(1/5505)
قوله: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ} متبدأ و "أَجَلُهُنَّ" مبتدأ ثانٍ و "أن يَضَعْن" خبره والجملة خبر الأول، أي وَضْع حَمْلهن. ويجوز أَنْ يكونَ "أَجلُهنَّ" بدلَ اشتمال مِنْ أُولات و "أنْ يضعن" خبرَ المبتدأ. والعامَّةُ على إفرادِ "حَمْلهنَّ" والضحاك "آجالُهُنَّ" جمع تكسير.
* { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }
قوله: {وَيُعْظِمْ}: هذه قراءةُ العامَّةِ مضارعَ أَعْظَمَ، وابن مقسم "يُعَظِّمْ" بالتشديد مضارعَ عَظَّم مشدداً. والأعمش "نُعْظِم" مضارعَ أَعْظم، وهو التفاتٌ مِنْ غَيْبةٍ إلى تكلُّمٍ.
* { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى }
قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم}: فيه وجهان،أحدُهما: أنَّ "منْ" للتبعيض. قال الزمخشري: "مُبَعَّضُها محذوفٌ معناه: أَسْكنوهنَّ مكاناً مِنْ حيث سَكَنْتُمْ، أي: بعضَ مكانِ سُكْناكم، كقولهِ تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، أي: بعضَ أبصارِهم. قال قتادة: "إن لم يكنْ إلاَّ بيتٌ واحدٌ أسْكنها في بعضِ جوابنه". والثاني: أنها لابتداء الغاية قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: "والمعنى: تَسَبَّبُوا إلى إسكانِهِنَّ من الوجه الذي تُسْكِنون أنفسَكم. ودلَّ عليه قولُه مِنْ وُجْدِكم، والوُجْدُ: الغِنى".
(14/15)
---(1/5506)
قوله: {مِّن وُجْدِكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ قولِه "مِنْ حيث" بتكريرِ العاملِ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسْكنوهن مِنْ سَعَتكم. والثاني: أنه عطف بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم}، وإليه ذهب الزمشخري، فإنه قال بعد أن أعربَ "مِنْ حيث" تبعيضيةً كما تقدَّم: "فإن قلتَ: وقولُه "مِنْ وُجْدِكم"؟ قلت: هو عطفُ بيانٍ لقولِه: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ومُفَسِّرٌ له كأنه قيل: أَسْكِنوهنَّ مكاناً مِنْ مَساكنكم مِمَّا تُطيقونه.
والوُجْدُ الوُسْع والطاقَةُ". وناقشه الشيخ: بأنَّه لم يُعْهَدْ في عطفِ البيان إعادةُ العاملِ، إنما عُهد هذا في البدلِ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً. والعامَّة "وُجْدِكم" بضمِّ الواو، والحسن والأعرج وأبو حيوةَ بفتحِها، والفياضُ بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرِها، وهي لغاتٌ بمعنىً. والوَجْدُ بفتح الواو: الحُزْنُ أيضاً، والحُبُّ، والغَضَب.
قوله: {وَأْتَمِرُواْ} افْتَعِلوا مِنْ الأَمْر يقال: ايتَمَرَ القومُ وتآمروا، أي: أمَر بعضُهم بعضاً. وقال الكسائيُّ: ائتمروا: تَشاوروا وتلا قولَه تعالى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} وأنشد قولَ امرِىءِ القيس:
4274 - ....................... * ويَعْدُوْ على المَرْءِ ما يَأَتْمِرْ
/ قوله: {فَسَتُرْضِعُ} قيل: هو خبرٌ في معنى الأَمْر. والضمير في "له" للأبِ كقولِه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}، والمفعولُ محذوفٌ للعِلْمِ به، أي: فسترضعُ الولدَ لوالدِه امرأةٌ أخرى. والظاهرُ أنه خبرٌ على بابِه.
* { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }
(14/16)
---(1/5507)
قوله: {لِيُنفِقْ} هذه قراءةُ العامَّةِ، أعني كَسْرَ اللامِ وجزمَ المضارعِ بِها. وحكى أبو معاذ القارىء "لِيُنْفِقَ" بنصب الفعل على أنها لامُ كي نَصَبَ الفعلَ بعدَها بإضمار "أَنْ" ويتعلَّقُ الحرفُ حينئذٍ بمحذوفٍ، أي: شَرَعْنا ذلك لِيُنْفِقَ. وقرأ العامَّة "قُدِر" مخففاً. وابن أبي عبلة "قَدَّر" مشدداً.
* { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً }
قوله: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}: ضُمِّن معنى أَعْرَضَ، كأنه قيل: أَعْرَضَتْ بسببِ عُتُوِّها. وقولِه "فحاسَبْناها" إلى آخره كلُّه في الآخرة، وأتى به على لفظِ المُضِيِّ لتحقُّقِه. وقيل: العذاب في الدنيا فيكونُ على حقيقتِه و "أعدَّ الله" تكريرٌ للوعيدِ وتوكيداً. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ "عَتَتْ" وما عُطِفَ عليه صفةً لـ"قريةٍ" ويكونُ الخبرُ لـ"كأيِّنْ" الجملةَ مِنْ قولِه "أعدَّ اللَّهُ" فعلى الأول يكونُ الخبرُ "عَتَتْ" وما عُطِفَ عليه.
* { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }
قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ}: منصوبٌ بإضمار أَعْني بياناً للمنادي، أو يكون عطفَ بيان للمنادِي أو نعتاً له، ويَضْعُفُ كونُه بدلاً لعدمِ حُلولِه المبدلِ منه.
* { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً }
(14/17)
---(1/5508)
قوله: {رَّسُولاً}: فيه أوجهٌ، أحدُها - وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي - أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ، كأنه قيل: أن ذَكرَ رسولاً، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} وقولِه:
4275 - بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ * أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ
الثاني: أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه. الثالث: أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه: أنزل ذا ذكرٍ رسولاً. الرابع: كذلك، إلاَّ أنَّ "رسولاً" نعت لذلك المحذوف. الخامس: أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني، أي: ذِكْراً ذِكْرَ رسول. السادس: أَنْ يكونَ "روسلاً" نعتاً لـ ذِكْراً على حَذْفَ مضاف، أي: ذِكْراً ذا رسولٍ، فـ"ذا رسول" نعتٌ لذِكْر. السابع: أَنْ يكونَ "رسولاً" بمعنى رسالة، فيكونَ "رسولاً" بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه: "يَتْلُو عليكم"، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ، الثامن، أَنْ يكونَ "رسولاً" منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه. التاسع: أَنْ يكونَ منصوباً على الإِعراب، أي: اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه.
(14/18)
---(1/5509)
واختلف الناس في "رسولا" هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أو القرآنُ نفسُه، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري: "هو جبريلُ عليه السلام" أُبْدِل مِنْ "ذِكْراً" لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه مه". قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال" انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ. وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه. وقُرىء "رسولٌ" على إضمار مبتدأ، أي: هو رسول.
قوله: {لِّيُخْرِجَ} متعلِّقٌ إمَّا بـ"أَنْزَل"، وإمّضا بـ"يَتْلو" وفاعِلُ يُخْرِج: إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل، أو ضميرُ الرسولِ، أو الذِّكرِ، و "مَنْ يُؤْمِنْ" هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً، ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظُ آخِراً، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة. وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [وقال: ليس قولُه "خالدين" فيه ضميرٌ عائدٌ على "مَنْ" إنما يعود على مفعولِ "يُدْخِلْه"، و "خالدين" حالٌ منه، والعاملُ فيها "يُدْهِلْه" لا فِعْلُ الشرطِ]. هذه عبارةُ الشيخِ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ "خالدين" حالٌ مِنْ مفعول "يُدْخِلْه" عند القائلين بالقول الأول، وكأنَّ إصلاحَ العبارةَ أَنْ يقالَ: حالٌ مِنْ مفعولِ "يُدْخِلْه" الثاني، وهو "جناتٍ" والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال: خالدين هم فيها، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له.
قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ} حالٌ ثانيةٌ، أو حال مِنْ الضمير في "خالدين" فتكونُ متداخلةً. /
(14/19)
---(1/5510)
* { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }
قوله: {مِثْلَهُنَّ}: العامَّةُ بالنصب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على "سَبْعَ سمواتٍ" قاله الزمخشري. واعترض الشيخُ بلزومِ الفَصْلِ بين حرفِ العطفِ، وهو على حرفٍ واحدٍ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرورِ، وهو مختصٌّ بالضرورةِ عند أبي عليّ. قلت: وهذا نظيرُ قولِه: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} عند ابنِ مالك، وقد تقدَّم تحريرُ هذا الخلافِ في البقرة والنساء وهو عند قولِه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ}، و {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} والثاني: أنه منصوبٌ بمقدَّر بعد الواوِ، أي: وخَلَق مثلَهُنَّ من الأرضِ. واختلف الناس في المِثْلِيَّة، فقيل: مِثْلُها في العدد. وقيل: في بعض الأوصاف فإنَّ المِثْلِيَّةَ تَصْدُقُ بذلك، والأول هو المشهورُ. وقرأ عاصم في رواية "مثلُهُنَّ" بالرفع على الابتداء والجارُّ قبلَه خبرُه.
قوله {يَتَنَزَّلُ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ نعتاً لِما قبله، وقاله أبو البقاء. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ وعيسى "يُنَزِّل" بالتشديد، أي: الله، "الأمر" مفعولٌ به، والضميرُ في "بينهنَّ" عائد على السموات والأرضين عند الجمهور، أو على السموات والأرض عند مَنْ يقولُ: إنها أرضٌ واحد.
قوله: {لِّتَعْلَمُوااْ} متعلقٌ بـ"خَلَقَ" أو بـ"يَتنزَّل" والعامَّةُ "لتعلَموا" خطاباً، وبعضُهم بياء الغَيْبة.(1/5511)
سورة التحريم
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(14/20)
قوله: {تَبْتَغِي}: يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل "تُحَرِّم" أي: لِمَ تُحَرِّمُ مُبْتَغياً به مَرْضاتَ أزواجِك. ويجوز أَنْ يكون تفسيراً لـ تُحَرِّمُ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً، فهو جوابٌ للسؤال. و "مَرْضاة" اسمُ مصدرٍ، وهو الرِّضا، وأصلُه مَرْضَوَة، وقد تَقَدَّم ذلك والمصدرُ هنا مضافٌ: إمَّا للمفعولِ أو للفاعل أي: أن تُرْضِيَ أنت أزواجَك، أو أَنْ يَرْضَيْنَ.
* { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قوله: {تَحِلَّةَ}: مصدر تَحَلَّل مضعَّفاً وهو نحو، تَكْرِمَة، وهذان ليسا مقيسَيْن؛ فإنَّ قياسَ مصدرِ فَعَّل: التفعيل، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ، فأما المعتلُّ اللام نحو: زَكَّى، والمهموزُها نحو: نَبَّأ فمصدرُها تَفْعِلة نحو: تَزْكية وتَنْبِئة، على أنه قد جاء التفعيلُ كاملاً في المعتلِّ نحو قولِه:
4276 - باتَتْ تُنَزِي دَلْوَها تَنْزِيَّا
وأصلُها تَحْلِلَه كتكْرِمة فأُدغِمَتْ، وانتصابُها على المفعول به.
* { وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ }
قوله: {وَإِذَ أَسَرَّ}: العاملُ فيه اذكُرْ، فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ.
(14/21)
---(1/5512)
قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أصلُ نَبَّاأ وأنبأ وأخبر وخبَّر وحَدَّث أَنْ يتعدَّى لاثنين إلى الأول بنفسِها، والثاني بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ الجارُّ تخفيفاً، وقد يُحْذَفُ الأول للدلالة عليه. وقد جاءت الاستعمالاتُ الثلاثةُ في هذه الآياتِ، فقولُه: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} تعدَّ لاثنين حُذِفَ أوَّلُهما، والثاني مجرورٌ بالباء، أي: نَبَّأت به غيرَها، وقوله: "مَنْ أنبأكَ هذا" ذكرهما، وقولُه: {مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا} ذَكَرهما وحَذَفَ الجارَّ.
قوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قرأ الكسائي بتخفيف الراء، والباقون بتثقيلِها. فالتثقيلُ يكون المفعولُ الأول معه محذوفاً أي: عَرَّفها بعضَه أي: وقَّفها عليه على سبيل الغَيْبِ، وأعرضَ عن بعضٍ تكرُّماً منه وحِلْماً. وأمَّا التخفيفُ فمعناه: جازَى على بعضِه، وأعرضَ عن بعضٍ. وفي التفسير: أنَّه أسَرَّ إلى حفصةَ شيئاً فحدَّثَتْ به غيرَها فطلَّقَها، مجازاةً على بعضِه، ولم يُؤَاخِذْها بالباقي، وهو من قبيل قولِه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي: يُجازيكم عليه، وقولِه: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} وإنما اضْطُررنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ اللَّهَ تعالى أَطْلَعَهُ على جميعِ ما أنبأَتْ به غيرَها لقولِه تعالى: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} وقرأ عكرمة "عَرَّاف" بألفٍ بعد الراء، وخُرِّجَتْ على الإِشباعِ كقولِه:
4277 - ............. من العَقْرابِ * الشائلاتِ عُقَدَ الأذْنَابِ
وقيل: هي لغةٌ يمانيةٌ، يقولون: "عَرَافَ زيدٌ عمراً" أي: عَرَفه. وإذا ضُمِّنت هذه الأفعالُ الخمسةُ معنى أَعْلَم تعدَّتْ لثلاثةٍ. وقال الفارسي: "تَعدَّتْ بالهمزةِ أو التضعيف، وهو غَلَطٌ؛ إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيفِ والهمزةِ كانَتْ متعدِّيةً لاثنين، فاكتسَبَتْ بالهمزةِ أو التضعيفِ ثالثاً، والأمرُ ليس كذلك اتفاقاً.
(14/22)
---(1/5513)
* { إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }
قوله: {إِن تَتُوبَآ}: شرطٌ وفي جوابِه وجهان، أحدهما: هو قولُه "فقد صَغَتْ" والمعنى: إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ / ما يكرهه. وصَغَتْ: مالَتْ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ "فقد راغَتْ". والثاني: أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه: فذلك واجبٌ عليكما، أو فتابَ اللَّهُ عليكما، قاله أبو البقاء. وقال: "ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ". وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً. و "قلوبُكما" مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوق الجمعَ موقعَ المثنى، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل: قلباكما. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه. و مِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه:
4278 - فتخالَسا نَفْسَْهما بنوافِذٍ * كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ
والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ، ثم الإِفرادُ، ثم التثنيةُ، وقال ابن عصفور: "لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله:
4279 - حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي * سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها
وتبعه الشيخُ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ. وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها، وهي كراهةُ تاوالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس.
(14/23)
---(1/5514)
وقوله: {إِن تَتُوبَآ} فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما.
قوله: {وَإِن تَظَاهَرَا} أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ، وهذه قراءة العامَّةِ، وعكرمةُ "تتظاهرا" على الأصل، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ "تظاهرا" بتخفيف الطاء والهاء، حَذَفَ إدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها.
قوله: {هُوَ مَوْلاَهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ "هو" فصلاً، و "مَوْلاه" الخبرَ، وأن يكونَ مبتدأً، و "مَوْلاه" خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّ".
قوله: {وَجِبْرِيلُ} يجوزُ أَنْ يكون عطفا على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه، ويكونَ "جبريلُ" وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ، ويكونَ "الملائكة" مبتدأً و "ظهيرٌ" خبرَه، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل. ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه: "مَوْلاه" ويكونُ "جبريل" مبتدأ، وما بعده عَطْفٌ عليه. و "ظهيرٌ" خبرُ الجميع، فتختصُّ الولايةُ بالله، ويكون "جبريل" قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين: مرةً بالتنصيصِ عليه، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول.
(14/24)
---(1/5515)
وقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} الظاهرُ أنه مفردٌ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع. وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون، حُذِفَتْ النونُ للإضافة، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحن: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} و {يَدْعُ الدَّاعِ} {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} إلى غيرِ ذلك، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ: "أهلُ القرن أهلُ الله وخاصَّتُه" قالوا: يجوز أن يكونَ مفرداً، وأن يكونَ جمعاً كقولِه: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط.
وجَوَّزَ أبو البقاء في "جبريلُ" أن يكونَ معطوفاً على الضمير في "مَوْلاه" يعني المستتَر، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه. وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و "صالحُ" عطفٌ عليه والخبرُ محذوفٌ أي: مَواليه.
* { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }
قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ}: شرطٌ معترضٌ بين اسم عَسَى وخبرِها، وجوابُه محذوفٌ أو متقدمٌ / أي: إنْ طَلَّقَكُنْ فعسَى. وأدغم أبو عمروٍ القافَ في الكاف على رأيِ بعضِهم قال: "وهو أَوْلَى مِنْ "يَرْزْقكم" ونحوِه لِثِقَلِ التأنيث".
"مُسْلماتٍ" إلى آخره: إمَّا نعتٌ أو حالٌ أو منصوبٌ على الاختصاص، وتقدَّمَتْ قراءتا {يُبْدِلَهُ} تخفيفاً وتشديداً في الكهف. وقرأ عمرو بن فائد "سَيِّحاتٍ"، وإنما وُسِّطَتِ الواوُ بين "ثَيِّبات وأَبْكاراً" لتنافي الوصفَيْن دون سائر الصفات. وثَيِّبات ونحوه لا ينقاسُ لأنه اسمُ جنسٍ مؤنثٍ فلا يُقال: نساء خَوْدات، ولا رأيت عِيْنات.(1/5516)
(14/25)
---
والثَّيِّبُ: وزنُها فَيْعل مِن ثاب يثوب أي: رَجَعَ كأنها ثابَتْ بعد زوالِ عُذْرَتِها، وأصلها ثَيْوِب كسَيِّد ومَيِّت، أصلُهما سَيْوِد ومَيْوِت فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهورَ.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُوااْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
قوله: {قُوااْ أَنفُسَكُمْ}: أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه "عُوا" لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ، وهذا محمولٌ عليه، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم، بيانه أنَّ أصلَه اوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ. وهذا تعليلُ البَصْريين. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين: أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره. قال: "ويَرِدُ عليهم نحو: يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه". قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ. فقلت: "ولا مضمرة" تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ.
و "ناراً" مفعولٌ ثانٍ. و وَقُودُهَا النَّاسُ} صفةٌ لـ"ناراً" وكذلك "عليها ملائكةٌ". ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و "ملائكةٌ" فاعلٌ به. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ}.
(14/26)
---(1/5517)
وقرأ بعضُهم "وأَهْلوكم" وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع بـ"قُوا" وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ. قال الزمخشري - بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها -: "فإنْ قلتَ: أليس التقديرُ: قُو أنفسَكم، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت: لا. ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو، و "أنفسَكم" واقعٌ بعده كأنَّه قيل: قُو أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [عليه] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ". وتقدَّم الخلافُ في واو "وقود" ضماً وفتحاً في البقرة.
قوله: {مَآ أَمَرَهُمْ} يجوز أَنْ تكونَ "ما" بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي ما أَمَرَهموه، والأصلُ: به. لا يُقال: كيف حَذَفَ العائدَ المجرورَ ولم يَجُرَّ الموصولَ بمثله؟ لأنه يَطَّردُ حَذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذَفْ إلاَّ منصوباً، وأن تكونَ مصدريةً، ويكونَ مَحَلُّها بدلاً من اسمِ الله بدلَ اشتمالٍ، كأنه قيل: لا يَعْصُون أَمْرَه.
وقوله: {وَيَفْعَلُونَ} قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: أليسَتْ الجملتان في معنى واحدٍ؟ قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يتقبَّلون أوامرَه ويلتزمونها، والثانيةَ معناها: أنهم يُؤَدُّون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه ولا يَتَوانَوْن فيه".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوااْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(14/27)
---(1/5518)
قوله: {نَّصُوحاً}: قرأ الجمهور بفتحِ النونِ، وهي صيغةُ مبالغةٍ، أسند النصحَ إليها مجازاً، وهي مِنْ نَصَح الثوبَ أي: خاطه، وكأنَّ التائبَ يُرَقِّع ما خرقه بالمعصية. وقيل: مِنْ قولِهم: "عسلٌ ناصِح" أي خالص. وأبو بكر بضم النون وهو مصدرٌ لـ نَصَحَ يقال: نَصَحَ نُصْحاً ونُصوحاً نحو: كَفَرَ كُفْراً وكُفوراً، وشَكَر شُكراً وشُكوراً. وفي انتصابِه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ له أي: لأجلِ النصحِ الحاصلِ نفعُه عليكم. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ محذوفٍ أي: ينصحُهم نُصْحاً. الثالث: أنه صفةٌ لها: إمَّا على المبالغةِ على أنها نفسُ المصدرِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي ذاتَ نَصوحٍ.
وقرأ زيد بن علي "تَوْباً" دونَ تاءٍ.
قوله: {وَيُدْخِلَكُمْ} قراءةُ العامةِ بالنصبِ عطفاً على "يُكَفِّر" وابنُ أبي عبلة بسكون الراء، فاحتمل أَنْ يكونَ من إجراء المنفصل مُجْرَى المتصل، فسَكَنَتِ الكسرةُ؛ لأنه يُتَخيل من مجموع "يُكَفِرَ عنكم" مثل: نِطَع وقِمَع فيقال فيهما: نِطْع وقِمْع. ويُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ "عسى أَنْ يُكَفِّر" كأنه قيل: تُوبوا يُوْجبْ تكفيرَ سيئاتِكم ويُدْخِلْكم، قاله الزمخشري، يعني أنَّ "عسى" في محلِّ جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعَها مضارع لا نجزم كما مَثَّل به الزمخشري، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ "عسى" جوابٌ، ولا تقع جواباً لأنها للإِنشاء.
قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى} منصوبٌ بـ"يُدْخلكم" أو بإضمار اذكُرْ.
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} يجوز فيه وجهان أحدُهما: / أن يكونَ مَنْسوقاً على النبيِّ [أي]: ولا يُخْزي الذين آمنوا. فعلى هذا يكون "نُورُهم يسعى" مستأنفاً أو حالاً. والثاني: أن يكونَ مبتدأ، وخبره "نورُهم يَسْعى" و "يقولون" خبرٌ ثانٍ أو حال. وتقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملِ في الحديد فعليك باعتبارِه. وتقدَّمَ إعرابُ ما بعدَها في براءة.
(14/28)
---(1/5519)
وقرأ أبو حَيْوَةَ وسهل الفهمي "وبإيمانهم" بكسر الهمزة، وتقدَّم ذلك في الحديد.
* { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ }
قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً}: إلى آخره قد تَقَدَّم الكلامُ على "ضَرَبَ" مع المثل. وهل هي بمعنى صَيَّر أم لا؟ وكيف ينتصِبُ ما بعدها؟ في سورةِ النحلِ فأغنى ذلك عن إعادتِه هنا.
قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} جملةٌ مستأنفة كأنها مفسِّرةٌ لضَرْبِ المَثَلأِ، ولم يأتِ بضميرِها، فيُقال: تحتَهما أي: تحتَ نوحٍ ولوطٍ، لِما قُصِدَ مِنْ تَشْريفِهما بهذه الأوصافِ الشريفةِ:
4280 - لا تَدْعُني إلاَّ بـ "يا عبدَها" * فإنَّه أشرفُ أسمائي
وليصِفَها بأجلِّ الصفاتِ وهو الصَّلاحُ.
قوله: {فَلَمْ يُغْنِينَا} العامَّةُ بالياء مِنْ تحتُ أي: لم يُغْن نوحٌ ولوطٌ عن امرأتيهما شيئاً مِنْ الإِغناءِ مِنْ عذابِ الله.
وقرأ مبشر بن عبد "تُغْنِيا" بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: فلم تُغْنِ المرأتان عن أنفسِهما. وفيها إشكالٌ: إذ يلزمُ من ذلك تعدِّي فعل المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ المواضعِ المستثناةِ وجوابُه: أنَّ "عَنْ" هنا اسم كهي في قوله:
4281 - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حَجَراتِهِ * ........................
وقد تقدَّم لك هذا والاعتراضُ عليه بقوله: {وَهُزِّى إِلَيْكِ} {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وما أُجيب به ثَمَّة.
* { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
(14/29)
---(1/5520)
قوله: {إِذْ قَالَتْ}: منصوبٌ بـ"ضَرَبَ" وإنْ تأخر ظهورُ الضَّرْبِ، ويجوز أَنْ ينتصِبَ بالمَثَلأ.
قوله: {عِندَكَ} يجوز تعلّقُه بـ ابنِ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "بيتاً"، كان نعتَه، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً. و "في الجنة": إمَّا متعلِّبٌ بـ"ابْنِ" وإمَّا بمحذوفٍ على أنه نعتٌ لـ بيتاً.
* { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِيا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
قوله: {وَمَرْيَمَ}: عطفٌ على "امرأةَ فرعونَ" ضَرَب الله تعالى المَثَل للكافرين بامرأتَيْن وللمؤمنين بامرأتَيْن. وقال أبو البقاء: "ومريم أي: واذكر مريمَ. وقيل: ومَثَلأ مريمَ" انتهى. وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهور المعنى الذي ذكرْتُه.
وقرأ العامَّةُ "ابنةَ" بنصب التاء. وأيوب السُّخْتياني بسكون الهاء وَصْلاً، أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. والعامَّةُ أيضاً "فَنَفَخْنا فيه" أي: في الفَرْج. وعبد الله "فيها" أي: في الجُملة. وتقدَّم في الأنبياء مثله.
والعامَّةُ أيضاً "وصَدَّقَتْ" بتشديد الدال. ويعقوبُ وقتادةُ وأبو مجلز وعاصمٌ في رواسةٍ بتخفيفِها أي: صَدَقَتْ فيما أخبرَتْ به من أمرِ عيسى عليه السلام. والعامَّة على "بكلمات" جمعاً. والحسن ومجاهد والجحدري "بكلمة" بالإِفراد. فقيل: المرادُ بها عيسى لأنه كلمة الله. وتقدَّم الخلاف في كتابة "وكتبه" في أواخر البقرة. وقرأ أبو رجاء "وكُتْبِه" بسكون التاء وهو تخفيفٌ حسنٌ، ورُوي عنه "وكَتْبِه" بفتح الكاف. قال أبو الفضل: مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الاسمِ يعني: ومكتوبِه.
(14/30)
قوله: {مِنَ الْقَانِتِينَ} يجوزُ في "مِن" وجهان، أحدهما: أنها لابتداء الغاية. والثاني: أنها للتبعيضِ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ فقال: "ومِنْ للتبعيض. ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداء الغاية، على أنَّها وُلِدَتْ من القانتين؛ لأنها من أعقابِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام". قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِم قيل: "من القانتين" على التذكير؟ قلت: لأنَّ القُنوتَ صفةٌ تَشْمل منْ قَنَتَتْ من القبيلَيْن، فغلَّب ذكورَه على إناثِه.(1/5521)
سورة الملك
* { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }
قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ}: متعلِّقٌ بـ"خَلَقَ" وقوله: "أيُّكم أحسنُ" قد تقدَّم مثلُه في أول هود. وقال الزمخشري هنا: "فإنْ قلتَ: مِن أين تعلَّقَ قولَه: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} بفعلِ البَلْوى؟ قلت: من حيث إنَّه تضمَّن معنى العلمِ، فكأنه قيل: ليُعْلمَكم أيُّكم أحسنُ عملاً. وإذا قلتَ: عَلِمْتُه: أزيدٌ أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملةُ واقعةً موقعَ الثاني مِنْ مفعولَيْه، كما تقول: عَلِمْتُه هو أحسن عملاً. فإنْ قلتَ: أتُسَمِّي هذا تعليقاً؟ قلت: لا، إنما / التعليقُ، أَنْ يقعَ بعده ما يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولَيْن جميعاً، كقولك: عَلِمْتُ أيُّهما عمروٌ، وعلِمْتُ أزيدٌ منطلق؟. ألا ترى أنه لا فَصْلَ بعد سَبْقِ أحدِ المفعولَيءن بين أَنْ يقَع ما بعده مُصَدَّراً بحرف الاستفهامِ وغيرَ مصدَّرٍ به. ولو كان تعليقاً لافترقَتِ الحالتان كما افترقتا في قولِك: عَلِمْتُ أزيد منطلِقٌ، وعلمْتُ زيداً منطلقاً".
(14/31)
---(1/5522)
قلت: وهذا الذي مَنَع تسميتَه تعليقاً سَمَّاه به غيرُه، ويجعلون تلك الجملةَ في محلِّ ذلك الاسمِ الذي يتعدَّى إليه ذلك الفعلُ، فيقولون في "عَرَفْت أيُّهم منطلقٌ": إنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولِ "عَرَفْتُ" وفي "نَظَرْتُ أيُّهم منطلقٌ": إن الجملةَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ "نظر" يتعدَّى به.
* { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ }
قوله: {الَّذِي خَلَقَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأَنْ يكونَ منقطِعاً عنه خبرَ مبتدأ، أو مفعولَ فعلٍ مقدرٍ.
قوله: {طِبَاقاً} صفةٌ لـ"سبعَ"ح وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جمعُ طَبَق نحو: جَبَل وجِبال. والثاني: أنه جمعُ طَبَقة نحو: رَقَبة ورِقاب. والثالث: انه مصدرُ طابَقَ يقال: طابقَ مُطابقة وطِباقاً. ثم: إمَّا أَنْ يجعلَ نفسَ المصدرِ مبالغةً، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذاتَ طباق، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: طثوْبِقَتْ طباقاً مِنْ قولِهم: طابَقَ النعلَ أي: جعله طبقةً فوق أخرى.
(14/32)
---(1/5523)
قوله: {مِن تَفَاوُتِ} هو مفعولُ "تَرَى" و "مِنْ" مزيدةٌ فيه. وقرأ الأَخَوان "تَفَوُّتٍ" بتشديدِ الواوِ دون ألفٍ. والباقون بتخفيفها بعد ألفٍ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالتعاهد، والتظهُّر والتظاهُر. وحكى أبو زيد "تفاوَتَ الشيءُ تفاوُتاً بضم الواو وفتْحِها وكسرِها، والقياسُ الضمّ كالتقابُل، والفتحُ والكسرُ شاذان. والتفاوُت: عدمُ التناسُبِ؛ لأنَّ بعض الأجزاءِ يَفُوت الآخَرَ. وهذه الجملةُ المنفيةُ صفةٌ مُشايعةٌ لقولِه: "طباقاً" وأصلُها: ما ترى فيهنَّ، فوضَع مكانَ الضميرِ قوله: {خَلْقِ الرَّحْمَانِ} تعظيماً لخلقِهنَّ وتنبيهاً على سببِ سلامَتهن، وهو أنه خَلْقُ الرحمن، قاله الزمخشريُّ، وظاهر هذا: أنه صفةٌ لـ"طباقاً"، وقام الظاهرُ فيها مَقامَ المضمرِ، وهذا إنما نعرِفُه في خبرِ المبتدأ، وفي الصلةِ، على خلافٍ فيهما وتفصيلٍ.
وقال الشيخ: "الظاهرُ أنه مستأنَفٌ" وليس بظاهرٍ لانفلاتِ الكلام بعضِه من بعض.
و "خَلْق" مصدرٌ مضافٌ لفاعِله، والمفعولُ محذوفٌ أي: في خَلْقِ الرحمنِ السمواتِ، أو كلَّ مخلوقٍ، وهو أَوْلى ليعُمَّ، وإن كان السياقُ مُرْشِداً للأول.
قوله: {فَارْجِعِ} مُتَسَبِّبٌ عن قولِه: "ما تَرَى" و "كرَّتَيْن" نصبٌ على المصدرِ كمرَّتَيْن، وهو مثنى لا يُراد به حقيقتُه، بل التكثيرُ، بدليلِ قولِه: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مُزْدجراً وهو كليلٌ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتَيْن ولا ثلاثٍ، وإنما المعنى كرَّات، وهذا كقولهم: "لَبَّيْك وسَعْديك وحنانَيْك ودَواليك وهذاذَيْك لا يُريدون بهذه التثنيةِ شَفْعَ الواحدِ، إنما يريدون التكثيرَ أي: إجابةً لك بعد أخرى، وإلاَّ تناقَضَ الغرضُ، والتثنيةُ تفيدُ التكثيرَ لقرينةٍ كما يُفيده أصلُها، وهو العطفُ لقرينةٍ كقولِه:
4282 - لو عُدَّ قبرٌ كنتَ أكرَمَهم * ......................
(14/33)
---(1/5524)
أي: قبول كثيرة ليتِمَّ المَدْحُ. وقال ابن عطية: "كَرَّتَيْن معناه مَرَّتَيِن، ونصبُها على المصدرِ". وقيل: الأُوْلى ليُرى حُسْنُها وستواؤُها، والثانية لتُبْصَرَ كواكبُها في سَيْرها وانتهائِها، وهذا تظاهُرٌ يُفْهِمُ التثنية فقط.
قوله: {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ مُعَلِّقَةً لفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه "فارْجِعِ البصر" أي: فارْجِعِ البصرَ فانظر: هل ترى، وأَنْ يكونَ "فارجعِ البصر" مضمَّناً معنى انظر؛ لأنه بمعناه، فيكونُ هو المعلَّق. وأدغَم أبو عمرو لامَ "هل" في التاء هنا، وفي الحاقة وأَظْهرها الباقون، وهو المشهورُ في اللغة.
والفُطور: الصُّدوع والشُّقوق قال:
4283 - شَقَقْتُ القلب ثم ذَرَرْتُ فيه * هواكِ فَلِيْطَ فالتأَمَ الفُطورُ
* { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }
قوله: { يَنْقَلِبْ}: العامَّةُ بجزمِه على جوابِ الأمر، والكسائي / في روايةٍ برفعِه وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ حالاً مقدرة. والثاني: أنه على حذفِ الفاءِ أي: فينقلِبْ وخاسِئاً. حال وقوله: "وهو حسيرٌ" حال: إمَّا مِنْ صاحبِ الأولى، وإمَّا من الضمير المستتر في الحالِ قبلَها، فتكونُ متداخلةٌ. وقد تقدَّم مادتا "خاسئاً" و "حسيراً" في المؤمنين والأنبياء.
* { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }
(14/34)
---(1/5525)
قوله: {الدُّنْيَا}: [يعني] منكم؛ لأنَّها فُعْلَى تأنيثُ أَفْعَلِ التفضيلِ. و "جَعَلْناها" يجوزُ في الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على "مَصابيحَ" وهو الظاهر. قيل: وكيفيةُ الرَّجْم: أَنْ يُؤْخَذَ نارٌ من ضوءِ الكوكبِ، يُرْمى به الشيطانُ والكوكبُ في مكانِه لا يُرْجَمُ به. والثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على السماء والمعنى: منها، لأنَّ السماءَ ذاتَها ليست للرُّجوم، قاله الشيخ. وفيه نظرٌ لعدمِ ظهورِ عَوْدِ الضميرِ على السماءِ. كضَرْبِ الأميرِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على مصدريتِه، ويُقَدَّرُ مُضافٌ أي: ذاتُ رُجوم. وجَمْعُ المصدرِ باعتبارِ أنواعِه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ قولُه: "للشياطين" بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ رُجوماًـ، وعلى الثاني لا تعلُّقَ له منوناً مجموعاً. ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً له أيضاً كالأولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وقيل: الرُّجومُ هنا: الظنونُ والشياطينُ شياطينُ الإِنْسِ، كما قال:
4283 - ........................ * وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
* { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ}: خبرٌ مقدَّمٌ في قراءةِ العامَّةِ، و "عذابُ جهنَم" مبتدَؤُه. وفي قراءةِ الحسن والضحاك والأعرج "عذابَ السعير" فعطَفَ منصوباً على منصوب، ومجروراً على مجرورٍ، وأعاد الخافضَ؛ لأنَّ المعطوفَ عليه ضميرٌ. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: وبئسَ المصيرُ مَصيرُهم، أو عذابُ جهنم، أو عذابُ السعير.
* { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ }
قوله: {لَهَا}: متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "شهيقاً" لأنه في الأصلِ صفتُه. ويجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: سمعوا لأهلها. و"وهي تفور" جملةٌ حاليةٌ.
(14/35)
---(1/5526)
* { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }
قوله: {تَمَيَّزُ}: هذه قراءةُ العامَّةِ بتاءٍ واحدةٍ مخففةٍ. والأصلُ: تتميَّزُ بتاءَيْن وبها قرأ طلحةُ والبزيُّ عن ابنِ كثير بتشديدها، بخلافِ قراءتِ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} {نَاراً تَلَظَّى} وبابِه. وأبو عمرو يُدْغِمُ الدالَ في التاء على أصلِه في المتقارَبيْنِ. وقرأ الضحاك "تمايَزُ" والأصل: تتمايَزُ بتاءَيْن فَحَذَفَ إحداهما. وزيد بن علي "تَمِيْزُ" مِنْ ماز، وهذا كلُّهُ استعارةٌ مِنْ قولِهم: تميَّز فلان من الغيظِ أي: انفصلَ بعضُه من بعض من الغيظ فـ"مِنْ" سببيَّةٌ أي: بسببِ الغَيْظِ. ومثلُه [قولُ الراجزِ] في وصف كَلْبٍ اشتدَّ عَدْوُه:
4285 - يكادُ أَنْ يخرجَ مِنْ إهابِهْ
قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ} قد تقدَّم الكلامُ على "كلما" وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ ضميرِ جهنَّم.
* { قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ }
قوله: {بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ}: فيه دليلٌ على جوازِ الجمعِ بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها، إذ لو قالوا: بلى لَفُهِمَ المعنى، ولكنهم أظهروه تَحَسُّراً وزيادةً في تَغَمُّمِهم على تفريطهِم في قبولِ قولِ النذيرِ ولِيَعْطِفوا عليه قولهم: "فكذَّبْنا" إلى آخره.
وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ظاهرُ أنه مِنْ مقولِ الكفارِ للنذير. وجوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرسلِ للكفرةِ، وحكاه الكفرةُ للخَزَنَةِ أي: قالوا لنا هذا فلم نَقْبَلْه.
* { فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ }
وقوله: {بِذَنبِهِمْ}: وحدَه لأنه مصدرٌ في الأصلِ، ولم يَقْصِدِ التنويعَ بخلافِ "بذنوبهم" في مواضعَ.
(14/36)
---(1/5527)
قوله: {فَسُحْقاً} فيه وجهان أحدُهما: أنَّه منصوبٌ على المفعولِ به أي: ألزَمَهم اللَّهُ سُحْقاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه: سَحَقَهم اللَّهُ سُحْقاً، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو: جَدْعاً، له وعَقْراً، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه. / واختلف النحاة: هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حَذْفِ الزوائدِ؟ فذهب الفارسيُّ والزجَّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحَقَه اللَّهُ أي: أبعَدَه. قال الفارسي: "فكان القياسُ إسْحاقاً، فجاء المصدرُ على الحَذْفِ كقوله:
4286 - فإن أَهْلِكْ فذلك كان قَدْري * .........................
أي تقديري. والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك؛ لأنه سُمع: سَحَقه اللَّهُ ثلاثياً. وفيه قولُ الشاعر:
4287 - يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغَرِّباً * وتَسْحَقُه ريحُ الصَّبا كلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهرُ أنَّ الزجَّاج والفارسيَّ إنما قال ذلك فيَمْن يقولُ منِ العربِ أَسْحقه الله سُحْقاً.
(14/37)
---(1/5528)
وقرأ العامَّةُ بضمةٍ وسكونٍ، والكسائيُّ في آخرَين بضمتين، وهما لغتان. والأحسنُ أَنْيكونَ المثقَّلُ أصلاً للخفيفِ. و [قوله] "لأصحاب" بيانٌ كـ{هَيْتَ لَكَ} وسَقْياً لك. وقال مكي: "والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء" أي: لو قيل: "فَسُحْقٌ" جاز لا على أنه تلاوةٌ بل من حيث الصناعةُ، إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قد قال ما يُضَعِّفُه، فإنه قال: "فسُحْقاً نصباً على جهةِ الدعاءِ عليهم، وجازَ ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللَّهِ تعالى من حيثُ هذا القولُ، فيهم مستقرٌ أَوَّلاً، ووجودُه لم يَقَعْ، ولا يَقَعُ إلاَّ في الآخِرة، فكأنه لذلك في حَيِّز المتوقَّع الذي يُدَّعَى فيه كما تقول: "سُحْقاً لزيدٍ، وبُعْداً له" والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ، وأما ما وَقَعَ وثَبَتَ فالوجهُ فيه الرفعُ، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} وغيرُ هذا مِن الأمثلة" انتهى. فضعَّفَ الرفعَ كما ترى لأنه لم يَقَعْ بل هو متوقَّعٌ في الآخرةِ.
* { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ}: الأحسنُ أَنْ يكونَ الخبر "لهم" و "مغفرةٌ" فاعلٌ به؛ لأن الخبرَ المفرد أصلٌ، والجارُّ من قبيل المفرداتِ أو أقربُ إليها.
* { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
(14/38)
---(1/5529)
قوله: {مَنْ خَلَقَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعلُ "يَعْلَمُ" والمفعول محذوفٌ تقديرُه: ألا يعلم الخالقُ خَلٌَْه، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ وبه بدأ الزمخشريُّ. والثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى، و "مَنْ" مفعولٌ به أي: ألا يعلمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَه. قال الشيخ: "والظاهر أن "مَنْ" مفعولٌ، والمعنى: أينتفي علمُه بمَنْ خَلَقَه، وهو الذي لَطَفَ عِلْمُ ودَقَّ" ثم قال: "وأجاز بعضُ النَّحْويين أَنْ يكون "مَنْ" فاعلاً والمفعولُ محذوفٌ، كأنه قال: ألا يعلَم الخالقُ سِرَّكم وجهرَكم، وهو استفهامٌ، معناه الإِنكار". قلت: وهذا الوجهُ الذي جَعَلَه هو الظاهر يَعْزِيه الناسُ لأهلِ الزَّيْعِ والبِدَعِ الدافِعين لعمومِ الخَلْق لله تعالى.
وقد أَطْنَبَ مكي في ذلك، وأنكر على القائلِ به ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال: "وقد قال بعضُ أهلِ الزَّيْغِ: إن "مَنْ" في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين لَيُخْرَجَ الكلامُ عن عمومِه ويُدْفَعَ عمومُ الخَلْقِ عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلمُ ما خلق لأنه إنما تقدَّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ "ما" ولو أَتَتْ "ما" في موضعِ "مَنْ" لكان فيه أيضاً بيانُ العموم: أنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ أَسَرُّوها أو أظهرُها خيراً كانَتْ أو شرّاً، ويُقَوِّي ذلك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، ولم يقلْ: عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون "ما" في موضع نصب، وإنما يُخْرِجُ الآيةَ مِنْ هذا العموم إذا جَعَلْتَ "مَنْ" في موضعِ نصبٍ اسماً للأُناسِ المخاطبين قَبْلَ هذه الآيةِ، وقوله: "بذات الصدورِ" يمنعُ مِنْ ذلك" انتهى. ولا أَدْري كيف يَلْزَمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القولِ أعني الإِعرابَ الثاني جماعةٌ من المحققين ولم يُبالوا بما ذكرَه لعَدَمِ إفهامِ الآية إياه.
(14/39)(1/5530)
---
وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكرَه: "ثم أنكر ألاَّ يُحيط علماً بالمُضْمَر والمُسَرِّ والمُجْهَرِ مَنْ خلق الأشياء، وحالُه أنه / اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظَهَر وما بَطَن. ويجوزَ أَنْ يكون "مَنْ خَلَقَ" منصوباً بمعنى: ألا يعلَمُ مَخْلوقَه، وهذه حالُه" ثم قال: "فإنْ قلتَ: قَدَّرْتَ في "ألا يَعْلَمُ" مفعولاً على معنى: ألا يعلمُ ذلك المذكورَ مِمَّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان مَنْ خلق؟ فهلا جَعَلْتَه مثلَ قولِهم: "هو يُعْطي ويمنع"، وهلا كان المعنى: ألا يكونُ عالماً مَنْ هو خالقٌ لأن الخالقَ لا يَصِحُّ إلاَّ مع العِلْم؟ قلت: أبَتْ ذلك الحالُ التي هي قولُه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لأنَّك لو قلتَ: ألا يكون عالماً مضنْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنَّ "ألا يَعْلَمُ" معتمِدٌ على الحالِ والشيءُ لا يُوَقَّتُ بنفسِهِ، فلا يقال: "ألا يعلَمُ وهو عالمٌ، ولكن ألا يعلم كذا، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ".
* { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }
قوله: {ذَلُولاً}: مفعولٌ ثانٍ، أو حالٌ. وذَلول فَعُول للمبالغةِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ فهو ذالٌّ كقوله: دابَّةٌ ذَلوللٌ بَيِّنَةُ الذَّلِّ بالكسرِ، ورجلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بالضم. وقال ابن عطية: "ذلول فَعُول بمعنى مَفْعول أي: مَذْلولة، فهي كـ رَكوب وحلوب". قال الشيخ: "وليس بمعنى مَفْعول لأنَّ فِعْلَه قاصِرٌ، وإنما يُعَدَّى بالهمزةِ كقوله تعالى: {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} يظهر أنَّه خطأٌ. انتهى يعني: حيث استعمل اسمَ المفعولِ تامَّاً مِنْ فِعْلٍ قاصرٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ.
(14/40)
---(1/5531)
قوله: {مَنَاكِبِهَا} استعارةٌ حسنة جداً. وقال الزمخشري: "مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجاوَزَتِهِ الغايةَ؛ لأن المَنْكِبَيْن وملتقاهما من الارِبِ أرقُّ شيءٍ مِن البعير وأَنْبأه عنأَنْ يطأَه الراكبُ بقدمِه ويَعْتمد عليه، فإذا جعلها في الذُّلِّ بحيث يُمشَى في مناكبها لم يَتْرُكْ".
* { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }
قوله: {أَأَمِنتُمْ}: قد تقدَّم اختلافُ القراءِ في الهمزَتَيْن المفتوحتين نحو {أَأَنذَرْتَهُمْ} تحقيقاً وتخفيفاً وإدخالِ ألفٍ بينهما وعَدَمِه في البقرة، وأن قُنْبلاً يَقرأ هنا بإبدالِ الهمزة الأولى واواً في الوصل. فيقول: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وَأَمِنْتُمْ} وهو على صلِه مِنْ تسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ وعَدَمِ ألفٍ بينهما، وأمَّا إذا ابتدأ فيُحقِّق الأولى ويُسَهِّلُ الثانيةَ بين بينَ على ما تقدَّم، ولم يُبْدل الأولى واواً لزوالِ مُوجِبه وهو انضمامُ ما قبلها وهي مفتوحةٌ نحو: مُوَجَّل ويُؤاخِذُكم، وهذا قد مضى في سورة الأعراف عند قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} وإنما أَعَدْتُه بياناً وتذكيراً.
قوله: {مَّن فِي السَّمَآءِ}، وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ أي: أمِنْتُمْ خالقَ مَنْ في السموات. وقيل: "في" بمعنى على أي: على السماء، وإنما حتاج القائلُ بهذَيْن إلى ذلك لأنه اعتقد أن "مَنْ" واقعةٌ على الباري تعالى وهو الظاهرُ، وثَبَتَ بالدليل القطعيِّ أنه ليس بمتحيِّزٍ لئلا يلزَمَ التجسيمُ. ولا حاجةَ إلى ذلك فإن "مَنْ" هنا المرادُ بها الملائكةُ سكانُ السماء، وهم الذين يَتَوَلَّوْن الرحمة والنِّقْمة. وقيل: خُوطبوا بذلك على اعتقادِهم، فإنَّ القومَ كانوا مُجَسِّمة مشبِّهَةً، والذي تقدَّم أحسنُ.
(14/41)
---(1/5532)
وقوله: {أَن يَخْسِفَ} و "أَنْ يرسلَ" فيه وجهان، أحدُهما: أنهام بدلان مِنْ "مَنْ في السماء" بَدلُ اشتمال، أي: أَمِنْتُمْ خَسْفَه وإرسالَه، كذا قاله أبو البقاء. والثاني: أَنْ يكونَ على حَذْفِ "مِنْ" أي: أَمِنْتُم مِنَ الخَسْفِ والإِرسالِ، والأولُ أظهرُ. وقد تقدَّم أنَّ "نذير" "ونكير" مصدران بمعنى الإِنكار والإِنذار. وأثبت ورش يا "نَذيري" وَقْفاً وحذَفَها وَصْلاً، وحَذَفَها الباقون في الحالَيْن.
* { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }
قوله: {صَافَّاتٍ}: يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِن "الطير" وأَنْ يكونَ حالاً مِن ضمير "فوقَهم" إذا جَعَلْناه حالاً فتكونُ متداخِلةً. و "فوقَهم" ظرفٌ لصافَّات على الأولى أو لـ"يَرَوْا".
قوله: {وَيَقْبِضْنَ} عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنَّه بمعناه أي: وقابضاتٍ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ عكسَ قولِه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ} فإن الاسمَ هناك مؤولٌ بالفعلِ. وقد تقدَّم الاعتراضُ على ذلك. وقولُ أبي البقاء: "معطوفٌ على اسم الفاعل، حَمْلاً على المعنى أي: يَصْفِفْنَ ويَقْبِضْنَ أي: صافَّاتٍ وقابَضاتٍ" لا حاجةَ إلى تقديره: يَصْفِفْنَ ويَقْبَضْنَ؛ لأن الموضعَ للاسمِ فلا نُؤَوِّلُه بالفعل. وقال الشيخ: "وعَطَفَ الفعلَ على الاسم / لمَّا كان في معناه، ومثلُه قولُه تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ} عطفٌ الفعلَ على الاسم لمَّا كان المعنى: فاللاتي أغَرْنَ فأَثَرْنَ، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ وكذاء عكسُه، إلاَّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله:
4288 - بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ * يَقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ
(14/42)
---(1/5533)
أي: قاصدٌ في أَسْوُقِها وجائر" انتهى، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ، إلاَّ أنَّ الاسمَ فيه مؤولٌ بالفعلِ عكسَ هذه الآيةِ. ومفعولُ "يَقْبَضْنَ" محذوفٌ أي: ويَقْبِضْنِ أجنحتَهُنَّ، قاله أبو البقاء ولم يُقَدِّرْ لـ"صافَّاتٍ" مفعولاً كأنه زَعَمَ أنَّ الاصطفافَ في أنفسِها أي: مصطفَّةً. والظاهرُ أنَّ المعنى: صافَّاتٍ أجنحتَها وقابضَتَها، فالصَّفُّ والقَبْضُ منها لأجنحتِها.
وكذلك قال الزمخشريُّ: "صافَّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتَهن" ثم قلا: "فإنْ قلتَ لِمَ قال: ويقبضْنَ ولم يَقُلْ: وقابضاتٍ؟ قلت: لأنَّ الطيرانَ هو صَفُّ الأجنحةِ؛ لأنَّ الطيرانَ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ، والأصلُ في السباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها، وأمَّا القَبْضُ فطارِىءٌ على البَسْطِ للاستظهارِ به على التحرُّكِ، فجيء بما هو طارِىءٌ غيرُ أصلٍ بلفظِ الفعلِ على معنى أنَّهن صافاتٌ، ويكونُ منهنَّ القَبْضُ تارةً بعد تارةً، كما يكون من السَّابح".
قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من الضمير في "يَقْبَضْنَ" قاله أبو البقاء، والأولُ هو الظاهرُ. وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ.
* { أَمَّنْ هَاذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ }
قوله: {أَمَّن}: العامَّةُ بتشديد الميمِ على إدغامِ ميم "أم"في ميم "مَنْ"، و "أم" بمعنى بل؛ لأنَّ بعدها اسمَ استفهامٍ، وهو مبتدأٌ، خبرُه اسمُ الإِشارة. وقرأ طلحة بتخفيفِ الأولِ وتثقيل الثاني قال أبو الفضل: "معناه أهذا الذي هو جندٌ لكم أم الذي يَرْزُقكم". و "يَنْصُرُكم" صفةٌ لجند.
* { أَمَّنْ هَاذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }
(14/43)
---(1/5534)
قوله: {إِنْ أَمْسَكَ}: شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي: فَمَنْ يَرْزُقكم غيرُه؟ وقدَّر الزمخشريُّ شرطاً بعد قولِه: "أمَّن هذا الذي هو جندٌ لكم، تقديرُه: إنْ أَرْسَلَ عليكم عذابَه. ولا حاجةَ له صناعةً.
* { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله: {مُكِبّاً}: حالِ مِنْ فاعلِ "يَمْشي". و "أَكَبَّ" مطاوعُ كَبَّه يقال: كَبَبتُه فَأَكَبَّ. قال الزمخشري: "هو من الغرائبِ والشواذ ونحوُه: قَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع، ولا شيءَ من بناءِ أَفْعلَ مطاوعاً، ولا يُتْقِنُ نحو هذا إلاَّ حَمَلَهُ كتابِ سيبويهِ، وإنما أكَبَّ، مِنْ بابِ أَنْفَضَ وأَلام، ومعناه: دَخَلَ في الكَبِّ وصار ذا كبٍّ، وكذلك أقْشَعَ السحابُ: دَخَلَ في القَشْعِ، ومطاوعُ كَبَّ وقَشَع انكبَّ وانْقَشَعَ".
قال الشيخ": "ومُكِبّاً" حالٌ مِنْ "أكبَّ" وهو لا يتعدَّى، وكَبَّ متعدٍ قال تعالى: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} والهمزةُ للدخولِ في الشيءِ أو للصيرورةِ ومطاوعُ كَبَّ: انْكَبَّ. تقول: كَبَبْتُه فانكَبَّ. قال الزمخشري: "ولا شيءَ مِنْ بناءِ أَفْعَل" إلى قوله: "كتاب سيبويه" انتهى، وهذا الرجلُ كثيرُ التبجُّح بكتاب سيبويهِ، وكم مِنْ نَصٍّ في كتابٍ سيبويه عَمي بَصَرُه وبصيرتُه عنه، حتى إن الإِمامَ أبا الحجاج يوسفَ بن معزوزٍ صَنَّف كتابً، يذكر فيه ما غَلِطَ الزمخشريُّ فيه وما جِهِله من كتاب سيبويه". انتهى ما قاله الشيخُ.
(14/44)
---(1/5535)
وانظر إلى هذا الرجلِ: كيف أخَذَ كلامَه الذي أَسْلَفْتُه عنه، طَرَّزَ به عبارتَه حرفاً بحرف، ثم أخذ يُنْحي عليه بإساءةِ الأدب، جزاءَ ما لَقَّنه تِلك الكلماتِ الرائعةَ وجعله يقولك إن مطاوِعَ كَبَّ انْكَبَّ لا أكَبَّ وإن الهمزةَ في أكَبَّ للصيرورةِ، أو للدخولِ في الشيء، وبالله لو بَقِي دهرَه غيرَ مُلَقَّنٍ إياها لما قالها أبداً، ثم أخذ يذكُر عن إنسانٍ مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنَّه غَلَّطه في نصوصِ كتابِ سيبويه، اللَّهُ أعلمُ بصحتِها. [قال الشاعر:]
4289 - وكم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً * وآفَتُهُ من الفَهْمِ السَّقيمِ
وعلى تقديرِ التسليمِ فالفاضلُ مَنْ عدَّتْ سَقَطاتُه.
وقوله: {أَمَّن يَمْشِي} هو المعادِلُ لـ{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً}. وقال أبو البقاء: و "أَهْدَى" خبرُ "مَنْ يمشي"، وخبرُ "مَنْ" الثانيةِ محذوفٌ" يعني: أنَّ الأصلَ: أمَّنْ يمشي سويَّاً أَهْدى، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ قولَه: "أزيدٌ قائمٌ أم عمروٌ" لا يُحتاج فيه من حيث الصناعةُ إلى حَذْفِ الخبرِ، بل تقولُ: هو معطوفٌ على "زيد" عَطْفَ المفرداتِ، ووحَّد الخبرَ لأنَّ "أم" لأحدِ الشيئين.
* { قُلْ هُوَ الَّذِيا أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }
قوله: {قَلِيلاً}: نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ كما هو رَأْيُ سيبويه و "ما" مزدةٌ أي: تَشْكرون قليلاً. والجملةُ من "تَشْكرون" إمَّا مستأنفةٌ، وهو الظاهرُ، وإمَّا حالٌ مقدرةٌ لأنهم حالٌ الجَعْلِ غيرُ شاكرين. والمرادُ بالقِلَّة / العَدَمُ أو حقيقتُها.
* { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ }
(14/45)
---(1/5536)
قوله: {رَأَوْهُ}: أي: الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي: قريباً، فو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْلإِ مضافٍ أي: ذا زُلْفَةٍ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً. وقيل: "زُلْفَةً" تقديرُه: مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ.
قوله: {سِيئَتْ} الأصلُ: ساء أي: أحزنُ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه. ثم بُنِي للمفعول. و "ساء" هنا ليسَتْ المرادِفَةَ لـ"بِئْسَ" كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ. وأَشَمَّ كسرةَ السين الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُ، كما فعلوا ذلك في {سِياءَ بِهِمْ} في هود، وقد تقدَّم، والباقون بإخلاص الكسرِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه، وأنَّ فيه لغاتٍ، عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } قوله: {تَدَّعُونَ} العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً. فقيل: من الدَّعْوى أي: تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ، قاله الحسن. وقيل: من الدعاءِ أي: تَطْلبونه وتستعجلونه. وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ: إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة.
* { قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ}: تقدَّم: لِمَ أُخِّر متعلَّقُ الإِيمانِ، وقُدِّمَ مُتَعَلَّقُ التوكلِ؟ وأنَّ التقديمَ يُفيدُ الاختصاصَ. وقرأ الكسائيُّ "فسيَعْلمون" بياءِ الغَيْبة نظراً إلى قَولِه: "الكافرين". والباقون بالخطاب: إمَّا على الوعيدِ، وإمَّا على الالتفاتِ من الغَيْبة المرادةِ في قراءةِ الكسائيِّ.
* { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }
(14/46)
قوله: {غَوْراً}: خبرُ "أصبح" وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ حالاً على تمامِ "أصبح"، ولكنه استبعَده، وحكى أنه قُرىء "غُؤْوْراً" بضم الغينِ وهمزةٍ مضمومةٍ، ثم واوٍ ساكنةٍ على فُعُول، وجَعَلَ الهمزةَ منقبلةَ عن واوٍ مضمومةٍ.(1/5537)
سورة القلم
* {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }
قوله: {نا}: كقوله: {صا وَالْقُرْآنِ} وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها. وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان. وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه. قالا لزمخشري: "وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري: أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ، ولا يَخْلو إذا كان اسما للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ، كأنه قيل: ودَواةٍ والقلم، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ: إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ". وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه.
(14/47)
---(1/5538)
وقرأ العامَّةُ: "ن" ساكنَ النونِ كنظائرِه. وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو، وأظهرها الباقون، ونُقِلأُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بتفحِها، فالأُولى على التقاءِ الساكنين. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم: "اللَّهِ لأفعلَنَّ" لوجهَيْن، أحدُهما: أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة، نادرٌ فيما عداها. والثاني: أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ. ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال: هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة البتةَ.
وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ بناءً، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ. الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ / على لغةٍ ضعيفة. وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ "فالحقِّ والحقِّ". بجرِّ "الحقِّ"، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ، اعتبارٌ بالسورة، والثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ، أي: اقرؤوا نونَ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه "والقلمِ"، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ القسم كقولِه:
4290 - ...................... * فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ
ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ "والقلمِ" على مَحَلِّه.
(14/48)
---(1/5539)
قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} "ما" موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية، أي: والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب، وهم: الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم. والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه. ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ به. وقال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه، فيكون الضميرُ في "يَسْطُرون" لهم يعني فيصيرُ كقولِه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} تقديرُه: أو كذي ظُلُماتٍ، فالضميرُ في "يَغْشاه" يعود على "ذي" المحذوف.
* { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }
قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}: قد تقدَّم نظيرُ هذا في الطور في قولِه {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} وتقدَّم تحقيقُه. إلاَّ أن الزمخشريَّ قال هنا: "فإنْ قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ الباءُ في "بنعمة ربك" وما محلُّه؟ قلت: تتعلَّق بمجنون منفياً، كما تتعلَّقُ بعاقل مثبتاً كقولك: "أنت بنعمةِ اللِّهِ عاقلٌ"، مستوياً في ذلك الإِثباتُ والنفيُ استواءَهما في قولِك: "ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً" و "ما ضَرَبَ زيدٌ عمراً" تُعْمِلُ الفعلَ منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً. ومحلُّه النصبُ على الحالِ، كأنه قال: ما أنت مجنونٌ مُنْعِماً عليكَ بذلك، ولم تَمْنَع الباءُ أَنْ يعملَ "مجنون" فيما قبلَه لأنها زائدةٌ لتأكيدِ النفي".
(14/49)
---(1/5540)
قال الشيخ: "وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّطُ النفي على محكوم به، وذلك له معمولٌ، ففي ذلك طريقان، أحدهما: أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط، والآخر: أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه. بيان ذلك: تقولُ: "ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً" فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع. والوجهُ الآخَرُ: أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه، أي: لا قيامَ فلا إسراعَ. وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم" انتهى.
واختار الشيخ أنْ يكونَ "بنعمة" قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم، عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم. وقال ابن عطية: "بنعمةِ ربِّك" اعتراضٌ كما تقول للإنسان: "أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ" قال: "ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في "بنعمة". قلت: والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً، كأنه قيل: انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ، والباءُ سببيةٌ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ "فاضل". وقد نحا صاحب "المنتخب" إلى هذا فقال: "المعنى: انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك. وقيل: معناه: ما أنت بمجنونٍ، والنعمة لربِّك، كقولِهم: "سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك"، أي: والحمدُ لله. ومنه قولُ لبيدٍ:
4291 - وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي * وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ
أي: وهو أَرْبَدُ". وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى.
* { بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ }
(14/50)
---(1/5541)
قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}: فيه أربع أوجه، أحدُها: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: أيُّكم المَفْتون فزِيدَتْ كزيادِتها، في نحو: بحَسْبك زيدٌ، وإلى هذا ذهب قتادةُ وأبو عبيدة معمرُ بن المثنى، إلاَّ أنَّه ضعيفٌ مِنْ حيث إنَّ الباءَ لا تُزاد في المبتدأ إلاَّ في "حَسْبُك" فقط. الثاني: أنَّ الباءَ بمعنى "في"، فهي ظرفيةٌ، كقول: "زيدٌ بالبصرة"، أي: فيها، والمعنى: في أيِّ فرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ. وإليه ذهب مجاهدٌ والفراء، وتؤيِّدُه قراءةُ ابن أبي عبلةَ "في أيِّكم". الثالث: أنَّه على حَذْفَ مضافٍ، أي: بأيكم فَتْنُ المَفْتونِ فَحُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وإليه ذهب الأخفش، وتكونُ الباءُ سببيَّةً، والرابع أنَّ "المفتون" مصدرٌ جاء على مَفْعول كالمَعْقول والمسيور والتقدير: بأيكم الفُتون. فعلى القول الأولِ يكونُ الكلامُ تامَّاً عند قولِه "ويُبْصِرون" ويُبْتَدأُ قولُه "بأيِّكم المفْتون" وعلى الأوجهِ بعدَه / تكونُ الباءُ متعلِّقَةً بما قبلَها، ولا يُوْقَفُ على "يُبْصِرون" وعلى الأوجُهِ الأُوَلِ الثلاثةِ يكونُ "المفتون" اسمَ مفعولٍ على أصلِه، وعلى الوجهِ الرابعِ يكونُ مصدراً. وينبغي أَنْ يُقالَ: إنَّ الكلامَ إنما يَتِمُّ على قولِه "المفتون" سواءً قيل بأنَّ الباءَ مزيدةٌ أم لا؛ لأنَّ قولَه "فَسَتُبْصِرُ ويُبْصرون" مُعَلَقٌ بالاستفهامِ بعدَه؛ لأنه فِعْلٌ بمعنى الؤية، والرؤيةُ البصريةُ تُعَلَّقُ على الصحيح بدليلِ قولِهم: "أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا"، فكذلك الإِبصارُ لأنه هو الرؤيةُ بالعينِ. فعلى القولِ بزيادةِ الباءِ تكونُ الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نَصْبٍ لأنها واقعةٌ موقعَ مفعولِ الإِبصار.
* { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }
(14/51)
---(1/5542)
قوله: {فَيُدْهِنُونَ}: المشهورُ في قراءةِ الناس ومصاحفِهم "فيُدْهِنون" بثبوتِ نونِ الرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على "تُدْهِنُ" فيكونُ داخلاً في حَيِّزِ "لو". والثاني: انه خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: فهم يُدْهِنون. وقال الزمخشري: "فإنْ قَلَتَ: لِم رُفِعَ "فَيُدْهِنون" ولم يُنْصَبْ بإضمارِ "أَنْ" وهو جوابُ التمني؟ قلت: قد عُدِل به إلى طريقٍ آخر: وهو أنْ جُعِل خبرَ مبتدأ محذوف، أي: فهم يُدْهِنون كقوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} على معنى: وَدُّوا لو تُدْهِنُ فهم يُدْهنون حينئذٍ، أو وَدُّوا إدهانَك فهم الآن يُدْهِنون لطَمَعِهم في إدْهانِك: قال سيبويه: "وزعم هارونُ أنها في بعضِ المصاحفِ: "وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدِهنوا" انتهى.
وفي نصبه على ما وُجد في بعضِ المصاحفِ وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على التوهُّمِ، كأنه تَوَهَّم أَنْ نَطَقَ بـ"أَنْ" فَنَصَبَ الفعلَ على هذا التوهُّم، وهذا إنما يجيءُ على القولِ بمصدرية "لو" وفيه خلافٌ مرَّ محققاً في البقرة. والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهومِ مِنْ "وَدَّ" والظاهرُ أنَّ "لو" هنا حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وأن جوابَها محذوفٌ، ومفعولُ الوَدادةِ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: وَدُّوا إدهانَك، فحُذِفَ "إدْهانَك" لدلالةِ "لو" وما بعدها عليه. وتقديرُ الجوابِ لسُرُّوا بذلك.
* { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ}
* {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ }
(14/52)
---(1/5543)
قوله: {مَّهِينٍ هَمَّازٍ}: تقدَّم تفسيرُ مهين في الزخرف. والهمَّازُ: مثالُ مبالغةٍ مِنْ الهَمْزِ وهو في اللغةِ الضَرْبُ طعناً باليدِ والعَصا ونحوِها، واسْتُعير للعَيَّاب الذي يَعيب على الناسِ كأنه يَضْرِبُهم. والنَّميم قيل: مصدرٌ كالنميمة. وقيل: هو جَمْعُها، أي: اسمُ جنسٍ كتمرة وتَمر. وهو نَقْلُ الكلامِ الذي يسوء سامعَه ويُحَرِّشُ بين الناس. وقال الزمخشري: "والنميمُ والنَّميمة السِّعايةُ وأنشدني بعضُ العرب:
4292 - تَشَبَبي تَشَبُّبَ النَّميمهْ * تَمشْي بها زَهْراً إلى تميمة
والمَشَّاء: مثالُ مبالغةٍ مِنْ المَشْي، أي: يُكْثِرُ السِّعايةَ بين الناس. والعُتُلُّ: الذي يَعْتِلُ الناسَ، أي: يَحْملهم ويَجُرُّهم إلى ما يَكْرهون مِنْ حبسٍ وضَرْبٍ. ومنه {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ}. وقيل: العُتُلُّ: الشديد الخُصومة. وقال أبو عبيدة: "هو الفاحِشُ اللئيم، وأنشد.
4293 - بعُتُلٍّ مِنْ الرِّجالِ زَنِيمٍ * غير ذي نَجْدةٍ وغيرِ كريمِ
وقيل": الغليظُ الجافي. ويقال: عَتَلْتُه وعَتَنْتُه باللام والنونِ، نَقَله يعقوب. والزنيم: الدَّاعِيُّ يُنْسَبُ إلى قومٍ ليس منهم. قال حسان:
4294 - زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً * كما زِيْدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ
وقال أيضاً:
4295 - وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آل هشامٍ * كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْدُ
(14/53)
---(1/5544)
وأصلُه مِنْ الزَّنَمَةِ: وهي ما بقي مِنْ جلْدِ الماعز مُعَلَّقاً في حِلَقِها يُتْرَكُ عند القَطْع فاستعير للدَّعِيِّ لأنه كالمُعَلَّقِ بما ليس منه. وقرأ الحسنُ "عُتُلٌّ" بالرفع على: هو عُتُلٌّ. وحقُّه أَنْ يُقْرَأَ ما بعدَه بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القَطْع: إنه يبدأ بالإِتباع ثم بالقطع مِنْ غير عكسٍ. وقوله "بعد ذلك"، أي: بعدما وَصَفْناه به. قال ابن عطية: "فهذا الترتيبُ إنما هو في قولِ الواصفِ لا في حصولِ تلك الصفاتِ في المصوفِ، وإلاَّ فكونُ عُتُلاً هو قبل / كونِه صاحبَ خير يمنعُه". واقل الزمخشري: "بعد ذلك، بعد ما عُدَّ له مِنْ المثالبِ والنقائصِ"، ثم قال: "جَعَلَ جفاءَه ودَعْوَتَه أشدَّ مُعايَبةً؛ لأنه إذا غَلُظَ وجفا طَبْعُه قسَا قلبُه واجْتَرَأَ على كلِّ معصيةٍ".
* { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ }
قوله: {أَن كَانَ}: العامَّةُ على فتح همزةِ "أنْ" ثم اختلفوا بعدُ: فقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ أبو بكر بالاستفهام، وباقي السبعةِ بالخبر. والقارئون بالاستفهامِ على أصولِهم: مِنْ تحقيقٍ وتسهيلٍ وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتَينْ وعدمِه. ولا بُدَّ مِنْ بيانِه لك تَسهيلاً للأمر عليك فأقول وبالله التوفيق: قرأ حمزةُ وأبو بكرٍ بتحقيق الهمزتَيْن وعدم إدْخالِ ألفٍ بينهما، وهذا وهو أصلُهما.
وقرأ ابنُ ذكوانَ بتسهيلِ الثانيةِ وعدمِ إدخال ألفٍ، وهشامٌ بالتسهيلِ المذكور، إلاَّ أنَّه أدخل ألفاً بينهما فقد خالَفَ كلٌّ منهما أصلَه: أمَّا ابنُ ذكوان فإنه يُحَقِّقُ الهمزتَيْنِ فقد سَهَّل الثانية هنا. وأمَّا هشامٌ: فإنَّ أًلَه أن يُجْري في الثانية مِنْ هذا النحوِ وجهَيْنِ: التحقيقَ كرفيقِه، والتسهيلَ. وقد التَزَمَ التسهيلَ هنا. وأمَّا إدخالُ الألفِ فإنه فيه على أصلِه كما تقدَّم أول البقرة.
وقرأ نافع في رواية الزبيدي عنه: "إنْ كان" بكسر الهمزة على الشرط.
(14/54)
---(1/5545)
فأمَّا قراءةُ "أَنْ كان" بالفتحِ على الخبرِ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أوحدها: أنها "أنْ" المصدريةُ في موضع المفعولِ له مجرورةٌ بلامٍ مقدرة. واللامُ متعلِّقةٌ بفعلِ النهي، أي: ولا تُطِعْ مَنْ هذه صفاتُه؛ لأنْ كان مُتَموِّلاً وصاحبَ بنين. الثاني: أنها متعلقةٌ بـ"عُتُلّ"، وإن كان قد وُصِفَ، قاله الفارسي، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، وكأن الفراسيَّ اغتفَره في الجارِّ. الثالث: أنْ يتعلَّق بـ"زنيم" ولا سيما عند مَنْ يُفَسِّره بقبيح الأفعالِ. الرابع: أَنْ يتعلِّقَ بمحذوف يَدُّلُّ عليه ما بعدَه مِنْ الجملةِ الشرطيةِ، تقديره: لكونِه متموِّلاً مُسْتَظْهِراً بالبنين كَذَّب بآياتِنا، قاله الزمخشري، قال: "ولا يَعْمَلُ فيه "قال" الذي هو جوابُ "إذا" لأنَّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلَه، ولكن ما دَلَّتْ عليه الجملةُ مِنْ معنى التكذيب". وقال مكي - وتبعه أبو البقاء - : "لا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ "تُتْلى" لأنَّ ما بعد "إذا" لا يعملُ فيما قبلها؛ لأنه "إذا تُضاف إلى الجمل، ولا يعملُ المضافُ إليه فيما قبل المضاف" انتهى. وهذا يُوهمُ أنَّ المانعَ من ذلك ما ذكره فقط، والمانعُ أمرٌ معنويٌّ، حتى لو فُقِدَ هذا المانعُ الذي ذكره لامتنعَ مِنْ جهةِ المعنى: وهو أنه لا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ تلاوةَ آياتِ اللَّهِ عليه بكونِه ذا مالٍ وبنين.
وأمَّا قراءةُ "أَأَنْ كان" على الاستفهام، ففيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمقدَّر يَدُلُّ عليه ما قبلَه، أي: أأَتُطيعه لأَنْ كان أو أتكونُ طواعيةً لأَنْ كان. والثاني: أنْ يتعلَّقَ بمقدَّرٍ عليه ما بعده أي: لأَنْ كان كذا كَذَّبَ وجَحَدَ.
(14/55)
---(1/5546)
وأمَّا قراءةُ إنْ بالكسر فعلى الشرطِ، وجوابُه مقدرٌ. تقديرُه: إن كان كذا يَكْفُرْ ويَجْحَدْ. دَلَّ عليه م بعده. وقال الزمخشري: "والشرطُ للمخاطبِ، أي: لا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ شارطاً يسارَه، لأنه إذا أطاع الكافرَ لِغِناهُ فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحوُ صرفِ الشرطِ للمخاطب صَرْفُ الترجِّي إليه في قولِه: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}. وجَعَله الشيخُ مِنْ دخولِ شرطٍ على شرطٍ، يعني إنْ وإذا؛ إلاَّ أنه قال: "ليسا من الشروط المترتبةِ الوقوع، وجعله نظيرَ قولِ ابنِ دريدٍ:
4296 - فإنْ عَثَرْتُ بعدَها إنْ وَأَلَتْ * نفسيَ مِنْ هاتا فقولا لا لَعا
قال: "لأنَّ الحامِلَ على تدبُّرِ آياتِ اللهِ كونُه ذا مالٍ وبنين، وهو مشغولُ القلبِ بذلك غافلٌ عن النظرِ قد استولَتْ عليه الدنيا وأَبْطَرَتْه.
وقرأ الحسن بالاستفهام وهو استفهامُ تَقْريعٍ وتوبيخٍ على قولِه: "القرآنُ أساطيرُ الأوَّلين لَمَّا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله.
* { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }
قوله: {سَنَسِمُهُ}: أي: نجعل له سِمَةً، أي: علامة يُعْرَفُ بها. قال جرير:
4297 - لَمَّا وَضَعْتُ على الفرزدقِ مِيْسَمي * وعلى البَعيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ
/ والخُرْطُومُ: الأَنْفُ، وهو هنا عبارةٌ عن الوجهِ كلِّه من [باب] التعبيرِ عن الكلِّ بالجزءِ؛ لأنه أظهرُ ما فيه وأَعلاه. والخُرْطومِ أيضاً: الخمرُ وكأنه استعارةٌ لها؛ لأنَّ الشنتمَريَّ قال: "هي الخمرُ أول ما تَخْرُجُ من الدِّنِّ"، فجُعِلَتْ كالأَنفِ؛ لأنه أولُ ما يَبْدُو مِنْ الوجهِ، فليسَتُ الخرطومُ الخمرَ مطلقاً. ومِنْ مجيءِ الخُرْطومِ بمعنى الخمرِ قولُ علقمةَ ابنِ عبيدة:
4298 - قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ، فيهم مُزْهِرٌ زَئِمٌ * والقومُ تصرَعُهمْ صَهْباءُ خُرْطومُ
وأنشد النضر بن شميل:
4299 - تَظَلُّ يومَك في لهو وفي لَعِبٍ * وأنتَ بالليل شَرَّابُ الخَراطيمِ
(14/56)
---(1/5547)
قال النَّضِرُ: "والخُرطومُ في الآية: هي الخَمْرُ، والمرادُ: سَنَحُدُّه على شُربِها. وقد استبعدَ الناسُ هذا التفسيرَ.
* { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }
قوله: {مُصْبِحِينَ}: هذا حالٌ مِنْ فاعلٍ "لَيَصْرِمُنَّها" وهو مِنْ "أصبح" التامَّةِ، أي: داخلين في الصَّباح. كقولِ تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} وقولِهم: "إذا سَمِعْتَ بسُرَى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِحٌ". والكاف في "كما" في موضع نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بَلَوْناهم ابتلاءً كما بَلَوْنا. و "ما" مصدريةً أو بمعنى الذين. و "إذ" منصوبةً بـ"بَلَوْنا" و "لَيَصْرِمنُها" جوابٌ للقسم، وجاءعلى خلافِ مَنْطوقِهم، ولو جاء عليه لقيل: لَنَصْرِمُنَّها بنونِ التكلم.
* { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ }
قوله: {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ}: هذه مستأنفةٌ. ويَضْعُفُ كونُها حالاً من حيث إنَّ المضارعَ المنفيَّ بـ"لا" كالمثبتِ في عَدَم دخولِ الواوِ عليه، وإضمارُ مبتدأ قبلَه، كقولِهم: "قمتُ وأَصُكُّ عينَه" مُسْتغنى عنه. ومعنى "لا يَسْتَثْنُون" لا يَثنون عزمَهم على الحِرْمانِ، وقيل: لا يقولون: إن شاءَ الله. وسُمِّي استثناءً، وهو شرطٌ؛ لأنَّ معنى "لأَخْرُجَنَّ إنْ شاءَ الله" "ولا أخرجُ إلاَ أَنْ يشاءَ اللهُ" واحدٌ، قاله الزمخشري.
* { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ }
(14/57)
---(1/5548)
قوله: {طَآئِفٌ}: أي هَلاكٌ، أو بلاءٌ، طائفٌ. والطائفُ غَلَبَ في الشرِّ. قال الفراء: "هو الأمرُ الذي يأتي ليلاً. ورُدَّ عليه بقولِه: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ}، وذلك لا يختصُّ بلَيْلٍ ولا نهارٍ. وقرأ النخعي "طَيْفٌ". وقد تقدَّم في الأعراف الكلامُ على هذينِ الوصفَيْن. و "منْ رَبِّك" يجوزُ أن يتعلَّقَ بـ"طاف"، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لـ طائف. والصِّرامُ: جُذاذُ النخلِ. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على القَطْعِ، ومنه الصُرْمُ والصَّرْمُ بالضم والفتح، وهو القَطيعةُ. قال امرؤُ القيس:
4300 - أفاطمُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ * وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأَجْملي
ومنه الصَّريمةُ، وهي قطعةٌ مَنْصَرمةٌ عن الرمل. قال:
4301 - وبالصَّرِيْمَةِ منهم مَنْزِلٌ خَلِقٌ * عافٍ تَغَيَّرِ إلاَّ النؤيُ والوَتِدُ
والصَّارم: القاطِعُ الماضي، وناقة مُصَرَّمَةٌ، أي: انقطع لبنُها. وانْصَرَمَ الشهرُ والسَّنَةُ، أي: قَرُبَ انفصالُهما. وأَصْرَمَ: ساءَتْ حالُه، كأنه انقطعَ سَعْدُه. وقوله "كالصريم" قيل: هي الأشجارُ المُنْصَرِمُ حَمْلُها. وقيل: كالليلِ لأنه يُقال له الصَّريمُ لسَوادِه. والصَّريمُ أيضاً: النهارُ. وقيل: الصبحُ، فهو من الأضدادِ. وقال شَمِر: الصَّريم الليلُ، والصَّريم النهرا؛ لأنصرامِ هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: هو الرَّمادُ بلغة خُزَيْمَةَ، قاله ابنُ عباس. وقيل: الصَّريمُ رَمْلَةٌ معروفةً باليمن لا تُنْبِتُ شيئاً. وفي التفسير: أنَّ جَنَّتَهم صارت كذلك. ويُرْوَى أنها اقْتُلِعَتْ ووُضِعتْ حيث الطائفُ اليوم؛ ولذلك سُمِّي به "الطائفُ" الذي هو بالحجازِ اليومَ.
* { أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ }
(14/58)
---(1/5549)
قوله: {أَنِ اغْدُواْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّةَ، أي: تنادَوْا بهذا الكلامِ، وأَنْ تكونَ المفسِّرة؛ لأنَّه تقدَّمها ما هو بمعنى القولِ. قال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: هلا قيل: اغْدُوا إلى حَرْثِكم وما معنى "على"؟ قلت: لَمَّا كان الغُدُوُّ إليهِ ليَصْرِمُوه ويَقْطعوه كان غُدُوَّا عليه، كما تقول: غدا عليهم بالجَفْنَة ويُراحُ" انتهى. فجعل "غدا" متعدياً في الأصل بـ"إلى" فاحتاج إلى تأويل تعدِّيه بـ"على". وفيه نظرٌ لورود تَعَدِّيه بـ"على" في غير موضع كقولِه:
4302 - وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ * نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ
/ وإذا كانوا قد عَدَّوْا مرادِفَه بـ"على" فَلْيُعَدُّوه بها، ومرادِفُهُ "بَكَرَ" تقول: بَكَرْتُ عليه، وغَدَوْتُ عليه بمعنىً واحدٍ. قال:
4303 - بَكَرْتُ عليه غُدْوَةً فَرَأَيْتُه * قُعُوداً لديهِ بالصَّريمِ عَواذِلُهْ
و {إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} جوابُه محذوفٌ، أي: فاغدُوْا. وصارمين: قاطعين جاذِّين. وقيل: ماضِين في العَزْمِ، مِنْ قولِك: سيفٌ صارِمٌ.
* { فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ }
قوله: {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}: جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ "انطلَقُوا.
* { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ }
قوله: {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا}: يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّة، أي: يتخافَتُون بهذا الكلامِ، أي: يقولُه بعضُهم لبعضٍ، وأَنْ تكونَ المفسِّرَةَ. وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلة "لا يَدْخُلُها" بإسقاطِ "أَنْ" مَّا على إضمارِ القولِ، كما هو مذهبُ البَصْريين، وإمَّا على إجراءِ "يتخافتون" مُجراه كما هو قولُ الكوفيين.
* { وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ }
(14/59)
---(1/5550)
قوله: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ "قادرين" حالاً من فاعل "غَدَوْا". و "على حَرْدٍ" متعلِّقٌ به، وأَن يكونَ "على حَرْدٍ" هو الحالَ، و "قادرين": إمَّا حالٌ ثانيةٌ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى.
والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة، قيل: الغضبُ والحَنَقُ. وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة:
4304 - أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خفِيَّةٍ * تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ
قيل: ومثلُه قولُ الآخرِ:
4305 - إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي * مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد
عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه:
4306 - ..................... * وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقيل: المَنْعُ. مِنْ حارَدَتِ. الإِبلُ، قَلَّ لَبَنُها، والسَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُها، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ. ويقال: حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً، وقد تُفْتح فيقال: حَرَداً، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ. يقال: أسدٌ حارِدٌ، ولُيوث حَوارِدُ. وقيل: الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ. يُقال: حَرَدَ بالفتح، يَحْرُد بالضم، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً: انعزل، ومنه كوكبٌ حارِدٌ، أي: منفردٌ. قال الأصمعي: "هي لغةُ هُذِيْل". وقيل: الحَرْدُ القَصْدُ. يقال: حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك، أي: قَصَدَ قَصْدَك، ومنه:
4307 - ...................... * يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ
وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ. وقيل: الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها، قاله السُّدي. وقيل: اسم قَرْيتِهم، قاله الأزهري. وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ. و "قادرين": إمَّا مِنْ القُدْرَةِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ، أي: مُضَيِّقين على المساكينِ. وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ".
* { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
(14/60)
---(1/5551)
قوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}: مبتدأٌ، وخبرُه مقدم، أي: مثلُ ذلك العذابِ عذابُ الدنيا، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فأكبرُ منها.
* { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: يجوزَ أَنْ يكونَ منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً مِنْ "جَنَّات".
* { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ }
قوله: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ}: العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها معمولةٌ لـ"تَدْرُسون"، أي: تدرسون في الكتابِ أنَّ لكم ما تختارونه، فلمَّا دخلت اللامُ كُسِرت الهمزةُ. والثاني: أَنْ تكونَ على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} قالهما الزمخشري، وفي الفرقِ بين الوجهين عُسْرٌ قال: "وتَخَيَّر الشيءَ واختاره: أَخَذَ خيرَه كتنخَّله وانتخَلَه أَخَذَ منخولَه". والثالث: أنها على الاستئنافٍ على معنى: إنْ كان لكم كتابٌ فلكم فيه مُتَخَيَّرٌ. وقرأ طلحةُ والضحاك "أنَّ لكم" بفتح الهمزةِ، وهو منصوبٌ بـ"تَدْرُسُون"، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ لامِ التأكيدِ، وهي نظيرُ قراءة {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } بالفتح. وقرأ الأعرج "أإنَّ لكم" في الموضعين بالاستفهام.
* { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ }
قوله: {بَالِغَةٌ}: العامَّةُ على رفعِها نعتاً لـ"أَيْمانٌ" و "إلى يوم" متعلِّق بما تَعَلَّقَ به "لكم". من الاستقرار، أي: ثابتةٌ لكم إلى يومِ، أو ببالغة، أي: تَبْلُغُ إلى ذلك اليومِ وتنتهي إليه.
وقرأ زيد بن علي والحسن بنصبِها فقيل: على الحال من "إيمان" لأنها تخصَّصَتْ بالعملِ أو بالوصفِ. وقيل: من الضمير في "علينا" إنْ جَعَلْناه صفةً لـ"أَيْمان".
(14/61)
---(1/5552)
وقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ في قوله: "أَيْمان" لأنها بمعنى أقسام. و "أيُّهم" معلِّقٌ لِسَلْهُمْ و "بذلك" متعلق بـ"زعيمٌ"، أي: ضمينٌ وكفيل. وقد تقدَّم أنَّ "سألَ" يُعَلَّقُ لكونِه سبباً في العِلم. وأصلُه أن يتعدَّى بـ عن أو بالباء، كقولِه: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [وقولِه:]
4308 - فإنْ تَسْألوني بالنساء ........ * ........................
فالجملةُ في موضعِ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ، كما عَرَفْت تقريرَه غيرَ مرةٍ. وقرأ عبد الله: "أم لهم شِركٌ، فليَأْتوا بشِرْكِهم". بلفظِ المصدرِ.
* { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }
قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ}: منصوبٌ بقولِه "فَلْيَأْتُوا" أو بإضمار اذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به أو بمحذوفٍ، وهو ظرفٌ، أي: يومَ يُكْشَف يكونُ كَيْتَ وكَيْتَ، أو بخاشعة، قاله أبو البقاء. وفيه بَعْدٌ و "عن ساقٍ" قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، وابنُ مسعود وابن أبي عبلة "يَكْشِفُ" بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ. وقرأ ابنُ عباس وعبد الله أيضاً "نكشِفُ" بكسر النون. وعن ابن عباس "تَكْشِفُ" بالتاء منه فوق مبنياً للفاعل، أي: الشدَّةُ والساعةُ. وعنه كذلك أيضاً مبنياً للمفعول وهي / مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ التأنيثَ لا معنى له هنا، إلاَّ أَنْ يُقالَ: إن المفعول مستترٌ، أي: تُكْشَفُ هي، أي: الشِّدَّةُ.
(14/62)
---(1/5553)
قوله: {عَن سَاقٍ}، أي: تَكْشِفُ عن ساقِها؛ ولذلك قال الزمخشري: "وتكشِفُ بالتاء مبنياً للفاعلِ والمفعولِ جميعاً. والفعلُ للساعةِ، أو للحال، أي: تَشْتَدُّ الحالُ أو الساعةُ". وقُرِىء "يُكْشِفُ" بضمِّ الياء أو التاء وكسرِ الشين، مِنْ "أَكْشَفَ" إذا دَخَلَ في الكَشْفِ. وأَكْشَفَ الرجلُ: إذا انقلَبَتْ شَفَتُهُ العليا لانكشافِ ما تحتَها. وكَشْفُ الساقِ كنايةٌ عن الشِّدَّةِ، لا يَمْتري في ذلك مَنْ ذاق طعم الكلامِ، وسَمعَ قولَ العربِ في نَظْمها ونثرها. قال الراجزُ:
4309 - عَجِبْتُ مِنْ نفسي ومن إشفاقِها *ومِنْ طِرادي الطيرَ عن أَرْزاقِها
في سَنَةٍ قد كَشَفَتْ عن ساقِها *حمراءَ تَبْرِي اللحمَ عَنْ عُراقها
وقال حاتم الطائي:
4310 - أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها *وإن شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا
وقال آخر:
4311 - كَشَفَتْ لهم عن ساقِها *وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ
وقال آخر:
4312 - قد شَمَّرَتْ عن ساقِها فَشُدُّوا *وجَدَّت الحربُ بكم فَجَدُّوا
وقال آخر:
4313 - صبراً أُمامُ إنَّه شرٌّ باقٍ *وقامَتِ الحربُ بنا على ساقٍ
قال الزمخشري: "الكَشْفُ عن الساق والإِبداء عن الخِدام مَثَلٌ في شدةِ الأمرِ وصُعوبةِ الخَطْبِ. وأصلُه في الرَّوْعِ والهزيمةِ وتشميرِ المُخَدَّرات عن سُوْقِهِنَّ في الحرب، وإبداءِ خِدامِهِنَّ عند ذلك.
وقال ابن قيس الرقياتِ:
4314 - تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدي *عن خِدام العَقِليةُ العَذْراءُ
انتهى وما أحسنُ ام أَبْدَى أبو القاسمِ وجهَ علاقةِ هذا المجازِ فللَّه دَرُّه. وما أَوْرَدَه أهلُ التفسير فإنَّه مؤولٌ وكذلك حديثُ ابنِ مسعود ونحوه. قال الزمخشري: "ومَنْ أَحَسَّ بمضارِّ فَقْدِ هذا العِلْمِ عَلِمَ مقدارَ عِظَمِ منافعِه" انتهى. ويعني عِلْمَ البيان.
(14/63)
---(1/5554)
* { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }
قوله: {خَاشِعَةً}: حالٌ مِنْ مرفوع "يُدْعَوْن" و "أبصارُهم" فاعلٌ به ونَسَب الخشوعَ للأبصارِ، وإنْ كانت الأعضاءُ كلُّها كذلك لظهورِ أَثَرِه فيها.
وقوله: {وَهُمْ سَالِمُونَ} حالٌ مِنْ مرفوع "يُدْعَوْن" الثانيةِ.
* { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {وَمَن يُكَذِّبُ}: منصوب: إمَّا نَسَقاً على الياء، وإمَّا على المفعولِ معه وهو مرجوحٌ لإِمكانِ النَّسَقِ مِنْ غيرِ ضعفٍ. وما بعدها تقدَّم إعرابُ مِثْلِه.
* { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ }
قوله: {إِذْ نَادَى} "إذا" منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ، أي: ولا تكُنْ حالُك كحالِه، أو قصتُك كقصتِه، في وقتِ ندائِه. ويَدُلُّ على المحذوفِ أنَّ الذواتِ لا يَنْصَبُّ عليها النهيُ، إنما ينصَبُّ على أحوالِها وصفاتِها.
قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} جملةٌ حاليةٌ من الضمير في "نادى" والمَكْظومُ: المُمْتَلِىءُ حُزْناً وغَيْظاً. قال ذو الرمة:
4315 - وأنتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْناً * عاني الفؤادِ قريحٌ القلبِ مكظومُ
وتقدَّمت مادتُه في آل عمران.
* { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ }
(14/64)
---(1/5555)
قوله: {تَدَارَكَهُ}: قرأ أُبي وعبدُ الله وابنُ عباس "تدارَكَتْه" بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمش "تَدَّارَكَتْه" بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمشِ "تَدَّارَكُه" بتشديدِ الدالِ وخُرِّجَتْ على أنَّ الأصلَ "تَتَدارَكُه" بتَاءَيْن مضارعاً فأدغم، وهو شاذٌّ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ غيرُ حرفِ لينٍ وهي كقراءةِ البزي {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} {نَاراً تَلَظَّى} وهذا على حكايةِ الحالِ؛ لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فإيقاعُ المضارعِ هنا للحكاية.
* { وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ }
قوله: {لَيُزْلِقُونَكَ}: قرأها نافعٌ بفتح الياءِ، والباقون بضمِّها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه، أي: أَزَلَّ رِجْلَه، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ. وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال: زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح. ونظيرُه: شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ. وقيل: زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ. ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ. وفي التفسير قصةٌ. والباءُ: إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ، أي: جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك، كعَمِلْتُ بالقَدوم، وإمَّا للسببيةِ، أي: بسبب عيونِهم. /
قوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً بـ"يُزْلِقُونك"، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ، أي: لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال: هو هنا متقدِّمٌ.(1/5556)
سورة الحاقة
* { الْحَاقَّةُ }
(14/65)
قوله: {الْحَاقَّةُ}: مبتدأٌ و "ما" مبتدأٌ ثانٍ، و "الحاقَّةُ" خبرُه، والجملةُ خبرُ الأوِل، وقد تَقَدَّم تحريرُ هذا في الواقعة. وهناك سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مثلُه فعليك باعتبارِه. والحاقَّةُ فيها وجهان، أحدهما: أنَّه وصفٌ اسمُ فاعلٍ بمعنى: أنها تُبْدِي حقائق الأشياءِ. وقيل: لأنَّ الأمرَ يَحِقُّ فيها فهي من باب: ليلٌ نائمٌ ونهارٌ صائمٌ. وقيل: مِنْ حَقَّ الشيءُ: ثَبَتَ فهي ثابتةٌ كائنةٌ. وقيل: لأنها تَحُقُّ كلَّ مُحاقٍّ في دينِ اللَّهِ، أي: تَغْلِبُه. مِنْ حاقَقْتُه فحقَقْتُه أحُقُّه، أي: غَلَبتُه. والثاني: أنها مصدرٌ كالعاقبةِ والعافيةِ.
* { مَا الْحَآقَّةُ }
قوله: {مَا الْحَاقَّةُ}: في موضعِ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ أَدْرَى بالهمزةِ، ويتعدَّى لاثنينِ، الأَولُ بنفسه. والثاني: بالباءِ، قال تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} فلَمَّا وَقَعَتْ جملةُ الاستفهامِ مُعَلِّقَةً لها كانَتْ في موضع المفعولِ الثاني، ودونَ الهمزة تَتَعْدَّى لواحدٍ بالباء نحو: دَرَيْتُ بكذا، ويكونَ بمعنى عَلِمَ فيتعدَّى لاثنين.
* { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ }
قوله: {فَأُهْلِكُواْ}: هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ زيدُ ابن علي "فَهَلَكوا" مبنياً للفاعلِ مِنْ هَلَكَ ثلاثياً.
قوله: {بِالطَّاغِيَةِ}، أي: بالصيحةِ المتجاوزةِ للحدِّ. وقيل: بالفَعْلةِ الطاغيةِ. وقيل: بالرجلِ الطاغيةِ، وهو عاقِرُ الناقةِ، والهاء للمبالغةِ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ. وقيل: الطاغيةُ مصدرٌ ويُوَضِّحُه {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها، إلاَّ القولَ الأولَ فإنها للاستعانةِ كـ"عَمِلْتُ بالقَدُوم".
* { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
(14/66)
---(1/5557)
قوله: {حُسُوماً}: فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ ينتصِبَ نعتاً لِما قبلها. والثاني: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أي: تَحْسِمْهم حُسوماً. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، أي: ذاتَ حُسوم. الرابع: أَنْ يكونَ مفعولاً له، ويَتَّضِحُ ذلك بقول الزمخشري: "الحُسوم: لا يَخْلو مِنْ أَنْ يكونَ جمعَ حاسِم كشاهِد وشُهود، أو مصدراً كالشُّكور والكُفور. فإنْ كانَتْ جمعاً فمعنى قولِه "حُسوماً": نَحِسات حَسَمَتْ كلَّ خيرٍ، واستأصَلَتْ كلَّ بركةٍ، أو متتابعةً هبوبَ الريح، ما خَفَتَتْ ساعةً، تمثيلاً لتتابُعِها بتتابُعِ فِعْلِ الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كَرَّةً بعد أخرى حتى يَنْحَسِمَ. وإن كان مصدراً: فإمَّا أَنْ ينتصِبَ بفعلِه مضمراً، أي: تَحْسِم حُسوماً، بمعنى: تَسْتأصِلُ استئصالاً، أو يكونُ صفةً كقولِ: ذاتَ حُسومٍ، أو يكونُ مفعولاً له، أي: سَخَّرها عليهم للاستئصالِ. وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
4316 - ففرَّق بين بَيْنِهُمُ زمانٌ * تتابَعَ فيه أعوامٌ حُسومُ
انتهى. قال المبرد: الحُسوم: الفَصْلُ حَسَمْتُ الشيء من الشيء فَصَلْتُه منه ومنه الحُسام. وقال الشاعر:
4317 - فأرسَلْتَ ريحاً دَبُوراً عقيماً * فدارَتْ عليهمْ فكانَتْ حُسُوماً
وقال الليث: "هي الشُّؤْمُ: يقال: هذه ليالي الحُسومِ، أي: تَحْسِم الخيرَ عن أهلِها. وعندي أنَّ هذين القولَيْن يَرْجِعان إلى القول الأول؛ لأنَّ الفصلَ قَطْعٌ، وكذلك الشُّؤْمُ لأنَّه يقطعُ الخيرَ. والجملةُ مِنْ قولِه "سَخَّرها" يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لـ"ريح"، وأَنْ تَكونَ حالاً منها لتخصُّصها بالصفةِ، أو من الضميرِ في "عاتية"، وأَنْ تكون مستأنفةً.
قوله: {فِيهَا صَرْعَى} صَرْعَى حالٌ، جمعُ صَريع نحو: قتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى، والضمير في "فيها" للأيام والليالي، أو للبيوت، أو للرِيح، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه، ولأنَّه مذكورٌ.
(14/67)
---(1/5558)
وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} حالٌ من القوم، أو مستأنفةٌ. وقرأ أبو نهيك "أَعْجُزُ" على أَفْعُل نحو: ضَبُع وأَضْبُع. وقُرِىء "نخيل" حكاه الأخفشُ، وقد تقدَّم أنَّ اسم الجنس يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثهُ للفواصلِ، كما اخْتِير تذكيرُه لها في سورةِ القمر كما تقدَّم التنبيهُ عليه.
* { فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ }
قوله: {فَهَلْ تَرَى}: أدغم اللامَ في التاءِ أبو عمروٍ وحَده، وتقدم في الملك. و "مِنْ باقية" مفعولُه و "مِنْ" مزيدةٌ، والتاءُ في "باقية" قيل: للمبالغةِ، أي: مِنْ باقٍ، والأحسنُ أَنْ تكونَ صفةً لفرقةٍ أو طائفة ونحو ذلك.
* { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ }
قوله: {وَمَن قَبْلَهُ}: قرأ بكسر القاف وفتح الباء أبو عمروٍ والكسائي، أي: ومَنْ هو في جهتِه، ويؤيِّدُه قراءةُ أبي موسى و "مَنْ تِلْقَاءَه" وقرأه أُبَيٌّ "ومَنْ تبعه"، والباقون بالفتحِ والسكونِ على أنَّه ظرفٌ، أي: ومَنْ تقدَّمه.
قوله: {بِالْخَاطِئَةِ} إمَّا أَنْ يكونَ صفةً /، أي: بالفَعْلَةِ أو الفَعَلات الخاطئة، وإمَّا أن يكون مصدراً كالخَطَأ فيكون كالعافية والكاذبة.
* { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }
قوله: {فِي الْجَارِيَةِ}: غَلَبَ استعمالُ "الجارية" في السفينة كقولِه:
4318 - تِسْعُونَ جاريةً في بطنِ جاريةٍ * ..........................
هو من الألغاز، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ}
* { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }
(14/68)
---(1/5559)
قوله: {وَتَعِيَهَآ}: العامَّة على كسرِ العينِ وتخفيفِ الياءِ، وهو مضارعٌ وَعى منصوبٌ عطفاً على "لِنَجْعَلَها". وابن مصرف وأبو عمروٍ في رواية هارونَ عن وقنبلَ بإسكانها تشبيهاً له بـ"رَحْم" و "شَهْد"، وإنْ لم يكُنْ منه، ولكنْ صارَ في اللفظِ بمنزلة فَعِل الحلقيِّ العينِ. ورُوِيَ عن حمزةَ إخفاءُ الكسرةِ. ورُوِي عن عاصمٍ وحمزةً أيضاً تشديدُ الياءِ. وهو غَلَطٌ عليها، وإنما سَمِعها الراوي يُبَيِّنان حركةَ الياءِ فظنَّها شَدَّةً. وقيل: أَجْرَيا الوصلَ مُجْرى الوقفِ فَضَعَّفا الحرفَ وهذا لا ينبغي أَنْ يُلْتَفَتَ إليه. ورُوِيَ عن حمزةَ أيضاً وموسى بن عبد الله العبسيِّ "وتَعِيْها" بسكونِ الياءِ، وفيها وجهان: الاستئنافُ والعطفُ على المنصوبِ، وإنما سَكَّنا الياءَ استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلةِ كقراءةِ {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وقد مَرَّ.
* { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ }
قوله: {وَاحِدَةٌ}: تأكيدٌ ونَفْخَةٌ مصدرٌ قام مقامَ الفاعلِ. وقال ابن عطية: "لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ" انتهى. ولو لم يُنْعَت لصَحَّ رفعُه لأنه مصدرٌ مختصٌ لدلالتِه على الوَحْدة، والممنوعُ عند البصريين إنما هو إقامةُ المبهمِ نحو: ضُرِب ضَرْبٌ. والعامَّةُ على الرفعِ فيهما، وقرأ أبو السَّمَّال بنصبِهما كأنه أقام الجارَّ مُقامَ الفاعلِ، فترك المصدرَ على أصله، ولم يؤنَّثِ الفعلَ وهو "نُفخَ" لأنَّ التأنيثَ مجازيٌ، وحَسَّنه الفَصْلُ.
* { وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً }
(14/69)
---(1/5560)
[قوله:] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ}: قرأه العامَّةُ بتخفيف الميمٍ، أي: وحَمَلَتْها الريحُ أو الملائكةُ أو القُدرة ثم بُني. وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ والأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم بتشدِيدِها، فجازَ أَنْ يكونَ التشديدُ للتكثير فلم يُكْسِبِ الفعلَ مفعولاً آخرَ، وجازَ أَنْ يكونَ للتعدية، فيُكْسِبَه مفعولاً آخرَ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ الثاني محذوفاً، والأولُ هو القائمُ مقامَ الفاعلِ تقديرُه: وحُمِّلَتِ الأرضُ والجبالُ ريحاً تُفَتِّتُها؛ لقوله {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً}. وقيل: التقدير حُمِّلَتها ملائكةً. ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ الأولُ هو المحذوفَ، والثاني هو القائمُ مقامَ الفاعلِ.
قوله: {فَدُكَّتَا}: أي: الأرضُ والجبالُ؛ لأنَّ المرادَ الشيئان المتقدِّمان كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}
* { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ }
قوله: {فَيَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بـ"وَقَعَتْ". و "وقعتِ الواقعةُ" لا بُدَّ فيه مِنْ تأويلٍ: وهو أَنْ تكونَ "الواقعةُ" صارَتْ عَلَمَاً بالغَلَبة على القيامة أو الواقعةِ العظيمة، وإلاَّ فـ"قام القائم" لا يجوزُ؛ إذ لا فائدةَ فيه، وتقدَّم هذا في قوله {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}. والتنوين في "يومئذٍ" للعوضِ مِنْ الجملةِ، تقديره: يوم إذ نُفِخَ في الصُّور.
* { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }
(14/70)
---(1/5561)
قوله: {عَلَى أَرْجَآئِهَآ}: خبرُ المبتدأ. والضميرُ للسماء. وقيل: للأرض. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين قولِه "والمَلَكُ" وبين أنْ يقال: والملائكة؟ قلت: المَلَكُ أعَمُّ مِنْ قولِك: "ما مِنْ ملائكة" انتهى. قال الشيخ: "ولا يَظْهر أنَّ المَلَكَ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ لأنَّ المفردَ المحلَّى بالألف واللام [الجنسية] قُصاره أَنْ يكونَ مُراداً به الجمعُ المُحلَّى [بهما] ولذلك صَحَّ الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكونَ كالجمعِ المُحَلَّى بهما، وأمَّا دَعْواه أنه أعَمُّ منه بقوله: "ألا ترى إلى آخره" فليس دليلاً على دَعْواه؛ لأنَّ "مِنْ مَلَكٍ" نكرةٌ مفردةٌ في سياق النفيِ قد دَخَلَتْ عليها "مِنْ" المُخَلِّصةُ للاستغفارق. فَشَمَلَتْ كلَّ مَلَكٍ، فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفردِ فيه، فانتفى كلُّ فردٍ بخلافِ "مِنْ ملائكة" فإنَّ "مِنْ" دَخَلَتْ على جمع مُنكَّرٍ، فَعَمَّ في كلِّ جمعٍ جمعٍ من الملائكة، ولا يلزَمُ مِنْ ذلك انتفاءُ كلِّ فردٍ مَنْ الملائكة. لو قلت: "ما في الدارِ مِنْ رجال" جاز أَنْ يكونَ فيها واحدٌ؛ لأنَّ النفيَ إنما انسحب على جمعٍ، ولا يَلْزَمُ مِنْ انتفاء الجمعِ أَنْ ينتفيَ المفرد. والمَلَكُ في الآية ليس في سياقِ نفي دَخَلَتْ عليه "مِنْ" وإنما جيء به مفرداً لأنه أَخفُّ، ولأنَّ قولَه "على أَرْجائِها" يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ لأنَّ الواحدَ بما هو واحدٌ لا يمكنُ أَنْ يكونَ "على أرجائها" في وقتٍ واحدٍ، بل في أوقاتٍ. والمرادُ - واللَّهُ أعلَمُ - أنَّ الملائكةَ على أرجائها، لا أنه مَلَكٌ / واحدٌ ينتقِلُ على أرجائها في أوقات".
(14/71)
---(1/5562)
قلت: الزمخشريُّ مَنْزَعُه في هذا ما قدَّمْتُه عنه في أواخرِ سورةِ البقرة عند قوله {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فليُراجَعْ ثمة. وأمَّا قولُ الشيخ: "ما [في الدار] مِنْ رجال، إنَّ النفي مَنسَحِبٌ على رُتَبِ الجمعِ" ففيه خلافٌ للناسِ ونَظَرٌ. والتحقيقُ ما ذكره. والضمير في "فوقهم" يجوزُ أَنْ يعودَ على المَلَك؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقدَّم، وأَنْ يعودَ على الحامِلينَ الثمانيةِ. وقيل: يعود على جمع العالَمِ، أي: إن الملائكةَ تحملُ عَرْشَ اللَّهِ تعالى فوق العالَمِ كلِّه.
قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} أَبْهم اللَّهُ تعالى هذا العددَ، فلم يَذْكُرْ له تمييزاً فقيل: تقديرُه ثمانية أشخاصٍ. وقيل: ثمانيةُ صُنوفٍ.
* { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }
قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ}: "تُعْرَضُون" هو جوابُ "إذا" مِنْ قولِه "فإذا نُفخَ"، قاله الشيخ. وفيه نظٌ، بل جوابُها ما تقدَّم مِنْ قولِه "وقَعَتِ الواقعة" و "تُعْرَضُون" على هذا مستأنفٌ.
قوله: {لاَ تَخْفَى} قرأ الأخَوان بالياءِ مِنْ تحتُ؛ لأن التأنيثَ مجازيٌّ، وللفصل أيضاً، وهما على أصلِهما في إمالةِ الألفِ والباقون "لا تَخْفى" بالتاءِ مِنْ فوقُ للتانيثِ اللفظيِّ، والفتحُ وهو الأصلُ.
قوله: {وَاهِيَةٌ}، أي: ضعيفة. يقال: وَهَي الشيءُ يَهِي وَهْياً، أي: ضَعُف ووهَى السِّقاءُ: انخرق. قال:
4319 - خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤُهُ ومَنْ هُرِيْقَ بالفَلاةِ ماؤُه
وقوله: {أَرْجَآئِهَآ}، أي: جوانُبها ونواحيها. واحِدُها: رَجا بالقصر، يُكتب الألف عكسَ رمى، لقولهم رَجَوان قال:
4320 - فلا يُرْمَى بِيَ ارَّجَوانِ أني * أقَلُّ القومِ، مَنْ يُغْني مكاني
وقال الآخر:
4321 - كأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً مُقَيدَّاً * ولا رجلاً يُرْمى به الرَّجَوانِ
* { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ }
(14/72)(1/5563)
---
قوله: {هَآؤُمُ}: أي: خُذَوا. وفيها لغاتٌ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً، وتكونُ اسمَ فعلٍ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ. فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان: المدُّ والقَصْرُ تقول: ها درهماً يا زيدُ، وهاءَ درهماً. ويكونان كذلك في الأحوال كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالِها باسمِ الإِشارةِ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع، مطابَقَتَها وهي ضميرُه، نحو: هاكَ هاءكَ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ "هاء" مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ، فتقول: هاءَ يا زيدُ، وهاءَ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم، هاؤُنَّ، وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ، إحداها: أَنْ تكونَ مثلَ: عاطى يُعاطي. فيُقال: هاءِ يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائِيا يا زيدان، أو يا هندان، هاؤُوا يا زيدون هائِيْنَ يا هنداتُ. الثانية: أَنْ تكونَ مثلَ "هَبْ" فتقول: هَأْ، هَئِي، هَآ، هَؤُوا، هَأْنَ. مثلَ: هَبْ، هَبِي، هَبا، هَبُوا، هَبْنَ.
الثالثة: أَنْ يكونَ مثلَ: خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال: هَأْ، هائي، هاءا، هاؤوا، هَأْنَ، مثلَ: خَفْ، خافِي، خافا، خافُوا، خَفْنَ.
(14/73)
---(1/5564)
واختُلِفَ في مَدْلولِها: فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا. وقيل: معناها تعالوا، فيتعدَّى بـ"إلى". وقيل: هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ. وفي الحديث: "أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: هاؤُم بصَوْلِةِ صَوْتِه. ومِنْ كوْنِها بمعنى "خُذْ" الحديث في الرِّبا: "إلاَّ هاءَ وهاء" أي: يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن. خذ. وقيل معناها اقصِدوا. وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم. وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ. وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ. وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح.
(14/74)
---(1/5565)
وقوله: {هَآؤُمُ} يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ، وبـ"إلى" إنْ كان بمعنى تعالَوا. و "اقْرؤُوا" يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في "كتابِيَهْ" وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الولِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها. والهاءُ في "كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ" للسَّكْت، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً، وتَثْبُتَ وَقْفاً، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في "كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ" اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء، وكذلك في "مالِيه وسُلْطانِيَهْ"، و "ما هِيَهْ" في {الْقَارِعَةُ} عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلأاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها. فإنْ قيل: فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك ي "كِتَابِيَهْ / وحسابِيَهْ" فالجوابُ: أنه جَمْعٌ بني اللغتين، هذا في القراءاتِ السبعِ. وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً، إلاَّ في "القارعة"، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ. وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً، وإثباتِها وَقْفاً. وابن محيصن يَسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً. والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي: "إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه". وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة. والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه.
* { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }
(14/75)
---(1/5566)
قوله: {رَّاضِيَةٍ}: فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على المجازِ، جُعِلَتِ العِيشةُ راضيةً لمحَلِّها وحُصولِها في مُسْتحقِّيها، أو أنها لا حالَ أكملُ مِنْ حالِها. الثاني: أنَّه على النَّسَبِ أي: ذاتِ رِضا نحو: لابِن وتامِر. الثالث: أنها ممَّا جاء فيه فاعِل بمعنى مَفْعول نحو: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي: مَدْفوق، كما جاء مَفْعول بمعنى فاعِل كقولِه: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} أي: ساتِراً، وقد تقدَّم ذلك.
* { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }
والقُطوف: جمعُ قِطْفٍ، وهو فِعْل بمعنى مَفْعول كالرِّعْي والذِّبْح وهو ما يَجْتَنيه الجاني مِن الثمار.
* { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }
قوله: {كُلُواْ}: أي: يُقال لهم: كُلوا: و "هَنيئاً" قد تقدَّم في أولِ النساء. وجَوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصِبَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: أَكْلاً هَنيئاً، وشُرْباً هنيئاً، وأَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍ أي: هَنِئْتُمْ بذلك هَنيئاً. و "بما أَسْلَفْتُم" الباءُ سببيةٌ، و "ما" مصدريةٌ أو اسميةٌ.
* { مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ }
قوله: {مَآ أَغْنَى}: يجوز أَنْ يكونَ نفياً، وأَنْ يكونَ استفهامَ توبيخٍ لنفسِه.
* { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ }
وقوله: {خُذُوهُ} كقولِه: {كُلُواْ} في إضمار القولِ. وقوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} تقديمُ المفعولِ يُفيد الاختصاصَ عند بعضهم؛ ولذلك قال الزمخشري: "ثم لا تَصْلُوه إلاَّ الجحيمَ". قال الشيخ: "وليس ما قاله مَذْهَباً لسيبويه ولا لحُذَّاقِ النحاة". قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مُتْقَنَةً، وأنَّ كلامَ النحاةِ لا يأبى ما قاله.
* { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ }
(14/76)
---(1/5567)
قوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ}: في محلِّ جر صفةً لـ"سِلْسِلَةٍ" و "في سِلْسِلَة" متعلِّقٌ بـ"اسْلُكوه" والفاءُ لا تَمْنع من ذلك. والذِّراعُ مؤنثٌ، ولذلك يُجْمَعُ على أفْعُل وسَقَطَتْ التاءُ مِنْ عددِه قال:
أَرْمي عليها وهي فَرْعٌ أَجْمَعُ * وهي ثلاثُ أَذْرُعٍ وإصبعُ
وزعم بعضُم أنَّ في قولِه: "في سِلْسلة" "فاسلكوه" قلباً، قال: لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السِّلسلةَ تَدْخُل مِنْ فيه، وتخرجُ مِنْ دُبُرِه، فهي المَسْلُوْكة فيه، لا هو مَسْلوكٌ فيها. والظاهرُ أنه لا يُحتاج إلى ذلك لأنه رُوي أنَّها لطولِها تُجْعَلُ في عنقِه وتَلتَوي عليه، حتى تُحيطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه، فهو المَسْلوكُ فيها لإِحاطتِها به.
وقال الزمخشري: "والمعنى في تقديم السِّلسلةِ على السَّلْك مثلُه في تقديمِ الجحيمِ على التَّصْليةِ أي: لا تَسْلُكوه إلاَّ في هذه السلسلةِ و "ثُمَّ" للدلالةِ على التفاوُتِ لِما بين الغَلِّ والتَّصْليةِ بالجَحيم، وما قبلَها، وبينَ السَّلْكِ في السِّلسلة لا على تراخي المُدَّة". ونازعه الشيخُ في إفادةِ التقديم الاختصاصَ كعادتِه، وجوابُه ما تقدَّم، ونازَعه أيضاً في أنَّ "ثُمَّ" للدلالة على تراخي الرتبة. وقال: "يمكنُ التراخي الزماني: بأَنْ يَصْلَى بعد أن يُسْلَكَ، ويُسْلَكَ بعد أَنْ يُؤْخَذَ ويُغَلَّ بمهلةٍ بين هذه الأشياءِ". انتهى. وفيه نظرٌ: من حيث إن التوعُّدَ بتوالي العذابِ آكَُ وأقطعُ مِنْ التوعُّدِ بتَفْريقه.
* { وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }
وقله: {وَلاَ يَحُضُّ}: الحضُّ: البَعْثُ على الفعلِ والحِرْصُ على وقوعِه، ومنه حروفُ التحضيض المُبَوَّبُ لها في النحوِ؛ لأنه يُطْلَبُ بها وقوعُ الفعلِ وإيجادُه.
* { فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ }
(14/77)
---(1/5568)
قوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ}: في خبرِ "ليس" وجهان، أحادهما: "له"، والثاني: "ههنا"، وأيُّهما كان خبراً تعلَّق به الآخَرُ، أو كان حالاً مِنْ "حميمٌ". ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "اليومَ" خبراً البتة لأنه زمانٌ، والمُخْبَرُ عنه جثةٌ. ومنع المهدويُّ أَنْ يكونَ "ههنا" خبراً، ولم يَذْكُرِ المانعَ. وقد ذكره القرطبي فقال: "لأنه يَصيرُ المعنى: ليس ههنا طعامٌ إلاَّ مِنْ غسْلين / ولا يَصِحُّ ذلك لأنَّ ثُمَّ طعاماً غيرَه". انتهى. وفي هذا نظرِ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أولاً أنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه. فإنْ أَْرَدَ قولَه: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} فهذا طعامٌ آخرُ غيرُ الغِسْلين. فالجوابُ: أنَّ بعضَهم ذهب إلى أن الغِسْلينَ هو الضَّريعُ بعينِه فسمَّاه في آيةٍ غِسْليناً، وفي أخرى ضَريعاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنهما طعامان فالحَصْرُ باعتبارِ الآكلين.يعني أنَّ هذا الآكلَ انحصَر طعامُه في الغِسْلِيْنِ، فلا يُنافي أَنْ يكونَ في النار طعامٌ آخر. وإذا قُلْنا: إنَّ "له" الخبر، وإن "اليوم" و "ههنا" متعلِّقان بما تعلَّقَ هو به فلا إشكال. وكذاك إذا جَعَلْنا "ههنا" هو الخبرَ، وعَلَّقْنا به الجارَّ والظرفَ ولا يَضُرُّ كونُ العاملِ معنوياً للاتساع في الظروفِ وحروف الجرِّ.
* { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ }
(14/78)
---(1/5569)
قوله: {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ}: صفةٌ لـ"طعامٌ" دَخَلَ الحصرُ على الصفةِ، كقولك: "ليس عندي رجلٌ إلاَّ من بني تميمٍ" والمرادُ بالحميم الصديقُ، فعلى هذا الصفةُ مختصَّةٌ بالطعامِ أي: ليس له صديق ينفعُه ولا طعامٌ إلاَّ مِنْ كذا. وقيل: التقديرُ: ليس له حميمٌ إلاَّ مِنْ غِسْلين ولا طعامٌ، قاله أبو البقاء، فجعل "مِنْ غِسْلين" صفةً للحميم، كأنَّه أرادَ به الشيءَ الذي يُحَمُّ به البدنُ مِن صديدِ النارِ. ثم قال: "وقيل: من الطعامِ والشرابِ؛ لأنَّ الجميعَ يُطْعَمُ بدليله قولِه: وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} فعلى هذا يكونُ {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} صفةً لـ"حميم" ولـ"طعام"، والمرادُ بالحَميم ما يُشْرَبُ. والظاهرُ أنَّ خبرَ "ليس" هو قوله: "مِنْ غِسْلين" إذا أُرِيد بالحميم ما يُشْرَبُ أي: ليس له شرابٌ ولا طعامٌ إلاَّ غِسْليناً. أمَّا إذا أُريد بالحميمِ الصديقُ فلا يتأتَّى ذلك. وعلى هذا الذي كَرْتُه فيُسْألُ عمَّا يُعَلَّقُ به الجارُّ والظرفان؟ والجوابُ: أنها تتعلَّقُ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يُجْعَلُ "له" أو "ههنا" حالاً مِنْ "حميم"، ويتعلَّقُ "اليوم" بما تَعَلَّق به الحالُ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "اليومَ" حالاً مِنْ "حميم"، و "له" و "ههنا" متعلِّقان بما تعلَّق به الحالُ؛ لأنه ظرفُ زمانٍ، وصاحبُ الحالِ جثةٌ. وهذا الموضِعُ موضِعٌ حَسَنٌ مفيدٌ فتأمّلْه.
والغِسْلِين: فِعْلِيْن مِن الغُسالةِ، فنونُه وياؤُه زائدتان. قال أهلُ اللغة: هو ما يَجْري من الجِراح إذا غُسِلَتْ. وفي التفسير: هو صَديدُ أهلِ النار. وقيل: شجرٌ يأكلونه.
* { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ }
قوله: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ}: صفةٌ لـ"غِسْلين". والعامَّةُ يَهْمِزُون "الخاطِئُون" وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ خَطِىءَ يَخْطأ، إذا فَعَلَ غيرَ الصوابِ متعمِّداً، والمُخْطِىءُ مَنْ يفعلُه غيرض متعمِّدٍ.
(14/79)
---(1/5570)
وقرأ الزُّهريُّ والعَتكِيُّ وطلحة والحسن "الخاطِيُون" بياءٍ مضمومةٍ بدلَ الهمزة. وقد تقدَّم مثلُه في "مُسْتَهْزِيُون" أولَ هذا الموضع. وقرأ نافعٌ في روايةٍ، وشيخُه وشَيْبَةُ بطاءٍ مضمومةٍ دونَ همزِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه كقراءةِ الجماعةِ، إلاَّ أنه خُفِّفَ بالحَذْفِ. والثاني: أنه اسمُ فاعلِ مِن خطأ يخطو إذا اتَّبع خطواتِ غيرِه. فيكونُ مِنْ قولِه: {لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قاله الزمخشري، وقد مَرَّ في أول هذا الموضوع أنَّ نافعاً يَقْرأ "الصابِييْنَ" بدونِ همزٍ، وتقدَّم ما نَقَلَ الناسُ فيها، وعن ابن عباس: ما الخاطُون كلُّنا نَخْطُو. ورَوى عنه أبو الأسودِ الدؤليُّ: "ما الخاطُون"، إنما هو الخاطئُون وما الصابُون، إنما هو الصابِئُون".
* { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ }
وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}: قد تقدَّم مثلُه في آخرِ الواقعة، وأَشْبَعَتُ القولَ ثَمَّةَ إلاَّ أنَّه قيل ههنا: إنَّ "لا" نافيةٌ لفعلِ القسم، وكأنَّه قيل: لا أَحْتاجُ أَنْ أُقْسَمَ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مُسْتَغْنٍ عن القسمِ، ولو قيل به في الواقعة لكان حَسَناً.
* { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }
قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ}: هو جواب القسمِ.
* { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ }
قوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ }: معطوفٌ على الجوابِ فهو جواب. أَقْسَمَ على شيئين، أحدُهما مُثْبَتٌ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة.
(14/80)
---(1/5571)
قوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} انتصبَ "قليلاً" في الموضعَيْنِ نعتاً لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً. والناصب تُؤْمِنون وتَذَكَّرون، و "ما" مزيدةٌ / للتوكيدِ. وقال ابنُ عطيةَ: "ونُصِبَ "قليلاً" بفعلٍ مضمرٍ، يَدُلُّ عليه "تُؤْمِنون". وما يُحتمل أَنْ تكونَ نافيةً فيَنْتَفِيَ إيمانُهم البتةَ،ويُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً، ويتصفَ بالقَّلةِ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنَّهم قد صَدَّقوا بأشياءَ يسيرةٍ، لا تُغْني عنهم شيئاً؛ إذ كانوا يُصَدِّقون بأنَّ الخيرَ والصِّلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو حقٌّ وصوابٌ". قال الشيخ: "أمَّا قولُه: "قليلاً" نُصِبَ بفعلٍ إلى آخره فلا يَصِحُّ؛ لأن ذلك الفعلَ الدالَّ عليه "تُؤْمنون": إمَّا أن تكونَ "ما" نافيةً [أو مصدريةً] كما ذَهَب إليه. فإنْ كانَتْ نافيةً فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه "تُؤْمِنون" المنفيُّ بـ"ما" يكونُ منفيّاً، فيكون التقدير: ما تُؤْمِنون قليلاً ما تؤمنون، والفعلُ المنفيُّ بـ"ما" لا يجوزُ حَذْفُه ولا حَذْفُ "ما"، لا يجوز: "زيداً ما أَطْرِبُه" على تقدير: ما أضربُ زيداً ما أَضْرِبُه. وإنْ كانَتْ مصدريةً كانَتْ: إمَّا في موضع رفعٍ بـ"قليلاً" على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانُكم، ويبقى "قليلاً" لا يتقدَّمه مَا يَعْتمد عليه حتى يعملَ، ولا ناصبَ له، وإمَّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأً لا خبرَ له، لأنَّ ما قبلَه منصوبٌ".
قلت: لا يريدُ ابنُ عطيةَ بدلالةِ "تُؤْمنون" على الفعلِ المحذوفِ الدلالةَ المذكورةَ في بابِ الاشتغالِ، حتى يكونَ العاملُ الظاهر مفسِّراً للعاملِ المضمرِ، بل يريدُ مجرَّدَ الدلالةِ اللفظيةِ، فليس ما أوردَه الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقولِه: "زيداً ما أَضْرِبُه" أي: ما أضربُ زيداً ما أضربه بواردٍ.
(14/81)
---(1/5572)
وأمَّا الردُّ الثاني فظاهرٌ. وقد تقدَّم لابنِ عطيةَ هذا القولُ في أول سورةِ الأعراف وتكلَّمْتُ معه ثَمَّة. وقال الزمشخريُّ: "والقلَّةُ في معنى العَدَمِ أي: لا تُؤْمنون ولا تَذَكَّرون البتة". قال الشيخ: "ولا يُرادُ بـ"قليلاً" هنا النفيُ المَحْض، كما زعم، وذلك لا يكونُ إلاَّ في "أقَلَّ" نحو: "أقَلُّ رجلٍ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ" وفي "قَلَّ" نحو: "قَلَّ رجلٌ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ" وقد يُستعمل في قليل وقليلة، أمَّا إذا كانا مرفوعَيْنِ، نحوُ ما جَوَّزوا في قولِه:
4323............................ * قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
أمَّا إذا كان منصوباً نحو: "قليلاً ضَرَبْتُ" أو "قليلاً ما ضَرَبْتُ" على أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً فإنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه في "قليلاً ضربْتُ" منصوبٌ بـ"ضربْتُ". ولم تَستعمل العربُ "قليلاً" إذا انتصَبَ بالفعلِ نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأمَّا في "قليلاً ما ضربْتُ" على أَنْ تكونَ "ما" مصدرية فتحتاج إلى رفع "قليل" لأنَّ "ما" المصدريةَ في موضعِ رفع على الابتداء" انتهى ما رَدَّ به، وهو مجردُ دَعْوى.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغَيْبة في "يؤمنون" و "يَذَّكَّرون" حَمْلاً على قولِه: "الخاطِئون"، والباقون بالخطاب حَمْلاً على "بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون". وأُبَيٌّ "تتذكَّرون" بتاءين.
* { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {تَنزِيلٌ}: هذه قراءةُ العامَّة، أعني الرفعَ على إضمارِ مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ، وتقدَّم مثلُه. وأبو السَّمَّال "تَنْزيلاً" بالنصبِ على إضمارِ فعل أي: نَزَّل تنزيلاً.
* { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ }
(14/82)
---(1/5573)
قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ}: هذه قراءةُ العامَّةِ. تَفَعَّل من القولِ مبنيّاً للفاعلِ. وقال الزمخشري: "التقوُّلُ افعتالُ القولِ؛ أن فيه تكلُّفاً من المُفْتَعِل". وقرأ بعضُهم "تُقُوِّل" مبنياً للمفعول. فإن كان هذا القارىءُ رفع "بعضُ الأقاويل" فذاك، وإلاَّ فالقائمُ مَامَ الفاعلِ الجارُّ، وهذا عند مَنْ يرى قيامَ غيرِ المفعول به مع وجودِه. وقرأ ذكوان وابنه محمد "يقولُ" مضارعُ "قال". والأقاويلُ: جمعُ أقوالٍ، وأقوالٌ جمع قَوْل، فهو نظير "أبابيت" جمعُ أَبْيات جمعُ بَيْت. وقال الزمخشري "وسَمَّى الأقوالَ المتقوَّلةَ أقاويلَ تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: أعاجيب، وأضاحيك، كأنها جمع أُفْعُولة من القَوْل".
* { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ }
قوله: {بِالْيَمِينِ}: يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ على أصلِها غيرَ مزيدةٍ والمعنى: لأَخَذْناه بقوةٍ مِنَّا، فالباءُ حاليةٌ، والحالُ من الفاعلِ، وتكون في حكم الزائدةِ. واليمينُ هنا مَجازٌ عن القوةِ والغَلَبة، وأَنْ تكونَ مزيدةً، والمعنى: لأَخَذْنا منه يمينَه، والمرادُ باليمين الجارِحَةُ، كما يُفْعَلُ بالمقتول صَبْراً يُؤْخَذُ بيميِنه، ويُضرب بالسيفِ في جيده مواجهةً، وهو أشَدُّ عليه. والوتينُ نِياطُ القلبِ، إذا انقطعَ ماتَ صاحبُه. وقال الكلبي: "هو عِرْقٌ بين العِلْباء والحُلْقوم، وهما عِلْباوان، بينهما العِرْقُ، والعِلْباءُ: / عَصَبُ العُنُق". وقيل: عِرْقٌ غليظٌ تصادِفُه شَفْرة الناحِرِ. قال الشمّاخ:
4324 - إذا بَلَّغْتِني وحَملْتِ رَحْلِي * عَرابةَ فاشْرَقي بدم الوتينِ
* { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
(14/83)
---(1/5574)
قوله: {حَاجِزِينَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ لـ"أحد" على اللفظِ، وإنما جُمع على المعنى؛ لأنَّ "أحداً" يَعُمُّ في سياقِ النفي كسائرِ النكراتِ الواقعة في سياقِ النفي، قاله الزمخشريُّ والحوفيُّ، وعلى هذا فيكون "منكم" خبراً للمبتدأ، والمبتدأ "مِنْ أحدٍ" زِيْدَتْ فيه "مِنْ" لوجود شرطَيْها. وضَعَّفه الشيخُ: بأنَّ النفيَ يتسَلَّطُ على كَيْنونتِه منكم، والمعنى إنما هو على نفي الحَجْزِ عَمَّا يُراد به. والثاني: أَنْ يكونَ خبراً لـ"ما" الحجازية و "مِنْ أحد" اسمُها، وإنما جُمعَ الخبرُ لِما تقدَّم، و "منكم" على هذا حالٌ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ لـ"أحد" أو يتعلَّقُ بـ"حاجِزين". ولا يَضُرُّ ذلك؛ لكونِ معمولِ الخبرِ جارّاً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع. لا يجوز: "ما طعامَك زيدٌ آكلاً" أو يتعلَّقُ بمحذوفٍ على سبيل البيان. و "عنه" متعلِّقٌ بـ"حاجزين" على القولَيْن، والضميرُ للمتقوِّلِ أو للقَتْلِ المدلولِ عليه بقولِه: "لأَخَذْنا"، "لَقَطَعْنا".
* { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }
قوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ}: أي: القرآن، وكذلك "إنه لحَسْرة". وقيل: إنَّ التكذيبَ به، لدلالةِ "مكذِّبين" على المصدرِ دلالةَ السَّفيه عليه في قولِه:
4325 - إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه * وحالفَ والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي إلى السَّفَهِ.(1/5575)
سورة المعارج
* { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }
قوله: {سَأَلَ}: قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ. والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ، وهي الأصلُ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. ثم لك في "سأل" وجهان أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء، كما تقول: دعوت بكذا. والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ. والثاني: أَنْ يكونَ على أصلِه. والباءُ بمعنى عن، كقوله:
4326 - فإن تَسْألوني بالنساء......... * .....................
(14/84)
"فأسْأل بن خبيرا"، وقد تقدَّم تحقيقُه. والولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه.
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ. والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم. الثاني: أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال الزمخشري: "وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما يتسايلان". قال الشيخ: "وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله: "إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ {وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه} إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ "سال" التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك "وسَالوا اللهَ" مثلَ "خافوا"، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ "وهما يتسايَلان" بالياء، وهو وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُؤال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ: "هما يتساولان". الثالث: أنَّها مِنْ السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس "سالَ سَيْلٌ". قال الزمخشريُّ: "والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر. والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ" انتهى. والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال:
4327 - سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً * ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
(14/85)
---(1/5576)
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله "سال سالٌ" مثلَ "مال" وتخريجُها: أنَّ الأصلَ "سائلٌ" فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل: "هذا شاكٌ" في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة، / فعليك باعتبارِه.
والباءُ تتعلَّق بـ"سال" من السَّيَلان تعلُّقَها بـ"سال الماءُ بزيدٍ". وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال، كأنه قيل: ما سؤالُهم؟ فقيل: سؤالُهم بعذابٍ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين، ولم يَعْتَرِضْه. وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً "إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال" يُنافي تقديرَه بقولِه: "سؤالُهم بعذاب"؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ، لا بالسؤال.
وقال الزمخشري: "وعن قتادةَ: سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ، و "سأَل" على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ".
* { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ }
قوله: {لِلْكَافِرِينَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بـ"سأل" مضمَّناً معنى "دَعا" كما تقدَّم، أي: دعا لهم بعذابٍ واقع. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بـ"واقعٍ" واللامُ للعلةِ، أي: نازلٌ لأجلِهم. الثالث: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ثانيةً لـ"عذابٍ"، أي: كائنٍ للكافرين. الرابع: أَنْ يكونَ جواباً للسائلِ، فيكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو للكافرين. الخامس: أَنْ تكونَ اللامُ بمعنى على، أي: واقعٍ على الكافرين، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ "على الكافرين"، وعلى هذا فهي متعلِّقةٌ بـ"واقعٍ" لا على الوجهِ الذي تقدَّم قبلَه.
(14/86)
---(1/5577)
وقال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: بم يتصِلُ قولُه "للكافرين"؟ قلت: هو على القولِ الأولِ متصلٌ بعذاب صفةً له، أي: بعذابٍ واقعٍ كائنٍ للكافرين، أو بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذابٍ واقعٍ، أو بواقع، أي: بعذابٍ نازلٍ لأَجْلِهم. وعلى الثاني: هو كلامٌ مبتدأٌ، جواباً للسائل، أي: هو للكافرين" انتهى.
قال الشيخ: "وقال الزمشخريُّ: "أو بالفعلِ، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني - وهو ثاني ما ذَكَرَ في توجيهِه للكافرين - قال: هو كلامٌ مبتدأٌ جواباً للسائلِ، أي: هو للكافرين. وكان قد قَرَّر أنَّ "سَأَلَ" ضُمِّن معنى "دعا" فعُدِّيَ تعديتَه، كأنه قال: دعا داعٍ بعذابٍ، مِنْ قولِك: دعا بكذا إذا استدعاه وطَلَبه، ومنه قولُه تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ} انتهى. فعلى ما قَرَّره أنه متعلِّقٌ بـ"دعا" يعني بـ"سأل"، فكيف يكونُ كلاماً مبتدأ جواباً للسائلِ، أي: هو للكافرين؟ هذا لا يَصِحُّ".
هذا كلامُ الشيخِ برُمَّتِه، وقد غَلِط على أبي القاسم في فَهْمِه عنه قولَه: "وعلى الثاني إلى آخره" فمِنْ ثَمَّ جاء التَّخْبيطُ الذي ذكرَه. والزمخشريُّ إنما عنى بالثاني قولَه: "وعن قتادةَ سأل سائلٌ عن عذابِ الله على مَنْ يَنْزِلُ وبمَنْ يقع، فنزلَتْ، وسأَلَ على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتم" فهذا هو الوجهُ الثاني المقابِلُ للوجهِ الأولِ: وهو أنَّ "سأَلَ" مضمَّنٌ معنى "دعا"، ولا أدري كيف تَخَبَّط على الشيخِ حتى وقع فيما وَقَعَ، ونَسَبَ الزمخشريَّ إلى الغَلَطِ، وأنه أخذ قولَ قتادةَ والحسنِ وأفسَده؟ والترتيبُ الذي رتَّبه الزمخشريُّ في تعلُّقِ اللامِ مِنْ أحسنِ ما يكونُ صناعةً ومعنى.
* { مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ }
(14/87)
---(1/5578)
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً آخر لـ"عذابٍ"، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والأولُ أظهرُ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ "عذاب" لتخصُّصه، إمَّا بالعملِ، وإمَّا بالصفة، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في "للكافرين" إنْ جَعَلْناه نعتاً لـ"عذابٍ".
وقال الشيخ: "والأجودُ أَنْ يكونَ "من الله" متعلقاً بـ"واقعٍ"، و "ليس له دافعٌ" جملةُ اعتراضٍ بين العاملِ ومعمولِه" انتهى. وهذا إنما يأتي على القولِ بأنَّ الجملةَ مستأنفةٌ، لا صفةٌ لـ"عذاب" وهو غيرُ الظاهرِ، كما تقدَّم لأَخْذِ الكلامِ بعضِه بحُجْزَةِ بعضٍ.
قوله: {ذِي} صفقةٌ لـ"الله". والعامَّةُ "تَعْرُج" بالتاء "منْ فوقُ. والكسائيُّ بالياءِ مِنْ تحتُ وهما كقراءتَيْ "فناداه الملائكةُ"، التاءِ، واسْتَضْعَفَها بعضهُم: من حيث إنَّ مَخْرَج الجيمَ بعيدٌ / مِنْ مَخْرَجِ التاءِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّها قريبةٌ من الشينِ؛ لأنَّ النَّفَس الذي في الشينِ يُقَرِّبُها مِنْ مَخْرَجِ التاءِ، الجيمُ تُدْغَمُ في الشين لِما بينهما من التقاربِ في المَخْرَجِ والصفةِ، كما تقدَّم في {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فَحُمِل الإِدغامُ في التاءِ على الإِدغامِ في الشينِ؛ لِما بينَ الشينِ والتاءِ من التقاربِ. وأُجيب أيضاً: بأنَّ الإِدغامَ يكونُ لمجرَّدِ الصفاتِ، وإنْ لم يتقارَبَا في المَخْرَجِ، والجيمُ تُشارِكُ التاءَ في الاستفالِ والانفتاحِ والشِّدَّةِ. وتقدَّم الكلامُ على المعارجِ في الزخرف.
* { تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }
(14/88)
---(1/5579)
قوله: {وَالرُّوحُ}: مِنْ بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، إنْ أُريد بالروح جبريلُ عليه السلام، أَو مَلَكٌ آخرُ مِنْ جِنسِهم، وأُخِّر هنا، وقُّدِّم في قولِه: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً} لأنَّ المَقَامَ هنا يَقْتَضي تَقَدَّمَ الجمع على الواحدِ من حيث إنه مَقامُ تَخْويفٍ وتهويلٍ. و "وكان مِقْدارُه" صفةٌ لـ"يومَ"، والجملةُ مِنْ "تَعْرُجُ" مستأنفةٌ.
قوله: {فِي يَوْمٍ} فيه وجهان، أظهرُهما: تَلُّقُه بـ"تُعْرُجُ". والثاني: أنه يتعلَّقُ بـ"دافعٌ" وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه "تَعْرُجُ الملائكةُ" معترضةٌ، والضميرُ في "إليه" الظاهرُ عَوْدُه على الله تعالى. قيل: يعودُ على المكانِ لدلالةِ الحالِ والسياقِ عليه. والضميرُ في "يَرَوْنه" و "نَراه" لليومِ إنْ أُريد به يومُ القيامة. وقيل: للعذاب.
* { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ }
(14/89)
---(1/5580)
قوله: {يَوْمَ تَكُونُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنَّه متعلِّقٌ بـ"قريباً"، وهذا - إذا كان الضميرُ في "نراه" للعذاب - ظاهرٌ. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه "واقع"، أي: يقعُ يومَ يكونُ. الثالث: [أن يتعلَّقَ" بمحذوفٍ مقدَّرٍ بعده، أي: يومَ يكونُ كان كيتَ وكيتَ. الرابع: أنه بدلٌ من الضميرِ في "نَراه" إذا كان عائداً على يومِ القيامة. الخامس: أنه بدلٌ مِنْ "في يومٍ" فيمَنْ عَلَّق بـ"واقع". قاله الزمخشريُّ. وإنما قال فيمَنْ عَلَّقَهُ بـ"واقع" لأنه إذا عُلِّق بـ"تَعْرُج" كما تقدَّم في أحدِ الوجَهْين استحال أَنْ يُبْدَلَ عنه هذا؛ لأنَّ عُروجَ الملائكةِ ليس هو في هذا اليومِ الذي تكونُ السماءُ فيه كالمُهْلِ والجِبالُ كالعِهْنِ، ويَشْتَغِلُ كلُّ حميمٍ عن حميمِه. قال الشيخ: "ولا يجوزُ هذا" يعني إبداله مِنْ "في يوم". قال: "لأنَّ في يوم" وإنْ كان في موضعِ نصبٍ لا يُبْدَلُ منه منصوبٌ؛ لأنَّ مثلَ هذا ليس بزائدٍ ولا محكومٍ له بحكمِ الزائدِ كـ"رُبَّ"، وإنما يجوزُ مراعاةُ الموضعِ في حرفِ الجرِّ الزائدِ كقولِه:
4328 - أبَني لُبَيْنَى لَسْتُما بِيَدٍ إلاَ يَداً ليسَتْ لها عَضُدُ
وكذلك لا يجوزُ "مَرَرْتُ بزيدٍ الخياطَ" على موضع "بزيدٍ" ولا "مَرَرْتُ بزيدٍ وعمراً" ولا "غَضِبْتُ على زيد وجعفراً" ولا "مَرَرْتُ بعمروٍ أخاك" على مراعاةِ الموضع". قلت: قد تقدَّم أنَّ قراءةَ {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} من هذا البابِ فيمَنْ نصبَ الأرجل فيكُنْ هذا مثلَه، وقد تقدَّم فلا نُعيده.
(14/90)
---(1/5581)
ثم قال الشيخ: "فإنْ قلتَ: الحركةُ في "يومَ تكون" حركةُ بناءٍ لا حركةُ إعرابٍ فهو مجرورٌ مثلُ "في يومٍ" قلت: لا يجوزُ بِناؤُه على مذهبِ البَصْريين؛ لأنه أُضيفَ إلى مُعْرَبٍ، لكنه يجوزُ على مذهب الكوفيين، فيتمشَّى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبِهم إنْ كان استَحْضَره وقَصَده". انتهى. قولُه: "إنْ كان اسْتَحْضره" فيه تحامُلٌ على الرجلِ. وأيُّ كبيرِ أَمرٍ في هذا حتى لا يَسْتَحْضِرَ مثلَ هذا؟ والتبجُّحُ بمثلِ هذا لا يليق ببعضِ الطلبةِ، فإنها من الخلافِيَّاتِ المشهورة شُهْرَةَ:
قِفا نَبَكِ............. * ............................
وتقدَّم الكلامُ على المُهْل في الدخان. وأمَّا العِهْنُ فقيل: الصوفُ مطلقاً. وقيل: بقَيْدِ كونِه أحمر. وقيل: بِقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً. وقيل: بقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً ألواناً، وهذا أَلْيَقُ بالتشبيه؛ لأنَّ الجبالَ متلوِّنةٌ، كما قال تعالى: {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ}
* { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ }
قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ}: قرأ العامَّةُ "يَسْأَلُ" مبنياً للفاعل. والمفعولُ الثاني محذوفٌ فقيل: تقديرُه لا يَسْلُه نَصْرَهُ ولا شفاعتَه لعِلْمِه أنَّ ذلك مفقودٌ. وقيل: لا يَسْأله شيئاً مِنْ حَمْل أَوْزارِه. وقيل: "حميماً" منصوبٌ على إسقاطِ الخافض، أي: عن حميمٍ لشَغْلِهِ عنه. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبةٌ وابنُ كثير في روايةٍ "يُسْأل" مبنياً للمفعول. فقيل: "حميماً" مفعولٌ ثانيٍ، لا على إسقاطِ حرفٍ، والمعنى: لا يُسألُ إحضارَه. وقيل: بل هو على إسقاطِ "عن"، أي: عن حميم.
* { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ }
(14/91)
---(1/5582)
قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ}: عُدِّي بالتضعيفِ إلى ثانٍ وقام الأولُ مَقامَ الفاعلِ. وفي محلِّ هذه الجملةِ وجهان، / أحدُهما: أنَّها في موضعِ الصفةِ لحَميم. والثاني: انها مستأنفةٌ. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما موقعُ "يُبَصَّرُونْهم"؟ قلت: هو كلامٌ مستأنفٌ، كأنَّه لَمَّا قال: لا يَسْأل حَميمٌ حَميماً قيل: لعلَّه لا يُبَصَّرُه. فقيل: يُبَصَّرُونهم". ثم قال: "ويجوزُ أَنْ يكونَ "يُبَصَّرُونهم" صفةً، أي: حميماً مُبَصَّرين مُعَرِّفين إياهم" انتهى. وإنما جُمِع الضميران في "يُبَصَّرُونهم" وهما للحميمَيْن حَمْلاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياقِ نَفْي. وقرأ قتادة "يُبْصِرُونهم" مبنياً للفاعل مِنْ أَبْصَرَ، أي: يُبْصِرُ المؤمنُ الكافرَ في النار. وتقدَّمَتْ القراءةُ في "يومئذٍ" فتحاً وجَرَّاً في هود. والعامَّةُ على ضافة "عذاب" لـ"يَوْمِئذ"، وأبو حيوةَ بتنوينِ العذاب، ونَصْبِ "يَوْمئذٍ" على الظرف. وقال الشيخ هنا: "الجمهورُ بكسرِها، أي: ميم يومِئذ، والأعرج وأبو حيوة بفتحِها" انتهى. وقد تقدَّم أنَّ الفتح قراءةُ نافعٍ والكسائيِّ.
* { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}
* {وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ }
(14/92)
---(1/5583)
قوله: {وَفَصِيلَتِهِ}: قال ثعلب: "الفَصيلةُ: الآباء الأَدْنَوْن". وقال أبو عبيدة: "الفَخِذُ". وقيل: عشيرتُه الأقربون. وقد تقدَّم ذِكْر ذلك عند قولِه: {شُعُوباً وَقَبَآئِلَ}. و "تُؤْويه" لم يُبْدِلْه السوسيُّ عن أبي عمروٍ قالوا: لأنَّه يُؤَدِّي إلى لفظٍ هو أثقلُ منه، والإِبدالُ للتخفيفِ. وقرأ الزُّهريُّ "تُؤْوِيْهُ" و "تُنْجِيْهُ" بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وهو الأصلُ و "ثم يُنْجِيه" عطفٌ على "يَفْتدي" فهو داخِلٌ في حَيِّز "لو" وتقدَّمَ الكلامُ فيها: هل هي مصدريةٌ أم شريطةٌ في الماضي؟ ومفعولُ "يَوَدُّ" محذوفٌ، أي: يَوَدُّ النجاةَ. وقيل: إنها هنا بمعنى "إنْ"، وليس بشيءٍ. وفاعلُ "يُنْجِيه": إمَّا ضميرُ الافتداءِ الدالُّ عليه "يَفْتدي"، أو ضميرُ مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم، وهو قولُه {وَمَن فِي الأَرْضِ}. و "مَنْ [في الأرض]" مجرورٌ عطفاً على "بنيه" وما بعدَه، أي: يَوَدُّ الافتداءَ بـ{مَن في الأرض" أيضاً. و "جميعاً" إمَّا حالٌ، وإمَّا تأكيدٌ، ووُحِّد باعتبارِ اللفظِ. و "كَلاَّ" رَدْعٌ وزَجْرٌ عن اعتقادِ ذلك.
* { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى }
(14/93)
---(1/5584)
قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً}: في الضميرِ ثلاثةُ أوجُهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ النار، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالةِ لفظِ "عذاب" عليها. والثاني: أنه ضميرُ القصةِ. الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يُتَرْجِمُ عنه الخبرُ، قاله الزمخشري. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}. فعلى الأولِ يجوزُ في {لَظَى نَزَّاعَةً} أوجهٌ: أَنْ يكونَ "لَظى" خبرَ "إنَّ"، أي: إنَّ النارَ لَظى، و "نَزَّاعةٌ" خبرٌ ثانٍ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نَزَّاعةٌ، أو يكونُ "لَظَى" بدلاً من الضميرِ المنصوبِ، و "نَزَّاعةٌ" خبرُ إنَّ، وعلى الثاني يكونُ "لَظى نَزَّاعةٌ" جملةً من مبتدأ وخبرٍ، في محلِّ الرفعِ خبراً لـ"إنَّ" مفسِّرةً لضمير القصة، وكذا على الوجهِ الثالثِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ "نَزَّاعة" صفةً لـ"لَظى" إذا لم تجعَلْها عَلَماً؛ بل بمعنى اللَّهَبِ، وإنما أُنِّث النعتُ فقيل: "نَزَّاعةٌ" لأنَّ اللهَبَ بمعنى النار، قاله الزمخشريُّ وفيه نظرٌ لأنَّ "لظى" ممنوعةٌ من الصَّرْفِ اتفاقاً.
قال الشيخ بعد حكايته الثالثَ عن الزمخشري: "ولا أدري ما هذا المضمرُ الذي تَرْجَمَ عنه الخبرُ؟ وليس هذا من المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المفردُ الضميرَ، ولولا أنه ذَكَرَ بعد هذا "أو ضمير القصة" لَحَمَلْتُ كلامَه عليه". قلت: متى جعله ضميراً مُبْهماً لَزِمَ أنَنْ يكونَ مفسَّراً بمفرد، وهو إمَّا "لظى"، على أَنْ يكونَ "نزاعةٌ" خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وإمَّا "نزاعةٌ" على أَنْ يكونَ "لظى" بدلاً من الضميرِ، وهذا أقربُ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "لظى نَزَّاعةٌ" مبتدأ وخبراً، والجملةُ خبرٌ لـ"إنَّ" على أَنْ يكونَ الضميرُ مبهماً لئلا يَتَّحِدَ القولان، أعني هذا القولَ وقولَ إنها ضميرُ القصة، ولم يُعْهَدُ ضميرٌ مُفَسَّرٌ بجملةٍ إلاَّ ضميرُ الشأنِ والقصةِ.
(14/94)
---(1/5585)
وقراءةُ الرفعِ في "نَزَّاعَةٌ" هي قراءةُ العامَّةِ. وقرأ حفص وأبو حيوة والزعفَرانيُّ واليزيديُّ وابنُ مقسم "نَزَّاعَةً" بالنصب. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ ينتصبَ على الحالِ. وفي صاحبِها أوجهٌ، أحدُهما: أنه الضميرُ المُسْتَكِنُّ في "لَظَى" لأنَّها، وإنْ كانَتْ عَلَماً، فهي جارِيَةٌ مَجْرَى المشتقات كالحارثِ والعَبَّاس، وذلك لأنها بمعنى التَّلَظِّي"، وإذا عَمِلَ العَلَمُ الصريحُ والكُنْيَةُ في الظروف فلأَنْ يعملَ العَلَمُ الجاري مَجْرى المشتقاتِ في الأحوالِ أَوْلَى وأَحْرى. ومِنْ مجيء ذلك قولُه:
4330 - أناأبو المِنْهالِ بعضَ الأَحْيانْ
ضَمَّنه معنى "أنا المشهورُ في بعض الأحيان". الثاني: أنه فاعلُ "تَدْعو" وقُدِّمَتْ حالُه عليه، أي: تدعو / حالَ كونِها نَزَّاعةً. ويجوز أَنْ تكونَ هذه الحالُ مؤكِّدةً، لأنَّ "لظى" هذا شأنُها، وهو معروفٌ مِنْ أمرِها، وأَنْ تكونَ منتقِلَةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيٌّ. الثالث: أنه محذوفٌ هو والعاملُ، تقديرُه: تتلَظَّى نَزَّاعَةً. ودَلَّ عليه "لَظَى".
الثاني من الوجهَيْن الأَوَّلَيْن: أنَّها منصوبةٌ على الاختصاصِ. وعَبَّر عنه الزمخشريُّ بالتَّهْويل، كما عَبَّر عن وجهِ رَفْعِها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والتقدير: أعني نَزَّاعةً، وأخصُّها. وقد مَنَعَ المبِّردُ نصبَ "نَزَّاعة" قال: "لأنَّ الحالَ إنما يكونُ فيما يجوزُ أَنْ يكونَ وأَنْ لا يكونَ، و "لَظى" لا تكونُ إلاَّ نَزَّاعةً، قاله عند مكي، ورَدَّ عليه بقولِه تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}، {وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} قال: "فالحقُّ لا يكونُ إلاّ مصدِّقاً، وصراطُ ربِّكَ لا يكونُ إلاَّ مُسْتقيماً". قلت: المبردُ بنى الأمرَس على الحالِ المبيِّنة، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وَرَدَتِ الحالُ مؤكِّدةً، كما أورده مكيٌّ وإنْ كان خلافَ الأصلِ.
(14/95)
---(1/5586)
واللَّظى في الأصل: اللَّهَبُ. ونُقل عَلَماً لجهنمَ، ولذلك مُنِعَ من الصَّرْفِ. ولشَّوَى: الأطرافُ جمع شَواة كنَوى ونَواة. وقيل: الشَّوى: الأعضاءُ التي ليسَتْ بمَقْتَل، ومنه: رماه فأَشْواه، أي: لم يُصِبْ مَقْتَلَه. وقيل: الشَّوى: جمعُ شَواة، وهي جِلْدَةُ الرأس، وأُنْشد للأعشى:
قالت قُتَيْلَةُ مالَهُ * قد جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ
وقيل: هو جِلْدُ الإِنسانِ. والشَّورى أيضاً: رُذالُ المالِ، والشيءُ اليسيرُ. و "تَدْعُو" يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لإِنَّ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو حالٌ من "لَظى"، أو مِنْ "نَزَّاعة" على القراءَتَيْن فيها؛ لأنها تتحمَّلُ ضميراً.
* { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً }
قوله: {هَلُوعاً}: حالٌ مقدرةٌ. والهَلَعُ مُفَسَّر بما بعده، وهو قولُه: "إذا" و "إذا" قال ثعلب: "سألني محمد بنُ عبدالله ابن طاهر ما الهَلَعُ؟ فقلت: قد فسَّره اللهُ، ولا يكون أَبْيَنَ مِنْ تفسيرِه، وهو الذي إذا نالَه شرٌ أظهرَ شِدَّةَ الجَزَعِ، وإذا ناله خيرٌ بَخِلَ به ومَنَعَه الناس" انتهى. وأصلُه في اللغةِ - على ما قال أبو عبيدة - أَشَدُّ الحِرْصِ وأسْوَأُ الجَزَع. وقيل: هو الفَزَعُ والاضطرابُ السريعُ عند مَسِّ المكروهِ، والمَنعُ السريعُ عند مَسِّ الخيرِ، مِنْ قولِهم: ناقةٌ هِلْواع، أي: سريعةُ السَّيْرِ.
* { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً}
* {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً }
(14/96)
---(1/5587)
قوله: {جَزُوعاً}: و "مَنوعاً" فيهما ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في "هلُوعا" وهو العاملُ فيهما، والتقدير: هَلُوعاً حالَ كونِه جَزثوعاً وقتَ مَسِّ الشرِّ، ومنوعاً وقتَ مسِّ الخيرِ. والظرفان معمولان لهاتَيْنِ الحالَيْنِ. وعَبَّر أبو البقاء عن هذا الوجهِ بعبارةٍ مُوْهِمَةٍ. وهو يريدُ ما ذكَرْتُه فقال: "جَزوعاً حالٌ أخرى، والعاملُ فيها هَلُوعاً. فقولُه: "أخرى" يُوهم أنها حالٌ ثانية وليسَتْ متداخِلَةً، لولا قولُه: "والعاملُ فيها هَلُوعا". الثاني: أَنْ يكونا خبَرَيْن لـ كان - أو صار - ضمرمةً، أي: إذا مَسَّه الشرُّ كان - و صار - جزوعا، وإذا مَسَّه الخيرُ كان - أو صار - منوعاً قاله مكي. وعلى هذا فإذا شرطيةٌ، وعلى الأولِ ظرفٌ مَحْضٌ، العاملُ فيه ما بعدَه، كما تقدَّم. الثالث: أنهما نعتٌ لـ"هَلُوعا" قاله مكي. إلاَّ أنَّه قال: "وفيه بُعْدٌ؛ لأنك تَنْوي به التقديمَ قبل "إذا" انتهى. وهذا الاستبعادُ ليس بشيءٍ، فإنه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرفِ على عاملِه، وإنما المحذورُ تقديمُ معمولِ النعتِ على المنعوتِ.
* { إِلاَّ الْمُصَلِّينَ }
قوله: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}: استثناءٌ من "الإِنسان" إذ المرادُ به الجنسُ. ومثلُه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} وقرأ حفص: "بشهاداتِهم" جمعاً، اعتباراً بتعدُّدِ الأنواعِ والباقون. بالإِفرادِ، إذ المرادُ الجنسُ.
* { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ }
(14/97)
---(1/5588)
قوله: {عِزِينَ}: حالٌ من "للذين كفروا" وقيل: حالٌ من الضمير في "مُهْطِعين"، فتكون حالاً متداخلةً و "عن اليمين" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"عِزين" لأنه بمعنى متفرِّقين، قاله أبو البقاء، وأَنْ يتعلَّقَ بـ"عِزين" لأنه بمعنى متفرِّقين، قاله أبو البقاء، وأَنْ يتعلَّقُ بمُهْطِعين، أي: مُسْرِعِين عن هاتَيْن الجهتَين، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي: كائنين عن اليمين، قاله أبو البقاء. وعِزيْن جمعُ "عِزَة" والعِزَةُ: الجماعة، قال مكي: "وإنما جُمِع بالواوِ / والنونِ لأنه مؤنثٌ لا يَعْقِلُ؛ لكونَ ذلك عِوَضاً مِمَّا حُذِفَ منه. قيل: إنَّ أصلَه عِزْهَة، كما أنَّ أصلَ سَنَةَ سَنْهَة ثم حُذِفَتِ الهاءُ" انتهى. قوله: "لا يَعْقِلُ" سهوٌ لأنَّ الاعتبارَ بالمدلولِ، ومدلولُه بلا شك عقلاءُ.
واختلفوا في لام "عِزَة" على ثلاثةِ أقوالٍ، أحدُها: أنَّها واوٌ مِنْ عَزَوْتُه أَعْزُوْه، أي: نَسَبْتُه؛ وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوبِ إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم:ٌ بعضُها إلى بعضٍ. الثاني: أنَّها ياءٌ، إذ يُقال: عَزَيْتُه بالياء، أَعْزِيْهِ بمعنى: عَزَوْته، فعلى هذا في لامِها لغتان، الثالث: أنها هاءٌ، ويُجْمَعُ تكسيراً على عِزَىً نحو: كِسْرة وكِسَر، واسْتُغْنِي بهذا التكسيرِ عن جمعِها بالألفِ والتاءِ، فلم يقولوا: عِزات كما لم يقولوا في شَفَة وأَمَة: شِفات ولا إمات استغناءً بشِفاهٍ وإماءٍ، وقد كَثُرَ ورودُه مجموعاً بالواوِ والنون. قال الراعي:
4332 - أخليفةَ الرحمنِ إنَّ عَشيرتي * أَمسَوْا سَوامُهُمُ عِزِيْنَ فُلُوْلا
وقال الكميت:
4333 - ونحن وجَنْدَلٌ باغٍ تَرَكْنا * كتائبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِيْنا
وقال عنترة:
4334 - وقِرنٍ قد تَرَكْتُ لِذي وَلِيٍّ * عليه الطيرُ كالعُصَبِ العِزِيْن
وقال آخر:
4335 - ترانا عنده والليلُ داجٍ * على أبوابِه حِلَقاً عِزِيْنا
وقال آخر:
(14/98)
---(1/5589)
4336 - فلما أَنْ أَتَيْنَ على أُضاخٍ * تَرَكْنَ حَصاه أَشْتاتاً عِزينا
والعِزَةُ لغة/ الجماعةُ في تَفْرِقَةً. هذا قولُ أبي عبيدة. وقال الأصمعيُّ: "العِزُون: الأصناف. يقال: في الدار عِزُون، أي: أصناف" وقال غيرُه: الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثةِ والأربعةِ. وقال الراغب: "وقيل: هو مِنْ قولِهم: عَزِيَ عَزاءً فهو عَزٍّ إذا صَبَرَ، وتَعَزَّى: تَصَبَّر، فكأنها اسمٌ للجماعة التي يتأسَّى بعضُهم ببعض.
* { أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ }
قوله: {أَن يُدْخَلَ}: العامَّةُ على بنائِه للمفعول. وزيدُ بن علي والحسن وابن يعمر وأبو رجاء وعاصمٌ - في روايةٍ - على بنائِه ففاعل.
* { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ }
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}: قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقرأ جماعة "فلأُقْسِمُ" دون ألفٍ. والعامَّةُ على جمعِ المَشارق والمغارب، والجحدريُّ وابنُ محيصن بإفرادِهِما.
و "إنَّا لَقادِرون" جوابُ القسمِ. وقرأ العامَّةُ "يُلاقُوا"، وأبو جعفر وابن محيصن "يَلْقَوْا" مضارع لَقِيَ.
* { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }
قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "يَوْمَهم" أو منصوباً بإضمار أَعني. ويجوزُ - على رَأْيِ الكوفيين - أن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ، وبُنِي على الفتحِ، وإنْ أُضيفَ إلى مُعْربٍ، أي: هو يومَ يَخْرُجون، كقولِه: {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} وقد مَرَّ الكلامُ فيه مُشْبعاً. والعامَّةُ على بناءِ "يَخْرُجون" للفاعلِ، ورُوي عن عاصمٍ بناؤُه للمفعولِ.
قوله: {سِرَاعاً} حالٌ مِنْ فاعل "يَخْرُجون" جمعَ سريع كظِراف في ظَريف. و "كأنَّهم" حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ فتكونُ متداخلةً.
(14/99)
---(1/5590)
قوله: {إِلَى نُصُبٍ} متعلِّقٌ بالخبرِ. والعامَّةُ على "نَصْبٍ" بالفتح والإِسكان، وابنُ عامر وحفصٌ بضمتين، وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتَيْن، والحسنُ وقتادةُ بضمةٍ وسكون. فالأُولى هو اسمٌ مفردٌ بمعنى العَلَم المنصوبِ الذي يُسْرِع إليها عند وقوعِ الصيدِ فيها مخافةَ انفلاتِه". وأمَّا الثانيةُ فتحتمل ثلاثَة أوجهٍ. أحدها: / أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى الصَّنَمِ المنصوبِ للعبادة، وأنشد للأعشى:
4337 - وذا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّه * لعاقبةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
الثاني: أنه جمعُ نِصاب ككُتُب في كِتاب. الثالث: أنه جمعُ نَصْبٍ نحو: رَهْن في رُهُن، وسَقْف في سُقُف، وهذا قولُ أبي الحسن. وجَمْعُ الجمعِ أَنْصاب. وأمَّا الثالثةُ فَفَعَل بمعنى مَفْعلو، أي: مَنْصوب كالقَبَضِ والنَّقَضِ. والرابعةُ تخفيفٌ من الثانية
ويُوْفِضونَ، أي: يُسْرعون. وقيل: يَسْتَبْقون. وقيل: يَسْعَوْن وقيل: يَنْطَلقون. وهي متقاربَةٌ. وأنشد:
4338 - فوارِسُ ذُبْيانَ تحت الحَدِيْـ * ــدِ كالجِنِّ تُوْفِضُ مِنْ عَبْقَرِ
وقال آخر:
4339 - لأَنعتَنْ نَعامةً مِيفاضا * خَرْجاءَ [تَعْدُو] تَطْلُبُ الإِضاضا
أي مُسْرِعة.
* { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }
قوله: {خَاشِعَةً}: حالٌ: إمَّا مِنْ فاعلِ "يُوْفِضون"، وهو أقربُ أو مِنْ فاعل "يَخْرجُون"، وفيه بُعْدٌ منه، وفيه تعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدة وفيه الخلافُ. و "أبْصارُهم" فاعلٌ. وقراءةُ العامَّةِ على تنوينِ "ذِلَّةٌ" والابتداءُ بـ"ذلك اليومُ"، وخبرُه "الذي كانوا". وقرأ يعقوب والتمار بإضافة "ذِلَّةُ" إلى "ذلك" وجَرذِ "اليوم" لأنه صفةٌ لـ"ذلك". و "الذي" نعتٌ لـ"اليوم". و "تَرْهَقُهُم": يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل "يُوْفِضون"، أو "يَخْرُجون"، ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه.(1/5591)
سورة نوح
(14/100)
* { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله: {أَنْ أَنذِرْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بالإِنذار. وقال الزمخشري: "والمعنى: أَرْسَلْناه بأَنْ قُلْنا له: أَنْذِرْ أي: أَرْسَلْناه بالأمرِ بالإِنذار" انتهى. وهذا الذي قَدَّره حسنٌ جداً، وهو جوابٌ عن سؤالٍ قدَّمْتُه في هذا الموضوع: وهو أنَّ قولَهم: "إنَّ "أَنْ" المصدريةَ يجوزُ أَنْ تتوصَّلَ بالأمر" مُشْكِلٌ؛ لأنه يَنْسَبِكُ منها وممَّا بعدَها مصدرٌ، وحينئذٍ فتفوتُ الدلالةُ على الأمرِ. ألا ترى أنك إذا قَدَّرْت [في] كَتَبْتُ إليه بأَنْ قُمْ: كَتَبْتُ إليه القيامَ، تفوتُ الدلالةُ على الأمرِ حالَ التصريحِ بالأمر، فينبغي أَنْ يُقَدَّرَ - كما قاله الزمخشريُّ - أي: كتبتُ إليه بأَنْ قلتُ له: قُمْ، أي: كتبتُ إليه بالأمرِ بالقيام.
* { أَنِ اعبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ }
قوله: {أَنِ اعبُدُواْ}: إمَّا أَنْ تكونَ تفسيريةً لـ"نذير"، أو مصدريةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم في أختها
* { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ}: في "مِنْ" هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تبعيضيةٌ. والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثالث: أنها لبيان الجنسِ وهو مردودٌ لعَدَمِ تَقَدُّمِ ما تبيِّنُه. الرابع: أنها مزيدةٌ. قال ابن عطية: "وهو مذهبٌ كوفيٌّ" قلت: ليس مذهبُهم ذلك؛ لأنهم يَشْتَرطون تنكيرَ مَجْرورِها ولا يَشْترطون غيرَه. والأخفشُ لا يَشْترط شيئاً، فزيادتُها هنا ماشٍ على قولِه، لا على قولِهم.
(14/101)
---(1/5592)
قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ} قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف قال: "ويُؤَخِّرْكم" مع إخبارِه بامتناعِ تأخيرِه؟ قلت: قضى اللَّهُ أنَّ قوم نوحٍ إنْ آمنوا عَمَّرَهم ألفَ سنةٍ، وإن بَقُوا على كُفْرِهم أَهْلكهم على رأس تسعمِئة. فقيل لهم: إن آمنتم أُخِّرْتم إلى الأجلِ الأطولِ، ثم أخبرهم أنَّه إذا جاء ذلك الأجلُ الأمَدُّ لا يُؤَخَّرُ" انتهى. وقد تَعَلَّق بهذه الآيةِ مَنْ يقولُ بالأَجَلَيْنِ. وتقدَّم جوابُه. وقوله: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ أي لبادَرْتُمْ إلى ما أَمَرَكم به.
* { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوااْ أَصَابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً }
قوله: {لِتَغْفِرَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليل، والمدعُوَّ إليه محذوفٌ أي: دَعَوْتُهم للإِيمان بك لأجلِ مغفرتِك لهم، وأَنْ تكونَ لامُ التعديةِ ويكونُ قد عبَّر عن السببِ بالمُسَبَّبِ الذين هو جَعْلُهم. والأصلُ: دَعَوْتُهم للتَّوْبةِ التي هي سبَب في الغُفْران. و "جعلوا" هو العاملُ في "كلما" وهو خبر "إنِّي".
قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} ظرفان لـ"دَعَوْت" والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ الدعاءِ، و أنه / لا يَفْتُرُ عن ذلك. و "إلاَّ فِراراً" مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ.
* { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً }
(14/102)
---(1/5593)
قوله: {جِهَاراً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من المعنى؛ لأنَّ الدعاءَ يكونُ جهاراً وغيرَه، فهو من باب: قَعَدَ القُرْفُصاءَ، وأَنْ يكونَ المرادُ بـ"دَعَوْتُهم": جاهَرْتُهم، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: دعاءً جِهاراً، وأَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ أي: مُجاهِراً، أو ذا جِهار، أو جُعِل نفسَ المصدرِ مبالغةً. قال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: ذَكَرَ أنَّه دعاهم ليلاً ونهاراً، ثم داهم جِهاراً، ثم دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ فيجب أَنْ تكونَ ثلاثَ دَعَوات مختلفات حتى يَصِحَّ العطفُ، قلت: قد فَعَلَ عليه السلام كما يَفْعَلُ الذي يَأْمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكر في الابتداءِ بالأَهْوَنِ، والترقِّي في الأشَدِّ فالأشُدِّ، فافتتح في المناصحةِ بالسِّرِّ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَنَّى بالمجاهرة، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَلَّثَ بالجَمْعِ بين الإسرار والإِعلان. ومعنى "ث" الدلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ، لأنَ الجِهارَ أغلظُ من الإِسرارِ، والجمعُ بين الأمرَيْن أغلظُ مِنْ إفرادِ أحدِهما". قال الشيخ: "وتكرَّرَ كثيراً له أنَّ "ثُمَّ" للاستبعادِ ولا نَعْلَمُه لغيرِه". قلت: هذا القول بعدما سَمِعْتَ من ألفاظِ الزمخشريِّ تحامُلٌ عليه.
* { يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً }
قوله: {مِّدْرَاراً}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من "السماء"، ولم يؤنَّثْ لأنَّ مِفْعالاً لا يُؤَنَّثُ. تقول: امرأةٌ مئِنْاثٌ ومِذْكار، ولا يُؤَنَّثُ بالتاءِ إلاَّ نادراً، وحينئذٍ يَستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ فتقول: رجلٌ مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وامرأة مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إرسالاً مِدْراراً. وتقدَّم الكلامُ عليه في الأنعام.
* { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }
(14/103)
---(1/5594)
قوله: {وَقَاراً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به على معانٍ، منها: ما لكم لا تَأْمُلُوْنَ له تَوْقيراً أي: تعظيماً. قال الزمخشري: "والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيمَ اللَّهِ إياكم في دارِ الثواب؟ و "لله" بيانٌ للموَقَّرِ، ولو تأخَّر لكان صلةً" انتهى. أي: لو تأخِّر "لله" عن "وَقارا" لكان متعلِّقاً به، فيكونُ التوقيرُ منهم للَّهِ تعالى، وهو عكسُ المعنى الذي قصده. ومنها: لا تخافون للَّهِ حِلْماً وتَرءكَ معاجلةٍ بالعقابِ فتؤمنوا. ومنها: لا تخافون لله عظمةً. وعلى الأولِ يكون الرجاءُ على بابه، وقد تقدَّم أنَّ استعمالَه بمعنى الخوفِ مجازٌ أو مشتركٌ. وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعل "تَرْجُون" أي: موقِّرين اللَّهَ تعالى، أي تُعَظِّمونه، فـ"للَّهِ" متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "وَقارا"، أو تكون اللامُ زائدةً في المفعول به، وحَسَّنه هنا أمران: كوْنُ العاملِ فَرْعاً، وكونُ المعمولِ مقدَّماً، و "لا تَرْجُون" حالٌ وتقدَّم نظيرُه في المائدة.
* { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }
قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ}: جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ "تَرْجُون". والأَطْوارُ: الأحوالُ المختلفةُ. قال الشاعر:
4340 - فإنْ أفاقَ قد طارَتْ عَمَايَتُه * والمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْراً بعد أطوارِ
وانتصابُه على الحالِ أي: مُتَنَقِّلين من حالٍ إلى حالٍ، أو مختلِفين مِنْ بينِ مُسِيْءٍ ومُحْسِنٍ، وصالحٍ وطالحٍ.
* { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً }
قوله: {طِبَاقاً}: تقدَّم الكلامُ عليه في سورة المُلك. وقال مكي: "وأجاز الفراء في غيرِ القرآنِ جَرَّ "طباق" على النعت لـ"سموات"، يعني أنه يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للعددِ تارةً وللمعدودِ أخرى.
* { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }
(14/104)
---(1/5595)
قوله: {فِيهِنَّ}: أي: في السمواتِ، والقمرُ إنما هو في سماءٍ واحدةٍ منهنَّ. قيل: هو في السماءِ الدنيا، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأن بين السمواتِ ملابَسةً فصَحَّ ذلك. وتقولُ: "زيدٌ في المدينةِ" وإنما هو في زاويةٍ من زواياها.
وقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} يُحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: وجعل الشمسَ فيهِنَّ، كما تقدَّم. والشمس قيل: في الرابعةِ. وقيل: في الخامسةِ. وقيل: في الشتاءِ في الرابعة، وفي الصيف في السابعةِ. واللَّهُ أعلمُ: أيُّ ذلك صحيحٌ.
قوله: {نَبَاتاً}: إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً لـ أَنْبَتَ على حَذْفِ الزوائِد، ويُسَمَّى اسمَ / مصدرٍ، وإمَّا بـ"نَبَتُّمْ" مقدَّراً: أي: فَنَبَتُّمْ نباتاً فيكونُ منصوباً بالمُطاوِعِ المقدَّرِ. قال الزمخشري: "أو نُصِبَ بـ"أَنْبَتكم" لتضمُّنِه معنى ،َبَتُّمْ" قال الشيخ: "ولا أَعْقِلُ معنى هذا الوجهِ الثاني". قلت: هذا الوجهُ هو الذي قدَّمْتُه. وهو أنه منصوبٌ بـ"أَنْبَتكم" على حَذْفِ الزوائد. ومعنى قولِه: "لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ" أي: إنه مُشتملٌ عليه، غايةُ ما فيه أنه حُذِفت زوائدُه، والإِنباتُ هنا استعارةٌ بليغةٌ.
* { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }
قوله: {سُبُلاً فِجَاجاً} وفي الأنبياء تقدَّم الفِجاجُ لِتَناسُبِ الفواصِلِ هنا. وقد تقدَّم نَحْوٌ مِنْ هذا.
* { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً }
قوله: {وَوَلَدُهُ}: قد تقدَّم خِلافُ القُراء في "وَلَدِه" وتقدَّم أنهما لغتان كبُخْل وبَخَلَ. قال أبو حاتم: يمكن أَنْ يكنَ المضمومُ جمعَ المفتوحِ كخَشَبٍ وخُشْبِ. وأنشد لحسَّانَ رضي الله عنه:
4341 - يا بِكرَ آمنةَ المباركَ وِلْدُها * مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بسَعْدٍ الأَسْعُدِ
* { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً }
(14/105)
---(1/5596)
قوله: {وَمَكَرُواْ}: عطفٌ على صلةِ "مَنْ" وإنما جُمِعَ الضميرُ حَمْلاً على المعنى، بعد حَمْلِه على لفظِها في {لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ}، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً إخباراً عن الكفارِ.
قوله: {كُبَّاراً} العامَّةُ على ضَمِّ الكافِ وتشديدِ الباء، وهو بناءُ مبالغةٍ أبلغُ مِنْ "كُبار" بالضمِّ والتخفيف، قال عيسى: هي لغةٌ يمانيةٌ، وأنشد:
4342 - والمرءُ يُلْحِقُه بفِتيان النَّدى * خُلُقُ الكريمِ وليس بالوُضَّاء
وقول الآخر:
4343 - بَيْضاءُ تصطادُ القلوبَ وتَسْتَبي * بالحسنِ قلبَ المسلمِ القُرَّاء
يقال: رجلٌ طُوَّالٌ وحُمَّالٌ وحُسَّانٌ. وقرأ عيسى وأبو السمال وابن محيصن بالضمِّ والتخفيف، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً دونَ الأولِ، وقرأ زيدُ بنُ علي وابن محيصن أيضاً بكسر الكاف وتخفيفِ الباء. قال أبو بكر: وهو جمعُ "كبير"، كأنه جعل "مَكْراً" مكانَ "ذنوب" أو "أفاعيل" يعني فلذلك وصفَه بالجمع.
* { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }
قوله: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل: إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ، وأن لا يكونَ إنْ قيل: إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير. وقرأ نافع "وُدّاً" بضم الواوِ، والباقون بفتحها، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر:
4344 - حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا * لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر:
4354 - فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ * وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
(14/106)
---(1/5597)
قوله: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} قرأهما العامَّةُ بغير تنوين. فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة. وقرأ الأعمش: "ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً" مصورفَيْن. قال ابن عطية: "وذلك وهمٌ: لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل" انتهى.
وليس بوهمٍ لأمرَيْن، أحدهما: أنه صَرَفَهما للتناسُبِ، إذ قبله اسمان منصرفان، وبعده اسمٌ منصرفٌ، كما صُرِفَ "سلاسل". والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً. وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ.
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال: "جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق". قلت: وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ. أمَّا قولُه: "فَعُولاً" فليس بصحيحٍ، إذ مادةُ "يغث" و "يعق" مفقودةٌ. وأمَّا قولُه: "صفتان من الغَوْث والعَوْق" فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ "يَفْعُل" والصحيحُ ما قَدَّمْتُه. وقال الزمخشري: "وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما. لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ: وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً". قال الشيخ: "كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ".
* { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً }
قوله: {وَقَدْ أَضَلُّواْ}: أي الرؤساءُ أو الأصنام، / وجَمَعَهم جَمْعَ العقلاءِ معاملةً لهم معاملةً العقلاء.
(14/107)
---(1/5598)
قوله: {وَلاَ تَزِدِ} عطفٌ على قولِه: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ "قال" وبعد الواوِ النائبةِ عنه، أي: قال: إنهم عَصَوْني، وقال: لا تَزِدْ، أي: قال هذَيْن القولَيْن، فهما في محلِّ النصب، قاله الزمخشريُّ. قال: "كقولك: قال زيدٌ: نوديَ للصلاة وصَلِّ في المسجدِ، تحكي قولَيْه معطوفاً أحدُهما على صاحبِه". وقال الشيخ: "ولا تَزِدْ" معطوفٌ على "قد أَضَلُّوا" لأنها محكيَّةٌ بـ"قال" مضمرةً، ولا يُشْترط التناسُبُ في الجملِ المتعاطفةِ، بل تَعْطِفُ خبراً على طلبٍ، وبالعكس، خلافاً لمَنْ اشترطه.
* { مِّمَّا خَطِيائَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً }
قوله: {مِّمَّا خَطِيائَاتِهِمْ}: "ما" مزيدةٌ بين الجارِّ ومجرورِه توكيداً. ومَنْ لم يَرَ زيادتَها جَعَلها نكرةً، وجَعَلَ "خطيئاتِهم" بدلاً، وفيه تعسُّفٌ. وتقدَّم الخلافُ في قراءةِ "خَطِيْئاتِهم" في الأعراف. وقرأ أبو رجاء "خَطِيَّاتهم" جمعَ سلامةٍ، إلاَّ أنَّه أَدْغَمَ الياءَ في الياءِ المنقلبةِ عن الهمزةِ. والجحدريُّ - وتُرْوى عن أُبَيّ - "خطيئتِهم" بالإِفراد والهمز. وقرأ عبد الله "مِنْ خطيئاتِهم ما أُغْرِقوا" فجعلَ "ما" المزيدةَ بين الفعلِ وما يتعلَّق به. و "مِنْ" للسببيَّةِ تتعلَّقُ بـ"أُغْرِقوا". قال ابن عطية: "لابتداء الغاية"، وليس بواضح. وقرأ العامَّةُ "أُغرِقوا" مِنْ أَغْرق. وزيد بن علي "غُرِّقوا" بالتشديدِ، وكلاهما للنَّقْلِ. تقول: أغرَقْتُ زيداً في الماء، وغَرَّقْتُه فيه.
قوله: {فَأُدْخِلُواْ} يجوز أَنْ يكونَ من التعبيرِ عن المستقبلِ بالماضي، لتحقُِّ وقوعِه، نحو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وأَنْ يكونَ على بابِه، والمرادُ عَرْضُهم على النار في قبورِهم، كقولِه في آلِ فرعونَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}
(14/108)
---(1/5599)
* { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }
قوله: {دَيَّاراً}: قال الزمخشري: "دَيَّار من الأسماءِ المستعملةِ في النفيِ العامِّ. يقال: "ما بالدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ"، كقَيَّام وقَيُّوم. وهو فَيْعال من الدُّور أو مِنْ الدار. أصلُه دَيْوار ففُعِل به ما يُفْعَلُ بأصلِ سَيِّد ومَيَّت، ولو كان فَعَّالاً لكان دَوَّاراً" انتهى. يعني أنه كان ينبغي أَنْ تَصِحَّ واوُه ولا تُقْلَبَ ياءً. وهذا نظيرُ ما تقدَّم له من البحثِ في "متحيِّز"، وأنَّ أصلَه مُتَحَيْوِز مُتَفَيْعِل، لا مُتَفَعِّل، إذ كان يلزمُ أَنْ يكونَ مُتَحَوِّزاً، لأنه من الحَوْز. ويقال أيضاً. فيه دَوَّار نحو: قَيَّام وقَوَّام.
وقال مكي: "وأصلُه دَيْوار، ثم أَدْغَموا الواوَ في الياءِ مثلَ "مَيِّت" أصلُه مَيْوِت، ثم أَدْغموا الثاني في الأولِ. ويجوز أَنْ يكونَ أَبْدلوا من الواوِ ياءً، ثم أدغموا الياءَ الأولى في الثانية". قلت: قولُه: "أدغموا الثاني في الأول" هذا لا يجوزُ؛ إذ القاعدةُ المستقرةُ في المتقارَبَيْنِ قَلْبُ الأولِ للثاني، ولا يجوزُ العكسُ إلاَّ شذوذاً، أو لضرورةٍ صناعيةٍ. أمَّا الشذوذُ فكقراءةِ: {وَاذْكُر} بالذالِ المعجمةِ و {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} بالمعجمةِ أيضاً. وقد مَضَى تحقيقُه. وأمَّا الضرورةُ الصناعيةُ فنحو: "امدحْ هِلالاً" بقَلْبِ الهاءِ حاءً؛ لئلا يُدْغَمَ الأقوى في الأضعفِ، وهذا يَعْرِفُه مَنْ عانى التصريفَ.
* { رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }
(14/109)
---(1/5600)
قوله: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}: العامَّةُ على فتحِ الدال على أنه تثنيهُ "والِد" يريد أبوَيْه. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعي "ولوالِدِيْ" بكسر الدال يعني أباه، فيجوزُ أن يكونَ أرادَ أباه الأقربَ الذي وَلَدَه، وخصَّه بالذِّكْر لأنه أشرفُ من الأم، وأَنْ يريدَ جميعَ مَنْ وَلَدَه مِنْ لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى مَنْ وَلده. و "مؤمناً" حالٌ و "تَبارا" مفعولٌ ثانٍ، والاستثناءُ مفرغٌ. والتبار: الهَلاكُ، وأصلُه من التكسُّر والتفتُّتِ. وقد تقدَّم تحقيق ذلك وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ. /(1/5601)
سورة الجن
* { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوااْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }
قوله: {أُوحِيَ}: هذه قراءةُ العامةِ أعني كونَها مِنْ أَوْحَى رباعياً. وقرأ العَتكِيُّ عن أبي عمروٍ وابنُ أبي عبلة وأبو إياس "وُحِيَ" ثلاثياً، وهما لغتان، يقال: وحى إليه كذا، وأَوْحاه إليه بمعنى واحدٍ. وأُنْشِد للعجاج:
4346 - وَحَى لها القرارَ فاسْتَقَرَّت
(14/110)
وقرأ زيدُ بن علي والكسائيُّ في روايةٍ وابنُ أبي عبلةَ أيضاً "أُحِي" بهمزةٍ مضومة ولا واوَ بعدها. وخُرِّجَتْ على أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الواوِ المضمومةٍ نحو: "أُعِدَ" في "وُعِدَ" فهذه فَرْعُ قراءةِ "وُحِيَ" ثلاثياً. قال الزمخشري: "وهو من القَلْبِ المطلقِ جوازُه في كلِّ واوٍ مضمومةٍ، وقد أطلقَه المازنيُّ في المكسورةِ أيضاً كإشاح وإسادة و {عَآءِ أَخِيهِ}، قال الشيخ: "وليس كما ذَكَرَ، بل في ذلك تفصيلٌ. وذلك أنَّ الواوَ المضمومةَ قد تكونُ أولاً وحَشْواً وآخِراً، ولكلٍ منها أحكام. وفي بعضِ ذلك خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في النحو". قلت: قد تقدَّم القولُ في ذلك مُشْبَعاً في أولِ هذا الموضوعِ ولله الحمدُ. ثم قال الشيخ: - بعد أن حكى عنه ما قَدَّمْتُه عن المازني - "وهذا تكثيرٌ وتبجُّحٌ. وكان يَذْكُرُ ذلك في سورة يوسف عند قوله {وِعَآءِ أَخِيهِ}. وعن المازنيِّ في ذلك قولان، أحدُهما: القياسُ كما ذكر، والثاني: قَصْرُ ذلك على السَّماع". قلت: لم يَبْرَحِ العلماءُ يَذْكرون النظيرَ مع نظيرِه، ولَمَّا ذَكَرَ قَلْبَ الهمزةِ بأطِّرادٍ عند الجميعِ ذَكَرَ قَلْبَها بخلافٍ.
قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعل؛ لأنَّه هو المفعولُ الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَه الجارَّ والمجرورَ، فيكونَ هذا باقياً على نصبِه. والتقدير: أُوْحي إليَّ استماعَ نَفَرٍ. و "مِنْ الجنِّ" صفةٌ لـ"نَفَرٌ" ووَصْفُ القرآنِ بعَجَب: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا عَجَبٍ ، وأمَّا بمعنى اسم الفاعلِ، أي: مُعْجِب: و "يَهْدِي" صفةٌ أخرى.
* { يَهْدِيا إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً }
وقرأ العامَّةُ: {الرُّشْدِ}: بضمة وسكونٍ وابن عمر بضمِّها، وعنه أيضاً فَتْحُهما، وتَقَدَّم هذا في الأعراف.
(14/111)
---(1/5602)
* { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }
قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}: قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح "أنَّ" وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً، والباقون بالكسرة. وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ "وإنه لَمَّا قام" بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتحِ في قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} وتلخيص هذا: أن "أنَّ" المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه. على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةَ واقْتَضَتْه العربيةُ، كقولِه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ} لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول.
القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً، إحداها: لا خلاف في فتحِها وهي: قولُه تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} - وهذا هو القسم الثالث - والثانية: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرةَ الباقيةُ: فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه. والاثنتا عشرةَ هي قولُه: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} {وَأَنَّا لَمَسْنَا} {وَأَنَّا كُنَّا} {وَأَنَّا لاَ نَدْرِيا} {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك.
(14/112)
---(1/5603)
وقد اختلف الناسُ / في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: "هو معطوفٌ على مرفوعِ "أُوْحِيَ" فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه". وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه: مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ "أُوْحِي" ألا ترى أنه لو قيل: أوُحي إليّش أنَّا لَمَسْنا وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه. وقال مكي: "وعَطْفُ "أنَّ" على {آمَنَّا بِهِ} أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على "أنَّه استمعَ" لأنك لو عَطَفْتَ {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ} {وَأَنَّا لَمَسْنَا}، وشِبْهَ ذلك على "أنه استمع" لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي، إليه، إنما هو أمرٌ أو خبر، وأنه عن نفسهم، والكسرُ في هذا أَبْينُ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ.
الثاني: أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ "به" مِنْ "آمَنَّا به". قال الزمخشري: "كأنه قال: صَدَّقناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا، وكذلك البواقي"، إلاَّ انَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال: والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى "آمَنَّا به" وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّأ سَمِعوا الهدى آمنوا به، ولم يُخْبِروا أنهم كان رجالٌ، حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم، فالكسرُ أَوْلى بذلك" وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ.
وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ. إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: "فُتِحَتْ "أنَّ" لوقوع الإِيمانِ عليها، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ، فلا يُمْنَعُ من إمَائِهنَّ على الفتح، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ "أنَّ" نحو: صَدَقْنا وشَهِدْنا، كما قالت العربُ.
(14/113)(1/5604)
---
4347 - ....................... * وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
فنصَبَ "العيونَ" لإِتباعِها الحواجبَ، وهي لا تُزَجَّجُ. إنما تُكَحَّلُن فأضمر لها الكُحْلَ" انتهى. فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه. وقال الزجَّاج: "لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى "آمنَّا به"، لأنَّ معنى "آمَنَّا به" صَدَّقْناه وعَلِمْناه، فيكون المعنى: صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا".
الثالث: أنه معطوفٌ على الهاء به "به"، أي: آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا، وبأنه كان يقولُ، إلى آخره، وهو مذهب الكوفيين. وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً، قال رحمه الله: "وهو - يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ - في "أنَّ" أجوَدُ منه في غيرها، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع "أنَّ".
(14/114)
---(1/5605)
ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} فيكون الجميعَ معمولاً للقولِ، أي: فقالوا: إنَّا سَمِعْنا، وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه. وقال بعضُهم: الجملتان مِنْ قولِه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} معترضتان بين قولِ الجنِّ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم، قاله بعضُهم لبعضٍ. ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} ما تقدَّم. ووَجْهُ إجماعِهم على فتح {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} وجهان، أحدُهما: أنَّه معطوفٌ على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} فيكونُ مُوْحى أيضاً. والثاني: أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي، أي: فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ، ذكرهما أبو البقاء.
قال الزمخشري: "أنه استمع" بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ "أُوْحي" و {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ، ثم تحملُ عليهما البواقي، فما كان مِنَ الوحي فُتحَ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ / الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}. ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في {آمَنَّا بِهِ}، أي: صَدَّقْناه، وصَدَّقْنا أنه".
وقرأ العامَّةُ: {جَدُّ رَبِّنَا} بالفتح مضافاً لـ"رَبِّنا"، والمرادُ به هنا العظمةُ. ويل: قُدْرتُه وأمرُه. وقيل: ذِكْرُه. والجَدُّ أيضاً: الحَظُّ، ومنه قولُه عليه السلام: "ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِ منك الجَدُّ" والجَدُّ أيضاً: أبو الأبِ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر.
(14/115)
---(1/5606)
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ "رَبُّنا" وتنوينِ "جَدُّ" على أَنْ يكون "ربُّنا" بدلاً مِنْ "جَدُّ"، والجَدُّ: العظيم. كأنه قيل: وأنَّه تعالى عظيم ربُّنا، فأبدل المعرفة من النكرةِ، وعنه أيضاً "جَدَّاً" منصوباً منوَّناً، "رَبُّنا" مرفوعٌ. ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ "جَدَّاً" على التمييز، و "ورَبُّنا" فاعلٌ بـ"تعالى" وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ، إذ التقديرُ: تعالى جَدُّ رَبِّنا، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً، أي: عَظَمةً نحو: تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً، أي: عَرَقُ زيدٍ. وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم، وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، و "رَبُّنا" فاعلٌ بـ"تعالى" والتقدير: تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً،أي: حقاً لا باطلاً. والثاني: أنَّه مصنوبٌ على الحالِ، أي: تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية.
وقرأ حميد بن قيس "جُدُّ ربِّنا" بضم الجيم مضافاً لـ"ربِّنا" وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ: ربُّنا العظيمُ نحو: "جَرْدُ قَطِيفة" الأصل قطيفة جَرْدٌ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع "جَدَى رَبِّنا" بألفٍ بعد الدال مضافاً لـ"ربِّنا". والجَدى والجَدْوى: النَّفْعُ والعَطاء، أي: تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه.
والهاءُ في "أنَّه استمعَ" "وأنَّه تعالى" وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وما بعده خبرُ "أنَّ" وقوله {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه.
* { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً }
(14/116)
---(1/5607)
قوله: {سَفِيهُنَا}: يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ كان، "ويقول" الخبرُ، ولو كان مثلُ هذه الجملةِ غيرَ واقعةٍ خبراً لـ"كان" لامتنع تقديمَ حينئذٍ نحو: سفيهُنا يقول، لو قلت: "يقولُ سفيهُنا" على التقديمِ والتأخيرِ لم يَجُزْ. والفرقُ: أنه في غيرِ بابِ "كان" يُلْبَسُ بالفعلِ والفاعلِ، وفي باب "كان" يُؤْمَنُ ذلك. والثاني: أنَّ "سَفيهُنا" فاعلُ "يقولُ" والجملةُ خبرُ "كان" واسمُها ضميرُ الأمرِ مستترٌ فيها. وقد تقدَّم هذا في قولِه: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}. وقوله "شَطَطاً" تقدَّم مثلُه في الكهف.
* { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً }
قوله: {ظَنَنَّآ أَن لَّن}: مخففةٌ، واسمُها مضمرٌ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها، والفاصلُ هنا حَرْفُ النفيِ. و "كَذِباً" مفعولٌ به، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ. وقرأ الحسنُ والجحدريُّ وأبو عبد الرحمن ويعقوبُ "تَقَوَّلَ" بفتح القافِ والواوِ المشدَّدةِ، وهو مضارع "تَقوَّلَ"، أي: كَذَّب. والأصلُ تتَقَوَّل، فحذف إحدى التاءَيْن نحو: {تَذَكَّرُونَ} وانتصب "كَذِباً" في هذه القراءةِ على المصدر؛ لأنَّ التقوُّلَ كَذِبٌ نحو قولِهم: قعدْتُ جُلوساً.
* { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }
قوله: {مِّنَ الإِنسِ}: صفةٌ لرجال، وكذلك قولُه "من الجنِّ".
* { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً }
قوله: {أَن لَّن يَبْعَثَ}: كقولِه: {أَن لَّن تَقُولَ} وأَنْ وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدٌ مفعولَيْ الظَّنِّ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنَّ "ظنُّوا" يَطْلُبُ مفعولَيْن، و "ظَنَنْتُم" كذلك، وهو إعمال الثاني للحذف، مِنْ الأولِ، والضمير في "أنهم ظَنُّوا" للإِنسانِ، وفي "ظَنَنْتُم" للجنِّ، ويجوزُ العكسُ. وبكلٍ قد قيل.
(14/117)
---(1/5608)
* { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }
قوله: {فَوَجَدْنَاهَا}: فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّها متعدِّيَةٌ لواحدٍ؛ لأنَّ معناها أصَبْنا، وصادَفْنا، وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه "مُلِئَتْ" في موضعِ نصبٍ على الحال. والثاني: أنَّها متعدِّيةٌ لاثنينِ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعولِ الثاني.
"وحَرَساً" منصوبٌ على التمييزِ نحو: "امتلأ الإِناءُ ماءً". والحَرَسُ اسمُ جمع لـ حارِس نحو: خَدَم لخادِم، وغَيَب / لغائِب، ويُجْمَعُ تكسيراً على أحْراس، كقولِ امرىء القيس:
4348 - تجاوَزْتُ أَحْراساً وأهوالَ مَعْشَرٍ * عليَّ حِراصٍ لو يُشِرُّون مَقْتلي
والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدرُ الحِراسةُ. و "شديداً" صفةٌ لـ حَرَس على اللفظِ، كقوله:
4349 - أخشى رُجَيْلاً ورُكَيْباً عادِياً
ولو جاءَ على المعنى لقيل: شِداداً بالجمع.
وقوله: {وَشُهُباً} جمعُ شِهاب كـ كِتاب وكُتُب. وهل المرادُ النجومُ أو الحَرَسُ أنفسُهم؟ وإنما عَطَفَ بعضَ الصفاتِ على بعضٍ عند تغايُرِ اللفظِ كقولِه:
4350 - ............................ * ..........أتى مِنْ دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرج "مُلِيَتْ" بياءٍ صريحةٍ دونَ همزةٍ. ومقاعِد جمعُ مَقْعَد اسمَ مكان.
* { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً }
قوله: {الآنَ}: هو ظرفٌ حاليٌّ. واستعير هنا للاستقبال كقوله:
4351 - .................. ولكنْ * سأسْعى الآن إذ بلغَتْ أناها
(14/118)
---(1/5609)
فاقترنَ بحرفِ التنفيس، وقد تقدَّم هذا في البقرة عند قوله {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ورَصَداً: إمَّا مفعولٌ له، وإمَّا صفة لشِهاباً، أي: ذا رَصَد وجعل الزمخشريُّ الرَّصَد اسمَ جمعٍ كَحَرَس، فقال: "والرَّصدُ: اسمُ جَمْعٍ للراصِد كـ حَرَس على معنى: ذوي شِهابٍ راصِدين بالرَّجْم، وهم الملائكةُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للشِّهاب، بمعنى الراصِد، أو كقولِه:
4352 - ............................. * ................... ومِعَىً جِياعاً
* { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيا أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }
قوله: {أَشَرٌّ أُرِيدَ}: يجوزُ فيه وجهان، أحسنُهما، الرفعُ بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغالِ، وإنما أحسنُ لتقدُّمِ طالبِ الفعلِ، وهو أداةُ الاستفهامِ. والثاني: الرفعُ على الابتداءِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: يتعيَّنُ هنا الرفعُ بإضمارِ فعلٍ لمَدْركٍ آخر: وهو أنَّه قد عُطِفَ بـ"أم" فِعْلٌ، فإذا أَضْمَرْنا الفعلَ رافِعاً كُنَّا قد عَطَفْنا جملةً فعليةً على مِثْلِها بخلافِ رفعِه بالابتداءِ، فإنَّه حينئذٍ يُخْرِجُ "أم" عن كونِها عاطفةً إلى كونِها منقطعةً، إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: وهو أنَّ الأصلَ: أشرٌّ أُريد بهم أم خيرٌ، فوَضَعَ قولَه {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ} موضعَ "خيرٌ" وقولَه "أشرٌ" سادٌّ مَسَدَّ مفعولَيْ "ندري" بمعنى أنه مُعَلِّقٌ له، وراعى معنى "مَنْ" في قولِه {بِهِمْ رَبُّهُمْ} فجَمَعَ.
* { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً }
(14/119)
---(1/5610)
قوله: { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ "دونَ" بمعنى "غير"، أي: ومِنَّا غيرُ الصالحين، وهو مبتدأٌ، وإنما فُتحَ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍِ، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيمَنْ نَصَبَ على أحدِ الأقوالِ، وإلى هذا نحا الأخفشُ. والثاني: أنَّ "دونَ" على بابِها من الظرفية، وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: ومنا فريقٌ - أو فوجٌ - دونَ ذلك وحَذْفُ الموصوفِ مع "مِنْ "التبعيضيَّةِ يَكْثرُ كقولِهم: منا ظَعَنَ ومنَّا أقام، أي: مِنَّا فرقٌ. والمعنى: ومِنَّا صالحون دونَ أولئك في الصَّلاح.
قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: كنَّا ذوي طرائقَ، أي: ذوي مذاهبَ مختلفةٍ. الثاني: أنَّ التقدير: كُنَّا في اختلاف أحوالِنا مثلَ الطرائقِ المختلفةِ. الثالث: أنَّ التقدير: كُنَّا في طرائقَ مختلفةٍ كقولِه.
4353 - .......................... * كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ
الرابع: أنَّ التقديرَ: كانَتْ طرائقُنا قِدَداً، على حَذْفِ المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامةِ الضميرِ المضافِ إليه مُقامَه، قاله الزمخشري، فقد جَعَلَ في ثلاثة أوجهٍ مضافاً محذوفاً؛ لأنَّه قَدَّرَ في الأول: ذوي، وفي الثاني: مِثْلَ، وفي الثالث: طرائقنا. ورَدَّ عليه الشيخ قولَه: كُنَّا في طرائق كقولِه:
............................ * كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
بأنَّ هذا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو نُدورٍ، فلا يَخْرَّج القرآن عليه، يعني تَعَدِّيَ الفعلِ بنفسِه إلى ظرفِ المكانِ المختصِّ.
والقِدَدُ: جمعُ قِدَّة، والمرادُ بها الطريقة، وأصلُها السيرةُ يقال: قِدَّةُ فلانٍ حسنةٌ أي: سِيرتتُه وهو مِنْ قَدَّ السَّيْرَ أي: قَطَعَه على استواءٍ / فاسْتُعير للسِّيرةِ المعتدلةِ قال:
4354 - القابِضُ الباسِطُ الهادِيْ بطاعتِه * في فِتْنة الناسِ إذا أهواؤُهم قِدَدُ
وقال آخر:
(14/120)
---(1/5611)
4355 - جَمَعْتَ بالرأيِ مِنهم كلَّ رافضةٍ * إذ هم طرائقُ في أهوائِهم قِدَادُ
* { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }
قوله: {فِي الأَرْضِ}: حالٌ، وكذلك "هَرَباً" مصدرٌ في موضع الحال تقديرُه: لن نُعْجِزه كائنين في الأرض أينما كُنَّا فيها، ولن نُعْجزه هاربين منها إلى السماءِ.
* { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }
قوله: {فَلاَ يَخَافُ}: أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غيرُ خائف؛ ولأنَّ الكلامَ في تقديرِ مبتدأٍ وخبرٍ، دَخَلَتِ الفاءُ، ولولا ذلك لقيلَ: لا يَخَفْ، قاله الزمخشري، ثم قال: "فإنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في رفعِ الفعلِ وتقديرِ مبتدأ قبلَه، حتى يقعَ خبراً له، ووجوبِ إدخالِ الفاءِ، وكان كلَّ لك مستغنىً عنه بأَنْ يُقالَ لا يَخَفْ؟ قلت: الفائدةُ أنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنَّه قيل: فهو لا يَخاف فكان دالاًّ على تحقيقِ أنَّ المؤمِنَ ناجٍ لا مَحالةَ، وأنه هو المختصُّ بذلك دونَ غيره". قلت: سببُ ذلك أنَّ الجملةَ تكونُ اسميةً حينئذٍ، والاسميةُ أدلُّ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلِيَّةِ. وقرأ ابن وثاب والأعمش "فلا يَخَفْ" بالجزمِ، وفيها وجهان، أحدُهما: ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَه أنَّ "لا" ناهيةٌ، والفاءُ حينئذٍ واجبةٌ. والثاني: أنها نافيةٌ، والفاءُ حينئذٍ زائدةٍ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله: {بَخْساً} فيه حَذْفُ مضافٍ أي: جزاءُ بَخْسٍ، كذا قدَّره الزمخشريُّ، وهو مُسْتَغْنَى عنه. وقرأ ابن وثاب "بَخَساً" بفتح الخاء.
* { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً }
(14/121)
---(1/5612)
قوله: {الْقَاسِطُونَ}: قد تقدَّم في أول النساء: أنَّ قَسَط الثلاثيَّ بمعنى جار، وأَقْسَط الرباعيَّ بمعنى عَدَل، وأنَّ الحَجَّاجَ قال لسعيد بن جبير: ما تقولُ فيّ قال: إنك قاسِطٌ عادِلٌ. فقال الحاضرون: ما أحسنَ ما قال !! فقال: يا جهلةُ جَعَلني جائراً كافراً، وتلا {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} قوله: {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي: قَصَدوا ذلك، وطَلَبوه باجتهادٍ، ومنه: التحرِّي في الشيءِ. قال الراغب: "حَرَى الشيءَ يَحْريه أي: قَصَدَ حَراه أي جانبَه، وتَحَرَّاه كذلك، وحَرَى الشيءُ يَحْرِي: نَقَصَ، كأنه لَزِمَ الحَرَى ولم يَمْتَدَّ قال:
4356 - .................. * والمَرْءُ بعد تَمامِه يَحْرِي
ويقال: رَماه الله بأفعى حارِيةٍ أي: [ناقصةٍ] شديدةٍ" انتهى، وكأنَّ أصلَه مِنْ قولِهم: هو حَرٍ بكذا أي: حَقيقٌ به قَمِنٌ. و "رَشَداً" مفعولٌ به. والعامَّةُ "رَشَداً" بفتحتين. والأعرج بضمةٍ وسكونٍ.
* { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }
قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ}: "أنْ" هي المخففةُ. وقد تقدَّم أنه يُكتفى بـ"لو" فاصلةً بين "أَنْ" الخفيفةِ وخبرِها، إذا كان جملةً فعلية في سورة سبأ. وقال أبو البقاء هنا: و "لو" عوضٌ كالسين وسوف. وقيل: "لو" بمعنى "إنْ" و "أنْ" بمعنى اللام، وليسَتْ بلازمةٍ كقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} وقال في موضعٍ آخرَ: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} ذكره ابن فَضَّال في "البرهان". قلت: هذا شاذٌّ لا يُلتفت إليه البتَةَ؛ لأنه خلافُ النَّحْوِيين. وقرأ العامَّةُ بكسر واو "لو" على الأًصلِ. وابن وثاب والأعمشُ بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضمير، وقد تقدم تحقيقُه في البقرة.
(14/122)
---(1/5613)
وقوله: {غَدَقاً} الغَدَقُ بفتح الدال وكسرِها: لغتان في الماءِ الغزيرِ، ومنه الغَيْداقُ: الماءُ الكثيرُ، وللرجلِ الكثيرِ العَدْوِ، والكثيرِ النطقِ. ويقال: غَدِقَتْ عينُه تَغْدَقُ أي: هَطَلَ دَمْعُها غَدَقاً. وقرأ العامَّةُ "غَدقاً" بفتحتَيْن. واصم - فيما رَوَى عنه الأعشى - بفتحِ الغينِ وكَسْرِ الدالِ، وتقدَّم أنهما لغتان.
* { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً }
قوله: {يَسْلُكْهُ}: الكوفيون بياءِ الغَيْبة، وهي واضحةٌ، لإِعادةِ الضميرِ على الربِّ تعالى. وباقي السبعةِ بنونِ العظمة على الالتفات، هذا كما تقدَّم في قولِه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} ثم قال: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ}. وقرأ ابن جندب "نُسْلِكْه" بنونٍ مضمومة مِنْ أَسْلَكه. وبعضُهم بالياء مِنْ تحتُ مضومةً، وهما لغتان. يُقال: سَلَكه وأسلكه. وأُنْشِدَ:
3457 - حتى إذا أَسْلكوهم في قُتائِدَةٍ * ............................
(14/123)
---(1/5614)
وسَلَكَ وأَسْلك وأَسْلك يجوزُ فيهما أَنْ يكونا ضُمِّنا معنى / الإِدخالِ فكذلك يتعدَّيان لاثنين. ويجُوز أَنْ يقالَ: يتعدَّيان إلى أحدِ المفعولَيْن بإسقاطِ الخافضِ، كقولِه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}، فالمعنى: يُدْخِلْه عذاباً، أو يَسْلُكْه في عذاب، هذا إذا قلنا: إنَّ "صَعَداً" مصدرٌ. قال الزمخشري: "يقال: صَعِدَ صَعَداً وصُعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يَتَصَعَّدُ المُعَذَّب أي يَعْلُوه ويَغْلِبُه، فلا يُطيقه. ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه: "ما تَصَعَّدني شيءٌ ما تَصَعَّدَتْني خطبةُ النكاحِ" يريد: ما شقَّ عليَّ ولا غَلَبَني". وأمَّا إذاجَعَلْناه اسماً لصَخْرةٍ في جهنمَ، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، فيجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ "صَعَداً" مفعولاً به أي: يَسْلُكْه في هذا الموضع، ويكون "عذاباً" مفعولاً مِنْ أَجْلِه. والثاني: أَنْ يكونَ "عذاباً" مفعولاً ثانياً، كما تَقَدَّم، و "صَعَداً" بدلاً مِنْ عذاب، ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ أي: عذابَ صَعَدٍ.
و "صَعَداً" بفتحتَيْن هو قراءةُ العامَّة. وقرأ ابن عباس والحسنُ بضمِّ الصاد وفتح العين، وهو صفةٌ تقتضي المبالغة كـ حُطَمٍ ولُبَدٍ، وقُرِىءَ بضمَّتين وهو وصفٌ أيضاً كـ جُنُب وشُلُل.
* { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً }
(14/124)
---(1/5615)
قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ}: قد تقدَّم أنَّ السبعةَ أجمعَتْ على الفتح، وأنَّ فيه وجَيْنِ: حَذْفَ الجارِّ ويتعلَّقُ بقولِه: "فلا تَدْعُوا" وهو رأَيُ الخليلِ، وجَعَله كقولِه: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} فإنَّه متعلِّقٌ بقولِه: {فَلْيَعْبُدُواْ} وكقولِه: {وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ولأنَّ. والثاني: أنَّه عطفٌ على "أنَّه استمع" فيكون مُوْحَى. وقرأ ابن هرمز. وطلحة "وإنَّ المساجدَ" بالكسرِ، وهو مُحْتَمِلٌ للاستئنافِ وللتعليلِ، فيكونُ في المعنى كتقديرِ الخليلِ. والمساجد قيل: هي جَمْعُ "مَسْجِد" بالكسر وهو مَوْضِعُ السجُّودِ، وتَقَدَّم أنَّ قياسَه الفتحُ. وقيل: هو جمع مَسْجَد بالفتح مُراداً به الآرابُ الورادةُ في الحديث: "الجبهةُ والأنفُ والركبتانِ واليدانِ والقَدَمان. وقيل: بل جمعُ مَسْجَد، وهو مصدرٌ بمعنى السُّجود، ويكون الجمعُ لختلافِ الأنواعِ.
* { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }
قوله: {يَدْعُوهُ}: في موضع الحالِ أي: داعياً، أي: مُوَحِّداً له.
قوله: {لِبَداً} قرأ هشام بضمِّ اللامِ، والباقون بكسرِها. فالأولى. جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو: غُرْفة وغُرَف. وقيل: بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو: "حُطَم"، وعليه قولُه تعالى: {مَالاً لُّبَداً}. وأمَّا الثانيةُ: فجمعُ "لِبْدَة" بالكسر نحو: قِرْبَة وقِرَب. واللِّبْدَة واللُّبْدة. الشيءُ المتلبِّدُ أي: المتراكبُ بعضُه على بعضٍ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه:
4358 - ...................... * له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم
ومنه "اللِّبْدُ" لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض، ولُبَدٌ: اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا: "طال الأمَدُ على لُبَدٍ" والمعنى: كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ.
(14/125)
---(1/5616)
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ "لُبُداً" بضمتين، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو: "رُهُن" جمعَ "رَهْن". والثاني: أنَّه جمعُ "لَبُود" نحو: صَبورُ وصُبُر، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً. وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه. وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً "لُبَّداً" بضم اللام وتشديد الباء، وهو جمعُ "لابِد" كساجِد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع. وقرأ أبو رجاء بكسرِ / اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً.
* { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً }
قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو}: قرأ عاصمٌ وحمزةُ "قُلْ" بلفظِ الأمرِ التفاتاً أي: قُلْ يا محمدُ. والباقون "قال" إخباراً عن عبدِ الله وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الجحدري: وهي في المصحفِ كذلك، وقد تقدَّمَ لذلك نظائرُ في {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} آخرَ الإِسراء، وكذا في أولِ الأنبياءِ، وآخر {الْمُؤْمِنُونَ }
* { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً }
قوله: {ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}: قرأ الأعرجُ "رُشُداً" بضمَتْينِ. وجعل الضَّرَّ عبارةً عن الغَيِّ؛ لأنَّ الضَرَّ سببٌ عن الغَيِّ وثمرتُه، فأقام المسبَّبَ مُقامَ سببِه. والأصلُ: لا أَمْلِكُ غَيَّاً ولا رَشَداً، فذكر الأهمَّ. وقيل: بل في الكلامِ حَذْفان، والأصل: لا أَمْلِكُ لكم ضَرَّاً ولا نَفْعاً ولا غَيَّاً ولا رَشَداً، فحذفَ مِنْ كلِّ واحدٍ ما يَدُلُّ مقابِلُه عليه.
* { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }
قوله: {مُلْتَحَداً}: مفعولُ "أَجِدُ" لأنَّها بمعنى أُصيبُ وأَلْقَى. والمُلْتَحَدُ هنا: المَسْلَكُ والمَذْهَبُ قال:
(14/126)
---(1/5617)
4359 - يا لَهْفَ نفسي ولَهْفي غيرُ مُجْديَةٍ * عَنِّي وما مِنْ قضاءِ الله مُلْتَحَدُ
أي: مَهْرَبٌ ومَذْهَبٌ.
* { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
قوله: {إِلاَّ بَلاَغاً}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ منقطعٌ. أي: لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه: {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه. الثاني: أنه متصلٌ. وتأويلُه: أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ، إذ هو سببُها، وسببُ رحمتِه تعالى، والمعنى: لن أجِدَ سبباً ميلُ إليه وأعتصمُ به، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ، فيُجيرَني. وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين، أحدهما: وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "مُلْتحداً"؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. والثاني: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق. الثالث: أنه مستثنى مِنْ قولِه: {لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} قال قتادة: أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم.
وقرَّره الزمخشريُّ فقال: "أي: لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ، و {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي} جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة". قال الشيخ: "وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما". قلت: واين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ. الرابع: أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً. والأصل: إنْ لا فأدغم فـ"إنْ" شطريةٌ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه، و "لا" نافيةٌ والتقدير: إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ. وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر:
4360 - فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ * وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ
(14/127)(1/5618)
---
أي: وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ. وفي هذا الجوهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن، أحدهما: أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً. والثاني: أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ، فيكونُ كقولِه:
4361 - قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ * كان فقيراً مُعْدَماً قالت: وإِنْ
أي: قالَتْ: وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه. وقد يُقال: إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه.
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ "مِنْ" بمعنى عَنْ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها، ومنه قولُه عليه السلام: "ألا بَلِّغوا عني". والثاني: نَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"بلاغ". قال الزمخشري: "مِن" ليسَتْ صلةً للتبليغ، إنما هي بمنزلةِ "مِنْ" في قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ} بمعنى: بلاغاً كائناً من الله".
قوله: {وَرِسَالاَتِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ نَسَقاً على "بلاغاً" كأنه قيل: لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي: إلاَّ بلاغاً / عن اللَّهِ وعن رسالاتِه، كذا قَدَّره الشيخُ . وجَعَلَه هو الظاهرَ. وتجوَّز في جَعْلِه "مِنْ" بمعنى عن، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم.
(14/128)
---(1/5619)
قوله: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ} العامَّة على كسرِها، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ. وقرأ طلحةُ بفَتْحِها، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ، أو فحُكْمُه: أنَّ له نارَ جهنَم. قال ابن خالويه: "سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول: لم يَقْرَأْ به أحدٌ، وهو لحنٌ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط". قال: "وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول: هو صوابٌ ومعناه، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم". قلت: ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها، وهو عجيبٌ جداً. كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في الأنعام، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية.
قوله: {خَالِدِينَ} حالٌ من الهاء في "له"، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ، وحَمَلَ على معنى "مَنْ" فلذلك جَمَعَ.
* { حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً }
(14/129)
---(1/5620)
قوله: {حَتَّى إِذَا}: قال الزمخشري: "فإنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّق "حتى" وجُعِلَ ما بعدَه غاية له؟ قلت: بقولِه: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} على أنهم يتظاهرون عليه بالعَداوةِ، ويَسْتَضْعِفون أنصارَه، ويَسْتَقِلُّون عَدَه، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون مِنْ يوم بدرٍ، وإظهارِ اللَّهِ عليهم، أو مِنْ يومِ القيامةِ فسَيَعْلمونَ حينئذٍ مَنْ أَضْعَفَ ناصِراً. قال: "ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ دَلَّتْ عليه الحالُ: مِن استضعافِ الكفارِ واستقلالِهم فعددِه، كأنه [قال:] لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون قال المشركون: متى هذا الموعدُ؟ إنكاراً له: فقال: قُلْ إنه كائنٌ لا ريبَ فيه. قال الشيخ: "قولُه: بِمَ تَعَلَّق؟ إن عَنَى تعلُّقَ حرفِ الجرِّ فليس بصحيح لأنَّها حرفُ ابتداءٍ فما بعدها ليس في موضعِ جرٍ خلافاً للزجَّاجِ وابنِ دُرُسْتَوَيْه فإنهما زعما أنها إذا كانَتْ حرفَ ابتداءٍ فالجملةُ الابتدائيةُ بعدها في موضع جرِّ. وإنْ عَنَى بالتعلُّقِ اتصالَ ما بعدَها بما قبلَها وكونَ ما بعدَها غايَةً لِما قبلَها فهو صحيحٌ. وأمَّا تقديرُه نها تتعلَّقُ بقولِه: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} فهو بعدٌ جداً لطولِ الفَصْلِ بينهما بالجملِ الكثيرةِ. وقدَّر بعضُهم ذلك المحذوفَ المُغَيذضا، فقال: تقديرُه: دَعْهم حتى إذا. وقال التبريزي: "جازَ أَنْ تكونَ غايةً لمحذوفٍ" ولم يُبَيِّن ما هو؟ وقال الشيخ: "والذي يَظْهَرُ أنها غايةٌ لِما تَضَمَّنْتْه الجملةُ التي قبلَها مِنْ الحُكْم بكينونةِ النارِ لهم. كأنَّه قيل: إنَّ العاصِيَ يُحْكَمُ له بكَيْنونةِ النارِ، والحُكْمُ بذلك هو وعيدٌ، حتى إذا رَأَوْا ما حَكَم بكينونتِه لهم فسَيَعْلمون".
(14/130)
---(1/5621)
قوله: {مَنْ أَضْعَفُ} يجوزُ في "مَنْ" أن تكونَ استفهاماً فترتفعَ بالابتداء، و "أضعفُ" خبرُه.؟ والجملةُ في موضعِ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن لأنها مُعَلِّقَةٌ للعلمِ قبلَها، وأَنْ تكونَ موصولةً، و "أَضْعَفْ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أي: هو أَضْعَفُ. والجملةُ صلةٌ وعائدٌ. وحَسَّن الحَذْفَ طولُ الصلةِ بالتمييزِ. والموصولُ مفعولٌ للعِلْم بمعنى العِرْفان.
* { قُلْ إِنْ أَدْرِيا أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيا أَمَداً }
قوله: {أَقَرِيبٌ}: خبرٌ مقدَّمٌ و "ما تُوعَدون" [مبتدأ]. ويجوز أن يكون "قريبٌ" مبتدأً لاعتماده على الاستفهام. و "ما تُوعَدون" فاعلٌ به أي: أقربُ الذي تُوْعَدون، نحو: أقائمٌ أبواك. و "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً، فالعائدُ محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ / و "أم": الظاهرُ أنها متصلةٌ. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ ما معنى {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيا أَمَداً} والأمدُ يكونُ قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قولِه {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً} قلت: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَقْرِبُ المَوْعِدَ فكأنه قال: ما أَدْري أهو حالٌ متوقَّعٌ في كلِّ ساعةٍ أم مُؤَجَّلٌ ضُرِبَتْ غايةٌ
"
* { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً }
قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ}: العامَّةُ على رفعِهِ: إمَّا بدلاً مِنْ "ربي"، وإمَّا بياناً له، وإمَّا خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي: هو عالِمُ. و قُرِىء بالنصبِ على المدحِ. وقرأ السُّدِّي "عَلِمَ الغيبَ" فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ} العامَّةُ على كونِه مِنْ أظْهر. و "أحَداً" مفعولٌ به. وقرأ الحسن "يَظْهَرُ" بفتحِ الياءِ والهاءِ، مِنْ ظَهَر ثلاثياً. "أحَدٌ" فاعلٌ به.
* { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً }
(14/131)
---(1/5622)
قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ}: العامَّةُ على رفعِهِ: إمَّا بدلاً مِنْ "ربي"، وإمَّا بياناً له، وإمَّا خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي: هو عالِمُ. و قُرِىء بالنصبِ على المدحِ. وقرأ السُّدِّي "عَلِمَ الغيبَ" فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ} العامَّةُ على كونِه مِنْ أظْهر. و "أحَداً" مفعولٌ به. وقرأ الحسن "يَظْهَرُ" بفتحِ الياءِ والهاءِ، مِنْ ظَهَر ثلاثياً. "أحَدٌ" فاعلٌ به.
* { إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }
قوله: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى}: يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً أي: لكن مَنْ ارتضاه فإنه يُظْهِرُه على ما يشاءُ مِنْ غَيْبِه بالوَحْيِ. وقولُه: "مِنْ رسولٍ" بيانٌ للمُرْتَضِيْنَ.
وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} بيانٌ لذلك. وقيل: هو متصلٌ. و "رَصَداً" قد تقدَّم الكلامُ عليه . ويجوزُ أَنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً أو موصولةً متضمِّنَةً معنى الشرط. وقوله: "فإنَّه" خبرُ المبتدأ على القولَيْنِ" وهو من الاستثناءِ المنقطعِ أيضاً، أي: لكن. والمعنى: لكنْ مَنْ ارتضاه من الرُّسُلِ فإنه يَجْعَلُ له ملائكةً رَصَداً يَحْفظونه.
* { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }
قوله: {لِّيَعْلَمَ}: متعلقٌ بـ"يَسْلُكُ". والعامَّةُ على بنائه للفاعلِ. وفيه خلافٌ أي: لِيَعْلَمَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: لِيَعْلَمَ أي: ليَظْهَرَ عِلْمُه للناس. وقيل: ليَعْلَمَ إبليسُ. وقيل: ليَعْلَمَ المشركون. وقيل: لِيَعْلَمَ الملائكةُ، وهما ضعيفان لإِفرادِ الضميرِ والضميرُ في "أَبْلَغُوا" عائدٌ على "مَنْ" مِنْ قولِه: "مَنْ ارتَضَى" راعى لفظَها أولاً، فأفردَ في قولِه: {أَبْلَغُواْ}، ومعناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِه: "أَبْلَغُوا" إلى آخرِه.
(14/132)
---(1/5623)
وقرأ ابنُ عباس وزيدُ علي "لِيُعْلَمَ" مبنياً للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلةَ والزُّهْري "لِيُعْلِمَ" بضمِّ الياءِ وكسرِ اللامِ أي: لِيُعْلِمَ اللَّهُ ورسولُه بذلك. وقرأ أبو حيوة "رسالة" بالإِفرادِ، والمرادُ الجمعُ. وابن أبي عبلة "وأُحِيْط وأُحْصِيَ" مبنين للمفعول، "كلُّ" رفعٌ بأُحْصِي.
قوله: {عَدَداً} يجوزُ أَنْ يكونَ تمييزاً مقنولاً من المفعولِ به. والأصل: أحصى عددَ كلِّ شيءٍ كقولِه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} أي: عيونَ الأرض، على خلافٍ سَبَقَ في ذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ من المعنى؛ لأنَّ "أحصَى" بمعنى عَدَّ، فكأنه قيل: وعَدَّ كلَّ الفعل، والفعلُ إلى المصدر. ومَنَعَ مكي كونَه مصدراً للإِظهار فقال: "عَدَداً" نَصْبٌ على البيانِ، ولو كان مصدراً لأدغم" قلت: يعني: أنَّ قياسَه أَنْ يكونَ على فَعْل بسكونِ العين، لكنه غيرُ لازمٍ فجاء مصدرُه بفتح العين. ولمَّا كان "لِيَعْلَمَ" مضمَّناً معنى: قد عَلِمَ ذلك، جازَ عَطْفُ "وأحاط" على ذلك المقدَّرِ.(1/5624)
سورة المزمل
* { ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }
قوله: {الْمُزَّمِّلُ}: أصلُه المتزَمِّلُ، فأُدْغِمَت التاءُ في الزاي يقال: تَزَمَّل يتزَمَّلُ تَزَمُّلاً. فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب. وقرأ عكرمةُ "المُزَمِّل" بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ، اسمَ فاعلٍ، على هذا فيكونُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ أصلَه المُزْتَمِلُ على مُفْتَعِل فأُبْدِلَتِ التاءُ ميماً وأُدْغِمَتْ، قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. والثاني: أنَّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زَمَّل مشدداً، وعلى هذا فيكون المفعول محذوفاً، أي: المُزَمِّل جِسْمَه. وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بفتحِ الميمِ اسمَ مفعولٍ منه، أي: المُلَفَّف. والتَّزَمُّلُ: التَّلَفُّفُ. يقال: تَزَمَّلَ زيدٌ بكساءٍ، أي: التفتَّ به قال ذو الرَّمة:
(14/133)
4362 - وكائِنْ تَخَطَّتْ ناقتي مِنْ مَفازةٍ * ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ
وقال امرؤ القيس:
4363 - كأنَّ ثبيراً في أفانينِ وَدْقِه * كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وهو كقراءةِ بعضِهم المتقدِّمة. وفي التفسير: أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء.
* { قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً }
قوله: {قُمِ الْلَّيْلَ}: العامَّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السَّاكنَيْن. وأبو السَّمَّال بضمها إتباعاً لحركةِ القاف. وقُرِىءَ بفَتحِها طَلَباً للخِفَّةِ. قال أبو الفتح: "الغَرَضُ الهَرَبُ من التقاءِ الساكنَيْن، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الولُ حَصَلَ الغَرَضُ". قلت: إلاَّ أنَّ الأصلَ الكسرُ دليلٍ ذكره النحويون. و "الليلَ" ظرفٌ للقيامِ، وإن استغرقه الحَدَثُ الواقعُ فيه. هذا قولُ البصريين، وإمَّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوعَ مفعولاً به. /
* { نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً }
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ}: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ "نصفَه" بدلٌ من "الليلَ" بدلُ بعضٍ من كلٍ. و "إلاَّ قليلاً" استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في "مِنْه" و "عليه" عائدٌ على النصفِ.
(14/134)
---(1/5625)
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: "وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه". قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: "والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً - يعني النصف - قال: "وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: "أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه"، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل غلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ". قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم غيرُ مقدَّرٍ، ثم إنَّ في قولِه تناقصاً لأنه قال: "والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل"] فأعاد الضميرُ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه: "قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً" بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وحدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
(14/135)
---(1/5626)
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال: "نصفَه" بدلٌ من "الليل" و "إلاَّ قليلاً" استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في "منه" و "عليه" عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليل أو نصفَه أو ثلثَةه". قلت: والتقديراتُ الت يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ "نصفَه" بدلاً مِنْ "قليلاً"، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: "وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "نصفَه" بدلاً مِنْ "قليلاً"، وكان تخييراً بين ثلاثِ: بين قيامِ الصنفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ". قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من "الليل" كما تقدَّمَ.
(14/136)
---(1/5627)
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: "وإذا كان "نصفَه" بدلاً مِنْ "إلاَّ قليلاً" فالضميرُ في "نصفَه": إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو "الليلَ"، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةٌ من الاستثناءِ من "الليل"، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال: "إلاَّ قليلاً" استثناءٌ من البدلِ، وهو "نصفَه"، وأنَّ التقديرَ: قُمْ الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ "نصفَه" بدلٌ مِنْ "إلاَّ قليلاً" والضميرُ في "نصفَه" عائدٌ على "الليل"، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه /، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً".
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}. وقال تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. ومَّا ما ذكره مِنْ أَنْ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
(14/137)
---(1/5628)
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ "قليلاً" مستثنى من "الليل"، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه. ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ "أو زِدْ عليه" على "انقُصْ منه" فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ المضيرَ في "مِنْه"، وفي "عليه" عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: "له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً" فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ "نصفَه" بدلٌ من "الليلَ" أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في "منه" و "عليه" عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: "وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى {قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ} إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من "الليل": قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في "منه و "عليه" إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصْ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ".
(14/138)
---(1/5629)
الرابع: أَنْ يكونَ "نصفَه" بدلاً مِنْ "قليلاً" كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: "ويجوز إذا أَبْدَلْتَ "نصفَه" مِنْ "قليلاً" وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ "قليلاً" الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل - أعني الربعَ - نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَ. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع" انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: "وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ". قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ "إلاَّ قليلاً" استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: "إلاَّ قليلاً" أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: "التي تُخِلُّ بقيامِها" فأَبْدَلْتُها: "التي تَتْرُكُ قيامَها". وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: "إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه، قال: "كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً". أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً". وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم: "أكلْتُ لحكاً سَمَكاً تَمْراً". وقول الآخر:
4364 - كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا * يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
(14/139)
---(1/5630)
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. قد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ: "الأمرُ بالقيام والخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن" وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ "نصفَه" منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ /، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال: "نصفَه بدلٌ من "اليل" وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه". قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
* { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }
قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي}: هذه الجملةُ مستأنفةٌ. وقال الزمخشري: " وهذه الآيةُ اعتراضٌ". ثم قال: "وأراد بهذا الاعتراضِ أنَّ ما كُلِّفَهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جُملةِ التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي وَرَدَ بها القرآنُ؛ لأنَّ الليلَ وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ، فلا بُدَّ لِمَنْ أحياه مِنْ مُضادَّةِ لطَبْعِه ومجاهدةٍ لنَفْسِه". انتهى. يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنَّ قولَه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ} مطابِقٌ لقولِه: {قُمِ الْلَّيْلَ} فكأنه شابَهَ الاعتراضَ من حيث دُخولُه بين هذَيْن المتناسِبَيْنِ.
* { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }
(14/140)
---(1/5631)
قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}: في الناشئةِ أوجهٌ، أحدها: أنها صفةٌ لمحذوفٍ، أي: النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها، للعبادة، أي: تَنْهَضُ وترتفعُ. مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ: إذا ارتفعَتْ. ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز: إذا نَهَضَ قال:
4365 - نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى * وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ
والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل، على أنها مصدرٌ مِنْ نِشَأَ، إذا قام ونَهَضَ، فتكونُ كالعافية، قالهما الزمخشري.
الثالث: أنها بلغةِ الحبشةِ، نَشَأَ الرجلُ: أي قامَ من الليل. قال الشيخ: "فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء، أي: قائِم"، أي: قائِم". قلت: يعني أنها صفةٌ. لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ، أي: طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة.
الرابع: أنَّ "ناشئة الليل" ساعاتُه؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء.
وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ. وخَصَّصْتْها عائشةُ - رضي الله عنها - بمعنىً آخرَ: وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً.
(14/141)
---(1/5632)
قوله: {وَطْأً} قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ. والباقون بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة "وِطْئاً". وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال: "وِطاء - بكسر الواو - بمعنى: مُواطَأَة، وبفتحها اسمٌ للمصدر، و "وَطْئاً" على فَعْل، وهو مصدرٌ وَطِىءَ" فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل. والمعنى: أنها أشدُّ مواطَأةً، أي: يُواطِىءُ قلبُها لسانَها، إنْ أَرَدْتَ النفسَ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ، والوَطْءُ - بالفتح أو الكسرِ - على معنى: أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي، من قولِه عليه السلام: "اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ". وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز.
قوله: {وَأَقْوَمُ} حكى الزمخشري: "أنَّ أَنَساً قرأ "وأَصْوَبُ قِيلاً" فقيل له: يا أبا حمزةَ إنما هي: وأقومُ!! "فقال: "إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ" وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ {فحاسُوا خلالَ الديارِ} بالحاءِ المهمةِ فقيل له: هي بالجيم. فقال: حاسُوا وجاسُوا واحدٌ". قلت: له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن، هو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنىً. وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ، وهذه الحكايةُ آحاد. وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} فجعل الرجلُ يقول: اليتيم. فلمَّا تَبَرَّم به قال: طعامُ الفجارِ يا هذا. فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه. وليس فيه دليلٌ؛ لأنَّ مقصودَ / أبي الدرداءِ بيانُ المعنى، فجاء بلفظٍ مبينٍ.
(14/142)
---(1/5633)
* { إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً }
قوله: {سَبْحَاً}: العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً" بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري: "استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر:
4366 - فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه * إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي: خَفِّفَ. ومنه "لا تُسَبِّخي بدُعائِك"، أي: لا تُخَفِّي. وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي: مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً:
4367 - فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما * يُذْرِيْ سبائخَ قًطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي: "وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة "سَبْخاً" بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه". قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّ لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
* { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }
قوله: {تَبْتِيلاً}:مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ موقعَ التَّبَتُّل؛ لأنَّ مصدرَ تَفَعَّل نحو: تَصَرَّفَ تَصَرُّفاً، وتكرَّمَّ تكرُّماً. وأمَّا التفعيلُ فمصدرُ فَعَّل نحو: صَرَّف تَصْرِيفاً. ومثلُه قولُ الشاعر:
4367 - وقد تَطَوِّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ
(14/143)
---(1/5634)
فأوقعَ الانفعالَ مَوْقِعَ التَّفَعُّل. قال الزمخشري: "لأنَّ معنى تَبَتَّل: "بَتَّلَ نفسَه، فجيْءَ به على معناه مراعاةً لحَقِّ الفواصِل". والتبتُّل: الانقطاعُ. ومنه "امرأة بتولٌ"، أي: انقطَعَتْ عن النِّكاحِ، وبَتَلْتُ الحَبْلَ قَطَعْتُه. قال الليث: البَتْلُ: تمييزُ الشيءِ من الشيءِ. وقالوا: "طَلْقَةٌ بَتْلَةٌ"، و "هِبَةٌ بَتْلَةٌ" يعنونَ انقطاعها عن صاحبِها، فالتبتيلُ تَرْكُ النِّكاحِ، الزهدُ فيه. والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دونَ تَرْكِ النكاحِ، ومنه سُمِّي الراهبُ "مُتَبتِّلاً" لانقطاعِه عن النكاحِ. قال امرؤ القيس:
4368 - تُضِيْءُ الظلامَ بالعَشِيِّ كأنَّها * منارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
* { رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً }
قوله: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر بجرِّ "ربِّ المشرق" على النعت لـ"ربِّك" أو البدلِ منه أو البيانِ له. وقال الزمخشري: "وعن ابن عباس على القَسَم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك: "اللَّهِ لأفعلَنَّ"، وجوابُ {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} كما تقول: "واللَّهِ لا أحدَ في الدار إلاَّ زيدٌ" قال الشيخ: "لعلَّ هذا التخريجَ لا يَصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنَّ فيه إضمارَ الجارِّ، ولا يُجيزه البصريون إلاَّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصةً، ولأن الجملةَ المنفيَّة في جوابِ القسم إذا كانَتْ اسميةً فإنما تُنْفَى بـ"ما" وحدَها، ولا تُنْفَى بـ"لا" إلاَّ الجملةُ المصدرةُ بمضارعٍ كثيراً، أو بماضٍ في معناه قليلاً، نحو قولِه:
4369 - رِدُوا فواللَّهِ لا ذُذْناكُمُ أبداً * ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرَّادِ
والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها بـ"ما" كقوله:
4370 - لَعَمْرُك ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ * ولا نَأْنَأٍ يومَ الحِفاظِ ولا حَصِرْ(1/5635)
(14/144)
---
قلت: قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنَّ الجملةَ المنفيَّةَ سوائً كانَتْ اسميةً أم فعلية تُتَلَقَّى بـ"ما" أو "لا" أو "إنْ" بمعنى "ما"، وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه: {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: وهو رَبُّ. وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ. / وقرأ زيدُ بن عليٍّ "رَبَّ" بالنصب على المدحِ. وقرأ العامَّةُ "المَشْرِقِ والمغربِ" موحَّدتَيْن. وعبدُ الله وابن عباس "المشارِقِ والمغارِبِ" ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ "ربَّ" في قراءةِ زيد مِنْ وجَهْينِ آخرَيْنِ، أحدُهما: أنَّه بدلٌ مِنْ "اسمَ ربِّك" أو بيانٌ له، أو نعتٌ له، قاله أبو البقاء، وهذا يَجِيءُ على أن الاسمَ هو المُسمَّى. والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدَّرٍِ، أي: فاتَّخِذْ ربَّ المشرِقِ فاتَّخِذْه، وما بينهما اعتراضٌ.
* { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }
قوله: {وَالْمُكَذِّبِينَ} يجوزُ نصبُه على المعيَّةِ، وهو الظاهرُ، ويجوزُ على النَّسَقِ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ.
قول: {أُوْلِي النَّعْمَةِ} نعتٌ للمكَذِّبين. والنَّعْمَةُ بالفتح: التنعمُ، وبالكسرِ: الإِنعام، وبالضمِّ: المَسَرَّةُ. يقال: نُعْمُ ونُعْمَةُ عَيْنٍ.
قوله: {قَلِيلاً} نعتٌ لمصدرٍ، أي: تَمْهيلاً، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ، أي: زماناً قليلاً.
* { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً }
قوله: {أَنكَالاً}: جمعُ نِكْلٍ. وفيه قولان، أشهرُهما: أنه القَيْدُ. وقيل: الغُلُّ، والأولُ أَعْرَفُ. وقالت الخنساء:
4371 - دَعاكَ فَقَطَّعْتُ أنكالَهُ * وقد كُنَّ مِنْ قبلُ لا تُقْطَعُ
* { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً }(1/5636)
قوله: {ذَا غُصَّةٍ}: الغُصَّةُ: الشَّجَى، وهو ما يَنْشَبُ في الحَلْقِ فلا يَنْساغُ. ويُقال: غَصَصْتَ بالكسرِ، فأنتَ غاصٌّ وغَصَّانُ قال:
(14/145)
---
4372 - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ * كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
* { يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً }
قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بـ"ذَرْني"، وفيه بُعْدٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بالاستقرارِ المتعلِّقِ به "لَدَيْنا". والثالث: أنه صفةٌ لـ"عذاباً" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: عذاباً واقعاً يومَ تَرْجُفُ. والرابع: أنه منصوبٌ بـ"أليم". والعامَّةُ "تَرْجُفُ" بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنياً للفاعلِ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنياً للمفعولِ مِنْ أَرْجَفَها.
قوله: {مَّهِيلاً} أصلُه مَهْيُول كمَضْروب، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ فنُقِلَتْ إلى الساكن قبلَها، وهو الهاءُ، فالتقى ساكنان. فاختلف النحاةُ في العمل في ذلك: فسيبويه وأتباعُه حذفوا الواوَ، وكانَتْ أَوْلى بالحَذْفِ؛ لأنها زائدةٌ، وإنْ كانَتْ القاعدةُ أنَّ ما يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنَيْن الأولُ، ثم كَسَرُوا الهاءَ لتَصِحَّ الياءُ، ووزنُ حينئذٍ مَفِعْل. والكسائيُّ والفراء والأخفش حذفوا الياءَ؛ لأنَّ القاعدةَ في التقاءِ الساكنَيْنِ إذا احْتِيج إلى حَذْفِ أحدِهما حُذِفَ الأولُ وكان ينبغي على قولِهم أَنْ يٌال: فيه: مَهُوْل، إلاَّ أنَّهَم كَسَروا الهاءَ لأجلِ الياءِ التي كانَتْ، فقُلِبتَ الواوُ ياءً، ووزنُ حينئذٍ مَفُوْلاً على الأصلِ، ومَفِيلاً بعد القلب.
(14/146)
---(1/5637)
قال مكي: "وقد أجازوا كلُّهم أَنْ يأتيَ على أصلِه في الكلامِ فتقول: مَهْيُوْل ومَبْيُوْع، وما أشبه ذلك مِنْ ذواتِ الياءِ. فإنْ كان مِنْ ذواتِ الواوِ لم يَجُزْ أَنْ يأتيَ على أًلِه عند البصريينن وأجازه الكوفيون نحو: مَقْوُوْل ومَصْوُوْغ، وأجازوا كلُّهم مَهُوْل ومَبُوْع على لغةِ مَنْ قال: بُوع المتاعُ، وقوُل القولُ، ويكونُ الاختلافُ في المحذوفِ منه على ما تقدَّم". قلت: التتميمُ في مَبْيُوع ومَهْيُوْل وبابِه لغةُ تميم، والحَذْفُ لغةُ سائرِ العربِ. ويُقال: هِلْتُ الترابَ أَهيلُه هَيْلاً فهو مَهِيل. وفيه لغةٌ: أَهْلتُه - رباعياً - إهالةً فهو مُهال نحو: أبَعْتُه إباعَةً فهو مُباعٌ.
والكثيبُ: ما اجتمع من الرَّمْل / والجمعُ في القلَّة: أَكْثِبَة، وفي الكثرة: كُثْبان وكُثُب، كرَغِيف وأرْغِفَة ورُغْفان ورُغُفُ. قال ذو الرمة:
4373 - فقلت لها: لا إنَّ أهليَ جيرةٌ * لأكثبةِ الدَّهْنا جميعاً وماليا
والمَهيلُ: ما انهالَ تحت القَدَمَ، أي: انصَبَّ، مِنْ هِلْتُ الترابَ، أي: طَرَحْتُه، قال الزمخشري: "مِنْ كَثَبْتُ الشيءَ إذا جَمَعْتَه، ومنه الكُثْبةُ من اللبن. قالت الشائنة: أُجَزُّ جُفالاً وأُحْلَبُ كُثَباً عِجالاً".
* { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }
قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}: إنما عَرَّفه لتقدُّمِ ذِكْرِه، وهذه أل العهديةُ، والعربُ إذا قَدَّمَتْ اسماً ثم حَكَتْ عنه ثانياً أَتَوْا به مُعَرَّفاً بأل، أو أَتَوْا بضميرِه لئلا يُلْبَسَ بغيرِه نحوه: "رأيتُ رجلاً فأكرَمْت الرجلَ" أو فأَكْرَمْتُه، ولو قُلْتَ: "فأكرَمْتُ رجلاً" لَتَوَهَّمَ أنه غيرُ الأولِ، وسيأتي تحقيقُ هذا عند قولِه تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} وقولِه عليه السلام: "لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن
"
* { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً }(1/5638)
(14/147)
---
قوله: {يَوْماً}: منصوبٌ إمَّا بـ"تَتَّقُون" على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً. وقال الزمخشري: "يوماً" مفعولٌ به، أي: فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ؟". وناشقه الشيخُ فقال: "وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}. ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ بـ تَقُون أنفسَكم، لكنه ليس "تَتَّقون" بمعنى يَقُوْن، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه" انتهى.
ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ، أي: فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا؟ قاله الزمخشريُّ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به بـ"كَفَرْتُمْ" إذا جُعِل "كَفَرْتُمْ" بمعنى جَحَدْتُم، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ. ويجوزَ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ، أي: إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ. والعامَّةُ على تنوين "يوماً " وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له. والعائدُ محذوفٌ، أي: يَجْعل الوِلْدانَ فيه. قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في "يَجْعَلُ"، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى، أي: يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه. وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ الائدُ مضمراً في "يَجْعَلُ" هو فاعلَه، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ، أي: نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا.
وقرأ زيدُ بنُ عليّ "يومَ يَجْعَلُ" بإضافةِ الظرفِ للجملة. والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فـ"شِيْباً" مفعولٌ ثانٍ، وهو جمعُ أَشْيَب. وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو: أحمر وحُمْر. قال الشاعر:
(14/148)
---(1/5639)
4374 - مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه * والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ
وقال آخر:
4375 - ..................... * لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا
* { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً }
قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ}: صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على النَّسَبِ أي: ذات انقطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء:
4376 - ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً * لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم / الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: "هو كقولِه: {جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} {الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} يعني فجاء على أحد الجائزَيْن. والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال: "والباءُ في "به" مِثْلُها في قولِ: "فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به".
قوله: {وَعْدُهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ، فيكونُ المصدرُ مضافاً فالعلِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ / وهو اللَّهُ تعالى - مُقَدَّرٌ.
(14/149)
---(1/5640)
* { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ}: العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ، وهو الأصلُ كالرُّبُعِ والسُّدُسِ، وقرأ هشام بإسكانِها تخفيفاً.
(14/150)
---(1/5641)
قوله: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} قرأ الكوفيون وابن كثير بنصبِهما، والباقون بجرِّهما. وفي الجرِّ إشكالٌ كما سيأتي. فالنصبُ نَسَقٌ على "أَدْنى" لأنه بمعنى، وَقْتٌ أَدْنى، أي: أقربُ. اسْتُعير الدنوُّ لقُرْبِ المسافةِ في الزمانِ وهذا مطابقٌ لِما في أولِ السورةِ من التقسيمِ: وذلك أنَّه إذا قام أَدْنَى مِنْ ثُلُثي الليلِ صَدَقَ عليه أنه قام الليلَ إلاَّ قليلاً؛ لأنَّ الزمانَ الذي لم يَقُمْ فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثَيْن، فيَصْدُقُ عليه قولُه: "إلاَّ قليلاً". وأمَّا قولُه "ونِصْفَه" فهو مطابقٌ لقولِه أولاً "نِصْفَه" وأمَّا قولُه: "وثُلُثَه" فإنَّ قولَه: {أَوِ انقُصْ مِنْهُ} قد ينتهي النَّقْصُ في القليل إلى أن يكونَ الوقتُ ثلثي الليلِ. وأمَّا قولُه: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فإنَّه إذا زاد على على النصفِ قليلاً كان الوقتُ أقلَّ مِنَ الثلثَيْن. فيكونُ قد طابق أدْنى مِنْ ثلثي الليل، ويكون قولُه تعالى: {نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} شَرْحاً لمُبْهَمِ ما دَلَّ عليه قولُه: {قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}. وعلى قراءةِ النصبِ فَسَّر الحسنُ "تُحْصُوه" بمعنى تُطيقوه.
(14/151)
---(1/5642)
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فمعناها: أنه قيامٌ مُخْتَلِفٌ: مرةً أدنى من الثلثين، ومرةً أَدْنى من النصفِ، ومرةً أَدْنى من الثلثِ؛ وذلك لتعذُّرِ معرفةِ البشرِ بمقدارِ الزمانِ مع عُذْر النومِ. وقد أوضح هذا كلَّه الزمخشريُّ فقال: "وقُرِىء نصفَه وثلثَه بالنصبِ على أنك تقومُ أقلَّ من الثلثين، وتقومُ النصفَ والثلَ وهذا مطابِقٌ لِما مَرَّ في أولِ السورةِ من التخيير: بين قيامِ النصفِ بتامِه، وين قيام الناقصِ منه، وهو الثلثُ، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وهو الأَدْنَى من الثلثَيْن. وقُرِىء بالجرِّ، أي: تقومُ أقلَّ من الثلثَيْن وأقلَّ من النصفِ والثلثِ، وهو مطابقٌ للتخيرِ بين النَّصْفِ - وهو أَدْنى من الثلثين - والثلثِ - وهو أَدْنى من النصفِ - والرُّبُع - وهو أَدْنى من الثلثين - والثلثِ - وهو أَدْنى من النصفِ - والرُّبُع - وهو أدنى من الثلث - وهو الوجهُ الأخيرُ" انتهى. يعني بالوجهِ الأخير ما قَدَّمه أولَ السورة من التأويلات.
وقال أبو عبدالله الفاسي: "وفي قراءةِ النصب إشكالٌ، إلاَّ أَنْ يُقَدّر: نصفَه تارةً، وثلثَه تارةً، وأقلَّ من النصفِ والثلثِ تارةً، فيَصِحَّ المعنى".
قوله: {وَطَآئِفَةٌ} رُفع بالعطفِ على الضميرِ في "يقومُ"، وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالظرفِ وما عُطِفَ عليه.
قوله: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ}. قال الزمخشري: "وتقديمُ اسمِه عزَّ وجلَّ مبتدأً مبنيَّاً عليه "يُقَدِّرُ" هو الدالُّ على معنى الاختصاصِ بالتقديرِ". ونازعه الشيخُ في ذلك فقال: "لو قيل: "زيدٌ يحفظُ القرآن" لم يَدُلَّ ذلك على اختصاصِه". وجَعَلَ الاختصاصَ في الآيةِ مفهوماً من السِّياقِ لا ممَّا ذكره.
قوله: {أَنْ لَنْ} و "أَنْ سيكونُ" كلاهما مخففةٌ من الثقيلة، والفاصلُ النفيُ وحرفُ التنفيسِ.
(14/152)
---(1/5643)
قوله: {وَآخَرُونَ} / عطفٌ على "مَرْضَى"، أي: عَلِم أَنْ سيوجَدُ منكم قومٌ مَرْضى وقومٌ آخرون مسافرون. فـ"يَضْرِبون" نعتٌ لـ"آخرون" وكذلك "يَبْتَغون". ويجوزُ أَنْ يكونَ "يَبْتَغون" حالاً مِنْ فاعل "يَضْرِبون"، و "آخرون" عطفٌ على "آخرون" و "يقاتِلون" صفتُه.
قوله: {هُوَ خَيْراً} العامَّةُ على نصب الخير، مفعولاً ثانياً. وهو: إمَّا تأكيدٌ للمفعولِ الأولِ أو فَصْلٌ. وجَوَّزَ أبو البقاء أن يكونَ بدلاً، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه كان يَلْزَمُ أن يطابقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فيقال: إياه. وقرأ أبو السَّمَّال وابن السَّمَيْفَع "خيرٌ" على أن يكونَ "هو" مبتدأً، و "خيرٌ" خبرُه. والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لـ"تَجِدوه". قال أبو زيد: "هي لغةُ تميم، يرفعون ما بعد الفصل" وأنشد سيبويه:
4377 - تَحِنُّ إلى ليلى وأنتَ تركتَها * وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أَقْدَرُ
والقوافي مرفوعةٌ. ويُرْوَى "أقْدَارا" بالنصب. قال الزمخشري:
و "هو فصْلٌ" وجاز وإنْ لم يَقَعْ بينَ معرفتَيْن لأنَّ "أَفْعَلَ مِنْ" أشْبَهَ في امتناعِه من حرفِ التعريف المعرفةَ". قلت: هذا هو المشهورُ. وبعضُهم يُجَوِّزه في غيرِ أفعلَ من النكراتِ.(1/5644)
سورة المدثر
* { ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
(14/153)
قوله: {الْمُدَّثِّرُ}: العامَّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ، اسمَ فاعلٍ من تَدَثَّر. وأصلُه المُتَدَثِّر. فأُدْغِم كالمُزَّمِّل. وفي حرفِ أُبَيّ "المُتَدثِّرُ" على الأصل المُشارِ إليه. وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسمَ فاعلٍ، مِنْ دَثَّر بالتشديد، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: المُدَثِّر نفسَه كما تقدَّمَ في "المُزَمِّل". وعنه أيضاً فَتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ. قال الزمخشري: "مِنْ دَثَّره. يُقال: دُثِّرْتُ هذا الأمرَ، وعُصِبَ بك كما قال في المُزَمِّل" انتهى. ومعنى "تَدَثَّر" لَبِسَ الدَّثارَ، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار، والشِّعارُ ما يلي الجسَدَ. وفي الحديث: "الأَنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ" وسيفٌ داثِرٌ: بعيد العَهْدِ بالصِّقال. ومنه: قيل للمنزلِ الدارسِ: "دائِر" لِذَهابِ أعلامِه. وفلانٌ دَثْرُ المارِ أي: حَسَنُ القيام به.
* { قُمْ فَأَنذِرْ }
قوله: {قُمْ}: إمَّا أَنْ يكونَ من القيامِ المعهودِ، وإمَّا مِنْ قام بمعنى: الأَخْذِ في القيام، كقولِه:
4378 - فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه * .......................
وقول الآخر:
4379 - على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ * .......................
في أحدِ القولَيْنِ: والقولُ الآخرَ: أن "قام" مزيدةٌ" وفي جَعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يَصيرُ مِنْ أخوات "عَسَى" فلا بُدَّ له مِنْ خبرِ يكونُ فعلاً مضارعاً مجرَّداً مِنْ "أَنْ".
قوله: {فَأَنذِرْ} مفعولُه محذوفٌ. أي: أنذِرْ قومَك عذابَ اللَّهِ، والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ له مفعولٌ أي: أَوْقعْ الإِنذارَ.
* { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }
(14/154)
---(1/5645)
قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: قَدَّم المفعولَ وكذا ما بعده إيذاناً بالختصاص عندَ مَنْ يرى ذلك، أو للاهتمام به، قال الزمخشري: "واختُصَّ "ربَّك" بالتكبير" ثم قال: ودَخَلَتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ. كأنه قيل: وما كان فلا تَدَعْ تكبيرَه". قلت: قد تقدَّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قولِه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أولَ البقرة. قال الشيخ: "وهو قريبٌ مِمَّا قَدَّره النحاةُ في قولِك: "زيداً فاضْرِب" قالوا: تقديرُه: تنبَّهْ فاضرِبْ زيداً. والفاءُ هي جوابُ الأمرِ. وهذا الأمرُ: إمَّا مُضَمَّنٌ معنى الشرط، وإمَّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة".
* { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }
وقرأ حفص "والرُّجْزَ" بضمِّ الراء، والباقون بكسرِها، فقيل: لغتان بمعنىً. وعن أبي عبيدةَ: "الضمُّ أفشَى اللغتَيْن، وأكثرُهما". وقال مجاهد: "هو بالضمِّ اسمُ صَنَم، ويُعزَى للحسنِ البصري أيضاً، وبالكسر اسمٌ للعذابِ. وعلى تقديرِ كونِه العذابَ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: اهُجرْ أسبابَ العذابِ المؤدِّيةِ إليه، أو لإِقامةِ المُسَبَّبِ مُقامَ سببِه، وهو مجازٌ شائع.
* { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ }
قوله: {وَلاَ تَمْنُن}: العامَّةُ على فَكِّ الإِدغال. والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام. قد تَقَدَّم أنَّ المجزوزَ / والموقفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ}. والمشهور أنه من المَنِّن وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه. وقيل: "لا تَضْعُفْ" مِنْ قولِهم: حبلٌ مَنينٌ أي: ضعيفٌ.
(14/155)
---(1/5646)
قوله: {تَسْتَكْثِرُ} العامَّةُ على رفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أنه في موضع الحالِ أي: لا تَمْننْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ. وقيل: معناه: لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ. والثاني: أنَّه على حَذْفِ "أَنْ" يعني أنَّ الأصلَ: ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ، فلمَّأ حُذِفَتْ "أَنْ" ارتفع الفعلُ كقولِه:
4380 - ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى * ..............................
في إحدى الروايَتَيْن، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ: ما محلُّ "أَنْ" وما في حَيِّزها. وفيه وجهان، أظهرهما - وهو الذي يُريده - هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه: ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي: لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ. من الخير، قاله مكي، وقد تَقَدَّم لك أنَّ "تَمْنُنْ" بمعنى تَضْعُف، وهو قولُ مجاهدٍ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ: "وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ" قلت: قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا. وأيضاً فقولُه: "في الشعر" ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش "تَسْتَكْثِرُ" نصباً، وهو على إضمار "أَنْ" كقولهم: "مُرْهُ يَحْفِرَها" وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله: {ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ}.
وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة "تستكثِرْ" جزماً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله، كقولِه تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} فـ"يُضاعَفْ" بدلٌ مِنْ "يَلْقَ" وكقولِه:
4381 - مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا * تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّج
(14/156)
---(1/5647)
ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} الثاني: أن يُشَبَّهِ (ثِرْوَ) بـ"عَضُد" فيُسَكَّنَ تخفيفاً، قاله الزمخشرين يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعُ "تَسْتكثر" ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً بـ"عَضُد". ألا ترى أنه قال: "أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ" فأخذ بعضَ "تَسْتكثر" وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه: {ولربِّك فاصبِرْ}. وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس:
4382 - فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ * إثماً من الله ولا واغلِ
بتسكين "أَشْرَبْ": إنهم أخذوا من الكلمتين (رَبْغ) كـ عَضُد، ثَم سُكِّن. وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل {مَن يَتَّقِي} بثبوت الياءِ أنَّ "مَنْ" موصولةٌ، فاعْتُرِض بجزم "يَصْبِرْ" فأجيب: بأنه شبه (بِرُف) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ "يَصْبر"، والفاءَ مِنْ "فإنَّ" وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً. الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه، قاله الزمخشريُّ أيضاً، يعني أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، أو أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال الشيخ: "وهذان لا يجوزُأَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما، وهو البدل". قلت: الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً.
* { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
(14/157)
---(1/5648)
قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}: التقديمُ على ما تَقَدَّم، وحَسَّنه كونُه رأسَ فاصلةٍ مُؤاخياً لِما تقدَّمه. و "لربِّك" يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك، وعن كلِّ ما لا يَليقُ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما. والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ. والثاني: أن يُضَمَّنَ "اصْبِرْ" معنى: اذْعَنْ لربِّك وسَلِّمْ له أمرَك صابراً، كقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}
* { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}
* {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ }
قوله: {فَإِذَا نُقِرَ}: قال الزمخشريُّ: "والفاءُ / في قولِه: "فإذا نُقِرَ" للتسبيب، كأنه قيل: اصبِرْ على أَذاهم، فبينَ أيديهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَون فيه [عاقبةَ] أذاهم، وتَلْقَى فيه عاقبةَ صبرِك عليه. والفاء في "فذلك" للجزاء". قلت: يعني أنَّ الفاءَ في "فذلك" جزاءٌ للشرطِ في قولِه: "فإذا نُقِرَ". وفي العامل في "إذا" أوجهٌ، أحدُها: أنَّخا متعلِّقةٌ بـ"أَنْذِرْ" أي: أَنْذِرْهم إذا نُقِر في النَّاقور، قاله الحوفيُّ. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ الفاءَ تمنعُ مِنْ ذلك، ولو أرادَ تفسيرَ المعنى لكان سهلاً، لكنه في مَعْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى.
(14/158)
---(1/5649)
الثاني: أن ينتصِبَ بما دَلَّ عليه قولُه: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: بم انتصَبَ "إذا"، وكيف صَحَّ أَنْ يقع "يومئذٍ" ظرفاً لـ"يومٌ عَسير"؟ قلت: انتصَبَ "إذا" بما دَلَّ عليه الجزاءُ؛ لأنَّ المعنى: فإذا نُقِر في النَّاقور عَسُرَ الأمرُ على الكافرين. والذي أجاز وقوعَ يومئذٍ ظرفاٍ لـ"يومٌ عسيرٌ" أنَّ المعنى: فذلك يومَ النَّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقَرُ في الناقور" انتهى. ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فهي نفسُ "عَسير"؛ لأنَّ الصفةَ لا تعملُ فيما قبلَ موصوفِها عند البصريي؛ ولذلك رُدَّ على الزمخشريِّ قولُه: إنَّ في أنفسِهم" متعلِّق بـ"بلغياً" في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ {وَقُل لَّهُمْ فِيا أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}. والكوفيون يُجَوَّزون ذلك وتقدَّم تحريرُه.
الثالث: أَنْ ينتصِبَ بما دَلَّ عليه "فذلك" لأنه إشارةٌ إلى النَّقْر، قاله أبو البقاء. ثم قال: "ويومَئذٍ بدلٌ مِنْ "إذا" و "ذلك مبتدأٌ" والخبرُ "يومٌ عسيرٌ" أي: نُقِر يوم. الرابع: أَنْ يكونَ "إذا" مبتدأً، و "فذلك" خبرُه. والفاءُ مزيدةٌ فيه، وهو رأيُ الأخفشِ.
وأمَّا "يومَئِذٍ" ففيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "إذا" وقد تقدَّم ذلك في الوجهِ الثالث. والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً لـ"يومٌ عسيرٌ" كما تقدَّم في الوجهِ الثالث: أَنْ يكونَ ظرفاً لـ"ذلك" لأنَّه مُشارٌ به إلى النَّقْر. الرابع: أنَّه بدلٌ مِنْ "فذلك"، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ. الخامس: أَنْ يكونَ مبتدأً "ويومٌ عسيرٌ" خبرَه، والجملةُ خبرَ "فذلك".
* { عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }
(14/159)
---(1/5650)
قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ}: فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق بـ"عسير". الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ لـ عسير. الثالث: أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في "عسير". الرابع: أن يتعلَّقَ بـ"يَسير" أي: غيرُ يسيرٍ على الكافرين، قاله أبو البقاء، إلاَّ أنَّ فيه تقديمَ معمولِ المضافِ إليه على المضافِ، وهو ممنوعٌ، وقد جَوَّز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف "غيرَ" بمعنى النفي كقولِه:
4383 - إنَّ امرَأً خَصَّني عمْداً مَوَدَّتَه * على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
وتقدَّم تحريرُ هذا آخرَ الفاتحةِ مُشْبَعاً، فعليكَ باعتبارِه ثَمَّة. الخامس: أن يتعلَّق بما دَلَّ عليه "غيرُ يسير" أي: لا يَسْهُلُ على الكافرين. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ فما فائدةُ قولِه: "غيرُ يسير" و "عَسير" مُغْنٍ عنه؟ قلت: لَمَّا قال "على الكافرين" فقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال: "غيرُ يَسير" لِيُؤْذَنَ بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يَسيراً هَنِّيئاً ليجمع بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غَيْظهم وتبشير المؤمنين وتَسْلِيتهم. ويجوز أن يُراد: عسيرٌ لا يُرْجَى أن يَرْجِعَ يسيراً، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا".
وقوله: {نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي صُوِّتَ يقال: نَقَرْتُ الرجلَ إذا صَوَّتَّ له بلسانِك وذلك بأَنْ تُلْصِقَ لسانَك بنُقْرَة حَنكِكَ. ونَقَرْتُ الرجلَ: إذا خَصَصْتَه بالدعوة، كأنك نَقَرْتَ له بلسانِك مُشيراً إليه، وتلك الدعوةُ يقال لها النَّقَرى، وهي ضدُّ الدعوةِ الجَفَلَى. قال الشاعر:
4384 - نحن في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى * لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
/ وقال امرؤ القيس:
4385 - أنا ابنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النُّقُرْ
يريد: "النَّقْرُ" أي: الصوتُ. وقال أيضاً:
4386 - أُخَفِّضُه بالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُه * ويَرْفَعُ طَرْفاً غيرَ جافٍ غَضِيضٍ
(14/160)
---(1/5651)
والنَّاقُور: فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِنَ التَجَسُّسِ، وهو الشيءُ المُصوَّتُ فيه: وفي التفسير: إنَّه الصُّورُ الذي يَنْفَخُ فيه المَلَكُ. والنَّقْرُ أيضاً: قَرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ. والمِنْقارُ: الحَديدةُ التي يُنْقَرُ بها. ونَقَرْتُ عنه: بَحَثْتُ عن أخبارِه، استعارةً من ذلك. ونَقَرْتُه: أَعبْتُه، ومنه قولُ امرأةٍ لزَوْجِها: "مُرَّ بي على بني نَظَرٍ، ولا تَمرَّ بي على بناتِ نَقَرٍ" أرادت ببنين نَظَرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها، وببنات نَقَرٍ النساءَ لأنهنَّ يُعِبْنها ويَنْقُرْنَ عن أحوالِها.
* { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }
قوله: {وَمَنْ خَلَقْتُ}: كقولِه: {وَالْمُكَذِّبِينَ} في الوجهَيْنِ المتقدمَيْنِ في السورةِ قبلها.
قولِه: {وَحِيداً} فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الياء في "ذَرْني" أي: ذَرْنِي وَحْدي معه فأنا أَكْفِيْكَ في الانتقام منه. الثاني: أنه حالٌ مِنَ التاء في "خَلَقْتُ" أي: خَلَقْتُه وَحْدي لم يُشْرِكْني في خَلْقِه أحدٌ، فأنا أَمْلِكُه. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ "مَنْ". أن ينتصِبَ على الذمِّ. و "وحيد" كان لَقَباً للوليدِ بن المُغِيرة. ومعنى "وحيداً": ذليلاً قليلاً. وقيل: كان يَزْعُمُ أنه وحيدٌ في فَضْلِه ومالِه. وليس في ذلك ما يَقْتَضي صِدْقَ مقالتِه؛ لنَّ هذا لَقَبٌ له شُهِر به، وقد يُلَقَّبُ الإِنسانُ بما لا يَتَّصِفُ به، وإذا كان لَقَباً تَعَيَّنَ نصبُه على الذمِّ.
* { كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً }
قوله: {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً}: استئنافٌ، جوابٌ لسائلِ سأل: لِمَ لا يزدادُ مالاً؟ وما بالُه رُدِعَ عن طَمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقولِه: {إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً}.
* { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ }
قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ}: يجوزُ أنْ يكونَ استئنافَ تعليلٍ لقولِه "سَأُرْهِقُه". ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ {إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً}.(1/5652)
(14/161)
---
* { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }
قوله: {ثُمَّ عَبَسَ}: يُقال: عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً أي: قَطَّبَ وجهَه. والعَبَسُ: ما يَبِسَ في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبَوْل. قال أبو النجم:
4387 - كأن في أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ * مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرونَ الأُيَّلِ
قوله {وَبَسَرَ} يُقال: بَسَرَ يَبْسُر بَسْراً وبُسُوراً: إذا قَبَضَ ما بين عَيءنَيْه كراهةً للشَيْءِ، واسْوَدَّ وجهُه مِنْه. يقال: وَجْهٌ باسِرٌ أي: مُنْقَبِضٌ أسودُ.
قال:
4388 - صَبَحْنا تميماً غَداةَ الجِفارِ * بشَهْباءَ مَلْمومَةٍ باسِرَةْ
وأهل اليمن يقولون: بَسَرَ المَرْكَبُ وأَبْسَر: إذا وَقَفَ. وأَبْسَرْنا أي: صِرْنا إلى البُسُور. وقال الراغب: "البَسْرُ: البَسْرُ: الاستعجالُ بالشيء قبل أَوانِه نحو: بَسَرَ الرجلُ الحاجةَ: طَلَبها في غيرِ أوانِها، وبَسَرَ الفَحْلُ الناقةَ: ضَرَبها قبل الضَّبَعَةِ. وماء بَسْرٌ: مُتناوَلٌ مِنْ غَدِيرِه قبلَ سُكونه، ومنه قيل للذين لم يُدْرَك من التَّمر: بُسْر. وقولُه تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أي: أظهرَ العُبوس قبل أَوانِه، وفي غيرِ وقتِه. فإنْ قيلَ: فقولُه عَزَّ وجَلَّ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ليس يَفْعلون ذلك قبلَ الوقتِ. وقد قلت: إنَّ ذلك يُقال فيما كان قبلَ وَقْتِه. قلتُ: إنَّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبلَ الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصَّ لفظُ البُسْرِ تنبيهاً أنَّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يَجْري مَجْرى التكلُّفِ، ومَجْرى ما يُفْعَلُ قبلَ وَقْتِه. ويَدُلُّ على ذلك قولُه: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} انتهى كلامُ الراغب.
(14/162)
---(1/5653)
وقد عُطِفَ في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسَبَةٌ. أمَّا ما عُطِفَ بـ"ثُمَّ" فلأنَّ بين الأفعالِ مهلةً، وثانياً لأنَّ بين النَّظَر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخياً. قال الزمخشري /: و "ثُمَّ نظر" عَطْفٌ على "فَكَّر وقَدَّر" والدعاءُ اعتراضٌ بينهما". قلت: يعني بالدعاءِ قولَه: "فقُتِلَ". ثم قال: "فإنْ قُلْتَ ما معنى "ثم" الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت: الدلالة على أنَّ الكرَّة الثانية أَبْلَغُ من الأولى، ونحوُه قولُه:
4389 - ألا يا اسْلمي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّت اسْلمي * ...........................
فإنْ قلت: فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت: لدلالة على أنه تأنَّى في التأمُّل. وتمهَّل، وكان بين الأفعالِ المتناسِقِةِ تراخٍ وبُعْدٌ. فإن قلت: فلِمَ قال: "فقال" بالفاءِ بعد عطفِ ما قبلَه بـ ثم؟
قلت: لأنَّ الكلمةَ لَمَّأ خَطَرَتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالَكْ أَنْ نَطقَ بها مِنْ غيرِ تَثَبُّتٍ. فإنْ قلتَ: فلِمَ لَمْ يَتَوَسَّطْ حرفُ العطفِ بين الجملتَيْن؟ قلت: لأنَّ الأخرى جَرَتْ مِن الأولى مَجْرى التوكيدِ من المؤكَّد.
* { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ }
ُوعُونَ}: هذه هي العامَّةُ مِنْ أَوْعى يُوْعي. وأبو رجاء "يَعُوْن" مِنْ وعى يَعِي.
* { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ }
قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}: هذا بدلٌ مِنْ قولِه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قاله الزمخشري. فإنْ كان المرادُ بالصَّعودِ المشقةَ فالبدلُ واضحٌ، وإنْ كان المرادُ صخرةً في جهنَم، كما جاء في بعضِ التفاسير، فيَعْسُرُ البدلُ، ويكون فيه شَبَهٌ مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ جهنمَ مُشْتَمِلةٌ على تلك الصخرةِ.
* { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ }
(14/163)
---(1/5654)
قوله: {لاَ تُبْقِي} فيه وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، قاله أبو البقاء، يعني أنَّ الاستفهامَ في قولِه ما سَقَرُ؟ للتعظيم فالمعنى: استعظموا سَقَرَ في هذه الحال. ومفعول "تُبْقي" و "تَذَرُ" محذوفٌ، أي: لا تُبقي ما أُلْقي فيها، ولا تَذَرُهُ، بل تُهْلِكُه. وقيل: تقديرُه لا تُبْقي على مَنْ أُلْقي فيها، ولا تَذَرُ غايةَ العذابِ إلاَّ وَصَلَتْه إليه. والثاني: أنها مستأنفةٌ.
* { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ }
قوله: {لَوَّاحَةٌ}: قرأ العامَّةُ بالرفع خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هي لَوَّاحَةٌ. وهذه مُقَوِّيةٌ للاستئنافِ في "لا تُبْقي". وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة وزيدُ بن علي وعطيةُ العَوْفي بنَصْبِها على الحال، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها حالٌ مِنْ "سقرُ" والعاملُ معنى التعظيمِ كما تقدَّم. والثاني: أنها حالٌ مِنْ "لا تُبْقي". والثالث: مِنْ "لا تذرُ". وجَعَلَ الزمخشري نَصْبَها على الاختصاصِ للتهويل، وجعلها الشيخ حالاً مؤكدة قال: "لأنَّ النارَ التي لا تُبْقي ولا تَذَرُ لا تكونُ إلاَّ مُغَيِّرةً للإِبشارةِ" "ولَوَّاحَةٌ" بناءُ مبالغةٍ، وفيها معنيان، أحدهما: مِنْ لاح يَلُوح، أي: ظهر، أي: إنها تظهر للبَشَرِ وهم الناسُ، وإليه ذهب الحسن وابن كَيْسان. والثاني: - وإليه ذهبَ جمهورُ الناس - أنها مِنْ لوَّحه، أي: غَيَّرة وسَوَّده. قال الشاعر:
4390 - وتعجَبُ هندٌ أَنْ رَأَتْنِيَ شاحباً * تقول: لَشَيءٌ لوَّحَتْه السَّمائِمُ
ويقال: لاحَه يَلُوْحه: إذا غَيَّر حِلْيَتَيْه، وأُنْشِد:
4391 - تقول: ما لاحك يا مسافِرُ * يا بنةَ عمِّي لاحَني الهواجِرُ
وقيل: اللَّوحُ شِدَّةُ العَطَشِ. يقال: لاحَه العطشَ ولَوَّحَه، أي: غَيَّره، وأُنْشدِ:
4392 - سَقَتْني على لَوْحٍ مِنْ الماءِ شَرْبَةً * سَقاها به اللَّهُ الرِّهامَ الغَواديا
(14/164)
---(1/5655)
واللُّوْحُ بالضمِّ: الهواءُ بين السماءِ والأرضِ، والبَشَرُ: إمَّا جَمْعُ بَشَرَة، أي: مُغَيِّرة للجُلود، [وإمَّا المُرادُ به الإِنْسُ] واللامُ في "للبَشَرِ] مُقَوِّيَةٌ كهي في {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وقراءةُ النصبِ في "لَوَّاحَةً" مقوِّيَةٌ لكونِ "لا تُبْقي" في محلِّ الحالِ.
* { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }
قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: هذه الجملةُ فيها وجهان - إعني: الحاليةَ والاستئنافَ - وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ "تسعَة عْشَر" بسكون العين مِنْ "عَشر" تخفيفاً لتوالي خمسة حركاتٍ مِنْ جنسِ واحدٍ / وهذه كقراءةِ {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}، وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس "تسعةُ" بضمِّ التاء، "عَشَرَ" بالفتح، وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. "مَنْ قرأ "تسعةُ عَشَر" فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العدفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ" انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعراب. ويعني بقولِه "أسكنَ"، أي: أسكنَ راءَ "عشر" فإنه هذ القراءة كذلك.
(14/165)
---(1/5656)
وعن أنس أيضاً "تسعةُ أَعْشُرَ" بضم "تسعةُ" وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو الفضل: "يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر". وقال الزمخشري: "جمع عَشير، مثل يَمين وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً "تسعَةُ وَعْشُرَ" بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين واوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. واتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. وقنل المهدويُّ أنه قُرِىءَ "تسعةُ وَعِشَرْ" قال: "فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ "عشراً على ستعة" وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنء عشر على نيةِ الوقفِ.
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُكُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز:
4393 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ * بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل: " ويُخْبَرُ على هذه القراةِ - وهي قراءةُ مَنْ قرأ "أَعْشُر" مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ - أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً.
(14/166)
---(1/5657)
* { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوااْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
قوله: {إِلاَّ فِتْنَةً}: مفعولٌ ثانٍ على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ سببَ فتنةٍ، و "للذين" صفةٌ لفِتْنة" وليسَتْ "فتنةً" مفعولاً له.
قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ} متعلِّقٌ بـ"جَعَلْنا" لا بـ"فتنة". وقيل: بفعلٍ مضمرٍ، أي: فَعَلْنا ذلك ليسْتَيْقِنَ. وللزمخشري هنا كلامٌ متعلِّقٌ بالإِعرابِ ليجُرَّه إلى غرضِه مِنْ الاعتزال.
قوله: {كَذَلِكَ} نعتٌ لمصدرٍ أو حالٍ منه على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ. و "ذلك" إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِنْ الإِضلالِ والهدى، أي: مثلَ ذلك الإِضلالِ والهدى يُضِلُّ ويَهْدي. و "مثلاً" تمييزاً أو حالٌ. وتسميةُ هذا مثلاً على سبيل الاستعارةِ لغرابتِه.
قوله: {جُنُودَ رَبِّكَ} مفعولٌ واجبُ التقديمِ لحَصْرِ فاعلِه، ولعَوْدِ الضميرِ على ما اتَّصل بالمفعول.
قوله: {وَمَا هِيَ} يجوزُ أَنْ يعودَ الضمير على "سقر"، أي: وما سَقَرُ إلاَّ تذكرةٌ. وأَنْ يعودَ على الآياتِ المذكورةِ فيها، أو النار لتقدُّمِها أو الجنودِ، أو نارِ الدنيا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ أو العُدَّة. و "للبشر" مفعولٌ بـ"ذِكْرى" واللامُ فيه مزيدةٌ.
* { وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}
* {وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ }
(14/167)
---(1/5658)
قوله: {إِذْ أَدْبَرَ}: قرأ نافعٌ وحمزةٌ وحفصٌ "إذ" ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ، "أَدْبَرَ" بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون "إذا" ظرفاً لِما يُسْتقبل، "دَبَرَ" بزنةِ ضَرَبَ، والسرمُ محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو عبيد قراءةَ "إذا" قال: لأنَّ بعدَه "إذا أَسْفَرَ" قال: "وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله" قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ "إذا" والأخرى همزةُ "أَدْبرَ". واختار ابنُ عباس أيضاً "إذا" ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمَعَ "أَدْبَرَ" قال: "إنما يُدْبِر ظهرُ البعير".
واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحدٍ / يقالك دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ وأَقْبل. ومنه قولُهم "أمسٌ الدابرُ" فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ المُدْبر قال:
4394 - ........................... * .............ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ الفراء والزجاج. وقال يونس: "دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرٌَّ بينهما. وقال الزمخشري: "ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرٍ، وقيل: هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه".
وقرأ العامَّةُ "أسْفَرَ" بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع "سَفَرَ" ثلاثياً". والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ.
* { إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ }
(14/168)
---(1/5659)
قوله: {إِنَّهَا}: أي: أنَّ النارَ. وقيل: إنَّ قيامَ الساعةِ كذا حكاه الشيخ، وفيه شيئان: عَوْدُه على غير مذكورٍ، وكونُ المضافِ اكتسَبَ تأنيثاً. وقيل: إن النِّذارة. وقيل: هيَ ضميرُ القصةِ. وقرأ العامَّةُ "لإِحْدى" بهمزةٍ مفتوحةٍ، وأًلُها واوٌ، من الوَحْدَة. وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ محيصن، - وتُرْوى عن ابنِ كثيرٍ - "لَحْدَى" بحذفِ الهمزةِ، وهذا من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه. وتوجيهُه: أَنْ يكونَ أَبْدلها ألفاً، ثم حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنَيْن، وقياسُ تخفيفِ مثلِ هذه بينها وبين الألفِ. ومعنى "إحْدَى الكُبَرِ"، أي: إحْدَى الدَّواهي قال:
4395 - يا بنَ المُعَلَّى نَزَلَتْ إحدى الكُبَرْ * داهيةُ الدهرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثلُه: هو أَحَدُ الرجالِ و [هي] إحدى النساءِ لِمَنْ يَسْتعظمونه. والكُبَرُ: جمعُ كُبْرى كالفُضَل جمع فُضْلى. وقال ابن عطية: "جمع كبييرة" وأظنُّه وهماً عليه. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها جوابُ القسمِ في قوله: "والقمرِ". والثاني: أنها تعليلٌ لـ"كَلاَّ" والقسمٌ معترضٌ للتوكيدِ، قاله الزمخشري. قلت: وحينئذٍ فيحتاجُ إلى تقديرِ جوابٍ، وفيه تكَلُّفٌ وخروجٌ عن الظاهر.
* { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ }
(14/169)
---(1/5660)
قوله: {نَذِيراً}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه تمييزٌ عن "إحدى"، كمَّا ضُمِّنَتْ معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكُبَر إنذاراً، فـ"نذير" بمعنى الإِنذارِ كالنَّكير بمعنى الإِنكار، ومثلُه "هي إحدى النساءِ عَفافاً". الثاني: أنه مصدرٌ بمعنى الإنِّذار أيضاً، ولكنه نُصِب بفعلِ مقدَّرٍ، قاله الفراء. الثالث: أنه فعيلٌ بمعنى مُفْعِل، وهو حالٌ من الضميرِ في "إنَّها" قاله الزجاج. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في "إحدى" لتأوُّلها بمعنى العظيم. الخامس: أنَّه حالٌ من فاعلِ "قم" أولَ السورةِ. السادس: أنَّه مصدرٌ منصوبٌ بـ أّنْذِرْ أولَ السورةِ. السابع: هو حالٌ مِنْ "الكُبَر". الثامن: حالٌ من ضميرِ الكُبَر. التاسع: هو حالٌ مِنء "لإِحدى"، قاله ابن عطية. العاشر: أنَّه منصوبٌ بإضمار أَعْني. الحادي عشر: أنَّه منصوبٌ بـ ادْعُ مُقَدَّراً؛ إذ المُراد به اللَّهُ تعالى. الثاني عشر: أنَّه منصوبٌ بـ "نادِ أو بـ بَلِّغ؛ إذ المرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم. الثالثَ عشرَ: أنه منصوبٌ بما دَلَّتْ عليه الجملةُ، تقديره: عَظُمْتَ نذيراً. الرابعَ عشرَ: هو حالٌ من الضميرِ في "الكُبَرِ". الخامسَ عشرَ: أنها حالٌ مِنْ "هو" في قولِه وما يعلَمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هو. السادسَ عشرَ: أنها مفعولٌ مِنْ أجلِه، الناصبُ لها ما في "الكُبَر"، مِنْ معنى الفعل. قال أبو البقاء: "أو إنَّها لإِحدى الكُبر لإِنذارِ البشر" فظاهرُ هذا أنه مفعولٌ مِنْ أجلِ. وفيه بُعْدٌ وإذا جُعِلَتْ حالاً مِنْ مؤنثٍ فإنَّما لم تُؤَنَّثْ لأنَّها بمعنى ذاتِ إنذارٍ على معنى النَّسَب. قال معناه أبو جعفر.
(14/170)
---(1/5661)
والنصبُ قراءةُ العامَّةِ، وابن أبي عبلة وأُبَيُّ بنُ كعبٍ بالرفع. فإنْ كان المرادُ النارَ جاز لك وجهان: أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نذيرٌ، والتذكيرُ لِما تقدَّم مِنْ معنى النَّسَبِ، وإنْ كان المرادُ الباريَ تعالى أو رسولَه عليه السلام كان على خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هو نذيرٌ. "وللبشر" إمَّا صفةٌ. وإمَّأ مفعولٌ لنذير، واللامُ مزيدةٌ لتقويةِ العامل.
* { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }
قوله: {لِمَن شَآءَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من "للبشر" بإعادة العامل كقولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ} {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ}. وأَنْ يتقدَّمَ مفعولُ "شاء"، أي: نذيرٌ لمَنْ شاءَ التقدُّمَ أو التأخُّرَ، وفيه ذُكِرَ مفعولُ "شاء" وقد تقدَّم أنَّه لا يُذْكَر إلاَّ إذا كان فيه غَرابَةٌ. والثاني: وإليه نحا الزمخشري - وبه بدأ - أَنْ يكونَ "لمَنْ شاءَ" خبراً مقدَّماً، و "أَنْ يتقدَّم" مبتدأ مؤخراً قال: "كقولِك: لِمَنْ توضَّأَ أَنْ يُصَلِّي، ومعناه مطلقٌ لمَنْ شاء التقدُّمَ أو التأخُّرَ أَنْ يتقدَّم أو يتأخَّرَ" انتهى. فقوله "التقدُّمَ والتأخُّرَ" هو مفعولُ "شاء" المقدَّرِ، وقولُه "أَنْ يتقدَّمَ" هو المبتدأ. قال الشيخ: "وهو معنىً لا يتبادَرُ الذِّهْنُ إليه وفيه حَذْفٌ".
* { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }
قوله: {رَهِينَةٌ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ "رهينة" بمعنى "رَهْن" كالشتيمة بمعنى الشَّتْم. قال الزمخشري: "ليسَتْ بتأنيثِ "رهين" في قوله "كلُّ امرىء" / لتَأنيثِ النفسِ؛ لأنَّه لو قُصِدَتِ الصفةُ لقيل: "رِهين"؛ لأنَّ فَعيلاً بمعنى مَفْعول يَسْتوي فيه المذكرُ والمؤنثُ، وإنما هي اسمٌ بمعنى الرَّهْن كالشَّتيمة بمعنى الشَّتْم، كأنه قيل: كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ رَهْنٌ، ومنه بيتُ الحماسة:
(14/171)
---(1/5662)
4396 - أبعدَ الذي بالنّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ * رَهينةٍ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنه قال: رَهْنِ رَمْسٍ. الثاني: أنَّ الهاءَ للمبا
لغةِ. والثالث: أنَّ التأنيثَ لأجلِ اللفظ. واختار الشيخُ أنَّها بمعنى مَفْعول وأنها كالنَّطيحة. قال: "ويَدُلُّ على ذلك: أنَّه لَمَّا كان خبراً عن المذكر كان بغيرِ هاءٍ، قال تعالى: {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغيرِ تاءٍ، وحيث كان خبراً عن المؤنثٍ أتى بالتاء. فأمَّا الذي في البيت فأُنِّث على معنى النفس".
* { إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ }
قوله: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنها استثناءٌ متصلٌ؛ إذ المرادُ بهم المسلمون الخالِصون الصالحون. والثاني: أنه منقطعٌ؛ إذ المرادُ بهم الأطفالُ أو الملائكةُ.
* { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ }
قوله: {فِي جَنَّاتٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جناتٍ، وأن يكونَ حالاً مِنْ "أصحابَ اليمين"، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعل "يَتَساءلون" ذكرهما أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لـ"يتساءلون" وهو أظهرُ من الحالية مِنْ فاعِله. و "يتساءلون" يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِه، أي: يَسْألون غيرَهم، نحو: دَعَوْتُه وتَداعيْتُه.
* { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ }
قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}: هذا هو الدالُّ على فاعلِ سَلَكَنا كذا الواقعِ جواباً لقولِ المؤمنين لهم: ما سلككم؟ التقدير: سَلَكَنا عدمُ صَلاتِنا وكذا وكذا. وقال أبو البقاء: "هذه الجملةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الفاعلِ وهو جوابُ ما سَلَككم" ومرادُه ما قَدَّمْتُه. وإنْ كانَ في عبارتِه عُسْرٌ.
(14/172)
---(1/5663)
وأدغم أبو عمروٍ "سَلَككم" وهو نظيرُ {مَّنَاسِكَكُمْ} وقد تقدَّم ذلك في البقرة. وقوله "ما سَلَكَكُم" يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِن وذلك القولُ في موضع الحال، أي: يتساءَلون عنهم، قائلين لهم: ما سلككم؟ وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف طابَقَ قولُه "ما سلككُمْ" وهو سؤالُ المجرمين قولَ "يتساءَلون عن المجرمين" وهو سؤالٌ عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت: قولُه "ما سلككم" ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم ما سلككم؟
* { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
قوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ}: كقولِه:
4397 - على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه * ................................
في أحدِ وجهَيْه، أي: لا شفاعةَ لهم، فلا انتفاعَ بها، وليس المرادُ أنَّ ثَمَّ شفاعةً غيرض نافعةٍ كقولِه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}
* { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }
قوله: {مُعْرِضِينَ}: حالٌ من الضمير في الجارِّ الواقع خبراً عن "ما" الاستفهاميةِ، وقد تقدَّم أنَّ مِثْلَ هذه الحالِ تُسَمَّى حالاً لازِمَةً وقد تقدَّم فيها بحثٌ حسنٌ. "وعن التذكرة" متعلِّقٌ به.
* { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ }
قوله: {كَأَنَّهُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ "مُعْرِضِيْنَ" قاله أبو البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في "مُعْرِضِين"، فتكونَ حالاً متداخلةً.
(14/173)
---(1/5664)
وقرأ العامَّةُ "حُمُرٌ" بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ "مُسْتَنْفَرة" على أنه اسمٌ مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى: نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر واسْتَسْخر. قال الشاعر:
4398 - أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ * في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري: "كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه" انتهى. فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن.
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه "فَرَّتْ" للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال: "سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت: كأنهم / حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال: "فمُسْتَنْفِرة إذن" انتهى. يعني أنها مع قولِه "طَرَدها" تُناسِبُ الفتحَ لأنها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ {فَرَّتْ مِن قسْوَرَةٍ} رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل: الأسد، ومنه قولُ الشاعر:
4399 - مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ * كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ: عَصَبُ الرجال، وأنشد:
4400 - يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ * أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة:
4401 - إذا ما هَتَفءنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا * أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه "فَرَّتْ" يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لـ"حُمُر" مثلَ "مُسْتَنْفرة"، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.
(14/174)
---(1/5665)
* { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }
قوله: {مُّنَشَّرَةً}: العامَّة: على التشديد مِنْ "نَشَّره" بالتضعيف. وابن جبير "مُنْشَرَة" بالتخفيف. ونَشَر وأَنْشَرَ مثل: نَزَل وأَنْزَل. والعامَّةُ أيضاً على ضَمِّ الحاءِ مِنْ "صُحُف"، وابن جبير على تكسينها، قال الشيخ: "والمحفوظ في الصحيفة والثوب نَشَرَ مخففاً ثلاثياً" قلت: وهذا مردودٌ بالقرآن المتواتر. وقال بو البقاء في قراءةِ ابن جُبير: "مِنْ أَنْشَرْتُ: إمَّا بمعنى أَمَرَ بنَشْرِها مثلَ: "أَلْحَمْتُك عِرْضَ فلانٍ"، أو بمعنى مَنْشورة مثل: أَحْمَدْتُ الرجلَ أو بمعنى: أَنْشَر اللَّهُ الميِّتَ، أي: أحيا ما فيها بذكْرِه.
* { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }
قوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ}: قرأ نافعٌ بالخطاب، مِنْ قولِه {كُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ} ولم يُؤْثِروا الالتفاتَ، والهاءُ في "إنَّه" للقرآن أو للوعيد.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ} بمعنى: إلاَّ وقتَ مشيئِته لا على أنَّ "أنْ" تنوبُ عن الزمانِ بل على حَذْفِ مضاف.(1/5666)
سورة القيامة
* { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }
قوله: {لاَ أُقْسِمُ}: العامَّةُ على "لا" النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: "وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وفي قولِه:
4402 - في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ
(14/175)
واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه:
4403 - لا وأبيكِ ابنةَ العامريْ * يِ ..........................
كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري: "إدخالُ" "لا" النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس:
- لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ * يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ:
4404 - ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ * لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم" ثم قال - بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ - "والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل: "إنَّ "لا" نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك". انتهى.
(14/176)
---(1/5667)
فقولُه: "والوجهُ أَنْ يُقال" إلى قولِه: "يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك" تقريرٌ لقولِه: "إدخالُ "لا" النافيةِ على فعلِ / القسم مستفيضٌ" إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قولُه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ "لا" التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ {لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ} بقولِه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ} وكذلك قولُه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ.
(14/177)
---(1/5668)
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه "لأُقْسِمُ بيوم" بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره. على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر:
4405 - وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه * فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ
أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ - وهو نظيرُ الآية - قولُه:
4406 - لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ * لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو البقاء: "نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر "إنَّ" نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } فإنهما قرآها. بقصر الألف، والكلامُ فيها قد تقدَّم. ولم يُخْتَلَفْ في قولِه: "ولا أُقْسِم" أنه بألفٍ بعد "لا"؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد "لا"، وكذلك في قولِه: {لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ} لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد "لا".
(14/178)
---(1/5669)
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه قولُه: "أيحسَبُ الإِنسانُ". وقيل: الجوابُ أَيَحْسَبُ. وقيل: هو "بلى قادِرين" ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك: أيحسَبُ الإِنسانُ. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.
* { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }
قوله: {أَلَّن}: هذه هي المخففةُ، وحكمُها معروفٌ ممَّا تقدَّم في المائدةِ وغيرِها. و "لن" وما في حَيَّها في موضع الخبرِ، والفاصلُ هنا حرفُ النفيِ، وهي وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ "حَسِبَ" أو مفعولِه على الخلافِ. والعامَّةُ على "نجمعُ" بنونِ العظمة / و "عظامَه" نصبٌ مفعولاً به. وقتادة "تُجْمع" بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةٍ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، "عظامُه" رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
* { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }
قوله: {بَلَى} إيجابٌ لِما بعد النفيِ المنسَحِب عليه الاستفهامُ. والعامَّة على نصبِ "قادِرين". وفيه قولان، أشهرُهما: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ المدلولِ عليه بحرفِ الجواب، أي: بلى نجمعُها قادرِين، والثاني: أنه منصوبٌ على خبرِ "كان" مضمرةً أي: بلى كُنَّا قادرين في الابتداءِ، وهذا ليس بواضح. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السَّمَيْفَع قادرون" رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر أي: بلى نحن قادرون.
* { بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }
(14/179)
---(1/5670)
قوله: {بَلْ يُرِيدُ}: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ "بلى" لمجردِ الإضرابِ الانتقالي مِنْ غيرِ عطفٍ، أَضْرَبَ عن الكلامِ الأولِ وأخذ في آخرَ. والثاني: أنها عاطفةٌ. قال الزمخشريُّ: "بل يريد" عطفٌ على "أَيَحْسَبُ" فيجوز أَنْ يكونَ مثلَه استفهاماً، وأن يكونَ إيجاباً على أَنْ يَضْرِبَ عن مُسْتَفْهَمٍ عنه إلى آخرَ، أو يَضْرِبَ عن مستفهمٍ عنه إلى مُوْجَبٍ". قال الشيخ بعد ما حَكَى عن الزمخشري: "وهذه التقاديرُ الثلاثةُ متكلفةٌ لا تظهر". قلت: وليس هنا إلا تقديران.
ومفعولُ "يريد" محذوفٌ يَدُلُّ عليه التعليلُ في قوله: "ليَفْجُرَ أمامَه" والتقدير: يريد شَهَواتِهِ ومعاصِيَته ليمضيَ فيها أبداً دائماً و "أمامَه" منصوبٌ على الظرفِ، وأصلُه فاسْتُعير هذا للزمان. والضميرُ في "أمامَه" الظاهر عَوْدُه على الإِنسان. وقال ابن عباس: "يعودُ على يوم القيامة بمعنى: أنه يريد شهواتِه ليَفْجُرَ في تكذيبِه بالبعث بين يَدَيْ يومِ القيامة".
* { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }
قوله: {يَسْأَلُ}: هذه جملةٌ مستأنفةٌ. وقال أبو البقاء: "تفسيرٌ لِيَفْجُرَ" فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مستأنفاً مُفَسِّراً، وأَنْ يكونَ بدلاً من الجلمةِ قبلَها؛ لأنَّ التفسيرَ يكون بالاستئنافِ وبالبدلِ، إلاَّ إنَّ الثاني منع منه رَفْعُ الفعلِ، ولو كان بدلاً لنُصِبَ. وقد يُقال: إنه أبدلَ الجملَ من الجملةِ لا خصوصيةَ الفعلِ من الفعلِ وحدَه. وفيه بحثٌ وتقدَّم نظيرُ هذا في الذاريات وغيرها.
* { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ }
(14/180)
---(1/5671)
قوله: {بَرِقَ}: قرأ نافِع "بَرَقَ" بفتحِ الراء، والباقون بالكسرِ فقيل: لغتان في التحيُّزِ والدَّهْشة. وقيل: بَرِقَ بالكسر تَخَيَّر فَزِعاً. قال الزمخشري: "وأصلُه مِنْ بَرِقَ الرجلُ: إذا نَظَر إلى البَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُه". قال غيرُه: كما يقال: أَسِدَ وبَقِرَ، إذا رأى أُسْداً وبَقَراً كثيرةً فتحيَّز من ذلك. قال ذو الرمَّة:
4407 - ولو أنَّ لُقْمانَ الحكيمَ تَعَرَّضَتْ * لعينَيْهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبْرِقُ
وقال الأعشى:
4408 - وكنتُ أَرَى في وجهِ مَيَّةَ لَمْحَةً * فأَبْرَقُ مغشِيَّاً عليَّ مكانيا
وأنشد الفراء:
4409 - فنَفْسَك فانْعَ ولا تَنْعَني * وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ
وبَرَق بالفتح مِن البريق أي: لَمَعَ من شدةِ شخوصه. وقرأ أبو السَّمَّال "بَلَقَ" باللام. قال أهلُ اللغة إلاَّ الفراء. معناه فَتَحَ. يقال: بَلَقْتُ الباَ وأَبْلَقْتُه أي: فتحتُه وفَرجْتُه. وقال الفراء: "بمعنى أَغْلَقْتُه". قال ثعلب: "أخطأ الفراءُ في ذلك" ثم يجوز أَنْ يكونَ "بَلَقَ" غيرَ مادةِ بَرَقَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مادةً واحدةً، أُبْدِل فيها حرفٌ مِنْ آخرَ، وقد جاء إبدالُ اللامِ من الراءِ في أحرف، قالوا: نَثَرَ كِنانته ونَثَلَها. وقالوا: وَجِلَ ووَجِرَ، فيمكن أن يكونَ هذا منه، ويؤيِّدُه أَنَّ بَرَقَ قد أتى بمعنى: شَقَّ عيْنيْه وفَتَحَها، قاله أبو عبيدة. وأنشد:
4410 - لَمَّا أتاني مِنْ عُمَيْرٍ راغباً * أَعْطَيْتُه عِيساً صِهاباً فبرَقْ
أي: ففتح عينيْه، فهذا مناسِبٌ لـ"بَلَقَ" في المعنى".
* { وَخَسَفَ الْقَمَرُ }
(14/181)
---(1/5672)
قوله: {وَخَسَفَ}: العامةُ على بنائِه للفاعلِ. وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب "خُسِفَ" مبنياً للمفعول؛ وهذا لأن خَسَفَ يُستعمل لازماً ومتعدياً يقال: خَسَفَ القمرُ وخَسَفه الله، وقد اشْتُهر أن الخُسوفَ للقمر والكُسوفَ للشمسِ. وقال بعضهم: بل يكونان فيهما، يُقال: خَسَفَتِ الشمسُ وكَسَفَت، وخَسَفَ القمرُ وكَسَفَ. وتأيَّد بعضُهم بالحديث: "إنَّ الشمسَ والقمرَ / آيتان مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفان لموتِ أحدٍ". فاستعملَ الخُسُوْفَ فيهما. وعندي فيه نَظَرٌ؛ لاحتمال التغليبِ وهل هما بمعنىً واحدٍ أم لا؟ فقال أبو عبيدةٍ وجماعةٌ: هما بمعنىً واحدٍ. وقال ابن أبي أويس: "الخُسوفُ ذهابُ كلِّ ضَوْئِهما، والكُسوفُ ذهابُ بَعْضَه".
* { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }
* {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ }
قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}: لم تَلْحَقْ علامةُ تانيثٍ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقيل: لتغليبِ التذكيرِ. وفيه نظرٌ؛ لو قلت: "قام هندٌ وزيدٌ" لم يَجُزْ عند الجمهورِ من العربِ. وقال الكسائيُّ: "حُمِل على معنى: جُمِعَ "النَّيِّران". و "يقولُ الإِنسانُ" جوابٌ "إذا" مِنْ قولِه: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}. و "أينَ المفرُّ" منصوبُ المحلِّ بالقولِ: والمَفَرُّ: مصدرٌ بمعنى الفِرار. وهذ هي القراءةُ المشهورة.
وقرأ الحَسَنان ابنا علي رضي الله عنهم وابنُ عباس والحسن ابن زيد في آخرين بفتح الميمِ وكسرِ الفاءِ، وهو اسمُ مكانٍ الفرارِ أي: أين مكانُ الفِرار؟ وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مصدراً. قال: "المَرْجِعِ. وقرأ الحسنُ عكسَ هذا أي: بكسرِ الميمِ وفَتْحِ الفاءِ، وهو الرجلُ الكثيرُ الفِرارِ، وهذا كقولِ امرىءِ القَيْسِ يَصِف جَوادَه:
4411 - مِكَّرٌّ مِفَرٌّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً * كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيلُ مِنْ عَلِ
وأكثرُ استعمالِ هذا الوزنِ في الآلاتِ.
(14/182)
---(1/5673)
* { كَلاَّ لاَ وَزَرَ }
قوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ}: تقدَّم الكلامُ في "كلا" وخبر "لا" محذوفٌ أي لا وَزَرَ له. وهل هذه الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بقولِ الإِنسان فتكونُ منصوبةٌ المحلِّ، أو هي مستأنفةٌ إخباراً من الله تعالى بذلك؟ والوَزَرُ: المَلْجأ مِنْ حِصْنٍ أو جَبَلٍ أو سلاحٍ. قال:
4412 - لَعَمرُكَ ما للفتى مِنْ وَزَرْ * من الموتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ
* { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ }
قوله: {الْمُسْتَقَرُّ}: مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ قبلَه. ويجوزُأَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الاستقرارِ، وأَنْ يكونَ مكانَ الاستقرارِ، "ويومَئذٍ" منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، ولا ينْتَصِبُ بمُسْتقر؛ لأنَّه إنْ كان مصدراً فلتقدُّمِه عليه، وإنْ كان مكاناً فلا عَمَلَ له البتةَ.
* { بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }
قوله: {بَصِيرَةٌ}: يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّها خبرٌ عن "الإِنسانُ" و "على نفسِه" متعلِّقٌ بـ"بَصيرةٌ" والمعنى: بل الإِنسانُ بَصيرةٌ على نفسِه، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاءُ فيه للمبالغةِ. وقال الأخفش: "هو كقولِك: فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ". وقيل: المرادُ بالإِنسان الجوارِحُ، فكأنَّه قال: بل جوارِحُه بصيرة أي: شاهدةٌ. والثاني: أنها مبتدأٌ، و "على نفسِه" خبرُها. والجملةُ خبرٌ عن "الإِنسانُ"، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها: أنْ يكونَ "بصيرةٌ" صفةً لمحذوفٍ أي: عينٌ بصيرةٌ، قاله الفراء. وأنشد:
4413 - كأن على ذي العقْل عَيْناً بَصيرةً *بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ
يُحاذِرُ حتى يَحْسَبَ الناسَ كلَّهمْ *من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهُ
(14/183)
---(1/5674)
الثاني: أنَّ المعنى: جوارح بَصيرة. الثالث: أنَّ المعنى: ملائكةٌ بصيرة، والتاءُ على هذا للتأنيثِ. وقال الزمخشري: "بَصيرة: حُجَّةٌ بَيِّنة، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قولِه: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً}. قلت: هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإِنسانِ، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ، إمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ. الثالث من الأوجه السابقة: أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ، و "بصيرةٌ" فاعلٌ به، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإخبارِ الإِفرادُ.
* { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }
قوله: {وَلَوْ أَلْقَى}: هذه الجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم نظيرُها غيرَ مرةٍ. والمغاذير /: جمع مَعْذِرة على غيرِ قياس، كمَلاقيح ومَذاكير جمع لَقْحَة وذَكَر. وللنَّحويين في مثلِ هذا قولان، أحدهما: أنه جمعٌ لملفوظِ به، وهو لَقْحَة وذَكَر. والثاني: أنه جمعٌ لغيرِ ملفوظٍ به بل لمقدرٍ أي: مَلأْقَحَة ومِذْكار. وقال الزمخشري: "فإن قلتَ: أليسَ قياسُ المَعْذِرَة أَنْ يُجْمَعَ معاذِرَ لا معاذير؟ قلت: المعاذيرُ ليسَتْ بجمع مَعْذِرة، بل اسمُ جمعٍ لها، ونحوُه: المَناكير في المُنْكر". قال الشيخ: "وليسَ هذا البناءُ من أبنيةِ أسماءِ الجُموع، وإنما هو مِنْ أبنيةِ جموعِ التكسيرِ" انتهى، وهو صحيحٌ. وقيل: مَعاذير: جمعُ مِعْذار، وهو السِّتْرُ، فالمعنى: ولو أرخى سُتورَه. والمعاذِيْرُ: السُّتور بلغةِ اليمن، قاله الضحاك والسُّدِّي وأُنشد على ذلك:
4414 - ولكنَّها ضَنَّتْ بمَنْزلِ ساعةٍ * علينا وأَطَّتَ فوقَها بالمعَاذِرِ
(14/184)
---(1/5675)
وقد حَذَفَ الياءَ من "المعاذير" ضرورةً. وقال الزمخشري: "فإنْ صَحَّ - يعني أنَّ المعاذير السُّتور - فلأنَّه يَمْنَعُ رؤيةَ المُحْتَجِبِ كما تَمْنَعُ المعذرةُ عقوبةَ المُذْنِبِ". قلت: هذا القولُ منه يُحتمل أَنْ يكونَ بياناً للمعنى الجامع بين كَوْنِ السُّتورَ، أو الاعتذاراتِ، وأَنْ يكونَ بياناً للعلاقةِ المُسَوِّغةِ في التجوُّز.
* { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }
قوله: {وَقُرْآنَهُ}: أي: قراءَتَه، فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. وأمَّا الفاعلُ فمحذوف. والأصلُ: وقراءَتَك إياه، والقرآن، مصدرٌ بمعنى القراءة. قال حَسَّان رضي الله عنه:
4415 - ..................... * يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحاً وقُرآناً
وقال ابن عطية: "قال أبو العالية: "إنَّ علينا جَمْعَه وقُرَانَه. فإذا قَرَتَه فاتَّبِعْ قُرانَه" بفتح القافِ والراء والتاء، مِنْ غيرِ همزٍ ولا ألفٍ". قلت: ولم يَذْكُرْ توجيهاً. فأمَّا توجيهُ قولِه: "جَمْعَه وقُرانَه"، وقوله: "فاتَّبِعْ قُرانَه" فواضحٌ مِمَّا تقدَّمَ في قراءةِ ابن كثير في البقرة، وأنه هل هو نَقْلٌ، أو مِنْ مادةِ قَرَن، وتحقيقُ القولَيْن مذكورٌ ثَمَّةَ فعليك بالالتفاتِ إليه. وأمَّا قولُه: "بفتحِ القافِ والراءِ والتاء" فيعني في قولِه: "فإذا قَرَتَه" يُشير إلى أنه قُرىء شاذاً هكذا، وتوجيهُها: أنَّ الأصلَ: "قَرَأْتَه" فعلاً ماضياً مُسْنداً لضمير المخاطبِ أي: فإذا أَرَدْتَ قراءتَه، ثم أبدلَ الهمزةَ ألفاً لسكونِها بعد فتحةٍ، ثم حَذَفَ الألفَ تخفيفاً كقولِهم: "ولو تَرَ ما الصبيانَ" أي: ولو تَرَى الصبيانَ و "ما" مزيدة، فصار اللفظُ "قَرَتَه" كما ترى.
* { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ }
(14/185)
---(1/5676)
قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ}: قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ و "يُحِبُّون" و "يَذَرون" بياءِ الغَيْبة حملاً على لفظِ الإِنسانِ المذكور. أولاً؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، والباقون بالخطابِ فيهما: إمَّا خِطاباً لكفارِ قريش، وإمَّا التفاتاً عن الإخبار عن الجنسِ المتقدَّم والإِقبالِ عليه بالخطاب.
* { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}: فيه أوجهٌ أحدُها: أَنْ يكون "وجوهٌ" مبتدأً، و "ناضِرةٌ" نعتٌ له، و "يومَئذٍ" منصوبٌ بـ"ناضِرة" و "ناظرةٌ" خبرُه، و "إلى ربِّها" متعلِّقٌ بالخبرِ، والمعنى: أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرٌ إلى اللَّهِ تعالى، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ. والنَّاضرَةُ: من النُّضْرَةِ وهي: التنعُّمُ، ومنه غُصْنٌ ناضِر. الثاني: أَنْ يكونَ "وجوهٌ" مبتدأً أيضاً، و "ناضِرَةٌ" خبرُه، و "يومَئذٍ" منصوبٌ بالخبرِ كما تقدَّم. وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقولِه:
4416 - .................... * فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجْرّ
ويكون "ناظرةٌ" نعتاً لوجوه، أو خبراً ثانياً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. و "إلى ربِّها" متعلقٌ بـ"ناظرة" كما تقدَّم. وقال ابنُ عطية: "وابتدأ بالنكرة / لأنها تخصَّصَتْ بقوله "يومئذٍ". وقال أبو البقاء: "وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ". قلت: أمَّا قولُ ابنِ عطيِّيةَ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه: "تخصَّصَتْ بقولِه : "يومئذٍ" هذا التخصيصُ: أمَّا لكونِها عاملةً فيه، وهو مُحالٌ؛ لأنها جامدةٌ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها. وأمَّا قولُ أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدَّمُْه من التفصيل فصحيحٌ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْته.
(14/186)
---(1/5677)
الثالث: أَنْ يكونَ "وجوهٌ" مبتدأً، و "يومئذٍ" خبرَه، قاله أبو البقاء. وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى، ومِنْ حيثُ الصناعةُ. أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك. وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو: "الليلةَ الهلالُ" الرابع: أَنْ يكونَ "وجوهٌ" مبتدأً و "ناضرةٌ" خبرَه، و {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جملةً في موضعِ خبرٍ ثانٍ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ؛ لنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ، ذ الظاهرُ تعلُّقُ "إلى" بـ"ناظرة"، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ "ناظرةٌ" خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي ناظرةٌ إلى ربِّها، وهذه الجملةُ خبرٌ ثانٍ. وفيه تَعَسُّفٌ.
الخامس: أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً، أي: وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ، و "ناظرةٌ" صفةٌ، وكذلك "ناظرةٌ"، قاله أبو البقاء. وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك. ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ؟ وكونُ "إلى" حرفَ جرّ، و "ربِّها" مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ. وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ: على أَنْ تكونَ "إلى" اسماً مفدراً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ، ويُجمع على "آلاء" نحو: {فَبِأَيِّ آلااءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد تقدَّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً، و"ربِّها" خفضٌ بالإِضافةِ، و "إلى" مفعولٌ مقدمٌ ناصبُه "ناظرةٌ" بمعنى مُنْتَظرة. والتقدير: وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربِّها. وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم.
والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال - بعد أن جَعَلَ التقديمِ في "إلى ربها" مُؤْذِناً بالاختصاص - "والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قولِ الناس: "أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي" يريد معنى التوقعِ والرجاءِ. ومنه قولُ القائل:
(14/187)
---(1/5678)
4417 - وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ * والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما
ومسعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ أبوابَهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول: "عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم" والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربِّهم" قلت: وهذا كالحَوْمِ على قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ "ناظرة" بمعنى مُنْتظرة. إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القولَ فقال: "ودخولُ "إلى" مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ، وليس من الانتظار، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه "إلى"؛ ألا ترى أنَّك لا تقول: انتظرتُ إلى زيدٍ، وتقول: نظرْتُ إلى زيد، فـ"إلى" تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار، فَمَنْ قال: إن "ناظرة" بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه".
والنُّضْرَةُ: طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال: نَضِر وَجْهُ فهو / ناضِرٌ. وقال بعضهم: مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابَ ربِّها، ونحوُه. قال مكي: "لو جاز هذا لجازَ: نَظَرْتُ إلى زيد، أي: إلى عطاءِ زيدٍ. وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني". ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً، أي: حَسَّنه ونَعَّمه، وفي الحديث: "نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمع مقالتي فوَعَاها، فأدَّاها كما سَمِعَها" يُرْوَى بالوجهَيْنِ.وقيل للذهب: "نُضار" من ذلك. ويُقال له: النَّضْرُ أيضاً، وأخضرُ ناضِرُ، كـ أسودُ حالكٌ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة.
والعامَّة على "ناضِرَة" بألفٍ. وقرأ زيدُ بن علي "نَضِرَة" بدونِها، كفَرِحَ فهو فَرِح
* { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }
قوله: {فَاقِرَةٌ}: هي الداهيةُ العظيمةُ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تكسِرُ فَقارَ الظَّهْرِ. قال النابغة:
(14/188)
---(1/5679)
4418 - أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يزالُ مُقابِليْ * وضَرْبَةُ فَأْسٍ فوقَ رَأْسيَ فاقِرَهْ
أي: داهِيَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، ومنه سُمِّي الفقيرُ لانكسارِ فَقارِه من القُلِّ، وقد تقدَّم في البقرة.
* { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ }
قوله: {التَّرَاقِيَ}: مفعولُ "بَلَغَتْ"، والفاعلُ مضمرةٌ [يعود] على النفسِ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ، كقولِ حاتم:
4419 - أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى * إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
أي: حَشْرَجَتِ النفسُ. وقيل في البيت: إنَّ الدالَّ على النفس ذِكْرُ جُمْلَةِ ما اشتملَ عليها، وهو الغِنى، فكذلك هنا ذِكْرُ الإِنسانِ دالٌّ على النفسِ. والتَّراقِي: جمع تَرْقُوَة، أصلُها تَراقِوُ، قُلِبَتْ واوُها ياءً لانكسار ما قبلها. والتَّرْقُوَة إحدى عِظامِ الصدرِ، كذا قال الشيخ، والمعروفُ غيرُ ذلك. قال الزمخشري: "ولكلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتان" فعلى هذا تكونُ مِنْ باب: غليظِ الحواجب وعريضِ المناكب. والتراقِي: موضِعُ الحَشْرَجَةِ. قال:
4420 - ورُبَّ عظيمةٍ دافَعتُ عنها * وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ التراقِيْ
وقال الراغب: "التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ وُصِلَ ما بين ثُغْرَةِ النحرِ والعاتِق" انتهى. وقال الزمخشري: "العِظامُ الكتنِفةُ لثُغْرَةِ النَّحْرِ عن يمينٍ وشِمالٍ" ووزنها فَعْلُوة، فالتاءُ أصلٌ والواوُ زائدةٌ، يَدُلُّ عليه إدخالُ أهل اللغةِ إياها في مادة "تَرَق". وقال أبو البقاء: "والتراقي: جمع تَرْقُوَة" وهي فَعْلُوة، وليست تَفْعُلَة، إذ ليس في الكلام "رقو"، وقُرِىء "التراقي" بسكونِ الياء، وهي كقراءةِ زيدٍ "تُطْعِمون أهالِيْكم" وقد تقدَّم توجيهُها.
* { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }
(14/189)
---(1/5680)
قوله: {مَنْ رَاقٍ}: مبتدأٌ وخبرٌ. وهذ الجملةُ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ، وأصولُ البَصْريين تَقْتَضي أَنْ لا تكونَ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم لا يكونُ جملةً؛ بل القائمُ مَقامَه ضميرُ المصدرِ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا أولَ البقرة، وهذا الاستفهامُ يجوزُ أن يكونَ على بابِه، وأَنْ يكونَ استبعاداً وإنكاراً. وراقٍ اسمُ فاعلٍ: إمَّا من رَقَى يَرْقَى من الرُقية وهو كلامٌ مُعَدٌّ للاستشفاء، يُرْقَى به المريضُ لِيُشْفَى. وفي الحديث: "وما أدراكَ أنها رُقْيَةٌ"؟ يعني الفاتحةَ وهو مِنْ أسمائِها، وإمَّا مِنْ رَقِيَ يَرْقَى، من الرُّقِيِّ وهو الصعودُ، أي: إنَّ الملائكةَ لِكراهتِها في رُوْحِه تقول: مَنْ يَصْعَد بهذه الروح؟ يقال: رَقَى بالفتحِ من الرُّقْيَةِ، وبالكسرِ من الرُّقِيِّ. ووقف حفَص على نون "مَنْ" سكتَةً لطيفةً، وتقدَّم هذا في أولِ الكهف وتحقيقُه. وذكرَ سيبويه إنَّ النونَ تُدْغَمُ في الراءِ وجوباً بغُنَّةٍ وبغيرِها نحو: مَنْ راشِدٌ.
والعاملُ في "إذا بلغَت" معنى قولِه: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أيك إذا بلغَتِ الحُلْقومَ رُفِعَتْ إلى الله" ويكونُ قولُه: "وقيل: مَنْ راقٍ" معطوفاً على "بَلَغَت".
والمِساقُ: مَفْعَل من السَّوْقِ وهو اسمُ مصدرٍ.
* { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى }
قوله: {فَلاَ صَدَّقَ}: "لا" هنا دَخَلَتْ على الماضي، وهو مُسْتفيضٌ في كلامِهم بمعنى: لم يُصَدِّق ولم يُصَلِّ. قال:
4421 - إنْ تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا * وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا
وقال آخر:
4422 - وأيُّ خَميسٍ لا أَفَأْنا نِهابَه * وأسيافُنا مِنْ كَبْشِه تَقْطُر الدِّما
واستدلَّ بعضُهم أيضاً على ذلك بقولِ امرِىء القيس:
4423 - كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِه * عُقابُ تَنُوْفَى لا عُقابُ القواعِلِ
(14/190)
---(1/5681)
/ فقوله: "لا عُقابُ" عطفٌ على "عُقابُ تَنُوفَى" وهو مرفوعٌ بحلَّقَتْ، وفي البيتَيْنِ الأَوَّلَيْنِ غُنْيَةٌ عن هذا.
وقال مكي: "لا" الثانية نفيٌ، وليسَتْ بعاطفةٍ، ومعناه: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ". قلت: كيف يُتَوَهَّمُ العطفُ حتى يَنْفِيَه؟ وجعل الزمخشريُّ {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} عطفاً على الجملة مِنْ قولِه: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} قال: "وهو معطوفٌ على قوله: "يَسْأل أيَّان"، أي: لا يُؤْمِنُ بالبعثِ فلا صَدَّقَ بالرسول والقرآن"، واستبعده الشيخ.
* { وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }
قوله: {وَلَاكِن كَذَّبَ}: الاستدراكُ هنا واضحٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ التصدُّقِ والصلاةِ التكذيبُ والتولِّي؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين كذلك، فاسْتَدْرَكَ ذلك: بأنَّ سببَه التكذيبُ والتولِّي، ولهذا يَضْعُفُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ التصديقِ على نَفْيِ تصديقِ الرسولِ؛ لئلا يَلْزَمَ التكرارُ، فتقعَ "لكنْ" بين متوافقَيْن، وهو لا يجوزُ.
* { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى }
قوله: {يَتَمَطَّى}: جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل "ذَهَبَ"، وقد يجوز أَنْ يكونَ بمعنى: شرع في التمطي كقوله:
4424 - فقامَ يَذُوْدُ الناسُ عنها..... * .............................
وتمطَّى فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مِنْ المَطا، والمطا: الظهرُ، ومعناه: يَتَبَخْتَرُ، أي: يَمُدُّ مَطاه ويَلأْويه تَبَخْتُراً في مِشْيته. والثاني: أنَّ أصلَه: يَتَمَطَّطُ، مِنْ تَمَطَّط، أي: تَمَدَّد، ومعناه: أنَّه يتمدَّدُ في مِشْيَتِه تَبَخْتُراً، ومِنْ لازِمِ التبختُرِ ذلك، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى الأول ويفارِقُه في مادتِه؛ إذ مادةُ المَطا: م ط و، و مادةُ الثاني: م ط ط ، وإنما أُبْدِلَتِ الطاءُ الثالةُ ياءً كراهةَ احتمالِ الأمثالِ نحو: تَظَنَّيْت وقَصَّيْتُ أظفاري، وقولِه:
4425 - تَقَضِّيَ البازِيْ إذا البازِيْ كَسرْ
(14/191)
---(1/5682)
والمُطَيْطاء: التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَديْن في المَشْيِ، والمَطيطة: الماء الخاثِرُ أسفلَ الحوضِ؛ لأنه يتمطَّطُ، أي: يمتَدُّ فيه.
* { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى }
وتقدَّم الكلامُ على قوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} في آخر سورة القتال مُشبعاً، وإنما كُرِّرَ هنا مبالغةً في التهديد والوعيد. وقالت الخنساء:
4426 - هَمَمْتُ بنفسِيَ كلَّ الهمومِ * فأَوْلَى لنفسِيَ أَوْلَى لها
وقال أبو البقاء هنا: "وزنُ أَوْلَى فيه قولان، أحدُهما: فَعْلَى، والألفُ فيه للإِلحاقِ لا للتأنيثِ، والثاني: هو أَفْعَلُ، وهو على القولَيْن هنا [عَلَم] ولذلك لم يُنَوَّنْ، ويَدُلُّ عليه ما حكى أبو زيدٍ في "النوادر": "هي أَوْلاةُ" بالتاءِ غيرَ مَصْروفٍ، فعلى هذا يكونُ "أَوْلى" مبتدأً، و "لك" الخبرُ. والثاني: أَنْ يكونَ اسماً للفعل مبنياً ومعناه: وَلِيَكَ شَرٌّ بعد شَرّ، و "لك" تبيينٌ".
* { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }
قوله: {سُدًى}: حالٌ مِنْ فاعلِ "يُتْرَكُ" ومعناه:
مُهْمَلاً يقال: إبلٌ سُدَى، أي: مُهْملة. قال الشاعر:
4427 - وأُقْسِمُ بالله جَهْدَ اليمينِ * ما خَلَقَ اللَّهُ شيئاً سُدَى
أي: مُهْملاً. وأَسْدَيْتُ حاجتي، أي: ضيَّعْتُها. ومعنى "أَسْدَى إليه معروفاً"، أي: جعله بمنزلةِ الضَّائع عند المُسْدى إليه لا يذكره ولا يَمُنُّ به عليه.
* { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى }
قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً}: العامَّةُعلى الياءِ مِنْ تحتُ في "يك" رجوعاً للإِنسان. والحسن بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ إليه توبيخاً له.
قوله: {يُمْنَى} قرأ حفص "يُمْنى" بالياء مِنْ تحتُ، وفيه وجهان:
(14/192)
---(1/5683)
أحدُهما: أنَّ الضميرَ عائدٌ على المنيِّ، أي: يُصَبُّ، فتكونُ الجملةُ في محلِّ جر. والثاني: أنه يعودُ للنُّطفةِ؛ لأنَّ تأنيثَها مجازيُّ، ولأنَّها في معنى الماءِ، قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على قولِ ابنِ كيسان، وأمَّا النحاةُ فيجعلونه ضورةً كقوله:
4428 - ........................... * ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالَها
وقرأ الباقون "تُمْنَى" بالتاءِ مِنْ فوقُ على أنَّ الضميرَ للنُّطفة. فعلى هذه القراءةِ وعلى الوجهِ المذكورِ قبلَها تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنها صفةٌ لمنصوبٍ. /
* { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى }
قوله: {الذَّكَرَ وَالأُنثَى}: يجوزُ أَنْ يكونا بَدَلَيْنِ مِنْ "الزَّوْجَيْن"، وأَنْ يكونا منصوبَيْن بإضمارِ "أعني" على القطع، والأصلُ عَدَمُه. وقرأ العامَّةُ "الزوجَيْن" وزيدٌ بن علي "الزوجان" على لغة مَنْ يُجْري المثنى إجراءَ المقصورِ، وقد تقدَّم تحقيقُه في طه، ومَنْ تُنْسَبُ إليه هذه اللغةُ، والاستشهادُ على ذلك.
* { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى }
وقرأ العامَّةُ أيضاً "بقادرٍ" اسمَ فاعلٍ مجروراً بباءٍ زائدةً في خبرِ "ليس". وزيدُ بن علي "يَقْدِرُ" فعلاً مضارعاً. والعامَّةُ على نصب "يُحْيِيَ" بـ"أَنْ" لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ على حرفِ العلةِ. وقرأ طلحةُ بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها: فإمَّا أَنْ يكونَ خَفَّتَ حرفَ العلةِ بحَذْفِ حركةِ الإِعرابِ، وإمَّا أَنْ يكونَ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
(14/193)
---(1/5684)
وجمهورُ الناسِ على وجوبِ فَكِّ الإِدغامِ. قال أبو البقاء: "لئلا يُجْمَعَ بين ساكنَيْن لفظاً أو تقديراً". قلت: يعني أنَّ الحاءَ ساكنةٌ، فلو أَدْغَمْنا لسَكَنَّا الياءَ الأولى أيضاً للإِدغام فيَلْتقي ساكنان لفظاً، وهو مُتَعَذَّرُ النطقِ، فهذان ساكنان لفظاً. وأمَّا قولُه: "تقديراً" فإنَّ بعضَ الناسِ جوَّز الإِدغامَ في ذلك، وقراءتُه "أَنْ يُحِيَّ" وذلك أنه لَمَّا أراد الإِدغامَ نَقَلَ حركةَ الياءِ الأولى إلى الحاء، وأدغمها، فالتقى ساكنان: الحاءُ - لأنها ساكنةٌ في التقدير قبل النقلِ إليها - والياءُ؛ لأنَّ حركتَها نُقِلَتْ مِنْ عليها إلى الحاءِ، واستشهد الفراءُ لهذه القراءةِ: بقوله:
4429 - ................... * تَمْشِي لسُدَّةِ بيتها فَتُعِيُّ
وأمَّا أهلُ البصرةِ فلا يُدْغِمونه البتةَ، قالوا: لأنَّ حركةَ الياءِ عارضةٌ؛ إذ هي للإِعرابِ. وقال مكي: "وقد أجمعوا على عَدَمِ الإِدغامِ في حالِ الرفع. فأمَّا في حالِ النصبِ فقد أجازه الفراءُ لأجلِ تحرُّك الياء الثانيةِ، وهو لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّ الحركةَ عارضةٌ" قلت: ادعاؤُه الإِجماعَ مردودٌ بالبيتِ الذي قَدَّمْتُ إنشاده عن الفراءِ، وهو قوله: "فَتُعِيُّ" فهذا مرفوعٌ وقد أُدْغِمَ. ولا يَبْعُدُ ذلك؛ لأنَّه لَمَّا أُدْغِم ظهرَتْ تلك الحركةُ لسكونِ ما قبل الياءِ بالإِدغام.(1/5685)
سورة الإنسان
* { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }
(14/194)
قوله: {هَلْ أَتَى}: في "هل" هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. "والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ}، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً - بعد أن لم يكُنْ - قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه" انتهى. فقد جَعَلها للاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرَدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى "قد" قال الزمخشري: "هل بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه:
4430 - سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا * أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
(14/195)
---(1/5686)
فالمعنى: أقد أتى، على التقيرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور" انتهى. فقولُه: "على التقريرِ" يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ "هل". وقوله: "والتقريب" يعني المفهومَ مِنْ "قد" التي وقع مَوْقِعَها "هل". ومعنى قولِه "في الاستفهام خاصةً" أنَّ "هل" لا تكونُ بمعنى "قد" إلاَّ ومعها استفهامٌ / لفظاً كالبيتِ المتقدِّم. أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: "هل جاء زيدٌ" تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى "قد" من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ:
4331 - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به * .......................
فالباءُ بمعنى "عن"، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه:
4432 - فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي * ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى "قد"، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ "هل" على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى "قد" لأنَّ "قد" مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرَدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ "قد" لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله: {لَمْ يَكُن} في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من "الإِنسان"، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثانية: أنها في موضعِ رفع نعتاً لـ"حينٌ" بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
(14/196)
---(1/5687)
* { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }
قوله: {أَمْشَاجٍ}: نعتٌ لـ"نُطْفة" ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردِ؛ لأنَّه في معنى الجمع، كقولِه تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع، وقال الزمخشري: "أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ" ويقال: نُطْفَةٌ مَشَجٌ، قال الشماخ:
4433 - طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ * على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ
ولا يَصِح "أَمْشاج" أَنْ يكونَ تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما". فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ "مِشْجٍ" بالكسر. قال الشيخ: "وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: "وليس في الكلامِ "أَفْعال" لاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه" انتهى. قلت: هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً، إنما قال: يُوْصف به المفردُ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً، فوصفوهما بالجمع. وقال الشيخ: "الأمْشاج"
الأخلاط، واحدُها مَشَج بفتحتين، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف، قاله ابنُ الأعرابي. وقال رؤبة:
4434 - يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ * لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ
وقال الهذلي:
4435 - كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها * خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ
وقال الشماخ:
4436 - طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ ...... * .....................
(14/197)
---(1/5688)
البيت. ويقال: "مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط" انتهى. فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً لـ مِشْج كعِدْل، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ: مَنَعَ ذلك. وقال الزمخشريُّ: "ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً، والمعنى: مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان.
قوله: {نَّبْتَلِيهِ} يجوزُ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها حالٌ مِنْ فاعل "خَلَقْنا"، أي: خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له. والثاني: أنَّها حالٌ من "الإنسان"، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال. ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى بـ"نَبْتَليه": نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً. وهو قولُ ابن عباس، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى بـ"نَبْتَليه": نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْفِهِ غيرُ مكلَّفٍ. وقال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ: ناقلين له مِنْ حالِ إلى حالٍ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ". قلت: هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ. وقال بعضُهم: "في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والأصلُ: إنَّا جَعَلْنا سميعاً بصيراً نَبْتَليه، أي: جَعَلْنا / له ذلك للابْتلاءِ" وهذا لا حاجةَ إليه.
* { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }
(14/198)
---(1/5689)
قوله: {إِمَّا شَاكِراً}: "شاكراً" نصبٌ على الحال، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ "هَدَيْناه"، أي: هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه. قال أبو البقاء: "وقيل: هي حالٌ مقدرةٌ". قلت: لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له، و [هو] في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ.والثاني: أنه حالٌ من "السبيل" على المجاز. قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من "السبيل"، أي: عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكِراً، وإمَّا سبيلاً كَفُوراً كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً.
والعامَّةُ على كسر همزة "إمَّا" وهي المرادِفَةُ لـ"أو" وتقدَّم خلافُ النَّحْويين فيها. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا "إنْ" الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها "ما" ثم قال: "وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن "إن" الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ}. ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ "شاكراً" وأيضاً لا دليلَ على الفعلِ" انتهى. قلت: لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ "شاكراً" مع إضمار الفعلِ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعل يَنْصِبُ "شاكراً" تقديرُه: "إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ.
وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّها العاطفةُ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها، وأنشدوا على ذلك:
4437 - يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ * وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ
بفتحِ الهمزةِ. ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً. قال:
4438 - .................... * أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ
(14/199)
---(1/5690)
وحَذَفَ الواوَ بينهما. والثاني: أنها أمَّا التفصيليةُ، وجوابُها مقدرٌ. قال الزمخشري: "وهي قراءةٌ حسنةٌ والمعنى: أمَّا شاكِراً فَبِتَوْفِيْقِنا، وأمَّا كفُوراً فبِسُوءِ اختيارِه" انتهى. ولم يذكُرْ غيرَه.
* { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً }
قوله: {سَلاَسِلَ}: قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع] مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكرن ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنَ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.
فأمَّا التنوينُ في "سلاسل" فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: "سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصلِ في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث: "إنكن لصَواحِبات يوسف" وقال الشعر:
4439 - قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا * .............................
فجمع "أيامِن" جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:
(14/200)
---(1/5691)
4440 - وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ * خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ: "نواكِسِين" فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السين فلمَّأ جُمع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً،
وقال الزمخِشريُّ: "فويه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف". قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه / فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرِّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنْ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول: "رَأَيْتُ عُمَرا" بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم الكلامُ فيها.
* { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً }
(14/201)
---(1/5692)
قوله: {عَيْناً} في نَصْبِها أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ "كافوراً" لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثاني: أنَّها بدلٌ مِنْ محل "مِنْ كأسٍ"، قاله لمكي، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ. وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ. قال: "كأنه قيل: يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ" وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ "كافوراً" فقال: "والثاني: بدلٌ مِنْ "كافوراً"، أي: ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرً عَيْن" وهو معنىً حَسَنٌ. الثالث: أنَّها مفعولٌ بـ"يَشْرَبون"، أي: يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس. الرابع: أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص. الخامس: بإضمارِ "يَشْربون" يُفَسِّرُه ما بعده، قاله أبو البقاء: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر. السادس: بإضمار "يُعْطَوْن". السابع: على الحالِ من الضمير في "مِزاجُها"، قاله مكي.
والمِزاج: ما يُمْزَجُ به، أي: يُخْلَطُ. يقال: مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً، أي: خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً. قال حسان:
4441 - كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ * يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
فالمِزاج كالقِوامِ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ. والكافورُ: طِيْبٌ معروفٌ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه. والكافور أيضاً: كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها. ومفعولُ "يَشْربون": إمَّا محذوفٌ، أي: يعني: يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ، وإمَّا مذكورٌ وهو "عَيْا" كما تقدَّم، وإمَّا "مِنْ كأسٍ" و "مِنْ" مزيدةٌ فيه، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش.
(14/202)
---(1/5693)
وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت: لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابُهم، فكأنَّ المعنى: يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل".
قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} في الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يَشْرَبُها، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ "يَشْرَبُها" مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه. الثاني: أنها بمعنى "مِنْ". الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها. الرابع: أنها متعلقَةٌ بـ"يَشْرَبُ". والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري. الخامس: أنه على تَضْمين "يَشْرَبُون" معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين. السادس: على تَضْمينِ معنى "يَرْوَى"، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ. وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي:
4442 - شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ * متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى "مِنْ". والجملةُ مِنْ قولِه "يَشْرَبُ بها" في محلِّ نصبٍ صفةٍ لـ"عَيْناً" إنْ جَعَلْنا الضميرَ في "بها" عائداً على "عَيْنا" ولم ينجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء. وقرأ عبد الله "قافوراً" بالقاف بدلَ الكافٍِ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم: "عربيٌّ قَحٌّ وكُحّ. و "يُفَجِّرونها" في موضع الحال.
* { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً }
(14/203)
---(1/5694)
قوله: {يُوفُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً، قال الفراء: "التقديرُ: كانوا يُؤْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا، وكانوا يخَافون" انتهى. وهذا ما لا حاجةَ إليه. الثالث: أنه جوابٌ لمَنْ قال: ما لم يُرْزَقون ذلك؟. قال الزمخشري: "يُؤْفُوْن" جوابُ مَنْ عَسَى يقول: ما لم يُرْزَقون ذلك"؟ قال الشيخ: "وزاستعمل "عَسَى" صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ، وأتى بالمضارع بعد "عَسَى" غيرَ مقرونٍ بـ"أَنْ" / وهو قليلٌ أو في الشعر".
قوله: {كَانَ شَرُّهُ} في موضع نصبٍ صفةً لـ"يَومْ". والمُسْتَطير: المنتشر يُقال: استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر:
4443 - فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا * دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا
وقال الفراء: "المُسْتطير: المُسْتطيل". قلت كأنه يريدُ أنه مِثْلُه في المعنى، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً. والفجرُ فجران: مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ، ومُسْتطيرُ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفق.
* { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }
قوله: {حُبِّهِ}: حالٌ: إمَّأ من الطعامِ، أي: كائنين حلى حُبَّهم الطعامَ، وإمَّا من الفاعلِ. والضمير في "حُبِّه" لله تعالى، أي: على حُبِّ اللَّهِ. وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول.
* { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً }
قوله: {قَمْطَرِيراً}: القَمْطَرير: الشديدُ. وأصلُه كما قال الزجاج: "مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ: إذا رفعَتْ ذَنَبها، وجمعَتْ قُطْرَيْه، وزَمَّتْ بأَنْفِها. قال الزمخشري: "فاشتقَّه من القَطْر، وجعل الميمَ مزيدةً. قال أسد بن ناعصة:
4444 - واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ * باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ
(14/204)
---(1/5695)
قال الشيخ: "واختلف النحاةُ في هذا الوزن، والكثرُ لا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ" ويقال: اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ، قال الشاعر:
4445 - تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ * تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ
ويومٌ قَمْطيرير وقُماطر بمعنى: شديد. قال الشاعر:
4446 - فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها * ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ
وقال الزجَّاج: "القَمْطَرِيرْ" الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه" انتهى. فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً. وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط، فعلى هذا تكون الراءان في مزيدتَيْن.
* { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً }
قوله: {بِمَا صَبَرُواْ}: "ما" مصدريةٌ. و "جنةٌ" مفعولٌ ثانٍ أي: جَزاهم جنةً بصَبْرهم. وقدَّر مكي مضافاً فقال: "تقديرُه: دخولَ جنة ولِبْسَ حرير".
* { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً }
قوله: {مُّتَّكِئِينَ}: حال مِنْ مفعول "جَزاهم".
(14/205)
---(1/5696)
وقرأ علي رضي الله عنه "وجازاهم" وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ "مُتَّكئين" صفةً لـ"جَنَّةً".وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال: مُتَّكئين هم فيها، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ "مُتَّكئين" صفةً لـ"جنةً" لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير. وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ "مُتَّكئين"صفةً لـ"جَنَّةً" الزمخشريُّ فإنه قال: "ويجوزُ أَنْ تكونَ "مُتَّكئين". و "لا يَرَوْن" و "دانيةً" كلُّها صفاتٍ لـ"جنةٌ" وهو مردودٌ بما ذكرْتُه. ولا يجوزُ أَنْ يكونُ "مُتَّكئين" حالاً مِنْ فاعل "صَبَروا"؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة، قال معناه مكي. ولقائلٍ أَنْ يقول: إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم - بسبب صَبْرهم - إلى هذه الحالِ. وله نظائرُ
وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} إمَّأ على إضمارِ القولِ أي: قائلين ذلك. وقرأ أبو جعفر "فَوَقَّاهم" بتشديد القافِ على المبالغةِ.
قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ "جزاهم". الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في "مُتَّكئين"، فتكونُ حالاً متداخلةً. الثالث: أَ،ْ تكونَ صفةً لـ جنة كمتَّكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدَّم أنه قولُ الزمخشريِّ.
والزَّمْهَرير: أشدُّ البردِ. هذا هو المعروفُ. وقال ثعلب: هو القمُ بلغة طيِّىء وأنشد:
4447 - في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ * قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرُ
والمعنى: أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعْلَلِيلٍ.
* { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }
(14/206)
---(1/5697)
قوله: {وَدَانِيَةً}: العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطفٌ على محلِّ "لا يَرَوْن". الثاني: أنها معطوفة على "مُتَّكئين"، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في "عليهم" إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيء، مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم / جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنة دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ لـ"جنةٌ" الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.
وقرأ أبو حيوةَ "ودانِيَةٌ" بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ "ظلالُها" مبتدأ و "دانيةٌ" خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ في موضعِ الحال. قال الزمخشري: "والمعنى: لا يَرْوَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم". والثاني: أَنْ ترتفعَ "دانيةٌ" بالابتداء، و "ظلالُها" فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو: "قائمٌ الزيدون"، فإنَّ "دانية" لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّأ ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ "ظلالُها" وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم.
(14/207)
---(1/5698)
وقال أبو البقاء: "وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ". قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً "ودانِيَةٍ" بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه: "لا يَرَوْنَ فيها" أي: ولا في جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ "ظلالُها" فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و "عليهم" خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع بـ"دانية"؛ لأنَّ "دنا" يتعدَّى بـ"إلى" لا بـ"على". والثاني: أنها مرفوعةٌ بـ"دانية" على أَنْ تُضَمَّن معنى "مُشْرِفَة" لأنَّ "دنا" و "أَشْرَفَ" يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ "دانيةً" أيضاً.
وقرأ الأعمش "ودانِياً" بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه بـ"عليهم"، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ. وقرأ أُبَيٌّ "ودانٍ عليهم" بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: "وقُرِىء "دانِياً" ثم قال: "ويجوزُ "ودانيةٌ" بالرفعِ، ويجوزُ "دانٍ" بالرفعِ والتذكيرِ" ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقرءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلعْ على ذلك.
قوله: {وَذُلِّلَتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على "دانِيَةً" فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في "عليم" سواءً نَصَبْتَ "دانِيَةً" أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفع "ودانيةٌ" فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ.
(14/208)
---(1/5699)
* { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ }
قوله: {بِآنِيَةٍ}: هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى. ويجوزُ أَنْ يكون "عليهم". وآنِيَة. جمعُ "إناء" والأصلُ: أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً، وهذا نظيرُ: كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِية، ونظيرُه في الصحيح اللامِ: حِمار وأَحْمِر، و "مِنْ فضةٍ" نعتٌ لـ"آنية".
* { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً }
قوله: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ}: اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في {سَلاَسِلَ}. واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ. مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. والرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
(14/209)
---(1/5700)
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه / ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرةٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. فَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف علينما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في "سلاسل" وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأُثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على "قوارير" في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: "وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ" يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه:
4448 - يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ
(14/210)
---(1/5701)
وفي انتصابِ "قوارير" وجهان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و "كان" تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: "وحَسُن الكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش "قواريرُ" بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و "مِنْ فضة"صفةٌ لـ"قوارير".
قوله: {قَدَّرُوهَا} صفةٌ لـ"قواريرَ". والواو في "قَدَّروها" فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا. والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: "ويُطافُ" والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدار حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
(14/211)
---(1/5702)
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ - في روايةِ الأصمعيِّ - "قُدِّرُوْها" مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيِّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: "كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} ومثلُ قولِ العرب: "إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء". وقال الزمخشري: "ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا". وقال أبو حاتم: "قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ ربِّهم" ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال: "فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها" ثم حُذِفَ "على" فصار: "قَدْرُ رِيِّهم" على ما لم يُسَمَّ فاعِلُهن ثم حُذِف "قَدْرُ" فصار "رِيُّهم" ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل". قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ: "والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: "قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً" فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ "مِنْ" ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: "قُدِّرُوْها" فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل" . قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم.(1/5703)
(14/212)
---
* { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً }
قوله: {زَنجَبِيلاً}: الزَّنجبيل: نَبْتٌ معروفٌ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها. والعربُ تَستَلِذُّه. وأنشد الزمخشريُّ للأعشى:
4449 - كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْـ * ــلَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا
/ وأنشد للمسيَّب بن عَلَس:
4450 - وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به * إذا ذُقْتَه وصُلافةَ الخمرِ
و "عَيْناً" فيها من الوجوه ما تقدَّمَ.
* { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً }
قوله: {سَلْسَبِيلاً}: السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: "هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة". وقال الزمخشري: "يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ". قال الشيخ: "فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة". وقال ابن الأعرابي: "لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ". وقال مكي: "هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ".
(14/213)
---(1/5704)
ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ "دَرْدَبيس". وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ "سَلْسَبيلَ" دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين {سَلاَسِلَ} {قَوَارِيرَاْ} وقد تقدَّمَ. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: "وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها". قال: "وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ "سَلْ سبيلاً" جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين:
4451 - سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْـ * ــسِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول: "وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه". قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال أبو البقاء: "والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ". وفي قوله: "كلمة واحدة" تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
* { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً }
(14/214)
---(1/5705)
قوله: {ثَمَّ} هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ. وفي انتصابِه هنا وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد: وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ، فـ"رَأَيْتَ" الثاني جوابٌ لـ"إذا". وقال الفراء: "ثَمَّ" مفعولٌ به لـ"رَأَيْتَ" الثاني جوابٌ لـ"إذا". وقال الفراء: "ثَمَّ" معولٌ به لـ"رَأَيْتَ". وقال الفراء أيضاَ: "وإذا رَأَيْتَ تقديره: "ما ثَمَّ"، فـ"ما" مفعولٌ فحُذِفَتْ "ما" وقامت "ثَمَّ" مَقام "ما". قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق: "ومَنْ قال: معناه "ما ثَمَّ" فقد أخطأ؛ لأنَّ "ثَمَّ" صلةٌ لـ"ما"، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ" وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا، واستدلّلوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ، تقدَّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية: "وثَمَّ ظرفٌ. والعاملُ فيه "رَأَيْتَ" أو معناه، والتقديرُ: رأيتَ ما ثَمَّ، فحُذِفَتْ ما". قال الشيخ: "وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً لـ"رَأَيْتَ" لا يكونُ صلةً لـ"ما"؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي: ما استقرَّ ثَمَّ". قلت: ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه: بأنَّ قولَه: "أو معناه" هو القولُ بأنَّه صلةٌ لموصول، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ، ولولا ذلك لكان قولُه: "أو معناه" لا معنى له. ويعني بمعناه أي: معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملةُ، وهو الاستقرارُ المقدَّرُ.
والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ "ثَمَّ" كما تقدَّم. وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ، وتكونُ قد عَطَفَتْ "رأَيْتَ" الثاني على الأول، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقولِه: "نعيماً"، والتقدير: وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ / أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً. فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ.
(14/215)(1/5706)
---
* { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوااْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }
قوله: {عَالِيَهُمْ}: قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً. و "ثيابُ" مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: انَّ "عالِيْهم" مبتدأ و "ثيابُ" مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ.
والثالث: أنَّ "عالِيْهم" منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها.
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أوحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و "ثيابُ" مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: "لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية: "ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم". قال الشيخ: "وعالٍ وعالي اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في [إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ". قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا.
(14/216)
---(1/5707)
الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في {عَلَيْهِمْ}. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {حَسِبْتَهُمْ}. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. فـ"عاليَهم" حالٌ مِنْ "أهل" المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال: "وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في "يَطوف عليهم" أو في "حَسِبْتَهم"، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: [رأيت] أهلَ نعيم". قال الشيخ: "أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير ف "حَسِبْتَهم" فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على "وِلدانٌ" ولذلك قدَّر "عاليَهم" بقوله: "عالياً لهم"، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: "وحُلّثوا" و "سَقاهم" و {إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ". قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
(14/217)
---(1/5708)
الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول "لَقَّاهم". السادس: أنه حال مِنْ مفعول "جَزاهُمْ" ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفُ به "ثيابُ" على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقولِه تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [وقولِه:]
4452 - يا رُبَّ غابِطِنا........... * .......................
ولم يؤنَّثْ "عالياً" لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ "عاليَهم" على الظرفيةِ، ويرتفع "ثيابُ" به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ "عاليَهم" بالابتداء و "ثيابُ" على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقولِه تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ}، أي: أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي "عاليتُهم" مؤنثاً بالتاء مرفوعاً. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها "عَلِيَتْهم" فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و "ثيابُ" فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع "ثياب" بالصفة في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه.
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق "عليهم"، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ "عاليَهم" ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم، وارتفعُ "ثيابُ" به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
(14/218)
---(1/5709)
وقرأ العامَّةُ / "ثيابُ سُنْدُسٍ" بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ "ثيابٌ" منونةً {سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} برفعِ الجميعِ، فـ"سندسٌ" نعتٌ لـ"ثيابٌ" لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و "خُضْرٌ" نعتٌ لـ"سندس"؛ إذا السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و "إستبرقٌ" نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في "خُضْر وإستبرق" على أربع مراتبَ الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءةُ الأولى. فإنَّ رَفْعَ "خَضْرٌ" على النعتِ لـ ثياب، ورَفْعَ "إستبرقٌ" نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: "على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ" أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ "خُضْرٍ" على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي: "هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة" كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّي لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: "أَهْلَكَ الناسَ الدِّينار الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ"، وفي التنزيل: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ} فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى، وجَرُّ "إستبرق" نَسَقاً على "سندسٍ" لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ "خُضْرٌ" نعتاً لـ"ثيابٌ" وجَرُّ "إستبرقٍ" نَسَقاً على "سُنْدُسٍ"، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ.
(14/219)
---(1/5710)
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ "خُضْرٍ" على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ "إستبرقٌ" على النَّسَقِ على "ثياب" بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ "وإستبرقَ" بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
فقال الزمخشري: "وقُرِىءَ "وإسْتبرقَ" نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حلفُ التعريف. تقول: "الإِستبرق" إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقُرِىءَ "واستبرقَ" بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ: "ودلَّ قولُه "إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن" وقولُه بعدُ: "وقُرىء "واسْتبرق" بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقول عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ". قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: "وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو همٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ بعيدٌ في المعنى. وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها" انتهى. فدلَّ قولُه: "قُطِعَتْ ألفُه" / إلى آخرِه نه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه أولاً: "وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ" أنه قرأ بوَصْلِ(1/5711)
(14/220)
---
الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان: قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها. فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن: "لا يجوز. والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه. والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ". قال الشيخ: "ونقولُ: إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول: بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب، ولمَّا كان قولُه: "خُضْر" يدل على الخُضْرة، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه "خُضْر". وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ". قلت: هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ.
(14/221)
---(1/5712)
قوله: {وَحُلُّوااْ} عطفٌ على "ويَطوف"، عَطَفَ ماضياً لفظاً، مستقبلاً معنىً، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه. وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى: "وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران: سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ"، فناقَشَه الشيخ في قولِه "بالمِعْصم" فقال: "قولُه بالمِعْصم: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ "أَحْسن"، و "أَنْ يكونَ" بدلاً منه، وأمَّا "أنْ يكونَ" مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور: فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ. لا تقول: ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ: "ما أحسن زيداً". وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ". قلت: وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه، وهو المسموعُ من العربِ نثراً. قال عمروُ ابن معديكرب: "للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها" والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.
* { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً }
(14/222)
---(1/5713)
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا}: يجوزُ أَنْ يكونَ "نحن" توكيداً لاسم "إنَّ"، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و "نَزَّلْنا" على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ "إنَّ"، ويجوزُ أَنْ يكونَ "نحن" مبتدأً و "نَزَّلْنا" خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّ". وقال مكي: "نحنُ" في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم "إنَّ"، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ الخبرِ عنه". قلت: وهذه عبارةٌ غريبةٌ جداً؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفا بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ. تقول: "مَرَرْتُ به العاقل" على أَنْ يكونَ "العاقل" نعتاً. أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه.
* { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً }
(14/223)
---(1/5714)
قوله: {أَوْ كَفُوراً}: في "أو" هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها على بابها، وهو قولُ سيبويهِ. قال أبو البقاء: "وتُفيد في النهي [المنعَ] عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة: "جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين" كان التقديرُ: جالِسْ أحدَهما. فإذا نهى فقال: "لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً" فالتقدير: لا تُكَلِّمْ أحدَها، فأيُّهما / كلَّمَهُ كان أحدَهما، فيكونُ ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويَؤُول المعنى: إلى تقديرِ: ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً". وقال الزمخشريُّ: "إنْ قلتَ: معنى "أو": ولا تُطِعْ أحدَهما، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً. قلت: لو قيل: "لا تُطِعْهما: لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما. وإذا قيل: لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقولَ لأبَويْه: "أفّ" عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربْهما على طريق الأَوْلَى". الثاني: أنَّها بمعنى "لا"، أي: لا تُطِعْ مَنْ أَثِم ولا مَنْ كَفَر. قال مكي: "وهو قولُ الفراء، وهو بمعنى الإباحة التي ذكَرْنا". الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين وتقدَّمَتْ أدلَّتُهم.
والكَفور، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ، إلاَّ أنه عُطِفَ لأحدِ شيئَيْن: إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما. وفي التفسير: الآثمُ عُتبةُ، والكَفورُ الوليدُ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال: "فإنْ قلتَ: كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قولِه آثماً أو كفوراً؟ قلت: معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث".
* { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً }
(14/224)
---(1/5715)
قوله: {وَسَبِّحْهُ}: فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان: إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قولَ الشاعر:
4453 - كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى * معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي
البيت لأبي تمام. ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرار فيها.
* { إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }
قوله: {يَوْماً}: مفعولٌ بـ"يَذَرُون" لا ظرفٌ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني. ووراء هنا بمعنى قُدَّم. قال مكي: "سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك" فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ، والصحيُ أنه اسْتُعير لـ قُدَّام. وقيل: بل هو على بابِه، أي: وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به. وفيه تجوُّزٌ.
* { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً }
قوله: {وَإِذَا شِئْنَا}: قال الزمخشري: "وحَقُّه أَنْ يجيءَ بـ"إنْ" لا بـ"إذا" كقولِه: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يعني أنَّ "إذا" للمحقَّقِ، و "إنْ" للمحتملِ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك. وجوابُه أنَّ "إذا" قد تقع موقعَ "إنْ" كالعكسِ.
* { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
(14/225)
---(1/5716)
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه حالٌ، أي: إلاَّ في حالِ مشيئِة اللَّهِ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة. إلاَّ أَنْ يريدَ تفسير المعنى. والثاني:أنه ظرفٌ. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما محلُّ {أَن يَشَآءَ اللَّهُ}؟ قلت: النصبُ على الظرف، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ اللَّهِ، وكذلك قرأ ابنُ مسعود {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} لأنَّ "ما" مع الفعلِ كـ"أَنْ". ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ. لو قلت: "أيجئتُك أَنْ يَصيحَ الديكُ" أو "ما يصيحُ" لم يَجُزْ". قلت: وقد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ.
وقرأ نافعٌ والكوفيون "تَشاؤُون" خطاباً لسار الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قولِه: "نحن خَلَقْناهم". والباقون بالغَيبة جَرْياً على قولِه: "خَلَقْناهم" وما بعدَه.
* { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
(14/226)
---(1/5717)
قوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ}: منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه "أعدَّ لهم" من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: وعَذَّبَ الظالمين، نحوُه: "زيداً مَرَرْتُ به"، أي: جاوَزْتُ ولابَسْتُ. وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها، وهي قولُه: "يُدْخِلُ". وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة "والظَّالمون" رَفْعاً على الابتداءِ، وما بعده الخبرُ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ. وقرأ ابنُ مسعودٍ "وللظالمين" بلام الجرِّ. وفيه وجهان، المشهورُ: أَنْ يكونَ "للظَّالمين" متعلِّقاً بـ"أَعَدَّ" بعده / ويكونَ "لهم" تأكيداً. الثاني: - وهو ضعيفٌ جداً - أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ. فنقول: "بزيدٍ مررتُ به"، أي: مررتُ بزيدٍ مررتُ به. والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ مواقفٍ للفعل الظاهرِ في المعنى. فإنْ وَرَدَ نحوُ "بزيدٍ مَرَرْتُ به" عُدَّ من التوكيدِ، لا من الاشتغالِ.(1/5718)
سورة المرسلات
* { وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً }
قوله: {عُرْفاً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسلات. والعُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. قال الشاعر:
4454 - مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ *لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
(14/227)
وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ "مُرْسَلة" الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ "مُرْسَل" المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ.
وفيه ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف. والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو: "بَكُر" في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ، والمشهورةٌ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن.
* { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً }
قوله: {عَصْفاً}: مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك "نَشْراً" و "فَرْقاً" انتصبا على المصدرِ أيضاً.
* { فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً }
قوله: {ذِكْراً}: مفعولٌ به، ناصبُه "المُلْقِيات". وقرأ العامَّةُ "فالمُلْقِياتِ" بسكون اللامِ وتخفيفِ القافِ اسمَ فاعلٍ، وابن عباس بفتحِ اللامِ وتشديدِ القافِ، من التَّلْقِية، وهي إيصالُ الكلامِ إلى المخاطبِ. ورَوَى عنه المهدويُّ أيضاً فتحَ القافِ اسمَ مفعولٍ أي: مُلْقَيَةٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ تعالى.
* { عُذْراً أَوْ نُذْراً }
(14/228)
---(1/5719)
قوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً}: فيهما أوجهٌ، أحدُها: أنَّهما بدلانِ مِنْ "ذِكْراً". الثاني: أنهما منصوبان به على المفعوليةِ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ جائزٌ. ومنه {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ وَيَتِيماً}. الثالث: أنَّهما مفعولان مِنْ أجلِهما، والعاملُ فيه: إمَّا "المُلْقِيات"، وإمَّا "ذِكْراً"؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ مَعْلولاً بأحدِهما، وحينئذٍ يجوزُ في "عُذْراً" و "نُذْراً" وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونا مصدرَيْنِ بسكونِ العينِ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أَنْ يكونا جمعَ عَذِير ونَذِير، المرادِ بهما المصدرُ بمعنى: الإِعذارِ والإِنذارِ، كانَّكير بمعنى الإِنكار. الرابع: أنَّهما منصوبان على الحالِ من "المُلْقِيات"، أو من الضمير فيها، وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْنِ واقعَيْنِ مَوْقِعَ الحالِ بالتأويلِ المعروفِ في أمثاله، وأَنْ يكونا جمعَ عذيرٍ ونذيرٍ مُراداً بهما المصدرُ، أو مراداً بهما اسمُ الفاعلِ بمعنى: المُعْذِر والمُنْذِر، أي: مُعْذِرين أو مُنْذِرين.
وقرأ العامَّةُ بسكونِ الذالِ مِنْ "عُذْراً" و "نُذْراً". وقرأ زيدُ ابن ثابت وابن خارجة وطلحةُ بضمِّها والحَرَميَّان وابنُ عامر وأبو بكر بسكونِها في "عُذْراً" وضمِّها في "نُذُراً". والسكونُ والضمُّ - كما تقدَّمَ - في أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ كلُّ منهما أصلاً للآخرِ، وأَنْ يكونا أصلَيْنِ، ويجوز في كلٍ من المثقَّلِ والمخفَّفِ أن يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ جمعاً سَكَنَتْ عينُه تخفيفاً. وقرأ إبراهيم التيمي "عُذْراً ونُذْراً" بواو العطفِ موضعَ "أو"، وهي تدلُّ على أنَّ "أو" بمعنى الواو.
* { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ }
(14/229)
---(1/5720)
قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ}: هذا جوابُ القسمِ في قولِه والمُرْسَلاتِ"، وما بعده معطوفٌ عليه، وليس قَسَماً مستقلاً، لِما تقدَّم في أولِ هذا الموضوع، ولوقوعِ الفاءِ عاطفةً؛ لأنها لا تكونُ للقَسَم، و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي - هي اسمُ "إنَّ" و "تُوْعَدون" صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ أي: إنَّ الذي تُوْعَدُونه. و "لَواقعٌ" خبرُها. وكان مِنْ حَقِّ "إنَّ" أَنْ تُكْتَبَ منفصلةً من "ما" الموصولةِ، ولكنهم كتبوها متصلةً بها.
* { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }
قوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}: "النجومُ" مرتفعةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده عند البصريين غيرَ الأخفشِ، وبالابتداء عند الكوفيين والأخفشِ. وفي جواب "إذا" قولان: أحدُهما محذوفٌ تقديرُه: / فإذا طُمِسَت النجومُ وَقَعَ ما تُوْعَدون، لدلالةِ قولِه: "إنَّ ما تُوْعَدُوْن لَواقعٌ"، أو بَانَ الأمرُ. والثاني: أنَّه {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} على إضمارِ القولِ، أي: يُقال: لأيِّ يومٍ، فالفعلُ في الحقيقةِ هو الجوابُ. وقيل: الجوابُ: "ويلٌ يومئذٍ" نقله مكي، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه لو كان جواباً لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه جملةً اسميةً.
* { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ }
قوله: {أُقِّتَتْ}: قرأ أبو عمروٍ "وُقِّتَتْ" بالواوِ، والباقون "أُقِّتَتْ" بهمزةٍ بدلَ الواوِ. قالوا: وهي الأصلُ؛ لأنَّه من الوَقْتِ، والهمزةُ بدلٌ منها؛ لأنَّها مضمومةٌ ضمةً لازِمَةً. وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك في أولِ هذا الموضوع.
* { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }
قوله: {لأَيِّ يَوْمٍ}: متعلِّقٌ بـ"أُجِّلَتْ" وهذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ. أي: يُقال. وهذا القولُ المضمرُ يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً لـ"إذا"، كما تقدَّم، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ "أُقِّتَتْ" أي: مَقُولاً فيها: لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ.
* { لِيَوْمِ الْفَصْلِ }
(14/230)
---(1/5721)
قوله: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ}: بدلٌ مِنْ "لأيِّ يومٍ" بإعادةِ العاملِ. وقيل: بل تتعلِّق بفعلٍ مقدَّرٍ أي: أُجِّلَتْ ليومِ الفَصْل. وقيل: اللامُ بمعنى "إلى" ذكرهما مكيٌّ.
* { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }
قوله: {وَيْلٌ}: مبتدأٌ، سَوَّغ الابتداءَ به كونُه دعاءً. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف وقعَتِ النكرةُ مبتدأً في قولِه: "ويَلٌ"؟ قلت: هو في أَصْلِهِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِه، ولكنه عُدِل به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ معنى الهلاكِ ودوامِه للمدعُوِّ عليهم. ونحوُ {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ويجوز: وَيْلاً له بالنصبِ، ولكن لم يُقْرَأْ به". قلت: هذا الذي ذكره ليس من المُسَوِّغاتِ التي عَدَّها النَّحْويون، وإنما المُسَوِّغُ ما ذكرْتُه لك مِنْ كونه دعاءً. وفائدةُ العدولِ إلى الرفع ما ذكره. و "يومئذٍ" ظرفٌ للوَيْل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً لـ"وَيْلٌ" و "للمُكَذِّبين" خبرُه.
* { أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ }
قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ}: العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ "أَهْلَكَ" رباعياً. وقتادة بفتحِه. قال الزمخشري: "مَنْ هَلَكه بمعنى: أَهْلكه. قال العجَّاج:
4455 - ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا
قلت: "فـ"مَنْ" معمولٌ لـ"هالك"، وهو مِنْ هَلَكَ. إلاَّ أنَّ بعضَ الناسِ جَعَلَ هذا دليلاً على إعمالِ الصفةِ المشبهةِ في الموصولِ، وجَعَلَها مِن اللازمِ؛ لأنَّ شرطَ الصفةِ المشبهةِ أَنْ تكونَ مِنْ فِعْلِ لازم، فعلى هذا لا دليلَ فيه.
* { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ }
(14/231)
---(1/5722)
قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ}: العامَّةُ على رَفْعِ العينِ استئنافاً أي: ثم نحن نُتْبِعُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء. وقال: "وليس بمعطوفٍ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجِبُ أَنْ يكونَ المعنى: أَهْلَكْنا الأوَّلِيْن، ثم أَتْبَعْناهم الآخِرين في الهلاكِ. وليس كذلكَ؛ لأنَّ هلاكَ الآخرينِ لم يَقَعْ بعدُ". قلت: ولا حاجةَ في وجهِ الاستئنافِ إلى تقديرِ مبتدأ قبلَ الفعل، بل يُجْعَلُ الفعلُ معطوفاً على مجموع الجملةِ من قولِه: "ألم نُهْلِك" ويَدُّلُّ على هذا الاستئنافِ قراءةُ عبدِ الله "ثم سَنُتْبِعُهم" بسينِ التنفيسِ.
وقرأ الأعرجُ والعباسُ عن أبي عمروٍ بتكسيِنها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تسكينٌ للمرفوعِ فهو مستأنف كالمرفوعِ لفظاً. والثاني: أنَّ معطوفٌ على مجزومٍ. والمَعْنِيُّ بالآخِرين حينئذٍ قومُ شُعَيْبٍ ولوطٍ وموسى، وبالأوَّلِيْنَ قومُ نوحٍ وعادٍ وثمودَ.
* { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ }
قوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ}: أي: مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيعِ نَفْعَلُ بكلَّ مَنْ أَجْرَمَ.
* { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ }
قوله: {فَقَدَرْنَا}: قرأ نافعٌ والكسائيُّ بالتشديد من التقدير، وهو موافِقٌ لقولِه: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} والباقون بالتخفيف من القُدْرة. ويَدُلُّ عليه قولُه: "فنِعْمَ القادِرون". ويجوز أَنْ يكونَ المعنى على القراءة الأولى: فنِعْمَ القادِرون على تقديرِه، وإن جُعِلت "القادِرون" بمعنى "المُقَدِّرُون" كان جَمْعاً بين اللفظَيْنِ، ومعناهما واحدٌ، ومنه قولُه تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} وقولُ الأعشى:
4456 - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ * من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
* { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً }
(14/232)
---(1/5723)
قوله: {كِفَاتاً}: الكِفاتُ: اسمٌ للوِعاءِ الذي يُكْفَتُ فيه ي: يُجْمَعُ، قاله أبو عبيدة. يقال: كَفَتَه يَكْفِتُه أي: جَمَعَه وضَمَّه. وفي الحديث "اكْفِتُوا صِبْيانَكم" وقال الصمصامة بن الطِّرِمَّاح:
4457 - ونتَ اليوم فوقَ الأرضِ حَيّاً * وأنتَ غداً تَضُمُّك في كِفاتِ
وقيل: الكِفاتُ اسمُ لِمَا يَكْفِتُ كالضِّمام والجِماع. يقال: هذا البابُ جِماعُ الأبوابِ. وفي انتصابِه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ ثانٍ لـ"نَجْعَلْ" لأنَّها للتصيير. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من "الأرضَ"، والمفعولُ الثاني "أحياءً وأمواتاً" بمعنى: ألم نُصَيِّرْها / أحياءً بالنَّبات وأمواتاً بغير نباتٍ أي: بعضُها كذا، وبعضُها كذا. وقيل: كِفاتٌ جمعُ كافِتٍ كصِيامٍ وقِيامٍ في جمعِ صائمٍ وقائمٍ. وقيل: بل هو مصدرٌ كالكتابِ والحسابِ.
* { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً }
قوله: {أَحْيَآءً}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ بـ كِفات، قاله مكي، والزمخشريُّ وبدأ به، بعد أن جَعلَ "كِفاتاً" اسمَ ما يَكْفِتُ كقولِهم: الضِّمام والجِماع، هذا يمنعُ أَنْ يكونَ "كِفاتاً" ناصباً لـ"أحياءً" لأنه ليس من الأسماءِ العاملةِ، وكذلك إذا جَعَلْناه بمعنى الوِاء، على قول أبي عبيدةَ، فإنه لا يعملُ أيضاً، وقد نصَّ النحاةُ على أنَّ أسماءَ الأمكنةِ والأزمنةِ والآلات، وإنْ كانَتْ مشتقةً جاريةً على الأفعالِ لا تعملُ، نحو: مَرْمى ومِنْجل، وفي اسم المصدرِ خلافٌ مشهورٌ، ولكنْ إنما يتمشَّى نصبُهما بكِفات على قولِ أبي البقاء، فإنَّه لم يُجَوَّزْ إلاَّ أَنْ يكونَ جمعاً لاسمِ فاعلٍ، أو مصدراً، وكلاهما من الأسماءِ العاملة.
الوجه الثاني: أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه "كِفات" أي: يَكْفِتُهم أحياءً على ظهرِها، وأمواتاً في بَطْنِها، وبه ثنَّى الزمخشري.
الثالث: أن يَنْتَصِبا على الحالِ من "الأرضَ" على حَذْفِ مضافٍ أي: ذاتَ أحياءٍ وأموات.
(14/233)
---(1/5724)
الرابع: أَنْ يَنْتَصِبا على الحالِ مِنْ محذوفٍ أي: تَكْيفِتُكم أحياءً وأمواتاً؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتٌ للإِنسِ، قاله الزمخشريُّ، وإليه نحا مكيٌّ؛ إلاَّ أنَّه قَدَّره غائباً أي: تَجْمعهم الأرضُ في هاتَيْن الحالتَيْن.
الخامس: أَنْ ينتصِبا مفعولاً ثانياً لـ"نَجْعل" وكِفاتاً حالٌ كما تقدَّم تقريرُه: وتنكيرُ "أحياءً وأمواتاً": إمَّا للتَّفْخيمِ أي: تَجْمَعُ أحياءً لا يُقَدَّرُوْن وأمواتاً لا يُحْصَوْن، وإمَّا للتبعيضِ؛ لأنَّ أَحياءَ الإِنس وأمواتَهم ليسوا بجميع الأحياءِ ولا الأمواتِ، وكذلك التنكيرُ في "ماءً فُراتاً" يحتمل المعنَيْيْنِ أيضاً: أمَّا التفخيم فواضِحٌ لعِظَمِ المِنَّةِ به عليهم، وأمَّا التبعيضُ فكقولِه تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} فهذا مُفْهِمٌ للتبعيضِ، والقرآنُ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً.
والشَّامخاتُ: جمعُ "شامِخ"، وهو المرتفعُ جداً ومنه: "شَمَخَ بأَنْفِه" إذا تكبَّر، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْى العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك.
* { انطَلِقُوااْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
قوله:{انطَلِقُوااْ}: أي: يُقال لهم ذلك. وقرأ الامَّةُ "انطَلِقوا" الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد. ورُوَيْسٌ عن يعقوب "انطلَقوا" بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي: لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك. وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ: فانطَلَقوا نحو قولِك: قلت اذهب فذهب، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ.
* { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ }
قوله: {لاَّ ظَلِيلٍ}: صفةٌ لـ ظلٍّ" و "لا" تتوسَّطُ بين الصفةِ والموصوفِ لإِفادةِ النفي، وجيْءَ بالصفةِ الأولى اسماً، وبالثانية فعلاً، دلالةً على نَفْيِ ثبوتِ هذه الصفةِ واستقرارِها للظلّ، ونَفْيِ التجدُّدِ والحدوثِ للإِغْناءِ عن اللهب.
(14/234)
---(1/5725)
* { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ }
قوله: {إِنَّهَا}: أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقٌ كلَّه لأجلها. وقرأ العامَّةُ: "بَشرَرٍ" بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين، فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحِبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلأُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق.
وأمَّا قراءةُ عيسى / فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً.
(14/235)
---(1/5726)
قوله: {كَالْقَصْرِ} العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ، وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع "قَصَرة" يعني بفتح القافِ. قال الزمخشريُّ: "كحاجةٍ وحِوَج" وقال الشيخ: "كحَلَقة" من الحديدِ وحِلَق". وقُرىء "كالقَصِر" بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ، والأصلُ: القَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى. ويجوز أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه:
4458 - فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ
يريد: ونُمور. فقصَر وكقوله: "النُّجُم" يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور.
* { كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ }
(14/236)
---(1/5727)
قوله: {جِمَالَةٌ}: قرأ الأخَوان وحَفْصٌ "جِمالَةٌ". والباقون "جِمالات". فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَه نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة. قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً لـ"جِمالة" هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً لـ جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً لـ جَمَل المفردِ كقولهم: "رجِالات قريش" كذلك قالوه: وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةٌ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه:
4459 - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ * ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع "بُوقاً" على "بُوقات" مع قولِهم: "أَبْواق"، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو": حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ.
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ "جُمْلة" لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ "جُمالات" جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ "جُملات" جمع جُمالة قاله الزمخشري، وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ "جُمالة" بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.
(14/237)
---(1/5728)
قوله: {صُفْرٌ} صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ: "وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ:
4460 - دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ * بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري:
4461 - حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى * تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها / بالطِّراف، وو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: "حمراءُ" توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ - جمع الله له عَمى الدَّارَيْن - عن قولِه عزَّ وجلَّ: "كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ" فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات - وهي القُلُوسُ - تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ" انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ: "شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيان التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان" قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة:
4462 - فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها * فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
* { هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }
(14/238)
---(1/5729)
قوله: {هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ}: العامَّةُ على رفعٍ "يومُ" خبراً لـ"هذا". وزيد بنُ عليّ والأعرجُ والأعمشُ وأبو حيوةً وعاصمٌ في بعضِ طرقِه بالفتح. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الفتحةِ فتحةُ بناءٍ وهو خبرٌ لـ"هذا" كما تقدَّم. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الظرفِ واقعاً خبراً لـ"هذا" على أَنْ يُشارَ به لِما تقدَّم من الوعيدِ كأنه قيل: هذا العذابُ المذكورُ كائنٌ يومَ لا يَنْطِقون. وقد تقدَّم آخِرَ المائدة ما يُشْبه هذا في قوله: {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} إلاَّ أنَّ النصبَ هناك متواترٌ.
* { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }
قوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ}: العامَّةُ على عَدَمِ تَسْمِيَةِ الفاعِل. وحكى الأهوازِيُّ عن زيدِ بن علي "ولا يَأْذَنُ" سَمَّى الفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. "فيعتذرون" في رفعِه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ أي: فهم يَعْتَذِرون. قال أبو البقاء: "ويكون المعنى: أنَّهم لا يَنْطِقُون نُطْقاً ينفَعُهم، أو يَنْطقون في بعضِ المواقفِ ولا يَنْطِقُون في بعضها". والثاني: أنه معطوفٌ على "يُؤْذن" فيكون مَنْفِيّاً. ولو نُصِبَ لكان مُتَسَبَّباً عنه". وقال ابن عطية: "ولم يُنْصَبْ في جوابِ النفيِ لتشابُهِ رؤوسِ الآي، والوجهان جائزان". انتهى فقد جَعَلَ امتناعَ النصبِ مجردَ المناسبةِ اللفظيةِ، وظاهرُ هذا مع قولِه: "والوجهان جائزان" أنهما بمعنىً واحدٍ، وليس كذلك، بل المرفوعُ له معنىً غيرُ معنى المنصوبِ. إلى مثلِ هذا ذهبَ الأعلمُ فيُرفع الفعلُ، ويكونُ معنه النصبَ، ورَدَ عليه ابنُ عصفور.
* { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ }
قوله: {فِي ظِلاَلٍ}: هذه قراءةُ العامَّةِ، جمعُ ظِلّ. والأعمش "ظُلَلٍ" جمعُ ظُلَّة. وتقدَّم في يس مثلُه، إلاَّ أنهما متواتران.
* { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيائاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
(14/239)
---(1/5730)
قوله: {كُلُواْ}: معمولاً لقولٍ، ذلك القولِ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي: كائِنْين في ظلال، مَقُولاً لهم ذلك، وكذلك {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً} فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي: هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا. ومثله:
4463 - إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً * وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا
أي: هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك.
* { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ}: متعلقٌ بقولِه: "يُؤمنون" أي: إنْ لم يُؤمنوا بهذا القرآنِ فبأيِّ شيءٍ يُؤْمنون؟ والعامَّةُ على الغَيْبة. وقرأ ابن عامر في روايةٍ ويعقوبُ بالخطاب على الالتفات أو على الانتقال.(1/5731)
سورة النبأ
* { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ }
قوله: {عَمَّ}: قد تقدَّم أن البزيَّ يُدخل هاءَ السكتِ عوضاً من ألف "ما" الاستفهاميةِ في الوقف. ونُقِلَ عن ابن كثير أنه يَقرأ "عَمَّه" بالهاء وَصْلاً، أجرى الوصل مُجرى الوقف. وقرأ عبد الله وأُبَيّ وعكرمة "عَمَّا" بإثبات الألفِ. وقد تقدَّم أنه يجوزُ ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام. ومنه:
4464 - على ما قامَ يَشْتِمُني لَئيمٌ * كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
(14/240)
وتقدم أنَّ الزمخشريَّ جَعَلَ منه {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} في يس. و "عَمَّ" فيه قولان، أحدُهما: - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلِّقٌ بـ"يتساءلون" هذا الظاهرِ. قال أبو إسحاق:" الكلامُ تامٌّ في قوله: "عَمَّ يتساءلون"، ثم كان مقتضى القول أن يُجيبَ مُجيبٌ، فيقولَ: يتساءلون عن النبأ العظيم، فاقتضى إيجازُ القرآنِ وبلاغتُه أَنْ يبادِرَ المحتَجُّ بالجوابِ التذي تقتضيه الحالُ والمحاورةُ اقتضاباً للحُجَّة، وإسراعاً إلى مَوْضِعِ قَطْعِهم". والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ ويتعلَّقُ {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} بهذا الفعلِ الظاهرِ. قال الزمخشري: "وعن ابن كثيرٍ أنه قرأ "عَمَّهْ" بهاءِ السَّكْتِ. ولا يَخْلو: إمَّا أَنْ يجريَ الوصلُ مَجْرى الوقفِ، وإمَّا أَنْ يقفَ ويَبْتَدِىءَ {يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} على أَنْ يَضْمَرَ "يتساءلون"؛ لأنَّ ما بعده يُفَسِّرُه كشيءٍ يُبْهَمُ ثم يُفَسَّرُ".
* { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ }
قوله: {عَنِ النَّبَإِ}: يجوزُ فيه ما جازَ في قولِه {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} في البدليةِ والتعلُّقِ بفعلٍ مقدَّرٍ. ويَزيد عليه هنا أنَّه يتعلَّقُ بالفعل الظاهرِ، ويتعلَّقُ ما قبلَه بمضمرٍ، كما تقدَّم عن الزمخشريِّ. وقال ابن عطية: "قال أكثرُ النحاة: قوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} متعلِّقٌ بـ"يتساءلون" الظاهرِ، كأنَّه قال: لِمَ يتساءلون عن النبأ؟ وقوله: "عَمَّ" هو استفهامُ تفخيمٍ وتعظيمٍ.
* { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }
قوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}: "مُخْتلفون" خبرُ "هم" والجارُّ متعلِّقٌ به. والموصلُ يحتملُ الحركاتِ الثلاثَ إتْباعاً وقَطْعاً رفعاً ونصباً.
* { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }
(14/241)
---(1/5732)
قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}: التكرارُ للتوكيد. وقد زَعَمَ الشيخُ جمالُ الدين ابنُ مالك أنَّه مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظيِّ. ولا يَضُرُّ توسُّطُ حرفِ العطفِ. والنَّحْوِيُّون يَأَبَوْن هذا. ولا يُسَمُّونه إلاَّ عَطْفاً. وإنْ أفادَ التأكيدَ. والعامَّةُ على الغَيْبة في الفعلَيْن. والحسنُ وابنُ دينار وابن عامر بخلافٍ عنه بتاءِ الخطاب فيهما. والضحاك: الأولُ كالحسن، والثاني كالعامَّةِ. والغَيْبَةُ والخطابُ واضحان.
* { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً }
قوله: {مِهَاداً}: مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى الخَلْق، فيكون "مِهادا" حالاً مقدرة، و "أوتاداً" كذلك ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها بمشتق أيضاً، أي: مُثَبَّتاتٍ. وأمَّا "سُباتاً" فالظاهر كونُه مفعولاً ثانياً. و "لباساً" يه استعارةٌ حسنةٌ وعليه قولُه:
4465 - وكم لِظَلامِ الليلِ عندك مِنْ يدٍ * تُخَبِّرُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
وقرأ العامَّةُ "مِهاداً"، ومجاهد وعيسى وبعضُ الكوفيين "مَهْداً" وقد تقدَّم هاتان القراءتان في سورة طه، وأنَّ الكوفيين قَرؤوا "مَهْداً" في طه والزخرف فقط. وتقدَّم الفرقُ بينهما ثَمَّةَ.
* { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }
قوله: {وَهَّاجاً}: الوَهَّاجُ: المُضِيءُ المُتلألىءُ، مِنْ قولِهم: وَهَجَ الجَوْهَرُ، أي: تلألأ. ويُقال: وَهِجَ يَوْهَجُ كوَجِلَ يَوْجَلُ، ووَهَجَ يَهِجُ كوَعَدَ يَعِدُ.
* { وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً }
(14/242)
---(1/5733)
قوله: {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ}: يجوزُ في "مِنْ" أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكنَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة "بالمُعْصِرات" بالباءِ بدلَ "مِنْ" وهذا على خلافٍ في "المُعْصِرات" ما المرادُ بها؟ فقيل: السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: "أجَزَّ الزرعُ" إذا حان له أن يُجَزَّ. ومنه "أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ" إذا حان لها أَنْ تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم:
4466 - تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها * قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت: ولولا تأويلُ "أَعْصَرَتْ" بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها.
(14/243)
---(1/5734)
وقال الزمخشري: "وقرأ عكرمةُ "بالمُعْصِرات". وفيه وجهان: أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها / كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن وقتادة: هي السمواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلُ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السمواتِ يَعْصِرْنَ، أي: يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما وَجْهُ مَنْ قرأ "من المُعْصِرات" وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي: تُغيث". قلت: يعني أنَّ "عَصَرَ" بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ، فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء.
قوله: {ثَجَّاجاً} الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي الحديث: "أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ". فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً. وقال الشاعر:
4467 - إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ * تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
(14/244)
---(1/5735)
وقرأ الأعرج "ثجَّاحاً" بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال الزمخشري: "ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي".
* { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً }
قوله: {أَلْفَافاً}: فيه أوجهٌ: أحدُها: أنَّه لا واحدَ له. قال الزمخشري: "ألفافاً": ملتفَّةٌ لا واحدَ له كالأوْزَاعِ والأَخْيافِ". والثاني:أنه جمعُ "لِفّ" بكسرِ اللام، فيكونُ نحو: سِرّ وأَسْرار. وأنشد أبو علي الطوسي:
4468 - جَنَّةٌ لِفٌّ وعَيْشٌ مُغْدِقُ * ونَدامى كلُّهم بِيْضٌ زُهُرْ
وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللغة. الثالث: انه جمعُ لفيف، قاله الكسائي.
ومثلُه: شريف وأَشْراف، وشهيد وأشهاد. وقال الشاعر:
4469 - أحابِيْشُ أَلفْافٌ تبايَنَ فَرْعُهُمْ * وجِذْمُهُمُ عن نسبةِ المتعرّفِ
(14/245)
---(1/5736)
الرابع: أنه جمعُ الجمعِ؛ وذلك أنَّ الأصلَ "ألَفُّ" في المذكر، و "لَفَّاءُ" في المؤنث كَأْحمر وحمراء، ثم جُمِعا على لُفّ كحُمْر، ثم جُمع لُفّ على أَلْفاف، إذا صار لُفٌّ بزنة قُفْلٍ فجُمع جَمْعَه، قاله ابن قتيبة. إلا أن الزمخشري، قال: "وما أظنُّه واجداً له نظيراً مِن نحو: خَضْر وأَخْضار، وحُمْر وأَحْمار". قلت كأنّه يَسْتَبْعِدُ هذا القولَ من حيث إن نَظَائِرَه لا تُجْمَعُ على أَفْعال؛ إذ لا يُقال: خَضْر وأخْضار، ولا حُمْر وأَحْمار، وإن كانا جمعَيْنِ لأَخْضَر وخَضْراء، وأَحْمر وحَمْراء، وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جمعَ الجمعِ لا يَنْقاسُ، ويكفي أَنْ يكونَ له نظيرٌ في المفردات كما رأيتَ مِنْ لُفّاً صارَ يضارِعُ قُفْلاً؛ ولهذا امتنعوا مِنْ تكسيرِ مَفاعل ومَفاعيل لعدمِ نظيرٍ في المفرداتِ يُحْمَلان عليه. الخامس: قال الزمخشري: "ولو قيل: هو جمعُ مُلْتَفَّة بتقدير حَذْفِ الزوائد لكان قولاً وجيهاً". قلت: وفيه تكلُّفُ لا حاجةَ إليه، وأيضاً فغالبُ عباراتِ النحاة في حَذْف الزوائِد إنما هو في التصغير. تقول: تصغيرُ الترخيم بحذفِ الزوائد، وفي المصادر يقولون: هذا المصدرُ على حَذْفِ الزوائِد.
* { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً }
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "يومَ الفَصْل" أو عطفَ بيانٍ له، أو منصوباً بإضمار "أعني" و "أفْواجاً" حالٌ مِنْ فاعل "تأْتون". وتقدَّمَ {فُرَاتاً} {فُتِحَتْ} بالتخفيف والتشديد في الزُّمَر.
* { لِّلطَّاغِينَ مَآباً }
(14/246)
---(1/5737)
قوله: {لِّلطَّاغِينَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لِمْرصاداً، وأنْ يكونَ حالاً مِنْ "مآباً" كان صفتَه فلَّما تقدَّم نُصِب على الحال. وعلى هذَيْن الوجهَيْنِ فيتعلَّق بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بنفسِ "مِرْصاداً" أو بنفسِ "مآباً" لأنه بمعنى مَرْجِع. وقرأ ابن يَعمر وأبو عمرو المنقري "أنَّ جهنمَ" بفتح "أنَّ". قال الزمخشري: "على تعليل قيامِ السَّاعةِ بأنَّ جهنمَ كانت مِرْصاداً للطاغين، كأنه قيل: كان ذلك لإِقامةِ الجزاءِ". قلت: يعني أنَّه علةٌ لقولِه "يومَ يُنْفَخُ" إلى آخره.
وقرأ أبو عياض "في الصُّوَر" بفتحِ الواو. وتقدَّمَ مثلُه.
* { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً }
قوله: {لاَّبِثِينَ}: منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في "للطَّاغِين" وهي حالٌ مقدرةٌ. وقرأ حمزةُ "لَبِثِيْنَ" دونَ ألفٍ، والباقون "لابِثين" بها. وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ، قال: "ومَنْ قرأ "لبِثين"، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو: حَذِر وفَرِق، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ". ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال: "قُرِىءَ: لابِثين ولَبِثين. والَّبِثُ أَقْوى"؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُن، ولا يُقال: لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الَّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه". قلت: وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ. وأمَّا قولُ مكيّ: الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة.
(14/247)
---(1/5738)
قوله: {أَحْقَاباً} منصوبٌ على الظرفِ، وناصبهُ "لا بثين"، هذا هو المشهورُ. وقيل: هو منصوبٌ بقولِه "لا يَذُوقون" وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد "لا" عليها، وهو أحدُ الأوجه، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، قال: "وفيه وجهٌ آخر: وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا: إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه، وحَقِبَ فلانٌ: إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ، وجمعهُ أَحْقاب، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى: لابثين فيها حَقِبين جَحِدين". وقد تقدَّم الكلامُ على "الحُقُب"، وما قيل فيه في سورة الكهف.
* { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً }
قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متسأنفٌ أخبر عنهم بذلك. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في "لابثين" أي: لابِثين غيرَ ذائقين، فهي حالٌ متداخلةٌ. الثالث: أنه صفةٌ لأَحْقاب. قال مكي: "واحتمل الضميرَ لأنه فِعْلٌ، فلم يجبْ إظهارُه، وإن كان قد جَرَى صفةً على غير مَنْ هُوَ له، وإنما جاز أَنْ يكونَ نعتاً لـ"أحقاب" لأجْل الضميرِ العائدِعلى الأَحْقاب في "فيها" ولو كان في موضع "يَذُوْقون" اسمُ فاعلٍ لكان لا بُدَّ مِنْ إظهارِ الضميرِ إذا جَعَلْتَه وصفاً لأَحْقاب". الرابع: أنه تفسيرٌ لقولِه "أحقاباً" إذا جَعَلْتَه منصوباً على الحالِ بالتأويلِ الذي تقدَّم ذِكْرُه عن الزمخشريِّ فإنه قال: "وقولُه: لا يَذوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً تفسيرٌ له. الخامس: أنه حالٌ أخرى مِنْ "للطَّاغين" كـ"لابِثين".
* { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً }
قوله: {إِلاَّ حَمِيماً}: يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً من قولِه "شَراباً" وهذا واضِحٌ. والثاني: أنَّه منقطعٌ. قال الزمخشري: "يعني لا يذُوقون فيها بَرْداً ولا رَوْحاً يُنَفِس عنهم حَرَّ النارِ، ولا شَراباً يُسَكِّن مِنْ عَطَشِهم، ولكنْ يَذُوقون فيها حميماً وغَسَّاقاً".
(14/248)(1/5739)
---
قلت: ومكيٌّ لَمَّا جَعَله منقطعاً جعل البَرْدَ عبارةً عن النومِ، قال: "فإن جَعَلْتَه النومَ كان "حميماً" استثاءً ليس من الأول". وإنما الذي حَمَلَ الزمخشريُّ على الانقطاع مع صِدْقِ اسم الشرابِ على الحميمِ والغَسَّاقِ وَصْفُه له بقولِه "ولا شَراباً يَسَكِّنُ مِنْ عَطِشِهم" فبهذا القَيْدِ صار الحميمُ ليس من جنسِ هذا الشراب. وإطلاقُ البَرْدِ على النوم لغةُ هُذَيْلٍ. وأنشد:
4470 - فإن شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سواكمُ * وإنْ شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْداً
وفي كلامِ بعضِ الأعراب "مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ" قيل: وسُمِّي بذلك لأنه يقطعُ سَوْرةَ العطشِ. والذَّوْقُ على هذين القولين - أعني كونَه رَوْحاً يُنَفِّسُ عنهم الحَرَّ، وكونَه النومَ - مجازٌ. وأمَّا على قولِ مَنْ جعله اسماً للشرابِ الباردِ المُسْتَلَذُّ، ويُعْزَى لابنِ عباس، وأنشد قولَ حَسَّانَ رضي الله عنه:
4471 - يَسْقُونَ مْن وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ * بَرْدُاً يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
وقول الآخر:
4472 - أَمانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسانٌ كأنَّما * سَقَتكَ بها سُعْدى على ظَمَأ بَرْدا
فالذَّوْقُ حقيقةٌ، إلاَّ أنه يضًير فيه تَكْرارٌ بقولِه بعد ذلك: "ولا شراباً".
الثالث: أنه بدلٌ مِنْ قولِه "ولا شراباً"، وهو الأحسنُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. وتقدَّم خلافُ القُراء في {وَغَسَّاقاً} تخفيفاً وتثقيلاً والكلامُ عليه وعلى حميم.
* { جَزَآءً وِفَاقاً }
قوله: {جَزَآءً}: منصوبٌ على المصدر / وعاملُه: إمَّا قولُه "لا يذوقون" إلى آخرِه: لأنَّه في قوةِ: جُوزوا بذلك وإمَّا محذوفٌ. ووِفاقاً نعتٌ له على المبالغةِ، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا موافقة. وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلة بتشديد الفاء مِنْ وفَّقه لكذا.
* { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً }
(14/249)
---(1/5740)
قوله: {كِذَّاباً}: قرأ العامَّةُ كِذَّابً بتشديدِ الذَّالِ. وكان مِنْ حَقِّ مصدرِ فَعَّل أَنْ يأتيَ على التفعيل نحو: صَرَّف تَصْريفاً. قال الزمخشري: "وفِعَّال في باب فَعَّلَ كلِّه فاشٍ في كلامِ فصحاءَ مِنْ العرب، لا يقولون غيرَه. وسَمِعَني بعضُهم أُفَسِّرُ آية، فقال: "لقد فَسَّرْتَها فِسَّاراً ما سُمِعَ بمثِله". قال غيرُه: وهي لغةُ بعضِ العرب يمانيةٌ، وأنشد:
4473 - لقد طالَ ما ثَبَّطْتَني عن صَحابتي * وعن حاجةٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيا
يريد: تَقَضِّيْها. والأصلُ على التَّفْعيل، وإنَّما هو مثلُ: زَكَّى تَزْكِية. وسُمع بعضُهم يَسْتَفْتي في حَجِّه، فقال: "آلحَلْقُ أحَبُّ إليك أم القَصَّار" يريد التقصيرَ".
وقرأ علي رضي الله عنه والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصرة بالتخفيف، وهو مصدرٌ: إمَّا لهذا الفعل الظاهرِ على حَذْفِ الزوائِد، وإمَّا لفعلٍ مقدَّرٍ كـ{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}. قال الزمخشري: وهو مثلُ قولِه : {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} يعني: وكَذَّبوا بآياتِنا فكَذَبوا كِذابا، و تَنْصِبُه بـ"كَذَّبوا"؛ لأنَّه يتضمَّنُ معنى كَذَبوا؛ لنَّ كلَّ مُكَذِّب بالحقِّ كاذبٌ، وإنْ جَعَلْتَه بمعنى المكاذَبَةِ فمعناه: وكذَّبوا بآياتِنا فكاذَبوا مُكاذَبَةً، أو كَذَّبوا بها مُكاذِبين؛ لأنَّهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبَينهم مكاذَبَةٌ، أو لأنهم يتكلَّمون بما هو إفراطٌ في الكذبِن فِعْلَ مَنْ يغالِبُ في أمرٍ فيَبْلُغُ فيه أقصى جُهْدِه". وقال أبو الفضل: "وذلك لغةٌ لليمينِ، وذلك بأَنْ يَجعلوا مصدرَ "كَذَب" مخففاً "كِذاباً". بالتخفيف، مثل: كَتَبَ كِتاباً، فصار المصدرُ هنا مِنْ معنى الفِعْلٍ دونَ لفظِه مثلَ: أَعْطَيْته عَطاءً. قلت: أمَّا كَذَبَ كِذاباً بالتخفيف فيهما فمشهورٌ، منه قولُ الأعشى:
(14/250)
---(1/5741)
4474 - فَصَادَقْتُها وكَذَبْتُها * والمَرْءُ يَنْفَعُه كِذابُه
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون "كُذَّاباً" بضمِّ الكاف وشدِّ الذال، وفيها وجهان، أحدُها: أنه جمع كاذِب نحرك ضُرَّاب في ضارب. وانتصابُه على هذا على الحالِ المؤكِّدة، أي: وكَذَّبوا في حالِ كونِهم كاذبين. والثاني: أنَّ الكُذَّاب بمعنى الواحدِ البليع في الكذب. يقال: رجلٌ كُذَّاب كقولِك: "حُسَّان" فيُجْعَلُ وصفاً لمصدر كَذَّبوا، أي: تَكْذيباً كُذَّاباً مُفْرِطاً كَذِبُه، قالهما الزمخشري.
* { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً }
قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ}: العامَّةُ على النصبِ على الاشتغال، وهذا الراحجُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ. وقرأ أبو السَّمَّال برفعِه على الابتاء وما بعدَه الخبرُ.وهذه الجملةُ مُعْتَرَضٌ بها بين السبب والمُسَبَّب؛ لأنَّ الأًل: وكَذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً فذوقوا. فقوله "فذوقوا" مُتَسَبِّبٌ عن تكذيبهم.
قوله: {كِتَاباً} فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه مصدرٌ مِنْ معنى "أَحْصَيْناه"، أي: أحصاءً. فالتجوُّزُ في نفسِ المصدرِ. الثاني:أنَّه مصدرٌ لـ"أَحْصَيْنا" لأنَّه في معنى "كَتَبْنا" فالتجوُّزُ في نفسِ الفعلِ. قال الزمخشري: "لالتقاءِ الإِحصاء والكَتْبِ في معنى الضَّبْطِ والتحصيل". الثالث: أَنْ يكونَ منصوباً على الحالِ بمعنى: مكتوباً في اللوح.
* { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً }
قوله: {حَدَآئِقَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "مَفازاً" بدلَ اشتمال، أو بدلَ كل مِنْ كل مبالغةً: في أَنْ جُعَلَتْ نفسُ هذه الأشياء مفازاً. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار "أَعْني". وقيل: "مَفازاً" بمعنى الفوز فيقدَّرُ مضافٌ، أي: فوزَ حدائق.
* { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً }
قوله: {وَكَوَاعِبَ}: الكواعب: جمع كاعِب، وهي مَنْ كَعَبَ ثَدْيُها، أي: استدارَ. قال:
(14/251)
---(1/5742)
4475 - وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كَنْتُ أتَّقي * ثلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المِنْقَري:
4476 - وكم مِنْ حَصانٍ قد حَوَيْنا كَريمةٍ * ومِنْ كاعبٍ لم تَدْرِما البؤسُ مُعْصِرِ
والأَتراب تقدَّم ذكرُهن.
* { وَكَأْساً دِهَاقاً }
قوله: {دِهَاقاً}: صفةٌ لـ كأس. والدِّهاقُ: المَلأَى المُتْرَعَةُ. قيل: هو مأخوذٌ مِنْ دَهَقَه، أي: ضَغَطَهُ وشَدَّه بيدِه، كأنه ملأ اليدَ فانضغطَ. قال الشاعر:
4477 - لأَنْتِ إلى الفؤادِ أحَبُّ قُرْباً * من الصَّادي إلى الكأسِ الدهاق
/ وقيل: الدِّهاقُ: المتتابِعة. وأُنْشِد:
4478 - أتانا عامِرٌ يَبْغي قِراناً * فأتْرَعْنا له كأساً دِهاقا
* { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً }
قوله: {وَلاَ كِذَّاباً}: الكسائيُّ بالتخفيف. والباقون بالتثقيلِ، وإنما وافق الكسائيُّ الجماعةَ في الأولِ للتصريحِ بفعلِه المشدَّدِ المقتضي لعدمِ التخفيفِ في "كِذّاباً" وهذا ما تقدَّم في قولِه {فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ} حيث لم يُخْتَلَفْ فيه، للتصريح معه بفعلهِ، بخلافِ الأول. وقال مكيٌّ "مَنْ شَدَّد جَعَلَه مصدرَ "كَذَّبَ" زِيْدَتْ فيه الألفُ كما زِيْدَتْ في "إكراماً"، وقولُهم "تَكْذيباً" جعلوا التاءَ عوضاً مِنْ تشديدِ العينِ، والياءَ بدلاً من الألف، غيَّروا أوَّلَه كما غيَّروا آخره. وأصلُ مصدر الرباعيِّ أَن أَنْ يأتيَ على عَدَدِ حروفِ الماضي بزيادة ألفٍ، مع تغييرِ الحركات. وقد قالوا "تَكَلُّماً" فأتى المصدرُ على عددِ حروفِ الماضي بغير زيادةِ ألفٍ؛ لكثرة حروفِه، وضُمَّت اللامُ، ولم تُكْسَرْ لأنَّه ليسَ اسمٌ على تَفَعِّل، ولم تُفْتَحْ لئلا يَشْتَبِهَ بالماضي" وقراءةُ الكسائيِّ "كِذباً" بالتخفيفِ، جعله مصدرَ: كَذَبِ كِذاباً. وقيل: هو مصدرُ "كَذَب" كقولِك: كَتَبَ كِتاباً.
* { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }
(14/252)
---(1/5743)
قوله: {جَزَآءً}: مصدرٌ مؤكِّدٌ منصوبٌ بمعنى: إنَّ للمتقين مَفازاً، كأنه قيل: جازى المتقين بمَفازٍ:
قوله: "عَطاءً" بدلٌ مِنْ "جَزاءً" وهو اسمُ مصدرٍ. قال:
4479 - ..................... * وبعدَ عَطائِك المِئةَ الرِّتاعا
وجعله الزمخشريُّ منصوباً بـ"جزاءً" نَصْبَ المفعولِ به. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّه جَعَلَ "جزاءً" مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملةِ التي هي "إنَّ للمتقين [مفازاً]". قال: "والمصدرُ المؤكِّد لا يعملُ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرفٍ مصدريِ والفعلِ، ولا نعلَمُ في ذلك خلافاً".
قوله: {حِسَاباً} صفةٌ لـ"عطاءً". والمعنى: كافياً، فهو مصدرٌ أٌيم مُقامَ الوصفِ، أو بُوْلغ فيه، أو على حَذْفِ مضافٍ مِنْ قولِهم: أَحْسَبَنِي الشيءُ، أي: كفاني. وقرأ أبو البرهسم وشُرَيْح بن يزيد الحمصي بتشديد السينِ مع بقاءِ الحاءِ على كسرِها. وتخريجُها أنه مصدرٌ مثلُ كِذَّاب، أقيم مُقامَ الوصفِ، أي: عطاً مُحْسِباً، أي: كافياً. وابن قطيب كذلك إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ، قال أبو الفتح: "بنى فَعَّالاً مِنْ أَفْعَلَ كدَرَّاك مِنْ أَدْرَك" يعني أنه صفةٌ مبالغةٍ، مِنْ أَحْسَبَ بمعنى كافي كذا. وبانُ عباس "حَسَنَا" بالنون من الُسن. وسِراج "حَسْباً" بفتحِ الحاء وسكونِ السينِ والباءِ الموحَّدة، أي: عطاءً كافياً، مِنْ قولِك : حَسْبُك كذا، أي: كافيك.
* { رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً }
(14/253)
---(1/5744)
قوله: {رَّبِّ السَّمَاوَاتِ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمروٍ برفع "ربُّ السمواتِ" و "الرحمنُ". وابن عامر وعاصم بخفضِها، والأخَوان بخفض الأولِ ورَفْعِ الثاني. فأمَّا رَفْعُهما فيجوزُ مِنْ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ "ربُّ" خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو ربُّ. و "الرحمنُ" كذلك، أو مبتدأٌ خبرُه "لا يَمْلِكون". الثاني: أَنْ يُجْعَلَ "ربُّ" مبتدأً، و "الرحمنُ" خبرُه، و "لا يَمْلِكون" خبرٌ ثانٍ، أو مستأنفٌ. الثالث: أَنْ يكونَ "ربُّ" مبتدأً أيضاً و "الرحمنُ" نعتُه، و "لا يَمْلِكون" خبرُ "رَبُّ". الرابع: أنْ يكونَ "رَبُّ" مبتدأ، و "الرحمنُ" مبتدأٌ ثانٍ، و "لا يَمْلِكون" خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ. وحَصَلَ الرَّبْطُ بتكريرِ المبتدأ بمعناه، وهو رأيُ الأخفش. ويجوزُ أَنْ يكونَ "لا يَمْلكون" حالاً، وتكونُ لازمةً.
وأمَّا جَرُّهما فعلى البدل، أو البيانِ، أو النعتِ، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكريرَ البدلِ فيه نظرٌ، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في أواخر هذا الموضوع، آخرِ الفاتحةِ، أو يُجْعَلُ "ربِّ السمواتِ" تابعاً للأولِ، و "الرحمن" تابعاً للثاني على ما تقدَّم. وأمَّا جَرُّ الأولِ فعلى التبعيَّةِ للأولِ، ورفعُ الثاني فعلى الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ الفعليةُ، أو على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و "لا يَمْلِكون" على ما تقدَّم من الاستئنافِ، أو الخبرِ الثاني، أو الحالِ اللازمةِ.
قوله: {يَوْمَ يَقُومُ}: منصوبٌ: إمَّا بـ"لا يتكلَّمون" بعدَه، وإمَّا بـ"لا يَمْلِكون" و "صَفَّا" حالٌ، أي: مُصْطَفِّيْنَ، و "لا يتكلَّمون": إمَّا حالٌ وإمَّا مستأنفٌ.
* { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً }
قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ واو "يتكلمون"، وهو الأَرْجَحُ لكونِه غيرَ موجَبٍ، وأَنْ يكونَ منصوباً على أصلِ الاستثناء.(1/5745)
(14/254)
---
* { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }
قوله: {يَوْمَ يَنظُرُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ / بدلاً مِنْ "يَومَ" قبلَه، وأنْ يكونَ منصوباً بـ"عذاباً"، أي: العذابُ واقعٌ في ذلك اليوم. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً لـ"قريباً"، ولو جعله نعتاً لـ"عذاباً" لكان أَوْلى، والعامَّةُ بفتح ميم "المَرَءُ"، وهي العاليةُ. وابنُ أبي إسحاق بضَمِّها وهي لغةٌ: يُتْبِعون الفاءَ اللامَ. وخَطَّأَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، وليس بصوابٍ لثبوتِها لغةً.
قوله: {مَا قَدَّمَتْ} يجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً مُعلِّقَةً لـ"يَنْظرُ" على أنَّه من النظر، فتكون،ُ الجملةُ في موضعِ نصبٍ على إسقاط الخافضِ، وأَنْ تكونَ موصولةً مفعولاً بها، والنظرُ بمعنى الانتظار، أي: ينتظرُ الذي قَدَّمَتْه يداه. والعامَّةُ لا يُدْغِمون تاءَ "كنتُ" في "تُراباً" قالوا: لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، والإِدغامُ يُشْبه الحذفِ. وفي قولِه "ويقولُ الكافرُ" وَضْعُ ظاهرٍ موضعَ مضمرٍ شهادةً عليه بذلك.(1/5746)
سورة النازعات
* { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً }
قوله: {غَرْقاً}: يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مصدراً على حَذْفِ الزوائد بمعنى: إغْراقاً، وانتصابُه بما قبلَه لملاقاتِه له في المعنى، وإمَّا على الحالِ، أي: ذواتَ إغْراقٍ. يُقال: أَغْرَقَ في الشيءِ يُغْرِقُ فيه إذا أَوْغَلَ وبَلَغَ أقصى غايتِه. ومنه: أغرقَ النازعُ في القَوْسِ، أي: بلغَ غايةَ المَشدِّ.
* { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً}
* {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً}
* {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً }
(14/255)
ونَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلُّها مصادرُ. والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإِنْشاطُ: الحَلُّ. يقال: نَشَطَ البعيرَ: رَبَطه، وأَنْشَطَه: حَلَّه، ومنه: "كأنما أنشط مِنْ عقال". فالهمزةُ للسَّلْبِ. ونَشِطَ: ذَهَبَ بسُرْعَةٍ. ومنه قيل لبقر الوَحْش: نَواشِط. قال هِمْيان بن قُحافة:
4480 - أرى همومي تَنْشِطُ المَناشِطا * الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسِطا
وَنَشَطْتُ الحَبْلَ أَنْشِطُه أُنْشُوْطَة: عَقَدْتُه، وأَنْشَطْتُه مَدَدْتُه، ونَشَطَ كأَنْشَط. قال الزمخشري: "تُنْشِطُ الأرواحَ، أي: تُخْرِجُها، مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنْ البئرِ إذا أَخْرجَه".
و "أَمْراً" مفعولٌ بالمُدَبِّراتِ. وقيل: حال: تُدَبِّرُهُ مَأْموراتٍ، وهو بعيدٌ. والمرادُ بهؤلاء: إمَّا طوائِفُ الملائكةِ، وإمَّا طوائِفُ خَيْلِ الغُزاةِ، وإمَّا النجومُ، وإمَّا المنايا، وإمَّا بَقَرُ الوَحْشِ، وما جَرَى مَجْراها لسُرْعَتِها، وإمَّا أرواحُ المؤمنين.
* { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ }
(14/256)
---(1/5747)
قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ}: منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، هو جوابُ القسم تقديره: لَتْبُعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعدَه عليه، قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ "يومَ تَرْجُفُ" ظرفاً للمُضْمرِ الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يُبْعَثُون عند النَّفْخَةِ الأولى؟ قلت: المعنى: لتُبْعَثُنَّ في الوقتِ الواسعِ الذي تقع فيه النَّفْختان، وهم يُبْعَثُون في بعض ذلك الوقتِ الواسعِ، وهو وقتُ النَّفْخَةِ الأخرى، ودلَّ على ذلك أنَّ قولَه: "تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ" جُعِل حالاً عن "الراجفة". وقيل: العاملُ مقدَّرٌ غيرُ جوابٍ، أي: اذكُرْ يومَ تَرْجُفُ. وفي الجوابِ على هذا أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} واستقبحه أبو بكر بن الأنباريِّ لطولِ الفَصْل. الثاني: أنه قولُه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} لأنَّ "هل" بمعنى "قد". وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه كما قدَّمْتُ لك في {هَلْ أَتَى} أنها لا تكونُ بمعنى "قد"، إلاَّ في الاستفهام، على ما قال الزمخشري. الثالث: أنَّ الجواب {تَتْبَعُهَا} وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَيَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ تَتْبَعُها، فحُذِفَتِ اللامُ، ولم تَدْخُلْ نونُ التوكيدِ على "تَتْبَعُها" للفَصْلِ بين اللامِ المقدَّرَةِ وبين الفعلِ المُقْسَمِ عليه بالظرفِ. ومثلُه {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}. وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: يومَ تَرْجُفُ الراجِفَةُ تَتْبَعُها الرادِفَةُ والنازعاتِ.
وقال أبو حاتم: "هو على التقديم والتأخيرِ كأنه قال: فإذا هُمْ بالسَّاهِرَةِ والنَّازعاتِ". قال ابن الأنباري: "هذا خطأٌ؛ لأنَّ الفاءَ لا يُفْتَتَحُ بها الكلامُ". وقيل: "يومَ" منصوبٌ بما دَلَّ عليه "واجِفَةٌ"، أي: يومَ تَرْجُفُ وَجِفَت. وقيل: بما دَلَّ عليه خاشع، أي: يومَ تَرْجُفُ خَشَعَتْ.
* { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ }
(14/257)
---(1/5748)
قوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}: يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الراجفة، وأَنْ تكونَ مستأنفةً.
* { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ }
قوله: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ }: مبتدأٌ، و "يومئذٍ" منصوبٌ بـ"واجفةٌ"، وواجفة صفةُ القلوبِ، وهو المُسَوِّغُ للابتداءِ بالنكرةِ و "أَبْصارُها" مبتدأٌ ثانٍ، و "خاشِعة" خبرُه، وهو وخبرُ الأولِ. وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ تقديرُه: أبصارُ أصحابِ القلوب. وقال ابنُ عطية: "وجاز ذلك، أي: الابتداءُ بقلوب لأنَّها تخصَّصَتْ بقولِه: "يومئذٍ". ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّ ظرفَ الزمانِ لا يُخَصِّصُ الجثثَ، يعني لا تُوصف به الجثثُ. والواجفةُ: الخائفةُ. يقال: وَجَفَ يَجِفُ وَجيفاً، وأصلُه اضطرابُ القَلْبِ وقَلَقُه. قال قيسُ بن الخطيم:
4481 - إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ * أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ
/ وعن ابن عباس: واجِفَةٌ: خائفةٌ، بلغة هَمْدان. ويُقال: وَجَبَ وَجيباً، بالباءِ الموحدةِ بدلَ الفاءِ.
* { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ }
قوله: {فِي الْحَافِرَةِ}: الحافِرَة: الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء. يقال: رَجَعَ في حافرتِه، وعلى حافرته. ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه. قال:
4482 - أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ * معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ
(14/258)
---(1/5749)
وأصلُه: أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً. وقال الراغب: "وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء، أي: أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل: ألحافرةُ: الأرضُ التي [جُعِلَتْ] قبورُهم فيها ومعناه: أإنَّا لَمَرْدُودون ونحو في الحافِرة؟ أي: في القبور. وقولُه: "في الحافرة" على هذا في موضعِ الحال. وقيل: رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته، أي: هَرِمَ، كقولِه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}. وقولُهم: "النَّقْدُ عند الحافِرة" لِما يُباع نَقْداً. وأصلُه في الفرس إذا بِيْع، فيُقال: لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه. والحَفْرُ: تَأَكُّلُ الأسنانِ. وقد حَفَر فُوه، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْنانِ والإِرْباع، أي: دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً" انتهى. والحافِرَةُ قيل: فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة. وقيل: على النَّسَب، أي: ذات حَفْرٍ، والمراد: الأرضُ. والمعنى: إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً. وقيل: الحافرة: جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم، أي: نمشي أحياءً على أقدامِنا، وَنَطأُ بها الأرضَ. وقيل: هي أولُ الأمرِ. وتقولُ التجَّار: "النَّقْدُ في الحافِرة"، أي: أوَّلُ السَّوْمِ. وقال الشاعر:
4483 - آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا * حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة "في الحَفِرَة" بدون ألف. فقيل: هما بمعنى. وقيل: هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم، مِنْ قولِهم: حَفِرت أسنانُه، أي: تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد. وقوله: "في الحافِرَة" يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم.
* { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً }
(14/259)
---(1/5750)
قوله: {نَّخِرَةً}: قرأ الأخَوان وأبو بكر "ناخِرَة" بألفٍ، والباقون "نَخِرَة" بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة، أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة، أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: باليِية، ونَخِرَة: متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ، والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَهُ فيها الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال الزمخشري: "يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك: طَمعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تُمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير". قلت: ومنه قولُه:
4484 - وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها *قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه:
4485 - أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ *ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ *ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ
ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون: شِدَّةُ هبوبِها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير. يقال: هَشَم نُخْرَتَه، أي: مُقَدَّمَ أَنْفِه. و "إذا" منصوبٌ بمضمرٍ، أي: إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ.
* { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ }
(14/260)
---(1/5751)
قوله: {تِلْكَ}: مبتدأٌ مُشارٌ بها إلى الرَّجْفة والرَّدَّة في الحافِرة. و "كَرَّةٌ". خبرُها. و "خاسِرَةٌ" صفةٌ، أي: ذاتُ خُسْرانٍ، أو أُسْنِدَ إليها الخَسارُ، والمرادُ: أصحابُها، مجازاً. والمعنى: إنْ كان رجوعُنا إلى القيامةِ حَقَّاً فتلك الرَّجْعَةُ رَجْعَةٌ خاسِرَةٌ، وهذا أفادَتْه "إذَنْ" فإنها حرفُ جوابٍ وجزاءٍ عند الجمهور. وقيل: قد لا تكونُ جواباً. وعن الحسنِ: إنَّ "خاسرة" بمعنى كاذِبة.
* { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ }
قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ}: "هي" ضميرُ الكَرَّة، أي: لا تَحْسَبوا تلك الكرَّةَ صعبةً على اللَّهِ تعالى. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قولُه: "فإنما هي"؟ قلت: بمحذوفٍ معناه: لا تَسْتَصْعِبوها، فإنما هي زَجْرَةٌ". قلت: يعني بالتعلُّقِ من حيث المعنى، وهو العطفُ.
* { فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ }
قوله: {فَإِذَا هُم}: المفاجأةُ والتَّسَبُّبُ هنا واضحان والسَّاهرة قيل: وجهُ الأرضِ، والفَلاةُ، وُصِفَتْ بما يقع فيها، وهو السَّهَرُ لأجلِ الخوفِ. وقيل: لأنَّ السَّرابَ يَجْري فيها، مِنْ قولِهم: عَيْنٌ ساهرَةٌ. قال الزمخشري: "والسَّاهرةُ: الأرضُ البيضاءُ المستويةُ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ السَّرابَ يجري فيها، مِنْ قولهم / عينٌ ساهِرَةٌ جارِيةُ الماء، وفي ضَدِّها نائمةٌ. قال الأشعت بن قيس:
4486 - وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً * لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما
أو لأنَّ ساكنَها لا ينامُ، خَوْفَ الهَلَكَة" انتهى. وقال أمية:
4487 - وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ * وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ
يريد: لحمُ حيوانِ أرضٍ ساهرةٍ. وقال أبو كبير الهذلي:
4488 - يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها * وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ
(14/261)
---(1/5752)
قال الراغب: "هي وَجْهُ الأرضِ. وقيل: أرضُ القيامةِ. وحقيقَتُها التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر:
4489 - .................... * تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
والأَسْهَران: عِرْقان في الأنفِ" انتهى. والسَّاهُوْر: غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه. قال:
4490 - ................... * أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ
أي: هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر. وقال أميَّةُ:
4491 - ................... * قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
* { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }
قوله: {إِذْ نَادَاهُ}: "إذ" منصوبٌ بـ"حديثُ" لا بـ"أتاك" لاختلافِ وقتَيْهما. وتقدَّم الكلامُ في {طُوًى} في طه.
* { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }
قوله: {اذْهَبْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ. ويجوزُ أن يكونَ على إضمارِ القولِ. وقيل: هو على حَذْفِ "أَنْ"، أي: أَنْ اذهَبْ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله: "أَنْ اذْهَبْ". و "أَنْ" هذه الظاهرةُ أو المقدرةُ يُحتمل أَنْ تكونَ تفسيريةً، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: ناداه بكذا.
* { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى }
قوله: {هَل لَّكَ} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ. و "إلى أَنْ" متعلقٌ بذلك المبتدأ، وهو حَذْفٌ شائعٌ. والتقدير: هل لك سبيلٌ إلى التزكية ومثله: "هل لك في الخير" يريدون: هل لك رغبةٌ في الخير. وقال الشاعر:
4492 - فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني * بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما
(14/262)
---(1/5753)
وقال أبو البقاء: "لَمَّا كان المعنى: أَدْعوك جاء بـ"إلى". وهذا لا يُفيدُ شيئاً في الإِعراب. وقرأ نافعٌ وابنُ كثير بتشديدِ الزاي مِنْ "تَزَّكَّى" والصادِ مِنْ "تَصَّدَّى" في السورةِ تحتها. والأصلُ: تتزَكَّى وتتصَدَّى، فالحَرَمِيَّان أدغما، والباقون حَذَفُوا نحو: {تَنَزَّلُ}. وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ.
* { فَحَشَرَ فَنَادَى }
قوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى}: لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك، أو يكونُ التقدير: فَحَشَرَ قومَه فناداهم. وقوله "فقال" تفسيرٌ للنداء.
* { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى }
قوله: {نَكَالَ الآخِرَةِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً لـ"أَخَذَ"، والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله الزمخشري، وجعله كـ{وَعْدَ اللَّهِ} {صِبْغَةَ اللَّهِ}. والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: "إمَّا الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِي} فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به.
* { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا }
قوله: {أَمِ السَّمَآءُ}: عطفٌ على "أنتم" وقوله: "بناها" بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه أياها. فالوقفُ على "السماء"، والابتداءُ بما بعدَها. ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}
* { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا }
(14/263)
---(1/5754)
قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا}: جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ. والسَّمْكُ: الارتفاعُ. ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ: "جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً". وسَمَكْتُ الشيءَ: رَفَعْتُه في الهواءِ. وسَمَك هو، أي: ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ. وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ. وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به. والسِّماك: نجمٌ معروفٌ، وهما اثنان: رامحٌ وأَعْزَلُ. قال الشاعر:
4493 - إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا * بيتاً دعائِمُه أعَزُّ وأَطْوَلُ
* { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا }
قوله: {وَأَغْطَشَ}: أي: أظلم بلغةِ أنْمار وأَشْعر. يقال: غَطِش الليل وغَطَّشْتُه أنا، وأَغْطَشْتُه قال:
4494 - عَقَرْتُ لهُمْ ناقتي مَوْهِناً * فلَيْلُهُمُ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
وليلٌ أغطشٌ وليلةٌ غَطْشاءُ. قال الراغب: "وأصلُه من الأَغْطشِ، وهو الذي في عَيْنه عَمَشٌ. ومنه فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتدى فيها. والتغاطُشُ: التَّعامي" انتهى. ويقال: أَغْطشَ الليلُ، قاصراً كأظلم، فأَفْعَلَ فيه متعدٍّ / ولازمٌ.
وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} فيه حَذْفٌ، أي: ضُحى شمسِها، أو أضافَ الليلَ والضُّحى لها للملابسةِ التي بينها وبينهما.
* { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ}: "بعد" على بابِها من التأخيرِ. ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةٍ فُصِّلت؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ، ثم خَلَق السماءَ، ثم دحا الأرضَ.وقولُ أبي عبيدة: "إنها بمعنى قَبْل" مُنْكُرٌ عند العلماءِ. ويقال: دحا يَدْحُوا دَحْواً ودَحَى يَدْحي دَحْياً، أي: بَسَط، فهو من ذواتِ الواوِ والياءِ، فيُكتبُ بالألف والياء، ومنه قيل لِعُشِّ النَّعامة: أُدْحُوٌّ، وأُدْحِيٌّ، لانبساطِه في الأرض. وقال أمية:
4495 - وبَثَّ الخَلأْقَ فيها إذ دَحاها * فهم قُطَّانُها حتى التَّنادِي
(14/264)
---(1/5755)
وقيل: دحى بمعنى سَوَّى. قال زيد بن نُفَيْل:
4496 - وأَسْلَمْتُ وَجْهِيْ لِمَنْ أَسْلَمَتْ *له الأرضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثقالاً
دَحاها فلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّها *بأَيْدٍ وأَرْسى عليها الجِبالا
والعامَّةُ على نصبِ "الأرض" و "الجبال" على إضمارِ فعلٍ مفسَّرٍ بما بعده، وهو المختارُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ. ورَفَعَهما الحسنُ وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السَّمَّال وعمرُو بن عبيد، على الابتداء، وعيسى برفع "الأرض" فقط.
* { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا }
قوله: {أَخْرَجَ}: فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ تفسيراً. والثاني: أَنْ يكونَ حالاً. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: فهلاَّ أَدْخَلَ حرفَ العطفِ على "أَخْرَجَ". قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ "دحاها" بمعنى بَسَطها ومهَّدها للسُّكنى، ثم فَسَّر التمهيدَ بما لا بُدَّ منه في تأتِّي سُكْناها مِنْ تسويةِ أمرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وإمكانِ القَرارِ عليها. والثاني: أَنْ يكونَ "أَخْرَجَ" حالاً بإضمار "قد" كقولِه: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}. قلت: إضمار "قد" هو قولُ الجمهورِن وخالفَ الكوفيون والأخفش.
* { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }
قوله: {مَتَاعاً}: العامَّةُ على النصبِ مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدَّرٍ، أي: مَتَّعكم. والمَرْعَى في الأصل: مكانٌ أو زمانٌ أو مصدرٌ، وهو هنا مصدرٌ بمعنى المفعولِ، وهو في حق الآدميين استعارةٌ.
* { فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى }
(14/265)
---(1/5756)
قوله: {فَإِذَا جَآءَتِ}: في جوابِها أوجهٌ، أحدُها: قولُه: "فأمَّا مَنْ طغى" نحو: "إذا جاءك بنو تميم فأمَّا العاصي فَأَهِهْه، وأمَّا الطائعُ فأكْرِمْهُ". وقيل: محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري: فإنَّ الأمرَ كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه. وقدَّره غيرُ انقسم الراؤون قسمين. وقيل: عاينوا أو علموا. وقال أبو البقاء: "العاملُ فيها جوابُها، وهو معنى قولِه: "يومَ يتَذَكَّرَ الإِنسانُ". والطامَّة. الدَّاهِية تَطِمُّ على غيرشها من الدَّواهي لِعَظِها. والطَّمُّ: الدَّفْنُ. ومنه: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ. وفي المثل: "جرى الوادي فَطمَّ على القُرى" والمرادُ بها في القرآن النخفةُ الثانيةُ لأنَّ بها يَحْصُل ذلك.
* { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى }
قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ}: بدلٌ مِنْ "إذا" أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: أعني يومَ، أو يومَ يتذكَّرُ يجري كيتَ وكيتَ.
* { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى }
قوله: {وَبُرِّزَتِ}: العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ مشدداً، و "لِمَنْ يرى" بياء الغيبة. وزيد بن عليّ وعائشةُ وعكرمةُ مبنياً للفاعلِ مخففاً، و "ترى" بتاءٍ مِنْ فوقُ فجوَّزوا في تاء "ترى" أَنْ تكونَ للتأنيثِ، وفي "ترى" ضمير الجحيم كقولِه: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وأَنْ تكونَ للخطابِ، أي: ترى أنت يا محمدُ. وقرأ عبد الله "لِمَنْ رأى" فعلاً ماضياً.
* { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى }
قوله: {هِيَ الْمَأْوَى}: إمَّا: هي المَأْوى له، أو هي مَأْواه، وقامَتْ أل مَقامَ الضميرِ، وهو رأيُ الكوفيين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذا الخلافِ والردُّ على قائلِه بقوله:
4497 - رَحِيْبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفيقةٌ * بجَسَّ النَّدامى بَضَّمةُ المُتَجَرِّدِ
(14/266)
---(1/5757)
إذا لو كانَتْ أل عِوَضاً من الضميرِ لَما جُمع بينهما في هذا البيتِ. ولا بُدَّ مِنْ أحدِ هذَيْن التأويلَيْن في الآيةِ الكريمةِ لأجلِ العائدِ من الجملةِ الواقعةِ خبراً إلى المبتدأ. والذي حَسَّن عدمَ ذِكْرِ العائدِ كَوْنُ الكلمةِ وقعَتْ رأسَ فاصلةٍ. وقال الزمخشريك:"والمعنى: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه، كما تقولُ للرجل: / "غُضَّ الطرفَ" وليس الألفُ واللامُ بدلاً من الإِضافةِ، ولكنْ لَمَّا عُلِمَ أنَّ الطاغيَ هو صاحبُ المَأْوى، وأنَّه لا يَغُضُّ الرجلُ طَرْفَ غيره، تُرِكَتِ الإِضافةُ، ودخولُ الألفِ واللامِ في "المَأْوَى" والطَّرْفِ للتعريفِ لأنَّهما معروفان".
قال الشيخ: "وهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ منه الرابِطُ العائدُ على المبتدأ، إذ قد نَفَى مذهبَ الكوفيين، ولم يُقَدِّر ضميراً كما قَدَّره البصريُّون، فرامَ حصولَ الرابطِ بلا رباطٍ". قلت: قوله: "ولكنْ لَمَّا عُلِمَ" إلى آخره هو عينُ قولِ البصريين، ولا أَدْري كيف خَفِيَ عليه هذا؟
* { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا }
(14/267)
---(1/5758)
قوله: {فِيمَ أَنتَ}: "فيم" خبرٌ مقدمُ، و "أنت" مبتدأٌ مؤخرٌ و "مِنْ ذِكْراها" متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، والمعنى: أنت في أيِّ شيءٍ مِنْ ذِكْراها، أي: ما أنت مِنْ ذكراها لهم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ. وقال الزمخشريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها: "لم يَزَلْ عليه السلامُ يَذْكُرِ الساعةَ، ويُسْألُ عنها حتى نَزَلَتْ". قال: فعلى هذا هو تَعَجُّبٌ مِنْ كثرةِ ذِكْرِ لها، كأنَّه قيل: في أيِّ شُغْلٍ واهتمامٍ أنا مِنْ ذِكراها والسؤال عنها". وقيل: الوقفُ على قولِه: "فيمَ" وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: فيم هذا السؤالُ، ثم يُبْتدأ بقولِه: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}، أي: إرسالُك وأنت خاتمُ الأنبياءِ، وآخرُ الرسلِ، والمبعوثُ في نَسْمِ الساعةِ، ذِكْرٌ مِنْ ذِكْراها وعلامةُ مِنْ علاماتِها، فكَفاهم بذلك دليلاً على دُنُوِّها ومشارَفَتِها والاستعدادِ لها، ولا معنى لسؤالِهم عنها، قاله الزمخشري، وهو كلامٌ حسنٌ لولا أنه يُخالِفُ الظاهرَ ومُفَكِّكٌ لنَظْمِ الكلامِ.
* { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا }
قوله: {مُنذِرُ مَن}: العامَّةُ على إضافةِ الصفةِ لِمعمولِها تخفيفاً. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن بالتنوين. قال الزمخشريُّ: "وهو الأصلُ، والإِضافةُ تخفيفٌ، وكلاهما يَصْلُحُ للحالِ الاستقبالِ. فإذا أُريد الماضي فليس إلاَّ الإِضافةُ كقولِك: هو مُنْذِرُ زيدٍ أمسِ". قال الشيخ: "قوله: "هو الأصلُ" يعنى التنوينَ هو قولٌ قاله غيرُه، ثم اختار الشيخُ أنَّ الأصلَ الإِضافةُ. قال: "لأنَّ العملَ إنما هو بالشَّبه، والإِضافةُ أصلٌ في الأسماءِ. ثم قال: "وقوله فليس إلاَّ الإِضافةُ فيه تفصيلٌ وخِلافٌ مذكورٌ في النحوط. قلت: لا يُلْزِمُه أَنْ يَذْكُرَ محلَّ الوفاقِ، بل هذان اللذن ذكرهما مذهبُ جماهيرِ الناسِ.
* { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }
(14/268)
قوله: {أَوْ ضُحَاهَا}: أي: ضُحى العَشِيَّةِ، أضاف الظرفَ إلى ضميرِ الظرفِ الآخرة تجوُّزاً واتِّساعاً، وذَكَرهما لأنهما طرفا النهارِ، وحَسَّن هذه الإِضافةَ وقوعُ الكلمةِ فاصلةً.(1/5759)
سورة عبس
* { أَن جَآءَهُ الأَعْمَى }
قوله: {أَن جَآءَهُ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وناصبُه: إمَّا "تَوَلَّى" وهو قولُ البَصْريين، وإمَّا "عَبَسَ" وهو قولُ الكوفيين. والمختارُ مذهبُ البَصْريين لعَدَمِ الإِضمارِ في الثاني، وقد عَرَفْتَ تحقيقَ هذا فيما تقدَّم مِنْ مسائلِ التنازع. والتقدير: لأَنْ جاءَه الأعمى فَعَلَ هذَيْنِ الفِعلَيْنِ. والخلافُ في موضع "أَنْ" بعد حَذْفِ الجارِّ مشهورٌ. وقيل: "أَنْ" بمعنى "إذ" نقله مكي.
وقرأ زيدُ بنُ عليّ "عَبَّس" بالتشديد. والعامَّةُ على "أنْ" بهمزةٍ واحدةٍ. وزيد بن علي وعيسى وأبو عمران الجوني بهمزتَيْن. وقال الزمخشري: "وقُرِىء آأنْ بهمزتين وبألفٍ بينهما، وُقِفَ على "عَبَس وتولَّى" ثم ابْتُدِىء على معنى: ألأَنْ جاءَه الأعمى فَعَل ذلك".
* { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى }
قوله: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}: الظاهرُ أجراءُ الترجِّي مُجرى الاستفهام لِما بينهما من معنى الطلبِ في التعليق؛ لأنَّ المعنى منصَبٌّ على تَسَلُّطِ الدِّراية على الترجِّي؛ إذ التقدير: لا يَدْري ما هو مترجَّى منه التزكيةُ أو التذكُّرُ. وقيل: الوقفُ على "يَدْري" والابتداءُ بما بعده على معنى: وما يُطْلِعُك على أمرهِ وعاقبةِ حالِه، ثم ابتدأ فقال: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}.
* { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى }
(14/269)
---(1/5760)
قوله: {فَتَنفَعَهُ}: قرأ عاصم بنصبه، والباقون برفعه. فأمَّا نصبُه فعلى جوابِ الترجِّي كقوله: {فَأَطَّلِعَ} في سورة المؤمن وهو مذهبٌ كوفيٌّ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك. وقال ابن عطية: "في جواب التمني؛ لأنَّ قولَه "أو يَذَّكَّرُ" في حكم قولِه "لعلَّه يزَّكَّى". قال الشيخ: "وهذا ليس تمنياً إنما هو تَرَجٍّ". قلت: إنما يريد التمنيَ المفهومَ من الكلام، ويدلُّ له ما قال أبو البقاء: "وبالنصب على جواب التمنِّي في المعنى" وإلاَّ فالفرقُ بين التمني والترجِّي لا يَجْهَلُه أبو محمد. وقال مكي: "مَنْ نصبه جَعَلَه جوابَ "علَّ" بالفاء لأنه غيرُ موجَبٍ فأشبه التمنيَ والاستفهامَ، وهو غيرُ معروفٍ عند البصريين".
وقرأ عاصمٌ في ورايةٍ والأعرجُ "أو يَذْكُرُ" بسكونِ الذالِ وتخفيفِ الكافِ مضومةً مضارعَ ذَكَرَ.
* { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى }
قوله: {تَصَدَّى} تقدَّمَتْ / فيه قراءتا التثقيلِ والتخفيفِ، ومعناه تتعرَّضُ. يُقال: تَصَدَّى، أي: تَعَرَّضَ وأصلُه تَصَدَّدَ من الصَّدَدِ، وهو ما استقبلك وصار قُبالتَك، فأبدلَ أحدَ الأمثالِ حرفَ علةٍ نحو: تَظَنَّيْتُ وَقَصَّيْتُ أَظْفاري و:
4498 - تَقَضِّيَ البازِيْ .........
قال الشاعر:
4499 - تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كأنَّ جَبينَه * سِراجُ الدُّجى تُجْبَى إليه الأساوِرُ
وقيل: هو من الصَّدى، وهو الصوتُ المسموعُ في الأماكنِ الخاليةِ والأجرامِ الصُّلبةِ. وقيل: من الصَّدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويُتَمَحَّلُ لذلك إذا قلنا: أًصلُه من الصوت أو العطش.
وقرأ أبو جعفر "تُصَدَّى" بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الصادِ، أي: تَصَدِّيك يُحَرِّضُك على إسلامِه. يقال: تَصَدِّي الرجلِ وتَصْدِيَتُه. وقال الزمخشري: "وقُرِىء "تُصَدَّى" بضم التاء، أي: تُعَرَّضُ، ومعناه: يَدْعوك داعٍ إلى التَّصَدِّي له من الحِرْصِ والتهالُكِ على إسلامِه".
* { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى }
(14/270)
---(1/5761)
قوله: {أَلاَّ يَزَّكَّى}: مبتدأٌ خبرُه عليك، أي: ليس عليك عَدَمُ تَزْكيتِه.
* { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى }
قوله: {يَسْعَى}: حالٌ مِنْ فاعل "جاءكَ" وقوله "وهو يَخْشى" جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ "يَسْعى"، فهو حالٌ مِنْ حالٍ. وجَعْلُها حالاً ثانية معطوفةً على الأولى ليس بالقويِّ.
* { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى }
قوله: {تَلَهَّى}: أًصلُه تَتَلَهَّى مِنْ لَهِيَ يَلْهى بكذا، أي: اشتغل، وليس هو من اللهوِ في شيءٍ. وقال الشيخ: "ويمكنُ أن يكونَ منه؛ لأنَّ ما يُبْنى على فَعِل من ذواتِ الواو تَنْقَلِبُ واوه ياءً لانكسارِ ما قبلَها نحو: شَقِي يَشْقى. فإن كان مصدرُه جاء بالياءِ فيكونُ مِنْ مادةٍ غيرِ مادةِ اللهو". قلت: الناسُ إنما لم يَجْعلوه من اللهو لأَجْلِ أنه مُسْنَدٌ إلى ضمير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يَليق بمَنْصِبه الكريم أَنْ يَنْسُبَ اللَّهُ تعالى إليه التفعُّلَ من اللهو بخِلاف الاشتغال، فإنه يجوزُ أَنْ يَصْدُرَ منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ غيرُ هذا، وإنما سَقَط الشيخ.
وقرأ ابن كثير في روايةِ البزِّي عنه "عَنْهو تَّلهَّى" بواوٍ هي صلةٌ لهاءِ الكناية وتشديدِ التاءِ، والأصل تَتَلَهَّى فأدغم، وجاز الجَمْعُ بين ساكنَيْن لوجود حرفِ علةٍ وإدغامٍ، وليس لهذه الآيةِ نظيرٌ: وهو أنه إذا لقي صلةَ هاءِ الكناية ساكنٌ آخرُ ثَبَتَتِ الصلةُ بل يجبُ الحَذْفُ. وقرأ أبو جعفر "تُلَهَّى" بضم التاء مبنياً للمفعولِ، أي: يُلْهِيْكَ شأنُ الصَّناديد. وقرأ طلحة "تَتَلَهَّى" بتاءَيْن وهي الأًلُ، وعنه بتاءٍ واحدةٍ وسكونِ اللام.
* { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ }
قوله: {إِنَّهَا}: الضمير للسورةِ أو للآيات.
* { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ }
قوله: {ذَكَرَهُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى؛ لأنه مُنَزِّلُ التذكِرَة، وأن تكونَ للتذكرة، وذكَّر ضميرَها لأنها بمعنى الذِّكْر والوَعْظ.(1/5762)
(14/271)
---
* { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ }
قوله: {فَي صُحُفٍ}: صفةٌ لـ"تَذْكِرة" فقوله {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} جملةٌ معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها. ونحوُها: {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } ويجوز أَنْ يكون "في صُحُف" خبراً ثانياً لـ"إنَّها"، والجملةُ معترضةٌ بين الخبرَيْن.
* { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }
قوله: {سَفَرَةٍ}: جمعُ سافِر وهو الكاتبُ، ومثلُه كاتِب وكَتَبة. وسَفَرْتُ بين القومِ أَسْفِرِ سِفارة: أَصْلَحْتُ بينهم. قال:
4500 - فما أَدَعُ السَّفارة بين قومي * وما أَسْعلى بغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
وأَسْفَرَتِ المرأةُ: كَشَفَتْ نِقابها.
* { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ }
قوله: {مَآ أَكْفَرَهُ}: إمَّا تعجبٌ، وإمَّا استفهامُ تعجبٍ.
* { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ }
قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للإِنسانِ. والسبيل ظرفٌ، أي: يَسَّر للإِنسان الطريقَ، أي: طريق الخيرِ والشرِّ كقولِه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ}. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ لـ يَسَّره، والهاء للإِنسان، أي: يَسَّره السبيلَ، أي: هداه له". قلت: فلا بُدَّ مْن تضمينِه معنى أَعْطى حتى يَنْصِبَ اثنين، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ، أي: يَسَّره للسبيل، ولذلك قَدَّره بقولِه: هداه له. ويجوزُ أَنْ يكون "السبيل" منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ، والضميرُ له، تقديره: ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره، أي سَهَّله للناسِ كقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وتقدَّم مثلُه في قولِه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}
* { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }
قوله: {فَأَقْبَرَهُ}: أي: جَعَلَ له قَبْراً. يُقال: قَبَرَه إذا دَفَنَه وأَقْبَره، أي: جَعَلَه بحيث يُقْبَرُ، وجَعَلَ له قبراً، والقابِرُ: الدافنُ بيده. قال الأعشى:
(14/272)
---(1/5763)
4501 - لو أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها * عاشَ ولم يُنْقَلْ إلى قابِرِ
* { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ }
قوله: {شَآءَ}: مفعولُه محذوفٌ، أي: شاءَ إنْشارَه. وأَنْشَرَه: جوابُ "إذا". وقرأ شعيبُ بن أبي حمزة نَشَره ثلاثياً، ونقلها أبو الفضلِ أيضاً وقال: "هما لغتان بمعنى الإِحياء".
* { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ }
قوله: {مَآ أَمَرَهُ}: "ما" موصولةٌ. قال أبو البقاء: "بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما أمره به". قلت: وفيه نظرٌ من حيث إنَّه قَدَّر العائدَ مجروراً بحرفٍ لم يَجُرَّ الموصولَ: ولا أمره به. فإنْ قلت: "أمرَ" يتعدَّى إليه بحَذْفِ الحرفِ فأُقَدِّرُه غيرَ مجرورٍ. قلت: إذا قَدَّرْتَه غيرَ مجرورٍ: فإمَّا أَنْ تقدِّرَه متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مُشْكِلٌ؛ لِما قَدَّمْتُ في أولِ البقرة عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
* { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً }
(14/273)
---(1/5764)
قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً}: قرأ الكوفيون "أنَّا" بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ "طعامِه" فتكونُ في محلِّ جر. استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: "بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ الاستمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير: وقد نحا مكي إلى هذا فقال: لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّوُ؛ لأنَّ معنى "إلى طعامه": إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه".
والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ لأنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها. والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ.
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي "أنَّى" التي بمعنى "كيف" وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ، وعلى غيرِها كلمتان.
* { وَعِنَباً وَقَضْباً }
(14/274)
---(1/5765)
قوله: {وَقَضْباً}: القَضْبُ هنا قيل: الرُّطَبُ لأنه يُقْضَبُ من النخلِ، أي: يُقْطَعُ. ورجَّحه بعضُهم بذِكْرِه بعد قوله: "وعِنَباً" وكثيراً ما يَقْترنان. وقيل: القَتُّ، كذا يُسَمِّيه أهلُ مكة. وقيل: كلُّ ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدم. وقيل: هو الرَّطْبَةُ. والمقاضِبُ: الأرضُ التي تُنْبِتُها. قال الراغب: "والقَضيب كالقَضْب، لكنَّ القضيبَ من فروع الشجرِ، والقَضْب في البَقْلِ، والقَضْبُ - أي: بالفتح - قَطْعُ القَضْبِ والقَضيبِ، وعنه عليه السلام: "أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تَصْليباً قَضَبَه". وسيفٌ قاضِبٌ وقَضيبٌ، أي: قاطعٌ، فقضيب هنا بمعنى فاعِل، وفي الأولِ بمعنى مَفْعول، وناقة قَضِيب لِما يُؤْخَذُ من بين الإِبلِ ولم تُرَضْ، وكلُّ ما لم يُهَذَّبْ فهو مقتضَبٌ، ومنه "اقتضابُ الحديثِ".
لِما لم يُتَرَوَّ ويُهَذَّبْ. وقال الخليل: "القضيب: أغصانُ الشجرِ ليُتَّخَذَ منها قِسِيٌّ / أو سِهامٌ.
* { وَحَدَآئِقَ غُلْباً }
قوله: {غُلْباً}: جمعُ أَغْلَب وغَلْباء كحُمْر في أَحْمر وحَمْراء. يقال: حديقةٌ غَلْباءُ، أي: غليظةُ الشجرِ ملتفَّتُه. واغْلَوْلَبَ العُشْبٌ، أي: غَلُظَ. وأصلُه في وصفِ الرِّقاب. يقال: رجلٌ أغلبُ، وامرأةٌ غَلْباءُ، أي: غليظا الرَّقَبةِ. قال عمرو بن معدي كرب:
4502 - يَسْعَى بها غُلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ * بُزْلٌ كُسِيْنَ من الكُحَيْلِ جِلالا
والغَلَبَةُ: القَهْرُ، أن تَنالَ وتُصيبَ غَلَبَةَ رقبتِه، هذا أصله.
* { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً }
قوله: {وَأَبّاً}: الأبُّ للبهائم بمنزلةِ الفاكهةِ للناس. وقيل: هو مُطْلَقُ المَرْعى. قال بعضُهم يمدح النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
4503 - له دَعْوَةٌ مَيْمونَةٌ ريحُها الصَّبا * بها يُنْبِتُ اللَّهُ الحَصيدةَ والأَبَّا
وقيل: الأبُّ يابِسُ الفاكهةِ، وسُمِّي المَرْعى أبَّاً لأنه يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ، والأَبُّ والأَمَّ بمعنىً. قال:(1/5766)
(14/275)
4504 - جِذْمُنا قَيْسٌ ونَجْدٌ دارُنا * ولنا الأَبُّ بشها والمَكْرَعُ
وأبَّ لكذات، أي: تَهَيَّأن يَؤُبُّ أبَّاً وأَبابة وأَباباً. وأبَّ إلى وطنِهِ، إذا نَزَعَ إليه نُزوعاً، تَهَيَّأَ لِقَصْدِه، وكذا أبَّ لِسَيْفِه، أي: تهيَّأ لِسَلِّه. وقولُهم: "إبَّانَ ذلك" هو فِعْلان منه، وهو الزمانُ المُهَيَّأُ لفِعْلِه ومجيئِه.
* { فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ }
قوله: {الصَّآخَّةُ}: الصَّيحَةُ التي تَصُخُ الآذانَ، أي: تَصُمُّها لشِدَّةِ وَقْعَتِها. وقيل: هي مأخوذةٌ مِنْ صَخَّة بالحجَرِ، أي: صَكَّة به. وقال الزمخشري: "صَخَّ لحديثِه مثلَ أصاخ فوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بالصاخَّة مجازاً؛ لأنَّ الناسَ يَصِخُّون لها". وقال ابن العربي: "الصَّاخَّة: التي تُوْرِثُ الصَّمَمَ، وإنها لَمُسْمِعَةٌ، وهذا مِنْ بديع الفصاحة كقوله:
4505 - أصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أيَّامَ فُرْقَتِهمْ * فهل سَمِعْتُمْ بسِرٍ يُوْرِث الصَّمَما
وقال: 4506 - أَصَمَّ بك النَّاعي وإنْ كانَ أَسْمَعا * .........................
وجوابُ "إذا" محذوفٌ، يَدُلُّ عليه قولُه {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، أي: التقديرُ: فإذا جاءَتِ الصَّاخةُ اشتغلَ كلُّ أحدٍ بنفسِه.
* { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ }
قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ}: بدلٌ مِنْ "إذا"، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "يُغْنِيْه" عاملاً في "إذا" ولا في "يومَ" لأنه صفةٌ لشَأْن، ولا يتقدَّمُ معمولُ الصفةِ على موصوفِها. والعامَّةُ على "يُغْنيه" من الإِغناء، وابن محيصن والزُّهريُّ وابن أبي عبلة وحميد وابن السَّمَيْفَع "يَعْنِيه" بفتح الياء وبالعينِ المهملةِ، مِنْ قولِهم: عَناني الأمرُ، أي: قَصَدني.
* { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ }
(14/276)
قوله: {غَبَرَةٌ}: الغَبَرَةُ: الغُبارُ، والقَتَرَةُ: سضوادٌ كالدُّخان. وقال أبو عبيدة: "القَتَرُ في كلامِ العربِ: الغبارُ جمعُ القَتَرة". قال الفرزدق:
4507 - مُتَوَّجٌ برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُه * مَوْجٌ ترى فوقَه الراياتِ والقَتَرا
قلت: وفي عطفِه على الغَبَرة ما يَرُدُّ هذا، إلاَّ أَنْ يقولَ: لَمَّا اختلفَ اللفظانِ حَسُن العطفُ كقولِه:
4508 - .................... * ......................كَذِباً ومَيْنا
وقوله:
4509 - ...................... * ............النَّأْيُ والبُعْدُ
وهو خلافُ الأصلِ. والعامَّةُ على فتحِ التاءِ مِنْ "قَتَرة"، وأَسْكنها ابنُ أبي عبلة.(1/5767)
سورة التكوير
* { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }
قوله: {إِذَا الشَّمْسُ}: في ارتفاع "الشمسِ" وجهان، أصحُّهما: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ مقدرٍ مبنيٍّ للمفعول، حُذِف وفَسَّره ما بعده على الاشتغالِ. والرفعُ على هذا الوجهِ - أعني إضمارَ الفعل - واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يُجيزون أَنْ يَلِيَها غيرُه، ويتأوَّلون ما أَوْهَمَ خلافَ ذلك، والثاني: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وهو قول الكوفيين والأخفش لظواهرَ قد جاءَتْ في الشعر، وانتصر له ابنُ مالك وهناك أظهَرْتُ معه البحثُ. وقال الزمخشريك "ارتفاعُ الشمسُ على الابتداءِ أو الفاعليةِ. قلت: بل على الفاعليةِ" ثم ذكرَ نحوَ ما تدم. ويعني بالفاعليةِ ارتفاعَها بفعلٍ في الجملةِ، وقد مرَّ أنه يُسَمَّى مفعولُ ما لم يسَمَّ فاعلُه فاعلاً. وتقدَّم تفسير التكوير في أوّلِ "تنزيلُ". وارتفاعُ "النجوم" وما بعدَها كما تقدَّم في "الشمس".
* { وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }
والاْنكِدار: الانتثارُ، أي: انصَبَّتْ كما يَنْصَبُّ العُقابُ إذا كُسِرَتْ. قال العَجَّاجُ يصفُ صَقْراً:
4510 - أَبْصَرَ خِرْبانَ الفَلاةِ فانكَدَرْ * تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازيْ كَسَرْ
* { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ }
(14/277)
---(1/5768)
والعِشار: جمع عُشَراء، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ، وكذلك "نِفاس" في جَمْع نُفَساء. وقيل: العِشارُ: السَّحابُ. وعُطِّلت، أي: لا تُمْطر. وقيل: الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها. والتَّعْطيل: الإِهمالُ. ومنه قيل للمرأة: "عاطِلٌ" إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ. وتقدَّم / في "بئرٍ مُعَطَّلةٍ". وقال امرؤ القيس:
4511 - وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ * إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ "عُطِلت" بتخفيفِ الطاءِ. قال الرازي: "هو غَلَطٌ، غنما هو "عَطَلَتْ" بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتَ، لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي. يُقال: عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ".
والوحوش: ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً: المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي: ببلدٍ قَفْر. والوحشُ: الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ: وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.
* { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }
قوله: {سُجِّرَتْ}: قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ "سُجِرَتْ" بتخفيف الجيم، والباقون بتثقيلِها على المبالغةِ والتكثيرِ. وتقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ.
* { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }
(14/278)
---(1/5769)
قوله: {زُوِّجَتْ}: العامَّةُ على تشديد الواوِ مِنْ التزويجِ، ورُوي عن عاصمٍ "زُوْوِجَتْ" على فُوْعِلَتْ. قال الشيخ: "والمُفَاعَلَةُ تكون بين اثنين" انتهى. قلت: وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ: لأنه ينبغي أَنْ يُلفَظَ بواوٍ ساكنةٍ أخرى مكسورةٍ. وقد تقدَّم لك أنَّه اجتمع مِثْلان، وسَكنَ أوَّلُهما وَجَبَ الإِدغام حتى في كلمتين، ففي كلمةٍ واحدةٍ بطريقِ الأَوْلى.
* { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ }
قوله: {الْمَوْءُودَةُ}: هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل. يقال: وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه. وقال الزمخشري: "وَأَدَ يَئِدُ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ. قال اللَّهُ تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} لأنه إثْقالٌ بالتراب". قال الشيخ: "ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملً التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسم المفعولِ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ. والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب: أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثرَ استعمالً من الآخرِ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ. فالأول: كيَئِس وأيِسَ. والثاني: كَطَأْمَنْ واطمأنَّ. والثالث: كشوايع وشواعِي. والرابع: كلَعَمْري ورَعَمْلي".
(14/279)
---(1/5770)
وقرأ العامَّةُ: "المَوْءُوْدَة" بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة. وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها، وحُذِفَتِ الهمزةُ، فصار اللفظُ المَوْوْدَة: واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو: "أُجوه" في وُجوه، فصار اللفظُ كما ترى، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ. والثاني: أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ: قادة يَقُوده. والأصلُ: مأْوُودة، مثلَ مَقْوُوْدة، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ: مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن: إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا: إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا: إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ.
وقُرِىءَ "المَوُوْدة" بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً. وقرأ الأعمش "المَوْدَة" بزنةِ المَوْزَة. وتوجيهُه: أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحَذَفَ ثانيهما، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ، وقد حُذِفَتْ. وقال مكي: "بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها، سَكَّنهان فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ: أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة. قالوا: لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك، والسرمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
(14/280)
---(1/5771)
والعامَّةُ على "سُئِلت" مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين. والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم. وقرأ أبو جعفر "قُتِّلَتْ" بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ، فناسبَه التكثيرُ.
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس "سَأَلَتْ" مبنياً للفاعل، "قُتِلْتُ" بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها. وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ "سَأَلَتْ" مبنياً للفاعل، "قُتِلَتْ" بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة.
* { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ }
قوله: {نُشِرَتْ}: قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو عمرو بالتثقيل. والباقون بالتخفيف. ونافعٌ وحفصٌ وابنُ ذكوانَ / "سُعِّرَتْ" بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.
قوله: {عَلِمَتْ}: هذا جوابُ "إذا" أولَ السورةِ وما عُطِفَ عليها.
قوله: {كُشِطَتْ}، أي: قُشِرَتْ، مِنْ قولهم: كِشَطَ جِلْدَ الشاةِ، أي: سَلَخَها. وقرأ عبد الله "قُشِطَتْ" بالقاف، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً، وأنه قُرِىء "قافوراً" و "كافوراً" في {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}.
* { فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ }
قوله: {بِالْخُنَّسِ}: جمعُ خانِس، والخُنُوس: الانقباضُ. يقال: خَنَسَ من القوم وانْخَنَسَ. وفي الحديث: "فانْخَنَسْتُ"، أي: اسْتَخْفَيْتُ. والخَنَسُ: تأخُّرُ الأَنْفِ عن الشَّفَة مع ارتفاع الأَرْنَبةِ قليلاً. ويقال: رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ. ومنه الخَنساءُ الشاعرة. والخُنَّسُ في القرآن قيل: كواكبُ سبعةٌ: القمران وزُحَلُ والزهرُ والمُشْتري والمَرِّيح وعُطارِد. والكُنَّسُ: الدَّاخلة في الكِناس وهو بيتُ الوحشِ. والجواري: جمعُ جارية. وقيل: هي بَقَرُ الوحشِ؛ لأنَّ هذه صفتُها وقيل: الظِّباء، قالوا: لأنَّ الخَنَسَ يكون فيها.
* { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ }
قوله: {عَسْعَسَ}: يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَعَ أقبل. قال العَجَّاج:
(14/281)
---(1/5772)
4512 - حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا * وانْجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسا
أي: أَدْبَر. وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك. وقيل: أَدْبَرَ بلغةِ قريشٍ خاصةً. وقيل: أقبل ظلامُه، ويُرَجِّحُه مقابلتُه بقولِه {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وهذا هو قريبٌ من إدْباره.
* { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }
قوله: {عِندَ ذِي الْعَرْشِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لـ"رسولٍ"، وأن يكونَ حالاً مِنْ "مَكين"، وأصلُه الوصفُ، فلمَّا قُدِّمُ نُصِبَ حالاً.
* { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }
قوله: {ثَمَّ أَمِينٍ}: العامَّةُ على فَتْحِ الثاءِ؛ لأنَّه ظرفُ مكانٍ للبعيدِ. والعاملُ فيه "مُطاعٍ". وأبو البرهسم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمِّها جعلوها عاطفةً، والتراخي هنا في الرتبةِ؛ لأنَّ الثانية أعظمُ من الأولى.
* { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ }
قوله: {بِضَنِينٍ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم: "بئرٌ ظَنُوْنٌ"، أي: قليلةُ الماءِ. وفي مصحفِ عبد الله كذلك، والباقون بالضاد بمعنى: ببخيلٍ بما يتيه من قِبَلِ ربِّه، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها، وليس كذلك لِما مرَّ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين، خِلافاً لمَنْ يقول: إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز، لِعُسْرِ معرفتِه. وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ، بما لا يَليق التطويلُ فيه. و "على الغيب" متعلقٌ بـ"ظَنِين" أو "بضَنِين".
* { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ }
(14/282)
---(1/5773)
قوله: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}: "أي،" منصوبٌ بـ"تَذْهبون" لأنه ظرفٌ مُبْهَمٌ. قال أبو البقاء: "أي: إلى أين، فحذف حرفَ الجر كقولك: ذهبتُ الشامَ. ويجوزُ أَنْ يُحْمَلَ على المعنى كأنه قال: أين تؤمنون". يعني أنه على الحذفِ، أو على التضمين. وإليه نحا مكي أيضاً، ولا حاجة إلى ذلك البتة؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مبهمٌ لا مُخْتَصٌّ.
* { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ }
قوله: {لِمَن شَآءَ}: بدلٌ مِنْ "العالمين" بإعادةِ العاملِ، وعلى هذا فقولُه "أن يَسْتقيمَ" مفعولُ "شاءِ". أي: لمَنْ شاء الاستقامة، ويجوزُ أَنْ يكونَ "لمَنْ شاء" خبراً مقدماً، ومفعول "شاء" محذوفٌ، و "أَنْ يَسْتَقيم" مبتدأ. وقد مَرَّ له نظيرٌ.
* { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: أي: إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله، وقال مكيك "وأنْ في موضع خفضٍ بإضمارِ الباءِ، أو في موضعِ نصبٍ بحذفِ الخافضِ" يعني أنَّ الأصلَ: إلاَّ بأَنْ، وحينئذٍ تكونُ للمصاحبة.(1/5774)
سورة الانفطار
* { وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ }
قوله: {فُجِّرَتْ}: العامَّةُ على بنائِه للمفعول مثقَّلاً. وقرأ مجاهد مبنياً للفاعل مخففاً، من الفُجور، نظراً إلى قولِه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ}، فلمَّا زال البَرْزَخُ بَغَيا. وقرأ مجاهد أيضاً والربيع ابن خُثَيْم والزعفرانيُّ والثوري مبنياً للمفعول مخففاً.
* { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ }
قوله: {بُعْثِرَتْ}: أي: قُلِبَتْ. يقال: بَعْثَره وبَحْثَرَه بالعين والحاء. قال الزمخشري: "وهما مركبان من البَعْث والبَحْث مضموماً إليهما راءٌ" يعني: أنهما ممَّا اتَّفق معناهما؛ لأنَّ الراءَ مزيدةٌ فيهما إذ ليَسْت مِنْ حروفِ الزيادةِ، وهذا كـ"دَمِث ودَمَثْرٍ، وسَبِطَ وسِبَطْر. و "عَلِمَتْ" جوابُ "إذا".
(14/283)
* { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ }
قوله: {مَا غَرَّكَ}: العامَّةُ على "غَرَّك" ثلاثياً و "ما" استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء. وقرأ ابن جبير والأعمش "ما أَغَرَّك" فاحتمل أَنْ تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ تعجبيةً. ومعنى أغرَّه: أدخله في الغِرَّة أو جعله غارَّاً.
* { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }
قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ}: يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ.
قوله: { فَعَدَلَكَ} قرأ الكوفيون "عَدَلَك، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ، فهو من التَّعْديلِ. وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا، أي: عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ. وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ، أي: صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ.
* { فِيا أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }
قوله: {فِيا أَىِّ صُورَةٍ}: يجوز فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقُ بـ"رَكَّبَكَ" و "ما" مزيدةٌ على هذا، و "شاءَ" صفةٌ لـ"صورةٍ"، ولم يَعْطِفْ "رَكَّبَكَ" على ما قبله بالفاءِ، كما عَطَفَ ما قبلَه بها؛ لأنه بيانٌ لقولِه: "فَعَدَلَكَ". والتقدير: فَعَدَلَكَ: ركَّبك في أيِّ صورةٍ من الصورِ العجيبة الحسنةِ التي شاءها. والمعنى: وَضَعَكَ في صورةٍ اقتضَتْها مَشيئتُه: على أنه حالٌ، أي: رَكَّبك حاصلاً في ببعض الصور. الثالث: أنه يتعلَّقُ بعَدَلَكَ، نقله الشيخ عن بعض المتأوِّلين، ولم يَعْتَرِضْ عليه، وهو مُعْتَرَضٌ: بأنَّ في "أيّ" معنى الاستفهام، فلها صدرُ الكلام فكيف يعمل فيها ما تقدَّمَها؟
(14/284)
---(1/5775)
وكأنَّ الزمخشري استشعر هذا فقال: "ويكونُ في "أيّ" معنى التعجبِ، أي: فَعَدَلَكَ في أيِّ صورةٍ عجيبةٍ". وهذا لا يَحْسُنُ أَنْ يكونَ مُجَوِّزاً لِتَقَدُّمِ العاملِ على اسمِ الاستفهامِ، وإنْ دَخَلَه معنى التعجب. ألا ترى أنَّ كيف وأنَّى وإنْ دَخَلهما معنى التعجبِ لا يتقدَّم عاملُهما عليهما. وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قُصِدَ به الاستثباتُ: هل يجوزُ تقديمُ عاملِه أم لا؟ والصحيح أنه لا يجوزُ، وكذلك لا يجوز أن يتقدَّمَ عاملُ "كم" الخبريةِ عليها لشَبَهِها في اللفظ بالاستفهاميةِ فهذا أَوْلَى، وعلى تعلُّقِها بـ"عَدَلَكَ" تكون "ما" منصوبةً بـ"شاء"، أي: رَكَّبَكَ ما شاءَ من التركيبِ، أي: تركيباً حَسَناً، قاله الزمخشري، فظاهرُه أنها منصوبةٌ على المصدر.
وقال أبو البقاء: "ويجوز أَنْ تكونَ "ما" زائدةً، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وعلى الأمرَيْن: الجملةُنعتٌ لـ"صورة"، والعائدُ محذوفٌ، أي: رَكَّبك عليها. و "في" تتعلَّقُ بـ"رَكَّبك". وقيل: لا موضعَ للجملةِ؛ لأن "في" تتعلَّقُ بأحد الفعلَيْن، والجميعُ كلامٌ واحدٌ، وإنما تقدُّمُ الاستفهامِ على "ما" هو حَقُّه. قوله: "بأحد الفعلَيْنِ" يعني: شاءَ ورَكَّبك. وتَحَصَّل في "ما" ثلاثةُ أوجهٍ: الزيادةُ، وكونُها شرطيَّةً، وحيئنذٍ جوابُها محذوفٌ، والنصبُ على المصدريةِ، أي: واقعةٌ موقعَ مصدرٍ.
* { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ }
والعامَّةُ: "يُكَذِّبُون" خطاباً. والحسن وأبو جعفر وشَيْبَةُ بياء الغَيْبة.
* { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }
قوله:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل تُكَذِّبون، أي: تُكَذِّبُون والحالةُ هذه، ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً، أخبرهم بذلك لينزَجِروا.
* { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }
(14/285)
---(1/5776)
قوله: {يَعْلَمُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً، وأَنْ يكونَ حالاً من ضمير "كاتبين"، وأَنْ يكونَ نعتاً لـ"جحيم"، وأَنْ يكونَ مستأنفاً.
* { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ }
قوله: {يَصْلَوْنَهَا}: يجوزُ فيه أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً، وأَنْ يكونَ مستأنفاً. وقرأ العامَّةُ "يَصْلَوْنَها" مخففاً مبنياً للفاعل. وابن مقسم مشدَّداً مبيناً للمفعولِ، وتقدَّم مثلُه.
* { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع "يوم" على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو يومُ. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه، يعني قولَه: "يومَ الدين". وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ "يومٌ" مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له، والعائدُ محذوفٌ، أي: لا يَمْلِكُ فيه. وقرأ الباقون "يومَ" بالفتح. وقيل: هي فتحةُ إعرابٍ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون، أو بإضمار اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل، وإن كان معرباً، كقولِه {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} وقد تقدَّم.(1/5777)
سورة المطففين
* { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }
قوله: {وَيْلٌ}: مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً. ولو نُصِبَ لجاز. وقال مكي: "والمختارُ في "وَيْل" وشبهِه إذا كان غيرَ مضافٍ الرفعُ. ويجوزُ النصبُ، فإنْ كانَ مضافاً أو مُعَرَّفاً كان الاختيارُ / فهي النصبَ نحو: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ}. و "للمُطَفِّفين" خبرُه.
والمُطَفِّفُ: المُنَقِّصُ. وحقيقتُه: الأَخْذُ في كيلٍ، أو وَزْنٍ، شيئاً طفيفاً، أي: نَزْراً حقيراً، ومنه قولُهم: "دونَ الطَّفيف"، أي: الشيء التافِه لقلَّتِه.
* { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ }
(14/286)
قوله: {عَلَى النَّاسِ}: فيه وجهٌ: أحدُها: أنَّه متعلِّقٌ بـ"اكْتالوا" و "على" و "مِنْ" تَعْتَقِبان هنا. قال الفراء: "يقال: اكْتَلْتُ على الناس: استَوْفَيْتُ منهم، واكْتَلْتُ منهم: أَخَذْتُ ما عليهم" وقيل: "على" بمعنى "مِنْ". يقال: اكْتَلْتُ عليه ومنه، بمعنىً، والأولُ أوضحُ. وقيل: "على" تتعلَّقُ بـ"يَسْتَوْفُون". قال الزمخشري: "لَمَّا كان اكْتِيالُهم اكتيالاً يَضُرُّهُمْ ويُتَحامَلُ فيه عليهم أبدلَ "على" مكانَ "مِنْ" للدلالة على ذلك. ويجوزُ أن تتعلَّقَ بـ"يَسْتَوْفون"، وقدَّم المفعولَ على الفعل لإِفادةِ الخصوصيةِ، أي: يَسْتَوْفون على الناس خاصةً، فأمَّا أنفسُهم فَيَسْتَوْفون لها" انتهى. وهو حسنٌ.
* { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }
قوله: {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ}: رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في "هم" على وجهين، أحدهما: هو ضميرُ نصبٍ، فيكونُ مفعولاً به، ويعودُ على الناس، أي: وإذا كالُوا الناسَ، أو وَزَنوا الناسَ. وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ، ويجوزُ حَذْفُه. وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه، أو أحدُهما أصلٌ للأآخر؟ خلافٌ مشهورٌ. والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوا لهم، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح. وأنشد الزمخشريُّ:
4513 - ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً * ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
(14/287)
---(1/5778)
أي: جَنَيْتُ لك. والثاني: أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو. والضميرُ عائد على المطففينِ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ المَكيلَ له والموزونَ والموزنَ لهُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا، فقال: "ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ، وذلك أنَّ المعنى: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا. فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا، وذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر".
(14/288)
---(1/5779)
قال الشيخ: "ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ، ولا فرقَ بين أَ،ْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد، والحديثُ واقعٌ في الفعل. غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء - وهو على الناس - مذكورٌ، وهو في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم". قلت: الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن: إذا أخذوا مِنْ غيرِهم، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني. ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال: "والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأننَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرشها في نحو قولِك: "هم [لم] يَدْعُوا"، و "هو يَدْعُو"، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال: المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرَيْن للمطففين، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا".
(14/289)
---(1/5780)
ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ، فقال: "إذا اكْتالوا" ولم يَقُلْ: أو اتَّزَنوا، كما قال ثانياً: أو وَزَنُوهم. قال الزمخشري: "كأنَّ المطفِّفين كانوالا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دومن الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء، وإذا أَعْطَوْا / كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً".
قولُه: "يُخْسِرون" جوابُ "إذا" وهو مُعَدَّىً بالهمزة. يقال: خَسِرَ الرجلُ، وأَخْسَرْتُه أنا، فمفعولُه محذوفٌ، أي: يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.
* { أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ }
قوله: {أَلا يَظُنُّ}: الظاهرُ أنَّها "إلا" التحضيضيةُ، حَضَّهم على ذلك، ويكونُ الظنُّ بمعنى اليقين. وقيل: هل لا النافيةُ دخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ.
* { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله:{يَوْمَ يَقُومُ}: يجوزُ نصبُه بـ"مَبْعُوثون"، قاله الزمخشري: أو بـ يُبْعَثون" مقدَّراً، أو على البدلِ مِنْ محلِّ "يوم"، أو بإضمارِ "أَعْني"، أو هو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أو مجرورٌ بدلاً من "ليومٍ عظيمٍ"، وإنما بُني في هذَيْن الوجهَيْن على الفتحِ لإِضافتِه للفعل، وإن كان مضارعاً، كما هو رأي الكوفيين، ويَدُلُّ على صحة هذَيْن الوجهين قراءةُ زيدِ بنِ علي "يومُ يقومُ" بالرفعِ، وما حكاه أبو معاذٍ القارىءُ "يوم" بالجرِّ على ما تقدَّم.
* { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ }
(14/290)
---(1/5781)
قوله: {لَفِي سِجِّينٍ}: اختلفوا في نون "سِجِّين". فقيل: هي أصليةٌ. اشتقاقُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ، وهو بناءُ مبالغةٍ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكر. وقيل: بل هي بدلٌ من اللامِ، والأصلُ: سِجِّيْل، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ. واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسمُ موضعٍ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم. وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ، وإذا كان اسمَ مكانٍ، فقوله "كتابٌ مَرْقُوْمٌ": إمَّا بدلٌ منه، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل: التقدير: هو مَحَلُّ كتابٍ، ثم حُذِفَ المضافُ. وقيل: التقديرُ: وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ، إمَّا مِنْ الأولِ، وإمَّا مِنْ الثاني: وأمَّا إذا قُلْنا: إنه اسمٌ لـ"كتاب" فلا إشكال.
(14/291)
---(1/5782)
وقال ابن عطية: "مَنْ قال: إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ، على أنه خبرُ "إنّ" والظرفُ الذي هو "لفي سِجِّين" مُلْغَى، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، التقدير: هو كتابٌ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟" انتهى، وهذا لا يَصِحُّ البتة؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى. لا يقال: اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو "كتابٌ" عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو "مرقوم" لامتنعَ ذلك. أمَّا مَنْعُ عملِ "كتابٌ" فلأنَّه موصوف، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل. وأمَّا امتناعُ عملِ "مرقومٌ" فلأنَّه صفةٌ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها. وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه، وهذا ليس معمولاً للخبرِ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ، وليس بملغى. وأمَّا قولُه ثانياً "ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو" فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه بـ"كتابٌ".
وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً بـ"كتاب مرقوم" فكأنه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت: "سِجِّين" كتابٌ جامعٌ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ الفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى: أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم" انتهى.
* { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }
والرَّقْمُ: الخَطُّ. وقيل: الخَتْمُ بلغة حِمْيَرٍ، والصحيحُ الأولُ. قال: /
(14/292)
---(1/5783)
4514 - سأَرْقُمُ في الماءِ القَراح إليكُمُ * على بُعْدِكُمْ إنْ كان للماءِ راقِمُ
وتقدَّمت هذه المادةُ في الكهف.
* { الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ }
قوله: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ}: يجوزُ فيه الإِتباعُ نعتاً وبدلاً وبياناً، والقطعُ رفعاً ونصباً.
* { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }
قوله: {إِذَا}: العامَّةُ على الخبر. والحسن "أإذا" على الاستفهامِ الإِنكاريِّ. والعامَّةُ "تُتْلى" بتَاءين مِنْ فوقُ، وأبو حيوة وابن مقسم بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ.
* { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
قوله: {بَلْ رَانَ}: قد تقدَّم وَقْفُ حفص على "بل" في الكهف. والرَّيْنُ والرانُ الغِشاوة على القلبِ، كالصَّدأ على الشيءِ الصقيلِ من سيفٍ ومِرْآة ونحوِهما. قال الشاعر:
4515 - وكم رانَ مِنْ ذنبٍ على قلبِ فاجِرٍ * فتابَ مِن الذنبِ الذي ران وانْجَلَى
وأصلُ الرَّيْنِ: الغلبةُ، ومنه: رانَتِ الخمرُ على عقلِ شاربِها. وران الغَشْيُ على عقل المريض. قال:
4516 - ............رانَتْ به الخَمْـ * ــرُ ..................
وقال الزمخشري: "يقال: ران عليه الذنبُ وغان، رَيْناً وغَيْناً. والغَيْنُ الغَيْم. ويقال:ران فيه النومُ: رَسَخَ فيه، ورانَتْ به الخمرُ: ذهَبَتْ به". وحكى أبو زيد: "رِيْنَ بالرَّجل رَيْناً. فجاء مصدرُه مفتوحَ العين وساكنَها. و "ما كانوا" هو الفاعلُ. و "ما" يثحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ. وأُمِيْلَتْ ألفُ "ران" وفُخِّمَتْ، فأمالها الأخَوان وأبو بكر وفَخَّمها الباقون، وأُدغِم لامُ "بل" في الراء وأُظْهِرَتْ.
* { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }
(14/293)
---(1/5784)
قوله: {عَن رَّبِّهِمْ}: متعلِّقٌ بالخبرِ، وكذلك "يومئذٍ". والتنوينُ عوضٌ من جملةٍ تقديرُها، يومَ إذ يقومُ الناسُ؛ لأنه لم يناسِبْ إلاَّ تقديرُها.
* { ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
قوله: {يُقَالُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ ما دلَّتْ عليه جملةُ قولِه {هَاذَا الَّذِي كُنتُمْ}. ويجوزُ أَنْ يكونَ الجملةَ نفسَها، ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرَ، وقد تقدَّم تحريرُه أولَ البقرة.
* { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ }
قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ}: هو خبر "إنَّ". وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم. وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل. وقال أبو البقاء: "واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك. وقيل: هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين" ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في "سِجِّين" مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم. وقال الزمخشري:
"عِلِّيُّون: عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ، منقولٌ مِنْ جَمْع "عِلِّيّ" فِعِّيل من العُلُو كـ"سِجِّين" مِنْ السَّجْن"، سُميِّ بذلك: إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ". قلت: وتلك الأقوالُ الماضيةُ في "سِجِّين" كلُّها عائدةٌ هنا.
* { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ }
قوله: {يَشْهَدُهُ}: جملةٌ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ثانيةً، وأَنْ تكونَ مستأنفةً.
* { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ }
قوله: {تَعْرِفُ}: العامُّةُ على إسنادِ الفعلِ إلى المخاطب، أي: تَعْرِفُ أنت يا محمدُ، أو كلُّ مَنْ صَحَّ منه المعرفةُ.
(14/294)
---(1/5785)
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبةُ وطلحةُ ويعقوبُ والزعفراني "تُعْرَفُ" مبنياً للمفعول، "نَضْرَةُ" رَفْعٌ على قيامِها مقَامَ الفاعلِ. وعلي بن زيد كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ أسفلَ لأنَّ التأنيثَ مجازي.
[وقوله: {يَنظُرُونَ} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر أو مستأنف] [و "على الأرائك" متعلق بـ"يَنْظرون" أو حال من ضميره، أو حال مِنْ ضمير المستكنّ في الخبر].
* { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ }
قوله: {مِن رَّحِيقٍ}: الرحيق: الشرابُ الذي لا غِشَّ فيه، وقيل: أجودُ الخمر. وقال حسان:
4517 - ....................... * بَرَدى يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
* { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }
قوله: {خِتَامُهُ}: قرأ الكسائيُّ "خاتَمهُ" بفتح التاءِ بعد الألف. والباقون بتقديمِها على الأف، فوجهُ قراءةِ الكسائيِّ أنَّه جعله اسماً لِما تُخْتَمُ به الكأسُ بدليلِ قولِه "مَخْتوم"، ثم بَيَّنَ الخاتَمَ ما هو؟ ورُوِيَ عن الكسائيِّ أيضاً كَسْرُ التاءِ، فيكونُ كقولِه تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} والمعنى: خاتَمٌ رائحتُهُ مِسْكٌ، ووجهُ قراءةِ الجماعةِ أنَّ الخِتامَ هو الطينُ الذي يُخْتَمُ به الشيءُ، فجُعِل بَدَلَه المِسْكُ. قال الشاعر:
4518 - كأنَّ مُشَعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرى * ...... البُخْتُ مَسْدودَ الخِتامِ
وقيل: خَلْطُه ومِزاجُه. وقيل: خاتِمتُه، أي: مَقْطَعُ شُرْبِه يَجِدُ فيه الإِنسانُ ريحَ المِسْكِ. والتنافُسُ: المغالبة في الشيء النفيسِ. يقال: نَفِسْتُ به نَفاسَةً، أي: بَخِلْتُ به، وأصلُه مِنْ النَّفْس لعِزَّتها.
* { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ }
(14/295)
---(1/5786)
قوله: {مِن تَسْنِيمٍ}: التَّسْنيم اسمٌ لعَيْنٍ في الجنة. قال الزمخشري: "تَسْنْيم عَلَمٌ لَعْينٍ بعينها، سُمِّيت بالتَّسْنيم الذي هو مصدرُ سَنَمَه: إذا رفعه". قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنه كان مِنْ حَقِّه أن يُمْنَعَ الصرفَ للعَلَمِيَّة والتأنيث، وإنْ كان مجازياً. ولا يَقْدَحُ في ذلك كونُه مذكَّرَ الأصلِ؛ لأنَّ العِبْرَةَ بحالِ العَلَمَّيةِ. ألا ترى نَصَّهم على أنه لو سُمِّي بزيد امرأةٌ وَجَبَ المَنْعُ، وإن كان في "هِنْد" وجهان. اللهم إلاَّ أَنْ تقولَ: ذَهَبَ بها مَذْهَبَ الهِنْد ونحوِه، فيكونَ كواسِط ودابِق.
* { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ }
قوله: {عَيْناً}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ، قاله الزجاج، يعني مِنْ "تَسْنيم" لأنَّه عَلَمٌ لشيءٍ بعينِه، إلاَّ أنه يُشْكِل بكونه جامداً. الثاني: أنه منصوبٌ على المدح، قاله الزمخشري. الثالث: أنها منصوبةٌ بـ يُسْقَونْ مقدراً، قاله الأخفش. وقوله: "يَشْرب" بها، أي: مِنْها، أو الباءُ زائدةٌ، أو ضَمِّن "يَشْربُ" معنى يَرْوي. وتقدَّم هذا مُشْبعاً في سورة الإِنسان.
* { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ }
قوله: {َمِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ}: متعلِّقٌ بـ"يَضْحكون"، أي: مِنْ أجلِهم، وقُدِّمَ لأجل الفواصلِ. والتغامُز: الرَّمْزُ بالعينِ.
* { وَإِذَا انقَلَبُوااْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ }
قوله: {فَكِهِينَ}: قرأ حفص "فَكِهين" دون ألف. والباقون بها. فقيل: هما بمعنى. وقيل: فكهين: أَشِرين، وفاكهين: مِنْ التفكُّهِ. وقيل: فكِهين: فَرِحين، وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحابُ فاكهةٍ ومِزاج.
* { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوااْ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ }
قوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ المرفوعُ للكفار، والمنصوبُ للمؤمنين، ويجوزُ العكسُ، وكذلك الضميران في "أُرْسِلوا عليهم".
(14/296)(1/5787)
---
* { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }
قوله: {فَالْيَوْمَ}: منصوبٌ بـ"يَضْحَكون". ولا يَضُرُّ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّه لو تقدَّم العاملُ هنا لجاز؛ إذا لا لَبْسَ، بخلاف "زيدٌ قام في الدار" لا يجوز: في الدار زيدٌ قام.
* { عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ }
قوله: {عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ}: كما تقدَّم في نظيره.
* { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
قوله: {هَلْ ثُوِّبَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقةً للنظرِ قبلها، فتكونَ في محلِّ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافض. ويجوز أَنْ تكونَ على إضمارِ القول، أي: يقولون: هل ثُوِّبَ وثُوِّبَ، أي: جُوْزِيَ. يُقال: ثَوَّبه وأثابه. قال الشاعر:
4519 - سَأَجْزِيك أو يَجْزيك عني مُثَوِّبٌ * وحَسْبُك أَنْ يُثْنَى عليك وتُحْمَدَا
وأدغم أبو عمروٍ والكسائيُّ وحمزةُ لامَ "هل" في الثاء. وقوله "ما كانوا" فيه حَذْفٌ، أي: ثوابَ ما كانوا. و "ما" موصولٌ اسميٌّ أو حرفيٌّ.(1/5788)
سورة الانشقاق
* { إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ }
قوله: {إِذَا السَّمَآءُ}: كقولِه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه. وفي "إذا" هذه احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ شرطيةً. والثاني: أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ. فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه "أَذِنَتْ"، والواوُ مزيدةٌ. الثاني: أنه "فَمُلاقِيه"، أي: فأنت مُلاقِيْه. وإليه ذهب الأخفش. الثالث: أنَّه {ياأَيُّهَا الإِنسَانُ} على حَذْفِ الفاء. الرابع: أنه {ياأَيُّهَا الإِنسَانُ} أيضاً، ولكن على إضمارِ القولِ، أي: يقال: يا أيها الإِنسانُ. الخامس: أنه مقدرٌ تقديرُه: بُعِثْتُمِ. وقيل: تقديرُه: لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه. وقيل: هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار، وهو قولُه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} قاله الزمخشري، وهو حسنٌ.
(14/297)
وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ مفعولاً بها، بإضمار اذكرْ. والثاني: أنها مبتدأٌ، وخبرُها "إذا" الثانية، والواوُ مزيدةٌ، تقديرُه: وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقتٍ واحد، قاله الأخفشُ أيضاً. والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها: إمَّا الملفوظُ به، وإمَّا المقدَّرُ. وقال مكي: "وقيل: العاملُ "انْشَقَّتْ". وقال ابن عطية: "قال بعضُ النحاة: العامل "انْشَقَّتْ"، وأبى ذلك كثيرٌ من أئتمتهم؛ لأنَّ "إذا" مضافةٌ إلى "انشَقَّتْط، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء.
وقرأ العامَّةُ "انشَقَّتْ" بتاءِ التأنيث ساكنةً، وكذلك ما بعده. وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض. قال أبو الفضل: "وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي. وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تنيثِ الفعل للإِناث، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماء بالتاءِ، وذلك لغة طيِّىء، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك".
وقال ابن عطية: "وقرأ أبو عمرو "انشَقَّتْ" يقف على التاء كأنه يُشِمُّلها شيئاً من الجرِّ، وكذلك في أخواتها. قال أبو حاتم: "سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات". وقال ابن خالَويه: "انشَقَّت" بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو. قلت: كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ، وغيرُه مقيَّدٌ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق. وقال الشيخ: "وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل. ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ:
4520 - وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى * ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ
(14/298)
---(1/5789)
وكذلك باقي القصيدة، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ، كقولِه تعالى: {الظُّنُونَاْ} {الرَّسُولاَ} في الأحزاب، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً.
* { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }
قوله: {وَأَذِنَتْ}: عَطْفٌ على "انْشَقَّتْ"، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى "أَذِنَتْ"، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال: أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: "ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن". وقال الشاعر:
4521 - صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به * وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر:
4522 - إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً * وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم:
4523 - أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ * ........................
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.
قوله: {وَحُقَّتْ} الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.
* { وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ }
قوله: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}: كالأولِ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ "إذا" الأولى على زيادةِ الواوِ.
* { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ }
قوله: {كَادِحٌ}: الكَدْحُ: قال الزمخشري: "جَهْدُ النفس [في العمل] والكَدُّ فيه، حتى يُؤَثِّر فيها، ومنه كَدَح جِلِدَه إذا خَدَشَه. ومعنى "كادحٌ"، أي: جاهِدٌ إلى لقاءِ ربِّك وهو الموتُ". انتهى. وقال ابن مقبل:
4524 - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فمِنْهما * أموتُ وأخرى أَبْتغي العيشَ أَكْدَحُ
وقال آخر:
(14/299)
---(1/5790)
4525 - ومَضَتْ بَشاشَةُ كلِّ عيشٍ صالحٍ * وبَقِيْتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ
وقال الراغب: "وقد يُستعمل الكَدْحُ استعمالَ الكَدْمِ بالأسنان. قال الخليل: الكَدْحُ دونَ الكَدْم".
قوله: {فَمُلاَقِيهِ} يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على كادح. والتسبيبُ فيه ظاهرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت مُلاقيه. وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: "فالفاءُ على هذا عاطفةٌ جملةَ الكلامِ على التي قبلها. والتقدير: فأنت مُلاقيه" يعني بقوله "على هذا"، أي: على عَوْدِ الضميرِ على كَدْحِك. قال الشيخ: "ولا يَتَعَيَّنُ ما قاله، بل يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْف المفردات". والضمير: إمَّا للربِّ، وإمَّا للكَدْح، أي: مُلاقٍ جزاءَ كَدْحِك.
* { وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً }
قوله: {مَسْرُوراً}: حالٌ مِنْ فاعل "يَنْقَلِبُ". وقرأ زيد بن علي "ويُقْلَبُ" مبنياً للمفعول مِنْ قَلَبه ثلاثياً.
* { وَيَصْلَى سَعِيراً }
قوله: {وَيَصْلَى}: قرأ أبو عمرو وحمزةُ وعاصمٌ بفتح الياء وسكونِ الصادِ وتخفيفِ اللام، والباقون بالضم والفتح والتثقيل. وقد تقدَّم تخريجُ القراءتَيْن في النساء عند قولِه : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وأبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ عنهم "يُصْلى" بضمِّ الياء وسكونِ الصاد مِنْ "أَصْلى".
* { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ }
قوله: {أَن لَّن}: هذه "أَنْ" المخففةُ كالتي في أول القيامة، وهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْن أو أحدِهما على الخلاف. و "يَحُوْرُ" معناه يَرْجِعُ. يقال: حار يَحُورُ حَوْراً. قال لبيد:
4526 - وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْءُه * يَحثوْرُ رَماداً بعد إذ هو ساطعٌ
(14/300)
---(1/5791)
ويُسْتعمل بمعنى صار فيَرْفع الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ عند بعضِهم، وبهذا البيتِ يَسْتَدِلُّ قائِلُه. ومَنْ منع نَصَبَ "رماداً" على الحال. وقال الراغب: "الحَوْرُ التردُّد: إمَّا بالذاتِ وإمَّا بالفكرة. وقولُه تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ}، أي: لن يُبْعَثَ. وحار الماءُ في الغَديرِ، تَرَدَّد فيه. وحار في أمْرِه وتَحَيَّر، ومنه "المِحْوَرُ" للعُوْدِ الذي تجري عليه البَكَرة لتردُّدِه. وقيل: "نعوذُ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر"، أي: مِنْ التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه، ومحاورةُ الكلام: مراجعتُه".
* { بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً }
قوله: {بَلَى}: جوابٌ للنفي في "لن"، و "إنَّ" جوابُ قسمٍ مقدرٍ.
* { فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ }
قوله: {بِالشَّفَقِ}: قال الراغب: "الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ بـ"مِنْ" فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي بـ"على" فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ". وقال الزمخشري: "الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيءن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لرِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه". انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر:
4527 - تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا
والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ.
* { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ }
(14/301)
---(1/5792)
قوله: {وَمَا وَسَقَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً، أو نكرةً. ووسَقَ، أي: جَمَعَ. ومنه "الوَسَقُ" لجماعة الآصُعِ وهو ستون صاعاً. والوِسْق بالكسر الاسمُ، وبالفتح المصدرُ وطعامٌ مَوْسوق، أي: مجموعٌ. يقال: وَسَقَه فاتَّسق واسْتَوْسَقَ. ونظيرُ وقوعِ افتعل واستفعل مطاوعَيْن اتِّسَعَ واستَوْسَع. وقيل: وَسَق، أي: عَمِلَ فيه. قال الشاعر:
4528 - فيَوْماً ترانا صالِحِيْنَ وتارةً * تقومُ بنا كالواسِق المُتَلَبِّبِ
وإبل مُسْتَوسِقَة. قال الراجز: /
4529 - إنَّ لنا قَلائِصاً حَقائِقا * مُسْتَوْسِقاتٍ لو تَجِدْنَ سائَقا
قوله: {إِذَا اتَّسَقَ}، أي: امتلأ. قال الفراء: "وهو امتلأؤُه واستواؤُه لياليَ البدر" وهو افتعلَ من الوَسْقِ وهو الضمُّ والجَمْعُ كما تقدَّم. وأَمْرُ فلانٍ مُتِّسِقٌ، أي: مُجَتَمعُ على ما يَسْترُ.
* { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ }
قوله: {لَتَرْكَبُنَّ}: هذا جوابُ القسم. وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع. وتقدَّم تصريفُ مثلِه. فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها: إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله: {ياأَيُّهَا الإِنسَانُ}، وإمَّا خطابُ غيرِه. وقيل: هو خطابٌ للرسول، أي: لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم وقيل: التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء، أي: لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال: تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ. وهذا قولُ ابنِ مسعود. والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ.
(14/302)
---(1/5793)
وقرأ عمر "لَيَرْكَبُنَّ" بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار. وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء، أي: لَيركبَنَّ الإِنسانُ. وقيل: ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدال. وقرأ عبدالله وابن عباس "لَتِرْكَبنَّ" بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة. وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس، أي: لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ.
قوله: {طَبَقاً} مفعولٌ به، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه. والطَّبَقُ: قال الزمخشري: "ما طابَقَ غيرَه. يُقال: ما هذا بطَبَقٍ لذا، أي: لا يطابقُه. ومنه قيل للغِطاء: الطَّبَقُ. وأطباق الثرى: ما تَطابَقَ منه، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها: طَبَقٌ. ومنه قولُه تعالى: {طَبَقاً عَن طَبقٍ}، أي: حالاً بعد حال، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ. ويجوز أنْ يكونَ جمعَ "طبقة" وهي المرتبةُ، مِنْ قولهم: هم على طبقاتٍ، ومنه "طبَقات الظهر" لفِقارِه، الواحدةُ طبَقَة، على معنى: لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة، بعضُها أرفعُ من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة" انتهى. وقيل: المعنى: لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ. ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام:
4530 - وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْـ *أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ *إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد: بدا عالَمٌ آخرُ: فعلى هذا التفسير يكون "طبقاً" حالاً لا مفعولاً به. كأنه قيل: متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة. وأمَّا قولُ الأقرعِ:
4531 - إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه *وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
(14/303)
---(1/5794)
فيحتملُ الأمرين، أي: ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين، ويكون نصبُ "طَبَقاً" على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف، أو الحال، أي: منتقلاً. والطَّبَقُ أيضاً: ما طابقَ الشيءَ، أي: ساواه، ومنه دَلالةُ المطابقةِ. وقال امرؤ القيس:
4532 - دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ *طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله: {عَن طَبقٍ} في "عن" وجهان، أحدُهما: أنها على بابها، والثاني: أنها بمعنى "بَعْدَ". وفي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال "تَرْكَبُنَّ". والثاني: أنَّها صفةٌ لـ"طَبقا". قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما محلُّ "عن طبَق"؟ قلت: النصبُ على أنُّه صفةٌ لـ"طبقاً"، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حالٌ من الضمير في "لتركبُنَّ"، أي: لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة".
وقال أبو البقاء: "وعن بمعنى بَعْدَ. والصحيح أنها على بابِها، وهي صفةٌ، أي: طبقاً حاصلاً عن طَبق، أي: حالاً عن حال. وقيل: جيلاً عن جيل" انتهى. يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ "طَبَقاً" مفعولاً به بل حالاً، كما تقدَّم، لكنه لم يَذْكُرْ في "طبقاً" غيرض المفعولِ به. وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى، إذ يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ، أي: لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ.
* { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ}: حالٌ، وقد تقدَّم مثلُه.
* { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ }
قوله: {وَإِذَا قُرِىءَ}: شرطٌ، و "لا يَسْجُدون". جوابُه. وهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أيضاً نَسَقاً على ما قبلها، أي: فمالهم إذا قُرىء عليهم القرآن لا يَسْجُدون؟.
(14/304)
---(1/5795)
* { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ }
قوله: {يُكَذِّبُونَ}: العامَّةُ على ضمِّ الياءِ وفتحِ الكافِ وتشديدِ الدال. والضحَّاك وابنُ أبي عبلة بالفتحِ والإِسكانِ والتخفيفِ / . وتقدَّمت هاتان القراءتان أولَ البقرة.
* { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ }
قوله: {يُوعُونَ}: هذه هي العامَّةُ مِنْ أَوْعى يُوْعي. وأبو رجاء "يَعُوْن" مِنْ وعى يَعِي.
* { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً، وأن يكون منقطعاً. هذا إذا كانت الجملةُ مِنْ قولِه: "لهم أَجْرٌ" مستأنفةً أو حاليةً. أمَّا إذا كان الموصولُ مبتدأً، والجملةُ خبرَه، فالاستثناء وليس مِنْ قبيلِ استثناءِ المفرداتِ، ويكونُ من قسمِ المنقطعِ، أي: لكِن الذين آمنوا لهم كيتَ وكيتَ. وتقدَّم معنى "المَمْنون" في حمِ السجدة.(1/5796)
سورة البروج
* { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ }
قوله: {قُتِلَ}: هذا جوابُ القسمِ على المختارِ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَقُتِلَ، كقولِ الشاعر:
4532 - حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلأْفَةَ فاجرٍ * لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
(14/305)
وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}. وقيل: تقديرُه: لقد قُتِلَ، فحَذَفَ اللامَ وقد، وعلى هذا فقوُه: "قُتِلَ" خبرٌ لا دُعاءٌ. وقيل بل هي دعاءُ فلا يكونُ جواباً. وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ}. الثاني: قولُه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} قاله المبرد. الثالث: أنه مقدرٌ. فقال الزمخشري: - ولم يَذْكُرْ غيرَه - "هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}، كأنه قيل: أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ" ثم قال: "وقُتِل دعاءٌ عليهم، كقوله: {قُتِلَ الإِنسَانُ}، وقيل: التقدير: لَتُبْعَثُنَّ.
وقرأ الحسن وابن مقسم "قُتِّلَ" بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً. وقوله: "الموعودِ"، أي: الموعود به. قال مكي: "الموعود نعتٌ لليوم. وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به. ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه" انتهى. وكأننَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ غليه، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ. وهذا لا يُحتاج غليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه، كأنَّه قيل: وليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ.
والأُخْدودُ: الشِّقُّ في الأرضِ. قالا لزمخشري: "والأخْدودُ: الخَدُّ في الأرضِ، وهو الشِّقُّ. ونحوُهما بناءً ومعنىً: الخَقُّ والأُخْقُوق، ومنه: "فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان". انتهى. فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه، وأمَّا الأخدودُ فاسمُ له فقط. وقال الراغب: "الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ، مستطيلٌ غائِصٌ.
(14/306)
---(1/5797)
وجمع الأخدود: أخاديدُ. وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ، والخَدُّ يُستار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم" ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزولِ، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ. وقال غيره: سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لانَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ، أي: مجاريَ.
* { النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ }
قوله: {النَّارِ}: العامَّةُ على جَرِّها، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ من "الأخدود" بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الأخدودَ مشتملٌ عليها، وحينئذٍ فلا بُدَّ فيه من الضميرِ، فقال البصريون: هو مقدَّرٌ، تقديرُه: النارِ فيه. وقال الكوفيون: أل قائمةٌ مَقامَ الضميرِ، تقديرُه: نارِه ثم حُذِفَ الضميرُ، وعُوِّضَ عنه أل. وتقدَّم البحثُ معهم في ذلك. الثاني: أنه بدلُ كلٍّ مِنْ كل، ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: أُخدودِ النار. الثالث: أنَّ التقديرَ: ذي النار؛ لأنَّ الأخدودَ هو الشِّقُّ في الأرض، حكاه أبو البقاء، وهذا يُفْهِمُ أنَّ النارَ خفضٌ بالإِضافةِ لتلك الصفةِ المحذوفة، فلمَّا حُذِف المضافُ قام المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب، واتَّفَقَ أنَّ المحذوفَ كان مجروراً، وقولُه: "لأنَّ الأُخْدودَ هو الشِّقُّ" تعليلٌ لصحةِ كونِه صاحبَ نارٍ، وهذا ضعيفٌ جداً، الرابع: أنَّ "النار" خفصٌ على الجوارِ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين، وهذا يقتضي أنَّ "النار" كانت مستحقةً لغيرِ الجرِّ فعدَلَ عنه إلى الجرِّ للجوارِ. والثاني يقتضي الحالَ أنَّه عَدَلَ عن الرفع، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد قُرِىء في الشاذِّ "الناُ" رفعاً، والرَفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: قِتْلَتُهم النارُ. وقيل: بل هي مرفوعةً على الفاعليةِ تقديرُه: قَتَلَتْهم النارُ، أي: أَحْرَقَتْهم، والمرادُ حينئذٍ بأصحابِ الأخدودِ المؤمنون.
(14/307)
---(1/5798)
وقرأ العامَّةُ "الوَقود" بفتح الواو، والحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى بضمِّها، وتقدَّمت القراءتان وقولُ الناسِ فيهما في أولِ البقرة.
* { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ }
قوله: {إِذْ هُمْ}: العامل في "إذ" إمَّا "قُتِلَ أصحابُ"، أي: قُتِلوا في هذا الوقتِ. وقيل: "اذكُر" مقدَّراً، فيكونُ مفعولاً به. ومعنى قُعودِهم عليها: / أي: على ما يَقْرُبُ منها كحافَّتها، ومنه قولُ الأعشى:
4534 - .................... * وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ
والضميرُ في "هم" يجوزُ أَنْ يكونَ للمؤمنين، وأنْ يكونَ للكافرين.
* { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
قوله: {وَمَا نَقَمُواْ}: العامَّةُ على فتح القافِ، وزيد بن علي وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة بكسرِها. وقد تقدَّم معنى ذلك في المائدة.
وقوله: {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} كقولِه في المعنى:
4535 - ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عَيْنِها * كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيونُها
وكقولِ قيس الرقيات:
4536 - ما نَقِموا من بني أُمَيَّةَ إلاَّ * أنَّهم يَحْلُمُون إنْ غَضِبوا
يعني: أنهم جعلوا أحسنَ الأشياء قحبياً. وتقدَّم الكلامُ على محلِّ "أَنْ" أيضاً في سورة المائدة.
وقوله: {أَن يُؤْمِنُواْ} أتى بالفعلِ المستقبلِ تنبيهاً على أنَّ التعذيبَ إنما كان لأَجْلِ إيمانِهم في المستقبلِ، ولو كفروا في المستقبلِ لم يُعَذَّبُوا على ما مضى من الإِيمان.
* { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ }
(14/308)
---(1/5799)
قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ}: هو خبرُ "إنَّ الذين" ودخلت الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرطِ، ولا يَضُرُّ نَسْخُه بـ"إنَّ" خلافاً للأخفش. وارتفاع "عذابُ" يجوزُ على الفاعليَّةِ بالجارِّ قبله لوقوعِه خبراً، وهو الأحسنُ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداء.
* { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ }
قوله: {الْوَدُودُ}: مبالغةٌ في الوُدِّ. قال ابن عباس: "هو المتودِّدُ لعبادِه بالمغفرة"، وعن المبرد: "هو الذي لا وَلَدَ له"، وأنشد:
4573 - وأَرْكَبُ في الرَّوْع خَيْفانَةً * ذَلولَ الجِماحِ لِقاحاً وَدُوْدا
أي: لا ولدَ لها تَحِنُّ إليه. وقيل: هو فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب والحَلُوْب، أي: يَوَدُّه عبادُه الصالحون.
* { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ }
قوله: {الْمَجِيدُ}: قرأ الأخَوان بالجرِّ فقيل: نعتاً للعرش. وقيل: نعتاً لـ"ربِّك" في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}. قال مكي: "وقيل: لا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للعرش؛ لأنه مِنْ صفاتِ اللَّهِ تعالى". والباقون بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبرٍ. وقيل: هو نعتٌ لـ"ذو". واستدلَّ بعضُهم على تعدُّدِ الخبرِ بهذه الآيةِ. ومَنْ مَنَعَ قال: لأنهما في معنى خبرٍ واحدٍ، أي: جامعٌ بين هذه الأوصافِ الشريفةِ، أو كلٌّ منها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ.
* { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ }
قوله: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من "الجنود"، وحينئذٍ فكان ينبغي أَنْ يأتيَ البدلُ مطابقاً للمبدلِ منه في الجمعية فقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: جنودِ فرعون. وقيل: المرادُ فرعونُ وقومُه، واسْتَغْنى بذِكْرِه عن ذِكْرِهم؛ لأنهم أتباعُه. ويجوزُ أن يكونُ منصوباً بإضمار أعني؛ لأنَّه لَمَّا لم يُطابق ما قبلَه وجب قَطْعُه.
* { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ }
(14/309)
---(1/5800)
قوله: {قُرْآنٌ مَّجِيدٌ}: العامَّةُ على تبعيَّةِ "مَجيد" لـ"قرآن". وقرأ ابن السميفع بإضافةِ "قرآن" لـ"مَجيد" فقيل: على حَذْفِ مضافٍ، أي: قرآنُ ربٍّ مَجيدٍ كقوله:
4538 - ..................... * ولكنَّ الغِنى رَبٌّ غفورُ
أي: غنى رَبٍّ غفورٍ. وقيل: بل هو من إضافةِ الموصوف لصفتِه فتتحدُ القراءان، ولكنْ البصريون لا يُجيزون هذه لئلا يلزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه، ويتأوّلُون ما وَرَدَ.
* { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ }
قوله: {مَّحْفُوظٍ}: قرأ نافع بالرفع نعتاً لـ"قرآن"، والباقون بالجرِّ نعتاً لـ"لوحٍ". والعامَّةُ على فتح اللام، وقرأ ابن السَّمَيْفع وابن يعمر بضمِّها. قال الزمخشري: "يعني اللوحَ فوق السماء السابعة الذي فيه اللوحُ محفوظٌ مِنْ وصولِ الشياطين إليه". وقال أبو الفضل: "اللُّوح: الهواء" وتفسيرُ الزمخشري أمسُّ بالمعنى، وهو الذي أراده ابن خالويه".(1/5801)
سورة الطارق
* { وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ }
قوله: {وَالطَّارِقِ}: الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً، أي: جاء ليلاً قال:
4539 - فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً * فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
وأصلُه من الضَّرْبِ. والطارقُ بالحصى الضارِبُ به. قال:
4540 - لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى * ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ
ثم اتُّسع فقيل لكلٍ جاء ليلاً: طارِقٌ.
* { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }
(14/310)
---
قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا}: قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في "لَمَّاً". فمَنْ خَفَّفها هنا كانت "إنْ" هنا مخففةً من الثقيلة، و "كلُّ" مبتدأٌ، واللامُ فارقةٌ، و "عليها" خبرٌ مقدَّمٌ و "حافظٌ" مبتدٌ مؤخرٌ، والجملةُ خبرُ "كل" و "ما" مزيدةٌ بعد اللام الفارقةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ "عليها" هو الخبرَ وحدَه، و "حافِظٌ" فاعلٌ به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ "كلُّ" متبدأً، و "حافظٌ" خبرَه، و "عليها" متعلقٌ به و "ما" مزيدة أيضاً، هذا كلُّ تفريعٌ على قولِ البصريِين. وقال الكوفيون: "إنْ هنا نافيةٌ، واللامُ بمعنى "إلاَّ" إيجاباً بعد النفي، و "ما" مزيدةٌ. وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى.
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و "لَمَّا" بمعنى "إلاَّ"، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا "إنَّ" بالتشديدِ، "كلَّ" بالنصب على أنَّه اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و "ما" مزيدةٌ و "حافظٌ" خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسم سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً. وقيل: الجواب {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ}، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ.
* { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ }
قوله: {دَافِقٍ}: قيل: فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم: "سيلٌ مُفْعَم"، وقولِه تعالى: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} على وجهٍ. وقيل: دافق على النسبِ،أي: ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق. وقال ابن عطية: "يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً، أي: يدفعه فمنه دافِق، ومنه مَدْفوق" انتهى. والدَّفْقُ: الصَّبُّ / ففِعْلُه متعدٍّ. وقرأ زيدُ ابنُ علي "مَدْفُوقٍ" وكأنه فَسَّر المعنى.
* { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ }
(14/311)
---(1/5802)
قوله: {وَالتَّرَآئِبِ}: جمع تَريبة. وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما، فماءُ الرجل في صُلْبه، والمرأةُ في ترائبِها، وهو معنى قولِه: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}. وقال الشاعر:
4540 - مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ * تَرائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال:
4541 - والزَّعْفَرانُ على ترائبِها * شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ
وقال أبو عبيدة: "جمع التَّريبة تريب". قال:
4542 - ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ * كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ
وقيل: الترائبُ: التَّراقي. وقيل: أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب. وقيل: ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ. وعن ابن عباس: هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناه. وقيل: عُصارةُ القلبِ. قال ابن عطية: "وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة".
وقرأ العامَّةُ "يَخْرُج" مبنياً للفاعل. وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول. وقرأ أيضاً وأهلُ مكة "الصُّلُب" بضم الصاد واللام، واليمانيُّ بفتحهما، وعليه قولُ العَجَّاج:
4543 - في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ
وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء. وأَغْرَبُها "صالِب" كقوله:
4544 - .............مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ * .........................
* { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ }
قوله: {إِنَّهُ}: الضميرُ للخالقِ المدلولِ عليه بقوله: "خُلِقَ" لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواه.
قوله: {عَلَى رَجْعِهِ} في الهاء وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الإِنسانِ، أي: على بَعْثِه بعد موتِه. والثاني: أنه ضميرُ الماءِ، أي: يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ.
* { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ }
(14/312)
---(1/5803)
قوله: {يَوْمَ تُبْلَى}: فيه أوجهٌ. وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القولِ بكونِ الضميرِ للإِنسان: "فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه معمولٌ لـ"قادر". إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال: "وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ "لَقادِرٌ" لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليومِ وحدَه" ثم قال: "وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ "لَقادر" لأنَّه إذا قَدَرَ على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدرَ بطريق الأَوْلى. الثاني: أن العاملَ مضمرٌ على التبيين، أي: يَرْجِعه يومَ تُبْلى. الثالث: تقديره: اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكُرْ" انتهى ملخصاً.
وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه "ناصرٍ". وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد "ما" النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما. وقيل: العامل في "رَجْعِه". وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف.
* { وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ }
قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ}: قيل: هو مصدرٌ بمعنى: رجوعِ الشمس والقمر إليها. وقيل: المطر كقولِه يصفُ سيفاً:
4545 - أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا * .......................
كما سُمِّي أَوْباً كقولِه:
4546 - رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها * إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ
* { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ }
قوله: {إِنَّهُ}: جوابُ القسمِ في قوله: "والسَّماءِ". والهَزْلُ: ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر. قال الكُميت:
4547 - ........................ * يُجَدُّ بنافي كلِّ يومٍ ونَهْزِلُ
والضمير في "إنَّه" للقرآن. وقيل: للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور.
* { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }
(14/313)
---(1/5804)
قوله: {أَمْهِلْهُمْ}: هذه قراةُ العامَّة، لَمَّا كرَّر الأمرَ توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن. وعن ابن عباس "مَهِّلْهُمْ" كالأولِ. والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ. يقال: أَمْهَلْتُك كذا، أي: انتظرتُك لِتَفْعَلَه. والمَهْلُ: الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ.
ه قراةُ العامَّة، لَمَّا كرَّر الأمرَ توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن. وعن ابن عباس "مَهِّلْهُمْ" كالأولِ. والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ. يقال: أَمْهَلْتُك كذا، أي: انتظرتُك لِتَفْعَلَه. والمَهْلُ: الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ.
قوله: {رُوَيْداً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم. وقيل: بل هو تصغيرُ "رُوْدِ"، وأنَشد:
4548 - تكادُ لا تَئْلِمُ البَطْحاُ وَطْأتَه * كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ
واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه، فيُضاف تارةً كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولا يُضافُ أخرى نحو: رويداً زيداً [ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن، بل يبنى على الفتح نحو: رُوَيْداً زيداً] ويقع حالاً نحو: ساروا رُوَيْدا،أي: متمهِّلين، ونعتاً لمصدر محذوف نحو: "ساروا رُوَيْداً"،أي: سَيْراً رويداً. وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها.(1/5805)
سورة الأعلى
* { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }
قوله: {الأَعْلَى}: يجوزُ جَرُّه صفةً لـ"ربِّك"، ونصبُه صفةً لاسم. إلاَّ أنَّ هذا يمنعُ أَنْ يكونَ "الذي" صفةً لـ"ربِّك"، بل يتعيَّنُ جَعْلُه نعتاً لـ"اسم"، أو مقطوعاً، لئلا يلومَ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بصفةِ غيرِه؛ إذ يصيرُ التركيبُ مثلَ قولِك: "جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنةِ" فيُفْصَلُ بالعاقل بين "هند" وبين صفتِها. وتقدَّم الكلامُ في إضافةِ الاسمِ إلى المُسَمَّى.
* { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى }
قوله: {قَدَّرَ}: قرأ الكسائيُّ بتخفيفِ الدالِ، والباقون بالتشديد. وقد تقدَّمَتْ القراءتان في المرسلات.
(14/314)
* { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى }
قوله: {غُثَآءً}: إمَّا مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا حالٌ. والغُثاء بتشديد الثاء وتخفيفِها - وهو الفصيحُ - / ما يُقَدِّمُه السَّيْلُ على جوانبِ الوادي من النباتِ ونحوِه. قال امرؤ القيس:
4549 - كأنَّ ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدوةً * من السَّيْلِ والغُثَّاء فَلْكَهُ مِغْزَلِ
ورواه الفراءُ "والأَغْثاء" على الجمعِ. وفيه غرابةٌ من حيث جَمَعَ فُعالاً على أفْعال.
قوله: {أَحْوَى} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه نعتٌ لـ"غُثاء". والثاني: أنه حالٌ من "المَرْعَى". قال أبو البقاء: "قَدَّم بعضَ الصلةِ". قلت: يعني أنَّ الأصلَ أخرجَ المرعى أَحْوى فجعله غثاء، ولا يُسَمَّى هذا تقديماً لبعضِ الصلةِ. والأحْوى: أَفْعَلُ مِنْ الحُوَّة وهي سَوادٌ يَضْرِبُ إلى الخُضْرة. قال ذو الرَّمة:
4550 - لَمْياءُ في شَفَتَيْها حَوَّةٌ لَعَسٌ * وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَ النحاةِ اسْتَدَلَّ على وجودِ بدلِ الغَلَطِ بهذا البيت. وقيل: خُضرةٌ عليها سوادٌ. والأَحْوى: الظَّبْيُ؛ لأنَّ في ظهره خُطَّتَيْن. قال:
4551 - وفي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شادِنٌ * مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ
ويقال: رجلٌ أَحْوَى وامرأةٌ حَوَّاء. وجَمْعُهما حُوٌّ، نحو: أحمر وحمراءُ وحُمْر.
* { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى }
َلاَ تَنسَى}: قيل: هو نَفْيٌ، أخبر تعالى أنَّ نبيَّه عليه السلام لا يَنْسَى. وقيل: نهيٌّ، والألفُ إشابعٌ، وقد تَقَدَّم نحوٌ مِنْ هذا في يوسف وطه. ومنع مكي أَنْ يكونَ نهياً لأنه لا يُنْهَى عمَّا ليس باختيارِه. وهذا غيرُ لازمٍ؛ إذ المعنى: النهيُ عن تعاطي أسبابِ النسيانِ، وهو شائعٌ.
* { إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }
(14/315)
---(1/5806)
ِلقوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفرغٌ، أي: إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه. والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه. وفي الحديث: "أنه كان يُصبح فينسَى الآيات لقولِه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}. وقيل: إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ، كما رُوِيَ أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ، فسأله فقال: "نَسِيْتُها". وقال الزمخشري: "الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ، ولم يَقْصِدُ استثناءَ شيءٍ، وهو مِنْ استعمالِ القلةَّ في معنى النفي" انتهى. وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي. وقال الفراء وجماعة معه: "هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء. وليس [ثم] شيءٌ أُبيح استثناؤُه". قال الشيخ: "هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ، وكذلك القولُ بأنَّ "لا" للنهي، والألفَ فاصلةٌ" انتهى. وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً، أي: زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه.
وقال مكي: "وقيل: معنى ذلك، إلاَّ ما شاء الله، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ: خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك" وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهمط. وقيل: هو استثناءٌ مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى}. نقله مكي. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ البتة.
قوله: {وَمَا يَخْفَى} "ما" اسميةٌ. ولا يجوزُ أَنْ تكوننَ مصدريةً لئلا يَلْزَمَ خُلُوُّ الفعلِ مِنْ فاعل. ولولا ذلك لكان المصدريةُ أحسنَ لِيُعْطَفَ مصدرٌ مؤولٌ على مثلِه صريح.
* { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى }(1/5807)
(14/316)
---
قوله: {وَنُيَسِّرُكَ}: عَطْفٌ على "سَنُقْرِئُك" فهو داخلٌ في حَيِّزِ التنفيسِ، وما بينهما مِنْ الجملةِ اعتراض.
* { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى }
قوله: {إِن نَّفَعَتِ}: "إنْ" شرطيةٌ. وفيه استبعادٌ لتذكُّرِهم. ومنه:
4552 - لقد أَسْمَعْتَ لو نادَيْتَ حَيَّاً * ولكنْ لا حياةَ لمَنْ تُنادي
وقيل: "إنْ" بمعنى إذْ كقولِه: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ}. وقيل: هي بمعنى "قد" ذكَرَه ابنُ خالويه، وهو بعيدٌ جداً. وقيل: بعده شيءٌ محذوفٌ تقديرُه: إنْ نَفَعَتِ الذكرى وإن لم تنفَعْ، قاله الفراء. والنحاس والجرجاني والزهراوي.
* { وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى }
قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا}: أي: الذكرى.
* { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا }
قوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ}: "ثم" للتراخي بين الرُّتَبِ.
* { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ}: قرأ أبو عمرو بالغيبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان.
* { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
قوله: {وَأَبْقَى}: أي: مِنْ الدنيا.
* { إِنَّ هَاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى }
قوله: {لَفِي الصُّحُفِ}: قرأ أبو عمرو في روايةِ الأعمش وهارون بسكون الحاء في الحرفين، وهو واضحٌ أيضاً.
* { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }
قوله: {إِبْرَاهِيمَ}: قرأ العامَّة بألفٍ بعد الراء وياءٍ بعد الهاء، وأبو رجاء بحَذْفهما، والهاءُ مفتوحةٌ أو مكسورةٌ فعنده قراءتان. وأبو موسى وابن الزبير بألفَيْن وكذا في كلِّ القرآنِ، ومالك ابن دينار بألفٍ بعد الراء فقط، والهاءُ مفتوحةٌ، وعبد الرحمن بن أبي بكر "وإبْرَاهيم" بحذف الألفِ وكسرِ الهاءِ. وقال ابنُ خالويه: "وقد جاء "إبْراهُم" يعني بألفٍ وضمِّ الهاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الاسمِ الكريمِ ولغاتِه مستوفي في البقرة.(1/5808)
سورة الغاشية
* { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ }
(14/317)
قوله: {هَلْ أَتَاكَ}: هو استفهامٌ على بابِه، ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ "التشويق". وقيل: / بمعنى قد، وقد تقدَّم شَرْحُ هذا في {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}
* { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}
* {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}
* {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً }
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ}: قد تقدَّم نظيرُه في القيامة وفي النازعات. والتنوينُ في "يومئذٍ" عوضٌ مِنْ جملةٍ مدلولةٍ عليها باسمِ الفاعلِ من الغاشية تقديره: يومَ إذ غَشِيَتْ الناسَ؛ إذ لا تتقدَّمُ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها. و "خاشعة" وما بعده صفةٌ، و "تَصْلى" هو الخبرُ. وقرأ أبو عمروٍ وأبو بكر بضمِّ التاء مِنْ "تَصْلَى" على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. والباقون بالفتح على تسميةِ الفاعل. والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. وقرأ أبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ وفتح الصادِ وتشديدِ اللام. وقد تقدَّم معنى ذلك كله في الانشاق والنساءَ.
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ وابنُ محيصن "عاملةً ناصبةً" بالنصب: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الذمِّ.
* { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }
قوله: {آنِيَةٍ}: صفةٌ لـ"عَيْنٍ" أي: حارَّة، أي: التي حَرُّها مُتناهٍ في الحرِّ كقولِه: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}. وأمالها هشامٌ؛ لأنَّ الألفَ غيرُ منقبلةٍ عن غيرِها، بل هي أصلٌ بنفسِها، وهذا بخلافِ "آنِيَة" في سورة الإِنسان، فإنَّ الألفَ هناك بدلٌ مِنْ همزة، إذ هو جمعُ إناء، فوزنُها هنا فاعلِة، وهناك أَفْعِلَة، فاتَّحد اللفظُ واختلفَ التصريفُ، وهذا مِنْ محاسنِ علمِ التصريف.
* { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ }
قوله: {ضَرِيعٍ}: هو شجرٌ في النار. وقيل: حجارةٌ. وقيل: هو الزَّقُّوم. وقال أبو حنيفة: "هو الشِّبْرِقُ، وهو مَرْعى سَوْءٍ، لا تَعْقِدُ عليه السائمةُ شَحْماً ولا لَحْماً. قال الهذليُّ:
4553 - وحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكلُّها * حَدْباءُ دامِيَةُ الضُّلوعِ حَرْوْدُ(1/5809)
وقال أبو ذؤيب:
(14/318)
---
4554 - رَعَى الشِّبْرِقٌ الريَّانَ حتى إذا ذَوَى * وعادَ ضَريعاً نازَعَتْه النَّحائِصُ
وقيل: هو يَبيس العَرْفَجِ إذا تَحَطَّم. وقال الخليل: "نبتٌ أخضرُ مُنْتِنُ الريح يَرْمي به البحرُ. وقيل: نبتٌ يُشبه العَوْسَج. والضَّراعةُ: الذِّلَّةُ الاستكانةُ مِنْ ذلك.
* { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ }
قوله: {لاَّ يُسْمِنُ}: قال الزمخشري: "مرفوعُ المحلِّ أو مجرورُ على وصفِ طعامٍ أو ضَريع". قال الشيخ: "إمَّا وَصْفُه لـ ضريعٍ، فيصِحُّ؛ لأنه مثبتٌ نفى عنه السِّمَنْ والإِغناءَ من الجوع. وأمَّا رفعُه على وصفِه لطعام فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطعامَ منفيٌّ و "يُسْمِنُ" منفيٌّ فلا يَصِحُّ تركيبُه؛ لأنه يَصيرُ التقدير: ليس لهم طعامٌ لا يُسْمِنُ ولا يُغني مِنْ جمعٍ إلاَّ مِنْ ضريع، فيصير المعنى: إنَّ لهم طعاماً يُسْمِنُ ويُغْني من جوعٍ إلاَّ مِنْ غيرِ الضَّريع، كما تقول: "ليس لزيدٍ مالٌ لا يُنتفع به إلاَّ مِنْ مال عمروٍ" فمعناه: أنَّ له مالاً يُنتفع به مِنْ غيرِ مالِ عمروٍ". قلت: وهذا لا يَرِدُ لأنه على تقدير تَسْليم القول بالمفهوم مَنَعَ منه مانعٌ وهو السياقُ، وليس كلُّ مفهوم معمولاً به. وأمَّا المثالُ الذي نظَّر به فصحيحٌ، لكنه لا يمنع منه مانعٌ كاسِّياق في الآيةِ الكريمة. ثم قال الشيخ: "ولو قيل: الجملةُ في موضعِ رفع صفةً للمحذوفِ المقدَّرِ في "إلاَّ مِنْ ضريعٍ" كان صحيحاً؛ لأنه في موضعِ رفعٍ، على أنَّه بدلٌ من اسم ليس، أي: ليس لهم طعامٌ إلاَّ كائنٌ مِن ضَريعٍ، أو إلاَّ طعامٌ مِنْ ضريعٍ غيرِ مُسَمِّنٍ ولا مُغْنٍ مِنْ جوعٍ، وهذا تركيبٌ صحيحٌ ومعنى واضحٌ".
(14/319)
---(1/5810)
وقال الزمخشري أيضاً: "أو أُريد أَنْ لا طعامَ لهم أصلاً؛ لأنَّ الضَّريعَ ليس بطعامٍ للبهائم فضلاً عن الإِنس؛ لأنَّ الطعامَ ما أَشْبَع أو أَسْمَنَ، وهو عنهما بمَعْزِلٍ كما تقول: "ليس لفلانٍ ظلٌّ إلاَّ الشمسُ" تريد نَفْيَ الظلِّ على التوكيد". قال الشيخ: "فعلى هذا يكونُ استثناءً منقطعاً، إذ لم يندَرِجْ الكائنُ مِن الضَّريع تحت لفظِ "طعام" إذ ليس بطعامٍ، والظاهرُ الاتصالُ فيه وفي قولِه {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} قلت: وعلى قولِ الزمخشري المتقدم لا يَلْزَمُ أَنْ يكونَ منقطعاً؛ إذ المرادُ نفيُ الشيءِ بدليلِه، أي: إن كان لهم طعامٌ ليس إلاَّ هذا الذي لا يَعُدُّه أحدٌ طعاماً ومثلُه "ليس له ظلٌّ إلاَّ الشمسُ" وقد مضى تحقيقُ هذا عند قولِه: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} وقوله:
4555 - ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ * ........................
ومثله كثيرٌ.
* { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً }
قوله: {لاَّ تَسْمَعُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ بالياء / من تحتُ مضمومةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، "لاغِيةٌ" رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وقرأ نافع كذلك، إلاَّ أنَّه بالتاء مِنْ فوقُ، والتذكيرُ والتأنيثُ واضحان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ الباقون بفتح التاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ "لاغيةً"، فيجوزُ أَنْ تكونَ التاءُ للخطابِ، أي: لا تَسْمع أنت، وأنْ تكونَ للتأنيثِ، أي: لا تسمعُ الوجوهُ. وقرأ المفضل والجحدريُّ "لا يَسْمَعُ" بياء الغَيْبة مفتوحةً، "لاغيةً" نصباً، أي: لا يَسْمَعُ فيها أحدٌ.
لاغِيَة يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لـ كلمةٍ على معنى النسبِ، أي: ذات لغوٍ أو على إسنادِ الَّغْوِ إليها مجازاً، وأَنْ تكونَ صفةً لجماعة، أي: جماعة لاغية، وأَنْ تكونَ مصدراً كالعافِية والعاقِبة كقولِه: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً}
* { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ }(1/5811)
(14/320)
---
قوله: {وَنَمَارِقُ}: جمع نُمْرُقة، وهي الوِسادةُ. قالت:
4556 - نحن بَناتِ طارِقْ * نَمْشي على النَّمَارِقْ
وقال زهير:
4557 - كُهولاً وشُبَّاناً حِسانٌ وجوهُهُمْ * لهم سُرُرٌ مَصْفوفةٌ ونَمارِقْ
والنُّمْرُقَة بضمِّ النونِ والراءِ وكسرِهما، لغتان أشهرُهما الأولى.
* { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ }
قوله: {وَزَرَابِيُّ}: جمع زَرِيْبة بفتح الزاي وكسرِها لغتان مشهورتان وهي البُسُطُ العِراضُ. وقيل: ما له منها خَمْلَة. ومَبْثوثة: مفرَّقة.
* { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }
قوله: {الإِبْلِ}: اسمُ جمعٍ واحدُه: بعير وناقة وجمل. وهو مؤنثٌ، ولذلك تَدْخُلُ عليه تاءُ التأنيثِ حالَ تصغيرِه، فيقال: أُبَيْلَة ويُجْمع آبال، واشتقوا مِنْ لفظِه. فقالوا: "تأبَّلَ زيدٌ"، أي: كَثُرَتْ إبلُه، وتَعَجَّبوا مِنْ هذا فقالوا: "ما آبَلَه"، أي: ما أكثرَ إبِلَه. وتقدَّم في الأنعام.
قوله: {كَيْفَ} منصوبٌ بـ"خُلِقَتْ" على حَدِّ نَصْبِها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} والجملةُ بدلٌ من "الإِبل" بدلُ اشتمالِ، فتكونُ في محلِ جرّ، وهي في الحقيقة مُعَلِّقةٌ للنظر، وقد دخلَتْ "إلى" على "كيف" في قولهم "انظُرْ إلى كيف يصنعُ"، وقد تُبْدَلُ الجملةُ المشتملةُ على استفهامٍ من اسمٍ ليس فيه استفهامٌ كقولِهم: عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو؟ على خلافٍ في هذا مقررٍ في علمِ النحو.
وقرأ العامَّةُ: خُلِقَتْ ورفِعَتْ ونُصِبَتْ وسُطِحَتْ مبنياً للمفعولِ، والتاءُ ساكنةٌ للتأنيث. وقرأ أمير المؤمنين وابن أبي عبلة وأبو حيوة "خَلَقْتُ" وما بعدَه بتاء المتكلم مبنياً للفاعل. والعامَّةُ على "سُطِحَتْ" مخففاً، والحسن بتشديدها.
* { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ }
(14/321)
---(1/5812)
قوله: {بِمُصَيْطِرٍ}: العامَّةُ على الصاد، وقنبل في بعضِ طُرُقِه، وهشام بالسين وخلف بإشمامِ الصادِ زاياً بلا خلافٍ، وعن خلاَّد وجهان. وقرأ هارونُ "بمُسَيْطَر" بفتح الطاء اسمَ مفعولٍ؛ لأنَّ "سَيْطَرَ" عندهم متعدّ، يَدُلُّ على ذلك فعلُ مطاوعِه وهو تَسَيْطر، ولم يَجِيءْ اسمُ فاعلٍ على مُفَيْعِل إلاَّ: مُسَيْطِر ومُبَيْقِر ومُهَيْمِن ومُبَيْطِر مِنْ سَيْطَرَ وبَيْقَرَ وهَيْمَنَ وبَيْطَرَ. وقد جاء مُجَيْمِر اسمَ واد، ومُدَيْبِر. قيل: ويمكنُ أَنْ يكونَ أصلُهما "مُجْمِر" و "مُدْبِر" فصُغِّرا. قلت: وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَهم جَوَّز "مُهَيْمِناً" مُصَغَّراً، وتَقَدَّم أنه خطأٌ عظيمٌ، وذلك في سورة المائدةِ وغيرها.
* { إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ }
قوله: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى}: العامَّةُ على "إلاَّ" حرفَ استثناء، وفيه قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ لأنه مستثنى مِنْ ضمير "عليهم". والثاني: أنه متصلٌ لأنه مستثنى مِنْ مفعول "فَذَكِّرْ"، أي: فَذَكِّرْ عبادي إلاَّ مَنْ تولَّى. وقيل: "مَنْ" في محلِّ خفض بدلاً من ضمير "عليهم"، قاله مكي. ولا يتأتَّى هذا عند الحجازيين، إلاَّ أَنْ يَكونَ متصلاً، فإنْ كان منقطعاً جاز عند تميمٍ؛ لأنهم يُجْرُوْنه مُجْرى المتصل، والمتصلُ يُختار فيه الإِتباعُ لأنه غيرُ موجَبٍ. هذا كلُّه إذا لم يُجْعَل "مَنْ تولَّى" شرطاً وما بعده جزاؤُه، فإنْ جَعَلْتَه كذلك كان منقطعاً، وقد تقدَّم تحقيقُه، وعلى القولِ بكونِه مستثنى مِنْ مفعول "فَذَكِّرْ" المقدرِ تكون جملةُ النفي اعتراضاً.
وقرأ زيد بن علي وزيد بن أسلم وقتادة "إلا" حرفَ استفتاحٍ، وبعده حملةٌ شرطية أو موصولٌ مضمَّنٌ معناه.
* { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ }
(14/322)
---(1/5813)
قول: {إِيَابَهُمْ}: العامَّةُ على تخفيفِ الياءِ، مصدرِ آبَ يَؤُوبُ إياباً [والأصلُ: أوَب يَأوُبُ إواباً]، أي: رَجَعَ كـ قام يقوم قياماً. وقرأ شيبة وأبو جعفر بتشديدها. وقد اضطربَتْ فيها أٌوالُ التصريفيينن فقيل: هو مصدرٌ لـ أَيَّبَ على وزن فَيْعَل كبَيْطَرَ، يُقالُ منه: أيَّبَ يُؤَيِّبُ إيَّاباً، والأصلُ / أيْوَبَ يِؤَيْوِبُ إيْواباً كبَيْطَرَ يُبَيْطرُ، فاجتَمَعَتْ الياءُ والواوُ في جميع ذلك، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً، وأُدغِمت الياءُ المزيدةُ فيها، فإيَّاب على هذا فِيْعال. وقيل: بل هو مصدرٌ لـ أَوّبَ بزنةِ فَوْعَل كحَوْقَلَ، والأصل: إِوْوَاب بواوَيْن، الأولى زائدةٌ، والثانيةُ عينُ الكلمةِ، فسَكَنَتِ الأولى بعد كسرةٍ، فقُلِبت ياءً، فصار إيْواباً، فاجتمعَتْ ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ في الياءِ بعدها، فوزنُه فِيعال كحِيْقال، والأصلُ: حِوْقال: وقيل: بل هو مصدرٌ لـ أَوَّبَ على وزن فَعْوَل كجَهْور، والأصلُ: إِوْوَاب على وزن فِعْوال، كـ"جِهْوار" الأولى عينُ الكلمةِ، والثانيةُ زائدةٌ، وفُعِل به ما فُعِل بما قبلَه مِنْ القلبِ والإِدغام للعللِ المتقدمةِ، وهي مفهومةٌ مِمَّا مَرَّ، فإن قيل: الإِدغامُ مانعٌ مِنْ قَلْبِ الواوِ ياءً. قيل إنما يمنعُ إذا كانت الواوُ والياءُ عيناً وقد عَرَفْتَ أنَّ الياءَ في فَيْعَلِ والواوَ في فَوْعَل وفَعْوَل زائدتان. وقيل: بل هو مصدرٌ لأَوَّب بزنةِ فَعَّلَ نحو: كِذَّاباً والأصلُ إوَّاب، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ياءً لانكسارِ ما قبلَها فقيلَ: إيْواباً. قال الزمخشري: "كدِيْوان في دِوَّان، ثم فُعِلَ به ما فُعِلَ بسَيِّد" يعني أنَّ أصلًه سَيْوِد، فقُلِبت وأُدْغِمت، وإلى هذا نحا أو بالفضل أيضاً.
(14/323)
---(1/5814)
إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ما قالاه: بأنهم نَصُّوا: على أنَّ الواوَ الموضوعةَ على الإِدغامِ لا تَقْلِبُ الأولى ياءً، وإن انكسَرَ ما قبلها قال: "وَمَّثلوا بنفس "إوَّاب" مصدرَ أوَّب مشدداً، وباخْرِوَّاط مصدرَ اخْرَوَّط. قال: "وأمَّا تشبيهُ الزمخشريِّ بديوان فليس بجيدٍ؛ لأنَّهم لم يَنْطِقوا بها في الوَضْعِ مُدْغمةً، ولم يقولوا: دِوَّان، ولولا الجَمْعُ على "دَواوين" لم يُعْلَمْ أنَّ أصلَ هذه الياءِ واوٌ، وقد نَصُّوا على شذوذِ "دِيْوان" فلا يُقاسُ عليه غيرُه".
قلت: أمَّا كونُهم لم يَنْطِقوا بدِوَّان فلايَلْزَمُ منه رَدُّ ما قاله الزمخشريُّ، ونَصَّ النحاةُ على أنَّ أصلَ "دِيْوان" دِوَّان، و "قيراط": قِرَّاط، بدليلِ الجَمْعِ على دَواوين وقَرارِيط، وكونُه شاذاً لا يَقْدَحُ؛ لأنه لم يَذْكُرْه مَقيساً عليه بل مَنَظِّراً به.
وقد ذهب مكي إلى نحوٍ مِنْ هذا فقال: "وأصل الياءِ واوٌ، ولكنْ انقلبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها، وكان يَلْزَمُ مَنْ شَدَّد أَنْ يقولَ: إوَّابَهم لأنَّ مِنْ الواو، أو يقول: إيوابهم، فيُبْدِلُ مِنْ أول المشدد ياءً كما قالوا: "دِيْوان" والأصلُ: دِوَّان" انتهى. وقيل: هو مصدرٌ لأَأْوَبَ بزنة أَكْرَم مِنْ الأَوْب، والأصلُ: إأْواب كإكْرام، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية لـ إأْواب ياءً لسكونِها بعد همزةٍ مكسورةٍ فصار اللفظُ إياباً فاجتمعت الياءُ والواوُ على ما تقدَّم، فقُلِبَ وأُدْغِمَ، ووزنُه إفْعال، وهذا واضحٌ.
(14/324)
وقال ابن عطية في هذا الوجه: "سُهِّلَتِ الهمزةُ وكان الواجبُ في الإِدغمِ بردِّها إوَّاباً، لكن اسْتُحْسِنَتْ فيه الياءُ على غير قياس" انتهى. وهذا ليس بجيدٍ لِما عَرَفْتَ أنَّه لَمَّا قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً فالقياسُ أن يُفْعَلَ ما تقدَّم مِنْ قَلْبِ الواوِ إلى الياءِ مِنْ دونِ عكسٍ، وإنما ذَكَرْتُ هذه الأوجهَ مشروحةً لصعوبتها مع عَدَمِ يُمْعِنُ النظرَ مِنْ المُعْرِبين في مثل هذه المواضعِ القَلِقَةِ القليلةِ الاستعمال. وقَدَّم الخبرَ في قولِه "إلينا" و "علينا" مبالغةً في التشديد والوعيدِ.(1/5815)
سورة الفجر
* { وَالْفَجْرِ }
قوله: {وَالْفَجْرِ}: جوابُ هذا القَسَم قيل: مذكورٌ وهو قولُه {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قاله ابن الأنباري. وقيل: محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه، أي: لَنُجازِيَنَّ أحدٍ بماعَمل بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ. وقدَّر الزمخشري: "ليُعَذِّبَنَّ" قال: "يَدُلُّ عليه {أَلَمْ تَرَ} إلى قولِه: / {فَصَبَّ}. وقدَّره الشيخ بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه، لإِيابُهم إلينا وحِسابُهم علينا.
* { وَلَيالٍ عَشْرٍ }
والعامَّةُ على "ليالٍ" بالتنوين، "عَشْرٍ" صفةٍ لها. وقرأ ابنُ عباس "وليالِ عَشْرٍ" بالإِضافةِ. فبعضهم يكتبُ "ليالِ" في هذه القراءةِ دونَ ياءٍ، وبعضُهم قال: "وليالي" بالياء، وهو القياسُ. قيل: والمرادُ: وليالي أيام عشرٍ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال: عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكرٌ. ويُجاب عنه: بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان، ومنه "وأتبعه بسِتٍّ من شوال" وسَمَعَ الكسائي: "صُمْنا من الشهر خمساً".
* { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }
(14/325)
---(1/5816)
قوله: {وَالْوَتْرِ}: قرأ الخَوان بكسرِ الواو، والباقون بفتحها وهما لغتان كالحِبْر والحَبْر، والفتحُ لغةُ قريشٍ ومَنْ والاها، والكسرُ لغةُ تميم. وهاتان اللغتان في "الوتر" مقابلَ الشَّفْع. فأمَّا في الوِتْر بمعنى التِّرَة، أي: الذَّحْلُ فبالكسرِ واحدَه، قاله الزمخشري. ونقل الأصمعيُّ فيه اللغتين أيضاً. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ يونسَ عنه بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أَنْ يكونَ لغةً ثالثة، وأن يكونَ نَقَل كسرةَ الراءِ إلى التاء إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ.
* { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ }
وقال مقاتل: "هل هنا في موضع "إنَّ" تقديرُه: إنَّ في ذلك قَسَماً لذي حِجْرٍ، فـ"هل" على هذا في موضع جواب القسم" انتهى. وهذا قولٌ باطلٌ؛ لأنه لا يَصْلُح أَنْ يكونَ مُقْسَماً عليه، على تقديرِ تسليمِ أنَّ التركيبَ هذكا، وإنما ذكَرْتُه للتنبيهِ على سقوطِه. وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: وصلاةِ الفجر أو وربِّ الفجر.
والعامَّةُ على عَدَمِ التنوينِ في "الفجر" و "الوَتْر" و "يَسْرِ". وأبو الدينار الأعرابي بتنوين الثلاثةِ. قال ابن خالَوَيْه: "هذا ما رُوي عن بعضِ العرب أنه يقفُ على أواخرِ القوافي بالتنوينِ، وإنْ كان فِعلاً، وإنْ كان فيه الألفُ واللامُ. قال الشاعر:
4558 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعتابَنْ * وقُولي إنْ أَصَبْتُ لقد أصابَنْ
يعني بهذا تنوينَ الترنُّم، وهو أنَّ العربيَّ إذا أراد تَرْكَ الترنمِ وهو مَدُّ الصوتِ نَوَّن الكلمةَ، وإنما يكونُ في الرويِّ المطلقِ. وقد عاب بعضُهم قولَ النَّحْويين "تنوين الترنم" وقال: بل ينبغي أَنْ يُسَمُّوه بتنوين تَرْكِ الترنُّم، ولهذا التنوينِ قسيمٌ آخرُ يُسَمَّى "التنويَ الغالي"، وهو ما يَلْحَقُ الرويَّ المقيَّدَ كقولِه:
4559 - .............خاوي المخترقْنْ
(14/326)
---(1/5817)
على أن بعض العروضيين أنكر وجودَه. ولهذين التنوينَيْن أحكامٌ مخالفةٌ لحكمِ التنوينِ حَقَّقْتُها في "شرح التسهيل" ولله الحمد. والحاصلُ أنَّ هذا القارىءَ أجْرى الفواصلَ مُجْرى القوافي فَفَعَلَ فيها ما يَفْعل فيها. وله نظائرُ مَرَّ منها: {الرَّسُولاَ} {السَّبِيلاْ} {الظُّنُونَاْ} في الأحزاب. و {الْمُتَعَالِ} في الرعد" و "يَسْر" هنا، كما سأبيِّنُه إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: فما بالُها مُنَكَّرَة مِنْ بين ما أَقْسَمَ به؟ قلت: لأنها ليالٍ مخصوصةٌ مِنْ بينِ جنس الليالي العِشْرِ بعضٌ منها، أو مخصوصةٌ بفضيلةٍ ليسَتْ في غيرها. فإنْ قلتَ: هلاَّ عُرِّفَتْ بلامِ العهدِ لأنها لياليٍ معلومةٌ. قلت: لو قيل ذلك لم تستقلَّ بمعنى الفضيلةِ التي في التنكير، ولأنَّ الأحسنَ أَنْ تكون اللاماتُ متجانِسَةٌ ليكون الكلامُ أبعدَ من الإِلغازِ والتَّعْمِية". قلت: يعني بتجانسِ اللاماتِ أن تكون كلُّها إمَّا للجنسِ، وإمَّا للعهدِ، والفَرَضُ أنَّ الظاهرَ أن اللاماتِ في الفجر وما معه للجنسِ، فلو جيءَ بالليالي معرفةً بلامِ العهدِ لَفاتَ التجانسُ.
قوله: {إِذَا يَسْرِ}: منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم، أي: أُقْسِم به وقتَ سُراه. وحَذَفَ ياءَ "يَسْري" وَقْفاً، وأثبتها وصلاً، نافعٌ وأبو عمروٍ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم، وإثبتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي. ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ. ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المراد: يُسْرَى فيه، قاله الأخفش. وقال غيره: المرادُ يَنْقُصُ كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} {إِذَا عَسْعَسَ}
* { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ }
(14/327)
---(1/5818)
قوله: {لِّذِى حِجْرٍ}: الحِجْرُ: العقل. وتقدَّم الكلامُ عليه.
* { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}
* {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ }
قوله: {بِعَادٍ إِرَمَ}: قرأ العامَّةُ "بعادٍ" مصروفاً "إرَمَ" بكسرِ الهمزة وفتح الراءِ والميم، فـ"عاد" اسمٌ لرجلٍ في الأصل، ثم أُطْلِقَ على القبيلة أو الحيِّ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. وأمَّا "إرَمُ" فقيل: هو اسمُ قبيلةٍ. وقيل: اسمُ مدينةٍ: واخْتُلف في التفسير في تعنيينِها. فإن كانَتْ اسمَ قبيلةٍ كانت بدلاً أو عطفَ بيانٍ، أو منصوبةً بإضمارِ "إعني"، وإن كانَتْ اسمَ مدينةٍ فيقلَقُ الإِعراب من عاد، وتخريجُه على حَذْفِ مضافٍ، كأنه قيل: بعادٍ أهلِ إرمَ، قاله الزمخشري، وهو حَسَنٌ ويَبْعُدُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "عاد" بدلَ اشتمال إذا لا ضميرَ، وتقديرُه قَلِقٌ. وقد يقال:إنه لَمَّا كان المَعْنِيُّ بعادٍ مدينتَهم؛ لأنَّ إرمَ قائمةٌ مَقامَ ذلك صَحَّ البدلُ. وإرمُ اسمُ جَدِّ عادٍ، / وهو عاد بنُ عَوَضِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ. قال زهير:
4560 - وآخَرِين تَرَى الماذيَّ عِدَّتَهْمْ * مِنْ نَسْجِ داوُدَ أو ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
وقال قيس الرقيات:
4561 - مَجْداً تليداً بناه أوَّلُوه له * أَدْرَكَ عاداً وساماً قبلَه إرَما
(14/328)
---(1/5819)
وقرأ الحسن "بعادَ" غيرَ مصروفٍ. قال الشيخ: "مُضافاً إلى إرم. فجاز أَنْ يكون "إرَمُ" أباً أو جَدَّاً أو مدينةً". قلت: يتعيَّنُ أَنْ يكونَ في قراءةِ الحسن غيرَ مضافٍ، بل يكون كما كان منوناً، ويكونُ "إرمَ" بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ أَعْني [ولو كان مضافاً لوجَبَ صَرْفُه]. وإنَّما مُنع "عاد" اعتباراً بمعنى القبيلة أو جاء على أحدِ الجائزَيْنِ في "هند" وبابِه. وقرأ الضحاك في روايةٍ "بعادَ إرم" ممنوعَ الصرفِ وفَتْحِ الهمزةِ مِنْ "أرَمَ". وعنه أيضاً "أرْمَ" بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الراءِ، وهو تخفيفُ "أَرِمَ" بكسرِ الراء، وهي لغةٌ في اسمَ المدينة، وهي قراءةُ ابنِ الزُّبَيْرِ. وعنه في "عاد" مع هذه القراءة الصَّرْفُ وتَرْكُه.
وعنه أيضاً وعن ابن عباس "أَرَمَّ" بفتح الهمزةِ والراءِ، والميمُ مشددةٌ جعلاه فعلاً ماضياً. يقال: "أَرَمَّ العَظْمُ"، أي: بَلِيَ. ورَمَّ أيضاً وأرَمَّه غيرُه، فأَفْعَلَ يكون لازماً ومتعدياً في هذا. و "ذات" على هذه القراءةِ مجرورةٌ صفةً لـ"عاد"، ويكونُ قد راعى لفظَها تارةً في قولِه: "أرَمَّ"، فلم يُلْحِقْ علامةَ تأنيثٍ، ويكونُ "أرَمَّ" معترضاً بين الصفةِ والموصوفِ، أي: أَرَمَّتْ هي بمعنى: رَمَّتْ وَبِلِيَتْ، وهو داءٌ عليهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ "أرَمَّ" ضميرَ الباري تعالى، والمفعولُ محذوفٌ، أي: أرَمَّها اللَّهُ. والجملةُ الدعائيةُ معترضةٌ أيضاً. ومعناها أخرى في "ذات" فأنَّثَ. ورُوي عن ابن عباس "ذاتَ" بالنصب على أنها مفعولٌ بـ"أرَمَّ". وفاعلُ أرَمَّ" ضميرٌ يعودُ على الله تعالى، أي: أرَمَّها اللَّهُ تعالى ويكون "أرمَّ" بدلاً مِنْ "فَعَلَ ربُّكَ" أو تبييناً له.
(14/329)
---(1/5820)
وقرأ ابن الزبير "بعادِ أَرِمَ" بإضافةِ "عاد" إلى "أرِم" مفتوحَ الهمزةِ مكسورَ الراء، وقد تقدَّم أنه اسمُ المدينة. وقُرىء "أرِمِ ذاتِ" بإضافة "أرم" إلى "ذات". ورُوي عن مجاهدٍ "أرَمَ" بفتحتين مصدرَ أَرِمَ يَأْرَمُ، أي: هَلَكَ، فعلى هذا يكونُ منصوباً بـ"فعَلَ ربُّك" نَصْبَ المصدرِ التشبيهيِّ، والتقدير: كيف أهلك ربُّك إهلاكَ ذاتِ العِماد؟ وهذا أغربُ الأقوالِ.
و"ذاتِ العِمادِ" إنْ كان صفةً لقبيلةٍ فمعناه: أنهم أصحابُ خيامٍ لها أَعْمِدةٌ يَظْعَنون بها، أو هو كنايةٌ عن طولِ أبدانهم كقولِه:
4562 - رَفيعُ العِمادِ طويلُ النِّجا * دِ .......................
قاله ابن عباس، وإنْ كان صفةً للمدينة فمعناه: أنها ذاتُ عُمُدٍ من الحجارة.
* { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }
قوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ}: يجوز أَنْ يكونَ تابعاً، وأَنْ يكونَ مَقْطوعاً رفعاً أو نصباً. والعامَّةُ على "يُخْلَقُ" مبنياً للمفعولِ، "مِثْلُها" مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وعن ابن الزبير "يَخْلُقْ" مبنياً للفاعل "مثلَها" منصوبٌ به. وعنه أيضاً "نَخْلُقْ" بنونِ العظمةِ.
* { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ }
قوله: {وَثَمُودَ}: قرأ العامَّةُ بمَنْع الصرف، وابنُ وثَّاب بصَرْفِه. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبعاً. و "الذين" يجوز فيه ما تقدَّم في {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ}. وجابَ الشيءَ يجوبُه قَطَعَه وخَرَقه جَوْباً. وجُبْتُ البلادَ: قطعتُها سَيْراً. قال الشاعر:
4563 - ولاَ رأَيْتُ قَلوصاً قبلَها حَمَلَتْ * سِتِّين وَسٌْاً ولا جابَتْ بها بلداً
(14/330)
---(1/5821)
قوله: {بِالْوَادِ} متعلقٌ: إمَّا بـ"جابوا"، أي: فيه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الصخر"، أو من الفاعِلين. وأثبت ياءَ "الوادي" في الحالَيْن ابنُ كثير وورشٌ، بخلافٍ عن قنبل فرُوي عنه إثباتُها في الحالَيْن، ورُوي عنه إثباتُها في الوصلِ خاصةً، وحذفها الباقون في الحالَيْن، موافقةً لخطِّ المصحفِ ومراعاةً للفواصل كما تقدَّم في {إِذَا يَسْرِ}
* { الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ}
* {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ}
* {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }
قوله: {الَّذِينَ طَغَوْاْ }: يجوزُ فيه ما جاز في "الذين" قبله من الإِتباعِ والقطع على الذمِّ.
قوله: {سَوْطَ} هو الآلةُ المعروفةُ. قيل: وسُمِّيَ سَوْطاً لأنه يُساط به اللحمُ عند الضَّرْبِ، أي: يَخْتلط. قال كعب بن زهير:
4564 - وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها * فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
وقال آخر:
4565 - أحارِثُ إنَّا لو تُساطُ دماؤُنا * تَزَايَلْنَ حتى لا يَمَسَّ دَمٌ دَما
وقيل: هو في الأصلِ مصدرُ ساطه يَسُوْطه سَوْطاً، ثم سُمِّيَتْ به الآلةُ. وقال أبو زيد: "أموالُهم بينهم سَوِيطة"، أي: مختلطةٌ. واستعمالُ الصَّبِّ في السَّوْط استعارةٌ بليغة، وهي شائعةٌ في كلامِهم /.
* { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
قوله: {لَبِالْمِرْصَادِ}: المِرْصاد كالمَرْصَد، وهو المكانُ يترتَّبُ [فيه] الرَّصَدَ جمعَ راصِد كحَرَس، فالمِرْصاد مِفْعال مِنْ رَصَده كمِيْقات مِنْ وَقَتَه، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ ابنُ عطية في "المِرْصاد" أَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ قال: "كأنه قيل: لَبالراصد، فعبَّر ببناء المبالغة". ورَدَّ عليه الشيخ: بأنَّه لو كان كذلك لم تَدْخُلْ عليه الباءُ إذ ليس هو في موضعِ دخولِها لا زائدةً ولا غيرَ زائدةٍ. قلت: قد وَرَدَتْ زيادتُها في خبرِ "إِنَّ" كهذه الآيةِ، في قولِ امرىء القيس:
(14/331)
---(1/5822)
4566 - ..................... * فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
إلاَّ أنَّ هذا ضرورةٌ لا يُقاسُ عليه الكلامُ فَضْلاً عن أفصحِه.
* { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيا أَكْرَمَنِ }
قوله: {فَأَمَّا الإِنسَانُ}: مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان، أحدهما: - وهو الصحيحُ - أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه "فيقولُ" كقولِه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ} كما تقدَّم بيانُه، والظرفُ حينئذٍ منصوبٌ بالخبر؛ لأنه في نيةِ التأخيرِ، ولا تمنعُ الفاءُ من ذلك، قاله الزمخشريُّ وغيرُه. والثاني: أنَّ "إذا" شرطيةٌ وجوابثها "فيقول"، وقولُه " فأَكْرَمَه" معطوفٌ على "ابتلاه"، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ "الإِنسان"، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ "إمَّا" تَلْزَمُ الفاءَ في الجملةِ الواقعةِ خبراً عَمَّا بعدها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ مضمر، كقولِه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} كما تقدَّم بيانُه، إلاَّ في ضرورةٍ.
(14/332)
---(1/5823)
قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ بمَ اتَّصَلَ قولُه "فأمَّا الإِنسانُ"؟ قلت: بقولِه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فكأنَّه قيل: إنَّ اللَّهَ لا يريدُ من الإِنسانِ إلاَّ الطاعةَ، فأمَّا الإِنسانُ فلا يريد ذلك ولا يَهُمُّه إلاَّ العاجلةَ". انتهى. يعني بالتعلُّقِ مِنْ حيثُ المعنى، وكيف عُطِفَتْ هذه الجملةُ التفصيليةُ على ما قبلَها مترتبةً عليه؟ وقوله: "لا يريد إلاَّ الطاعةَ" على مذهبِه، ومذهبُنا أنَّ اللَّهَ يريد الطاعة وغيرَها، ولولا ذلك لم يقعْ. فسُبحان مَنْ لا يُدْخِلُ فيي مُلْكِه ما لا يُريد. وإصلاحُ العبارةِ أَنْ يقولَ: إنَّ اللَّهَ يريدُ من العبدِ أو الإِنسانِ من غيرِ حَصْرِ. ثم قال: "فإنْ قُلْتَ: فكيف توازَنَ قولُه: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} وقولُه: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ}، وحقُّ التوازنِ أَنْ يتقابلَ الواقعان بعد "أمَّا" و "أمَّا". تقول: "إمَّا الإِنسانُ فكفورٌ، وأمَّا المَلَكٌ فشَكورٌ"، "أمَّأ إذا أَحْسَنْتَ إلى زيدٍ فهو مُحْسِنٌ إليك، وأمَّا إذا أَسَأْتَ إليه فهو مُسِيْءٌ إليك"؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنَّ التقديرَ: وأمَّأ هو إذا ما ابتلاه ربُّه وذلك أنَّ قولَه: {فَيَقُولُ رَبِّيا أَكْرَمَنِ} خبرُ المبتدأ الذي هو الإِنسانُ. ودخولُ الفاءِ لِما في "أمَّا" مِنْ معنى الشرطِ، والظرفُ المتوسِّطُ بين المبتدأ والخبرِ في نيةِ التأخيرِ، كأنه قال: فأمَّا الإِنسانُ فقائِلٌ ربي أكرمَنِ وقتَ الابتلاءِ فَوَجَبَ أَنْ يكونَ "فيقولُ" الثاني خبرَ المبتدأ واجبٌ تقديرُه".
* { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيا أَهَانَنِ }
(14/333)
---(1/5824)
قوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ}: قرأ ابنُ عامرٍ بتشديدِ الدال، والباقون بتخفيفِها، وهما لغتان بمعنىً واحد، ومعناهما التضييقُ ومن التخفيفِ قولُه:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} قوله: {أَكْرَمَنِ} "أهانَنِ" قرأ نافعٌ بإثباتِ ياءَيْهما وَصْلاً وحَذْفِهما وقفاً، مِنْ غير خلافٍ عنه، والبزيُّ عن ابن كثير يُثْبِتُهما في الحالَيْن، وأبو عمرو اختُلِفَ عنه في الوصلِ فرُوي عنه الإِثباتُ والحَذْفُ، والباقون يَحّفونهما في الحالَيْن وعلى الحَذْفِ قولُ الشاعر:
4567 - ومِن كاشِحٍ طاهرٍ عُمْرُه * إذا ما انْتسَبْتُ له أَنْكَرَنْ
يريد: أنكرني. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: هَلاَّ قال: فأهانَه وقَدَرَ عليه رِزٌَْه، كما قال: فأكرَمَه ونَعَّمه. قلت: لأنَّ البَسْطَ إكرامٌ من الله تعالى لعبدِه بإنعامِه عليه مُتَفَضِّلاً مِن غيرِ سابقةٍ. وأمَّا التقديرُ فليس بإهانةٍ له؛ لأنَّ الإِخلالَ بالتفضُّل لا يكونُ إهانة، كما إذا أهدى لك زيدٌ هديةً تقول: أكرمني، فإذا لم يَهْدِ لك شيئاً لا يكو مُهيناً لك".
* { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ }
قوله: {تُكْرِمُونَ}: قرأ أبو عمرو هذا والثلاثةَ بعدَه بياء الغَيْبة حَمْلاً على معنى الإِنسانِ المتقدِّمِ / إذ المرادُ به الجنسُ، والجنسُ في معنى الجَمْعِ، والباقون بالتاء في الجميع خطاباً للإِنسانِ المرادِ به الجنسُ على طريقِ الالتفاتش. وقرأ الكوفيون "تَحاضُّون" والأصلُ: تتحاضُّون، فحذف إحدى التاءَيْن، أي: لا يَحُضُّ بعضُكم بعضاً. ورُوي عن الكسائي "تُحاضُّون" بضم التاءِ، وهي قراءةُ زيدِ ابن علي وعلقمةَ، أي: تُحاضُّون أنفسَكم. والباقون "تَحُضُّون" مِنْ حَضَّه على كذا، أي: أغْرَه به. ومفعولُه محذوفٌ، أي: لا تَحُضُّون أنفسَكم ولا يرَها. ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، أي: لا تُوْقِعون الحَضَّ.
(14/334)
---(1/5825)
* { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }
قوله: {عَلَى طَعَامِ}: متعلِّقٌ بتحاضُّون. و "طعام" يجوزُ أَنْ يكونَ على أصلِه مِنْ كونِه اسماً للمطعومِ. ويكون على حَذْفِ مضافٍ، أي: على بَذْلِ، أو على إعطاءِ طعامٍ، وأَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ بمعنى الإِطعام، كالعطاء بمعنى الإِعطاء، فلا حَذْفَ حينئذٍ. والتاءُ في "التراث" بدلٌ من الواو، لأنه من الوِراثة. ومثلُه: تَوَْج وتَوْراة وتُخَمَة، وقد تقدَّم ذلك. و "لَمَّاً" بمعنى مجموع. يقال: لَممْتُ الشيءَ لَمَّاً، أي: جَمَعْتُه جَمْعاً. قال الحطيئة:
4568 - إذا كان لَمَّاً يَتْبَعُ الذَّمَّ ربَّه * فلا قَدَّس الرحمنُ تلك الطَّواحِنا
ولَمَمْتُ شَعَثُه من ذلك. قال النابغة:
4569 - ولَسَْ بمُسْتَبْقٍ أخالً لا تَلُمُّه * على شَعَثٍن أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ
والجَمُّ: الكثير. ومنه "جُمَّةُ الماء". قال زهير:
4570 - فلمَّأ وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه * .....................
ومنه: الجُمَّة للشَّعْر، وقولُهم "جاؤوا الجَمَّاءَ الغَفير". من ذلك.
* { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً }
قوله: {دَكّاً دَكّاً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّد، و "دكاً" الثاني تأكيدٌ للأول تأكيداً لفظياً، كذا قاله ابنُ عُصفور، وليس المعنى على ذلك. والثاني: أنه نصبٌ على الحالِ والمعنى: مكرَّراً عليه الدَّكُّ كـ عَلَّمْتُه الحِساب بابا باباً، وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشريِّ، وكذلك "صَفَّاً صَفَّاً" حالٌ أيضاً، أي: مُصْطَفِّين أو ذوي صفوفٍ كثيرة.
* { وَجِياءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى }
(14/335)
---(1/5826)
قوله: {يَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بـ"جيْء" والقائمُ مَقامَ الفاعلِ "بجهنَّمَ". وجَوَّزَ مكي أَنْ يكونَ "يومَئِذٍ" قائماً مَقامَ الفاعلِ. وإمَّا "يومَئذ" الثاني فقيل: بدلٌ من "إذا دُكَّت"، والعامل فيهما "يتذكَّر". قاله الزمخشري، وهذا هو مذهبُ سيبويهِ، وهو أنَّ العاملَ في المبدلِ منه عاملٌ في البدلِ، ومذهبُ غيرِه أنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ. وقيل: إنَّ العاملَ في "إذا دُكَّتْ" "يقولُ"، والعاملُ في "يومئذ" "يتذكَّر" قاله أبو البقاء.
قوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} "أنَّى" خبرٌ مقدمٌ، و "الذكرى" مبتدأٌ مؤخرٌ، و "له" متعلقٌ بما تَعَلَّق به الظرفُ.
* { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}
* {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ }
قوله: {لاَّ يُعَذِّبُ}: قرأ الكسائي "لا يُعَذَّبُ" و "لا يُوْثَقُ" مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل. فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى "أحد" وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا عذابه. ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضميرُ للإِنسانِ، ويكون "عذاب" واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِ وعنادِه، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاة خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ، وعن الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن. ومن الإِعمال قولُه:
4571 - أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني * وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا(1/5827)
(14/336)
---
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ "المِئَة" بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر:
4572 - .................... * فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قاله الزمخشري: وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه. /
والضميرُ في "عذابَه" و "وَثاقَه" يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى: بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ، أي: إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ، كذا قاله أبو عبد الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ "يومئذٍ" معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ أن يُقالَ: يُتَوَسَّعُ فيه.
وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك. ويل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا: بأنَّ "لا" إذا دَخَلَتْ عل المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ "يومَئذٍ" المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا. وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما "وِثاقَه" بكسر الواو.
* { ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }
(14/337)
---(1/5828)
قوله: {ياأَيَّتُهَا}: هذه قراءةُ العامَّةِ "يا أيتُها" بتاءِ التأنيث. وقرأ زيدُ بن علي "يا أيُّها" كنداءِ المذكرِ، ولم يُجَوِّز ذلك أحدٌ، إلاَّ صاحبَ "البديع"، وهذه شاهدةٌ له. وله وجه: وهو أنها كما لم تطابِقْ صفتَها تثنيةً وجَمْعاً جاز أن لا تطابِقَها تأنيثاً. تقول: يا أيُّها الرجلان يا أيُّها الرجال. و "راضية" و "مَرْضيَّةً" حالان، أي جامعةً بين الوصفَيْن؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ أحدِهما الآخرُ.
* { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي }
قوله: {فِي عِبَادِي} يجوزُ أَنْ يكونَ: في جسد عبادي ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: في زُمْرة عبادي. وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعةٌ "في عبدي" والمرادُ الجنسُ، وتَعَدَّى الفعلُ الأولُ بـ"في" لأنَّ الظرفَ ليس بحقيقي نحو: "دخلت في غِمار الناس"، وتعدَّى الثاني بنفسِه لأنَّ الظرفيةَ متحققةٌ، كذا قيل، وهذا إنما يتأتَّى على أحدِ الوجهَيْنِ، وهو أنَّ المرادَ بالنفس بعضُ المؤمنين، وأنه أَمْرٌ بالدخولِ في زُمْرة عبادِه. وأمَّا إذا كان المرادُ بالنفسِ الروحَ، وأنها مأمورةٌ بدخولِها في الأجساد فالظرفيةُ فيه متحقِّقةٌ أيضاً.(1/5829)
سورة البلد
* { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ }
(14/338)
قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملة اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمتك يُسْتَحَلُّ بهذا البلد كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائد. واعْتُرَ بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، فـ"حِلٌّ" بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: "فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه "وأنت حِلٌّ" في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} ومثلُه واسعٌ في كلامَ العباِ تقول لمن تَعِدُهُ الإكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبوٌ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَة عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورة بالاتفاق مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولشها فما بالُ الفتح؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإجماعَ على نزولِها بمَكَة بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَين. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلد وأنت حالٌّ بها لعِظَم قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ "لا" هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
* { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ }
(14/339)
---(1/5830)
قوله: {وَمَا وَلَدَ}: قيل: "ما" بمعنى "مَنْ" وقيل: مصدريةٌ. أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: هَلاَّ قيل: ومَنْ وَلَدَ. قلت: فيه ما في قوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي: بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ، أي: موضوعاً عجيبَ الشأن" وقيل: "ما" نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره: والذي ما وَلَدَ؛ إذا المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلَدُ له، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ، قال: معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة.
* { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }
قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا}: هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ: المَشقةُ. قال الزمخشري: "وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ، إذا وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدةُ، كما قيل: كَبَته، بمعنى أهلكه، وأصلُه كَبَدَه، أي: أصاب كَبِدَه. قال لبيد:
4573- يا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أَرْبَد إذ * قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ
أي: في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإصبَع:
4574- ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ * لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني
* { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً }
قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ}: يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاًز وقرأ العامَّةُ "لُبَداً" بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ. وشَدَّد أبو جعفر الباءَ، وعنه أيضاً سكونُها. ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ.
* { وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ }
(14/340)
---(1/5831)
قوله: {وَشَفَتَيْنِ}: الشَّفْةُ محوذوفةُ اللامِ، والأصلُ شَفَهة، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة، وجَمْعِها على شِفاه، ونظيرُه سَنَة في إحدى اللغتين. وشافَهْتُه، أي: كلَّمْتُه من غير واسطةٍ، ولا يُجمع بالألفِ والتاء، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحها.
* { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ }
قوله: {النَّجْدَينِ}: إمَّا ظرفٌ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان، والنَّجْدُ في الأصل: "العُنُقُ لارتفاعِه. وقيل: الطريقُ العالي، كقولِ امرئِ القيس:
4575- فريقان منهمْ قاطعٌ بَطْنٌ نَخْلَةٍ *وآخرُ منهمء جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه "نَجْدٌ" لارتفاعِها عن تِهامةَ.
* { فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ }
قوله: {فَلاَ اقتَحَمَ} قال الفراء الزجَّاج: "ذَكَر "لا" مرةً واحدةً، والعربُ لا تكادُ تُفْرِدُ "لا" مع الفعل الماضي حتى تُعِيْدَ، كقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} وإنما أفردَها لدلالةِ آخرِ الكلام على معناه فيجوزُ أَنْ يكونَ قولُه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبةَ ولا آمَنَ" وقال: الزمشخري: "هي متكررةٌ في المعنى؛ لأنَّ معنى "فلا اقتحمَ العقبةَ" فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعمَ مِسْكيناً، ألا ترى أنه فَسَّر اقتحامَ العقبةِ بذلك" قال الشيخ: "ولا يَتِمُّ له هذا إلاَّ على قراءةِ "فَكَّ" فعلاً ماضياً".
* { فَكُّ رَقَبَةٍ }
(14/341)
---(1/5832)
وقرأ أبو عمرو وبان كثير والكسائيُّ "فَكَّ" فعلاً ماضياً، "ورقبةً" نصباً "أو أَطْعم" فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون "فَكُّ" برفع الكاف اسماً، "رقبةٍ" خَفْصٌ بالإضافة، "أو طعامٌ" اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى لافعلُ فيها بَدَلأٌ مِنْ قولِه "اقتحمَ" فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها "فَكُّ" على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإباحة. وفيس الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه "فلا اقتحمَ" تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسَّر - بكسرٍ السين- مصدرٌ، والمفسَّر - بفتح السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّر مضافاً لكان المصدرُ وهو "فَكُّ" مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء "فَكَّ أو طعمَ" فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا "ذا" بالألف. وقرأ الحسن "إطعامٌ" و"ذا" بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ "أَطْعم" أو "إطعامٌ" و"يتيماً" حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ "ذيي" بالياء نعتاً لـ "يوم" على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: "ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ" والفاعلُ لإطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِد فيها حَذْفُ الفاعلِ لإطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
(14/342)
---(1/5833)
والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةث من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثَّرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: "والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَة مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر" .
* { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ }
قوله: {ثُمَّ كَانَ}: لتراخي الإيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ، لا في الوقتِ، لأنَّ الإيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلاَّ به، قاله الزمخشري. وقيل: المعنى على: ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ. وقيل: التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه.
* { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ }
(14/343)
---(1/5834)
قوله: {مُّؤْصَدَةُ}: قرأ أبر عمرو وحفص بالهمزة، والباقون بالواو، وكذا في "الهُمْزة" فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ، أي: أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ. قيل: ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ {بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} كما تقدَّم. والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة. وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزة أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ. واتفق أنه قد قَرَأ "مُوْصَدة" بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين: الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ. قال الشاعر:
4576- تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي * ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ
أي: مُغْلَقة وقال آخر:
4577- قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ * وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا
وكان أبو بكر راوي عاصم يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ، وقال رحمه الله: "لنا إمامٌ يَهْمز "مؤصدة" فأشتهى أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه" قلت: وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلاَّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصِ إياه عنه، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث.
وقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ خبارً ثانياً، وأن يكونَ الخبرُ وحده "عليهم" و"نار" فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.(1/5835)
سورة الشمس
* { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }
(14/344)
قوله: {وَضُحَاهَا}: قد تقدَّم في "طه" الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد: "إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ" هذا يكادُ يكونُ اختلافاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه.
* { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا}
* {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا }
قوله: {جَلاَّهَا}: الفاعلُ ضميرُ النهارِ، وقيل: عائدٌ على الله تعالى. والضميرُ المنصوبُ: إمَّا للشمسِ، وإمَّا للظُّلمةِ، وإمَّا للدنيا، وإمَّا للأرضِ.
قوله: {إِذَا تَلاَهَا} وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جوابَ لفظاً، وتقديرُه غيرُ صالحٍ، وإنْ جُعْلِ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ، و"إذا" ظرفٌ مستقبلٌ، والحال لا يعملُ في المستقبل. وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى.
ويَخُصُّ "إذا" الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال: "فإن قلتَ: الأمرُ في نصبِ "إذا" مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو: إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن، وفي نحو قولك: "مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ" وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقع فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على اتسكراهِه. قلت: الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول: "ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً" فترفعُ بالواو وتنصِبُ، لقيامِها مَقامَ "ضرب" الذي هو عامِلُهما" انتهى.
(14/345)
---(1/5836)
قال الشيخ: "إمَّا قوله: "في واوات العطف: فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ" فليس هذا بالمختار، أعني أنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه، ثم إنما لا نُشاحُّه في ذلك. وقوله: "فتقع في العطفِ على عاملَيْن" ليس ما في الآية من العطفِ على عاملَيْن، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن: مجرور ومنصوبٍ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ، وذلك نحوُ قولكِ: "امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً" وأنشدَ سيبويهِ في كتابه:
4578- وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها * صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّوا
(14/346)
---(1/5837)
فهذا مِنْ عَطفِ مجرورٍ ومرفوعٍ، على مجرورٍ ومرفوعٍ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويه. وقوله: وفي قولك: "مررْتُ أمس بزيدٍ واليومَ عمروٍ" هذا المثالُ مُخالفٌ لما في الآية، بل وِزانُ ما في الآية: "مررْتُ بزيدٍ أمس وعمروٍ اليومَ" ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه "على استكراه" فليس كما ذَكَر، بل كلامُ الخليل يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضْمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولك: "مررتُ بزيدٍ وعمرو" والأولى بمنزلةٍ التاء والباء. وأمَّا قوله: إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً" فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ، فتقول: أُقْسِم - أو أخْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ، وأمَّا قولُه: "الواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه" إى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابِتِه منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار" قال: "والذي نقوله: إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العامل في "إذا" بعد الأقسام، كقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} {وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وما أَشْبهها، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبل لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ. ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه، أي: وطلوع النجم ومجيءِ الليل، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العامِل زمانُ المعمول. ولا جائزٌ(1/5838)
(14/347)
---
أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَم به؛ لأنه ليس من قبيل ما يَعْمل، لا سيما إنْ كان جُرْماً. ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرف فيكونُ قد عملَ فيه، ويكون ذلك العاملُ في موضع الحال وتقديرُه: والنجمِ كائناً إذا هوى، والليل كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ "كائناً" أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مَمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً. وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به حثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ، كما لا تكونُ أخباراً" انتهى ما ورَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في "إذا" وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه.
فقوله: "إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم، لأنه يختار القولَ الآخَرَ. وقوله: "ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن" ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن: أنَّ قولَه: { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو "النهار" والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْ، والعاملان هما: فعلُ القسمِ الناصبُ لـ "إذا" الأولى، واوُ القسم الجارَّةُ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان، فإذا عَطَفْتَ مجررواً على مجررو، وظرفاً على ظرف، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم. وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟
(14/348)
---(1/5839)
وأمَّا قولُه: " وأنشد سيبويه إلى آخره" فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويه. وأمَّا قوله "أجازَ ابنُ كَيْسان فلا يَلْزَمُه مذهبُه. وأمَّا قولُه: "فالمثالُ كالآية، بل وزانهها إلى آخره" فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديم الظرفِ الثاني على المجرور المعطوفِ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْن، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر: وهو أنَّه كالتكرير للمسألةِ.
وأمَّا قولُه "بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنع إلى آخره" فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبة إلى ما قصدَه، بل فيه تقويةٌ لِما قاله. غايةُ ما في البابِ أنه غَبَّر بالاستكراه عن المنعِ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ. وقوله: "ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ" إلى آخره، فأقول: بل يجوزُ تقديرُه: وهو العاملُ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْنِ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجم في المستقبل، فالقَسضمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبل، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ. وقوله: "ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّر محذوف قبل الظرفِ،فيكون قد عَمِل فيه" إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك، وتكون حالاً مقدرةً. قوله ك"يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ" ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم. قوله :"وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً" جوابُه: يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَفَّخَ فيها السؤال وأحابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه.
* { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا }
(14/349)
---(1/5840)
قوله: {يَغْشَاهَا} المفعولُ للشمس. وقيل: للأرض، وجيء بـ "يَغْشاها" مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ "إذا غَشِيَها" فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع.
* { وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا }
قوله: {وَمَا بَنَاهَا}: وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشَهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المراد به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختار ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ السماء، وإليه ذهب الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذه القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ ينفس المصارد: بناءِ السماءِ وطَحْوِ الأرض وتَسْوِية النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياء وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما:يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: لا عَرَْ في الأقسام بهذه الأشياء كما أقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمشخري: "جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولهِ "فألهمها" وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ الظلم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على "مَنْ" لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم لاذي بناها، ونفس والحكيمِ والباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم: "سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا" انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في "فألهمها" عائدٌ عل اللَّهِ تعالى فليكُنْ في "بناها" كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ "ما" فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
(14/350)
---(1/5841)
وقال الشيخ: "أمَّا قولُه: "وليس بالوجهِ لقولِه "فَأَلْهمها" يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في "فَأَلْهمها" على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو "ما" المرادُ به الذي. قال: "ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي "بناها" ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول: "عجبتُ مِمَّا ضَرَبَعمراً" تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلام كثيرٌ وقوله: " وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم" ليس كذك، ولا يُؤدِّي جَعْلأُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: "وإنما أُوثِرَتْ" إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف "الذي" فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفية موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به "ما" دون "مَنْ" وقوله: :وفي كلامهم" إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ "سبحان" عَلَم و "ماَ" مصدريةٌ ظرفيةٌ" انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أَوْلى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به "ما" دونَ "مَنْ" فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحويون ذلك بقوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ} وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به "ما" دون مَنْ. والتنكيرُ في "نفس": إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ
}.
* { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(1/5842)
(14/351)
---
* {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه جوابُ القسم، والأصل: لقد، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ. والثاني: أنه ليس بجوابٍ وإنما جيءَ به تابعاً لقولِه {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطرادِ،و ليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم، أي: على أهلِ مكةَ لتكذيبهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبهم صالحاً صلَّى الله عليه وسلم، وقال معناه الزمشخري، وقدَّره غيرُه: لتُبْعَثُنَّ.
وقوله: {طَحَاهَا} أي: دَحاها، وقد تقدَّم معناه. وفيه لغتان، يقال: طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي. ويجيءُ طحا بمعنى ذهب، قال علقمة:
4579- طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ * بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ
ويقال: طحا بمعنى ارتفعَ. وفي أقسامِهم" "ولا والقمرِ الطَّاحي" أي: المرتفعُ. وفاعلُ "زكَّاها" و"دَسَّاها" الظاهرُ أنه ضميرُ "مَنْ" وقيل: ضميرُ الباري تعالى، أي: مَنْ زكاهَّا اللَّهُ، ومَنْ دَسَّاها اللَّهُ، أي: مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه. وأنْحَى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القولِ لمنافرِة نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير "مَنْ"
* { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }
قوله: {دَسَّاهَا}: أصلُه دسَّاهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبِدْل مِنْ ثالثِها حرفَ علةٍ كما قالوا: قَصَيْتُ [أَظْفاري] و[قوله]:
4580- تَقَضِّيَ البازِي ..............
والتَّدْسِيَةُ: الإخفاءُ بمعنى أفخاها بالفجورِ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال:
4581- وأنت الذي دَسَّتْ عمراً فأصبحَتْ * حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً
ومن قال:
4582- ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ *.......................
البيت.
* { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ }
(14/352)
---(1/5843)
قوله: {بِطَغْوَاهَآ}: في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للاستعانةِ مجازاً، كقوله: "كتبتُ بالقلمِ" وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها، كقولك: "ظلمَني بجُرْأتِه على الله تعالى" الثاني: أنها للتعدية، أي: كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الظُّغيان، كقوله تعالى {فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ} والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طُغْيانِها.
وقرأ العامَّةُ "طَغْواها" بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسم والصفةِ، يعني، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو: خَزْيا وصَدْيا، ويَقْلبونها في الاسم نحو: تَقْوى وشَرْوى، وكان الإقرارُ في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ، والياءُ أخفُّ من الواوِ، فلذلك جُعِلت في الأثقل.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بمض الطاء، وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى، إلاَّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها، هذا كلُّه عند مَنْ يقول: طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ، فأمَّا مَنْ يقول: طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده، قاله ابو البقاء، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ.
* { إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا }
قوله: {إِذِ انبَعَثَ}: "إذِ" يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ظرفاً لـ "كذَّبَتْ" والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى.
(14/353)
---(1/5844)
و"اشْقاها" فاعلُ "انبعَث" وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه. وفي التفسير أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف. والثاني: أن يُراد به جماعةٌ، قال الزمشخري: "ويجوز أن يكونوا جماعةً [والتوحيد] لتَسْوِيَتِك في أفعل التفضيل إذا اضفْتَه، بين الواحدِ والجمع والمذكر والمؤنثِ، وكان يجوز أَنْ يقول: أشْقَوْها" انته. وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول: إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإفرادُ والتكذكيرُ مطلقاً كالمقترِن بـ"مِنْ".
* { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا }
قوله: {فَقَالَ لَهُمْ}: إنْ كان المرادُ بـ "أَشْقاها" جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ "لهم" عليهم واضحٌ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ "لهم" يعودُ على ثمود.
قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} منصوبٌ على التحذير، أي: احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضعَ، أحدُها: أن يكونَ المحذَّرُ نحو: "إياك" وبابه. والثاني: أن يُوجدَ فيه عطفٌ. الثالث: أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو: "الأسدَ الأشدَ" وقرأ زيد بن علي "ناقةُ الله" رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها.
* { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا }
قوله: {فَدَمْدَمَ}: الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإلزاقُ بالأرض. وقيل]: الإهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّةَ ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في "بذَنْبهم" للسبية.
(14/354)
---(1/5845)
قوله: {فَسَوَّاهَا} الضمير المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعبتار القبيلةِ كما أعادَه في قوله "بَطَغْواها" ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبِة، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير "فَدَهْدَهَم" بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المهشورةِ.
* { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا }
قوله: {وَلاَ يَخَافُ}: قرأ نافعٌ وابنُ عامر "فلا" بالفاء، والباقون بالواو، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه. ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ "ولم يَخَفْ" وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءةِ الواوِ، ذكره الزمخشري، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ، وهو ظاهرٌ. والواوُ يجوزُ أَنْ يتكونَ للحالِ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ، وضميرُ الفاعل في "يخاف" يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ، وهو الأظهرُ، لكونِه أقربَ مذكورٍ. والثاني: أنه يعودُ على رسول الله، أي: ولا يخاف عُقْبى هذه العقوبةِ لإنذاره إياهم. والثالث: أنه يعودُ على "أشقاها" أي: انبعَثَ لعَقْرها، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاء. وعُقبى الشيء خاتمتُه.(1/5846)
سورة الليل
* { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى }
(14/355)
قوله: {وَمَا خَلَقَ}: يجوزُ في "ما" أَنْ تكونَ بمعنى "مَنْ" وهو رأيُ جماعةٍ تقدَّم ذِكْرُهمْ في السورةِ قبلَها. وقيل: هي مصدريةٌ. وقال الزمشخري: "والقادرُ: العظيمُ القدرةِ الذي قَدَرَ على خَلْقِ الذكَرِ والأنثى من ماءٍ واحدٍ" قلت: قد تقدَّم تقريرُ قولِه هذا وما اعْتُرِضَ به عليه، وما أُجيب عنه، في السورة قبلها. وقرأ أبو الدرداء {والذَّكر والأنثى} وقرأ عبد الله {والذي خَلَق} والكسائي - ونَقَلها ثعلبٌ عن بعض السَّلَف - {وما خَلَقَ الذَّكَرِ} بجرِّ "الذكَرَِ" قال الزمخشري: "على أنه بدلٌ من محلِّ "ما خَلَقَ" بمعنى "وما خَلَقَه" أي: ومخلوقِ اللَّهِ الذكَرِ، وجاز إضمارٌ "الله" لأنه معلومٌ بانفرادِه بالخَلْق" وقال الشيخ: "وقد يُخْرَّجُ على تَوَهُّم المصدرِ، أي: وخَلْقِ الذَّكِر، كقوله:
4583- تَطُوفُ العُفاةُ بأبوابِه * كما طاف بالتبَيْغَةِ الراهبِ
بجرِّ "الراهب" على توهُّمِ النطقِ بالمصدر، أي: كطَواف الراهبِ" انتهى. والذي يَظْهَرُ في تخريج البيت أنَّ اصله "الراهبيّ" بياءِ النسَبِ، نسبةً إلى الصفةِ، ثم خُفِّف، وهو قليلٌ كقولِهم: أَحْمري ودَوَّاري، وهذا التخريجُ بعينه في قولِ امرئ القيس:
4584- ................ * فَقِلْ في مَقِيل نَحْسُه مُتَغَيِّبِ
استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعلِ. وقرأ العامة {تَجَلَّى} فعلاً ماضياً، وفاعلُه ضميرٌ عائدٌ على النهار. وعبد الله بن عبيد بن عمير {تَتَجَلَّى} بتاءَيْن، أي: الشمس. وقُرئ {تُجْلي} بضمِّ التاءِ وسكونِ الجيم، أي: السمُ ايضاً، ولا بُدَّ من عائدٍ على النهارِ محذوفٍ، أي: تتجلَّى أو تُجْلِي فيه.
* { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }
قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ}: هذا جوابُ القسمِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ محذوفاً، كما قيلَ في نظائِره المتقدمةِ.
* { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى }
(14/356)
---(1/5847)
قوله: {أَعْطَى}: حَذَفَ مفعولَيْ "أعطى" ومفعولَ "اتَّقى" ومفعولَ "صَدَّقَ" المجرور بـ "على"؛ لأنَّ الغرضَ ذِكْرُ هذه الأحداثِ دونَ متعلَّقاتها، وكذلك مُتَعَلَّقا البخل والاستغناءِ. وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} إمَّا من بابِ المقابلةِ لقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وإمَّا لأنَّ نيسِّره بمعنى نُهَيِّئُه، والتهيئةُ تكونُ في اليُسْر والعُسْر.
* { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى }
قوله: {وَمَا يُغْنِي}: يجوز أَنْ تكونَ "ما" نفياً، وأَنْ تكونَ استفهاماً إنكارياً.
قوله: {تَرَدَّى} إمَّا من الهلاكِ، أو مِنْ تَرَدَّى بأكفانِه، وهو كنايةٌ عن الموت كقوله:
4585- وخُطَّا بأَطْرافِ الأسِنَّةِ مَضْجَعي * ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا
وقول الآخر:
4586- نَصيبُك مِمَّا تَجْمَعُ الدهرَ كلَّه * رِداءان تُلْوى فيها وحَنُوطُ
* { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى }
قوله: {نَاراً تَلَظَّى}: قد تقدَّم في البقرة أن البزيَّ يُشَدِّ مثلَ التاء، والتشديدُ فيها عسٍِرٌ لالتقاءِ الساكنين فيها على غير حَدِّها، وهو نظيرُ قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} وقد تقدَّم. وقال أبو البقاء: يُقرأ بكسر التنوين وتشديد التاءِ، وقد ذُكِرَ وَجْهُه عند {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} انتهى. وهذه قراءةٌ غريبةٌ، ولكنها موافقةٌ للقياس من حيث إنه لم يلتقِ فيها ساكنان. وقوله: "وقد ذُكر وجهُه الذي قاله في البقرة لا يُفيد هنا شيئاً البتة، فإنه قال هناك: "ويُقْرأُ بتشديدِ التاءِ، وقبلَه ألفٌ، وهو جْمعٌ بين ساكنَيْن، وإنما سَنَّوغَ ذلك المدُّ الذي في الألفِ".
وقرأ ابن الزُّبير وسفيان وزيد بن علي وطلحة "تَتَلظَّى" بتاءَيْن وهو الأصلُ.
* { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأَشْقَى }
(14/357)
---(1/5848)
قوله: {إِلاَّ الأَشْقَى}: قيل: الأَشْقَى والأَتْقى بمعنى الشقيّ والتقيّ ولا تفضيلَ فيهما؛ لأنَّ النارَ ليسَتْ مختصةً بالأكثرِ شقاءً، وتجنُّبها ليس مختصاً بالأكثرِ تَقْوى. وقيل: بل هما على بابِهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ قال: "فإنْ قلتَ: كيف قال: "لا يَصْلاها إلاَّ الأشقى" {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} وقد عُلِمَ كلَّ شقيّ يَصْلاها، وكلَّ تقيّ يُجَنُّبُها، لا يَخْتَصُّ بالصَّلي أشقى الأشقياءِ، ولا بالنجاةِ أتقى الأتقياءِ، وإن زَعَمْتَ أنه نكَّر النار فأراد ناراً بعينها مخصوصةً بالأشقى فما تصنع بقوله {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى}؟ فقد عُلِمَ أنَّ أَفْسَق المسلمين يُجَنَّبُ تلك النارَ المخصوصة لا الأتقى منها خاصة. قلت: الاية واردةٌ في لموازنةِ بين حالتَيْ عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأُريد يُبالغَ في صفتَيْهما المتاقضتَيْن فقيل: الأشقَى، وجُعِل مختصَّاً بالصَّلْي، كأن النارَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له. وقيل: الأتقى. وجُعل مختصَّاً بالنجاةِ، كأنَّ الجنةَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له. وقيل: هما أبو جهل - أو أمية بن خلق - وأبو بكر الصديق رضي الله عنه" انتهى. فآل جوابُه إلى أنَّ المرادَبهما شخصان معيَّنان.
* { الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }
قوله: {يَتَزَكَّى}: قرأ العامَّةُ {يَتَزَكَّى} مضارعَ تَزَكَّى، والحسن بن علي بن الحسن بن علي أمير المؤمنين يَزَّكَّى بإدغامِ التاءِ في الزاي. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في موضع الحالِ من فاعل "يُؤْتي" أي: يُؤتيه مُتَزَكِّياً به. والثاني: أنها لا موضعَ لها من الإعراب، على أنها بدلٌ مِنْ صلة "الذي" ذكرهما الزمخشري وجعل الشيخُ متكلَّفاً.
* { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى }
قوله: {تُجْزَى}: صفةٌ لنعمةٍ، أي: تُجْزي الإنسانَ، وإنما جيْ به مضارعاً مبنياً للمعفولِ لأجلِ الفواصل؛ إذ الأصلُ يُجْزيها إياه أو يُجْزيه إياها.(1/5849)
(14/358)
* { إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى }
قوله: {إِلاَّ ابْتِغَآءَ}: في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به. قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له على المعنى؛ لأنَّ المعنى: لا يُؤْتى مالَه إلاَّ ابتغاءَ وَجْهِ ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ" وهذا أَخَذَه مِنْ قولِ الفَرَّاء فإنه قال: "ونُصِبَ على تأويل: ما أعْطَيْتُك ابتغاءَ جزائِك، بل ابتغاء وجهِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندَرِجْ تحت جنس "مِنْ نعمة" وهذه قراءة العامَّةِ، أعني النصبَ المدَّ. وقرأ يحيى برفعِه ممدوداً على البدل مِنْ محلِّ "مِنْ نعمة" لأنَّ محلَّها الرفعُ: إمَّا على الفاعليَّةِ، وإمَّا على الابتداء، و"مِنْ" مزيدةٌ في الوجهَيْن، والبدلُ لغة تميمٍ، لأنهم يُجْرُون المنقطعَ في غير الإيجاب مُجْرى المتصل. وأنشد الزمخشريُّ بالوجَهَيْن: النصبِ والبدلِ قولَ بشرِ بنِ أبي خازم:
4587- أَضْحَتْ خَلاءً قِفاراً أَنيسَ بها * إلاَّ الجآذِرُ والظِّلْمانُ تَخْتَلِفُ
وقولَ القائل في الرفع:
4588- وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ * إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَ العِيْسُ
وقال مكي: "وأجاز الفراء الرفعَ في "ابتعاء" على البدل مِنْ موضع "نِعْمَةٍ" وهو بعيدٌ" قلت: كأنَّه لم يَطِّلِعْ عليها، قراءةً، واستبعادُه هو البعيدُ، فإنَّها لغةٌ فاشيةٌ. وقرأ ابنُ ابي عبلة "ابتْغا" بالقصر.
* { وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}: هذا جوابُ قَسَم مضمرٍ. والعامَّاةُ على "يَرْضَى" مبنياً للفاعل. وقُرِئ ببنائِه للفمعول مِنْ أَرْضاه الله، وهو قريبٌ مِنْ قولِه في آخرِ سور طه {لَعَلَّكَ تَرْضَى} و{تَرْضَى}.(1/5850)
سورة الضحى
* { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
(14/359)
---
قوله: {سَجَى}: قيل: معناه سَكَن،ومنه: سجا البحر يَسْجُو سَجْواً، أي: سَكَنَتْ أمواجُه، وطَرْفٌ ساجٍ، أي: فاتر، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ، أي: تَغْطِيَتُه بالثوبِ، قاله الراغب وقال الأعشى:
4589- وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ * وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا
وقيل: سجا، أي: أَدْبرَ وقيل بعكسه. وقال الفراء: "أظلم" وقال ابن الأعرابي: "اشتدَّ ظلامُه" وقال الشاعر:
4590- يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ *وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ
وهو من ذواتِ الواوِ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً.
* { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
قوله: {مَا وَدَّعَكَ}: هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدال من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخففيفها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهروُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ واسم فاعلهما واسمِ مفولِهما ومصدرِهما بـ "تَرَكَ" وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر:
4591- سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ * عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر:
4592- وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ * فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّقَةِ السُّمْرِ
قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعَك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.
قوله: {وَمَا قَلَى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع، وطيِّيء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر:
4593- أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه * ولا واللَّهِ أَقْلاه
*لكَ اللَّهُ على ذاكَ * لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ]
وحُذِفَ مفعولُ "قَلَى" مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ "فآوى" وما بعدَه.
* { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى }
(14/360)
---(1/5851)
قوله: {وَلَلآخِرَةُ}: الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم، وكذلك في "ولَسَوْفَ" أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ: اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه، واثنان مُثْبتان مؤكَّدان، وهما كونُ الآخرةِ خيراُ له من الدنيا، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه. وقال الزمشخري: "فإنْ قلتَ: ما هذه اللامُ الداخلةُ على "سَوْف"؟ قلت: هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوفٌ تقديرُه: ولأنت سَوْفَ يُعْطيك، كما ذَكَرْنا في {لاَ أُقْسِمُ} أن المعنى: لأَنا أُقْسِمُ. وذلك أنها لا تَخْلو: مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء. فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ، ولامُ الابتداء لا تخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [مبتدأ] وخبره، وأصله: ولأنت سوف يعطيك" ونقل الزمخشري عنه أنه قال: "وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال" انتهى وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم.
قوله: "لا تَدْخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد" هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ، أحداهما: أَنْ لا يُفْصَلَ بينما وبين الفعل حرفُ تنفيس كهذه الآية، كقولك: واللَّهِ لَسَأُعْطيك. والثانية: أن لا يُفْصَلَ بينهما بعمولِ الفعل كقولِه تعالى: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ: "ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك: "إنَّ زيداً لَقائمٌ، بل هي التي في قولك: "لأَقومَنَّ" ونابَتْ "سوفَ" عن إحدى نونَيْ التوكيدِ، فكأنه قال: ولَيُعْطِيَنَّك.
وقوله: "خُلأِع منها دلالتُها على الحال" يعني أنَّ لامَ الابتداء الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال، وها لا يُمْكِنُ ذلك لأجل حَرْفِ التنفيس، فلذلكز خُلِعَتْ الحاليةُ منها.
(14/361)
---(1/5852)
وقال الشيخ: "واللامُ في "ولَلآخرةُ" لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ" ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال: "ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في "وللآخرةُ خيرٌ" وفي "ولَسَوْفَ يُعْطيك" واللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ، عَطَفَها على جوابِ القسم، وهو قوله: {مَا وَدَّعَكَ} فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة" انتهى. فاظاهرُه أنَّ اللامُ في "ولَلآخرةُ" لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها لاقسمُ، بدليلِ قول ثانياً: "ويجوز عندي" ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملة عن جواب القمس البتةَ، وكذلك في {ولَسَوْفَ} وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم، وإنما مَنَع أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً.
* { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى }
قوله: {فَآوَى}: العامَّة على "آوى" بألفٍ بعد الهمزة رباعياً، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ. وأبو الأشهب "فأوَى" ثلاثياً. قال الزمخشري: "وهو على معنيين: إمَّا مِنْ "أواه" بمعنى آواه. سُمع بعضُ الرعاة يقول: "أين أوى هذه"، وإمَّا مِنْ أَوَى له إذا رحمه" انتهى. وعلى الثاني قولُه:
4594- أراني - ولا كفرانَ الله - أيَّةُ * لنفسي لقد طالَبْتْ غير مُنيلِ
أي: رحمةً لنفسي. ووجهُ الدلالةِ مِنْ قوله: "يقول: أين آوى هذه"؟ أنه لو كان من الرباعي لقال: "أُؤْوي" بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانية؛ لأنه مضارعُ "آوى" مثل أَكْرَمَ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعة، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في "أُوْمِنُ أنا" لئلا تثقلَ بالإدغام، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ "تُؤْويه" من قوله "وفَصِيلته التي تُؤْويه" لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ.
* { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى }
قوله: {عَآئِلاً}: أي: فقيراً. وهذه قراءةُ العامَّةِ. يقال: عال زيدٌ أي: افتقر. قال جرير:(1/5853)
(14/362)
---
4595- اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً * لابنِ السبيل وللفقير العائلِ
وأعال: كَثُرَ عيالُه قاله:
4596- ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه * وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
وقرأ اليماني {عَيِّلاً} بكسر الياء المشددة كسَيِّد.
* { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ }
قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ}: منصوبٌ بـ تَقْهَرْ. وبه استدل الشيخ ابن مالك - رحمه الله - على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل. ألا ترى أن "اليتيمَ" منصوبٌ بالمجزوم، وقد تقدَّم على الجازمِ، ولو قَدَّمْتَ "تَقْهَرْ" على "لا" لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمه، كالمجوروِ لا يتقدَّمُ على جارِّه، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} وقراءةُ العامَّةِ "تَقْهَرْ" بالقاف من الغلبة. وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف. الوجه. ومنه الحديث "فبأبي وأمي هو ما كَهَرني" قاله الزمخشري وقال الشيخ: "وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور" انتهى. والكَهْرُ في الأصل: ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ
* { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}: متعلقٌ بـ حَدِّثْ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم هذا.(1/5854)
سورة الشرح
* { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ}: الاستفهامُ إذا دخل على النفي قَرَّره، فصار المعنى: قد شَرَحْنا، ولذلك عَطَفْ عليه الماضي. ومثلُه {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} والعامَّةُ على جزمٍ الحاء بـ "لم" وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقال الزمخشري: "وقالوا: لعلَّة بَيَّنَ الحاءَ وأشبعها في مَخْرَجِها، فظنَّ السامعُ أنه فتحها" وقال ابن عطية: "إنَّ الأصلَ: ألم نَشْرَحَنْ" بالنونِ الخفيفةِ، ثم أَبْدَلَها ألفاً،ثم حَذَفَها تخفيفاً، كما أنشد ابو زيد:
(14/363)
---
4597- مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ من الموتِ أفِرّْ * أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ
بفتح راء "لم يُقْدَرَ" وكقوله:
4598- اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها * ضَرْبَكَ بالسيفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
بفتح باء "اضربَ" انتهى. وهذا مبنيٌ على جوازِ توكيد المجوزمِ بـ لم، وهو قليلٌ جداً، كقوله:
4599- يَحْسبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما * شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّما
فتتركبُ هذه القراءةُ مِنْ ثلاثةِ أصولٍ كلُّها ضعيفةٌ؛ لأنَّ توكيدَ المجزومِ بـ "لم" ضعيفٌ، وإبدالُها أَلِفاً إنما هو الوقف، وإجارُْ الوصل مُجْرى الوقفِ خِلافُ الأصلِ، وحَذْفُ الألفِ ضعيفٌ، لأنه خلافُ الأصلِ. وخَرَّجه الشيخُ على لغةٍ حكاها اللحيانيُّ في "نوادره" عن بعضِ العربِ وهو الجزمُ بـ "لن" ، والنصبُ بـ "لم" عكسَ المعروفِ عند الناس، وجعله أَحْسَنَ ممَّا تقدَّم. وأنشد قولَ عائشةَ بنتٍ الأعجم تمدح المختار وهو القائمُ بطَلَبِ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما:
4600- قد كادَ سَمْكُ الهُدى يُنْهَدُّ قائمُهُ * حتى أتيحَ له المختارُ فانْعَمدا
في كلِّ ما هَمَّ أمضى رأيَه قُدُماً * ولم يُشاوِرَ في إقدامِه أحدا
بنَصْبِ راء "يُشاور" وجَعَله محتملاً للتخريجَيْنِ.
* { الَّذِيا أَنقَضَ ظَهْرَكَ }
قوله: {أَنقَضَ ظَهْرَكَ}: أي: حَمَلأه على النقيضِ وهو صوتُ الانتفاضِ والانفكاكِ لثِقَلشه، ومَثَلٌ لِما كان يُثْقِلُه صَلَّى الله عليه وسلَّم. قال أهل اللغة: أَنْقَضَ الحِمْلُ ظَهْرَ الناقةِ إذا سَمِعْتَ له صَريراً مِنْ شِدَّة الحِمْل وسمِعْتُ نقيضَ الرَّحْلِ، أي: صريرَه، قال العباس بن مرداس:
4601- وأَنْقَضَ ظهري ما تَطَوَّيْتَ منهمُ * وكنتُ عليهم مُشْفِقاً مُتَحَنِّناً
وقال جميل:
4602- وحتى تداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالُه * .......................
* { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }
(14/364)
---(1/5855)
قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}: العامَّة على سكونِ السين في الكلم الأربع، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها. وفيه خلافٌ. هل هو أصلٌ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في "العُسر" الأولِ لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس: "لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن" ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول: "لن يَغْلَبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" والسببُ فيه: أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللام ِكان هو الأولَ نحو: "جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ" وكقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول. فقوله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعْدْه بـ أل.
(14/365)
---(1/5856)
وقال الزمخشري:"فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم. قلت: هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاء، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أَوْفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكون الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى، كما كرَّر قولَه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} لتقريرِ معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك: "جاء زيدٌ زيدٌ" وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسر، فهما يُسْران على تقدير الاستئناف، وإنم كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ "زيد" في قولك: "إنَّ زيد مالاً، إنَّ مع زيد مالاً" وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال".
(14/366)
---(1/5857)
وقال أبو البقاء: "العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ، وأمَّا "يُسْراً" في الموضعَيْنِ فاثنانِ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيءَ بضميرها أو بالألف واللام، ومن هنا قيل: "لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن" وقال الزمخشري أيضاً: "فإنْ قلتَ: إنَّ "مع" للصحبة، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت: أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبهم بيُسرٍ بعد العُسْر الذي كانوا فيه بزمانٍ قريب، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْر، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب" وقال أيضاً: فإنْ قلتَ ما معنى هذا التكير؟ قلت: التفخيمُ كأنه قيل: إنَّ مع العُسر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصْحفِ بان مسعودٍ مرةٌ واحدٌ. فإنْ قلت: فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال: "والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسرُ حتى يَدْخُلَ عله، لن يَغْلَب عُسْرٌ يُسْرَيْن" قلت: "كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله "يُسْراً" مِنْ معنى التفخيم، فتأوَّله بـ "يُسْرِ الدارَيْن" وذلك يُسْران في الحقيقة".
* { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ }
قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ}: العامَّةُ على فتح الراءِ مِنْ "فَرَعْتَ" وهي الشهيرةُ، وقرأها أبو السَّمَال مكسورةً، وهي لُغَيَّةُ قال الزمخشري: "ليسَتْ بالفصيحة" وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ فيكف تعلَّق قولُه "فإذا فَرَغْتَ فانصَبْ" بما قبلَه؟ قلتُ: لَمَّا عَدَّد نِعَمَه السَالفةَ ووعْدَه الآنفةَ بعثَة على الشكرِ والاجتهادِ في العبادة. عن ابن عباسٍ: فإذا فَرَغْتَ مِنء صلاتِك فانصَبْ في الدعاء".
(14/367)
---(1/5858)
والعامَّة على فتح الصادِ وسكونِ الباء أمراً من النَّصَبْ وقُرئ بتشديد الباءِ متفوحةً أَمْراً من الأنْصباب، وكذا قُرِئ بكسرا الصاد ساكنةً الباء أمراً من النَّصْب بسكون الصاد، ولا أظن الأولى إلاَّ تصحيفاً ولا الثانيةَ إلاَّ تحريفاً فإنها تُرْوى عن الإمامية. وتفسيرُها: فإذا فَرَغْتَ مِنْ النبوَّةِ فانْصِبِ الخليفة. قال بان عطية: "وهي قراءةُ ضعيفةٌ شاذةٌ لم تَثْبُتْ عن عالم" قال الزمخشري: "ومن البدع ما رُوي عن بعض الرافضةِ أنه قرأ "فانصِبْ" أي: انْصِبْ عليَّاً للإمامة، ولو صَحَّ هذا للرافِضِيِّ لصَحَّ للناصِبيِّ أن يَقْرأ هكذا، ويجعَلَه بالنَّصب الذي هو بُغْضُ عليّ رضي الله عنه وعداوتُه".
* { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
قوله: {فَارْغَبْ}: مِنْ الرَّغْبة وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة "فَرَغَّب" بتشديد العين. أمراً مِنْ رَغَّبَة بالتشديد، اي: فرَغَّبْ الناسَ إلى طلبِ ماعنده.
سورة التين
* { وَطُورِ سِينِينَ }
قوله: {وَطُورِ سِينِينَ}: الطُّور جَبَلٌ. وسنين: اسم مكانٍ فأُضيف الجبل للمكان الذي هو به. قال الزمخشري: "ونحو سِينون يبْرُوْن في جواز الإعرابِ بالواو والياء والإقرار على الياءِ وتحريكِ النونِ بحركات الإعراب" وقال أبو البقاء: "هو لغةٌ في سَيْناء" انتهى. وقرأ العامَّةُ بكسرِ السين. وابنُ أبي اسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاءٍ بفتحها، وهي لغةُ بكرٍ وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله والحسن وطلحة "سِيْناءَ" بالسكر، والمد، وعمرُ أيضاً وزيدُ بن علي بتفحِها والمدِّ، وقد ذُكِر في المؤمنين، وهذه لغاتٌ اختلفَتْ في هذا الاسمِ السُّرْيانيِّ على عادةِ العرب في تلاعُبها بالأسماء الأعجمية. وقال الأخفش: "سينين شجرٌ، الواحدةُ سِيْنية" وهو غريبٌ جداً غيرُ معروفٍ عن أهل التفسير.
* { وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ }
(14/368)
---(1/5859)
قوله: {الأَمِينِ}: هذا فَعيل للمبالغةِ، أي: أمِنَ مَنْ فيه، ومَنْ دخله مِنْ إنسِيّ وطيرٍ وحيوانٍ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ أَمُنَ الرجلُ بضم الميم أمانةً فهو أمينٌ، وأمانتُه. حِفْظُه مَنْ دَخَلَه كما يَحْفظُ الأمينُ ما يُؤْتَمَنُ عليه. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مَفْعول، مِنْ أَمِنَة لأنه مأمونُ الغَوائل.
* { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا}: هذا هو المُقْسَمُ عليه.
قوله: {فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيم} صفةٌ لمحذوفٍ، أي: في تقويم أحسنِ تقويم. وقال أبو البقاء: في أحسنِ تقويم في مضوع الحالِ من "الإنسان" وأراد بالتقويم القَوام لأنَّ التقويمَ فِعْلٌ وذاك وَصْفٌ للخالقِ لا للمخلوقِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: في أحسنِ قَوامِ التقويم، فحُذِف المضافُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ "في" زائدةً" اي: "قَوَّمْناه أحسنَ تقويم" انتهى، ولا حاجةَ إلى هذه التكلُّفاتِ
* { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ }
قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أنه حالٌ من المفعول. والثاني: أنه صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ، أي: مكاناً أسفلَ سافِلين وقرأ عبد الله "السَّافلين" معرَّفاً.
* { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}: فيه وجهان أحدهما: أنه متصلٌ على أنَّ المعنى: رَدَدْناه أسفلَ مِنْ سِفْلٍ خلْقاً وتركيباً يعني: أقبحَ مِنْ خَلْقِه وأَشْوَهَه صورةً، وهم أهلُ النار فالاتصالُ على هذا واضحٌ، والثاني: أنه منقطعٌ على أنَّ المعنى: رَدَدْناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفَل مِنْ سِفْل في أحسنِ الصورةِ والشكلِ حيث نَكَّسْناه في خلْقِه فقوَّسَ ظهرُه وضَعُفَ بصرُه وسَمْعُه. والمعنى: ولكن الذين كانوا صالحين مِنْ الهَرْمى فلهم ثوابٌ دائمٌ، قاله الزمخشري ملخصاً.
(14/369)
---(1/5860)
* { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ }
قوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ}: "ما" استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالاتبداء.والخبرُ الفعلُ بعدها، والمخاطَبُ الإنسانُ على طريقة الالتفاتِ وقيل: المخاطبُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم،فعلى الأولِ يكون المعنى: فما يعلك كاذباً بسبب الدِّين وإنكارِه بعد هذا الدليل، يعني أنك تُكَذِّب إذا كَذَّبْتَ بالجزاءِ؛ لأنَّ كلَّ مكذِّب بالحق فهو كاذبٌ فأيُّ شيءٍ يَضْطَرُّكَ إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ والباءُ مِثْلُها في قوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وعلى الثاني يكون المعنى: فماذا الذي يُكَذِّبُكَ فيما تُخْبِرُ به مِنْ الجزاء والبعث وهو الدِّين بعد هذه العِبَرِ التي يُوْجِبُ النظرُ فيها صحةَ ما قلت؟ قاله الفراء والأخفش.(1/5861)
سورة العلق
* { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }
قوله: {اقْرَأْ}: العامَّةُ على سكونِ الهمزةِ أمراً مِنْ القراءةِ. وقرأ عاصم في رواية الأعشى براءٍ مفتوحةٍ، وكأنه قَلَبَ الهمزةَ ألفاً كقولهم: قرا يَقْرا نحو: سعَى يَسْعى، فلمَّا أَمَر منه حَذَفَ الألفَ على حَدِّ حَذْفِها مِنْ اسْعَ، وهذا كقولهِ زهير:
4603- ................. * وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّمَ تحريرُه.
قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ}: يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ تكونَ الباءُ للحال، أي: اقرأ مُفْتِتحاً باسمِ ربِّك، قل باسم الله، ثم اقرَأْ، قاله الزمخشري.الثاني: انَّ الباءَ مزيدةٌ والتقدير: اقرأ اسمَ ربِّك، كقوله:
4604- .................. *سُوْدُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
(14/370)
وقيل: الاسمُ صلةٌ، أي: اذكُرْ ربَّكن قالهما ابو عبيدة، الثالث: أنَّ الباءَ للاستعانة والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: اقرَأْ ما يُوْحى إليك مُسْتعيناً باسمِ ربِّك. الرابع: أنها بمعنى "على"، أي: اقرأْ على اسمِ ربِّك كما في قوله: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} قاله الأخفش، وقد تَقَدَّم أولَ هذا الموضوع: كيف قَدَّمَ هذا الفعلَ على الجارِّ وقُدِّرَ متأخراً في بسم الله الرحمن الرحيم وتخريجُ الناسِ له، فأغنى عن إعادَتِه.
قوله: {الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ} يجوزُ أَنْ يكونَ "خَلَقَ" الثاني تفسيراً لـ "خَلَقَ" الأول عين انه أَبْهمه أولاً، ثم فَسَّره ثانياً بخَلْق الإنسانِ تفخيماً لخلقِ الإنسانِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ المفعولَ مِنْ الأولِ، تقديرُه: خَلَقَ كلَّ شيءٍ لأنَّه مُطْلَقٌ يتناوَلُ كلَّ مخلوق.
* { خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }
وقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ}: تخصيصٌ له بالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ ما يتناوَلُه الخَلْقُ؛ لأنَّ التنزيلَ إليه. ويجوزُ اَنْ يكونَ تأكيداً لفظياً، فيكونُ قد أكَّد الصلةَ وحدَها، كقولك: "الذي قام قام زيدٌ" المرادُ بالإنسان الجنسُ ولذلك قال: {مِنْ عَلَقٍ} جمعَ عَلَقة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مخلوقٌ مِنْ عَلَقَةٍ كما في الآية الآخرى.
* { الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
* {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }
وقوله: {الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}: قريبٌ مِنْ قولِه: "خَلَق، خلَق الإنسانَ" فلكَ أَنْ تُعيد فيه ما تقدَّم.
* { أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }
(14/371)
---(1/5862)
قوله: {أَن رَّآهُ}: "أنْ" مفعولٌ له، أي: لرؤيتِه نفسَه مُسْتَغْنياً. وتعدَّى الفعل هنا إلى ضميرَيْه المتصلَيْن؛ لأنَّ هذا مِنْ خواصِّ هذا البابِ. قال الزمخشري: "ومعنى الرؤسةِ العِلْمُ لو كانَتْ بمعنى الإبصار لامتنعَ في فِعْلِها الجمعُ بين الضميرَيْن، و"استغنى" هو المفعول الثاني". قلت: والمسألةُ فيها خلافٌ: ذهب جماعةٌ إلى أنَّ "رأى" البَصَرية تُعْطي حُكْمَ العِلْمَّية، وجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ عائشة - رضي اللَّهُ عنها - "لقد رَأَيْتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلاَّ الأسْوَدان" وأنشد:
4605- ولقد أَراني للرِّماح دَرِيْئَةً * مِنْ عَنْ يمين تارىةً وأمامي
وتقدَّم تحقيقُه. وقرأ قنبل بخلافٍ عنه "رَأَه" دونَ ألفٍ بعد الهمزة وهو مقصورٌ مِنْ "رآه" في قراءة العامَّةِ، ولا شكَ أنَّ الحَذْفَ في مثلِه جاء قليلاً كقولهم: "اصابَ الناسَ جَهْدٌ، ولو تَرَ أهلَ مكةَ" بحَذْفِ لامِ "ترى" وقول الآخر:
4606- وَصَّانِيَ العَجَّجُ فيما وَصَّني
يريد: وصَّاني ولَمَّا روَى ابن مجاهد هذه القراءةَ عن قنبل وقال: "قرأتُ بها عليه" نَسبه فيها إلى الغلظ. ولا يَنْبغي ذلك لأنه إذا ثبتَتْ قراءةُ ولها وجهٌ وإنْ كان غيرُه أشهرَ منه فلا يَنْبغي أَنْ يُقْدِمَ على تَغْليِطه.
* { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى }
قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي}: قد تقدَّم لك الكلامُ على هذا الحرفِ مُسْتوفي، وللزمخشريِّ هنا كلامٌ رَأَيْتُ ذِكْرَه لخصوصيَّةٍ تَتَعلَّقُ به قال: "فإن قلتَ: ما متعلَّقُ "أَرَأَيْت"؟ قلت: "الذي يَنْهى" مع الجملةِ الشرطية وهما في مضوع المفعولَيْنِ. فإن قلت: فأين جوابُ الشرط؟ قلت: هو محذوفٌ تقديرُه: إنْ كان على الهُدى أو أمر بالتقوى
(14/372)
---(1/5863)
ألم يعلَمْ بأنَّ اللَّهَ يرى، وإنما حُذِفَ لدلالة ذِكْرِه في جوابِ الشرطِ الثاني. فإنْ قلتَ: كيف صََحَّ أَنْ يكونَ "ألم" يعلمْ" جواباً للشرِط؟ قلت: كما صَحَّ في قولك: إنْ أَكْرَمْتُك أتكرِمُني، وإن أَحْسَنَ إليك زيدٌ هل تُحْسِنُ إليه؟ فإنْ قلتَ: فما أَرَأَيْتَ الثانيةُ وتوسُّطُها بين معفولَيْ "أَرَأَيْتَ"؟ قلت: هي زائدةٌ مكررةٌ للتوكيد" قلت: وإذ قد تَعَرَّض للكلامِ في هذه الآية فَلْنَجْر معه:
أعلَمْ أَنَّ "ارَأَيْت" - كما عَلِمْتَ - لا يكونُ مفعولُها الثاني إلاَّ جملةً استفهامية كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} إلى آخرِها. ومثلُه كثيرٌ وهنا "أرَأَيْتَ" ثلاثَ مراتٍ وقد صَرَّحَ بعد الثالثةِ منها بجملةٍ استفهاميةٍ فتكونُ في موضعِ المفعولِ الثاني لها ومعفولُها الأولُ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ على "الذي يَنْهَى" الواقعِ مفعولاً أولَ لـ "أَرَأَيْتَ" الأولى ومفعولُ "أَرَأيْتَ" الأولى الذي هو الثاني محذوفٌ وهو جملةٌ استفهاميةٌ كالجملةِ الواقعةِ بعد "أَرَأَيْتَ" الثالثة وأمَّا "أرأَيْتَ" الثالثةِ عليه فقد حُذِف الثاني مِنْ الأولى والأولُ من الثالثةِ والانثان مِنْ الثانيةِ. وليس طَلَبُ كلٍ مِنْ "أَرَأَيْتَ" للجملةِ الاسمية على سبيلِ التنازع لأنه يَسْتدعي إضماراً والجملُ لا تُضْمَرُ إنما تُضْمَرُ المفردات وإنما ذلك مِنْ بابِ الحَذْفِ للدلالةِ. وأمَّا الكلامُ على الشرطِ مع "أَرَأَيْتَ" هذه فقد عَرَفْتَه ممَّا في الأنعام في نُطيل الكلامَ بإعادتِه. وتجويزُ الزمشخريِّ وقوعَ جوابِ الشرط استفهاماً بنفسِه لا يجوزُ بل نَصُّوا على وجوبِ ذِكْرِ الفاءِ في مثله وإن وَرَدَ شيءٌ فهو ضرورةٌ.
* { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ }
(14/373)
---(1/5864)
قوله: {لَنَسْفَعاً}: الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ، تشبيهاً لها بالتنوين، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً. وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف. ورُوِي عن أبي عمروٍ "لَنَسْفَعَنَّ" بالنونِ الثقيلةِ. والسَّفْعُ: الأَخْذُ والقَبْضُ على لاشي بشدةٍ وجَذْبه. وقال عمرو بن معد يكرب:
4607- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ * ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافع
وقيل: هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ. وقال الراغب: "السَّفْعُ: الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس، أي: بسَوادِ ناصيته، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ: "سُفْعٌ" وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ، اعتباراً بما يَعْلُوا من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ، وقيل: للصَّقْر: "أسْفَعُ لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ" انتهى. وفي الحديث: "فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن
".
* { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ }
قوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ}: بدلٌ من الناصية بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ. قال الزمخشري: "وجاز بَدَلُها عن المعرفةِ وهي نكرةٌ لأنَّها وُصِفَتْ فاسْتَقَلَّتْ بفائدةٍ" قلت: هذا مذهبُ الكوفيون لا يُجيزون إبدال نكرةٍ مِنْ غيرها إلاَّ بشرط وَصْفِها أو كونِها بلفظِ الأولِ، ومذهبُ البصريين لا يَشْتَرِطُ شيئاً، وأنشدوا:
4608- فلا وأبيك خيرٍ منك إنِّي *لَيُوْذِيْنيْ التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
وقرأ أبو حيوة وبانُ أبي عبلةَ وزيدُ بن علي ننصبِ {ناصيةً كاذبةً خاطئةً} على الشتم. وقرأ الكسائي في روايةٍ بالرفع على إضمارِ: هي ناصية: نَسَبَ الكَذِبَ والخَطَأَ إلهيا مجازاً. والألفُ واللامُ في الناصية قيل: عِوَضٌ من الإضافةِ، أي: بناصيتهِ. وقيل: الضميرُ محذوفٌ، أي: الناصية منه.
* { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ }
(14/374)
---(1/5865)
قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}: إمَّا أَنْ يكون حَذْفِ مضاف، أي: أهلَ نادِية أو على التجوُّز في نداءِ النادي لاشتمالِه على الناس كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} والنادي والنَّدِيُّ: المَجْلِسُ المُتَّخَذُ للحديث. قال زهير:
4609- وفيهم مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهُمْ * وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
وقالت أعرابية: "هو سَيِّدُ ناديه وثمالُ عافية".
* { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ }
قوله: {الزَّبَانِيَةَ}: قال الزمخشري: "الزَّبانية في كلامِ العرب: الشُّرَطُ، الواحد زِبْنِيًَة كعِفْرية، مِنْ الزَّبْن وهو الدفعُ. وقيل: زِبْنيّ وكأنه نُسِبَ إلى الزَّبْن، ثم غُيِّر للنَّسَبِ، كقولهم: إمْسيّ وأصلُه زَباني فقيل: زانِيَة على التعويض" وقال عيسى بن عمر والأخفش: "واحدُهم زابِن: وقيل: لا واحدَ له مِنْ لفظِه كعَباديد وشماطيط" والحاصلُ أنَّ المادةَ تَدُلُّ على الدَّفْعِ قال:
4610- مطاعيمُ في القُصْوى مطاعينُ في الوغَى * زبانيَةٌ غُلْبٌ عِظامٌ حُلُومُها
وقال آخر:
4611- ومُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يرى مِنْ أناتِنا * ولو زَبْنَتْه الحرْبُ لم يَتَرَمْرَمِ
وقال عتبة: "وقد زبَنَتْنا الحربُ وزبَنَّاها" ومنه الزُّبون لأنَّه يُدْلإع مِنْ بائعٍ إلى آخر. وقرأ العامَّة "سَنَدْعُ" بنونِ العظمة ولم تُرْسَمْ بالواو، وقد تقدَّم نظيرُه نحو: "يَدْعُ الداعِ" وقرأ ابنُ أبي عبلة "سَيُدْعى الزبانيةُ" مبنياً للمعفولِ ورَفْعُ الزَّبانية لقيامِها مقامَ الفاعل.(1/5866)
سورة القدر
* { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
(14/375)
---
قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}: أي: القرآن، أُضْمِرَ للِعْلمِ به. و"في ليلةِ القَدْر" يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً للإنزالِ. وفي التفسير: أنه أَنْزَلَه إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم نَزَلَ مُنَجَّماً إلى الأرض في عشرينَ سنة. وقيل: المعنى: أَنْزَلَ في شأنها وفَضْلِها. فليسَتْ ظرفاً، وإنما هو كقولِ عُمَرَ: "خَشِيْتُ أَنْ يَنْزِلَ فيَّ قرأنٌ" وقولِ عائشة: "لأَنا أَحْقُر في نفسي أَنْ يَنْزِل فيَّ قرآنٌ" وسُمِّيَتْ ليلةً القَدْرِ: إمَّا لتقديرِ الأمور فيها، وإمَّا لضِيقِها بالملائكةِ.
* { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ }
قوله: {وَالرُّوحُ فِيهَا}: يجوزُ أَنْ يرتفعَ "الرُّوحُ" بالابتداءِ، والجارُّ بعدَه الخبرُ، وأن يرتفعَ بالفاعليةِ عطفاً على الملائكة، و"فيها" متعلِّقٌ بـ "تَنَزَّلُ"
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِم}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ "تَنَزَلُ" وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من المرفوع بـ"تَنَزَّلُ" أي ملتبسا بإذن ربِّهم.
قوله: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} يجوزُ في "مِنْ" وجهان، أحدهما: أنها بمعنى اللام. ويتعلَّقُ بـ "تَنَزَّلُ"، أي: تَنَزَّلُ مِنْ أجل كلِّ أمرٍ قُضي إلى العامِ القابل: والثاني: أنَّها بمعنى الباء، أي: تنزَّلُ بكلِّ أمرٍ، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم. وقرأ العامَّةُ "أَمْرٍ" واحدُ الأمور. وابن عباس وعكرمة والكلبي "امْرِئٍ" مُذكَّرُ امرأة، أي: مِنْ أجل كلِّ إنسانِ. وقيل: مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ، وهو بعيدٌ. وقيل: "مِنْ كلِّ أَمْر" ليس متعلقاً بـ "تَنَزَّلُ" إنما هو متعلِّقٌ بما بعده، أي: هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ مَخُوفٍ، وهذا لا يتمُّ على ظاهرِه لأنَّ "سَلامٌ" مصدرٌ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وإنما المرادُ أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه هذا المصدرُ.
* { سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }
(14/376)
---(1/5867)
قوله تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ "هي" ضمير الملائكة، و"سلام" بمعنى التسليم، أي: الملائكة ذاتُ تَسْليمٍ على المؤمنين. وفي التفسير: أنهم يُسَلِّمون تلك الليلةَ على كلِّ مؤمنِ ومؤمنة بالتحية. والثاني: أنها ضميرُ ليلةِ القَدْرِ، وسلامٌ بمعنى سَلامة، أي: ليلةُ القَدْرِ ذاتُ سلامةٍ مَنْ شيءٍ مَخْوفٍ. ويجوزُ على كل من التقديرَيْن أَنْ يرتفعَ "سلامٌ" على أنه خبرٌ مقدمٌ، و"هي" مبتدأٌ مؤخرٌ، وهذا هو المهشورُ، وأنْ يرتفع بالابتداء و"هي" فاعلٌ به عند الأخفشِ، لأنه لا يَشْتَرِطُ الاعتمادَ ي عَمَلِ الوصفِ. وقد تقدَّم أَنْ بعضَهم يجعلُ الكلامُ تامَّاً على قوله {بِإِذْنِ رَبِّهِم} ويُعَلِّقُ "مِنْ كلِّ أمرٍ" بما بعدَه، وتقدَّم تأويلُه.
وقال أبو الفضل: "وقيل: معناه: هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ أو امرئٍ، أي: سالمةٌ أو مُسَلَّمةٌ منه. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ "سلامٌ" - هذه اللفظةُ الظاهرةُ التي هي المصدر - عاملاً فيما قبله لامتناع تقدُّم معمولِ المصدر على المصدرِ، كما أنَّ الصلةَ كذلك، لا يجوزُ تقديمُها على الموصول" انتهى. وقد تقدَّم أنَّ معنى ذلك عند هذا القائلِ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ مَدْلولٍ عليه بـ "سَلام" فهو تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعرابٍ. وما يُرْوَى عن ابن عباس أنَّ الكلامَ تَمَّ على قوله تعالى {سلامٌ} ويُبْتدأ بـ"هي" على أنَّها خبرُ مبتدأ، والإشارةُ بـ "ذلك" كَلِم هذه السورةِ، وكأنَّه قيل: ليلةُ القدر الموافقةُ في العدد لفظةَ "هي" مِنْ كِلَمِ هذه السورةِ، وكأنَّه قيل: ليلةُ القدر الموافقةُ في العددِ لفظةَ "هي" مِنْ كَلِمَ هذه السورةِ، فلا ينبغي أن يُعْتَقَدَ صحتُه لأنه إلغازٌ وتبتيرٌ لنَظْم فصيحِ الكلامِ.
(14/377)
قوله: {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ} متعلِّقٌ بـ "تَنَزَّلُ" أو بـ"سَلامٌ" وفيه إشكالٌ للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ، إلاَّ يُتَوَسَّع في الجارِّ. وفي التفسير: أنهم لا يَزالون يُحَيُّون الناس المؤمنين حتى يَطْلُعَ الفجرُ. وقرأ الكسائي "مَطْلِعَ" بكسر اللام، والباقون بفتحها، والفتح هو القِياسُ والكسرُ سماعٌ، وله أخوات يُحْفَظُ فيها الكسرُ ممَّا ضُمَّ مضارعُه أو فُتح نحو: المَشْرِق والمَجْزِر. وهل هما مصدران أو المفتوحُ مصدرٌ والمكسور مكانٌ؟ خِلافٌ. وعلى كلِّ تقديرٍ فالقياسُ في المَفْعِل مطلقاً مِمَّا ضُمَّتْ عينُ مضارعِه أو فُتِحَتْ فَتْحُ العينِ، وإنما يقعُ الفرقُ في المكسور العين الصحيح نحو: يَضْرِب.(1/5868)
سورة البينة
* { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }
قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل "كفروا".
قوله: {وَالْمُشْرِكِينَ}: العامَّةُ على قراءةِ" المشركين" بالياء عطفاً على "أهل" قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن: أهلِ كتابٍ ومشركين. وقرئ "المشركون" بالواو نَسَقاً على "الذين كفروا".
قوله: {مُنفَكِّينَ} خبرُ يكون. ومُنْفَكِّين اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ. وهي هنا التامَّةُ، فلذلك لم يَحْتَجْ إل خبرٍ. وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره: منفكِّين عارفين أَمْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: "وحَذْفُ خبرِ كان [وأخواتِها] لا يجوزُ اقتصاراً ولا اختصاراً، وجعلوا قولَه:
4612- .................. *يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ
(14/378)
---(1/5869)
أي: في الدنيا ضرورةً" قلت: وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال: صار الخبرُ مطلوباً من جهتَيْن: مِنْ جهة كونِه مُخْتَبراً به فهو أحدُ جُزْأي الإسناد، ومِنْ حيث كونُه منصوباً بالفعلِ. وهذا مُنْتَقَضٌ بمعفولَيْ "ظَنَّ" فإنَّ كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران، ومع ذلك يُحْذفان - أو أحدُهما - اختصاراً، وأمَّا ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مرَّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ.
قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ}: متعلقةٌ بـ "لم يكنْ" أو بـ "مُنْفَكِّين".
* { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً }
قوله: {رَسُولٌ}: العامَّةُ على رفعِه بدلاً من "البيِّنة": إمَّا بدلَ اشتمالٍ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل سبيل المبالغة، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: بَيِّنَةُ رسولٍ. ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ، أي: هي رسولٌ عبد الله وأُبَيّ "رسولاً" على الحالِ من البيِّنة. والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ.
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} يجوزُ تعلُّقُه بنفس "رسولٌ" أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "رسول" وجَوَّز أبو البقاء وجهاً ثالثاً وهو: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ "صُحُفاً" والتقدير: يتلُو صُحُفاً مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله، يعن كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ علهيا نُصِبَتْ حالاً.
قوله: {يَتْلُو}: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لـ"رسول"، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً لـ "رسول".
* { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ }
قوله: {فِيهَا كُتُبٌ}: يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً لـ "صُحُفاً"، أو حالاً مِنْ ضمير "مُطَهَّرَة" وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرور فقط، و"كُتُبٌ" فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.
(14/379)
---(1/5870)
* { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ }
قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ، وانتصب به "الدّينَ" والحسن بفتحِها على معنى: أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب "الدينَ" على أحدِ وجهَيْن: إمَّا إسقاطِ الخافضِ، أي: في الديني، وإمَّا على المصدر من معنى: ليَعْبدوا، كأنه قيل: ليَدينوا الدينَ، أو ليعبدوا العبادةَ، فالتجوُّز: إمَّا من الفعلِ، وإمَّا في المصدر، وانتصابُ "مُخْلِصين" على الحال مِنْ فاعل "يعبدون".
قوله: {حُنَفَآءَ} حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها، أي: من الضمير المستكنِّ فيها. وقوله: {وَمَآ أُمِرُوااْ}، أي: وما أُمِروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله "وما أُمِروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا" أي: بأَنْ يَعْبدوا. وتحريرُ مثلِها في قوله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في الأنعام.
وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} أي: الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ، أي: المستقيمة. وقيل: الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ، قال تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وهو حسنٌ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله: "وذلك الدِّين القيمةِ"، والتأنيثُ حينئذٍ: إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله:
4613- .................. * سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ
بتأويل الصيحة، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ }
(14/380)
---(1/5871)
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}: كما مَرَّ في أول السورة. وقولُه: "في نارِ" هذا هو الخبرُ، و"خالدين" حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ }
قوله:{الْبَرِيَّةِ}: قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان "البَريئة" الهمزِ في الحرفَيْن، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، في الحَرفْين، والباقون بياءٍ مشدَّةِ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصلُ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ، وإنما خُفِّفَتْ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ. وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها: النبيُّ والخابيةَ والذُّرِّيَة والبَرِيَّة. وقيل: بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا، وهو الترابُ، فيه أصلٌ بنفسِها، فالقراتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال: "وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاق غيرُ مَرْضِيّ" انتهى. يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا - وهو الترابُ - مُسْتقلَّان، لكلِ منهما أصل مستقلٌ، فقيل: مِنْ بَرَأَ، أي: خَلَق، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ، وهو جميعُ الخَلْقِ. ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزة من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواترِاً.
وقرأ العامَّةُ "خيرُ البَرِيَّة" مقابلاً لشَرّ. وعامر بن عبد الواحد "خِيارُ" وهو جمع خَيِّر نحو: جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب، قاله الزمخشري.
* { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
(14/381)
---(1/5872)
قوله: {خَالِدِينَ}: حالٌ عاملُه محذوفٌ، أي: دَخَلوها أو أُعْطُوها. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ "هم" في "جزاؤهم" لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبيي. على أنَّ بعضَهم أجازه منهم، واعتذروا: بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري. قال أبو البقاء: "وهو بعيد" وأمَّا "عند" فيجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ "جزاؤهم"، وأَنْ يكونَ ظرفاً له. و"أبداً ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين.
قوله {رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ حالاً بإضمار "قد" عند مَنْ يلتزمُ ذلك.
قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}: أي: ذلك المذكورُ مِنْ استقرارِ الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به.(1/5873)
سورة الزلزلة
* { إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا }
قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ}: "إذا" شرطٌ، وجوابُها "تُحَدِّثُ" وهو الناصبُ لها عند الجُمهورِ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ العاملُ فيها "يَصْدُرُ" وغيرُهم يجعلُ العاملَ فيها ما بعدَها ويَليها، وإنْ كان معمولاً لها بالإضافة تقديراً، واختاره مكي، وجَعَلَ ذلك نظيرَ "مَنْ" و "ما" يعني أنَّهما يَعْملان فيما بعدَهما الجزمَ، وما بعدَهما يعملُ فيهما النصبَ، ولو مثَّل بأَيّ لكان أوضحَ. وقيل: العاملُ فيها مقدَّرٌ، أي: يُحْشَرون. وقيل: اذكُرْ، وحينئذٍ تَخْرُج عن الظرفية والشرط.
قوله: {زِلْزَالَهَا} مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. والمعنى: زِلْزالَها الذي تَسْتَحقه ويَقْتَضيه جِرْمُها وعِظَمُها. قال الزمخشري: "ونحُوه: أكرِمِ التقيَّ إكرامَه، وأَهِنِ الفاسِقَ وإهانتَه، أو زِلْزالَها كلَّه" والعامَّةُ بكسر الزايِ.
(14/382)
والجحدري وعيسى بتفحِها. فقيل: هما مصدران بمعنى. وقيل: المكسورُ مصدرٌ، والمفتوحُ اسمٌ. قال الزمخشري: "وليس في الأبنية فَعْلال بالفتح إلاَّ في المضاعَفِ" قلت: وقد جَعَلَ بعضُهم المفتوحَ بمعنى اسمِ الفاعل نحو: صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِل، وقد تقدَّم ذلك. وقوله: "ليس في الأبنية فَعْلال" يعني غالباً، وإلاَّ فقد وَرَدَ: "ناقةٌ خَزْعال".
* { وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا }
قوله: {مَا لَهَا}: ابتداءٌ وخبرٌ، وهذا يَرُدُّ قول مَنْ قال: إنَّ الحالَ في نحو {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} لازِمَةٌ لئلا يصيرَ الكلامُ غير مفيدٍ، فإنه لا حالَ هنا.
* { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا }
قوله: {يَوْمَئِذٍ}: أي: يومَ إذ زُلْزِلَتْ. والعاملُ في ي"يومئذ" "تُحَدِّثُ" إنْ جَعَلَتْ "إذا" منصوبةٌ بما بعدها أو بمحذوفٍ، وإن جَعَلْتَ العاملَ فيها "تُحَدِّثُ" كان "يومئذٍ" بدلاً منها، فالعاملُ فيه العاملُ فيها، أو شيءٌ آخرُ لأنه على نيةِ تكرار العاملِ. خلافٌ مشهورٌ.(1/5874)
سورة العاديات
* { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً }
قوله: {وَالْعَادِيَاتِ}: جمعُ "عادِيَة" وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ، من العَدْوِ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ. والياءُ عن واوِ لكَسْر ما قبلها نحو: الغازيات من الغَزْوِ. يُقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواً، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين.
قوله: {ضَبْحاً} فيه أوجهٌ. أحدُها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع. يقال: ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ، إذا عدا بشدةٍ، أَخْذاً مِنْ الضَّبْع، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. والمبردُ. قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ. وقال عنترةُ:
4617- والخيلُ تعلَمُ حين تَضْـ * بَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحاً
(14/383)
الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: ضابحاتٍ، أو ذوي ضَبْح. والضَّبْحُ: صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ اخليل عند العَدْوِ، لي بصَهيل وعن ابن عباس: انه حكاه فقال: أحْ أحْ. ونُقل عنه: أنه لم يَضْبَحْ من الحيان غيرُ الخيل والكَلْبِ والثعلبِ. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه، فإنه رُوي أنه قال: سُئِلْتُ عنها ففَسَّرتُها بالخيل. وكان عليُّ رضي الله عنه تحت سِقاية زمزم فسأله، وذَكَر له ما قلتُ. فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال:"تُفءتي الناسَ بغيرِ علمٍ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإسلام وهي بدرٌ، ولم يكنْ معنا إلاَّ فَرَسان: فرسٌ للمِقْدار، وفرسٌ للزُّبَيْر، والعادياتِ ضَبحْاً: الإبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ، ومن المزدلفةِ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى" إلاَّ أنَّ الزمشخريَّ قال بعد ذلك: "فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإبل، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ والحافِرُ للإنسان، والشَّفتان للمُهْر" ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإبل والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُوم والصَّدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ. وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس.
4618- حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ * تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ
وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ. ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في الثعلبِ فاسْتُعير للخيل، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ: أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه. والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلاً.
الثالث: من الأوجه: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَضْبَحُ ضَبْحاً. وهذا الفعلُ حالٌ من "العاديات".
(14/384)
---(1/5875)
الرابع: أنَّه منصوبٌ بالعاديات، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ. قال الزمخشري: "كأنَّه قيل: والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ". قال الشيخ: "وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى "والعاديات": والضَّابحات فلا ينبغي أن يُفْسَّرَ به". قلت: لم يَقُلْ الزمشخريُّ أنه بمعناه، وإنما جعله منصوباً به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به. وقوله: "كأنه قيل" تفسيرٌ للتلازُمِ، لا أنه هو هو.
* { فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً }
قوله: {قَدْحاً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ الإيراء من القَدْح يقال: قَدَحَ فَأَوْى وقَدَح فأَصْلَدَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فالمعنى: قادحات، أي: صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال: "قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ" أي: صَكَكْتُه به. وقال الزمخشري: "انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحاً". وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ بإضمارِ فعلٍ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه، لأنه مُلازِمُه، والنصبَ على الحال. وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب. قال:
4619- تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ * وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
* { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً }
قوله: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}: صُبحاً: ظرفٌ، أي: التي تُغير وقتَ الصبح يقال: أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال:
4620- فلَيْتَ لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا * شَنُّوا الإغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
و"غار" لُغَيَّةٌ، وأغار وغارَ أيضاً: نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهبَطُ من الأرض. واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل: الخيلُ، أي والخيلِ العادياتش، فالمُورياتِ، فالمُغيراتِ. ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قوله:
4621- يا لَهْفَ زيَّابةَ للحارث الـ * صابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
(14/385)
---(1/5876)
وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة. وقيل: التقديرُ: والإبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ، ومِنْ مزدلفةَ إلى منى، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين. ويَدُلُّ له قولُ صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب:
4622- أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعِ * بأَيْديها إذا سَطَح الغُبارُ
وقيل: "فالموريات" أي: الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب. تقول العرب: لأُوْرِيَنَّ لك، لأَمْكُرَنَّ بك.
* { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً }
قوله: {فَأَثَرْنَ}: عَطَفَ الفعلَ على الاسم؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً لـ أل. قال الزمخشري: معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه" يعني في الأصل، إذا الأصلُ: واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ.
قوله: {بِهِ}: في الهاء أوجهٌ. أحدُهما: أنها ضميرُ الصُّبح، أي: فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً. وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح. الثاني: أنه عائدٌ على المكانِ، وإن لم يَجْرِ له ذكْرٌ؛ لأنَّ الإثارةَ لا بُدَّ لها من مكان، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه. وفي عبارةِ الزمخشري: "وقيل: الضمير لمكان الغارة" هذا على تلك اللُّغَيَّةِ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ: الإغارة الثالث: أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه "والعادياتِ".
(14/386)
---(1/5877)
وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ، مِنْ أثار كذار: إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ. وقرأ أبو حَيْوَة وابن أبي عبلة بتشديدها، وخَرَّجه الزمخشريُّ على وجهَيْن: الأولُ بمعنى فأَظْهَرنَ به غباراً؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإظهارِ. والثاني: أنه قَلَبَ "ثَوَّرْنَ" إلى "وَثَّرْنَ" وقَلَبَ الواوَ همزةً. انتهى. قلت: يعني أنَّ الأصلَ: ثَوَّرْنَ، مِنْ ثَوَّر يُثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولك: أثاره، ثم قَلَبَ الكلمةَ: بأنْ جَعَلْ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء، وهي الثاءُ، فصارت وَثَّرْنَ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً، فصار "أَثَرْنَ" وهذا بعيدٌ جداً. وعلى تقدير التسليم فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ. والنَّقْعُ: الغبار وأُنْشِد:
4623- يَخْرُجْنَ مِنْ مُشْطارِ النَّقْعِ داميةً * كأنَّ آذانَها أطرافُ أَفْلامِ
وقال ابن رَواحة:
4624- عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ ترَوْها * تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ
وقال أبو عبيد: "النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ" وأَنْشَد:
4625- فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ * يُحْلِبُوها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ، من قوله عليه السلام: "ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ" وقولُ لبيد:
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ * ......................
أي: هَيَّجْنَ في المَغارِ عليخم صَباحاً" انتهى. فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى "في" ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإغارةُ كما تقدَّمَ.
* { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً }
(14/387)
---(1/5878)
قوله: {فَوَسَطْنَ}: العامَّةُ على تخفيفِ السين، أي: تَوَسَّطْنَ. وفي الهاءِ في "به" أوجهٌ، أحدُها: أنها للصبح، كما تقدَّم. والثاني: أنها للنَّقْعِ، أي: وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ، أي: جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع، فالباءُ للتعدية، وعلى الأولِ هي ظرفية، الثالث: أنَّ الباءَ للحاليةِ، أي: فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع، أي: بالغبار جمعاً من جموع الأعداء. وقيل: الباءُ مزيدةٌ، نقله أبو البقاء و"جَمْعاً" على هذه الأوجهِ مفعولٌ به. الرابع: أنَّ المرادَ بـ جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً. والمرادُ أنَّ الإبلَ تتوسَّطُ جْمعاً الذي هو المزدلفةُ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ، كقولِ صفية:
4626- ...........والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ *...................
وقولِ بشرِ بن أبي خازم:
4627- فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ * تحت العجابة في الغُبارِ الأَقْتَمِ
و"جَمْعاً" على هذا منصوبٌ على الظرف، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في "به": "إمَّا للوقتِ، أي: في وقت الصبح، وإمَّا للنَّقْع، وتكونُ الباءُ للحال، أي: مُلْتبساتٍ بالنَّقْع. إلاَّ أنه يَشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدَّى إليه بـ "في" وقال أبو البقاء: "إنَّ جَمْعاً حالٌ" وسبقه إليه مكي. وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى: على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناس.
(14/388)
---(1/5879)
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ. وقال الزمخشري: "التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} وهي مبالَغَةٌ في "وَسَطْن" انتهى. وقوله: "وهي مبالَغَةٌ" يناقِضُ قولَه أولاً "للتعدية"؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول: "ذَبَحْتُ الغنم" مخففاً ثم تبالغُ فتقول: "ذَبَّحْتها" مثقلاً، وهذا على رأيه قد جَعَلَه متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة.
* { إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }
قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ}: هذا هو المُقْسَم عليه و"لرَبَّه" متعلِّقٌ بالخبرِ، وقُدِّم للفواصلِ. والكَنُوْدُ: الجَحُوْد. وقيل: الكَفورُ النعمةِ وأُنْشِد:
4628- كَنُوْدٌ لِنَعْماءِ الرجالِ ومَنْ يَكُنْ * كَنُوداً لِنَعْماءِ الرجالِ يُبَعَّدِ
وعن ابن عباس: هو بلسانِ كِنْدَةَ وحَضْرَمَوْتَ العاصي، وبلسان ربيعةَ ومُضَرَ الكَفورُ، وبلسان كِنانةَ البخيل. وأنشد أبو زيد:
4629- إنْ تَفْتْني لم أَطِبْ عنك نَفْساً * غيرَ أنِّي أُمْنَى بدَيْنٍ كَنُودِ
* { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
قوله: {لِحُبِّ}: اللامُ متعلِّقَةٌ بـ "شديدٌ" وفيه وجهان، أحدهما: أنها المعدِّيةُ. والمعنى: وإنَّه لقَويٌّ مُطيقٌ لِحُبِّ الخير يقال: هو شديدٌ لهذا الأمرِ، أي: مُطيقٌ له والثاني: أنها للعلةِ، أي: وإنَّه لأجلِ حبِّ المالِ لَبخيلٌ. وقيل: اللامُ بمعنى "على ولا حاجةَ إليه، وقد يُعَبَّرُ بالشديد والمتشدِّدِ عن البخيل قال:
4630- [رأى] الموتَ يَعْتامُ الكرامَ ويَصْطَفى * عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ
(14/389)
---(1/5880)
وقال الفراء: "أصلُ نَظْمِ الآية أَنْ يقالَ: وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير، فلما قَدَّم "الحُبّ" قال: لشديد، وحَذَفَ مِنْ آخرِه ذِكْرَ "الحُبِّ"؛ لأنه قد جرى ذَكْرُه، ولرؤوسِ الآي كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} والعُصُوف للريح لا لليوم، كأنه قال: في يومٍ عاصفِ الريح".
* { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ }
قوله: {إِذَا بُعْثِرَ}: في العاملِ فيها أوجهٌ أحدُها: "بُعْثَرَ" نقله مكي عن المبرد وتقدّضم تحريرُه هذا قريباً في السورة قبلَها. والثاني: أنه ما دَلَّ عليه خبرُ "إنَّ" أي: إذا بُعْثر جُوزوا. والثالث: أنه "يَعْلَمُ"، وإليه ذهب الحوفيُّ وأبو البقاء. ورَدَّه مكيُّ قال: "لأنَّ الإنسانَ لا يُرادُ بمنه العِلْمُ والاعتبارُ ذلك الوقتَ، وإنما يَعْتَبِرُ في الدنيا ويعلَمُ" وقال الشيخ: "ولي بمتَّضِحٍ لأنَّ المعنى: أفلا يعلَمُ الآن.
وكان قد قال قبل ذلك: "ومفعولُ يَعْلَمُ محذوفٌ وهو العاملُ في الظرفِ، أي: أفلا يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ" انتهى. فجَعَلها متعديةً في ظاهرِ قوله إلى واحدٍ، وعلى هذا فقد يُقال: إنها عاملةٌ في "إذا" على سبيلِ أنَّ "إذا" مفعولٌ به لا ظرفٌ إذ التقديرُ: أفلا يَعْرِفُ وقتَ بَعْثَرَةِ القبورِ. يعني أَنْ يُقِرَّ بالبعث ووقتِه، و"إذا" قد تصرَّفَتْ وخَرَجَتْ عن الظرفية، ولذلك شواهدُ تقدَّم ذكْرُها في غضونِ هذا التصنيفِ. الرابع: أنَّ العاملَ فيها محذوفٌ، وهو معفولٌ "يَعْلَمُ" كما تقدَّم تقريرُه، أي: يعلمُ مآلَه إذا بُعْثِرَ. ولا يجوزُ ان يعملَ فيه "لَخبيرٌ" لأنَّ ما في حَيِّز "إنَّ" لا يتقدَّمُ عليها.
(14/390)
---(1/5881)
وقرأ العامَّةُ "بُعْثِرَ" بالعين مبنياً للمفعولِ. والموصولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. وابن مسعودٍ بالحاء. وقرأ الأسود بن يزيد ومحمد بن معدان "بُحِثَ" من البحث. ونصر بن عاصم "بَعْثَرَ" مبنياً للفاعل وهواللَّهُ تعالى أو المَلَكُ. والعامَّةُ "حُصِّل" مبنياً للمفعولِ كالذي قبلَه. ويحيى بن يعمر ونصرٍ أيضاً "حَصَلَ" خفيفةَ الصادِ مبنياً للفاعل بمعنى: جَمَعَ ما في الصحفِ تَحَصُّلاً، والتحصيلُ: جَمْعُ الشيء، والحُصولُ اجتماعُه. وقيل: التحصيلُ التمييزُ. ومنه قيل للمُنْخُل: مُحَصِّل. وحَصَل الشيءُ مخفَّفاً: ظَهَر واستبانَ، وعليه القراءةُ الأخيرةُ.
* { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }
قوله: {إِنَّ رَبَّهُم}: العامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ لوجودِ اللامِ في خبرها. والظاهرُ أنَّها معلِّقَةٌ لـ "يَعْلَمُ" فيه في محلِّ نصب، ولكن لا يَعْمَلُ في "إذا" خبرُها لِما تقدَّم؛ بل يُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ معناه كما تقدَّم. ويدلُّ على أنها مُعَلَّقَةٌ للعِلْمِ لا مستأنلفةٌ قراءةُ أبي السَّمَّال وغيرِه "أنَّ ربَّهم بهم يؤمئذٍ خبيرٌ" بالفتح وإساقط اللامِ، فإنَّها في هذه القراءة سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها. ويُحْكَى عن الخبيث الروحِ الحَجَّاج أنه لما فَتَح همزةَ "أنَّ" استدرك على نفسِه فتعمَّد سقوط اللام. وهذا إنْ صَحَّ كُفْرٌ. ولا يُقالُ: إنها قراءةٌ ثابتةٌ، كما نَقَلْتُها عن أبي السَّمَّال، فلا يكفرُ، لأنه لو قرأها كذلك ناقلاً لها لم يُمْنَعْ منه، ولكنه أسقطَ اللامَ عَمْداً إصلاحاً للسانِه. وأجمعَ الأمةُ على أنَّ مَنْ زاد حرفاً في القرآن أو نَقَصَه عَمْداً فهو كافِرٌ، وإنما قلتُ ذلك لأنِّي رأيتُ الشيخَ قال: "وقرأ أبو السَّمَّال والحجَّاج" ولا يُحْفَظُ عن الحجَّاجِ إلاَّ هذا الأثرُ السَّوْءُ، والناسُ يَنْقُلونه عنه كذلك، وهو أقلُّ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عنه.
(14/391)
"وبهم" و"يومئذٍ" متعلِّقان بالخبر، واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلك وقُدِّماً لأَجْلِ الفاصلةِ.(1/5882)
سورة القارعة
* { مَا الْقَارِعَةُ }
: كقوله تعالى {
1649;لْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} وكقوله: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ} وكقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} وقد تقدَّما وقد عَرَفْتَ مِمَّا نقله مكي أنه يجوزُ رَفْعُ "القارعة" بفعلٍ مضمر ناصبٍ لـ"يومَ" وقيل: معنى الكلامِ على التحذير. قال الزجاج: "والعبرُ تُحَذِّر وتُعْزي بالرفع كالنصبِ. وأنشد:
4631- لَجَديرون بالوفاءِ إذا قا * لَ أخو النجدةِ السِّلاحُ السِّلاحُ
قلت: وقد تقدّضم ذلك في قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} فيمَنْ رفَعه. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عيسى {القارعةَ ما القارعةَ} بالنصب، وهو بإضمارِ فعلٍ، أي: احذروا القارعةَ و"ما" زائدةٌ. والقارعةُ الثانيةُ تأكيدٌ للأولى تأكيداً لفظياً.
* { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ }
قوله: {يَوْمَ يَكُونُ}: في ناصبِه أوجهٌ، أحدُها: مضمرٌ يَدُلُّ عليه "القارعةُ، أي: تَقْرَعُهم يومَ يكون. وقيل: تقديرُه: تأتي القارعةُ يومَ. الثاني: أنَّه "اذْكُرْ" مقدَّراً فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ. الثالث: أنَّه "القارعة" قاله ابنُ عطية وأبو البقاء ومكي. قال الشيخ: "فإنْ كان يعني ابنُ عطية - عني - اللفظ الأولَ فلا يجوزُ للفَصْلِ بين العاملِ، وهو في صلة أل، والمعمولِ بأجنبي وهو الخبرُ، وإن جَعَلَ القارعة عَلَماً للقياممة فلا يعملُ أيضاً، وإنْ عنى الثاني والثالثَ فلا يَلْتَئِمُ معنى الظرفيةِ معه" الرابع: أنه فعلٌ مقدرٌ رافعٌ للقارعةِ الأولى، كأنه قيل: تأتي القارعةُ يومَ يكون، قال مكيٌّ. وعلى هذا فيكونُ ما بنيهما اعتراضاً وهو بعيدٌ جداً منافرٌ لنَظْم الكلام. وقرأ زيد بن علي "يومُ" بالرفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وقتُها يومُ يكونُ.
(14/392)
---(1/5883)
قوله: {كَالْفَرَاشِ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً للناقصةِ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل التامَّةِ، أي: يُوْجَدُون ويُحْشَرونَ شِبْهَ الفَراشَ، وهو طائرٌ معروفٌ وقيل: هو الهَمَجُ من البعوض والجَرادِ وغيرهما، وبه يُضْرِبُ المَثَلُ في الطَّيْشِ والهَوْجِ يقال: "أَطَيْشُ مِنْ فَراشة" وأُنْشد:
4632- فَراشَةُ الحُلْمِ فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ *يُطْلَبُ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ
وقال آخر:
4633- وقد كانَ أقوامٌ رَدَدْتُ قلوبَهُمْ * عليهم وكانوا كالفراشِ من الجهلِ
والفَراشةُ: الماءُ القليل في الإناء، وفراشة القُفْلِ لشَبَها بالفَراشة. وفيت شبيه الناسِ بالفَراشِ مبالغاتٌ شتى منها: الطيشُ الذي يلْحَقُهم، وانتشارُهم في الأرض، ورُكوبُ بعضهم بعضاً، والكثرةُ والضَّعْفُ والذِّلَّةُ والمجيءُ مِنْ غير ذَهابٍ. والقَصْدُ إلى الداعي من كل جهةٍ، والتطايرُ إلى النار. قال جرير:
4634- إنَّ الفرزدقَ ما عَلِمْتَ وقومَه * مثلُ الفَراشِ غَشِيْنَ نارَ المُصْطَلي
والعِهْنُ تقدَّم في سأل.
* { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ }
قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}: أي: هالكةٌ، وهذا مَثَلٌ يقولون لمَنْ هَلَكَ: "هَوَتْ أمُّه" لأنه إذا سَقَطَتْ أمُّه ثُكْلاً وحُزْناً. وعليه قولُ الشاعر:
4635- هَوَتْ أمُّه ما يَبْعَثُ الصبحُ * غادياً وماذا يَرُدُّ الليلُ حين يَؤُوبُ
وقرأ طلحة "فإمُّه" بكسرِ الهمزة. نَقَل ابنُ خالَوَيْه عن ابنِ دريد أنها لغةٌ. والنحويون لا يُجيزون ذلك إلاَّ إذا تقدَّمها كسرةٌ أو ياءٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورةِ النساء، واختلافُ القُرَّاء فيه.
* { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ }
(14/393)
قوله: {مَا هِيَهْ}: مبتدأ وخبرٌ سادَّان مَسَدَّ المفعولَيْن لـ "أَدْراك" وهو التعليقِ و"هي" ضميرُ الهاويةِ، إنْ كانت الهاويةَُ كما قيل اسماً لـ دَرَكَةٍ مِنْ دَرَكاتِ النار، وإلاَّ عادَتْ على الداهية المفهومةِ من الهاوية. وأسقط هاءَ السكت حمزةُ وَصْلاً. وقد تقدّضم تحقيقُ هذا في الحاقة. و"نارٌ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نارٌ.(1/5884)
سورة التكاثر
* { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }
قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ}: "حتى" غايةٌ لقولِه "أَلْهاكم" وهو عطفٌ عليه.
* { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ }
قوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: جعله الشيخُ جمالُ الدينُ بنُ مالك من التوكيدِ اللفظي مع توسُّط حرفِ العطفِ. وقال الزمخشري: "والتكريرُ تأكيدٌ للرَّدْعِ والردِّ عليهم، و"ثم" دالَّةٌ على أنَّ الإنذارَ الثاني أبلغُ من الأولِ وأشدُّ، كما تقولُ للمنصوح: أقولُ لك ثم أقولُ لك لا تفعَلْ" انتهى. ونُقِل عن عليّ كرَّمَ اللَّهُ وجهَه: "كلاَّ سوف تعلمون في الدنيا، ثم كلاًّ سوف تعلمون في الآخرة" فعلى هذا يكونُ غيرَ مكرَّرٍ لحصولِ التغايُر بينهما لأجل تغايُر المتعلِّقَيْنِ. و"ثُمَّ" على بابها من المُهْلة. وحُذِفَ متعلَّقُ العِلْم في الأفعال الثلاثةِ لأنَّ الغَرَض الفِعْلُ لا متعلَّقُه. وقال الزمشخري: "والمعنى: لو تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عانَيْتُمْ ما تَنْقَلبون إليه" فقَدَّر له مفعولاً واحداً كأنه جَعَله بمعنى عَرَف.
* { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ }
قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ. أي: لَفَعَلْتُم ما لا يُوصف. وقيل: التقديرُ: لرَجَعْتُمْ عن كُفْرِكم. وعلم اليقين: مصدرٌ. قيل: وأصلُه: العلمَ اليقينَ، فأُضيف الموصوفُ إلى صفتِه. وقيلَ: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ العِلْمَ يكونُ يقيناً وغيرَ يقينٍ، فأُضِيفَ إليه إضافةُ العامِّ للخاصِّ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ اليقينَ أخصُّ.
(14/394)(1/5885)
وقرأ ابن عباس "أألْهاكم" على استفهام التقرير والإنكارِ. ونُقِل في هذا: المدُّ مع التسهيل، ونُقِلَ فيه تحقيقُ الهمزتَيْن من غيرِ مَدّ.
* { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ }
قوله: {لَتَرَوُنَّ} هذا جوابُ قَسَم مقدَّرٍ. وقرأ ابن عامر والكسائي "لتُرَوْنَّ" مبنياً للمعفول. وهو منقولٌ مِنْ "رَأي" الثلاثي إلى "أرى" فاكتسَبَ مفعولاً آخر فقام الأولُ مقامَ الفاعلِ. وبقي الثاني منصوباً. والباقون مبنياً للفاعِل جعلوه غيرَ منقولٍ، فتعدَّى لواحدٍ فقط، فإنَّ الرؤيةَ بَصَريَّة. وأمير المؤمنين، وعاصم وبان كثير في روايةٍ عنهما بالفتح في الأولى والضمِّ في الثانية، يعني "لَتُرَوْنَّها" ومجاهد وبان أبي عبلة والشهب بضمها فيمها. والعامَّةُ على أن الواوَيْن لا يُهْمزان؛ لأنَّ حركتَهما عارضةٌ، نَصَّ على عدمِ جوازِه مكيُّ وأبو البقاء، وعَلَّلا بعُروضِ الحركة.
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلافٍ عنهما بهمزِ الواوَيْن استثقالاً لضمةِ الواو. قال الزمشخري: "وهي مستكرهَةٌ" يعني لِعُروض الحركةِ عليها إلاَّ أنَّهم قد هَمَزوا ما هو أَوْلى بعَدَمِ الهمزِ من هذه الواوِ نحو: {اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} هَمَزَ واوَ "اشتَروْا" بعضُهم، مع أنها حركةٌ عارضةٌ وتزولُ في الوَقْفِ، وحركةُ هذه الواوِ، وإنْ كانت عارضةً، إلاَّ أنها غيرُ زائلةٍ في الوقفِ فهي أَوْلَى بَهْمِزها.
* { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ }
قوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ}: مصدرٌ مؤكِّدٌ. كأنه قيل: رؤيةَ العين، نفياً لتوَهُّمِ المجازِ في الرؤية الأولة. وقال أبو البقاء: "لأنَّ رأى وعايَنَ بمعنى".(1/5886)
سورة العصر
* { وَالْعَصْرِ }
(14/395)
قوله: {وَالْعَصْرِ}: العامَّةُ على سكونِ الصاد. وسلام "والعَصِر" والصَّبِرْ" بكسرِ الصادِ والباء. قال ابنُ عيطة: ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ نَقْل الحركة. ورُويَ عن أبي عمرو "بالصَّبر" بكسر الباء إشماماً. وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقف" انتهى. ونَقَل هذه القراءة جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وبانِ خالويه قال الهُذَلّيُّ: "والعَصِرْ والصَّبْر، والفَجِرْ، والوَتِرْ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإسكانِ كالجماعةِ" انتهى. فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي الوقف والوصلِ. وقال ابن خالويه: "والصَّبِرْ" بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو" فأطْلَقَ ايضاً. وقال أبو الفضل: "عيسى البصرة بالصَّبِرْ" بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن، وذلك لغةٌ شائغةٌ وليسَتْ بشاذةٍ، بل مُسْتفيضةٌ، وذلك دَلالةٌ على الإعراب، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ" انتهى. فهذا يُؤذِنث بما ذَكَرَ بانُ عطيةَ أنه كان ينبغي. وأنشدوا على ذلك:
4636- ......واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ
يريد بالرِّجْلِ. وقال آخر:
4637- أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ * أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ
والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله:
4638- ............. إذْ جَدَّ النُّقْرْ
والعَصْرُ: الليلةُ واليومُ قال:
4639- ولن يَلبْثُ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ * إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما
* { إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ }
(14/396)
قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ}: المرادُ به العمومُ بدليلِ الاستثناءِ منه، وهو مِنْ جملةِ أدلة العمومِ. وقرأ العامَّةُ "لَفي خُسْرٍ" بسكونِ السين. وزيد بن علي وابنُ هرمز وعاصم في روايةٍ بضمِّها، وهي كالعُسْرِ واليُسْرٍِ، وقد تقدَّما أولَ هذا التصنيفِ في البقرة.(1/5887)
سورة الهمزة
* { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }
قوله: {هُمَزَةٍ}: أي: كثيرُ الهَمْزِ، وكذلك "اللُّمَزَة" الكثيرُ اللَّمْزِ. وتقدّضم معنى الهَمْزِ في ن، واللَّمْزِ في براءة والعامَّةُ على فتح ميمها على أنَّ المرادَ الشخصُ الذي كَثُرَ منه ذلك الفعلُ. قال زياد الأعجم:
4640- تُدْلي بِوْدِّيْ إذا لا قَيْتَني كَذِباً * وإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَةْ
وقرأ الباقر بالسكون، وهو الذي يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ، أي: يأتي بما يَهْمِزُ به ويَلْمِزُ كالضُّحَكَة لِمَنْ يَكْثُرُ ضَحِكُه، والضُّحْكة لِمَنْ يأتي بما يُضْحَكُ منه. وهو مُطَّرِدٌ، أعني أنَّ فُعَلَه بفتح العين لمَنْ يَكْثُرُ منه الفِعْلُ، وبسكونِها لمَنْ يكونُ الفعلُ بسببه.
* { الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ }
قوله: {الَّذِى جَمَعَ}: يجوزُ جرُّه بدلاً، ونصبُه ورفعُه على القطع. ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرهما تعريفاً وتنكيراً. وقوله: "جَمَعَ" قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديد الميم على المبالغة والتكثير، ولأنَّه يوافِقُ "عَدَّدَه"والباقون "جمَعَ" مخففاً وهي محتملَةٌ للتكثير وعدمِه.
(14/397)
---(1/5888)
قوله: "وعَدَّدَه" العامَُّ على تثقيل الدالِ الأول، وهو أيضاً للمبالغة. وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفها.وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ المعنى: جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ، أي: وجَمَعَ عَدَدَه، اي: أحصاه. والثاني: أنَّ المعنى: وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنء عَشِيرَتِهِ وأقاربه، و"عَدَدَه" على هَذْينِ التأويلْنِ اسمٌ معطوفٌ على "مالاً" أي: وجَمَعَ عَدَد المالِ أو عَدَدَ نفسِه. الثالث: أنَّ "عَدَده" فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه، إلاَّ شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قوله:
4641- ................... * إني أَجْوْدُ لأَقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا
* { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ }
قوله: {يَحْسَبُ}: يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل "جَمَعَ" و"أَخْلَدَه" يعني يُخْلِدُه، فأوقع الماضيَ موقعَ المضارعِ. وقيل: هو على أصله، أي: أطال عُمْرَه.
* { كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ }
قوله: {لَيُنبَذَنَّ}: جوابُ قسمٍ مقدرٍ. وقرأ عليُّ رضي الله عنه الحسن بخلافٍ عنه وابنُ محيصن وأبو عمروٍ في روايةٍ "ليُنْبِذانِّ" بألفِ التثنية، أي: ليُنْبَذانِّ، أي: هو ومالُه. وعن الحسن أيضاً: "لَيُنْبَذُنَّ" بضمِّ الذالِ، وهو مُسْنَدٌ لضميرِ جماعةٍ، أي: لنَطْرَحَنَّ الهُمَزَةَ وأنصارَه.
والحُطَمَةُ: الكثيرُ الحَطْمِ. يقال: رجلٌ حُطَمَةٌ، أي: أَكُولٌ وحَطَمْتُه: كَسَرْتُه. والحُطام منه قال:
4642- قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ
وقال آخر:
4643- إنَّا حَطَمْنا بالقضيبِ مُصْعباً *يومَ كسَرْنا أَنْفَه لِيَغْضَبا
قوله: "نارُ الله"، هي نارُ الله.
* { الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ }
قوله: {الَّتِي تَطَّلِعُ} يجوزَ أَنْ تكونَ تابعةص لـ "نارُ الله"، وأَنْ تكونَ مقطوعةً...
* { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ }
(14/398)
قوله: {فِي عَمَدٍ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ "عَمُود" نحو: "رَسُول" ورُسُل" وقيل: جمعُ عِماد نحو: كِتاب وكُتُب. ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ، وهو تخفيفٌ لهذه القراءةِ. والباقون "عَمَد" بفتحتَيْن. فقيل: اسمُ جَمْعٍ لعَمود. وقيل: بل هو جمعٌ له، قال الفراء: كأَدِيْم وأَدَم" وقال ابو عبيدة: "هو جمعُ عِماد" و"في عَمَدٍ" يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في "عليهم"، أي: مُوْثَقِين، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ، أي: هي في عَمَدٍ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدة، قال أبو البقاء "يعني: فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ".(1/5889)
سورة الفيل
* { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }
يُجْمع على فُيول وقِيَلة في الكثرة، وأَفْيال في القلة.
قوله: {أَلَمْ تَرَ}: هذه قراءةُ الجمهورِ، أعني فتحَ الراءِ، وحَذْفُ الألفِ للجزم. وقرأ "السُّلَمِيُّ "تَرْ" بسكونِ الراءِ كأنه لم يَعْتَدَّ بحَذْفِ الألفِ كقولهم: "لم أُبَلْهُ" وقرأ أيضاً "تَرْءَ" بسكون الراءِ وهمزةٍ مفتوحةٍ وهو الأصلُ و"كيف" مُعَلِّقةٌ للرؤية، وهي منصوبةٌ بفعلٍ بعدها.
* { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ }
قوله: {أَبَابِيلَ}: نعتٌ لطير، لأنَّه اسمُ جمع. وأبابيل قيل: لا واحدَ له كأساطير وعَباديد، وقيل: واحدُهُ إبَّوْل كعِجَّوْل. وقيل: إبَّال وقيل: إبِّيْل مثلَ سِكِّين. وحكى الرقاشي أنه سُمع إبَّالة بالتشديد. وحكى الفراءة مخففة. والأبابيل: الجماعات شيئاً بعد شيء. وقال الشاعر:
4644- طريقٌ وَجبَّارٌ رِواءٌ أصولُهُ * عليه أبابيلٌ من الطيرِ تَنْعَبُ
وقد يُسْتَعارُ لغير الطَيْرِ كقوله:
4645- كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصوات راحلتي * إذ سالَتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل
* { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ }
(14/399)
قوله: {تَرْمِيهِم}: صفةٌ لطير. والعامَّةُ "تَرْميهم" بالتأنيث. وأبو حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحةُ بالياءِ مِنْ أسفلُ، وهما واضحتان؛ لأنَّ اسمَ الجمعِ يُذَكَّرث ويُؤَنَّثُ ومِنَ التأنيث قولُه:
4646- .......................... * كالطَّيْرِ تَنْجو مِنْ الشُّؤبوب ذي البَرَدِ
وقيل: الضميرُ لـ "ربُّكط أي: يَرْميهم رَبُّك. و"مِنْ سِجِّيل" صفةٌ لحجارةِ. "وكعَصْفِ" هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ معنى التَّصيير. وفيه مبالغةٌ حسنة. لم يَكْفِه أَنْ جَعَله أونَ شيءٍ في الزَّرع، وهو ما لا يُجْدي طائلاً، حتى جَعَله رَجيعاً.(1/5890)
سورة قريش
* { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}
* {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }
قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}: في متعلَّقِ هذه اللامِ، أوجهٌ، أحدُها: أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} قال الزمشخري: "وهذا بمنزلةِ التَّضْمِين في الشِّعْرِ" وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلاَّ به، وهما في مصحف أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ. وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثاينة من صلاة المغرب وفي الأولة بسورةِ "والتين" انتهى. وإلى هذا ذهبَ أبو الحسن الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال: "ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ: بأنَّه لو كان كذا لكان "لإيلافِ بعضَ سورِ "ألم تَرَ" وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك"
الثاني: أنَّه مضمرٌِ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك، أي: إهلاكَ أصحابِ القيل لإيلافِ قريش. وقيل: تقديره اعْجبوا. الثالث: أنه قولُه "فَلْيَعْبُدوا".
وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلام مِنْ معنى الشرطِ، أي: فإنْ لم يَعْبُدوه لسائر نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإيلافهم فإنَّها أَظْهَرث نعمِهِ عليهم، قال الزمشخري وهو قولُ الخيل قبلَه
(14/400)
---(1/5891)
وقرأ ابن عامر "لإلافِ" دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانية، والباقون "للإيلاف" بياءٍ قبلَها، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني، وهو "إيلافِهِمْ" ومِنْ غريب ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاء اختلفوا في سقوطِ الياء وثبوتِها في الأولِ، مع اتفاق المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً، واتفقوا على إثبات الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثرَ والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ لـ أَلِف ثلاثياً يُقال: أَلِفْتُه إلافاً، نحو: كتبتُه كِتاباً، يُقال: أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً. وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قوله:
4647- زَعَمْتُم أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ * لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ
والثاني: أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو: قاتَلَ قِتالاً. وقال الزمشخري: "أي: لمُؤالَفَةِ قريش".
وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال: آلَفْتُه أُوْلِفُه إيلافاً. قال الشاعر:
4648- مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ * شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ
وقرأ عاصمٌ في روايةٍ {إإلافهم} بمهزتين: الأولى مسكورةٌ والثانية، ساكنةٌ، وهي شاذَّةٌ، لأنه يجب في مثله إبدالُ الثانية حرفاً مجاناً كإيمان. ورَويَ عنه أيضاً بِهَمَزَتين مَكْسورتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ. وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزة الثانية فتولَّد منها ياءٌ،و هذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال: "بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ، وهو بعيدٌ. ووّجْهُها أنه أشبعَ الكسرةًَ فنشَأَتْ الياءُ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في {أَأَنذَرْتَهُمْ
}. وقرأ أبو جعفر "لإلْفِ قُرَيْشٍ" بزنة قِرْد. وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله:
(14/401)
---(1/5892)
4649- ................. * لهم إلفٌ وليس لكم إلافُ
وعنه أيضاً وعن ابن كثير "إلْفِهم" وعنه أيضاً وعن ابن عامر "إلا فِهِمْ" مثل: كتابهم. وعنه أيضاً "لِيْلافِ" بياءٍ ساكنةٍ بعد اللام؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولة على غير قياس. وقرأ عكرمةُ "لِتَأْلَفْ قُرَيش" فعلاً مضارعاً وعنه "لِيَأْلَفْ على الأمر، واللامُ مسكورةٌ، وعنه فَتْحُها مع الأمر وهي لُغَيَّةٌ.
وقُرَيْش اسمٌ لقبيلة. قيل: هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشيُّ دونَ كِنانةَ، وهو الصحيحُ وقيل: هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ. فَمَنْ لم يَلدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بين فِهْرٍ قرشيُّون. وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشييين. ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالك.
واخْتُلِف في اشتقاقِه على أوجه، أحدها: أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم. قال الشاعر:
4650- أبونا قُصَيُّ كان يُدْعى مُجَمِّعاً * به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني: أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ. وكانت قريشٌ تُجَّاراً. يقال: قَرَشَ يَقْرِشُ أي: اكتسب. والثالث: أنه مِنْ التفتيش. يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني، أي: فَتَّش. وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّانِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم. قال الشاعر:
4651- أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا * عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ
وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس. فقال: سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحر يقال لها: القِرْش، تأكلُ ولا تُؤكَل، وتَعْلوا ولا تُعْلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ:
4652- وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْـ * ـرَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشاً
تأكلُ الغَثَّ والسَّمين ولا تَتْـ *ـرُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا
هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ * يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا
(14/402)
---(1/5893)
ولهم آخِرَ الزمان نَبِيُّ * يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا
ثم قريشٌ: إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ، فيكونَ تصيغرُه تصغيرَ ترخيم. فقيل: الأصلُ: مُقْرش. وقيل: قارِش، وإمَّا أَنْ الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر:
4653- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً *وكفى قُرَيْشَ المُعْضَلاتِ وسادَها
قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقيف وكنانةَ: "هذه للأحياءِ" وإنْ جعلتها اسماً للقائل فهو جائزٌ حَسَنٌ".
قوله: {إِيلاَفِهِمْ} مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً؛ ولذلك اتّصَلَ بضمير ما أُضيف إليه الأولُ كما تقولَ: لِقيام زيدٍ لقيامه أكرمْتُه" وأعربه أبو البقاء بدلاً والأول أوْلَى.
قوله: {رِحْلَةَ} معفولٌ به بالمصدرِ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله، أي: لأنْ أَلِفوا رحلةَ. والأصلُ: رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ، ولكنه أُفْرِدَ لأمْنِ اللَّبْسِ كقوله:
4654- كُلوا في بَعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا *...........................
قاله الزمخشري وفيه نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه يجعلُ هذا ضرورةً كقوله:
4655- حَمامَةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي *.......................
وقيل: "رِحْلة" اسمُ جنس. وكانت لهم أربعُ رِحَل. وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلك. وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ. وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي ُرْحَلُ إليها.
والشتاءُ لامُه واوٌ لقولهم: الشَّتْوَةُ وشتا يَشْتُو. وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه: شَتوِيّ. والقياس: شتائيّ أو شتاويّ ككسائيّ وكِساويّ.
* { الَّذِيا أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }
(14/403)
قوله: {مِّن جُوعٍ}: و {مِّنْ خَوْفٍ}: للتعليلِ، أي: مِنْ أجلِ جوع وخوفٍ، والنكيرُ للتعظيم. أي: مِنْ جوعٍ عظيمٍ وخوفٍ عظيمٍ. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ مفعولِ أَطْعَمهم" وأخفى نونَ "مِنْ" في الخاء نافعٌ في روايةٍ، وكذلك في الغينِ، وهي لغةٌ حكاها سيبويه.(1/5894)
سورة الماعون
* { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ }
قرأ الكسائي {أرَيْتَْ} بسقوطِ الهمزةِ. وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام. وقال الزمشخري: "وليس بالاختيار؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌ بالمضارعِ، ولم يَصِحَّ عن العرب "رَيْتَ". والذي سَهَّلَ مِنْ أمرها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أول الكلامِ ونحوُه:
4656- صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ * رَدَّ في الضَّرْع ما قَرى في العِلابِ
وفي "أَرَأَيْتَ" هذه وجهان، أحدهما: أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدَّى لواحدٍ وهو الموصولُ، :انه [قال]: أبْصَرْتَ المكذِّبَ. والثاني: أنَّها بمعنى: أَخْبِرْني، فتتعدَّى لاثنينِ، فقدَّره الحوفيُّ: "أليس مُسْتَحِقَّاً للعذاب". والزمخشريُّ "مَنْ هو". ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله "أَرَأَيْتَك" بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ.
* { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ }
(14/404)
---(1/5895)
قوله: {فَذَلِكَ}: فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الفاءَ جوابُشرط مقدرٍ، أي: إن تأمَّلُتَه، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمضه فذلك. والثاني: أنَّها عاطفةٌ "فذلك" على "الذي يَكَذِّبُ" إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ، أو صفةٍ على صفةٍ. ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ" محذوفاً لدللالةِ ما بعدَه عليه. كأنه قيل: أَخْبِرْني، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإشارةِ في محلِّ رَفْع بالابتداء، والخبرُ الموصولُ بعده، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: فهو ذاك والموصولُ نعتُه. وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال: "فجعل ذلك" في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولك: "أَكَرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك على الذي يُحْسِنُ إلينا" فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ "فذلك" مرفوعٌ بالابتداء. وعلى تقدير النصبِ يكونُ التقديرُ: أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذين يُحْسِنُ إلينا. فاسمُ الإشارةِ في هذا التقيرِ غيرُ متمكِّنِ تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌح إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ: أَكرَمْتُ الذي يزورُنا، فالذي يُحْسِن إلينا، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا. وأمَّا قولُه "إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ" فلا يَصِحُّ لأنَّ "فذلك" إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً" فهذا لا يُسَمى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني لـ "أرَأيْتَ" وأمَّا تقديرُه "أنِعْمَ ما يصنعُ"؟ فهمزةُ الاستفهام لان نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَ على الخبر" انتهى.
(14/405)
---(1/5896)
والجوابُ عن قوله: "فاسم الإشارةِ غيرُ ممتكِّنِ" إلى آخره: أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآية الكريمة استفهاماً وهو "أرأيْتَ" فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قوله: "لأنَّ "فذلك" إشارةٌ إلى "الذي يُكَذِّب" بالمنع" بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولك: "اضْرِبْ زيداً، فذلك القائمُ" إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه. وعن قوله "فلا يُسَمَّى جواباً" أنَّ النحاةَ يقولون: جوابُ الاستفهام، وهذا قد تَقَدَّمه استفهمامٌ فَحَسُنَ ذلك. وعن قوله: "والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر" بالمعارضةِ بقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} فإنَّ "عَسىٍ" إنشاءٌ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ وتشنديد العينِ مِنْ دَعَّه، أي: دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء "يَدَعُ" بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين، أي: يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ ين علي "ولا يُحاضُّ" مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر.
* { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ }
قوله: {لِّلْمُصَلِّينَ} خبرٌ لقولِه: "فوَيْلٌ" والفاءُ للتسَبُّبِ،أي: تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمة الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم. قال الزمخشري بعد قوله: "كأنَّه قيل: أخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله: أنِعْمَ ما يصنعُ" ثم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} أي: إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم، لأنهم كانوا - مع التكذيب وما أُضيفَ إليه - ساهين عن عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم. فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ المُصَلِّي قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت: لأنَّ معناه الجمعُ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ".
(14/406)
---(1/5897)
قال الشيخ: "وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ. ولا يَنبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآن إلاَّ على ما عليه الظاهرُ، وعاجةُ هذا الرجِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ" انتهى. قلت: وعادةُ شيخنا - رحمه الله - التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعَل حسَنه قبيحاً. وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ، وجَعْلُه شيئاً واحداً، وما تضمَّنه من المبالغة في الوعيد في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيع؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن السورةَ كلَّها في وصفِ قوم جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها: من التكذيبِ بالدِّين ودَفْع اليتيم وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه، والسَّهو في الصلاة، والمُراءةِ ومَنْعِ الخير.
* { الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }
قوله: [الَّذِينَ هُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ، وأَنْ يكونَ منصوبَه، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً. نعتاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصولُ الثاني، إلاَّ أنه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ. وقوله: "يُراؤون" أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائي يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
* { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }
(14/407)
---(1/5898)
قوله: {الْمَاعُونَ}: أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: "مالُه مَعْنَةٌ" أي: قليلٌ، قاله قطرب. الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُونَ كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُون، ثم قُلِبتَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولهم" تابَةٌ" و"صامَةٌ" في تَوْبة وصَوْمةَ، فوزنُه الآن مَفْعُول. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعل فاسمُ مفعولِ الثلاثي. الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذ المَقيس عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن.
الثالث: من الأوحه الأُوَل: أنَّ أصله مَعُونَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفْعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسري فيه، وأحسنُها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى:
4657- بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه * إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمْ
ولم يَذْكُر المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياء التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ.(1/5899)
سورة الكوثر
* { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ }
(14/408)
قوله: {أَعْطَيْنَاكَ}: قرأ الحسن وبانُ محيصن وطلحة والزعفراني {اَنْطَيْناك} قال الرازيُّ والتبريزيُ: "أبدلَ من العين نوناً، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفٍها بدليل كمال تَصْريفهما، وإنْ عَنياً بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ مقوعَ هذه لغةً فقريبٌ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ. قال التبريزي: "هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ" وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلَّم: "اليدُ العليا المُنْطِيَةُ، واليدُ السُّفْلى المُنْطاة" وقال الشاعر - هو الأعشى-:
4658- جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك * تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا
والكَوْثر: فَوْعَل من الكَثْرَةِ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ. قال الشاعر:
4659- وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ *وكان ابوكَ ابنَ أبوكَ بانَ العقائلِ كَوْثَرا
وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها: بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت: "آب بكَوْثَرٍ" أي: بخيرٍ كثيرٍ.
* { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }
قوله: {وَانْحَرْ}: أمرٌ من النَّحْر وهو الإبلِ بمنزلة الذَّبْح في البقر والغنم. وقيل: اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ: المُبْغِضُ. يُقال: شَنَأه يَشْنَؤُه، أيك أَبْغَضَه. وقد تقدّضم في المائدة.
* { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ }
قوله: {هُوَ الأَبْتَرُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ "هو" مبتدأ، و"الأبترُ" خبرُه والجملةُ خبرُ "إنَّ"، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء: "أو توكيدٌ" وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر. والأبترُ: الذي لا عَقِبَ له، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع، مِنْ بَتَرَه، أي: قطعه. وحمارٌ ابترُ: لا ذَنَبَ له. ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة قاطعُ رَحِمِه قال:
4660- لَئيمٌ نَزظَتْ في آَنْفِه خُنْزُوانَةٌ * على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسر: انقطعَ ذَنْبُه.
(14/409)
---(1/5900)
وقرأ العامة "شانئكَ" بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي. ابن عباس "شَنْئك" بغيرِ ألف. فقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال. وقد أثبته سيبويه، وأنشد:
4661-حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ * ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل:
4662- أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي * جِحاشٌ الكِرْمَلَيْن لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ.
وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ. وقي: يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولهم: "بَرُّ وبارٌّ، وبَرِدٌ وبارِدٌ.
قوله: {فَصَلِّ} الفاء للتعقيب والتسبيبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه المِنّضةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِم عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّخْرِ، لا كما تفعلُ قُرَيَشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها.
(14/410)
---(1/5901)
وقال أهل العلم: قد احتوَتْ هذه السورة، على كونِها أَقْصَرَ سورة في القرآن، على معانس بليغةٍ وأساليبَ بديعة وهي اثنان وعشرون. الأول: دلالةُ استهلال السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير. الثاني: إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه. الثالث: إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه كـ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} الرابع: تأكيدُ الجملة بـ "إنَّ الخامس: بناءُ الفعلِ على الاسم ليُفيدَ الإسنادَ مرتين. السادس: الإيتانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغة الكثرة. السابع: حَذْفُ الموصوفِ الكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياع والإبهام وليس في إثباته. الثامن: تعريفُه بأل الجنسةيِ الدالَّةِ على الاستغراق. التاسع: فاءُ التَّعْقيب، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسبيب، فإنَّ الإنعام سببٌ للشُّكر والعبادةِ. العاشر: التَّعريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغير اللَّهِ تعالى. الحادي عشر: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وافضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنية التي النَّحْرُ أَسناها. الثاني عشر: حَذْفُ متعلَّقِ "انحَرْ" إذ التقديرُ: فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له. الثالثَ عشرَ: مراعاةً السَّجْعِ فإنَّه من صناعة البديع العاري عن التَّكلُّفِ. الرباع عشرَ قوله: {رَبِّك} في الإتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائر صفاتِه الحُسْنة دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه. الخامسَ عشرَ: الالتفاتُ من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله: "لربِّك" السادسَ عشرَ: جَعْلُ الأمْرِ بتَرْك الاهتبالِ بشانئيه للاستئناف، وجَعْلُه خاتمةً للإعراضِ عن الشانئ، ولم يُسَمِه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة، وإن كان المرادُ به شخصاً(1/5902)
(14/411)
مَعْنيَّاً. السابعَ عشرَ: التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفة القيحة على أن لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّد قيامِ الصفةِ به، مِتنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتة؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً. الثامنَ عشرَ: تأكيدُ الجملةِ بـ"إنَّ" المُؤْذِنَةِ بتأكيد الخبرِ، ولذلك يُتَلَقَّى بها القسمُ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا، التاسعَ عشرَ: الإتيانُ بضميرِ الفَصْل المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيد إنْ جَعَلْنا "هو" فصلاً، وإنْ جَعَلْناه مبتدأ فكذلك يُفيد التأكيدِ إذ يصيرُ الإسنادُ مَرَّتَيْن العشرون: ترعيفُ الأبترِ بـ أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّة بهذه الصفة، كأنه قيل: الكاملُ في هه الصفةِ الحادي والعشرون: إقبالُه على رسوله عليه السلام بالخطاب مِنْ أو السورةِ إلى آخرها.(1/5903)
سورة الكافرون
* { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }
(14/412)
قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}: "ما" في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى الذي. فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالث - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ. و"ما" أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاء. وإذا أريد بها الباري تعالى، كما في الثانيةِ والرابعةِ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ. ومَنْ مثلَ عبادتي. وقال أبو مسلم: "ما" في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي، والمقصودُ المعبودُ و"ما" في الآخيرَيْن مصدريةٌ، أي: لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ، ولا أنتم تبعدونَ مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين. فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ: أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي، والأخيرتان مصدريَّتان ولِقائل أَنْ يقولَ: لو قيل: بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ، لكان حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ "ما" على أولي العلمِ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم.
واختلف الناسُ: هل التَّكرارُ في هذه السورة للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة: هو للتوكيدِ. فقولُه {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيدٌ لقوله {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ثانياً توكيدٌ لقوله {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أولاً، ومثلُه قولُه {فَبِأَيِّ آلااءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في سورتَيْهما، و{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} و {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} وفي الحديث: "فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني" قال الشاعر:
(14/413)
---(1/5904)
4663- هَلاَّ سَأَلتَ جنودَ كِنْـ * ـدَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا
وقال آخر:
4664- يا علقمَهُ يا عَلْقَمَهُ * يا علقَمَهُ خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ
وقال آخر: * 4665- يا أقربعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ * إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وقال آخر:
4666- ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي * ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
وقال آخر:
4667- يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً *يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ
(14/414)
قالوا: والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ. وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفار وتحقيقُ الإخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً.(1/5905)
وقال جماعةٌ: ليس للتوكيد فقال الأخفش: "لا أعبد الساعةَ ما تبعدون، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ ما عَبَدْتُمْ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيدُ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِالزمان الآخر" انتهى. وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبدون بزمانٍ، هذا لا يَصِحّث. وفي الأسبابِ: أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُد آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدونَ إلهه سنةً، فنزلَتْ فيكف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه: وهو كونُ "ما" في الأوَّلَيْن بمعنى الذي، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً.وفيه نظرٌ أيضاً: مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ "ما" وقال ابن عطية: "لَمَّا كان قولُه "لا أَعْبُدُ" محتمَلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقوله {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: أبداً وما حَيِيْتُ، ثم جاء قولُه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ، كما قيل لنوح عليه السلام: "أنَّه لن يؤمِنَ مِنْ قومِك إلاَّ مَنْ قد آمَنَ" فهذا معنى الترديدِ في السورة وهو باعُ الفصاحةِ، وليس بتَكْرارٍ فقط، بل فيه ما ذكْرَتُه".
(15/1)
---(1/5906)
وقال الزمخشري: "لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ "لا" لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال، كما أنَّ "ما" لا تدخُلُ إلاَّ على مضارٍع في معنى الحال. والمعنى: لا أفعلُ في المستقبل ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتكم، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ، أي: وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سلَفَ ما عبدتُمْ فيه، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صمن في الجاهلية. فيكف تُرجَى مني في الإسلام؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ، أي: وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه. فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ. قلت: لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ. فإن قلت: فلِمَ جاء على "ما" دونَ مَنْ؟ قلت: لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل: لا أعبدُ الباطلَ، ولا تعبُدون عبادتي" انتهى. يعني بقولِه "لأن المرادَ الصفةُ" يعني أنه أريدُ بـ"ما" الوصفُ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها، واعتراضَ الشيخ عليه، والجوابَ عنه، وأصلُه في سورة النساء عند قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ }.(1/5907)
وناقشه الشيخ هنا فقال: "أمَّا حَصْرُه في قوله: "لأن "لا" لا تَدْخُل" إلى آخره. وفي قوله: "كما أن "ما" لا تَدْخُلُ" إلى آخرِه؛ فليس بصحيح، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ. وقد ذكر النحاةُ دخولَ "لا" على المضارع يُرادُ به الحالُ، ودخول "ما" على المضارع يُراد به الاستقبالُ. وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال: "وتَكونُ "لا" نفياً لقولِه يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ" وقال: "وأمَّا "ما" فهي نفيٌ لقوله: هو يفعلُ إذا كان في حال الفعل" فذكر الغالبَ فيهما. وأمَّا قولُه، في قوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في "ما عَبَدْتُمْ" فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً. وأمَّا قولُه: "ولا أنتم عابدون ما أعبدُ"، أي: وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في "ما أعبد" فلا يُفَسَّر بالماضي.
وأمَّا قولُه "وهو لم يكن" إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ، وغيرُ صحيح، لأن صلى الله عليه وسلم لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه، مُجْتنباً لأصنامِهم، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ، وهذه عبادةٌ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّه تعالى ونَبْذَ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العبادات. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال المفسِّرون: إلاَّ ليَعْرِفوِن، فسَمَّى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً" انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه.
(15/3)
---(1/5908)
ويُجابُ عن الأولِ: أنه أمرَه على الغالب فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويه فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه. وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} وقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} نحوهُ.
وأمَّا قوله: "كان مُوَحِداً مُنَزِّهاً" فمُسَلَّمٌ. وقوله: "وهذه أعظمُ العباداتِ" مُسَلَّم أيضاً. ولكن المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجوِدهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها، فقابَلَ هذا صلى الله عليه وسلم بصَلاتِه تباركَ تعالى. ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحية تَرُدُّه وهي: كان يتحنَّث، كان يتعبَّدُ، كان يصومُ، كان يطوفُ كان يَقف، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناس. وفي الجملة فالمسألةٌ خلافيةٌ. وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل: بشرعِ نوحٍ: وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى، ودلالئلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها.
(15/4)
---(1/5909)
ثم قال الشيخ: "والذي أختارُ في هذه الجملِ أنه نفي عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في "لا" أَنْ تنفي المستقبلَ، ثم عَطَفَ عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للمستقبل، على سبيل المقابلةِ. ثم قال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ، ثم عَطَفَ عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون حالاً ولا مستقبلاً. وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر. ولَمَّا قال: "لا أعبدُ ما تبعدون" فأطلق "ما" على الأصنامِ قابلَ الكلام بـ "ما" في قوله "ما أعبد" وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ فيا لانفرادِ. وهذا على مذهب مَنْ يقول: إنَّ "ما" لا تقع على آحادِ ألوي العلمِ. أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويه - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ".(1/5910)
سورة النصر
* { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }
(15/5)
قوله: {نَصْرُ اللَّهِ}: مصدرٌ مضافٌ لفاعِله، ومفعولُه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أي: نَصْرُ اللَّهِ إياك والمؤمنين. وكذلك مفعولَيْ "الفتح" ومُتَعَلَّقَهُ. والفتح، أي: فَتْحُ البلادِ عليك وعلى أمتِك. أو المقصود: إذ جاء هذان الفعلان، مِنْ غير نظرٍ إلى متعلَّقَيْهما كقوله: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وأل في الفتح عِوَضٌ مِنْ الإضافةُ، أي: وفَتْحُه، عند الكوفيين، والعائدُ محذوفٌ عند البصريين، أي: والفتحُ مِنُه، للدلالةِ على ذلك. والعاملُ في "إذا": إمَّا "جاء" وهو قولُ مكي، وإليه نحا الشيخ ونَضَرَه في مواضعَ وقد تقدَّم ذلك كما نَقَلْتُه عن مكيّ وعنه. والثاني: أنه "فَسَبِّحْ" وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفيُّ. وقد رَدَّ الشيخُ عليهما: بأنَّ ما بعد فاءِ الجواب لا يعملُ فيما قبلَها. وفيه بحقٌ تقدَّم بعضُه في سورةِ "والضُّحى".
* { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً }
قوله: {يَدْخُلُونَ} إمَّا حلاٌ إنْ كان "رَأَيْتَ" بَصَريةً وفي عبارة الزمشخري: "إنْ كانَتْ بمعنى أبَصَرْتَ أو عَرَفْتَ" وناقشه الشيخُ: بأنَّ رَأَيْتَ لا يُعْرَفُ كونُها بمعنى عَرَفْتَ. قال: "فيَحْتاج في ذلك إلى استثباتٍ. وإمَّا مفعولٌ ثانٍ إن كانت بمعنى عَلِمْتَ المتعدية لاثنين. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني: يَدْخُلون مبنياً للفاعل. وبان كثير في روايةٍ "يُدْخَلون" مبنياً للمعفول و "في دين" ظرفٌ مجازيٌّ، وهو مجازٌ فصيحٌ بليغٌ هنا.
(15/6)
قوله: {أَفْوَاجاً} حالٌ مِنْ فاعل "يَدْخُلون" قال مكي: "وقياسُه أفْوُج. إلاَّ أنَّ الضمةَ تُسْتثقلُ في الواوِ، فشَبَّهوا فَعْلاً يعني بالسكون بفَعَل يعني بالفتح، فجمعوه جَمْعَه" انتهى. أي: إنَّ فَعْلاً بالسكون قياسُه أَفْعُل كفَلْس وأَفْلُس، إلاَّ أنه اسْتُثْقِلت الضمةُ على الواو فجمعوه جَمْعَ فَعَل بالتحريك نحو: جَمَل وأَجْمال؛ لأنَّ فَعْلاً بالسُّكون على أَفعال ليس بقياس إذا كان فَعْلٌ صحيحاً نحو: فَرْخ وأفراخ، وزَنْد وأزناد، ووردّتْ منه ألفاظٌ كثيرةٌ، ومع ذلك فلم يَقيسوه، وقد قال الحوفيُّ شيئاً مِنْ هذا.
قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ، أي: مُلْتبساً بحمده، وتقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }.(1/5911)
سورة المسد
* { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }
قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ}: أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُه هذه المادةِ في سورة غافر في قوله: {إِلاَّ فِي تَبَابٍ} وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: "تَبَّتْ" دعاءٌ، و"تَبَّ" إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر:
4668- جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه * جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله {وقد تَبَّ} والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.
(15/7)
---(1/5912)
وقرأ العامة "لَهَبٍ" بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنى، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفءر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمشخري: "وهو مِنء تغييرِ الأعلامِ كقوله: "شُمْس ابن مالك" بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر:
4669- وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ * لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسش بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في "شُمْس" أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ "شُمْس" الجمع مِنْ قوله: "أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ" فلا يكونُ من التغير في شيءٍ. وكَنَى بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه،و إمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولهم: أبو الخير وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقُبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ "عبد العُزَّى" فعَدَل إلى الكُنية، وقال الزمشخري: "فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثة أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآله إلى لهبِ جهنم". انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنية أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.
وقُرئ: {يدا أبي لَهَبَ} بالواو في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري: "كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامع ولـ فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أمير مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب" ولم يَختلف القُرَّاءُ في قوله: {ذات لَهَب} أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.
* { مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }
(15/8)
---(1/5913)
قوله: {مَآ أَغْنَى}: يجوزُ في "ما" النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شء أغنى المالُ؟ وقُدِّمِ لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.
قوله: {وَمَا كَسَبَ} يجوز في "ما" هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفي، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكون المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: {وما اكْتَسَبَ}.
* { سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }
قوله: {سَيَصْلَى} العامَّةُ على فتح الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللام، أي: يَصْلَى هو بنفسِه. وأبو حيوة وابنُ مقسم وعباسٌ في اخيارِه بالضمِّ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إحاق بالضمِّ والسكون.
* { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ }
قوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}: قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْب مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإخبار بذلك. وقيل]: "وامرأتُه" عطفٌ على الضمير في "سَيَصْلى"، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. لأن الإضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبراً بملتدأ مضمرٍ، أي: هي حَمَّالةُ. وقرأ ابنُ عباس "ومُرَيَّتُهُ" و"مْرَيْتُهُ" على التصغير، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى.
(15/9)
---(1/5914)
وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل. قاله الزمشخري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل. وقي: نصبٌ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضمير في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً لـ "امرأتُه" لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإضافة، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنء حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.
وفي قوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قولان. أحدُهما: هو حقيقةُ. والثاني: أنه مجازق عن المَشْيِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس. قال الشاعر:
4670- إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ * هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
وقال آخر:
4671- مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ * ولم تَمْشِ بين الحَيِ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيخ المجازِ. وقرأ أبو قلابة {حاملة الحطبِ} على وزن فاعِلَة. وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ. وعباس {حَمَّالة للحطَبِ} بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلام زائدةٍ تقويةً للعاملن كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وأبو عمرو في راواية "وامرأتُه" قاختلاسِ الهاء دونَ إشباعٍ.
* { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }
قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ}: يجوزُ أَنْ يكونَ "في جيدِها" خبراً لـ "امرأتُه" و"حبلٌ" فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ "امرأتُه" على كونِها فاعلة. و"حبلٌ" مرفوعٌ به أيضاً، وأَنْ يكونَ خبارً مقدَّماً. و"حَبْلٌ" مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ: العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ. قال امرؤ القيس:
(15/10)
4672- وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشِ * إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّل
و{ مِّن مَّسَدٍ } صفةٌ لـ "حَبْل" والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: الِّيفُ ملطقاً. وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن. قال النابغة:
4673- مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها * له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإبل وأَوْبارِها. وأنشد:
4647- ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ
ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه.(1/5915)
سورة الإخلاص
* { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: في "هو" وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ، فإنه يُرْوى في الأسباب: أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه. وقيل: قالوا: أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديد؟ فنَزَلَتْ. وحينئذ يجوزُ أَنْ يكونَ "الله" مبتدأً، و"أَحَدٌ" خبرُه. والجملةُ خبرُ الأول. ويجوزُ أَنْ يكونَ "اللَّهُ" بدلاً، و"أحدٌ" الخبرَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ "اللَّهُ" خبراً أوََّ، و"أحدٌ" خبراً ثانياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ "أحدٌ" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أحدٌ. والثاني: أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ، والجلمةُ بعدَه خبرُ مفسِّرِةٌ.
(15/11)
---(1/5916)
وهمزةُ "أحد" بدلٌ من واوٍ، لأنَّه من الوَحْدة، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ. وقيل: منه "امرأةٌ أناة" من الوَنى وهو الفُتُورُ. وتقدَّم الفرقُ بين "أحد" هذا و"أحد" المرادِ به العمومُ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها. ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ "أحد" هذا غيرُ مقلوبةٍ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ، والمعروفُ الأولُ. وفَرَّق ثعلب بين "واحد" وبين "أحد" بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان، و"أحَد" لا يَدْخُلُه ذلك. ويقال: اللَّهُ أحدٌ، ولا يقال: زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يُقال: أصلُه وَأَحَد، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً".
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ {واللَّهُ أحدٌ} دونَ "قُلْ" وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم "أحدٌ" بغيرِ "قل هو" وقرأ الأعمش: {قل هو اللَّهُ الواحد}.
وقرأ العامَّةُ بتنوين "أحدٌ" وهو الأصلُ. وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في رواية في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
4675- عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه * ورجالٌ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر:
4676- فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ * ولا ذاكر اللَّهَ إلاَّ قليلا
* { اللَّهُ الصَّمَدُ }
قوله: {الصَّمَدُ}: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ. وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ، أي: يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو. وأنشد:
4677- ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ *بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيَّد الصَّمَدْ
وقال الآخر:
4678- عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له * خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل: الصَّمَدُ: هو الذي لا جَوْفَ له، ومنه قوله:
(15/12)
---(1/5917)
4679- شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه *عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب: تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه: "لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ" وهذا يُشْبُه ما قالوه في تفسير الهَلوع. والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلة بفائدةِ هذا الخبر. ويجوز أ،ْ يكونَ "الصَّمَدُ" صفةً. والخبرُ في الجملةِ بعده، كذا قيل: وهو ضعيفٌ، من حيث السِّياقُ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.
* { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
قوله: {كُفُواً أَحَدٌ}: في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ "يكنْ" و"أحدٌ" اسمُها و"له" متعلِّقٌ بالخبر، اي: ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له. وقد رَدَّ المبردُ على سيبويه بهذه الآية، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ، وهنا لم يَجْعَلُه خبراً مع تقدُّمِه.
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن، أحدُهما: أنَّ سيبويه لم يُحَتِّمْ لك بل جَوَّزه. والثاني: أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخيرٍ بل هو خبرٌ، ونصبُ "كُفُواً" على الحال على ما سيأتي بيانُه. وقال الزمخشري: "الكلامُ العربيُّ الفصيح أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ. وقد نَصَّ سيبويه في "كتابِه" على ذلك، فما بالُه مُقَدِّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت: هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذات الباري تعالى، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه".
(15/13)
---(1/5918)
والثاني: أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ "أحد" لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً، و"له" هو الخبر. قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِ لوقوعِه خبراً. قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمشخري ومكي: "وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا الباب وذلك أنَّ قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً لـ"كان" بل هو متعلِّقٌ بـ "كُفُواً" وقُدِم عليه. التقدير: ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ بـ"كُفُواً" وتَقَدَّم على "كُفُواً" للاهتمام به، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك.
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ "له" الخبرُ، و"كُفُواً" حالٌ مِنْ "أحد" لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمشخريِّ وجوابُه. وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون. قال سيبويه: "وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان [أحدٌ] مثلُك فيها، وليس أحدٌ فيها خبرٌ منك، إذا جعلت "فيها": مستقراً، ولم تجعَلُه على قولك: فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم. فإن جَعَلْتَه على "فيها زيدٌ قائمٌ" نَصَبْتَ فتقول: ما كان فيها أحدٌ خيراُ منك، وما كان أحدٌ خيراُ منك فيها، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ، وإذا أردْتَ أَنْ يكونض مستقرَّاً فكلما قَدّضمْته كان أحسنَ، والتقديمُ والتأخيرُ والإلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال الشاعر:
4680- ما دامَ فيهنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً
(15/14)
---(1/5919)
انتهى كلامُ سيبويه. قال الشيخ: "فأنت تَرَى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. ومعنى قوله {مستقرَّاً} أي: خبراً للمبتدأ أو لكانز فإن قلت: فقد مَثَّل بالآية. قلت: هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه:
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً
أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ "له" في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكون خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً. ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ "له أحد" بل لو تأخَّرَ "كُفُوا" وارتفع على الصفة وقد جَعَل "له" خبارً لم ينعقِدْ منه كلامٌ. بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو "كُفُواً" والمعنى: لم يكنْ أحدٌ مكافئِه" انتهى ما قاله الشيخ.
وقوله: "ولا يَشُكُّ أحدٌ" إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ. وإلاَّ فقولُه: "هذا الظرفُ ناقصٌ" ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإخبار به فائدةٌ، كالمقطوعِ عن الإضافة، ونحوِ "في دار رجلٌ" وقد نَقَل عن سيبويه الأمثلَلَ المتقدمة نحو: "ما كان فيها أحدٌ خيراً منك"، وما الفرق بين هذا وبين الآية الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويه في آخر كلامهِ: "التقديمُ والتأخيرُ والإلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ"؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء. وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبهُ ونافعٌ في رواية. وأسكنَ الفاءَ حمزةُ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة. وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً. والباقون بالهمزِ مطلقاً. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوئل البقرة في قوله: {هُزُواً
}. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس "كِفاءٌ" بالكسر والمدِّ، أي: لا مِثْلَ له. وأُنْشِدَ للنابغة:
4681- لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له * .................
(15/15)
ونافعٌ في رواية "كِفا" بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ، كأنه نَقَل حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها. والكُفْءُ: النظيرُ. وهذا كفْءٌ لك، أي: نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح.(1/5920)
* { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }
قوله: {الْفَلَقِ}: هو الصُّبْحُ. وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ، اي: مَفْلوق. وفي الحديث: "الرُّؤْيا مِثْلُ فَلَقِ الصُّبح" قال الشاعر:
4682- يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتَقِباً * أَرْعى النجومَ إلى أنْ نَوَّرَ الفَلَقُ
وقال ذو الرمة:
4683- حتى إذا ما انْجلَى عن وَجْهِه فَلَقٌ *هادِيْهِ في أُخْرَيات الليلِ مُنْتَصِبُ
وقيل: هو جُبُّ في جهنَّمَ. وقي: المطمئِنُّ من الأرض. وجمعُه فُلْقان. وقيل: كلُّ ما فُلِقَ كالحَبِّ والأرضِ عن النبات.
* { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ }
قوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}: متعلقٌ بـ "أعوذُ" والعامَّةُ على إضافة "شَرِّ" إلى "ما" وقرأ عمرو بن فائدة بتنوينه. وقال ابنُ عطية: "عمروُ بن عبيد وبعضُ المعتزلة الذي يَرَوْن أنَّ اللَّهَ لم يَخْلُقِ الشرَّ: "مِنْ شَرٍ" بالتنوين "ما خلقَ" على النفي، وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيَّةٌ على مهذبٍ باطلٍ" انتهى ولا يتعيَّن أَنْ تكونَ "ما" نافيةً، بل يجوزُ أن تكونَ موصولةً بدلاً مِنْ "شر" على حذفِ مضافٍ، أي: من شَرٍ شَرِّ ما خَلَقَ. عَمَّم أولاً [ثم خَصَّص ثانياً] وقال ابو البقاء: "وما على هذا بدلٌ مِنْ "شرّ" أو زائدةٌ. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةٌ؛ لأنَّ النافية لا يتقدَّمُ عليها ما في حَيِّزها. فلذلك لم يَجُزْ أَنْ يكونَ التقدير: ما خَلَقَ مِنْ شر، ثم هو فاسٍدُ المعنى" قلت: وهو رَدٌّ حسنٌ صناعيٌّ. ولا يقال: إنَّ "مِنْ شرّ" متعلقٌ بـ "أعوذُ" وحُذِفَ معفولُ "خَلَق" لأنه خلافُ الأصلِ. وقد أَنْحى مكيُّ على هذا القائلِ، ورَدَّه بما تقدَّم أقبحَ رَدّ [و "ما" مصدريةٌ، أو بمعنى الذي].
(15/16)
---(1/5921)
* { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }
قوله: {وَقَبَ}: وَقَبَ الليلُ: أظلم، والعذابُ: حَلَّ، والشمسُ: [غَرَبَتْ: وقيل: وَقَبَ، أي: دَخَلَ] قال الشاعر:
4684- وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكأنَّهمْ *لَحِقَتْهُمُ نارُ السَّمومِ فأُحْصدوا
والغاسِقُ قيل: الليلُ. وقيل: القمر. سُمِّي اليلُ غاسِقاً لبُرودته. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في سورة ص. واستُعيذ من الليل لِما يبيتُ فيه من الآفاتش. قال الشاعر:
4685- يا طيفَِ هندٍ لقد أَبْقَيْتَ لي أَرَقا * إذ جِئْتَنا طارقاً والليلُ قد غَسَقا
أي: أظلمَ واعْتَكَرَ. و"إذا" منصوب بـ"اعوذُ"، أي: أعوذُ باللَّهِ مِنْ هذا في وقتِ كذا.
* { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }
قوله: {النَّفَّاثَاتِ}: جمع نَفَّاثَة مثالُ مبالغةٍ. من نَفَث، أيك نَفَخَ. واخْتُلِفَ فيه فقال أبو الفضل: شَبَّه النَّفْخَ من الفمِ في الرُّقْيَةِ ولا شيءَ معه. فإذا كان بِرِيْقٍ فهو التَّفْلُ وأنشد:
4686- فإنْ يَبْرأ فلم أَنْفُثْ عليهِ * وإنْ يَفْقَدْ فَحَقَّ له الفُقُودُ
وقال الزمخشري: "نَفْخُ معه رِيْقٌ" وقرأ الحسن {النُّفَّاثات} بضم النون، وهي اسم كالنُّفَّاخَة. ويعقوب وعبدُ الله بن القاسم "النافِثات" وهي محتملةٌ لقراءةِ العامة، والحسن ايضاً وأبو الرَّبيع "النَّفِثات" دونَ ألفٍ كحاذِر وحَذِر. ونَكِّر عاسِقاً وحاسداً لأنه قد يَتَخَلَّفُ الضَّرُ فيهما. فالتنكيرُ يفيد التبعيضَ. وعَرَّفَ "النفَّثات": إمَّا للعَهْدِ كما يُرْوَى في التفسير، وإمَّا للمبالغةِ في الشَّرِّ.(1/5922)
سورة الناس
* {مَلِكِ النَّاسِ}
* {إله النَّاسِ }
(15/17)
قوله: {مَلِكِ النَّاسِ إله النَّاسِ}: يجوزُ أَنْ يكونا وصفَيْنِ لـ "ربِّ الناسِ" وأَنْ يكونا بَدَلَيْنِ، وأنْ يكونا عطفَ بيانٍ. قال الزمشخري: "فإنْ قلَتَ: مَلِكِ الناس، إلهِ الناس، ما هما مَنْ ربُّ الناس؟ قلت: عطفُ بيانٍ كقولك: سيرةُ أبي حفصٍ عمرَ الفاروقِ، بُيِّنَ بمَلِكِ الناس، ثم زِيْدَ بياناً؛ لأنه قد يُقال لغيره "رَبُّ الناسِ" كقوله: {اتَّخَذُوااْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} وقد يُقال: مَلِكُ الناس، وأمَّا إلهُ الناس فخاصٌّ لا شِرْكَةَ فيه، فَجُعِل غاية البيان" واعترض الشيخُ بأنَّ البيانَ بالجوامدِ. ويُجابُ عنه: بأنَّ هذا جارٍ مَجْرى الجوامِدِ.: وقد تقدَّم في "الرحمن الرحيم" أو الفاتحة تقريرُه.
وقال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ لِمَ قيل: "برَبِّ الناسِ" مضافاً إليهم خاصةً؟ قلت: لأنَّ الاستعاذةَ وقعَتْ مِنْ شرِّ المُوَسُوِسِ في صدور الناس فكأنه قيل: أعوذُ مِنْ شَرِّ المُوَسْوِسِ إلى الناس بربِّهم الذي يملكُ أمْرَهم" ثم قال: "فإنْ قلتَ: فهلاَّ اكتُفِي بإظهار المضافِ إليه مرةً واحدة. قلت: لأنَّ عطفَ البيانِ فكان مَظِنَّةً للإظهار".
* {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ }
قوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ}: قال الزمخشري: "اسمٌ بمعنى الوَسْوَسَةِ كالزَّلْزال بمعنى الزَّلْزَلة، وأمَّا المصدرُ فوِسْواسٌ بالكسر، كالزِّلْزلالة، والمرادُ به الشيطانُ سُمِّي بالمصدرِ كأنه وَسْوَسَةٌ في نفسه، لأنها صَنْعَتُه وشُغْلُه. أو أريد ذو الوَسْواس" انتهى. وقد مَضَى الكلامُ في أنَّ المكسورَ مصدرٌ، المفتوحَ اسمٌ في الزلزلة فليُراجَعْ.
قوله {الْخَنَّاسِ}، أي: الرَّجَّاع، لأنه إذا ذُكِر اللَّهُ تعالى خَنَسَ وهو مثالُ مبالغةٍ من الخُنوس. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ في سورةِ التكوير.
* {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ }
(15/18)
---(1/5923)
قوله: {الَّذِى يُوَسْوِسُ}: يجوز جَرُّه نعتاً وبدلاً وبياناً لجَريانه مَجْرى الجوامِد، ونصبُه ورفعُه على القطع.
* {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}
قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من "شَرِّ" بإعادة العاملِ، أي: مِنْ شَرذِ الجِنة. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ ذي الوَسواس؛ لأنَّ المُوَسْوِسَ من الجنِّ والإنس. الثالث: أنَّه حالٌ من الضمير في "يُوَسْوِسُ" أي: يُوَسْوِس حالَ كونِه مِنْ هذين الجنسَيْن. الرابع: أنه بدلٌ من "الناس" وجَعَلَ "مِنْ تَنْبييناً. وأَطْلَقَ على الجِنِّ اسمَ الناس؛ لأنهم يتحرَّكون في مُراداتهم، قاله أبو البقاء. إلاَّ أنَّ الزمخشري أبطلَ فقال بعد أَنْ حكاه: "واسْتَدَلُّوا بـ {نَفَرٌ} و {رِجَالٌ} ما أحقَّه؛ لأن الجنَّ سُمُّوا جِنَّاً لاجتنانِهم ولاناسَ ناساً لظهورِهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سُمُّوا بَشَراً. ولو كان يقع الناسُ على القبيلَيْنِ وصَحَّ وثَبَتَ لم يكن مناسِباً لفصاحةِ القرآن وبعده مِنَ التَصَنُّع، وأَجْوَدَ من أن يرادَ بالناس الناسي كقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وكما قرئ {مِنْ حيث أفاضَ الناسي} ثم بُيِّنَ بالجِنة والناس؛ لأنَّ الثَّقَلَيْن هما النوعان الموصوفانِ بنسْيان حَقِّ اللَّهِ تعالى" قلت: يعني أنه اجتُرئ بالكسرةِ عن الياء، والمرادُ اسمُ الفاعلِ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة، وأَنْشَدْتُ عليه هناك شيئاً من الشواهد.
(15/19)
---(1/5924)
الخامس: أنه بيانٌ للذي يوسوسُ، على أن الشيطان ضربان: إنسِيُّ وجنيُّ، كما قال {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} وعن أبي ذر: أنه قال لرجل: هل اسْتَعَذْتَ من شياطينِ الإنس؟ السادس: أنَّه يتعلَّق بـ "يُوَسْوِس" و"مِنْ" لابتداءِ الغاية، أي: يُوَسْوِسُ في صدورهم من جهة الجنِّ ومِنْ جهة الإنس. السابع: أنَّ "والناس" عطفٌ على "الوَسْواس" أي: مِنْ شَرِّ الوَسْواس والناس. ولا يجوزُ عطفُه على الجِنَّة؛ لأنَّ الناسَ لا يُوْسْوِسُوْنَ في صدور الناس إنما يُوَسْوِس الجنُّ، فلمَّا استحالَ المعنى حُمِل على العطف على الوَسْواس، قاله مكي وفيه بُعْدٌ كبيرٌ للَّبْس الحاصل. وقد تقدَّم أنَّ الناسَ يُوَسْوِسون أيضاً بمعنىً يليقُ بهم.
الثامن: أنَّ {مِنَ الْجِنَّةِ} حالٌ من "الناس"، أي: كائنين من القبلين، قاله أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ: أيُّ الناسِ المتقدمُ أنه صاحبُ الحالِ؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يَصِحُّ معنى الحاليةِ [في شيءٍ منها]، لا الأولُ ولا ما بعدَه. ثم قال: "وقيل: هو معطوف على الجِنَّة" يريد "والناس" الأخيرَ معطوفٌ على "الجنة" وهذا الكلامُ يَسْتدعي تقدُّمَ شيءٍ قبلَه: وهو أَنْ يكونَ "الناس" عطفاً على غير الجِنة كما قال به مكي ثم يقول: "وقيل هو معطوفٌ على "الجِنة" وفي الجملة فهو كلامٌ متسامَحٌ فيه [سامَحَنا الله] وإياه وجميعَ خلقِه بمنَّة وكَرَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين.
رَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين.
(15/20)
---(1/5925)
وهذا آخرُ ما تَيَسَّر لي من إملاءِ هذا الموضوعِ وحَصْرِ ما في هذا المجموع متوسِّلاً إليه بكلامِه متشفِّعاً لديه برسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في أن يجعلَه خالصاً لوجهِه مُوْجِباً للفوز لديه، فإنه حسبي ونِعْمَ الوكيلُ. ووافق الفراغُ منه تصنيافً وكتابة في العُشْرِ الأوسط من شهر رجبٍ الفردِ من شهورٍ سنةِ أربع وثلاثين وسبعمئة أحسنَ الله تقضِّيَها بمَنَّه وكَرَمِه. قاله وكتبه افقرُ عبيدِه إليه أحمدُ بنُ يوسفَ بنِ محمدِ مسعودٍ الشافعيُّ الحلبيُّ حامداً لله ربِّ العالمين ومُصَلِّياً على رسولِه الأمين وآلهِ وصحبه أجمعين وسلَّم.
(15/21)
---(1/5926)