قوله: {إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} قد عَرَفْتَ [ما] في "إمَّا": من كونِها حرفَ عطفٍ أولا، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و "العذابَ" و "الساعةَ" بدلانِ مِنْ قوله: {مَا يُوعَدُونَ} المنصوبةِ بـ "رَأَوْا" و "فَسَيَعْلمون" جوابُ الشرط.
و {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} يجوز أَنْ تكونَ "مَنْ" موصولةً بمعنى الذي، وتكونَ مفعولاً لـ "يَعْلَمون". ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "هو" مبتدأُ ثانٍ، و "شَرٌّ" خبرُه، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق.
* { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً }
قوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ}: في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، فلإنها سِيْقَتْ للإخبار بذلك. وقال الزمخشري: "إنها معطوفةٌ على موضعِ "فَلْيَمْدُدْ" لأنه واقعٌ موقعَ الخبر، تقديرُه: "مَنْ كان في الضلالة مَدَّ - أو يَمُدُّ - له الرحمنُ ويَزيدُ". قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ "ويَزيدُ" معطوفاً على "فَلْيَمْدُدْ" سواءً كان دعاءً أم خبراً بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت "مَنْ" موصولةً، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت "مَنْ" شرطيةً، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قولِه: "ويزيدُ اللهُ الذين اعتدَوا عدىً عاريةٌ من ضميرٍ يعود على "مَنْ" يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو "فَلْيَمْدُدْ" وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ. وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسماً لا ظرفاً تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها".
(10/162)
---(1/4018)
قلت: وقد ذكر أبو البقاء أيضاً كما ذكر الزمخشري. وقد يُجاب عمَّا قالاه: بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً. قوله: "لا بُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف" ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافاً قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة. فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ.
* { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }
قوله: {أَفَرَأَيْتَ}: عطفٌ بالفاء إيذاناً بإفادةِ التعقيبِ كأنه قيل: أَخْبَرَ أيضاً بقصة هذا الكافر عَقِيْبَ أولئك. "و "أَرَأَيْتَ" بمعنى أَخْبَرَني كما قد عَرَفْتَه. والموصولُ هو المفعول الأول، والثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} و "لأُوْتَيَنَّ" جوابُ قسمٍ مضمرٍ، والجملةُ القسميةُ كلُّها في محلِّ نصبٍ بالقول.
وقوله هنا: "وَوَلداً" وفيها {قَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً} موضعان. وفي الزخرف {إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ} وفي نوح {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} قرأ الأربعةَ الأخَوان بضم الواو وسكونِ اللام. وافقهما ابن كثير وأبو عمرو... على الذي في نوحٍ دون السورتين، والباقون وهم نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ قرءوا ذلك كلَّه بفتح الواو واللام.
فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحةٌ وهو اسمٌ مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع. وأمَّا قراءةُ الضمِّ والإسكانِ، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدَ ووُلْد، كما يقال: عَرَب وعُرْب، وعَدَمَ وعُدْم. وقيل: بل هي جمع لوَلَد نحو: أَسَد وأُسْد، وأَنْشَدوا على ذلك:
3253- ولقد رَأَيْتُ معاشراً * قد ثَمَّروا مالاً وَوُلْدا
وأنشدوا شاهداً على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر:
3254- فَلَيْتَ فلاناً كان في بَطْنِ أمِّه * وليت فلاناً كان وُلْدَ حمارِ
(10/163)
---(1/4019)
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر "ووِلْدا" بكسر الواو، وهي لغةٌ في الوَلَد، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو: القَبَض بمعنى المَقْبوض.
* { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً }
قوله: {أَطَّلَعَ}: هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل. وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجاً وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ "أم" عليها كقوله:
3255- لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإن كنتُ دارِيا * بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
واطَّلع مِنْ قولِهم: اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ، أي: ارتقى أَعْلاه. قال جرير:
3256- ........................... * لا قَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُوْرا
فـ "الغيبَ"، مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيبِ، كما زعمه بعضُهم.
* { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً }
(10/164)
---(1/4020)
قوله: {كَلاَّ}: للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ. أحدها:- وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس - أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/. والثاني: - وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم، فتكون جواباً، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظاً أو تقديراً. وقد تُسْتعمل في القسم. والثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل - أنها بمعنى حقاً. والرابع - وهو مذعبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع. الخامس: أنها صلةٌ في الكلام بمعنى "إي" كذا قيل. وفيه نظرٌ فإنَّ "إي" حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم. السادس: أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم. ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه.
وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في "كَلاَّ" هذه، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك. وسيأتي لك ان الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ} ويحكي أيضاً قراءةً بضم الكاف والتنوين، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضاً. فأمَّا قولُه: "ابن نهيك" فليس لهم ابنُ نهيك، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْيَة.
(10/165)
---(1/4021)
وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظها تقديرُه: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها، من قولِ العرب: "كَلَّ السيفُ" إذا نَبا عن الضَّرْب، وكَلَّ زيد، أي: تَعِبَ. وقيل: المعنى: كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا. والثاني: أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره: حَمَلُوا كَلاَّ، والكَلُّ أيضاً: الثَّقْل. تقول: فلان كَلَّ على لاناس، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} والثالث: أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف "كَلاَّ" وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر، فيكونُ صَرْفاً أيضاً.
قال الزمخشري: "ولقائلْ أَنْ يقول: إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي "كَلاَّ" التي للردع، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نوناً كما في قوله: "قواريراً". قال الشيخ: "وهذا ليس بجيد لأنه قال: "التي للرَّدْع" والتي للرَّدْعِ حرفٌ ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نوناً، وتشبيهُه بـ "قواريراً" ليس بجيدٍ لأن "قواريراً" اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه، فالتنوينُ ليس بدلاً مِنْ ألف بل عو تنوينُ الصَّرْف، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه: أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضاً أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ: إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم، أو على تلك اللغة".
والرابع: أنه نعتٌ لـ "آلهة" قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ، إذ ليس المعنى على ذلك. وقد يظهر له وجهٌ: أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإعياءُ والعَجْو، كأنه قيل: آلهةً كالَّيْنَ، أي: عاجِزين منقطعين، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده.
* { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
(10/166)
---(1/4022)
وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ "كُلاَّ" بضم الكافِ والتنوين. وفيها تأويلان، أحدهما: أن ينتصِبَ على الحالِ، أي: سيكفرون جميعاً. كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، أي: يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلاًّ، قاله ابن عطية.
وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ "كُلٌّ" بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه. وظاهرُ عبارةِ هؤلاس أنه لم يُقرأ بذلك إلا في "كُلاَّ" الثانية.
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب "ونُمِدُّ" مِنْ أمَدَّ. وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه:
قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} يجوز في "ما" وجهان؛ أحدهما: أَنْ تكونَ مفعولاً بها. والضميرُ في "نَرِثُه" منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه: ونَرِثُ منه ما يقةلُه. الثاني: أن تكونَ بدلاً من الضمير في "نَرِثُه" بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ، أي: نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث.
و "فَرْداً: حال: إمَّا مقدَّرةٌ نحو: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف.
والضمير في {سَيَكْفُرُونَ} يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في "يكونون" أيضاً عائدٌ عليهم فقط. {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} ثم قال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. وقيل: يعود على المشركين". ومثلُه قولُه: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في "يكونون" عائدٌ على الآلهة، و "بعبادتهم" مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في "عبادتهم" على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.
(10/167)
---(1/4023)
وقوله: "ضِدَّاً" إنما وَحَّده، وإن كان خبراً عن جَمْع، لأحدِ وجهين: إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري: "والضَّدُّ: العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ "وهم يَدٌ على مَنْ سواهم" لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ: العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال: مِنْ أضدادكم، أي: أَعْوانكم". قيل: وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير: أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل: القِرْن. وقيل: البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً }
قوله: {أَزّاً}: مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز. قال الزمخشري: "أَخَواتٌ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإزعاج". والأزُّ أيضاً: شِدّضة الصوتِ، ومنه "أَزَّ المِرْجَلُ أَزَّاً" وأَزِيْزاً: أي: غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ. وفي الحديث: "فكان له أَزِيز"، أي: للجِذْع حين فارقه النبيُّ [صلى الله] عليه وسلم.
* { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً }
قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ}: منصوبٌ بـ "سَيَكْفرون" أو بـ {يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أو بـ "نَعُدُّ" تَضَمَّن معنى المجازاة، أو بقوله: "لا يملكون" الذي بعده، أو بمضمرٍ وهو "اذْكُرْ" أو احْذَرْ. وقيل: هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ، كأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: يكون يوم يُحْشَرُ. وقيل: / تقديرُه: يوم نَحْشُرُ ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ.
(10/168)
---(1/4024)
قوله: "وَفْداً" نصبٌ على الحال، وكذلك "وِرْداً". والوَفْدُ: الجماعة الوافِدُون. يُقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً وَوُفُوداً ووِفادَةً، أي: قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ. وقال أبو البقاء: "وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب" وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلاً لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها، قال:
3257- أَخْشَى رُجَيْلاً ورُكَيْباً غادِيا
فإن قلت: لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ. فالجواب: أنَّه قال بعد قوله: "والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد" فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع.
* { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً }
والوِرْدُ: اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ، وهو في الأصلِ أيضاً مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْداً ووُرُودْاً. قال الشاعر:
3258- رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا * كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا
وقال أبو البقاء: "هو اسمٌ لجمعِ وارِد. وقيل: هو بمعنى وارِد. وقيل هو محذوفٌ مِنْ "وارِد" وهو بعيدٌ" يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل.
وقرأ الحسن والجحدريُّ "يُحْشَر المتقون، ويُساق المجرمون" على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.
* { لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً }
(10/169)
---(1/4025)
قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ}: في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم. وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ "أكلوني البراغيث" والفاعلُ "مِنْ اتَّخَذَ" لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُهْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً. قال الشيخ: "ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ الواوِ ضميراً. وقد قال الأستاذ بو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة".
قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى: {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ.
ثم قال الشيخ: "وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ. وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ".
(10/170)
---(1/4026)
والثني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: انها تعودُ على الخَلْقِ جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين- عليهم، إذ هما قِسْماه. والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين الفسمين هما الخَلْقُ كله. والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ} هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ.
وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: وإمَّا النصبُ على أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً، وفيه حينئّسٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل.
وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من "الشفاعة" على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكون الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَيَ البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو: "ما رأيت أحداً إلا زيداً". وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر:
3259- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ * ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا
أي: ولم يَنْجُ شيءٌ.
(10/171)
---(1/4027)
وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناء متصلاً وإن عاد الضميرُ في {لاَّ يَمْلِكُونَ} على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: "وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ". قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه.
* { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً }
قوله:{شَيْئاً إِدّاً}: العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ "إدَّاً" وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه. وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف، أي: شيئاً أدَّاً، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال: أدَّع الأمرُ، وأدَّني يَؤُدُّني لأدَّاً، أي: أَثْقَلني. وكان الشيخ ذكر أنَّ الأدَّ والإدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ. وقيل: هو العظيم المُنْكَر، والإدَّة: الشِّدَّة/. وعلى قوله: "وإن الإدَّ والأدَّ بمعنى واحد" ينبغي أَنْ لا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف، إلا أَنْ يريدَ أنه أراد بكونِهما بمعنى العَجَب في المعنى لا في المصدرية وعَدَمها.
* { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً }
قوله تعالى: {تَكَادُ}: قرأ نافع والكسائي بالياءِ من تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهما واضحتان إذ التأنيثُ مجازِيٌّ، وكذلك في سورة الشورى.
(10/172)
---(1/4028)
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ وحمزةَ "يَنفَطِرْنَ" مضارع انْفَطَر. والباقون "يتفطَّرْن" مضارع تَفَطَّرَ بالتشديدِ في هذه السورة. وأمَّا التي في الشورى فقرأها حمزة وابنُ عامرٍ بالتاء والياء وتشديد الطاء والباقون على أصولِهم في هذه السورة. فتلَخَّصَ من ذلك أن أبا عرموٍ وأبا بكر يقرآن بالتاء والنون في السورتين، وأن نافعاً وابن كثير والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم يقرؤون بالتاء والياء وتشديد الطاء فيهما، وانَّ حمزة وابن عامر في هذه السورةِ بالتاء والنون، وفي الشورى بالتاء والياء وتشديد الطاء.
فالانفطارِ مِنْ "فَطَرَه" إذا شَقَّه، والتفطُّر مِنْ طفطَّره" إذا شَقَّقَه، وكَرَّر فيه الفعلَ. قال أبو البقاء: "وهو هنا أَشْبَهُ بالمعنى". أي: التشديد. و "يَتَفَطَّرْنَ" في محلِّ نصب خبراً لـ "تكادُ" وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة وأنشد:
3260- كادَتْ وكِدْتُ وتلك خيرُ إرادةٍ * لو عادَ مِنْ زمنِ الصَّبابةِ ما مَضَى
قوله: "هَدَّاً" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أي: مَهْدُودَةً وذلك على أن يكونَ هذا المصدرُ مِنْ هدَّ زيدٌ الحائطَ يَهُدُّه هَدَّاً، أي: هَدَمه. والثاني: وهو قولُ أبي جعفر أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ لمَّا كان في معناه لأنَّ الخُرورَ السُّقوطُ والهَدْمُ، وهذا على أن يكون مِنْ هَدَّ الحائطُ يَهِدُّ، أي: انهدمَ، فيكون لازماً. والثالث: أني كونَ مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشريُّ: "أي: لأنَّها تُهَدُّ".
* { أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً }
(10/173)
---(1/4029)
قوله: {أَن دَعَوْا}: في محلِّه خمسةُ اوجه، أحدها: أنه في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجله. قاله أبو البقاء والحوفي، ولم يُبَيِّنا: ما العاملُ فيه؟ ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ "تكاد" أو "تَحِزُّ" أو "هَدَّاً" أي: تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا، ولكنَّ شَرْطَ النصبِ فيها مفقودٌ وهو اتِّحادُ الفاعلِ في المفعولِ له والعاملِ فيه، فإن عَنَيا أنه على إسقاط اللامِ - وسقوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مع أنْ - فقريبٌ. وقال الزمخشري: "وأَنْ يكونَ منصوباً بتقديرِ سقوطِ اللام وأفضاءِ الفعلِ، أي: هدَّاً لأَنْ دَعَوْا، عَلَّلَ الخرورَ بالهدِّ، والهدِّ بدعاءِ الوَلَدِ للرحمن". فهذا تصريحٌ منه بأنَّه على إسقاطِ الخافِضِ، وليس مفعولاً له صريحاً.
الوجه الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بعد إسقاطِ الخافض، كما هو مذهبُ الخليلِ والكسائي.
والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في "مِنْه" كقولِه:
3261- على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً * على جودِهِ لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
بجر "حاتم" الأخير بدلاً من الهاء في "جودِه". قال الشيخ: "وهو بعيدٌ لكثرةِ الفصلِ بين البدلِ والمبدلِ منه بجملتين".
الوجه الرابع: أَنْ يكونَ مرفوعاً بـ "هَدَّاً". قال الزمخشري أي: عَدَّها دعاءُ الولدِ للرحمن". قال الشيخ: "وفيه بُعْدٌ لأنَّ الظاهرَ في "هَدَّاً" أن يكونَ مصدراً توكيدياً، والمصدرُ التوكيديُّ لا يعملُ، ولو فَرَضْناه غيرَ توكيديّ لم يَعْمَل بقياسٍ إلا إنْ كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو: "ضَرْباً زيداً" و "أضَرْباً زيداً" على خلافٍ فيه. وأمَّا إنْ كان خبراً، كما قدَّره الزمخشري "أي: عَدَّها دعاءُ الوَلَدِ للرحمن" فلا يَنْقاس، بل ما جاءَ من ذلك هو نادرٌ كقولِ امرِئ القيس:
3262- وقُوفاً بها صَحْبِيْ عليَّ مطيَّهم * يقولون: لا تَهْلِكَ أَسَىً وتجمَّلِ
أي: وقف صحبي.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: المٌوْجِبُ لذلك دعاؤهم، كما قَدَّره أبو البقاء.
(10/174)(1/4030)
---
و "دَعا" يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويجوز جَرَّ ثانيهما بالباءِ. قال الشاعر:
3263- دَعَتْنِي أخاها أمُّ عمروٍ ولم أكنْ * أخاها ولم أَرْضَعْ بلَبانِ
دَهَتْني أخاها بعد ما كان بينَنا * من الفعلِ ما لا يَفْعَلُ الأَخَوانِ
وقول الآخر:
3264- ألا رُبَّ من يُدْعَى نَصيحاً وإنْ يَغِبْ * تَجِدْه بغَيْبٍ منكَ غيرَ نَصِيْحِ
وأوَّلُهما في الآية محذوفٌ. قال الزمخشري: "طلباً للعمومِ والإحاطة بكلِّ ما يُدْعَى له ولداً. ويجوز أن يكونَ مِنْ "دعا" بمعنى نَسَبَ الذي مُطاوِعُه ما في قوله عليه السلام "مَنِ ادَّعَى إلى غير مَوالِيه" وقول الشاعر:
3265- إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِيْ لأَبٍ * عنه ولا هو بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا
أي: لا نَنْتَسِبُ إليه.
* { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }
و {يَنبَغِي}: مضارع انْبَغَى. وانْبَغَى مطاوعٌ لبَغَى، أي: طَلَبَ، و {أَن يَتَّخِذَ} فاعلُه. وقد عَدَّ ابن مالك "يَنْبَغي" في الأفعالِ التي لا تَتَصَرَّف. وهو مردودٌ عليه، فإنه قد سُمِعَ فيه في الماضي قالوا: انْبَغَى.
* { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْداً }
قوله: {مَن فِي السَّمَاوَاتِ}: يجوز في "مَنْ" أن تكونَ نكرةً موصوفة، وصفتُها الجارُّ بعدها. ولم يذكر أبو البقاء غيرَ ذلك، وكذلك الزمخشري. إلا أنَّ ظاهرَ عبارتِه يقتضي أنه لا يجوز / غيرُ ذلك، فإنه قال: "مَنْ موصوفةٌ؛ فإنها وقعَتْ بعد كل نكرةٍ وقوعَها بعد "رُبَّ" في قولِه:
3266- رُبَّ مَنْ أنضجْتُ غيظاً صدرَه * ....................................
انتهى. ويجوز أن تكونَ موصولةً. قال الشيخ: "أي: ما كلُّ الذي في السموات، و "كُلٌّ" تدخلُ على "الذي" لأنها تأتي للجنسِ كقولِه تعالى: {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} ونحوه:
(10/175)
---(1/4031)
3267- وكلُّ الذي حَمَّلْتني أَتَحَمَّلُ * ..................................
يعني أنَّه لا بدَّ مِنْ تأويلِ الموصول بالعموم حتى تَصِحَّ إضافةُ "كل" إليه، ومتى أُريد به معهودٌ بعينِه شَخَص واستحال إضافةُ "كل" إليه.
و {آتِي الرَّحْمَانِ} خبرُ "كلُّ" جُعِل مفرداً حَمْلاً على لفظِها ولو جُمع لجاز وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعِ أنها متى أُضيفت لمعفرةٍ جاز الوجهان. وقد تكلَّم السهيليُّ في ذلك فقال: "كُلٌّ" إذا ابْتُدِئَتْ، وكانتْ مضافةً لفظاً - يعني لمعرفةٍ- فلا يَحْسُنُ إلا إفرادُ الخبرِ حَمْلاً على المعنى. تقول: كلُّكم ذاهبٌ، أي: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، هكذا هذه المسألةُ في القرآنِ والحديثِ والكلامِ الفصيح. فإنْ قلت: في قولِه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد. تقول: "القومُ ذاهبون" ولا تقولُ: ذاهبٌ، وإن كان لفظُ "القوم" لفظَ المفردِ. وإنما حَسُنَ "كُلُّكم ذاهب" لأنهم يقولون: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، فكان الإفرادُ مراعاةً لهذا المعنى".
وقال أبو البقاء: "وَوُحِّدَ "آتِيْ" حَمْلاً على لفظ "كل" وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها". قلت: قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا "وكلٌّ" مقطوعةٌ عن الإضافة نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم.
والجمهورُ على إضافة "آتِي" إلى "الرحمن". وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ "الرحمن".
وانتصب "عَبْداً" على الحال.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً }
(10/176)
---(1/4032)
قوله: {وُدّاً}: العامَّةُ على ضمِّ الواوِ. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن جيش بكسرِها، فَيُحتمل أَنْ يكونَ المفتوحُ مصدراً، والمضمومُ والمكسورُ اسمين.
* { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً }
قوله: {بِلِسَانِكَ}: يجوز أن يكونَ متعلِّقاًَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. واللِّسان هنا: اللغةُ، أي: نَزَّلناه كائِناً بلسانِكَ. وقيل: هي بمعنى على، وهذا لا حاجةَ إليه بل لا يظهرُ له معنى.
و "لُدَّاً" جمع أَلَدّ" وهو الشديدُ الخصومةِ كالحُمْر جمعَ أَحْمر.
* { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً }
وقرأ الناسُ "تُحِسُّ" بضمِّ التاء وكسرِ الحاء مِنْ أَحَسَّ. وقرأ أبو حيوةَ وأبو جعفرٍ وابن أبي عبلة "تَحُسُّ" بفتح التاء وضم الحاء. وقرأ بعضّثهم "تَحِسُّ" بالفتح والكسر، من حَسَّه، أي: شَعَرَ به، ومنه "الحواسُّ الخَمس".
و "منهم" حالٌ مِنْ "أحد" إذ هو في الأصلِ صفةٌ له، و "مِنْ أحدٍ" مفعولٌ زِيْدَتْ فيه "مِنْ".
وقرأ حنظلةُ "تُسْمَعُ" مضمومَ التاء، مفتوحَ الميمِ مبنياً للمفعولِ، و "رِكْزاً" مفعولٌ على كلتا القراءتين إلا أنه مفعولٌ ثانٍ في القراءة الشاذة. والرِّكْزُ الصوت الخفي دونَ نطقٍ بحروفٍ ولا فمٍ، ومنه "رَكَزَ الرمحَ"، أي: غَيَّبَ طَرَفَه في الأرضِ وأَخفاه، ومنه الرِّكازُ، وهو المال المدفونُ لخفائِه واستتارِه. وأنشدوا:
3268- فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنيسِ فَرَاعَها * عن ظهر غَيْبٍ، والأَنِيْسُ سَقامُها(1/4033)
سورة طه
* { طه }
(10/177)
قد تقدَّم الكلامُ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أولَ هذا الموضوعِ، و"طه" مِنْ ذاك، هذا هو الصحيح. وقيل: إنَّ معنى "طه" يا رجلُ في لغةِ عَك، وقيل: عُكْل، وقيل: هي لغة يمانية. وحكى الكلبي أنك لو قلتَ في عَكّ: يا رجلُ، لم يُجِبْ حتى تقولَ: طه.
وقال الطبري: "طه في عَكّ بمعنى: يا رجلُ"، وأنشدَ قولَ شاعرهم:
3269ـ دَعَوْتُ بِطهَ في القتالِ فلم يُجِبْ * فَخِفْتُ عليهِ أَنْ يكونَ مُوائِلا
وقول آخر:
3270ـ إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ * لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ
قال الزمخشري: "وأثرُ الصَّنْعَةِ ظاهرٌ في البيت المستشهدِ به" فذكره، وقال السدي: "معناه: يا فلانُ". وقال الزمخشري أيضاً: "ولعل عَكَّا تَصَرَّفوا في "يا هذا"، كأنهم في لغتهم قالبون الياءَ طاءً، فقالوا: في يا: طا، واختصروا "هذا" فاقتصورا على "ها". يعني فكانه قيل في الآية الكريمة: يا هذا. وفيه بُعدٌ كبيرٌ.
قال الشيخ: "ثم تَخَرَّص وحَزَرَ على عَك ما لم يَقُلْه نحويٌّ: وهو أنهم يقلبون يا التي للنداء طاءً، ويحذفون اسم الإِشارة ويقتصرون منه على "ها" التي للتنبيه". قلت: وهذا وإن كان قريباً مما قاله عنه إلاَّ أنه أنحى عليه في عبارته بقوله "تَخَرَّص".
وقيل: "طه" أصلُه طَأْها بهمزة "طَأْ" أمراً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، و"ها" ضميرُ مفعولٍ يعودُ على الأرض، ثم أبدل الهمزَة لسكونها ألفاً، ولم يَحْذِفْها في الأمرِ نظراً إلى أصلها أي: طَأ الأرضَ بقدمَيْكَ. وقد جاء في التفسير: "أنه قام حتى تَوَرَّمَتْ قدماه".
(10/178)
---(1/4034)
وقرأ الحسنُ وعكرمةُ وأبو حنيفةَ وورشٌ في اختياره/ بإسقاطِ الألفِ بعد الطاء، وهاءٍ ساكنة. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ الأصلَ "طَأْ" بالهمز أمراً أيضاً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، ثم أبدلَ الهمزةَ هاءً كإبدالهم لها في "هَرَقْتُ" و"هَرَحْتُ" و"هَبَرْتُ". والأصلُ: أَرَقْتُ وأَرَحْتُ وأَبَرْت. والثاني: أنه أبدل الهمزةَ ألفاً، كأنه أَخَذه مِنْ وَطِي يَطا بالبدل كقوله:
3271ـ .................... * ........... لا هَنَاكِ المَرْتَعُ
ثم حَذَفَ الألفَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ وتناسِياً لأصل الهمز ثم ألحق هاءَ السكتِ، وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وقد تقدَّم في أولِ يونس الكلامُ على إمالةِ طا وها فأغنى عن أعادتِه هنا.
* { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }
قوله: {أَنَزَلْنَا}: هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحةُ "ما نُزِّلَ" مبنياً للمفعول، و"القرآنُ" رُفِعَ لقيام مَقامَ فاعلِه.
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً إِنْ جُعِلت "طه" تعديداً لأسماء الحروفِ، ويجوز أن تكونَ خبراً لـ طه إنْ جَعَلْتَها أسماً للسورة ويكون القرآنُ ظاهراً واقعاً موقعَ المضمرِ؛ لأنَّ طه قرآنٌ أيضاً، ويجوز أن تكونَ جوابَ قسمٍ، إنْ جَعَلْتَ طه مُقْسَماً به، وقد تقدَّم تفصيلُ القول في هذا.
* { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى }
(10/179)
---(1/4035)
قوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً}: في نصبه أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ مفعولاً من أجله. والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال، وكذلك "تَشْقَى" علةٌ له أيضاً، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية، والثاني جاز قط اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. هذا كلام الزمخشري، ثم قال: "فإن قلتَ: "هل يجوزُ أن تقولَ: ما أَنْزَلْنا، أن تَشقى كقوله {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ}؟ قلت: بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} وأما النصبةُ في "تَذْكِرةً" فهي كالتي في "ضَرَبْت زيداً" لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها".
قلت: قد منع أبو البقاء أن تكونَ "تَذْكرةً" مفعولاً له لأَنْزَلْنا المذكورةِ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو "لِتَشْقَى" فلا تتعدَى إلى آخرَ مِنْ جنسِه. وهذا المنعُ ليس بشيءٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئاً واحداً، إلاَّ بالبدلية أو العطف.
الثاني: أن تكونَ "تذكرة" بدلاً مِنْ محلِّ "لتَشْقَى" وهو رأي الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، واستبعده أبو جعفر، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ بشقاءٍ. وهو ردذٌّ واضحٌ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال: "فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ "تذكرةً" بدلاً مِنْ محلِّ "لِتشْقى"؟ قلت: لا؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي "إلاَّ" فيه بمعنى "لكن".
(10/180)
---(1/4036)
قال الشيخُ: "يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ "تذكرةً" نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ، والنصبةُ التي تكون في "لِتشقى" بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ. والذي نقول: إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه". قلت: ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردَّاً على الزجاج، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك؟
الثالث: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء المنقطع أي: لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة. الخامس: أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: إلاَّ مُذَكِّراً. السادس: أنه بدلٌ من "القرآن"، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ، قاله الحوفي. السابع: أنه مفعولٌ له أيضاً، ولكن العاملَ فيه "لِتَشْقَى" ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ: "إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ "تذكرةً" حالاً ومفولاً له" انتهى.
(10/181)
---(1/4037)
فإنْ قلتَ: مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أنَّ العاملَ فيه "لِتَشْقَى"؟ مال المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال؟ فالجوابُ أنَّ هذ الوجهَ قد تقدَّم له في قولِه: "وكلُّ واحدٍ مِنْ "لتَشْقَى" و"تذكرةً" علةٌ للفعل". وأيضاً فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ "لِتَشْقَى" على "تذكرةً". إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ "لِتَشْقَى" في "تذكرةً" فقال: "ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها "لِتَشْقى" لفساد المعنى" وجوابُه ما تقدَّم. ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً. قال الزمخشري: "والشقاءُ يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: "أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر" و"أشقى مِنْ رائض مُهْر".
و{لِّمَن يَخْشَى} متصلٌ بـ"تذكرةً". وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعاً، ويجوز أني كونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"تذكرةً".
* { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }
قوله: {تَنزِيلاً}: في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ بدلاً مِنْ "تذكرةً" إذ جُعِل حالاً لا إذا كان مفعولاً [له] لأنَّ الشيءَ لا يعَلَّلُ بنفسِه. قلت: لأنه يصيرُ التقديرُ: ما أنزَلْنا القرآنَ إلاَّ للتنزيل. الثاني: أن ينتصبَ بـ"نزَّل مضمراً. الثالث: أن ينتصبَ بـ"أَنْزَلْنا" لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً: أنزَلْناه تذكرةً. الرابع: أن ينتصبَ على المدحِ والاختصاصِ.
الخامس: أن ينتصبَ بـ"يَخْشَى" مفعولاً به أي: أنزله للتذكرةِ لمَنْ يخشى تنزيلَ الله، وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن.
قال الشيخُ: ـ ولم يُنْصِفْه ـ "والأحسنُ ما قدَّمانه أولاً من أنه منصوبٌ بـ"نَزَّل" مضمرةً. وما ذكره الزمخشري مِنْ نصبه على غيره فمتكلَّفٌ: أمَّا الأولُ ففيه جَعْلُ تذكرةً وتنزيلاً حالين، وهما مصدران. وجَعْلُ المصدرِ/ حالاً لا ينقاسُ.
(10/182)
---(1/4038)
وأيضاً فمدلولُ "تذكرةً" ليس مدلولُ "تنزيلَ"، ولا "تنزيلاً" بعضُ تذكرة. فإن كان بدلاً فيكونُ بدلَ اشتمالٍ على مذهبِ مَنْ يرى أن الثاني مشتملٌ على الأولِ؛ لأنَّ التنزيلَ مشتملٌ على التذكرة وغيرِها. وأمَّا قولُه: "لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرة: أَنْزَلْناه تذكرةً" فليس كذلك لأنَّ معنى الحصرِ يَفوت في قولِه أنزلناه تذكرةً. وأمَّا نصبُه على المدحِ فبعيدٌ. وأمَّا نصبُه بـ"يَخْشى" ففي غاية البُعْدِ لأنَّ "يخشى" رأسُ آيةٍ وفاصلٌ، فلا يناسبُ أن يكونَ "تنزيلاً" منصوباً بـ"يَخْشى"، وقوله فيه "وهو حسنٌ وإعرابٌ بيِّنٌ" عُجمةٌ وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة".
قلت: ويَكْفيه ردُّه الشيءَ الواضحَ مِنْ غير دليل، ونسبةُ هذا الرجلِ إلى عدمِ الفصاحةِ ووجودِ العُجْمة.
قوله: {مِّمَّنْ خَلَق} يجوز في "مِنْ" أن تتعلق بـ:تنزيلاً"، وأن تتعلقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"تنزيلاً". وفي "خَلَق" التفاتٌ مِنْ تَكَلُّمٍ في قوله "أَنْزَلْنا" إلى الغَيْبة. وجوَّز الزمخشري أن يكونَ "ما أنزَلْنا" حكايةً لكلامِ جبريل وبعضِ الملائكة فلا التفاتَ على هذا.
وقوله: {الْعُلَى} جمع عُلْيا نحو: دنيا ودُنا. ونظيرُه في الصحيح كُبْرى وكُبَر، وفُضْلى وفُضَل.
* { الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
قوله: {الرَّحْمَانُ}: العامَّةُ على رفعهِ، وفيه أوجهٌ، أحدُهما: أنه بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في "خَلَق". ذكره ابنُ عطية. وردَّه الشيخُ بأن البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، ولو حَلَّ هنا مَحَلَّه لم يَجُزْ لخلوِّ الجملةِ الموصولِ بها مِنْ رابطٍ يربطُها به. الثاني: أن يرتفعَ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هو الرحمن. الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ مشاراً بلامِه إلى مَنْ خَلَقَ، والجملةُ بعده خبرُه.
(10/183)
---(1/4039)
وقرأ جناح بن حبيش "الرحمنِ" مجروراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من الموصولِ. لا يقال إنه يؤدي إلى البدلِ بالمشتق وهو قليلٌ؛ لأنَّ الرحمنَ جرى مَجْرى الجوامدِ الكثرة إيلائِه العواملَ. والثاني: أن يكونَ صفةً للموصول أيضاً.
قال الشيخ: "ومذهبُ الكوفيين أنَّ الأسماءَ النواقصَ كـ"مَنْ" و"ما" لا يُوصَف منها إلاَّ "الذي" وحدَه، فعلى مذهبِهم لا يجوز أن يكونَ صفةً". قال ذلك كالرادِّ على الزمخشري.
والجملةُ مِنْ قولِه {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خبرٌ لقولِه "الرحمنُ" على القول بأنه مبتدأٌ، أو خبرٌ مبتدأ مضمرٍ إنْ قيل: إنه مرفوعٌ على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءةِ مَنْ جَرَّه.
وفاعلُ "استوى" ضميرٌ بعودُ على الرحمنِ، وقيل: بل فاعلُه "ما" الموصولةُ" بعده أي: استوى الذي له في السموات، قال أبو البقاء: "ويقال بعضُ الغلاةِ: "ما" فاعلُ "استوى". وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل، إذ يبقى قولُه {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ} كلاماً تاماً ومنه هرب". قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباس، وأنه كان يقف على لفظ "العرش"، ثم يبتدِىءُ "استوى له ما في السموات" وهذا لا يَصِحُّ عنه.
* { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }
قوله: {الثَّرَى}: هو الترابُ النديُّ، ولامُه ياءٌ بدليل تثنية على ثَرَيَيْن، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً. والثَّرى يستعمل في انقطاعِ المودة. قال جرير:
3272ـ فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى * فإنَّ الذي بيني ونبينَكُمُ مُثْرِي
والثَّراءُ بالمدِّ: كثرةُ المالِ قال:
3273ـ أَماوِيَّ ما يُغْني الثراءُ عن الفتى * إذا حَشَرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
وما أحسنَ قولَ ابنِ دريد:
3274ـ يوماَ تصيرُ إلى الثَّرى * ويفوزُ غيرُك بالثَّراءِ
فجمع في هذه القصيدةِ بين الممدودِ والمقصورِ باخلاف معنىً.
(10/184)
---(1/4040)
* { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }
قوله: {وَأَخْفَى}: جَوَّزوا فيه وجهين، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيل، أي: وأخْفَى من السِّر. والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ أي: وأَخْفى اللهُ عن عبادهِ غيبَه كقولِه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً
}.
* { اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى }
والجلالةُ: إمَّا متبدأٌ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هو الله. "والحُسْنى" تأنيثُ الاحسن. وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمعَ التكسيرِ في غير العقلاء يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة الواحدة.
* { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوااْ إِنِّيا آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيا آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى }
قوله: {إِذْ رَأَى}: يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالحديث وهو الظاهرُ. ويجوز أن ينتصِبَ بـ"اذكر" مقدَّراً، كما قاله أبو البقاء، أو بمحذوفٍ بعدَه أي: إذ رأى ناراً كان كيتَ وكيتَ، كما قاله الزمخشريُّ.
و"هل" على بابها مِنْ كونِها استفاهمَ تقريرٍ، وقيل: بمعنى قد، وقيل: بمعنى النفي. وقرأ "لأهلِهُ امكثُوا" بضم الهاء حمزة وقد تقدم أنه الأصلُ وهو لغةُ الحجاز، وقال أبو البقاء: "إن الضمَّ للإِتباع".
قوله: {آنَسْتُ} أي: أبصرْتُ. والإِيناسُ: الإِبصارُ البيِّنُ، ومنه إنسانُ العينِ؛ لأنه يُبْصَر به الأشياءُ، وقيل: هو الوِجْدان، وقيل: الإِحساسُ فهو أعمُّ من الإِبصار، وأنشدوا للحارث بن حِلِّزو:
3275ـ آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَها القُناصُ * عَصْراً وقد دنا الإِمْساءُ
(10/185)
---(1/4041)
والقَبَسُ: الجَذْوَةُ من النار، وهي الشُّعْلةُ في رأسِ عُوْدٍ أو قَصَبةٍ ونحوِهما. وهو فَعَلٌ بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَضِ بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض. ويقال: أَقْبَسْتُ الرجلَ علماً وقَبَسْتُه ناراً، ففرقوا بينهما، هذا قولُ المبردِ. وقال الكسائيُّ: إن فَعَلَ وأَفْعَلَ يُقالان في المعنيين، فيقال: قَبَسْتُه ناراً وعلماً، وأَقْبَسْته أيضاً عِلْماً وناراً.
وقوله {مِّنْهَا} يجوز أَنْ يتعلق/ بـ "آتِيكم" أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ قَبَس. وأمال بعضُهم ألفَ "وهدى" وقفاً. والجيدُ أَنْ لا تُمالَ لأنَّ الأشهر أنها بدلٌ من التنوين.
* { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يامُوسَى }
قوله: {نُودِيَ}: القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ موسى، وقيل: ضميرُ المصدرِ أي: نُودي النداء. وهو ضعيفٌ، ومنعوا أن يكونَ القائمُ مَقامه الجملةَ مِنْ "يا موسى"؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونَ فاعلاً.
* { إِنِّيا أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }
قوله: {إِنِّيا}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح، على تقديرٍ الباءِ بأني؛ لأنَّ النداءَ يُوْصَلُ بها تقول: نادَيْتُه بكذا. قال الشاعر: ـ أنشده الفارسيُّ ـ
3276ـ نادَيْتُ باسمِ ربعيةَ بنِ مُكَدَّمٍ * إنَّ المُنَوَّهَ باسمِه المَوْثُوْقُ
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكون بمعنى لأجْلِ. وليس بظاهر. والباقون بالكسرِ: إمَّا على إضمارِ القولِ كما هو رأيُ البصريين، وإمَّا لأنَّ النداءَ في معنى القولِ عند الكوفيين.
وقوله: {أَنَاْ} يجوزُ أن يكونَ مبتدأ، وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّ". ويجوزُ أن يكونَ توكيداً للمضيرِ المنصوب، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً.
(10/186)
---(1/4042)
قوله: {طُوًى} قرأ الكوفيون وبنُ عامر "طُوىً" بضمِّ الطاءِ والتنوين. والباقون بضمِّها من غيرِ تنوين. وقرأ الحسنُ والأعمش وأبو حيوةَ وابن محيصن بكسرٍ الطاءِ منوَّناً. وابو زيدٍ عن أبي عمروٍ بكسرِها غيرَ منونٍ.
فمَنْ ضَمَّ ونَوَّنَ فإنه صَرَفَه لأنَّه أَوَّله بالمكان. ومَنء مَنَعه فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه مَنَعه للتأنيث باعتبار البُقْعَةِ والعَلَمِيَّة. الثاني: أنه مَنَعه للعَدْل إلى فُعَل، وإن لم يُعْرَفِ اللفظُ المعدولُ عنه، وجعله كعُمَر وزُفَر. والثالث: أنه اسمٌ أعجمي فَمَنْعُه للعَلَمِيَّة والعُجْمة.
ومَنْ كَسَر ولم يُنَوِّن فباعتبارِ البُقْعة أيضاً. فإن كان اسماً فهو نظيرُ عِنَب، وإن كان صفةً فهو نظير عِدَى وسِوَى. ومَنْ نَوَّنَه فباعتبار المكان. وعن الحسنِ البَصْريِّ أنه بمعنى الثِّنى بالكسرِ والقَصْر، والثِّنى: المكررُ مرتين، فيكون معنى هذه القراءة أنه ظهر مرتين، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ "المقدَّس" لأنه بمعناه كأنه قيل: المقدَّس مرتين، من التقديس.
وقرأ عيسى بن عمر والضحَّاك "طاوِيْ اذهَبْ".
و"طُوَى": إمَّا بدلٌ من الوادي، أو عطفُ بيانٍ له، أو مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أو منصوبٌ على إضمار أعني.
* { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }
(10/187)
---(1/4043)
قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ}: قرأ حمزةُ في آخرين "وأنَّا اخترناك" بفتحِ الهمزة بضمير المتكلمِ المعظمِ نفسَه. وقرأ السلميُّ والأعمش وابن هرمز كذلك، إلاَّ أنهم كسروا الهمزةَ. والباقون "وأنا اخْتَرْتُك" بضميرِ المتكلم وحدَه. وقرأ أُبَيٌّ "وأني اخترتك" بفتح الهمزة. فأمَّا قراءةُ حمزة فعطفٌ على قوله {إِنِّيا أَنَاْ رَبُّكَ}، وذلك أنه بفتح الهمزة هناك، ففعل ذلك لَمَّا عطف غيرَها عليها. ومَنْ كسرها فلأنه يقرأ "إنِّي أنا ربك" بالكسر. وقراءة أُبَيّ كقراءةِ حمزة بالنسبة للعطف. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ الفتحُ على تقديرِ: ولأنَّا اخترناك فاستمع، فعلَّقه باستمع. والأولُ أَوْلَى. ومفعولُ "اخترتك" الثاني محذوف أي: اخترتك مِنْ قومك.
قوله {لِمَا يُوحَى} الظاهرُ تعلُّقه بـ"استمِعْ". ويجوزُ أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول على حَدِّ قولِه تعالى: {رَدِفَ لَكُم}. وجَوَّز الزمخشريُّ وغيرُه أن تكونَ المسألة من باب التنازع بين "اخْتَرْتُك" وبين "استمع" كأنه قيل: اخترتُك لِما يوحى فاستمع لِما يوحى. قال الزمخشري: "فَعَلَّق اللامَ بـ"استمعْ" أو بـ"اخترتُك".
وقد رَدَّ الشيخُ هذا بأنْ قال: "ولا يجوزُ التعليقُ بـ"اخترتك" لأنَّه مِنْ بابِ الإِعمال، يجب ـ أو يُختار ـ إعادةُ الضميرِ مع الثاني فكان يكونُ: فاستمعْ له لِما يوحى، فَدَلَّ على أنه من باب إعمال الثاني". قلت: الزمخشريُّ عنى التعليقَ المعنويَّ من حيث الصلاحيةُ، وأما تقديرُ الصناعةِ فلم يَعْنِه.
و"ما" يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي أي: فاستمعْ للوحيِ أو للذي يُوْحى.
* { إِنَّنِيا أَنَا اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِيا * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى }
(10/188)
---(1/4044)
قوله: {لِذِكْرِيا}: يجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه ِأي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأنِّي أذكرُك. ويجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي:لأِنْ تذكرَني. وقيل: معناه ذِكْرُ الصلاةِ بعد نِسْيانِها كقولِه عليه السلام: "مَنْ نام عن صلاةٍ أو نَسِيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها". قال الزمخشري: "وكان حقٌّ العبارة: "لذكرها". ثم قال: "ومَنْ يَتَمَحَّلْ له أن يقول: إذا ذَكَر الصلاة فقد ذكر [اللهَ]، أو على حذفِ مضاف أي: لذكر صلاتي، أو لأنَّ الذِّكْرَ والنيسانَ من الله تعالى في الحقيقة".
وقرأ أبو رجاء والسُّلمي "للذكرى" بلام التعريف وألفِ التأنيث. وبعضهم "لذكرى" منكرةً، وبعضهم "للذكر" بالتعريف والتذكير.
قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} العامُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ "أُخْفيها". وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في "اُخْفيها" للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبّيّ: أكاد أُخْفيهامِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال:
3277ـ أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها * ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني: أنَّ "كاد" زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل:
3278ـ سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه * فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر:
(10/189)
---(1/4045)
3279ـ وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني * وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.
والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه.
والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرمجي:
3280ـ هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني * تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على "أكادُ"، والابتداء بـ"أُخْفيها"، واستحسنه أبو جعفر.
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ "أَخْفيها" بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً., وحُكي عن أبي عبيد أنَّ "أَخْفى" من الأضدادِ يكون مبعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس:
3281ـ خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما * خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
وقول الآخر:
3282ـ فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ * وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ
قوله: {لِتُجْزَى} هذه لامٌ كي، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي: لَتُجْزَيضنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم. وتتعلَّق هذه اللامُ بـ"اُخْفيها". وجعلها بعضُهم متعلقةً بـ"آتيةٌ" وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ "أكاد أُخْفيها" معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز.
وقال أبو البقاء: "وقيل بـ"آتِيَةٌ"، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذاناً بانفصالِها عن أخفيها".
(10/190)
---(1/4046)
قوله: {بِمَا تَسْعَى} متعلقٌ بـ"تُجْزَى". و"ما" يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً، ولا بدَّ من مضاف أي: تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه.
* { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى }
قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا}: {مَن لاَّ يُؤْمِنُ} هو المَنْهيٌّ صورةً، والمرادُ غيرُه، فهو من بابِ "لا أُرَيَنَّك هَهنا". وقيل: إنَّ صَدَّ الكافر عن التصديقِ بها سببٌ للتكذيب، فذكر السببَ ليدُلَّ على المسبَّب. والضميران في "عنها" و"بها" للساعة. وقيل: للصلاة. وقيل في "عنها" للصلاة، وفي "بها" للساعة.
قوله: {فَتَرْدَى} يجوزُ فيه أَنْ ينتصبَ في جوابِ النهيِ بإضمارِ "أنْ"، وأن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: فأنت تَرْدَى. وقرأ يحيى "تِرْدَى" بكسر التاء.و قد تقدم أنها لغةٌ. والرَّدَى: الهلاك يقال: رَدِيَ يَرْدى رَدى.
قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّى:
3283ـ تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً * فقلتُ أَعَبْدُ اللهِ ذلكُمُ الرَّدِي
* { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى }
قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ}: "ما" مبتدأةٌ استفهامية. و"تلك" خبره. و"بيمنيك" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال كقوله: {وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً}. والعاملُ في الحال المقدرة معنى الإِشارة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ "تلك" موصولةً بمعنى التي، و"بيمينك" صلتُها. ولم يذكر ابنُ عطية غيره، وهذا ليس مذهبَ البصريين، لأنهم لم يجعلوا من أسماءِ الإِشارة موصولاً إلاَّ "ذا" بشروطٍ ذكرْتُها أولَ هذا الكتابِ. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك في جميعها، ومنه هذه الآيةُ عندهم أي: "وما التي بيمينك" وأنشدوا أيضاً:
3284ـ .................... * نَجَوْتِ وهذا تحملينَ طَليقُ
أي: والذي تحملين.
(10/191)
---(1/4047)
* { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى }
قوله: {هِيَ عَصَايَ} : "هي" تعود على المُسْتَفْهَمِ عنه. وقرأ العامَّةُ "عصايَ" بفتح الياء، والجحدري وابن أبي إسحاق "عَصَيَّ" بالقلب والإِدغام. وقد تقدم في أول البقرة توجيهُ ذلك، ولمَنْ تُنْسَبُ هذه اللغةُ، والشعرُ المَرْوِيُّ في ذلك. ورُوي عن أبي عمرو وابن أبي إسحاق أيضاً "عَصَاْيْ" بسكونها وصلاً. وقد فَعَلَ ناقعٌ مثلَ ذلك في "مَحْيَاْيْ" فجمع بين ساكنين وصلاً، وتقدَّم الكلام هناك.
قوله: {أَتَوَكَّأُ} يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً لـ"هي"، ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ "عصايَ"، وإمَّا من الياء. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ مجيءَ الحالِ من المضاف/ إليه قليلٌ، وله مع ذلك شروطٌ ليس فيه شيءٌ منها هنا. ويجوز أن تكمون جملةً مستأنفةً. وجَوزَّ أبو البقاء نقلاً عن غيره أن تكونَ "عصايَ" منصوبةً بفعل مقدَّر، و"أتوكَّأُ" هو الخبر، ولا ينبغي أَنْ يقال ذلك.
والتوَكُّؤ: التحامُلُ على الشيءِ، وهو بمعنى الاتكاء. وقد تقدَّم تفسيرُه في يوسف فهما من مادةِ واحدة، وذكَرْتُه هنا لاختلاف وَزْنَيْهما.
والهَمشُّ ـ بالمعجمةِ ـ الخَبْطُ. يال: هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّه أي: خَبَطْتُه ليسقطَ، وأمَّا هَشَّ يَهِش بكسر العين في المضارع فبمعنى البَشاشة، وقد قرأ النخعي بذلك فقيل: هو بمعنى أهُشُّ بالضمِّ، والمفعولُ محذوفٌ في القراءتين إذا مال. وقرأ الحسن وعكرمة "وأَهُسُّ بضم الهاءِ والسين المهملة وهو السَّوْقُ، ومنه الهَسُّ والهَساس، وعلى هذا فكا ينبغي أن يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى بـ"على" وهو أَقوم. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ "وأُهِشُّ" بضم الهمزة وكسر الهاء مِنْ "أَهَشَّ" رباعياً وبالمهملة، ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة فيكون عنه قراءات.
(10/192)
---(1/4048)
ونقل صاحب "اللوامح" عن مجاهد وعكرمة "وأَهُشُ" بضم الهاء وتخفيف الشين قال: "ولا أعرف لها وجهاً" إلاَّ أَنْ يكونَ قد استثقل التضعيف مع تفشِّي الشين فخفف، وهو بمعنى قراءة العامة.
وقرأ بعضهم "غَنْمي" بسكون النون ولا ينقاس. والمآرب: جمع مَأْرَبة وهي الحاجة وكذلك الإِرْبة أيضاً. وفي راء "المأربة" الحركاتُ الثلاثُ.
و"أخرى" كقوله: {الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى} وقد تقدم قريباً. قال أبو البقاء: "ولو قيل "أُخَر" لكانَ على اللفظ" يعني: "أُخَر" بضمِّ الهمزة وفتح الخاء، وباللفظ لفظ الجمع. ونقل الأهوازي عن شيبة والزهري "مارب" قال "بغيرِ همزٍ" كذا أَطْلق. والمرادُ بغير همز محقق بل مُسَهَّلٌ بين بين، وإلاَّ فالحذفُ بالكليَّةِ شاذٌّ.
* { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى }
قوله: {تَسْعَى}: يجوز أن يكون خبراً ثانياً عند مَنْ يُجَوَّز ذلك. ويجوز أن يكونَ صفةً لـ"حيَّة".
* { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولَى }
قوله: {سِيَرتَهَا}: في نصبها أوجه، أحدها: أن تكونَ منصوبةً على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها. الثاني: أنها منصوبةٌ على أنها بدلٌ من ها "سنعيدها" بدلُ اشتمال؛ لأن السيرةَ الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها. الثالث: أنها منصوبة على إسقاط الخافش أي: إلى سيرتها. قال الزمخشري: "ويجوز أن يكمون معفولاً، مِنْ عاد أي: عاد إليه، فيتعدَّى لمفعولَيْنِ، ومنه بيتُ زهير:
3285ـ ................ * وعادَكَ أَنْ تُلاَقِيَها العَداءُ
وهذا هو معنى قولِ مَنْ قال: إنه على إسقاط إلى، وكان قد جَوَّز أن يكونَ ظرفاً كما تقدَّم. إلاَّ أن الشيخ ردَّه بأ،ه ظرفٌ مختص، ولا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ بواسطة "في" إلاَّ فيما شَذَّ.
والسِّيرة: فِعْلَة تدل على الهيئة من السَيْر كالرِّكْبَة من الركوب، ثم اتُّسِع فعُبِّر بها عن المذهب والطريقة. قال خالد الهُذَلي:
(10/193)
---(1/4049)
3286ـ فلا تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أنت سِرْتَها * فأولُ راضٍ سيرةً مَنْ يَسِيرُها
وجَوَّز أيضاً أن ينتصبَ بفعلٍ مضمرٍ أي: يسير سيرتَها الأولى، وتكون هذه الجملةُ المقدرةُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: سنيعدها سائرةً سيرتَها.
* { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ آيَةً أُخْرَى }
قوله: {وَاضْمُمْ}: لا بدَّ مِنْ حَذْف، والتقدير: واضمُمْ يَدك تنضمَّ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ، فحذف من الأول والثاني، وأبقى مقابلَيْهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً، وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتَّبُ على مجردِ الضمِّ الخروجُ.
قوله: {بَيْضَآءَ} حالٌ مِنْ فاعل "تَخْرُجْ".
قوله: {مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} يجوز أن يكونَ متعلِّقاً بـ"تخرجْ"، وأن تكونَ متعلقةً بـ"بيضاءَ" لِما فيها من معنى الفعل نحو: ابيضَّتْ من غيرِ سوءٍ. ويجوز أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ علىأنها حال من الضمير في "بيضاء". وقوله: {مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} يُسَمَّى عند أهل البيان "الاحتراس" وهو: أن يؤتى بشيءٍ يرفعُ تَوَهُّمَ مَنْ يتوهَّمُ غيرَ المراد؛ وذلك أن البياضَ قد يُرادُ به البَرَصُ والبَهَقُ، فأتى بقوله: {مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} نفياً لذلك.
قوله: {آيَةً} فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ حالاً أعنى أنها بدلٌ مِنْ "بيضاءَ" الواقعةِ حالاً. الثاني: أنها حالٌ من الضمير في "بيضاءَ". الثالث: أنها حلٌ من الضمير في الجارِّ والمجرور. الرابع: أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ. فقدَّره أبو البقاء: جَعَلْناها آيةً، أو آتَيْناك آيةً. وقَدَّره الزمخشري: خُذْ آيةً، وقدذَر أيضاً: دنوكَ آية. وردَّ الشيخ ُ هذا: بأن من باب الإِغراء. ولا يجوز إضمارُ الظروفِ في الإِغراء. قال: لأنَّ العاملَ حُذِفَ، وناب هذا مَنابَه فلا يجوز أن يُحْذَفَ النائبُ أيضاً. وأيضاً فإنَّ أحكامَها تخالفُ العاملَ الصريحَ، فلا يجوز إضمارُها، وإنْ جاز إضمارُ الأفعال.
(10/194)(1/4050)
---
* { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى }
قوله: {لِنُرِيَكَ}: متعلقٌ بما دَلَّتْ عليه "آية" أي: دَلَلْنا بها لِنُرِيَكَ، أو بجعلناها، أو بآتيناك المقدَّرِ. وقدَّره الزمخشريُّ "لنِريك فَعَلْنا ذلك". وَجوَّز الحوفيُّ أن يتعلقَ بـ"اضْمُمْ". وجَوَّزَ غيرُه أَنْ يتعلَّقَ بـ"تَخْرُجْ". ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بلفظ "آية" لأنها قد وُصِفَتْ, وقدَّره الزمخشريُّ أيضاً: "لنُرِيَكَ خُذْ هذه الآية أيضاً".
قوله: {مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} يجوزُ أَنْ يتعلقَ "مِنْ آياتنا" بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِن "الكبرى" ويكون "الكبرى" على هذا مفعولاً ثانياً لـ"نُرِيَكَ" والتقديرُ: لِنُرِيَك الكبرى حالَ كونِها مِنْ آياتنا، أي: بعض آياتِنا. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني نفسَ "مِنْ آياتنا"، فتتعلقَ بمحذوفٍ أيضاً، وتكون "الكبرى" على هذا صفةً لـ"آياتنا" وصفاً لجمع المؤنثِ غيرِ العاقل وصفَ الواحدةِ على حَدَّ {مَآرِبُ أُخْرَى} و{الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى
}. وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي وأبو البقاء وابنُ عطية. واختاار الشيخُ الثاني قال: "لأنه يلزمُ من ذلك أَنْ تكونَ آياتُه كلُّها هي الكُبَرَ؛ لأنَّ ما كان بعضَ [الآيات] الكبر صَدَقَ عليه أنه الكبرى، وإذا جَعَلْتَ "الكبرى" مفعولاً ثانياً لم تتصِفْ الآياتُ بالكُبَرِ؛ لأنها هي المتصفةُ بأفعل التفضيل. وأيضاً إذا جَعَلْتَ "الكُبْرى" معفولاً فلا يمكنُ أَنْ تكونَ صفةً للعصا واليد معاً، إذ كان يلزم التثنية. ولا جائزٌ أَنْ يَخُصَّ إحداهما بالوصف دونَ الأخرى؛ لأنَّ التفضيلَ في كلٍ منهما. ويَبْعُدُ ما قاله الحسنُ: من أنَّ اليدَ أعظمُ في الإِعجاز من العصا؛ فإنه يجعل "الكبرى" مفعولاً ثانياً لِنُرِيَك، وجعل ذلك راجعاً للآية القريبة، وقد ضَعُفَ قولُه بأنَّ منافعَ العصا أكبرُ. وهو غيرُ خفيّ". انتهى ملخصاً.
* { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }
(10/195)
---(1/4051)
قوله: {لِي صَدْرِي}: "لي" متعلق بـ"اشرح". قال الزمشخريُّ: "فإنْ قلت: "لي" في قوله : {اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِيا أَمْرِي} ما جدواه والأمرُ مستتبٌّ بدونه؟ قلت: قد أبهم الكلامَ أولاً فقال: اشرح لي ويَسِّر لي، فَعُلِمَ أنَّ ثَمًَّ مشروحاً ومُيَسَّراً، ثم بَيَّن ورفع الإِبهماَ بذكرِهما فكان آكدَ لطلبِ الشرحِ لصدرِه والتيسير لأمره".
* { وَيَسِّرْ لِيا أَمْرِي }
ويقال: يَسَّرْتُه لكذا، ومنه {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} ويَسَّرْتُ له كذا، ومنه هذه الآيةُ.
* { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي }
قوله: {مِّن لِّسَانِي}: يجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "عُقْدَةً" أي: مِنْ عُقَدِ لساني. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ "احلُلْ" والأولُ أحسنُ.
* { وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي }
قوله: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً}: يجوز أَنْ يكونَ "لي" مفعولاً ثانياً مقدماً، و"وزيراً" هو المفعولُ الأول. و"مِنْ أهلي" على هذا يجوز أَنْ يكونَ صفةً لـ"وزيراً". ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بالجَعْلِ.
و"هارونَ" بدلٌ مِنْ "وزيراً". وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ "هارونَ" عطفَ بيانٍ لـ"وزيراً". ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ولَمَّا حكى الشيخُ هذا لم يُعْقِبْه بنَكير، وهو عجيبٌ منه؛ فإنَّ البيان يُشترط فيه التوافقُ تعريفاً وتنكيراً، وقد عَرَفْتَ أنَّ "وزيراً" نكرةٌ و"هارونَ" معرفة، والزمخشري قد تقدَّم له مثلُ ذلك في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وقد تقدم الكلام معه هناك وهو عائد هنا.
(10/196)
---(1/4052)
ويجوز أَنْ يكونَ "هارونَ" منصوباً بفعلٍ محذوف كأنه قال: أخصُّ من بينهِم هارون أي: مِنْ بينِ أهلي. ويجوز أَنْ يكونَ "وزيراً" مفعولاً ثانياً، و"هارونَ" هو الأول، وقَدَّم الثاني عليه اعتناءً بأَمْرِ الوِزارة. وعلى هذا فقولُه "لي: يجوز أن يتعلَّق بنفسِ الجَعْل، وأَنْ يتعلقَ بمجذوفٍ علىأنه حالٌ مِنْ "وزيراً"؛ إذ هو في الأصل صفةُ له. و"مِنْ أهلي" على ما تقدَّم من وَجْهَيْه. ويجوز أن يكون "وزيراً" مفعولاً أولَ، و"مِنْ أهلي" هو الثاني. وقوله "لي" مثلُ قولِه {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} يَعْنُون أنه به يتمُ المعنى، ذكر ذلك أبو البقاء. ولَمَّا حكاه الشيخ لم يتعقبه بنكير، وهو عجيب؛ لأنَّ شرطَ المفعولَيْن في باب النواسخ صحةٌ انعقادِ الجملة الاسمية، وأنت لو ابتَدَأْتَ بـ"وزير" وأخبرْتَ عنه بـ"من أهلي" لم يَجُزْ إذ لا مُسَوِّغ للبتداءِ به.
و"أخي" بدلٌ أو عطفُ بيانٍ لـ"هارونَ". وقال الزمخشري: "وإنْ جُعِل عطفَ بيانٍ آخرَ جاز وحَسُنَ. قال الشيخ: "ويَبْعُدُ فيه عطفُ البيان؛ لأنَّ عطفَ اليان الأكثرُ فيه أن يكونتَ الأولُ دونَه في الشُّهر وهذا بالعكس". قلت: لم يُرِدْ الزمخشري أنَّ "أخي" عطفُ بيانٍ لـ"هارون" حتى يقول الشيخ إن الأولَ ـ وهو "هارون" ـ أشهرُ من الثاني وهو "أخي"، إنما عَنَى الزمخشريُّ أنه عطفُ بيان أيضاً لـ"وزيراً" ولذلك قال:"آخَر". ولا بُدَّ من الإِتيان بلفظِه ليُعْرَفَ أنه لم يُرِدْ إلاَّ ما ذكرتُه قال: "وزيراً وهارونَ مفعولا قولِه "اجعَلْ"، أو "لي وزيراً" مفعولاه، و"هارونَ" عطفُ بيان للوزير، و"أخي" في الوجهين بدلُ من "هارون"، وإن جُعل عطفَ بيانٍ أخرَ جاز وحَسُن". فقوله "آخر" تعيَّنَ أن يكونَ عطفَ بيانٍ لما جعله عنه عطف بيان قبل ذلك.
(10/197)
---(1/4053)
وجَوَّز الزمخشري في "أخي" أن يرتفعَ بالابتداء، ويكونَ خبرُه الجملةَ مِنْ قوله: "اشْدُدْ به"، وذلك على قراءةِ الجمهور له بصغية الدعاء، وعلى هذا فالوقفُ على "هارونَ".
وقرأ ابن عامر "أَشْدُدْ" بفتح الهمزة للمضاعرة وجزمِ الفعلِ جواباً للأم، "وأُشْرِكْهُ" بضم الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه. وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول، وفتحِ همزة القطع الثاني، على أنهما دعاءٌ من موسى لربِّه بذلك. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملةُ قد تُرِكَ فيها العطفُ خاصةً دونَ ما تقدَّمَها مِنْ جمل الدعاء.
وقرأ الحسنُ "أُشَدِّدُ" مضارعَ شَدَّد بالتشديد.
والوَزير: قيل: مشتقٌّ من الوِزْر وهو الثِّقَل. وسُمِّي بذلك لأنه يَحْمل أعباءَ المُلْكِ ومُؤَنَهُ فهو مُعِيْنٌ على أمر/ الملك ويأتَمُّ بأمره. وقيل: بل هو من الوَزَرِ وهو الملجأُ، كقوله تعالى: {لاَ وَزَرَ} وقال:
3287ـ من السِّباع الضَّواري دونَه وَزَرٌ *والناسُ شَرُّهُمُ ما دونَه وَزَرُ
كم مَعْشرٍ سَلِموا لم يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ * وما نَرَى بَشَراً لم يُؤْذِهِمْ بَشَرُ
وقيل: من المُؤَزَرَة وهي المعاونةُ. نقله الزمخشري عن الأصمعي قال: "وكان القياسُ أَزِيراً" يعني بالهمزةِ؛ لأنَّ المادةَ كذلك. قال الزمخشريُّ: "فَقُلِبَت الهمزةُ إلى الواو, ووجهُ قَلْبِها إليها أنَّ فَعيلاً جاء بمعنى مُفاعِل مجيئاً صالحاً كقولهم: عَشِير وجَلِيس وخليط وصديق وخليل ونديم، فلمَّا قُلِبت في أخيه قُلِبَتْ فيه، وحَمْلُ الشيءِ على نظيره ليس بعزيزٍ، ونظراً إلى يُوازِرُ وأخواتِه وإلى المُوَازَرة".
قلت: يعني أنَّ وزيراً بمعنى مُوازِر، ومُوازر تقلب فيه الهمزةُ واواً قلباً قياسياً؛ لأنها همزةُ مفتوحةٌ بعد ضمه فهو نظيرُ "مُوَجَّل" و"يُوَاخذكم" شبهِه، فحُمِل "أزير" عليه في القلب، وإن لم يكنْ فيه سببٌ القلبِ.
* { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً }
(10/198)
---(1/4054)
قوله: {كَثِيراً}: نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر، كما هو رأيُ سيبويه. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً لزمانٍ محذوفٍ أي: زماناً كثيراً.
* { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى }
قوله: {سُؤْلَكَ}: فعل هنا بمعنى مَفْعول نحو: أُكْل بمعنى مَأْكول، وخُبْر بمعنى مَخْبور. ولا ينقاس.
* { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى }
و"مرة" مصدرٌ، و"أخرى" تأنيث أخَر بمعنى غير. وزعم بعضُهم أنها بمعنى آخرِة، فتكونُ مقابِلةً للأولى، وتحيَّل لذلك بأن قال: "سَمَّاها أخرى وهي أُولى لأنها أخرى في الذِّكْرِ".
* { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى }
قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَآ}: العاملُ في "إذ" "مَنَنَّا" أي: مَنَنَّا عليك في وقِتِ إلجائنا إلى أمِّك، وأُبْهِم في قوله {مَا يُوحَى} للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
}.
* { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيا }
(10/199)
---(1/4055)
قوله: {أَنِ اقْذِفِيهِ}: يجوز أن تكون "أنْ" مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى الوقل، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً. وحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ "ما يوحَى" والضمائرُ في قوله {أَنِ اقْذِفِيهِ} إلة آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابَه الزمخشريّ وجلعه تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: "والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم. فإنْ قلت: المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل. قلت: ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر".
قال الشيخ: "ولقائلٍ أن يقولَ: إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقرب راجحاً, وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ} راجحٌ. والجواب: أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَذَّثاً عنه والآخرُ فضلةً، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ. ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْوان: أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائدٌ على "خنزير" لا على "لحم" لكونه أقربَ مذكورٍ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه، فإن المحدَّث عنه هو "لحمَ خنزيرٍ" لا خنزير". قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها.
(10/200)
---(1/4056)
قوله: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ} هذا أمرٌ معناه الخبرُ، ولكنه أمراً لفظا جُزِ جوابُه في قوله: {يَأْخُذْهُ}. وإنما خَرَجَ بصغية الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها. وقال الزمخشري: "لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْبَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه".
و"بالساحل" يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي: ملتبساً بالساحل، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ ظرفيةٌ بمعى "في".
قوله: {مِّنِّي} فيه وجهان. قال الزمخشري: "لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يتعلقَ بـ"أَلْقَيْتُ" فيكون المعنى: على إني أَحْبَبْتُك، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ لـ"محبةً" أي: محبةً حاصلةً، أو واقعةً مني، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها".
قوله: {وَلِتُصْنَعَ} قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك و تُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: "والقيتُ" أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك ، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لِتُرَبَّى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.
(10/201)
---(1/4057)
وقرأ الحسن وأبو نهيك "ولِتَصْنَعَ" بفتح التاء. قال ثعلب: "معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال ابو البقاء:"أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني".
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ "ولْتُصْنَعْ" بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط.
* { إِذْ تَمْشِيا أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيا أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى }
قوله: {إِذْ تَمْشِيا}: في عاملِ هذا الظرفِ أوجٌ، أحدها: أن العامل في "ألقيتُ" أي: ألقيتُ عليكم محبةً من في وقتِ مَشْيِ أختِك.
الثاني: أنه منصوبٌ بقولِه "ولتُصْنَعَ" أي: لتُرَبَّى ويُحْسَنَ إليك في هذا الوقتِ. قال الزمخشري: "والعالمُ في "إذ تشمي" "ألقيتُ" أو "لتًصْنع" وقال أبو البقاء: "إذ تمشي" يجوز أَنْ يتعلَّقَ بأحد الفعلين". قلت: يعني بالفعلينِ ما تقدَّم مِنْ ألقيتُ أو لتُصْنَعَ. وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من بابِ التنازع؛ لأنَّ كلاً من هذين العاملين يطلب هذا الظرفَ من حيث المعنى، ويكونُ من إعمال الثاني للحذف من الأول. وهذا إنما يتجه كلَّ الاتجاه إذا جعلْتَ "ولِتُصْنَعَ" معطوفاً على علةٍ محذوفةٍ متعلقةٍ بـ"أَلْقَيْتُ"، أمَّا إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعدُ ذلك أو يمتنع، لكونِ الثاني صار من جملةٍ أخرى.
(10/202)
---(1/4058)
الثالث: أن تكونَ "إذ تمشي" بدلاً من "إذ أَوْحَيْنا". قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف يَصِحُّ البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصحُّ ـ وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه ـ أن يقول لك الرجل: لَقِيْت فلاناً سنةَ كذا فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها". قال الشيخ: "وليس كما ذكر لأن السنةَ تقبل الاتساع، فإذاً وقع لُقِيُّهما فيها، بخلاف هذين الظَّرفين فإنَّ كل واحدٍ منهما ضيقٌ ليس بمتسعٍ لتخصصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقعَ الثاني في الظرف الذي وقع فيه الأول؛ إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحيِ فيه ووقعِ مَشْي الأخت، فليس وقتُ وقوعِ الفعل مشتملاً على أجزاءٍ وقع في بعضها المشي بخلاف السنة". قلت: وهذا تحمُّلُ منه عليه فإنَّ زمنَ اللُّقِيَّ أيضاً ضيقٌ لا يَسَعُ فِعْلَيْهما، وإنما ذلك مبنيٌّ على التساهل؛ إذ المراد أن الزمانَ مشتملٌ على فعليهما.
وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ بدلاً من "إذ" الأولى؛ لأنَّ مَشْيَ أختِه كان مِنَّةً عليه" يعني أن قولَه "إذ أَوْحَيْنا" منصوبٌ بقوله: "مَنَنَّا" فإذا جُعِل "إذ تمشي" بدلاً منه كان أيضاً مُمْتَنَّاً به عليه.
الرابع: أن يكونَ العاملُ فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تمشي. وهو على هذا مفعولٌ به لفساد المعنى على الظرفية.
وقرأ العامَّةُ "كي تَقَرَّ" بفتح التاء والقاف. وقرأَتْ فرقة "تَقِرَّ" بكسر القاف، وقد تقدم أنهما لغتان في سورة مريم. وقرأ جناح بن جبيش "تُقَرُّ" بضمِّ التاءِ وفتحِ القاف على البناء للمفعول. "عينُها" رفعاً لِما لَم يُسَمَّ فاعلُه.
(10/203)
---(1/4059)
قوله: {فُتُوناً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على فُعُوْل كالقُعود والجُلُوس، إلاَّ أنَّ فُعُولاً قليلٌ في المتعدِّي. ومنه الشُّكُوْر والكُفور والثُّبور واللُّزوم. قال تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. الثاني: أنه جمعُ فَتْنٍ أو فِتْنَة على تَرْك الاعتداد بتاء التأنيث كـ"حُجُور" و"بُدُوْر" في حَجْرة وبَدْرة أي: فَتَنَّاك ضُروباً من الفتن. عن ابن عباس: أنه وُلِد في عامٍ يُقتل فيه الوِلْدَان، وألقَتْه أمُّه في البحر، وقتل القبطيَّ وأَجَر نفسَه عشرَ سنين، وضَلَّ عن الطريق، وتفرَّقَتْ غنمُه في ليلةٍ مظلمة. ولمَّا سأل سعيدُ بن جبير عن ذلك أجابه بما ذكرْتُه، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنةٌ يا بان جبير. قال معناه الزمخشري. وقال غيره: بفُتُوْنٍ من الفِتَنِ ـ أي المِحَنِ ـ تُخْبر بها.
قوله: {عَلَى قَدَرٍ} متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل "جئت" أي: جئتَ موافقاً لِما قُدِّر لك. كذا قدَّره أبو البقاء، وهو تفسيرُ معنىً. التفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين. كقول الآخر:
3288ـ نال الخلافةَ أو جاءَتْ على قَدَرٍ * كما أتى رَبَّه موسى على قَدَرِ
* { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }
ومعنى "اصْطَنَعْتُكَ" أي: أَخْلَصْتُك. واصْطَفَيْتُكَ افتعال من الصُّنْع، فأُبْدِلَتْ التاءُ طاءُ لأجل حرف الاستعلاء، وهذا مجازٌ عن قُرْبِ منزلتِه ودُنُوِّه مِنْ أحداً لا يَصْطَنع إلاَّ مَنْ يختاره.
* { اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي }
قوله: {وَلاَ تَنِيَا}: يقال: وَنى يَني وَنْياً كوَعَدَ/ يَعِد وَعْداً إذا فَتَرو ... والوَزْنيُ الفُتور. ومنه امرأةٌ أَناة، وصفوها بفُتور القيام كناية عن ضَخامتها قال:
3289ـ مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القومِ يَحْسَبُنا * أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ
(10/204)
---(1/4060)
والأصل وَناة. فابدلوا الهمزة من الواو كأَحَد في وَحَد. وليس بالقياس، وفي الحديث: "إن فيك لخَصْلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة
". والواني: المقصِّرُ في أمره. قال الشاعر:
3290ـ ................ * فما أنا بالواني ولا الضِّرَعِ الغُمْرِ
وونى فعلٌ لازمٌ لا يتعدى، وزعم بعضهم أنه يكون مِنْ أخواتِ زَال وانفك فيعمل بشرط النفيِ أو شبهِه عَمَلَ كان فيقال: "ما وَنى زيدٌ قائماً" أي: مازال قائماً. وأنشد الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكٍ شاهداً على ذلك قول الشاعر:
3291ـ لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دامَ * فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ
أي لا يزال الحُبُّ ـ أي بضم الحاء ـ شيمةَ الحِبِّ ـ أي بكسرِها ـ وهو المُحِبُّ. ومَنْ منع ذلك يتأوَّلُ البيتَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ فإنَّ هذال الفعلَ يتعدَّى تارةً بـ عَنْ وتارة بـ في. يُقال: ما وَنَيْتُ عن حاجتك أو في حاجتك. فالتقدير: لا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمة المُحِبِّ وفيه مجازٌ بليغ. وقد عُدِّيَ في الآيةِ الكريمة بـ في.
وقرأ يحيى بنُ وثَّاب "ولا تِنِيا" بكسر التاء إتباعاً لحركةِ النون. وسَكَّن الياءً مِنْ "ذِكْرِيْ".....
* { اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }
وذَكرَ المذهوبَ إليه في قوله: {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} وحَذَفه في الأولِ في قوله: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ} اختصارً في الكلام. وقيل: أُمِرا أولاً بالذهابِ لعمومِ الناسِ ثم ثانياً لفرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونُ، وقد حَذَفَ من كلٍ من الذهابين ما أثبته في الآخر: وذلك أنه حذف المذهوبَ إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحَذَفَ المذهوبَ به وهو "بآياتي" من الثاني وأثبته في الاول.
* { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
(10/205)
---(1/4061)
وقرأ أبو معاذٍ "قولاً لَيْناً" وهو تخفيف مِنْ لَيِّن كمَيْت في مَتِّت.
وقوله: {لَّعَلَّهُ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ "لعلَّ" على بابها من التَّرَجِّي: وذلك بالنسبة إلى المُرْسَل، وهو موسى وهارون أي: اذهبا على رجائِكما وطَمَعِكما في إيمانه، أذهبا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن، وهذا معنى قولِ الزمخشري، ولا يًسْتقيمُ أن يَرِدَ ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالمٌ بعواقب الأمور، وعن سيبويه: "كلُّ ما وَرَدَ في القرآن مِنْ لعلَّ وعسى فهو من الله واجبٌ"، يعني أنه مستحيلٌ بقاءُ معناه في حق الله تعالى. والثاني: أنَّ لعلَّ بمعنى كي فتفيد العلةَ. وهذا قول الفراء، قال: "كما تقول: اعمل لعلك تأخذُ أَجْرَك أي: كي تأخذ". والثالث: أنها استفهاميةٌ أي: هل يتذكَّر أو يَخْشَى؟ وهذا قولٌ ساقط؛ وذلك أنه يَسْتحيل الاستفهامُ في حق الله تعالى كما يستحيل الترجِّي. فإذا كان لابُدَّ من التأويل فَجَعْلُ اللفظِ على مدلولِه باقياً أَوْلَى مِ،ْ إخراجِه عنه.
* { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى }
قوله: {أَن يَفْرُطَ}: "أَنْ يَفْرُطَ" مفعولُ "نخاف". ويقال: فَرَطَ: سَبَقَ وَتَقَدَّم، ومنه الفارِطُ. وهو الذي يتقدَّم الواردةَ إلى الماء وفَرَسٌ فَرَطٌ: يسبقٌ الخبلَ، أي: نخافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا بالعقوبةِ ويبادِرَنا بها، قاله الزمخشري، ومِنْ وُرودِ الفارط بمعنى المتقدِّم على الواردة قولُ الشاعر:
3292ـ واسْتعجلونا وكانوا مِنْ صحابَتنا * كما تَقَدَّم فُرَّاطُ لوُرَّادِ
وفي الحديث: "أنا فَرَطُكم على الحَوْضِ" أي: سابقُكم ومتقدِّمُكم.
وقرأ يحيى بن وثاب وابنُ محيصن وأبو نَوْفلٍ "يُفْرَط" بضمِّ حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافا أن يُسْبَقَ في العقوبةِ. أي: يحملُه حامِلٌ عليها وعلى المعاجلة بها: إمَّا قومُه وإمَّا حُبُ الرئاسةِ، وإمَّا ادِّعاؤه الإِلَهيةَ.(1/4062)
(10/206)
---
وقرأ ابن محيصن في روايةٍ والزعفراني "أَن يُفَرِّطَ" بضمِّ حرفِ المضارَعَةِ وكسر الراء مِنْ أفرط. قال الزمخشري: "مِنْ أَفْرَطَهن غيرُه إذا حمله على العَجَلة، خافا أَنْ يَحْمِلَه حاملٌ على المُعاجلة بالعقاب". قال كعب ابن زهير.
3293ـ تَنْفِي الرياحُ القَذَى عنه وأَفْرَطَه * مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيْضٌ يَعالِيْلُ
أي: سَبَقَتْ إليه هذه البِيْضُ لتملأَه. وفاعلُ "يَفْرُطَ" ضميرُ فرعون. وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أَنْ لا يُعْدَلَ عنه. وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلامِ عليه فقال: "فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرط علينا منه قولٌ، فأضمر القولَ لدلالة الحالِ عليه كما تقول: فَرَطَ مني قول، وأن يكونَ الفاعلُ ضميرَ فرعون كما كان في "يَطْغى".
* { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى }
ومفعولُ {أَسْمَعُ وَأَرَى} محذوفٌ فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وارى أفعالَكما، وعن ابن عباس: أسمعُ جوابَه لكما وأرى ما يَفْعل بكما، أو يكون مِنْ حَذْفِ الاقتصار نحو: {يُحْيِي وَيُمِيتُ
}.
* { فَأْتِيَاهُ فَقُولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى }
(10/207)
---(1/4063)
قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}: قال الزمخشري: هذه الجملةُ جاريةٌ من الجملة الأولى وهي: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} مَجْرى البيانِ والتفسير؛ لأنَّ دعوى الرسالةِ لا تَثْبُتُ إلاَّ بِبَيِّنَتِها التي هي مجيءُ الآيةِ. وإنما وَحَّدَ بـ"آية" ولم تُثَنَّ ومعه آيتان؛ لأنَّ المرادَ في هذا الموضعِ تثبيتُ الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل: قد جِئْناك بمعجزةٍ وبرهانٍ وحجة على ما ادَّعَيْناه/ من الرسالة، وكذلك قال: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ
}. و{عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} يحتمل أَنْ يكونَ مأموراً بقوله: فيكونَ منصوبَ المَحَلِّ كأنه قيل: فَقُولا أيضاً: والسلامُ على مَنْ اتَّبع الهدى، ويحتمل أَنْ يكونَ تسليما منهما لم يُؤْمَرا بقوله، فتكون الجملةُ مستأنفةً لا محل لها من الإِعراب. وزعم بعضُهم أن "على" بمعنى اللام أي: والسلام لمَنْ اتَّبع الهدى. وهذا لا حاجةَ إليه.
* { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }
قوله: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ}: "أنَّ" وما في حَيِّزها في محل الرفع لقيامِها مَقامَ الفاعل الذي حُذِف في {أُوحِيَ إِلَيْنَآ}. وسببُ بنائِه للمفعول خوفاً أن يَبْدُرَ مِنء فرعونَ بادرةٌ لمَنْ أَوْحَى لو سَمَّياه، فَطَوَيا ذِكْرَه تَعظيماً له واستهانَةً بالمخاطب.
* { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى }
(10/208)
---(1/4064)
قوله: {يامُوسَى}: نادى موسى وحدَه بعد مخاطبته لهما معاً: إمَّا لأنَّ موسى هو الأصلُ في الرسالة، وهارونُ تَبَعٌ ورِدْءٌ ووزيرٌ، وإمَّا لأنَّ فرعونَ كان لخُبْثِه يعلمُ الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحةَ أخيه بدليلِ قوله {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} فأراد استنطاقَه دون أخيه، وإمَّا لأنه حَذَفَ المعطوفَ للعلمِ به أي: يا موسى وهارون. قاله أبو البقاء، وبدأ به، ولا حاجةَ إليه، وقد يُقال: حَسَّنَ الحذفَ كونَ موسى فاصلةً، لا يُقال: كان يُغني في ذلك أَنْ تُقَدَّمَ هارون وتؤخِّرَ موسى فيقال: يا هارونُ وموسى فتحصُلُ مجانسةٌ الفواصلِ مِنْ حَذْفٍ لأنَّ البَدْءَ بموسى أهمُّ فهو المبدوءُ به.
* { قَالَ رَبُّنَا الَّذِيا أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ}: في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكونَ "كلَّ شيءٍ" مفعولاً أولَ، و"خَلْقَه" مفعولاً ثانياً على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْرْ زوجين، والناقةَ والبعيرَ، والرجلَ والمرأةَ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ماهو مخالفٌ لخَلْقِه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي: هو الذي ابتدعه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ. ولم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم، ولا بالعكس، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديراً.
(10/209)
---(1/4065)
والثاني: أن يكونَ "كلَّ شيءٍ" مفعولاً ثانياً، و"خَلْقَه" هو الأول، فَقَدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به.
وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم "خَلَقَه" بفتح اللام فِعْلاً ماضياً. وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً لـ"كل" أو في محلِّ جَرِّ صفةً لـ"شيء"، وهذا معنى قولِ الزمخشري: "صفةٌ للمضاف ـ يعني "كل" ـ أو للمضافِ إليه" ـ يعني "شيءٍ" ـ. والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ مجذوفٌ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي: أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ، والمعنى: أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه.
* { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى }
والبالُ: الفِكْرُ. يقال: خَطَر ببالِه كذا، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، وشَذَّ جمعُه على "بالات". ويقال للحال المُكْتَرَثِ بها، ولذلك يُقال: ما بالَيْتُ بالةً، والأصل ....... فحذف لامه تخفيفاً.
* { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }
قوله: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} في خبر هذا المبتدأ أوجهُ، أحدها: أنه "عند ربي" وعلى هذا فقولُه "في كتاب" متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف، أو خبرٌ ثان.
(10/210)
---(1/4066)
الثاني: أنَّ الخبرَ قولُه "في كتاب" على هذا قولُه "عند ربي" معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به "في كتاب" كا تقدَّم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً. وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي. والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقوله:
3294ـ رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ * فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ
وقال بعَضُ النحويين: إنه إذا كان العاملُ معنوياً، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه، وهذا منه. أو يكونُ ظرفاً للعلم نفسه، أو يكونُ حالاً من المضاف إليه وهو الضمير في "عليها". ولا يجوزُ أن يكونَ "في كتاب" متعلِّقاً بـ"عِلْمها" على قولِنا إنَّ "عند ربي" الخبر كما جاز تعلُّقُ "عند: به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته.
الثالث: أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معاً خبراً واحداً في المعنى، فيكونَ بمنزلةِ "هذا حُلْوٌ حامِض" قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ، بخلاف "هذا حلو حامِضٌ".
والضمير في "عِلْمُها" فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على القرون. والثاني: عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ، والبعثُ يدلُّ على القيامة.
(10/211)
---(1/4067)
قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ جرِّ صفةً لـ"كتاب"، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: في كتاب لا يَضِلُّه ربي، أولا يَضِلُّ حِفْظَه ربي، فـ"ربي" فاعل "يَضِلُّ" على هذا التقدير، وقيل: تقديرُه: الكتابَ ربي. فيكون في "يَضِلُّ" ضميرٌ يعود على "كتاب"، وربي منصوبٌ على التعظيمِ. وكان الأصلُ: عن ربي، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعاً، يُقال: ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ. الثاني: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالى لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى.
وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن وحَمَّاد بن سلمة "لا يُضِلُّ" بضم الياء أي: لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي: لا يُضَيِّعه يقال: أَضْلَلْتُ الشيءَ أي: . فـ"ربي" فاعلٌ على هذا التقدير. وقيل: تقديرُه: لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي: عن علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم.
وفرَّق بعضُهم بين ظَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال: "ضَلَلْتُ منزلي"، بغيرِ ألفٍ، و"أَضْلَلْت بعيري" ونحوَه من الحيوان بالألفِ. نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب، وقال الفراء: "يقال: ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتدِ له، كقولك: ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال: أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منه كالدَّابة انفلَتَتْ، وشبهِها.
قوله: {وَلاَ يَنسَى} في فاعل "يَنْسَى" قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على "ربي" أي: ولا يَنْسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازاً في قوله {إِلاَّ أَحْصَاهَا} لمَّا كان مَحَلاًّ للإِحصاء.
(10/212)
---(1/4068)
* { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى }
قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ}: في هذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو منصوبٌ بإضمار "أمدح"، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}، وقوله: {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} وقولَه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} إلى قوله {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى. ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه، فإن قلتَ: أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ. قيل: إنما جَعَلناه التفاتاً في الوجهِ الاول؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا، فإنه لا يتأتَّى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله.
والثاني: أنَّ "الذي" صفةٌ لـ"ربي" فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب "ربي". وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله "فأَخْرَجْنا" وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي. وقال ابن عطية: "إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} وإنَّ قولَه "فأخرَجْنا" إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى" وفيه بُعْدٌ.
(10/213)
---(1/4069)
وقرأ الكوفيون "مَهْداً" بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ. والباقون "مِهاداً" بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها. و فيه وجهان: أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَدْتُه مَهْداً ومِهاداً، والثاني: أنهما مختلفان، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل، أو أنَّ مِهاداً جمعُ مَهْد نحو: فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب. ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ: إمَّا مبالغةً، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذات مَهْدٍ.
قوله {شَتَّى}: "شَتَّى" فَعْلَى. وألفهُ للتأنيث، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو: مَرْضى في جمع مريض، وجرحى في جمع جريح، وقتلى في جمع قتيل. يقال: شَتَّ الأمر يَشِتُّ شَتَّاً وشَتاتاً فهو شَتٌّ أي تفرَّق. وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق، ولذلك لا يُكتفى بواحد.
وفي "شَتَّى" أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ نعتاً لـ"أَزْواجاً" أي: أزواجاً متفرقةً بمعنى: مختلفة الألوانِ والطُّعوم. والثاني: أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ "أزواجاً" وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي "مِنْ نبات". الثالث: أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضاً مِنْ فاعل الجارِّ؛ لإنه لَمَّا وقع وصفاً رفع ضميراً فاعِلاً. الرابع: أنَّه في محلِّ جر نعتاً لـ"نبات"، قال الزمخشري: "يجوز أن يكونَ صفةً لنبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت، فاستوى فيه الواحدُ والجمع، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ، بعضُها يَصْلُح للناس، وبعضُها للبهائم" ووافقه أبو البقاء أيضاً. ولكنَ الظاهرَ الأولُ.
* { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى }
قوله: {كُلُواْ}: منصوبٌ بقولٍ محذوف، وذلك القولُ منصوبٌ على الحال مِنْ فاعل "أَخْرَجْنا" تقديره: فأخرَجْنا كذا قائلين: كُلوا. وتَرَكَ مفعولَ الأكل على حَدِّ تَرْكِه في قولِه تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
(10/214)
---(1/4070)
}. "وارْعَوْا" رَعَى يكون لازماً ومتعدِّياً يقال: رَعَى دابَّته/ رَعْياً فهو راعِيها. ورَعَتِ الدابَّةُ تَرْعَى رَعْياً فيه راعيةٌ، وجاء في الآيةِ متعدِّياً.
والنُّهى فيه قولان، أحدهما: أنه جَمْعُ نُهْيَة كغُرَف جمع غُرْفَة. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ كالهُدَى والسُّرى. قاله أبو عليّ. وكنت قد قدَّمْتُ أولَ هذا الموضوع أنهم قالوا: لم يأتِ مصدرٌ على فُعَل من المعتل اللام إلاَّ سُرَى وهُدَى وبُكَى، وأنَّ بعضهم زادَ "لٌقَى" وأنشدْتُ عليه بيتاً ثَمَّة، وهذا لفظٌ آخرُ فيكون خامساً. والنُّهى: العَقْلُ. قالوا: سُمِّي بذلك لأنه يَنْهى صاحبَه عن ارتكابِ القبائح.
* { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى }
قوله: {أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا}: هي مِنْ "رأى" البصَريةِ فَلَمَّا دخلَتْ همزةُ النقل تَعَدتْ بها إلى اثنين أولُهما الهاء، والثاني "آياتِنا"، والمعنى: أَبْصَرْناه. والإِضافةُ هنا قائمةٌ مقامَ التعريفِ العَهْدي أي: الآياتِ المعروفةَ كالعصا واليد ونحوهما، وإلاَّ فلم يُرِ اللهُ تعالى فرعونَ جميعَ ِآياتِه. وجَوَّز الزمخشري أن يُرادَ بها الآياتُ على العموم بمعنى: أنَّ موسى عليه السلام أراه الآيات التي بُعِث بها وعَدَّد عليه الآياتِ التي جاءَتْ به الرسلُ قبله عليهم السلام، وهي نبيٌّ صادقٌ، لا فرقَ بين ما يُخْبِرُ عنه وبين ما يُشاهَدُ به".
(10/215)
---(1/4071)
قال الشيخ: "وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الإِخبارَ بالشيءِ لا يُسَمَّى رؤيةً له إلاَّ بمجازٍ بعيد. وقيل: بل الرؤيةُ هنا رؤيةٌ قلبيةٌ، فالمعنى: أَعْلَمْناه" وأيَّد ذلك: بأنه لم يكن أراه إلاَّ اليدَ والعصا فقط. ومَنْ جَوَّز استعمالَ اللفظِ في حقيقتِه ومجازِه أو إعمالَ المشتركِ في معنَيَيْه يجيزُ يُرادَ المعنيان جميعاً. وتأكيدُه للآيات بـ"كلها" يدلُّ على إرادة العمومِ لأنَّهم قالوا: فائدةٌ التوكيدِ بـ"كل: وأخواتِها رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأخَصِّ مَوْضعَ الأعمَّ، فلا يُدَّعَى أنه أراد بالآياتِ آياتٍ مخصوصةً، وهذا يَتَمَشَّى على أن الرؤيةَ قلبيةٌ، ويُراد بالآيات ما يَدُلُّ على وَحْدانيةِ الله وصِدْقِ المبلِّغ. ولم يذكر معفولَ التكذيب والإِباءِ تعظيماً له، وهو معلومٌ.
* { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى }
قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ}: جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: واللهِ لَنَأْتِيَنَّك., وقوله: "بسِحْرٍ" يجوز أن يتعلَّقَ بالإِتيان، وهذا هو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ الإِتيان أي: ملتبسين بسِحْرٍ.
قوله: {مَوْعِداً} يجوز أن يكونَ زماناً. ويُرَجِّحه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} والمعنى: عَيَّن لنا وقتَ اجتماع؛ ولذلك أجابهم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}. وضَعَّفوا هذا: بأنه يَنْبُوا عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ}، ، وبقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ}. وأجاب عن قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} بأنَّ المعنى: لا نُخْلِفُ الوقتَ في الاجتماع. ويجوز أن يكون مكاناً. والمعنى: بَيَّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت... ويُؤَيَّدُ بقوله: {مَكَاناً سُوًى} قال: فهذا يَدُلُّ على أنه مكانٌ، وهذا يَنْبُوْ عه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}.
(10/216)
---(1/4072)
ويجوز أَنْ يكونَ مصدراً، ويؤيِّد هذا قولُه: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} لأنَّ المواعدَة تُوْصَفُ بالحُلْفِ وعدِمه. وإلى هذا نحا جماعةٌ مختارين له. ورُدَّ عليهم بقولِه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} فإنه لا يطابقه.
وقال الزمخشري: "إنْ جَعَلْتَه زماناً نظراً في أن قولَه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} مطابقٌ له لَزِمك شيئان: أن تجعلَ الزمان مُخْلَفاً، وأن يَعْضُلَ عليك ناصبٌ "مكاناً"، وإن جَعَلْتَه مكاناً لقوله: {مَكَاناً سُوًى} لَزِمك أيضاً أَنْ تُوْقِعَ الإِخلاف على المكان ، وأن لا يطابِقَ قولَه موعدُكم يومُ الزنة، وقرءةُ الحسن غيرُ مطابقةٍ له زماناً ومكاناً جميعاً لأنَّه قرأ "يومَ الزينة" بالنصب، فبقي أن يُجْعل مصدراً بمعنى الوَعْدِ، ويقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ أي: مكان الوعد، ويُجْعلَ ضميرُ في "نُخلِفُه" للموعِد، و"مكاناً"، بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: فكيف طابقه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}، ولا بُدَّ من أن تجعلَه زماناً، والسؤالُ واقعٌ عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابقٌ معنىً، وإن لم يطابقْه لفظاً؛ لأنهم لا بُدَّ لهم أن يجتمعوا يومَ الزينة في مكانٍ بعينه مُشْتَهِرٍ باجتماعِهم فيه في ذلك الزمان. فبذِكْر الزمانِ عُلِمَ المكانُ. وأما قراءةُ الحسنِ فالموعدُ فيها مصدرٌ لا غيرَ. والمعنى: إنجازُ وعدِكم يومَ الزينة، وطابقَ هذا أيضاً من طريق المعنى. ويجوز أن لا يُقَدَّرَ مضافٌ محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعداً لا نُخْلفه".
وقال أبو البقاء: "هو هنا مصدر لقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ}.
(10/217)
---(1/4073)
والجَعْل هنا بمعنى التصيير. ومَوْعِداً مفعولٌ أولُ والظرفُ هو الثاني. والجملةٌ مِنْ قوله: "لا نُخْلِفُه" صفةٌ لموعداً. و"نحن" توكيدٌ مُصَحِّحٌ للعطفِ على الضميرِ المرفوعِ المستترِ في "نُخْلفه" و"مكاناً" بدلٌ من المكان المحذوف كما قرره الزمخشري. وجَوَّز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصِبَ "مكاناً" على المفعول الثاني لـ"اجعَلْ" قال: "ومَوْعداً على هذا مكانٌ أيضاً، ولا ينتصِبُ بـ مَوْعد لأنه/ مصدرٌ قد وُصِف" يعني أنه يَصِحُّ نصبُه مفعولاً ثانياً، ولكنْ بشرطِ أن يكونَ المَوْعِدُ بمعنى المكان؛ ليتطابقَ المبتدأُ أو الخبرُ في الأصل. وقوله: "ولا ينتصِبُ بالمصدر" يعني أنه لا يجوزُ أن يُدَّعَى انتصابُ "مكاناً" بـ"مَوْعد". والمرادُ بالموعد المصدرُ وإنْ كان جائزاً مِنْ جهة المعنى؛ لأنَّ النصاعةَ تَأباه وهو وصفُ المصدرِ، والمصدرُ شرطُ إعمالِه عَدَمُ وصفِه قبل العملِ عند الجمهور.
وهذا الذي منعه الفارسيُّ وأبو البقاء، جَوَّزه الزمخشريُّ وبدأ به فقال: "فإن قلتَ: فبمَ ينتَصِبُ مكاناً؟ قلت: بالمصدرِ، أو بما يَدُلُّ عليه المصدر. فإنْ قلت: كيف يطابقُه الجوابُ" قلت: أمَّا على قراءةِ الحسن فظاهرٌ، وأمَّا على قراءةِ العامَّةِ فعلى تقدير: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة".
قال الشيخ: "وقوله: "إنَّ مكاناً ينتصب بالمصدر ليس بجائزٍ؛ لأنه قد وُصِف قبل العملِ بقوله: "لا نُخْلِفُه" وهو مصولٌ، والمصدر إذا وُصِفَ قبل العملِ لم يَجُزْ أَنْ يعملَ عندهم". قلت: الظروفَ والمجروراتُ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسَعْ في غيرِها. وفي المسالة خلافٌ مشهورٌ وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك.
(10/218)
---(1/4074)
وجعل الحوفيُّ انتصابَ "مكاناً" على الظرف، وانتصابَه بـ"اجعل". فتحصَّل في نصبِ "مكاناً" خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ "مكاناً" المحذوفِ. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ للجَعْل. الثالث: أنه نُصِب بإضمار فعل. الرابع: أنه منصوبٌ بنفس المصدر. الخامس: أنه منصوبٌ على الظرف بنفس "اجْعَلْ".
وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ "لا نُخْلِفْه" بالجزم على جوابِ الأمر، والعامَّةُ بالرفع على الصفةِ لِمَوْعِد، كما تقدَّم.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن "سُوَىً" بضم السينِ منوناً وصلاً. والباقون بكسرِها. فالكسرُ والضمُّ على أنها صفةٌ بمعنى مكانٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ الصفةَ على فُعْلٍ كثيرةٌ نحو: "لُبَد وحُطَم، وقليلةٌ على فِعَل. وحكى سيبويه "لحم زِيَم" ولم يُنَوَّن الحسنُ "سُوَى" أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف.
ولا جائزٌ أَنْ يكونَ مَنَعَ صَرْفَه للعَدْل على فُعَلٍ كُعمَر لأن ذلك في الأعلام. وأمَّا فُعَلى في الصفاتِ فمصورفَةٌ نحو: حُطَم ولُبَد.
وقرأ عيسى بن عمر "سِوى" بالكسر من غيرِ تنوين. وهي كقراءة الحسنِ في التأويل.
وسوى معناه "عَدْلاً ونَصَفَة". قال الفارسي: "كأنه قال: قُرْبُه منكم قُرْبُه مِنَّا". قال الأخفش: "سوى" مقصورٌ إنْ كَسَرْتَ سينَه أو ضَمَمْتَ، وممدودٌ إنْ فَتَحْتَها، ثلاثُ لغات، ويكون فيها جميعها بمعنى غير، وبمعنى عَدْل ووسط بين الفريقين. قال الشاعر:
3295ـ وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ * سِوَىً بين قَيْسٍ قيسِ عَيْلانَ والفِزْرِ
قال: "وتقول: مررتُ برجلٍ سِواك وسُواك وسَوائِك أي: غيرِك ويكون للجميع" وأعلى هذه اللغات الكسرُ، قاله النحاس. وزعم بعضُ أهلِ اللغة والتفسير أنَّ معنى مكاناً سوى: مستوٍ من الأرض، لا وَعْرَ فيه ولا حُزُوْنَة.
* { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى }
(10/219)
---(1/4075)
قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}: العامَّةُ على رفع "يومُ الزينة" خبراً لـ"موعدُكم". فإنْ جَعَلْتَ "موعدكم" زماناً لم تَحتجْ إلى حَذْفِ مضاف؛ إذ التقديرُ: زمانُ الوعدِ يومُ الزينة، وإن جعلتَه مصدراً احتجْتَ إلى حَذْفِ مضافِ تقديرُه: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى وعاصم في بعض طُرُقِه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة "يومَ" بالنصب. وفيه أوجهُ، أحدها: أن يكونَ خبراً لـ"موعدكم" على أنَّ المرادَ بالموعد المصدرُ أي: وعْدُكم كائن في يوم الزينة كقولِك: القتالُ يومَ كذا والسفر غداً.
الثاني: أن يكونَ "موعدُكم" متبدأً، والمرادُ به الزمان، و"ضُحَى" خبرُه على نيةِ التعريفِ فيه؛ لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ ما النصبُ لـ"يومَ الزنية"؟ ولا يجوز أن يكونَ منصوباً، بـ"موعدُكم" على هذا التقريرِ؛ لأنَّ مَفْعِلاً مراداً به الزمانُ أو المكانُ لا يعملُ وإنْ كان مشتقاً، فيكونُ الناصبُ له فعلاً مقدَّراً. وواخذه الشيخ في قوله "على نيةِ التعريف" قال: "لأنَّه وإن كان ضُحى ذلك اليومِ بعينه فليس على نية التعريفِ، بل هو نكرةٌ، وإن كان من يومٍ بعينه؛ لأنه ليس معدولاً عن الألفِ واللام كسَحَر ولا هو معرَّفٌ بالإِضافةِ, ولو قلت:"جئت يوم الجمعة بَكَراً" لم نَدّعِ أن بَكَراً معرفةٌ وإن كنت تعلمُ أنه من يومٍ بعينه".
الثالث: أن يكونَ "موعدُكم" مبتدأٌ، والمرادُ به المصدرُ و"يومَ الزينةِ" ظرفٌ له. "وَضُحَى" منصوبٌ على الظرفِ خبراً للموعد، كما أخبر عنه في الوجهِ الأول بيوم الزينة نحو: القتالُ يومَ كذا".
قوله: {وَأَن يُحْشَرَ} في محلِّه وجهان، أحدُهما: الجرُّ نَسَقاً على الزينة أي: موعدُكم يومُ الزينة ويومُ يُحْشر. أي: ويومُ حَشْرِ الناس. والثاني: الرفعُ: نَسَقاً على "يومُ" التقديرُ: موعدُكم يومُ كذا، وموعدكم أَنْ يُحْشَرَ الناسُ أي: حَشْرُهم.(1/4076)
(10/220)
---
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد "وأن تَحْشُرَ الناسَ" بتاء الخطاب في "تَحْشُرَ"، ورُوي/ عنهم "يَحْشُرَ" بياء الغَيْبة. و"الناسَ" نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة. والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي: وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعاً فيه نُسِبَ إليه نحو: نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ.
و"ضُحَىً" نصبٌ على الظرف، العاملُ فيه "يُحْشَر" وتُذَكَّر وتؤنَّث. والضَّحاء بالمد وفتح الضاد فوق الضحى؛ لأن الضُّحى ارتفاعُ النهارِ، والضَّحاء بعد ذلك، وهو مذكَّرٌ لا غير.
* { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى }
قوله: {كَيْدَهُ}: فيه حَذْفُ مضافٍ أي: ذوي كيدِه.
* { قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }
قوله: {فَيُسْحِتَكُم}: قرأ الأخَوان وحفص عن عصام فيُسْحِتَكم" بضم الياء وكسر الحاء. والباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم. قال الفرزدق التميمي.
3296ـ وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ * من المالِ إلاَّ مُسَحَتاً أو مُجَلَّفُ
وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز. وأصلُ هذه المادةِ الدلالُ على الاستقصاءِ والنَّفاد. ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي: استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب. ونصبُه بإضمار "أَنْ" في جواب النهي. ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق "إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ" قال بعد ذلك: "في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه".
(10/221)
---(1/4077)
قلت: يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات،وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ : رُوي هذا البيتُ ثلاثِ روايات، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ" الأُولى "لم يَدَعْ" بفتح الياءِ والدال ونصب "مُسْحَت". وفي هذه خمسةُ أوجه:
الأول: أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً: لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه: "أو مُجَلَّفُ" بالرفع. وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش "فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ" برفع "قليل" وقد تقدَّم ذلك. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلِ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفٌ. الثالث: "أن "مُجَلَّفُ" مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديره: أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء. الرابع: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في "مُسْحتاً"، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما. إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ. وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل.
الخامس: أن يكونَ "مُجَلَّف" مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالى: {كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: تَجْليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت "عَضُّ زمانٍ" إذ التقدير: رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل، وهو قولُ الفارسيِّ. وهو عندي أحسنُها.
الروايةُ الثانية: فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت. وتخريجُها واضحٌ: وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته فهو وداع، بمعنى: بقي يبقى فهو باقٍ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية، ويُرْفَعُ "مُجَلَّفُ" بالعطفِ عليه. ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه: مِنْ أجله أو بسببه.... الكلام.
(10/222)
---(1/4078)
الرواية الثالثة: "يُدَعْ" بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و"مُسْحَت" بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ، و"مُجَلَّف" عطفٌ عليه. وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل. وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه اختصاراً وهذا لُبُّه. وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه.
* { قَالُوااْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى }
قوله: {إِنْ هَاذَانِ}: اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه "إنْ هذانِّ" بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ "هذانٍ". وقرأ أبو عمرو "إنَّ" بالتشديد "هذين" بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ "هذان" بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى ـ وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص ـ فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا "إنْ" المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ ـ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها ـ خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. فـ"هذان" مبتدأٌ، و"لَساحران" خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم "هذن" بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ "هذان" فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ "إنْ" نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم "ما هذانِ إلاَّ ساحران".
(10/223)
---(1/4079)
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ فـ"هذَيْن" اسمُ "إنَّ" وعلامةُ نصبِه الياءُ. و"لَساحِران" خبرُهات، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه "هذن" بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: "لا أُجيز قراءةً أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ". وقال أبو عبيد: "رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان "هذن" ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها".
قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهنم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ ـ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ ـ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب. يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن "إنَّ" بمعنى نَعَمْ، و"هذان" مبتدأٌ، و"لَساحران" خبرُه، وكَثُرَ ورودُ "إنَّ" بمعنى نعم وأنشدوا:
3297ـ بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْبِ * يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلاك * وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
(10/224)
---(1/4080)
أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: "إنَّ وصاحبَها" أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمنُ ثبوتِ "إنَّ" بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر "إنَّ" للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد بـ"إنَّ" المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه:
3298ـ أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ * تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه: بأنَّ "لَساحِران" يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو "ها" التي قبل "ذان" وليست بـ"ها" التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ "إنها" فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ} فكَتْبُهم إياها مفصولةً من "إنَّ" متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
(10/225)
---(1/4081)
الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"إنَّ"، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ "إن"، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ "إنَّ" فعلاً كقولِه:
3299ـ إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً * يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
/ والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع: أنَّ "هذان" اسمُها، و"لَساحران" خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ "هذين" بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: "سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً"، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:
3300ـ فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يَرَى * مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي: لنابَيْه. وقولَه:
3301ـ إنَّ أباها وأبا أباها * قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي: غياتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود: "أنْ هذان ساحِران" بفتح "أَنْ" وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من "النجوى" كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ "أنْ هذان ساحران" بدلاً من "النجوى".
(10/226)
---(1/4082)
قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ} الباءُ في "بقطريقتكم" مُعَدِّيَةٌ كالهمزة. والمعنى: بأهلِ طرقيتكم. وقيل: الطريقةُ عبارةُ عن السَّادة فلا حَذْفَ.
* { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى }
قوله: {فَأَجْمِعُواْ}: قرأ أبو عمرو "فاحْمَعُوا" بصول الألِف وفتحِ الميمِ. والباقون بقطعِها مفتوحةً وكسرِ الميمِ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة يونس، وما قاله الناسُ في الفرقِ بين الثلاثي والرباعي.
و"كيدَكم" مفعولٌ به. وقيل: هو على إسقاطِ الخافض أي: على كَيْدكم. وليس بشيءٍ.
قوله: {صَفّاً} يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل "ائتُوا" أي: ائتُوا مُصْطَفِّين أي: ذوي صفٍّ فهو مصدرٌ في الأصل. وقيل: هو مفعولٌ به أي: ائتوا قوماً صَفاً، وفيه التسميةُ بالمصدر، أو هو على حذفِ المضاف أي: ذوي صف.
قوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ} قال الزمخشري: "اعتراضٌ يعني: وقد فاز مَنْ غلب". قلت: يعني بالاعتراض أنه جِيء بهذه الجملة أجنبيةً بين كلامِهم ومقولهم، لأنَّ من جملة قولهم "قالوا يا موسى: إمَّا أَنْ تُلْقي" وهذه الجملةُ ـ أعني قولَه وقد أفلَح ـ مِنْ كلامِ الله تعالى فهي اعتراضٌ. بهذا الاعتبارِ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنها مِنْ مقولاتِهم، قالوا ذلك تحريضاً لقومِهم على القتالِ، وحينئذٍ فلا اعتراضَ.
* { قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى }
(10/227)
---(1/4083)
قوله تعالى: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه: اخْتَرْ أحدَ الأمرين، كذا قدَّره الزمخشري قال الشيخ: "وهذا تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ، وتفسيرُ الإِعرابِ: "إمَّا تختارُ الإِلقاءَ". والثاني: أنّضه مرفوعٌ على خبرِ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: الأمرُ إمَّا إلقاؤُك إو إلقاؤُنا، كذا قدَّره الزمخشريُّ. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: إلقاؤُك أولٌ. ويَدُلُّ عليه قولُه: وإمَّا أَنْ نكونَ أولَ مَنْ أَلْقى". واختار هذا الشيخُ، وقال: "فَتَحْسُنُ المقابلةُ من حيث المعنى، وإنْ لم تَحْصُلْ مقابلةٌ من حيث التركيبُ اللفظيُّ". ثم قال: "وفي تقديرِ الزمخشريِّ "الأمرُ إلقاؤُك" لا مقابلةَ فيه" وهذا تَقَدَّم نظيرُه في الأعراف.
* { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }
قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ}: هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و"إذا" هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ.
قال الزمخشري:"والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجلمةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ}: ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ" انتهى].
(10/228)
---(1/4084)
قال الشيخ: "قوله "إنَّها زمانية" مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله "الطالبةُ ناصباً" صحيحٌ. وقوله: "وجملةٌ تضاف إليها" ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله: "خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره" قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه: "والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير" هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ بـ"قد" تقع بعدَها نحو"خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ" برفعِ "زيد" ونصبِه على الاشتغال. وقوله: "والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ" فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل: "خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ" فالمعنى: أنه فاجأني السَّبْعُ وهجم ظهورُه" انتهى ما رَدَّ به.
قوله: وما ردَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُودَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه "فَأَلْقَوْا فإذا"، فـ"إذا" في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه"أَلْقَوْ". وفي هذا نظر؛ لأنَّ "أَلْقَوْا" هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه "ظرف مكانٍ"، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان. وقوله: "إن العامل فيها"فأَلْقَوا" لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
(10/229)
---(1/4085)
هذا كلامٌ الشيخ ثم قال بعده: "ولأنَّ "إذا" هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو"حبالُهم وعِصٍيُّهم" إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ "يُخَيَّل"، ويجوز أَنْ تكونَ "إذا" و"يُخَيَّل" في موضعِ الحال. وهذا نظير: "خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً" فإذا رَفَعْتَ "رابضاً" كانت "إذا" معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت "إذا" خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: "خَرَجْتُ فإذا الأسدُ".
قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ العامَّة "يُخَيَّل" بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و"أنَّها تَسْعى" مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ"تُخَيَّل" بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الجبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه "أنها تسعى" وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك المضير المستترِ في "يُخَيَّل". والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: "جاء زيدٌ أَنْ يركضَ" تريد ركضاً، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ.
(10/230)
---(1/4086)
وقرأ ابن ذكوان "تُخَيَّلُ" بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيُّ، و"إنَّها تَسْعَى" بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ "أنَّها تَسْعى" حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه "أنَّها تَسْعى" كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله:
3302ـ ...................... * ......... شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[وقوله تعالى:] {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
}. وقرأ أبو السَّمَّال "تَخَيَّلُ" بفتح التاءِ والياء منبياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ}، و"أنَّها تَسْعَى" بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال "تُخَيِّل" بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و"أنها تَسْعى" مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ "نُخَيِّل" بنونِ العظمة، و"أنها تَسْعَى" مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ "عُصِيُّهم" بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ ـ كما ترى ـ بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ "اللوامح" أنَّ قراءةَ الحسنِ "عُصْيهُم" بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
(10/231)
---(1/4087)
والجملةُ من "يُخَيِّل" يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً لـ"هي" على أن "إذا الفجائية" فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحلِ، على أنَّ "إذا" الفجائية هي الخبر. والضميرُ في "إليه" الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى}.
* { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوااْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى }
قوله: {تَلْقَفْ}: قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ "تَلْقَفْ: بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا "تَلْقَفُ" بالرفع: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في "تَلْقَف" حَمْلاً على معنى "ما" لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به.
[وقال أبو البقاء: "يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ "تَلْقَف" ضميرَ موسى" فعلى هذا يجوز أَنْ تكونَ "تلقفُ" في قراءة الرفع حالاً من "موسى". وفيه بُعْدٌ].
قوله: {كَيْدُ سَاحِرٍ} العامَّةُ على رَفْع "كَيْدُ" على أنه خبرُ "إنَّ" و"ما" موصولةٌ. و"صَنَعُوا" صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على "كَيْدَ" بالنصب على أنه مفعولٌ به، و"ما" مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
(10/232)
---(1/4088)
وقرأ الأخَوان "كيُ سِحْر" على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو "مئة درهمٍ، وألف دينار". ومثلُه: علمُ فقه، وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: "كيدُ ساحر" إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و"كيدُ سِحْر" إضافةُ الجنسِ إلى النوع".
والباقون "ساحر". وأفرد/ ساحراً، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري: "لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، لو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ".
* { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى }
قوله: {فَلأُقَطِّعَنَّ}: قد تقدَّم نحوُ ذلك. و"مِنْ خِلافٍ" حالٌ أي: مختلفة. و"مِنْ" لابتداءِ الغاية، وقد تقدَّم أيضاً تحريرُ هذا وما قُرِىء به هناك.
قوله: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يُحتمل أن يكونَ حقيقةً، وفي التفسير: أنه نَقَرَ جذوعَ النخلِ حتى جَوَّفَها، ووضعهم فيها، فامتوا جوعاً وَعَطَشاً، وأن يكونَ مجازاً، وله وجهان، أحدهما: أنه وضعَ حرفاً مكانَ آخر. والأصلُ: على جذُوع النخل كقول الآخر:
3303ـ بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ * يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوءَمِ
والثاني: أنه شَبَّه تمكُّنَهم بتمكُّنِ مَنْ حواه الجِذْعُ واشتمل عليه. ومِنْ تَعَدِّي "صَلَب" بـ"في" قولُه:
3304ـ وقد صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ * فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إلاَّ بأَجْدَعا
(10/233)
---(1/4089)
قوله: {أَيُّنَآ أَشَدُّ} مبتدأٌ وخبرٌ. وهذه الجملةٌ سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ إنْ كانت "عَلِمَ" على بابها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ عِرْفانيةً. ويجوز على جَعْلِها عِرفانيةً أن تكونَ "أيُّنا" موصولةً بمعى الذي، وبُنِيَتْ لأنه قد أُضِيفَتْ، وحُذِفَ صدرُ صلتِها، و"أشَدُّ" خبرُ مبتدا محذوفٍ. والجملةُ من ذلك المبتدأ وها الخبرِ صلةٌ "أيّ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بها، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ} في أحدِ أوجهِه كما تقدم.
* { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ }
قوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا}: فيه وجهان، أحدهما: أن الواوَ عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على "ما جاءنا" أي: لن نؤثرَك على الذين جاءنا، ولا على الذي فطرنا. وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى. والثاني: أنها واوُ قسمٍ، والموصولُ مقسمٌ به. وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي: وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق. ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ "لن نُؤْثرك" عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب؛ لأنه لا يُجاب القسمُ بـ"لن" إلاَّ في شذوذٍ من الكلام.
(10/234)
---(1/4090)
قوله: {مَآ أَنتَ قَاضٍ} يجوز في "ما" وجهان، أظهرُهما: أنها موصولةٌ بمعى الذي، و"أنت قاضٍ" صلتُها والعائدُ محذوفٌ، اي: قاضِيه. وجاز حَذْفُه، وإنْ كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل. أي: فاقضِ الذي أنت قاضِيْه. والثاني: أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ، والتقدير: فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ. ذكر ذلك أبو البقاء. وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال: لأنَّ: "ما" المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية. وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة. ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ "ما" على الظرفية. وأنشد:
3305ـ واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ * فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهبُ
وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية. وأنشد:
3306ـ أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ * كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ
قوله: {إِنَّمَا تَقْضِي هَاذِهِ الْحَيَاةَ} يجوز في "ما" وهذه وجهان، أحدهما: أن تكونَ المهيئةَ لدخول "إنَّ" على الفعل و"الحياةَ الدنيا" ظرفٌ لـ"تَقضي"، ومفعولُه محذوفٌ أي: تقضي غرضَك وأمرَك. ويجوز أن تكونَ "الحياةَ" مفعولاً به على الاتساع، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة "تُقْضَى هذه الحياةُ" بيناء العفلِ للمفعول ورَفْعِ "الحياة" لقيامها مقام الفاعلِ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ.
والثاني: أن تكونَ "ما" مصدريةً هي اسمُ "إنَّ"، والخبرُ الظرفُ. والتقدير: إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا، يعني: إن لك الدنيا فقط، ولنا الآخرةَ.
وقال أبو البقاء: "فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ". يعني لو قرىء برفعِ "الحياة" لكان خبراً لـ"إنَّ" ويكون اسمُها حينئذٍ "ما"، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها.
(10/235)
---(1/4091)
* { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
قوله: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا}: يجوز في "ما" هذه وجهان، أحدهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي. وفي محلها احتمالان، أحدهما: أنها منصوبةُ المحلِّ نَسَقاً على "خطايانا" اي: ليغفر لنا أيضاً الذي أكرهتنا. والثاني من الاحتمالين: أنها مرفوعةُ المحلِّ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي أكرَهْتَنا عليه مِنَ السحر محطوطٌ عنا، أو لا نؤاخَذُ به ونحوُه.
والوجه الثاني: أنها نافيةٌ. قال ابو البقاء: "وفي الكلامِ تقديمٌ، تقديرُه: ليغفر لنا خطايانا من/ السِّحرِ، ولم تُكْرِهْنا عليه" وهذا بعيدٌ عن المعنى. والظاهرُ هو الأولُ.
و"من السحرِ" يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الهاءِ في "عليه" أو من الموصولِ. ويجوزُ أن تكونَ لبيانِ الجنسِ.
* { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى }
قوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ}: الهاءُ ضميرُ الشأنِ. والجملةُ الشرطيةُ خبرُها. و"مُجْرِماً" حالٌ مِنْ فاعلِ "يأْتِ". وقولُه: {لاَ يَمُوتُ} يجوز أن يكونَ حالاً مِنَ الهاءِ في "له" وأَنْ يكونَ حالاً من "جهنَّم"؛ لأنَّ في الجملة ضميرَ كلٍ منهما.
* { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى }
[قوله: {جَنَّاتُ}: بدلٌ من "الدرجات" أو بيانٌ]. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هي جناتُ؛ لأن "خالدين" حالٌ. وعلى هذا التقديرِ لا يكونُ في الكلام ما يعملُ في الثاني، وعلى الأولِ يكونُ العاملُ في الحال الاستقرارَ أو معنى الإِشارة".
* { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى }
(10/236)
---(1/4092)
قوله: {طَرِيقاً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به؛ وذلك على سبيلِ المجاز: وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ، إذ المعنى: أضربْ البحرَ لنغلقَ لهم فيصيرَ طريقاً، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق. وقيل: "ضرب" هنا بمعنى جَعَلَ أي: اجعل لهم طريقاً وأَشْرعْه فيه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ. قال أبو البقاء: "التقدير: موضعَ طريقٍ، فهو مفعولٌ به على الظاهر. ونظيرُه قولُه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} وهو مثلُ "ضربْتُ زيداً". وقيل: "ضرب" هنا بمعنى "جعل" و"شرع" مثلَ قولهم: ضربْتُ له بسَهْم" انتهى. فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفاً.
قوله: {يَبَساً} صفةٌ لـ"طريقاً" وصَفَه به لِما يَؤُول إليه؛ لأنه لم يكنْ يَبَساً بعدُ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه، كما يُرْوى في التفسيرِ. وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه:
3307ـ ........................ * ................ ومِعَىً جِياعاً
أي: كجماعةٍ نجِياع، وَصَفَ به لفَرْط جوعه؟
وقرأ الحسنُ "يَبْساً" بالسكونِ. وهو مصدرٌ أيضاً. وقيل: المفتوحُ اسمٌ، والساكنُ مصدرٌ. وقرأ أبو حيوة "يابساً" اسمُ فاعل.
قوله: {لاَّ تَخَافُ} العامَّةُ على "لا تَخاف" مرفوعاً، وفيه أوجهُ، أحدها: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل "اضرِبْ" أي: اضرب غيرَ خائفٍ. والثالث: أنه صفةٌ لـ"طريقاً"، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه.
(10/237)
---(1/4093)
[وقرأ] حمزةُ وحدَه من السبعة "ولا تَخَفْ" بالجزم على النهي. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ نَهْياً مستأنِفاً. الثاني: أنه نهيٌ أيضاً في محلِّ نصب على الحال من فاعل "اضرِبْ" أو صفةٌ لطريقاً، كما تقدَّم من قراءةِ العامَّةِ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي: مقولاً لك، أو طريقاً مقولاً فيها: لا تخف. كقوله:
3308ـ جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطَّ
الثالث: مجزومٌ على جوابِ الأمر أي: إن تضربْ طريقاً يَبَساً لا تَخَفْ.
قوله: {وَلاَ تَخْشَى} لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الأفِ. وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ "لا تَخَفْ" جزماً أن يَقْرأ "لا تَخْشَ" بحذفِها، كذا قال بعضُهم. وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ. وفيها أوجه أحدها: أن تكونَ حالاً. وفيه إشكالٌ: وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ بـ"لا" كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له. وتأويلُه على حذف مبتدأ أي: وأنت لا تَخْشَى كقولِه:
3309ـ .................... * نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا
والثاني: أنه مستأنفٌ. أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ. والثالث: أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديراً كقولِه:
3310ـ إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ * ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
وقولِ الآخر:
3311ـ ...................... * كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانيا
ومنه {فَلاَ تَنسَى} في أحد القولين، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح. وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند {مَن يَتَّقِ}. والرابع: أنه مجزومٌ أيضاً بحذفِ حرفِ العلةِ. وهذه الألفُ ليسَتْ تلك، أعني لامَ الكلمة، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي، فهي كالألفِ في قولِه: {الرَّسولا} و{السبيلا} و{الضنونا} وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ "لا تَخَفْ". وأمَّا من قرأه مرفوعاً فهذا معطوفٌ عليه.
(10/238)
---(1/4094)
وقرأ أبو حيوة "دَرْكاً" بسكون الراء. والدَّرَك والدَّرْك [اسمان] من الإِدراك أي: لا يُدركك فرعونُ وجنوده. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا.
* { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ }
قوله: {بِجُنُودِهِ}: فيه أوجهٌ: أحدها: أن تكونَ الباءُ للحالِ: وذلك على أنَّ "أَتْبَعَ" متعدٍّ لاثنين حُذف ثانيهما. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ. وقدَّره الشيخ: "رُؤَساءه وحَشَمه" والأول أحسن. والثاني: أنَّ الباءَ زائدةٌ في المفعولِ الثاني. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ جنودَه فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [وقولِ الشاعر]:
3312ـ ..................... * .............. لا يَقْرَأْن بالسُّوَرِ
وأتبع قد جاء متعدِّياً لاثنين مُصَرَّحٍ بهما قال: {وَأَتْبَعْنَاهُم....}. والثالث: أنها مُعَدَّيَةٌ على أنَّ "أَتْبَعَ" قد يتعدَّى لواحدٍ بمعنى مع، ويجوزُ على هذا الوجه أن تكونَ الباءُ للحالِ أيضاً، بل هو الأظهرُ.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ والحسنُ "فاتَّبَعَهُمْ" بالشديد، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن/ إلاَّ في قولِه: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
}. قوله: {مَا غَشِيَهُمْ} فاعلُ "غَشِيَهم"، وهذا من باب الاختصار وجوامعِ الكَلِمِ التي يَقِلُّ لفظُها ويكثُر معناها أي: فغشِيَهم ما لا يَعْلم كُنْهَه إلاَّ اللهُ تعَالى. وقرأ الأعمش: "فَغَشَّاهم" مضعَّفاً. وفي الفاعل حينئذٍ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه "ما غَشَّاهم" كالقراءةِ قبله. أي: غَطَّاهم من اليَمِّ ما غَطَّاهم. والثاني: هو ضميرُ الباري تعالى أي: فَغَشَّاهم اللهُ. والثالث: هو ضميرُ فرعونَ لأنه السببُ في إهْلاكهم. وعلى هذين الوجيهن فـ"ما غَشَّاهم" في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً.
(10/239)
---(1/4095)
* { يابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى }
قوله: {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ}: قرأ الأخَوان "قد أَنْجَيْتُكم" و"واعَدْتُكم" و{رَزَقْتُكم} بتاءِ المتكلم. والباقون "أَنْجَيْناكم" و"رَزَقْناكم" و"واعَدْناكم" بنونِ العظمة. واتفقوا على "ونَزَّلْنا". وتقدَّم خلافُ أبي عمرو في "وَعَدْنا" في البقرة. وقرأ حميد "نَجَّيْناكم" بالتشديد.
وقُرِيء "الأَيْمَنِ" بالجرِّ. قال الزمخشري: "خَفْضٌ على الجِوارِ، كقولِهِم: "جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ" وجعله الشيخ شاذاً ضعيفاً. وخَرَّجه على أنه نعتٌ للطُّور قال: "وُصِفَ بذلك لما فيه من اليُمْن، أو لكونِه على يمين مَنْ يستقبلُ الجَبَلَ".
و"جانبَ" مفعولٌ ثانٍ على حَذْفِ مضاف ِأي: إتيانَ جانبِ. ولا يجوزُ أن يكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً. و"جانب" ظرف للوعد. والتدقير: وواعَدْناكم التوراةَ في هذا المكانِ؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مختصّ، لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسِه ولو قيل: إنه تُوُسِّعَ في هذا الظرفِ فجُعِل مفعولاً به أي: جُعل نفسَ الموعود نحو: "سِيْر عليه فرسخان وبريدان" لجاز.
* { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى }
قوله: {فَيَحِلَّ}: قرأ العامة "فيحِلُّ" بكسر الحاء، واللام من "يَحْلِلْ". والكسائيُّ في آخرين بضمِّهما، وابن عتيبة وافق العامَّةَ في الحاء، والكسائيَّ في اللام. فقراءةُ العامَّةِ مِنْ حَلَّ عليه كذا أي: وَجَبَ، مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ أي: وَجَبَ قضاؤُه. ومنه قولُه: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ومنه أيضاً {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. وقراءةُ الكسائي مِنْ حَلَّ يَحُلُّ أي: نَزَل، ومنه {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ(1/4096)
(10/240)
---
}. والمشهورُ أنَّ فاعلَ "يَحلُّ" في القراءتين هو "غضبي". وقال صاحب "اللوامح": "إنه مفعولٌ به، وإنَّ الفاعلَ تُرِك لشُهْرَته، والتقدير: فيحِلُّ عليكم طُغْيانُكم غضبي، ودَلَّ عليه "ولا تَطْغَوا". ولا يجوز أن يُسْند إلى "غضبي" فيصيرَ في موضعِ رفعٍ بفعله". ثم قال: "وقد يُحْذَفُ المفعولُ للدليلِ عليه، وهو "العذابَ" ونحوه". قلت: فعنده أنَّ حَلَّ متعدٍّ بنفسِه لأنه من الإِحلال كما صَرَّح هو به. وإذا كان من الإِحْلال تعدَّى لواحدٍ، وذلك المتعدَّى إليه: إمَّا "غضبي"، على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الطغيانِ، كما قَدَّره، وإمَّا محذوفٌ، والفاعل "غضبي". وفي عبارته قَلَقٌ.
وقرأ طلحة "لا يَحِلَّنَّ عليكم" بـ"لا" الناهيةِ وكسرِ الحاء، وفتحِ اللامِ مِنْ يَحِلَّنَّ، ونونِ التوكيد المشددة أي: لا تتعرَّضوا للطُغْيان فيحقَّ عليكم غضبي، وهو من باب "لا أُرَيَنَّك ههنا".
وقرأ زيدُ بن علي "ولا تَطْغُوا" بضم الغين مِنْ طغا يَطْغُوا، كغَدا يَغْدو. وقوله: {فَيَحِلَّ} يجوز أن يكونَ مجزوماً عطفاً على "لا تَطْغَوا" كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر؛ إذ المعنى ليس على نَهْيَ الغضبِ أن يَحِلَّ بهم. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ ِ"أَنْ" في الجواب. وهو واضحٌ.
* { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى }
(10/241)
---(1/4097)
قوله: {وَمَآ أَعْجَلَكَ}: مبتدأٌ وخبرٌ و"ما" استفهاميةٌ عن سببِ التقدُّم على قومِه. وقال الزمخشري: "فإن قلت: "ما أَعْجلك" سؤالٌ عن سببِ العَجَلة، فكان الذي ينطبقُ عليه من الجواب أَنْ يُقَالَ: طَلَبُ زيادةِ رضاك والشوقِ إلى كلامِك وتَنَجُّزِ مَوْعِدك. وقوله: {هُمْ أُوْلااءِ عَلَى أَثَرِي} ـ كما ترى ـ غيرُ منطبقٍ عليه. قلت: قد تَضَمَّنَ ما واجَهَه به رَبُّ العزةِ شيئين، أحدهما: إنكارُ العَجَلة في نفسها. والثاني: السؤالُ عن سببِ المُسْتَنْكَر والحاملِ عليه، فكان أوهمُّ الأمرَيْن إلى موسى بَسْطَ العُذْرِ وتمهيدَ العلةِ في نفس ما أَنْكر عليه، فاعتَلَّ بأنه لم يوجَدْ مني إلاَّ تقدُّمٌ يسيرٌ، مثلُه لا يُعْتَدُّ به في العادةِ ولا يُحتفل به، وليس بيني وبين مَنْ سبقتُه إلاَّ مسافةٌ قريبةٌ، يتقدَّمُ بمثلِها الوفدَ رأسُهم ومقدمتُهم. ثم عَقَّبه بجوابِ السؤالِ عن السبب فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.
* { قَالَ هُمْ أُوْلااءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }
قوله: {هُمْ أُوْلااءِ عَلَى أَثَرِي}: كقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ تَقْتُلُونَ} و"على أَثَري" يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً.
وقرأ الجمهور "اُوْلاء" بهمزةٍ مكسورة. والحسن وابن معاذ بياء مكسورة، أبدال الهمزةَ ياءً تخفيفاً. وابن وثاب "أُوْلاَ" بالقصرِ دونَ همزةٍ. وقرأَتْ طائفةٌ "أولايَ" بياءٍ مفتوحةٍ، وهي قريبةٌ من الغَلَط.
والجمهورُ على أَثَري" بفتح الهمزة، والياء. وأبو عمروٍ في وايةِ عبد الوارث وزيدُ بن علي "إثْري" بكسر الهمزةِ وسكونِ الياء. وعيسى بضمَّها وسكون الياء، وحكاها الكسائيُّ لغةً.
* { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }
(10/242)
---(1/4098)
قوله: {وَأَضَلَّهُمُ}: العامَّةُ على أنَّه فعلٌ ماضٍ مسندٌ إلى السامريّ. وقرأ أبو معاذ في آخرين "وأَضَلُّهم" مرفوعاً بالابتداءِ، وهو أفعلُ تفضيلٍ. و"السامريُّ" خبره.
* { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي }
قوله: {غَضْبَانَ أَسِفاً}: حالان. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الأعراف.
قوله: {وَعْداً حَسَناً}/ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكداً، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: يَعِدُكم بالكتاب وبالهداية، أو يُترك المفعولُ الثاني ليعُمَّ. ويجوز أن يكونَ الوعدُ بمعنى الموعود فيكونَ هو المفعولَ الثاني.
قوله: {مَّوْعِدِي} مصدرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه بمعنى: أَوَجَدْتُموني أخلَفْتُكم ما وعدْتُكم. وأن يكونَ مضافاً لمفعوله، بمعنى: أنهم وَعَدُوْه أن يتمسَّكوا بدينه وشيعته.
* { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ }
قوله: {بِمَلْكِنَا}: قرأ الأخَوان بضم الميم. ونافع وعاصم بفتحها، والباقون بكسرها: فقيل: لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ. ومعناها: القُدْرَةُ والتسلُّطُ. وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال: "المضمومُ معناه: لم يكنْ [لنا] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ، فالمعنى على "أَنْ ليس لهم مُلْكٌ.
كقول ذي الرمة:
3313ـ لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ * بها المفاوِزُ حتى ظهرُهها حَدِبُ
(10/243)
---(1/4099)
أي: لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى". وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَ. والمعنى: ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا. وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه، والمفعولُ محذوفٌ أي: بملكِنا الصوابَ.
قوله: {حُمِّلْنَآ} قرأ نافعٌ وبانُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة. وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ. فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم.
و{أَوْزَاراً} مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة. و{مِّن زِينَةِ} يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بـ"حُمِّلْنا"، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"أَوْزار".
وقوله: {فَكَذَلِكَ} نعتٌ لمصدرٍ، أو حالٌ من ضميره عند سيبويه أي: إلقاءً مثلَ إلقائِنا ألقي السامريُّ.
* { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً }
قوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ}: العامَّةُ على "يرجعُ" لأنها المخففةُ من الثقيلة. ويدلُّ على ذلك وقوعُ أصلِها وهو المشدَّدةُ في قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ
}. وقرأ أبو حيوةَ والشافعيُّ وأبانُ بنصبه. جعلوها الناصبةَ. والرؤيةُ على الأولى يقينيةُ، وعلى الثانية بَصَريةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين في سورة المائدة.
والسامريُّ: منصوبٌ لقبيلةٍ يُقال لها: سامرة.
وقرأ الأعمشُ "فنسْي" بكسون السين وهي لغةٌ فصيحةٌ. والضميرُ في "نسي" يجوز أن يعود على السامِرِيِّ، وعلى هذا فهو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، ويجوز أن يعودَ على موسى صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذا فهو من كلامِ السامريِّ أي: نَسِي إلهَه. والقولان منقولان لأهل التفسير.(1/4100)
(10/244)
---
* { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوااْ أَمْرِي }
وقرأ العامَّةُ: "إنما فُتِنْتُم" و"إنَّ ربَّكم الرحمنُ" بالكسر فيهما، لأنهما بعد القول لا بمعنى الظن. وقرأت فرقة بفتحِهما وخُرِِّجت على لغة سُلَيْم: وهو أنهم يفتحون "أنَّ" بعد القول مطلقاً. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ، والحسن وعيسى بن عمر بفتح "أنَّ ربَّكم" فقط. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدهما: أنها وما بعدها بتأويل مصدرٍ في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديرُه: والأمرُ أَنْ ربَّكم الرحنُ فهو مِنْ عطفِ الجلِ لا مِنْ عطفِ المفرداتِ. والثاني: أنها مجرورةٌ بحرفٍ مقدَّرٍ ِأي: لأنَّ ربَّكم الرحمنُ فاتَّبعوني. وقد تقدَّم القولُ في نظيرِ ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء.
* { قَالَ ياهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوااْ }
و"إذْ" منصوبٌ بـ"مَنَعَك" أي: أيُّ شيءٍ مَنَعَك وقتَ ضلالِهم؟
* { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }
و"لا" فيها قولان. أحدُهما: أنها مزيدةٌ. أي ما منعك مِنْ أَنْ تَتَّبِعَني. والثاني: أنها دَخَلَتْ حَمْلاً على المعنى، إذ المعنى: ما حملك على أن لا تتبعَني، وما دعاك إلى أَنْ تَتَّبِعَني؟ ذكره علي بن عيسى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين بحمدِ الله في أول الأعراف.
* { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }
وتَقَدَّم الكلامُ والقراءةُ في "يا بنَ أُمَّ".
(10/245)
---(1/4101)
والجمهورُ على كسرِ اللامِ من اللِّحْيةِ وهي الفصحى. وفيها الفتح. وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي. والفتحُ لغة الحجاز. ويجمع على لِحَى كقِرَب,. ونُقل فيها الضمُّ، كما قالوا: صِوَر بالكسر، وحقُّها الضمُّ. والباء في "بلِحْيَتي" ليست زائدةً: إمَّا لأنَّ المعنى: لا يكنْ منك أَخْذٌ، وإمَّا لأنَّ المفعولَ محذوفٌ أي: لا تَأْخُذْني. ومَنْ زعم زيادتَها كهي في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} فقد تَعَسَّف.
قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} هذه الجملةُ محلُّها النصبُ نَسَقاً [على] {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ} أي: أن تقولَك فَرَّقْتَ بينهم، وأَنْ تقولَ: لم تَرْقُبْ قولي أي: لم....
وقرأ أبو جعفر "تُرْقِبْ" بضمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ أَرْقَبَ.
* { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ }
قوله: {فَمَا خَطْبُكَ} متبدأٌ وخبر. والخَطْبُ تقدَّم الكلامُ عليه في يوسف. وقال ابن عطية هنا:/ "إنه يقتضي انتهاراً كأنه قال: ما نَحْسُك وما شؤمك"؟ وردَّ عليه الشيخ بقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
}.
* { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي }
قوله: {بَصُرْتُ}: يقال: بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه، وأبصرَه. أي : نظر إليه. كذا قاله الزجاج. وقال غيره: "بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم".
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي مضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال "بَصِرْتُ" بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان "تَبْصُروا" خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} و [قوله]:
3314ـ .............. حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ * .......................
والباقون بالغَيْبة عن قومه.
(10/246)(1/4102)
---
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من "قَبْضَة" وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: "وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المعفولِ بالمصدر" قتل: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجٌ اليمن" ولا تقول: نَسْحَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
}. وقرأ الحسن "قُبْضَة" بضم القاف كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه "قُبْصَة" بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة.
وأدغم ابن محيصن الضادَ المعجمة في تاءِ المتكلم مع إبقائه الإِطباقَ، كما تقدَّم [في] "بَسَطْتَ". وأدغم الأخَوان وأبو عمروٍ الذال في التاء مِنْ "فَنَبَذْتُها".
* { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً }
قوله: {لاَ مِسَاسَ}: قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ لـ فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحُمَّى.
(10/247)
---(1/4103)
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم يُقرئا "مَسِيس" بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: "وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء: "إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب" وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ". فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ "اللوامح": "همو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ" فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب "اللوامح": "فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها "لا" النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو "لامالَ لك" لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني".
وقال ابنُ عطية: "لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر:
3315ـ تيمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه * ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ "مَساس" على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، وإلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
(10/248)
---(1/4104)
قوله: {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ ابنُ كثثر وابو عمروٍ بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك ـ فيما حكاه عنه ابن خالويه ـ بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب "اللوامح" كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري: "وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً. قال الأعشى:
3316ـ أَثْوَى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا * فَمَضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: "لا نعرف لقرارءةِ أبي نهيك مذهباً" وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه.
قوله: {ظَلْتَ} العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً. وأُبَيُّ والأعمش في الرواية الأخرى "ظَلِلْتَ" بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ".
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفاً. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه:
3317ـ ....................... * أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
(10/249)
---(1/4105)
وعَدَّ ابنُ الأنباري "هَمْتُ" في "هَمَمْتُ" ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعِف العينِ واللام سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مَجْرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو: "قَرْن يا نسوةُ في المنزل" ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} كا سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ضَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و"عاكفاً" خبرُ "ظلَّ".
قوله: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ.
والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
(10/250)
---(1/4106)
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر "لَنُحْرِقَنَّه" بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر "لَنَحْرُقَنَّه" كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. أمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد.
قوله: {لَنَنسِفَنَّهُ} العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً, وقرأ عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً. والنَّسْفُ: التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل: قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال: نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان. والتشديد للتكثير.
* { إِنَّمَآ إِلَاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً }
قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}: العامَّةُ على كسر السين خفيفةً. و"عِلْماً" على هذه القراءةِ تمييزٌ منقولٌ من الفاعلِ؛ إذِ الأصلُ: وَسِعَ كلَّ شيءٍ عِلْمُه. وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددةً. وفي انتصاب "علماً" حينئذ [وجهان]، أحدهما: أنه مفعولٌ به. قال الزمخشري: "وَجْهُه أنَّ وَسِع متعدٍّ إلى مفعولٍ واحد. وأمَّا "عِلْماً" فانتصابُه على التمييز فاعلاً في المعنى. فلما ثُقِّل نُقِل إلى التعديةِ إلى مفعولَيْنِ فنصبُهما معاً على المفعولية؛ لأن المُمِّيز فاعلٌ في المعنى، كما تقول في "خاف زيد عمراً": "خَوَّفْت زيداً عمراً" فتردُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً". وقال أبو البقاء: "والعنى: أعطى كل شيء عِلْماً" فضمَّنه معنى أعطى. وما قاله الزمخشريُّ أَوْلى.
(10/251)
---(1/4107)
والوجه الثاني: أنه تمييزٌ أيضاً كما هو في قراءةِ التخفيفِ. قال أبو البقاء: "وفيه وجهٌ آخرُ:/ وهو أن يكونَ بمعنى: عَظَّم خَلْقَ كلِ شيءٍ كالأرض والسماء، وهو بمعنى بَسَط، فيكون عِلْماً تمييزاً". وقال ابن عطية: "وسَّع خَلْقَ الأشياءِ وكَثَّرها بالاختراع".
* { كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً }
قوله: {كَذالِكَ نَقُصُّ}: الكافُ: إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدرِ المقدَّرِ. والتقديرُ: كَقَصِّنا هذا النبأ الغريبَ نَقُصُّ. و"مننت أنباءِ" صفةٌ لمحذوفٍ هو مفعولُ نَقُصُّ أي: نَقُصُّ نبأً من أنباءِ.
* { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً }
قوله: {مَّنْ أَعْرَضَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً أو موصولة. والجملةُ الشرطيةُ أو الخبريةُ الشبيهةُ بها في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"ذِكْراً".
* { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }
قوله: {خَالِدِينَ}: حالٌ مِنْ فاعل "يَحْمِلُ" . فإنْ قيل: كيفَ [وقع] حالاً من مفردٍ؟ فالجوابُ أنه حُمِل على لفظ "مَنْ" فَأُفْرِدَ الضميرُ في قولِه "أَعْرَضَ" و"فإنَّه" و"يَحْمِلُ"، وعلى معناها فَجُمِعَ في "خالدين" و"لهم". والضميرُ في "فيه" يعود لـ"وِزْراً". والمرادُ في العقاب المتسَبِّبِ عن الوِزْرِ وهو الذنبُ فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّبِ.
وقرأ داود بن رفيع "يُحَمَّلُ" مُضَعَّفاً مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ فاعلِه ضميرُ "مَنْ". و"وِزْراً" مفعولٌ ثانٍ.
(10/252)
---(1/4108)
قوله: {وَسَآءَ} هذه "ساء" التي بمعنى بِئْس. وفاعلُها مستترٌ فيها يعودُ على "حِمْلاً" المنصوبِ على التمييز، لأنَّ هذا البابَ يُفَسَّر الضمير فيه بما بعدَه. والتقديرُ: وساء الحِمْل حِمْلاً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: وساء الحِمْل حِمْلاً وِزْرُهم: ولا يجوز أن يكون الفاعلُ لـ"بِئْس" ضميرَ الوِزْرِ، لأنَّ شَرْطَ الضميرِ في هذا الباب أن يعودَ على نفس التمييز. فإن قلت: ما أنكْرتَ أن يكونَ في "ساء" ضميرُ الوِزْر؟ قلت: لا يَصِحُّ أن يكونَ في "ساء" ـ وحكمُه حكمُ "بئس" ـ ضميرُ شيءٍ بعينه غيرِ مبهمٍ. ولا جائزٌ أن تكونَ "ساء" هنى بمعنى أهمَّ وأحزنَ، فتكونَ متصرفةً كسائر الأفعال. قال الزمخشري: "كفاك صادَّاً عنه أَنْ يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى [قولِك]: وأحزن الوِزرُ لهم يومَ القيامة حِمْلاً. وذلك بعد أن تَخْرَجَ عن عُهْدةِ هذه اللامِ وعُهْدَةِ هذا المنصوب" انتهى.
واللامُ في "لهم" متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيلِ البيان، كهي في {هَيْتَ لَكَ
}.
* { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً }
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ}: "يومَ" بدل من "يومَ القيامة" أو بيانٌ له، أو منصوبٌ بإضمار فعل، أو خبرُ متبدأ مضمرٍ. وبُني على الفتحِ على رأي الكوفيين كقراءةِ {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} وقد تقدم.
وقرأ أبو عمروٍ "نَنْفُخُ" مبنياً للفاعل بنونِ العظمة، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيماً للمأمورِ، وهو المَلَكُ إسرافيل. والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه. والعامَّةُ على إسكانِ الواو. وقرأ الحسنُ وابنُ عامرٍ ـ في روايةٍ ـ بفتحها جمعَ "صُوْرَة" كغُرَف جمع غُرْفَة. وقد تقدَّم القولُ في "الصور" في الأنعام.
(10/253)
---(1/4109)
وقرىء "يَنْفُخُ" و"يَحْشُر" بالياءِ مفتوحةً مبيناً للفاعل، وهو الله تعالى أو المَلَكُ. وقرأ الحسنُ وطلحةُ وحميدٌ "يُنْفَخ" كالجمهور و"يَحْشر" بالياءٍ مفتوحةً مبنياً للفاعل. والفاعلُ كما تقدَّم ضمير الباري أو ضميرُ المَلَك. ورُوي عن الحسن أيضاً و"يُحْشَر" مبنياً للمفعول "المجرمون" رفعٌ به. و"زُرْقاً" حال من المجرمين. والمرادُ زُرْقَةُ العيونِ. وجاءَتِ الحالُ هنا بصفةٍ تشبه اللازمةَ؛ لأنَّ أصلَها على عَدَمِ اللزومِ، ولو قلتَ في الكلامِ: "جاءني زيدٌ أزرقَ العينِ" لم يَجُزْ إلاَّ بتأويلٍ.
* { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً }
قوله: {يَتَخَافَتُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً ثانية من "المجرمين" وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستتر في "زرقاً" فتكونَ حالاً متداخلةً إذ هي حالٌ من حال. ومعنى "يَتَخافَتُون: "أي: يتساْرُّوْن فيما بينهم.
وقوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ} هو مفعولٌ المَسارَّة. وقوله: {إِلاَّ عَشْراً} يجوز أن يُرادَ الليالي، فَحَذْفُ التاءِ من العددِ قياسٌ، وأن يرادَ الأيامُ فيُسألَ: لم حُذِفت التاء؟ فقيل: إنْ لم يُذْكَرِ المميِّز في عددِ المذكرِ جازت التاءُ وعدمُها. سُمع من كلامهم "صُمْنا من الشهر خمساً" والمَصُوْمُ إنما هو الأيامُ دون الليالي. وفي الحديث: "مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعه بسِتٍّ من شوال" وحَسُن الحذف هنا لكونِه رأسَ آيةٍ وفاصلة.
* { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً }
قوله: {إِذْ يَقُولُ}: منصوبٌ بـ"أعلمُ" وطريقةً" نصبٌ على التمييز.
* { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً }
(10/254)
---(1/4110)
قوله: {فَيَذَرُهَا}: في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ الأرضَ أُضْمِرَتْ للدلالةِ عليها؟ والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حَذْفِ مضاف أي: فَيَذَرُ مراكزَها ومَقارَّها. و"نَذَرُ" يجوز أن يكونَ بمعنى يُخَلِّيها، فيكونَ "قاعاً" حالاً، وأن يكونَ بمعنى يترك التصييريةِ فيتعدَّى لا ثنين فـ"قاعاً" ثانيهما.
وفي "القاع" أقوالٌ, فقيل: هو مستنقعُ الماء/ ولا يليقُ معناه هنا. والثاني: أنه المنكشِفُ من الأرض. قاله مكي. الثالث: أنَّه المكانُ المستوي ومنه قول ضرار بن الخطاب/
3318ـ لَتَكُوْنَنَّ بالبطاحِ قُرَيْشٌ * فَقْعَةَ القاع في أَكُفِّ الإِماءِ
الرابع: أنه الأرضُ التي لا نباتَ فيها ولا بناءَ.
والصَّفْصَفُ: الأرض المَلْساء. وقيل: المستوية، فهما قريبان من المترادِفِ. وجمعُ القاعِ: أقْوع وأَقْواع وقِيْعان.
* { لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاا أَمْتاً }
قوله: {لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً}: يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من الجبال، ويجوزُ أن تكونَ صفةً للحال المتقدمةِ وهي "قاعاً" على أحدِ التأويلين، أو صفة للمفعولِ الثاني على التاويل الآخر.
(10/255)
---(1/4111)
والعِوَج: تقدم الكلامُ عليه. قال الزمخشري هنا: "فإنْ قلتَ: قد فَرَّقوا بين العَوَج والعِوَج. قالوا: العِوَج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأَعْيان، والأرضُ عينٌ، فكيف صَحَّ فيها كَسْرُ العينِ؟ قلت: اختيارُ هذا اللفظِ له موقعٌ حَسَنٌ بديعٌ في وصفِ الأرضِ بالاستواءِ والمَلاسة ونفيِ الاعوجاج عنها، على أبلغِ ما يكونُ: وذلك أنك لو عَمَدْتَ إلى قطعةِ أرضٍ فَسَوَّيْتَها، وبالَغْتَ في التسوية على عينِك وعيونِ البُصَراء، واتَّفَقْتُمْ على أنَّه لم يَبْقَ فيها اعوجاجٌ قطٌ، وثم استَطْلَعْتَ رأي المهندس فيها وأمرته أن يَعْرِضَ استواءَها على المقاييسِ الهندسيةِ لَعَثَر فيها على عِوَجٍ في غير موضعٍ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ ، ولكن بالقياسِ الهندسِيِّ، فنفى اللهُ تعالى ذلك العِوَجَ الذي دَقَّ ولَطُفَ عن الإِدراك، اللهم إلاَّ بالقياس الذي يَعْرِفُه صاحبُ التقديرِ الهندسيِّ. وذلك الاعوجاجُ كمَّا لم يُدْرَكْ إلاَّ بالقياسِ دون الإِحساسِ لَحِقَ بالمعاني فقيل فيه "عِوج" بالكسر".
والأمْتُ: النُّبُوُّ اليسيرُ. يقال: مَدَّ حبلَه حتى ما فيه أَمْتٌ. وقيل: الأمْتُ: التَلُّ، وهو قريبٌ من الأولِ. وقيل: الشُّقوقُ في الأرضِ. وقيل: الأكامُ.
* { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }
قوله: {يَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بـ"يَتَّبِعُون". وقيل: بدلٌ من {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ للفصل الكثير. وأيضاً فإنه يبقى "يَتَّبِعُون" غيرَ مرتبطٍ بما قبلَه، وبه يفوتُ المعنى. والتقدير: يومَ إذ نُسِفت الجبال.
(10/256)
---(1/4112)
قوله: {لاَ عِوَجَ لَهُ} يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من "الداعي" ويجوز أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يَتَّبِعُونه اتِّباعاً لا عِوَجَ له. والضميرُ في "له" فيه أوجهٌ، أظهرُها: أنه يعودُ على الداعي أي: لا عِوَجَ لدعائِه بل يَسْمع جميعَهم، فلا يميلُ إلى ناسِ دونَ ناسٍ. وقيل: هو عائدٌ على ذلك المصدرِ المحذوفِ أي لا عِوَج لذلك الاتِّباع. الثالث: أنَّ في الكلام قلباً. تقديرُه لا عِوَجَ لهم عنه.
قوله: {إِلاَّ هَمْساً} مفعولٌ به وهو استثناءٌ مفرغٌ. والهَمْسُ: الصوتُ الخفيُّ. قيل: هو تحريكُ الشفتين دون نطقٍ. قال الزمخشري: "هو الرِّكْزُ الخفيُّ. ومنه الحروفُ المهموسةُ". وقيل: هو ما يُسْمع مِنْ وَقْعِ الأقدامِ على الأرض. ومنه هَمَسَتِ الإِبلُ: إذا سُمع ذلك مِنْ وَقْعِ أخفافِها على الأرض قال
3319ـ وهُنَّ يَمْشِيْنَ بنا هَمِيْسا
* { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }
قوله: {يَوْمَئِذٍ}: بدلٌ ممَّا تقدم أو منصوب بما بعد "لا" عند مَنْ يُجيز ذلك. والتقديرُ:يومَ إذ يَتَّبِعُون لا تنفعُ الشفاعةُ.
(10/257)
---(1/4113)
قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} فيه أوجه. أحدُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به. والناصبُ له "تَنْفَعُ". و"مَنْ" حينئذٍ واقعةٌ على المشفوعِ له. الثاني: أنه في محلِّ رفعٍ بدلاً من الشفاعةِ، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: إلاَّ شفاعةَ مَنْ أَذِن له. الثالث: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ من الشفاعةِ بتقدير المضاف المحذوف، وهو استثناءٌ متصلٌ على هذا. ويجوزُ أَنْ يكنَ استثناءً منقطعاً إذا لم تقدِّرْ شيئاً، وحينئذٍ يجوزُ أن يكونَ منصوباً وهي لغةُ الحجازِ، أو مرفوعاً وهو لغة تميم. وكلُّ هذه الأوجهِ واضحةٌ ممَّا تقدم فلا أُطيل بتقريرها. و"له" في الموضعين للتعليل كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أي: لأجله ولأجلهم.
* { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً }
قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}: يُقال: عَنا يَعْنُو إذا ذَلَّ وخَضَع. وأَعْناه غيرُه أي: أذلَّه. ومنه العُنَاة جمع عانٍ. وهو الأسيرُ قال:
3320ـ فيا رُبَّ مَكْروبٍ كرَرْتُ وراءَه * وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه فَفَدَّاني
وقال أمية بن أبي الصلت:
3321ـ مَلِيكٌ على عَرْشِ السماء مُهَيْمِنٌ * لعِزَّته تَعْنُوا الوجوهُ وتَسْجُد
وفي الحديث: "فإنَّهنَّ عَوانٍ
". قوله: {وَقَدْ خَابَ} يجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً، ويجوز أن تكونَ اعتراضاً. قال الزمخشري: "وقد خابَ وما بعده اعتراضٌ كقولك: خابوا وخَسِروا، وكلُّ مَنْ ظَلَم فهو خائبٌ خاسِرٌ"، ومرادُه بالاعتراضِ هنا أنَّه خَصَّ الوجوهَ بوجوهِ العصاةِ حتى تكونَ الجملةُ قد دَخَلَتْ بين العُصاةِ وبين {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} فهذا/ عنده قسيمُ "وعَنَتِ الوجوهُ" فلهذا كان اعتراضاً. وأمَّا ابنُ عطية فجعل الوجوهَ عامة، فلذلك جعل "وقد خابَ مَنْ حَمَل ظلماً" معادَلاً بقولِه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} إلى آخره.(1/4114)
(10/258)
---
* { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً }
قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: جملةٌ حاليةٌ. وقوله: {فَلاَ يَخَافُ}. قرأ ابنُ كثيرٍ بجزمِه على النهي. والباقون برفعِه على النفعي والاستئنافِ أي: فهو لا يَخافُ.
والهَضْمُ: النَّقْصُ. تقول العرب: "هَضَمْتُ لزيدٍ مِنْ حقي" أي: نَقَصْتُ منه، ومنه "هَضِيم الكَشْحَيْن" أي ضامِرُهما. ومِنْ ذلك أيضاً {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي: دقيقٌ متراكِبٌ، كأنَّ بعضَه يظلم بعضاً فيُنْقِصُه حقَّه. ورجل هظيم ومُهْتَضَم أي: مظلومٌ,. وهَضَمْتُه واهْتَضَمْتُه وتَهَضَّمْتُه، كلٌ بمعنىً. اقل المتوكل الليثي:
3322ـ إنَّ الأذِلَّةَ واللِّئامَ لَمَعْشَرٌ * مَوْلاُهمُ المُتَهَضِّمُ المظلومُ
قيل: والظلمُ الهَضْمُ متقاربان. وفَرَّق القاضي المارودي بينهما فقال: "الظلمُ مَنْعٌ جميعِ الحقِّ، والهضمُ مَنْعُ بعضِه".
* { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً }
قوله: {وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ}: نسقٌ على {كَذالِكَ نَقُصُّ}. قال الزمخشري: "ومِثْلُ ذلك الإِنزالِ، وكما أنزَلْنا عليك هؤلاء الآيات أَنْزَلْنا القرآنَ كلَّه على هذه الوتيرةِ". وقال غيرُه: "والمعنى: كما قَدَّرْنا هذه الأمورَ وجَعَلْناها حقيقةً بالمرصادِ للعبادِ، كذلك حَذَّرْنا هؤلاءِ أمرَها وأنزَلْناه قرآناً".
قوله: {مِنَ الْوَعِيدِ} صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: صَرَّفْنا في القرآنِ وعيداً مِن الوعيد، والمرادُ به الجنسُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ "مِنْ" مزيدةً على رأيِ الأخفشِ في المفعولِ به. والتقديرُ: وصَرَّفْناه في الوعيدَ.
(10/259)
---(1/4115)
وقرأ الحسن "أو يُحْدِثْ" كالجماعة، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعل. وعبدالله والحسنُ أيضاً في روايةٍ ومجاهدٌ وأبو حيوة: "نُحْدِثْ" بالنون وتسكينِ اللام أيضاً. وخُرِّجَ على إجراء الوصل مُجْرى الوقفِ، أو على تسكينِ الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرىء القيس:
3323ـ فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ * .......................
وقول جرير:
3324ـ ....................... * أو نهرُ تِيْرَى فلا تَعْرِفْكُمُ النَّفَرُ
وقد فعلَه كما تقدَّم أبو عمروٍ في الراءِ خاصةً نحو {يَنصُرُكُم
}. وقُرِىء "تُحْدِثُ" بتاء الخطاب أي: تُحْدِثُ أنت.
* { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }
قوله: {يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}: العامَّةُ على بناء "يُقْضَى" للمفعولِ ورفع "وَحْيُه" لقيامه مقامَ الفاعلِ. والجحدري وأبو حيوةَ والحسنُ ـ وهي قراءةُ عبدالله ـ "نَقْضي" بنون العظمة مبنياً للفاعلِ، و"وَحْيَه" معفول به. وقرأ الأعمشُ كذلك، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعلِ. استثقلَ الحركةَ وإن كانَتْ خفيفةً على حرفِ العلةِ. وقد تقدَّم لك منه شواهدُ عند قراءةِ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
}.
* { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }
وقرأ اليماني "فَنُسِي" بضم النون وتشديد السين بمعنى: نَسَّاه الشيطانُ.
قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} يجوزُ أن تكونَ "وجد" علميةً فتتعدَّى لاثنين، وهما "له عَزْما"، وأنْ تكونَ بمعنى الإِصابة فتتعدى لواحدٍ، وهو "عَزْما". و"له" متعلقٌ بالوجدانِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "عَزْما" إذ هو في الأصل صفةٌ له قُدِّمَتْ عليه.
* { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوااْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى }
(10/260)
---(1/4116)
قوله: {أَبَى}: جملة مستأنفةٌ لأنها جوابُ سؤالٍ مقدرٍ. أي: ما منعه منِ السجود؟ فأُجيب بأنه أبى واستكبر. ومفعولُ الإِباءِ يجوز أن يكونَ مُراداً. وقد صَرَّح به في الآيةِ الأخرى في قولِه {أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}. وحَسَّن حَذْفَه هنا كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ البتةَ، وأنَّ المعنى: إنه مِنْ أهلِ الإِباءِ والعصيانِ، من غيرِ نظرٍ إلى متعلَّقِ الإِباء ما هو؟
* { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
قوله: {فَتَشْقَى}: منصوبٌ بإضمار "أَنْ" في جواب النهي. والنهيُ في الصورةِ لإِبليس، والماردُ به هما أي: لا تتعاطيا أسبابَ الخروجِ فيحصُلَ لكما الشقاءُ، وهو الكَدُّ والتعبُ الدنيوي خاصة. ويجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً على الاستئنافِ ِأي: فأنت تَشْقَى. كذا قَدَّره الشيخ. وهو بعيدٌ أو ممتنع؛ إذ ليس المقصودُ الإِخبارَ بأنه يشْقَى، بل إنْ وَقَع الإِخراجُ لهما من إبليسَ حَصَلَ ما ذكر. وأسند الشقاوةَ إليه دونَها؛ لأنَّ الأمورَ معصوبةٌ برؤوس الرجال. وحسَّن ذلك كونُه رأسَ فاصلةٍ.
* { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى }
قوله: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ} في محلِّ نصب اسماً لـ"إنَّ". والخبرُ "لك". والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوع والعريِ. فـ"تَعْرى" منصوبٌ تقديراً نَسَقاً على "تجوعَ". والعُرْيُ: تجرُّدُ الجِلْدِ عن شيءٍ يَقيه. يُقال منه: عَرِي يَعْرَى عُرِيَّاً قال الشاعر:
3325ـ وإنْ يَعْرَيْنَ إن كُسِيَ الجَواري * فَتَنْبُو العينُ عن كَرَمٍ عِجافٍ
* { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى }
(10/261)
---(1/4117)
قوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ}: قرأ نافع وأبو بكر و"إنك" بكسرِ الهمزةِ. والباقون بفتحها. فَمَنْ كَسَرَ فيجوز أن يكونَ ذلك استئنافاً، وأن يكونَ نَسَقاً على "إنَّ" الأولى. ومَنْ فتح فلأنَّه عَطَفَ مصدراً مؤولاً على اسم "إنَّ" الأولى. والخبرُ "لك" المتقدمُ. والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوعِ وعدمَ العُرِيِّ وعَدَمَ الظمأ والضُّحا. وجاز أن تكون "أنَّ" بالفتح أسماً لـ"إنَّ" بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يَجُزْ. لو قتل: "إن إنَّ زيداً قامئ: حَقٌّ" لم يَجُزْ فلمَّا فُصِل بينهما جاز. وتقول: "إنَّ عندي أن زيداً قائم" فـ"عندي" هو الخبرُ قُدِّم على الاسمِ وهو "أنَّ" وما تأويلِها لكونِه ظرفاً، والآيةُ من هذا القبيل؛ إذ التقديرُ: وإنَّ لك أنَّك لا تضمأ. وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: "إنَّ" لا تدخل على "أنَّ" فلا يُقال: "إنَّ إنَّ زيداً مطلق"، والواوُ نائبةٌ عن "إنَّ"، وقائمةٌ مقامَها فِلمَ دَخَلَتْ عليها؟ قلت: الواوُ لم تُوْضَعْ لتكون أبداً نائبةً عن "إنَّ" إنما هي نائبةٌ عن كلِّ عاملٍ، فلمَّا لم تكنْ حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كـ"إنَّ" لم يمتنعْ اجتماعُها كما [امتنع اجتماع] إنَّ وأنَّ.
وضَحَى يَضْحَى أي: برز للشمسِ. قال عمر بن أبي ربيعة:
3326ـ رَأَتْ رجلاً أَيْما إذا الشمسُ عارَضَتْ * فَيَضْحى وأيْما بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
وذكر الزمخشريُّ هنا معنًى حسناً في كونِه تعالى ذكر هذه الأشياءَ بلفظ النفي، دونَ أَنْ يذكرَ أضدادَها بلفظِ الإثباتِ. فيقولك إنَّ لك الشِّبَعَ والكِسْوةَ والرِّيَّ والاكتنانَ في الظلِّ فقال: "وَذَكَرها بلفظِ لنقائضهِا التي هي الجوعُ والعُرِيُّ الظمأُ والضَّحْوُ ليطرُقَ سمعَه بأسامي أصنافِ الشِّقْوَةِ التي حَذَّره منها حتى يَتحامى السببَ الموقعَ فيها كراهةً لها.
(10/262)
---(1/4118)
* { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى }
قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ}: وَسْوَسَ إليه أي: أنهى إليه الوسوسةَ. وأمَّا وَسْوس له فمعناه لأجلِه. الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف عَدَّ "وَسْوس" تارة باللامِ في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} وأخرى بـ إلى: قلت وَسْوَسَةُ الشيطانِ كوَلْوَلَةِ الثَّكْلى ووَقْوَقَةِ الدجاجة في أنها حكاياتٌ للأصواتِ، فحكمُها حكمُ صوتٍ أو جَرْسٍ. ومنه وَسْوَسة المُبَرْسَم، وهو مُوَسْوِس بالكسر. والفتحُ لحنٌ. وأنشد ا بن الأعرابي:
3327ـ وَسْوَسَ يَدْعو مُخْلِصاً رَبَّ الفَلَقْ
فإذا قلت: وَسْوَسَ له فمعناه لأجلِه كقوله:
3328ـ أجْرِسْ لها يا ابنَ أبي كِباشِ
ومعنى وَسْوس إليه: أنهى إليه الوَسْوَسة لكونِه بمعنى ذكر له. ويكون بمعنى لأجله.
* { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }
قوله: {فَغَوَى}: الجمهورُ على فتحِ الواوِ وبعدها ألفٌ. وتفسيرُها واضحٌ. وقيل: معناه بَشِمَ. من قولهم: "غَوِي البعير" بكسر الواو، والياء، إذا أصابه ذلك. وقد حكى أبو البقاء هذه قراءةً وفسَّروها بهذا المعنى. قال الزمخشريُّ: "وعن بعضِهم: فَغَوى فبشِم من كثرةِ الأكل. وهذا ـ وإن صَحَّ على لغةِ مَنْ يَقْلِبُ الياءَ المكسورَ ما قبلَها ألفاً فيقولُ في فَنِي وبَقِي: فَنا وبَقاى وهم بنو طيِّىء ـ تفسيرٌ خبيثٌ". قتل: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنه قُرِىء بكسر الواو، ولو اطَّلع عليها لَرَدَّها. وقد فَرَّ القائلُ بهذه المقالةِ مِنْ نسبةِ آدمَ عليه السلام إلى الغَيِّ.
* { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى }
(10/263)
---(1/4119)
قوله: {ضَنكاً}: صفةٌ لـ"معيشة"، وأصلُه المصدرُ فلذلك لم يُؤَنَّثْ. ويقع للمفردِ والمثنى والمجموعِ بلفظٍ واحدٍ.
وقرأ الجمهورُ "ضَنْكاً" بالتنوينَ وَصْلاً وإبدالِه ألفاً وقفاً كسائِرِ المعربات. وقرأتْ فرقةٌ قوله: "ضَنْكى" بألفٍ كسَكْرى. وفي هذه الألف احتمالان، أحدهما: أنها بدلٌ من التنوين أجرى الوصلَ مُجْرى الوقف كنظائرَ له مَرَّتْ. وسيأتي منها بقيةٌ إن شاء الله تعالى. والثاني: أن تكونَ ألفَ التأنيث، بُني المصدرُ على فَعْلى نحو دَعْوَى.
والضَّنْكُ: الضِّيقُ والشِّدة. يُقال منه: ضَنُكَ عيشُه يَضْنُك ضَنَاكة وضَنْكاً. وامرأة ضِناك كثيرةُ لحمِ البدنِ، كأنهم تخيَّلوا ضِيْقَ جِلْدِها به.
وقرأ العامَّةُ "ونَحْشُرُه" بالنونِ ورَفْعِ الفعلِ على الاستئناف. وقرأ أبانُ ابن تغلب في آخرين بتسكينِ الراءِ. وهي محتملةٌ لوجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ مجزوماً نَسَقاً على مَحَلِّ جزاء الشرط، وهو الجملةُ مِنْ قولِه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} فإنَّ محلَّها الجزمُ، فه كقراءةِ ِ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} بتسكين الراء. والثاني: أَنْ يكونَ السكونُ سكونَ تخفيفٍ نحو {يَأْمُرُكُمْ} وبابِه.
وقرأ فرقةٌ بياءِ الغَيْبة وهو اللهُ تعالى أو المَلَك. وأبان بن تغلب في رواية "ونَحْشُرهْ" بسكونِ الهاء وصلاً. وتخريجُها: إمَّا على لغةِ بني عقيل وبني كلاب، وإماَّا على أجراء الوصل مُجرى الوقف. و"أعمى" نصب على الحال.
* { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيا أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً }
قوله: {وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}: جملةٌ حالية من مفعولِ "حَشَرْتني". وفَتَحَ الياءَ مِنْ "حَشَرْتني" قبل الهمزةِ نافعٌ وابن كثير.
* { قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى }
(10/264)
---(1/4120)
قوله: {كَذالِكَ أَتَتْكَ}: قال أبو البقاء: "وكذلك" في موضعِ نصبٍ أي: حَشْراً مثلَ ذلك، أو فَعَلْنا مثلَ ذلك، أو إتياناً مثلَ ذلك، أو جزاءً مثلَ إعراضِك أو نِسْياناً". وهذه الأوجهُ التي قالها تكون الكافُ في بعضها نصباً على المصدر، وفي بعضها نَصْباً على المفعول به. ولم يذكر الزمخشريُّ فيه غيرَ المعفولِ به فقال: "أي: مثلَ ذلك فَعَلْتَ أنت، ثم فسِّر بأنَّ آياتِنا أَتَتْك واضحةً مستنيزةً فلم تنظر إليها بعينِ المُعْتَبِرِ".
* { وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ}: أي: ومثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي مَنْ أسرف.
* { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى }
قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}: في فاعل "يَهْدِ" أوجهٌ، أحدهما: أنه ضميرُ الباري تعالى. ومعنى يَهْدي: يُبَيِّن. ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه: أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة. قال أبو البقاء: "وفي فاعلِه وجهان، أحدهما: ضميرُ اسم الله تعالى، وعَلَّق "بَيَّن" هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}. قال الشيخ: و"كم: هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها". وقال الزمخشري: "ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضيمرُ اللهِ أو الرسولِ. ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ.
(10/265)
---(1/4121)
الوجه الثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه. قال الحوفي: "كم أَهْلكنا" قد دَلَّ على هلاك القرونِ. التقدير: أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوٌ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك. وقال أبو البقاء: "الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله: {أَهْلَكْنَا} أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له".
الوجه الثالث: أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده. قال الزمخشري: "فاعلُ "لم يَهْدِ" الجملةُ بعده. يريدُ: ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه. ونظيرُه قولُه تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} أي تَرَكْنا عليه هذا الكلام". قال الشيخ: "وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ "يَهْدِ" هو مذهبٌ كفوي. وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} فإنَّ "تركْنا" معناه معنى القول، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل: وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ، والجملةُ تُحْكَى بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ".
الوجهُ الرابعُ: أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يُوْحَى إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية. وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري.
الوجُه الخامسُ: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره: "إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه: الهُدى أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار" قال ابن عطية: "وهذا عندي أحسنُ التقادير".
(10/266)
---(1/4122)
قال الشيخ: "وهو قولُ المبردِ، وليس بجيدٍ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسنُه أَنْ يقالَ: الفاعل مضمر تقديره: يهد هو أي الهدى"، قلت: ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، بل فيه أنه مقدرٌ، ولفظٌ "مقدرٌ" كثيراً ما يُستعمل في المضمر. وأما مفعولُ "يَهْدِ" ففيه وجهان أحدهما: أنه محذوف. والثاني: أن يكونَ الجملةَ من "كم" وما في حَيِّزها؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه.
الوجه السادس: أنَّ الفاعلَ "كم"، قاله الحوفي وأنكره على قائله؛ لأنَّ "كم" استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها. قال الشيخ: "وليست هنا استفهاماً بل هي خبرية". واختار الشيخ أن يكون الفاعلُ ضميرَ الله تعالى فقال: "وأحسنُ التخاريجِ أن يكونَ الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى فكأنه قال: أفلم يبيِّنِ الله. ومفعول "يُبَيِّن" محذوفٌ أي: العبر بإهلاك القرونِ السابقة. ثم قال: {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي: كثيراً أَهْلَكْنا فـ"كم" معفولةٌ بأهلكنا، والجملةُ كأنها مفسِّرة للمفعولِ المحذوف لـ"يَهْدِ".
قوله: {مِّنَ الْقُرُونِ} في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ"كم" لأنها نكرة. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من النكرة. ولا يجوزُ أن يكونَ تمييزاً على قواعد البصريين، و"مِنْ" داخلةٌ عليه على حَدِّ دخولِها على غيرِه من التمييزات لتعريفِه.
وقرأ العامَّةُ "يَهْدِ" بياءِ الغَيْبة. وتقدَّم الكلامُ في فاعِله. وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنونِ المُؤْذِنَةِ بالتعظيم، وهي مؤيدةٌ لكونِ الفاعلِ في قراءةِ العامَّةِ ضميرَ الله تعالى.
(10/267)
---(1/4123)
قوله: {يَمْشُونَ} حالٌ من القرون أو مِنْ مفعولِ "أهلَكْنا". والضميرُ على هذين عائدٌ على القرونِ المُهْلَكَة. ومعناه: إنَّا أهلكناكم وهم في حالِ أَمْنٍ ومَشْيٍ وتَقَلُّبٍ في حاجاتهم كقوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في "لهم". والضميرُ في "يَمْشُون" على هذا عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير "لهم"، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم. والعاملُ فيها "يَهْدِ"./ و[المعنى]: أنكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفةِ، وتتصرَّفون في بلادهم، فينبغي أَنْ تعتبروا لئلاَّ يَحُلَّ بكم ما حلَّ بهم. وقرأ ابن السميفع "يُمَشَّوْن" مبنياً للمفعول مضعَّفاً؛ لأنه لَمَّا تَعَدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.
* { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }
قوله: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى}: في رفعِه وجهان، أظهرُهما: عطفُه على "كلمةٌ" أي: ولولا أجلٌ مُسَمَّى لكان العذابُ لا زماً لهم. الثاني: ـ جَوَّزه الزمخشريُّ ـ وهو أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر. والضميرُ عائدٌ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسياقِ. وقام الفصلُ بالجرِّ مَقامَ التأكيدِ. والتقدير: ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربك لكان الأخذُ العاجل وأجلٌ مُسَمَّى لازِمَيْن لهم، كما كانا لازِمَيْنِ لعادٍ وثمودَ، ولم ينفردِ الأجلُ المُسَمى دون الأخذِ العاجل.
قلت: فقد جعل اسمَ "كان" عائداً على ما دَلَّ عليه السياقُ، إلاَّ أنه قد تُشْكِلُ عليه مسألةٌ: وهو أنه قد جَوَّز في "لزام" وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ مصدرَ لازَمَ كالخِصام، ولا إشكال على هذا.
(10/268)
---(1/4124)
والثاني: أن يكون وصفاً على فِعال بمعنى مُفْعِل أي: مُلْزِم، كأنه آلةُ اللُّزوم لفَرْطِ لُزومه كما قالوا: لِزازُ خَصْمٍ، وعلى هذا فيُقال: كان ينبغي أَنْ يطابق في التثنية فيقال: لِزَامَيْنِ بخلاف كونه مصدراً فإنه يُفْرَدُ على كل حال.
وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ "لزاماً" جمعَ لازم كقِيام جمعَ قائِم.
* { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى }
قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ}: حالٌ أي: وأنت حامدٌ له. قوله: {وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ} متعلِّقٌ بـ"سَبِّحْ" الثانيةِ، وقد تقدَّم ما في هذه الفاء.
قوله: {وَأَطْرَافَ} العامَّةُ علت نصبِه. وفيه وجهان أحدُهما: أنه عطفٌ على محلِّ {وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ}. والثاني: أنه عطفٌ على "قبلَ". وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمر "وأطرافِ" بالجرِّ عَطْفاً على "آناءِ الليل". وقوله هنا "أطرافَ" وفي هود {طَرَفَيِ النَّهَارِ} فقيل: هو مِنْ وَضْعِ الجمعِ موضعَ التثنيةِ كقوله:
3329ـ ظَرْاهما مثلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ
وقيلك هو على حقيقتِه. والمرادُ بالأَطْراف: الساعات.
قوله: {تَرْضَى} قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم تُرْضَى" مبيناً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعلِ، وعليه {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
}.
* { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
(10/269)
---(1/4125)
قوله: {أَزْوَاجاً}: في نصبِه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وهو واضح. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في "به". راعى لفظَ "ما" مرةً، ومعناها أخرى، فلذلك جَمَع. قال الزمخشري: "ويكون الفعلُ واقعاً على "منهم". قال الزمخشري: "كأنه قيل: إلى الذي مَتَّعْنا به وهو أصنافُ بعضِهم وناساً منهم".
قوله: {زَهْرَةَ} في نصبه تسعة أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضَمَّن مَتَّعْنا معنى أَعْطَيْنا. فـ"أزواجاً" مفعولٌ أولُ، و"زهرةَ" هو الثاني. أن يكونَ بدلاً من "أَزْواجاً"، وذلك: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي زهرة، وإمَّا على المبالغةِ جُعِلوا نفسَ الزهرة. الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ دَلَّ عليه "مَتَّعْنا" تقديرُه: جَعَلْنا لهم زهرةً. الثالث: نَصْبُه على الذَّمِّ.، قال الزمخشري: "وهو النصبُ على الاختصاص". الرابع: أن يكونَ بدلاً من موضعِ الموصولِ. قال أبو البقاء: "واختاره بعضُهم. وقال آخرون: لا يجوزُ لأنَّ قولَه {لِنَفْتِنَهُمْ} مِنْ صلة "مَتَّعْنا" فيلزمُ الفصلُ بين الصلةِ والموصولِ بالأجنبي". وهو اعتراضٌ حسنٌ.
الخامس: أن ينتصبَ على البدلِ من محلِّ "به". السادس: أن ينتصِبَ على الحال مِنْ "ما" الموصولةِ. السابع: أ،ه حالٌ من الهاء في "به" وهو ضميرُ الموصولِ فهو كالذي قبله في المعنى، فإنْ قيل: كيف تقع الحالُ معرفةً؟ فالجوابُ أن تجعلَ "زهرةَ" منونةً نكرة، وأنما حُذِفَ التنوينُ لالتقاء الساكنين نحو:
3330ـ ......................... * ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
وعلى هذا: فيم جُرَّتِ الحياة؟ فقيل: على البدل مِنْ "ما" الموصولة. والثامن: أنه تمييزٌ لـ"ما" أو للهاءِ في "به" قاله الفراء. وقد رَدُّوه عليه بأنه معرفةٌ، والمميِّزُ لا يكون معرفة. وهذا غيرُ لازمٍ له؛ لأنه يجوزُ تعريفُ التمييز على أصول الكوفيين.
(10/270)
---(1/4126)
التاسع: أنه صفةٌ لـ"أَزْواجاً" بالتأويلين المذكورَيْن في نصبِه حالاً. وقد منع أبو البقاء من هذا الوجهِ بكونِ الموصوفِ نكرةً، والوصفِ معرفةً، وهذا يُجابُ عنه بما أُجيب في تسويغِ نصبهِ حالاً، أعني حذفَ التنوينِ لالتقاءِ السكانين.
والعامَّةُ على تسكينِ الهاء. وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حيوةَ بفتحِها، فقيل: بمعنى، كـ جَهْرَة وجَهَرَة. وأجاز الزمخشري أَنْ يكونَ جمعَ زاهر كفاجِر وفَجَرة وبارّ وبَرَرَة، وروى الأصمعي عن نافع "لنُفْتِنَهم" بضمِّ النون مِنْ أَفْتَنَه إذا أوقعه في الفتنةِ.
والزَّهْرَةُ: بفتحِ الهاء وسكونِها كنَهْر ونَهَر، ما يَرُوْقُ من النَّوْر. وسِراجٌ زاهِرٌ لبريقِه، ورجلٌ أزهرُ وأمراٌ زهراءُ من ذلك. والأنجمعُ الزهرُ هي المضيئةُ.
* { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
قوله: {لِلتَّقْوَى}: أي: لأهلِ التقوى. ويؤيد هذات قولُه في موضعٍ أخرَ {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وقرأ ابن وثاب "نَرْزُك" بإدغام القاف في الكاف./ والمشهورُ عنه أنه لا يدُغِمُ إلاَّ إذا كانَتِ الكافُ متصلةً بميمٍ جمعٍ نحو {خَلَقَكُمْ} وقد تقدم.
* { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى }
(10/271)
---(1/4127)
قوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ}: قرأ نافع وأبو عمرو وحفص "تأتهم" بالتأنيثِ, والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. وقرأ العامَّةُ "بَيِّنَةُ ما" بإضافة "بَيِّنَة" إلَى "ما" مرفوعةً وهي واضحةٌ. وقرأ أبو عمروٍ فيما رواه أبو زيدٍ بتنوينِ "بَيِّنَةٌ" مرفوعةً. وعلى هذه القراءةِ ففي "ما" أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من "بَيِّنَةٌ" بدل كل من كل. والثاني: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هي ما في الصحف الأولى. والثالث أَنْ تكونَ "ما" نافيةً. قال صاحب: اللوامح": "وأُريدَ بذلك ما في القرآن من الناسخ و الفصلِ ممَّا لم يكنْ في غيرِه من الكتب".
وقرأَتْ جماعةٌ "بَيِّنَةً" بالتنوين والنصب. ووجهُها أَنْ تكونَ "ما" فاعلةً، و"بَيِّنَةً" نصب على الحال، وأنَّث على معنى "ما". ومَنْ قرأ بتاء التأنيث فحملاً على معنى "ما"، ومَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة فعلى لفظِها.
وقرأ ابنُ عباس بسكونِ الحاء.
* { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى }
والهاءُ في "قَبْلِهِ" يجوزُ أَنْ تعودَ للرسول بدليلِ قولِه: {لَوْلاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}. وجَوَّز الزمخشري وغيرُه أَنْ تعودَ على "بَيِّنَةٍ" باعتبارِ ألأنها في معنى البرهان والدليل.
قوله: {فَنَتَّبِعَ} نصبٌ بإضمار "أَنْ" في جوابِ التخصيص. وفي إعراب أبي البقاء: "في جوابِ الاستفهام" وهو سهوٌ.
وقرأ ابنُ عباس وابنُ الحنيفة والحسن وجماعةٌ كثيرة "نُذَلَّ ونَخْزَى". مبنيين للمفعول.
* { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى }
و"ُتَرَبِّصٌ" خبرٌ "كل"، أَفرَدَ حملاً على لفظ "كل".
(10/272)
---(1/4128)
قوله: {مَنْ أَصْحَابُ} يجوز في "مَنْ" هذه وجهان، أظهرهما: أَنْ تكونَ استفهاميةً مبتدأةً، و"أصحابُ" خبره. والجملةُ في محلِّ نصبٍ سادَّة مَسَدَّ المفعولَيْن. والثاني ـ ويُعزى للفراء ـ أن تكمونَ موصولةً بمعنى الذين. و"اصحابُ" خبر متبدأ مضمر أي: هم أصحاب، وهذا على مقتضَى مذهبِهم، يحذفون مثلَ هذا العائدِ وإن لم تَطُلِ الصلةُ. ثم "عَلِمَ" يجوز أَنْ تكونَ عرفانيةً فتكتفيَ بهذا المفعولِ، وأن تكون على بابها فلا بٌدَّ مِنْ تقديرِ ثانيهما.
وقرأ العامَّةُ: "السَّوِيِّ" على وزن فَعيل بمعنى المُسْتَوي. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير "السَّواء" بفتح ِ السينِ والمدِّ، بمعنى الوسط الجيِّد. وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري "السُّوْءَى" على فُعْلَى باعتبار أن الصراط يُذَكَّرُ ويؤنث. وقرأ ابن عباس "السَّوْء" بفتح السين بمعنى الشرِّ.
ورُوي عنهما "السُّوَّى" بضم السين وتشديد الواو. ويحتمل ذلك وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ قَلَبَ الهمزةَ واواً، وأدغم الواوَ في الواو، وأَنْ يكونَ فُعْلَى من السَّواء. أصلُه السُّوْيا فقُلِبَتِ الياءُ واواً وأُدْغم أيضاً. وكان قياسُ هذه السُّيَّا؛ لأنه متى اجتمع ياءٌ وواوٌ وسَبَقت إحداهما بالسكون قُلبت الواوُ ياءً وهنا فُعِل بالعكس.
وقُرِىء "السُّوَيِّ" بضم السين وفتح الواو وتشديد الياءِ تصغيرَ "سُوْء" قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وليس بجيدٍ إذ لو كانَ كذلك لثَبَتَتْ همزةُ "سوء". والأجودُ أَنْ يكونَ تصغيرَ "سواء"، كقولِهم عُطَيّ في عَطاء". قلت: وقد جعله أبو البقاء أيضاً تصغيرَ السَّوْس يعني بفتح السين. ويَرِدُ عليه ما تقدَّم إيرادُه على الزمخشريِّ، وإبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ جائزٌ فلا إيرادَ.
(10/273)
---(1/4129)
قوله: {وَمَنِ اهْتَدَى} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ استفهاميةً، وحكمُها كالتي قبلها إلاَّ في حَذْفِ العائِد. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ على ما تقدَّم في الاستفهاميةِ. الثالث: أنها في محلِّ جرٍّ نَسَقاً على "الصراطِ" أي: وأصحابُ مَنِ اهتدى. وعلى هذين الوجهين تكونُ موصولةً، قال أبو البقاء في الوجه الثاني: "وفيه عَطْفٌ الخبرِ على الاستفهام، وفيه تقويةٌ قولِ الفرَّاءِ" يعني أنه إذا جَعَلَها موصولةً كانت خبريةً.(1/4130)
سورة الأنبياء
* { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ }
(10/274)
قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ}: اللامُ متعلقٌ بـ"اقترب". قال الزمخشري: "هذه اللامُ لا تخلُو: إمَّا أَنْ تكونَ صلةً لاقترب، أو تأكيداً لإِضافةِ الحسابِ إليهم كقولك: أَزِفَ للحَيِّ رحيلُهم، ونحون ما أوردَه سيبويه في باب "ما يُثَنَّى فيه المستقِرُّ توكيداً" نحو: "عليك زيدٌ حريصٌ عليك"، و"فيك زيد راغب فيك"، ومنه قولهم: "ولا أبا لك" لأنَّ اللاَم مؤكدةٌ لمعنى الإِضافة. وهذا الوجهُ أغربُ من الأول. قال الشيخ:/ "يعني بقولِه صلةً لا قتربَ أي: متعلقةً به. وأمَّا جَعْلُه اللامَ تأكيداً لإِضافة الحسابِ غليهم مع تقدُّمِ اللامِ ودخولِها على الاسمِ الظاهرِ، فلا نعلم أحداً يقول ذلك، وأيضاً فتحتاج إلى ما تتعلَّقُ به. ولا يمكن تعلُّقهام بـ"حسابُهم"؛ لأنه مصدرٌ موصولٌ، لأن قُدِّم معمولُه عليه. وأيضاً فإنَّ التوكيدَ يكونُ متأخراً عن المُؤَكَّد، وأيضاً فلو أُخَّر في هذا التركيبِ لم يَصِحَّ. وأمَّا تشبيهُه بما أورد سيبويهِ فالفرقُ واضحٌ فإنَّ "عليك" معمولٌ لـ"حريصٌ"، و"عليك" المتأخرةُ تأكيدٌ، وكذلك "فيك زيدٌ راغبٌ فيك" يتعلَّقُ "فيك" بـ"راغبٌ"، و"فيك" الثانيةُ توكيدٌ. وإنما غَرَّه في ذلك صحةُ تركيبِ حساب الناس، وكذلك "أَزِفَ رحيلُ الحيِّ" فاعتقدَ إذا تقدَّم الظ اهرُ مجروراً باللامِ وأُضيف المصدرُ لمضيرِه أنَّه من بابٍ "فيك زيد راغب فيك"، فليس مثلَه. أمَّا "لا أبا لك" فهي مسألةٌ مشكلةٌ، وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك؛ لأنَّ اللامَ فيها جاوَرَتِ الإِضافةَ، ولا يُقاس عليها لشذوذِها وخروجها عن الأقيسةِ".
قلت: مسألةُ الزمخشري أشبهُ شيءٍ بمسألةِ "لا أبا لَك"، والمعنى الذي أَوْرده صحيحٌ. وأمَّا كونُها مشكلةً فهو إنما بناها على قولِ الجمهورِ، والمُشْكِلُ مقررٌ في بابِه، فلا يَضُرُّنا القياسُ عليه لتقريرِه في مكانِه.
(10/275)
---(1/4131)
قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يجوز أَنْ يكونَ الجارُّ متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في مُعرِضُون"، وأن يكون خبراً للضمير، و"مُعْرِضون" خبر ثانٍ. وقولُ أبي البقاء في هذا الجارِّ "إنه خبرٌ ثانٍ" يعني في العددِ، وإلاَّ فهو أولٌ في الحقيقة. وقد يقال: لَمَّا كان في تأويلِ المفرد جُعِل المفردُ الصريحُ مقدَّماً في الرتبةِ فهو ثانٍ بهذا الاعتبارِ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من "الناس".
* { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }
قوله: {مُّحْدَثٍ}: العامَّةُ على جَرِّ "من "مُحْدَثٍ" نعتاً لـ"ذِكْرٍ" على اللفظِ. وقوله: {مِّن رَّبِّهِمْ} فيه أوجهٌ، أجودُها: أن يتعلَّقَ بـ"يَِأْتيهم" وتكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ مجازاً. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستترِ في "مُحْدَثٍ". الثالث: أن يكونَ حالاً مِنْ نفسِ "ذِكْرٍ" وإنْ كان نكرةً لأنَّه تَخَصَّصَ بالوصفِ بـ"مُحْدَثٍ"، وهو نظيرُ "ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ" فَفَصَل بالحالِ بين الصفةِ والموصوفِ. وأيضاً فإنَّ الكلامَ نفيٌ وهو مُسَوِّغٌ لمجيء الحالِ من النكرةِ. الرابع: أَنْ يكونَ نعتاً لـ"ذِكْر" فيجوزُ في محلِّه الوجهان: الجرُّ باعتبارِ اللفظِ، والرفعُ باعتبارِ المحلِّ لأنه مرفوعُ المحل إذ "مِنء" مزيدةٌ فيه، وسيأتي. وفي جَعْلِه نعتاً لـ"ذِكْرٍ" إشكالٌ من حيث إنه قد تقدَّم غيرُ الصريحِ على الصريحِ. وتقدَّم تجريرُه في المائدة. الخامس: أَنْ يتعلَّقَ بمَحذوفٍ على سبيلِ البيان.
(10/276)
---(1/4132)
وقرِأ ابنُ أبي [عَبْلة] "مُحْدَثٌ" رفعاً نعتاً لـ"ذِكْرٍ" على المحلِّ لأنَّ "مِنْ" مزيدةٌ فيه لاستكمالِ الشرطين. وقال أبو البقاء: "ولو رُفِع على موضع "مِنْ ذكْر" جاز". كأنه لم يَطَّلِعْ عليه قراءةً. وزيدُ بنُ على "مُحْدَثاً" نصباً على الحال مِنْ "ذِكْر"، وسَوَّغ ذلك و صفُه بـ"مِنْ ربهم" إنْ جَعَلْناه صفةً، أو اعتمادُه على النفي. ويجوز أن يكونَ من الضمير المستتر في "مِنْ ربهم" إذا جَعَلْناه صفةً.
قوله: {إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ} هذه الجملةُ حالٌ من مفعول "يأتيهم"، وهو استثناءٌ مفرغٌ، و"قد" معه مضمرةٌ عند قوم.
قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ مِنْ فاعل "استمعوه".
* { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }
قوله: {لاَهِيَةً}: يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل "اسْتَمَعوه" ـ عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ ـ فتكونَ الحالان مترادِفَتَيْنِ، وأن تكون حالاً من فاعل "يَلْعَبون" فتكونَ الحالان متداخلتين. وعَبَّر الزمخشري عن ذلك فقال: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حالان مترادفتان أو متداخلتان" وإذا جعلناهما حالَيْنِ مترادفتين ففيه تقديمُ الحالِ غيرِ الصريحة على الصريحة، وفيه من البحثِ كما في باب النعت. و"قلوبُهم" مرفوعٌ بـ"لاهية".
والعامَّةُ على نصب "لاهِيَةً". وابنُ أبي عبلة بالرفع على أنها خبرٌ ثانٍ بقولِه "وهم" عند مَنْ يُجَوِّز ذلك، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ عند مَنْ لا يُجَوِّزه.
قوله: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} يجوزُ في محلِّ "الذين" ثلاثةشُ أوجهٍ: الرفعُ والنصبُ والجرُّ. فالرفعُ مِنْ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ من واو "أَسَرُّوا" تنبيهاً على اتِّسامهم بالظلمِ الفاحش، وعزاه ابن عطية لسيبويه، وغيره للمبرد.
(10/277)
---(1/4133)
الثاني: أنه فاعلٌ. الواوُ علامةُ جمعٍ دَلَّتْ على جمعِ الفاعل، كما تَدُلُّ التاءُ على تأنيثه، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون: قاما أخواك. وأنشدوا:
3331ـ يَلُوْمونني في اشتراء النَّخيلِ * أهلي فكلُّهُمُ أَلْةوَمُ
وقد تقدَّمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة. وضعَّف بعضُهم هذه اللغةَ، وبضعُهم حَسَّنها ونسبها لأزد شنوءة، وقد تقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ}.
الثالث: أن يكونَ "الذين" متبدأً، و"أَسَرُّوا" جملةً خبريةً قُدِّمَتْ على المبتدأ، ويُعْزَى للكسائي.
الرابع: أن يكون "الذين" مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ فقيل تقديره: يقولُ الذين. واختاره النحاس قال: "والقول كثيراً ما يُضْمَرُ. ويَدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: {هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. وقيل: تقديرُه: أَسَرَّها الذين ظلموا.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم الذين ظلموا.
السادس: أنه مبتدأٌ. وخبرُه الجملةُ من قوله: {هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ} ولا بُدَّ من إضمار القولِ على هذا القولِ تقديرُه: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلاَّ بَشَرٌ، والقولُ يُضمر كثيراً.
والنصبُ مِنْ وجهين، أحدُهما: الذمُّ. الثاني: إضمار أعني. والجرُّ من وجهين أيضاً: أحدهما: النعت: والثاني: البدلُ، من "للناس"، ويُعْزَى هذا للفراءِ, وفيه بُعْدٌ.
قوله: {هَلْ هَاذَآ} إلى قوله: {تُبْصِرُونَ} يجوز في هاتَيْن الجملتين الاستفهاميتين أَنْ يكونا في محلِّ نصب بدلاً من "النجوى"، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ بإضمار القول. قالهما الزمخشريُّ، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ على أنهما محكيَّتان بالنجوى، لأنها في معنى القولِ. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل "تَاْتُون".
(10/278)
---(1/4134)
* { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قوله: {قَالَ رَبِّي}: قرأ الأخَوان وحفصٌ "قال" على لفظِ الخبرِ. والضميرُ للرسولِ عليه السلام. والباقون "قُلْ" على الأمرِ له.
قوله: {فِي السَّمَآءِ} في أوجهٌ، أحدها: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من القول. والثاني: أنه حالٌ من فاعل "يعلمُ". وضَعَّفَه أبو البقاء، وينبغي أَنْ يمتنعَ. والثالث: أنه متعلقٌ بـ"يَعْلَمُ"، وهو قريبٌ مِمَّا قبله. وحَذْفُ متعلَّق السميع العليم للعلمِ به.
* { بَلْ قَالُوااْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ }
قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أضغاثُ. والجملةُ نصبٌ بالقول.
قوله: {كَمَآ أُرْسِلَ} يجوزُ في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محلِّ جرٍّ نعتاً لـ"آيةٍ" أي: بآية مثلِ آيةِ إرسالِ الأوَّلين. فـ"ما" مصدريةٌ. والثاني: أن تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إتياناً مثلَ إرسال الأولين.
* { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }
قوله:{أَهْلَكْنَاهَآ} و{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}: قد تقدّمَ نظيرُه.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيا إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوااْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله: {نُّوحِيا إِلَيْهِمْ}: قرأ حفصٌ "نُوْحي" بنون العظمة مبنياً للفاعلِ أي: نوحي نحن. والباقون بالياء وفتحِ الحاء مبنياً للمفعولِ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ"رِجالاً" و "إليهم" في القراءةِ الأُوْلى منصوبُ المحلِّ. والمفعولُ محذوفٌ أي: نُوحي إليهم القرآنَ أو الذِّكْرَ، ومرفوعٌ المحلِّ في القراءةِ الثانيةِ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
(10/279)
---(1/4135)
قوله: {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: فاسْأَلوهم، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه. ومفعولا العِلْمِ يجوز أَنْ يُرادا أي: لا تَعْلمون أنَّ ذلك كذلك، ويجوزُ أن لا يُرادا أي: إنْ كنتم مِنْ غيرِ ذوي العلمِ.
* { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ }
قوله: {لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}: في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنَّها في محلِّ نصب نعتاً لـ"جَسَداً"، و"جَسَداً" مفردٌ يُراد به الجمعُ، وهو على حذفِ مضافٍ أي: ذوي أجسادٍ غيرِ آكلينَ الطعامَ. وهذا رَدٌّ لقولِهم: {مَالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ}. و"وجعل" يجوز أن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، ثانيهما "جسداً"، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى خلق وأنشأ فيتعدَّى لواحدٍ، فيكون "جسداً" حالاً بتأويلِه بمشتقٍ أي: مُتَغَذِّيْنَ؛ لأنَّ الجسدَ لا بُدَّ له من الغذاءِ.
وقال أبو البقاء: "إنَّ "لا يأكلون" حالٌ أخرى بعد "جَسَداً" إذا قلنا إنَّ "جعل" يتعدَّى لواحدٍ". وفيه نَظَرٌ، بل هي صفةٌ لـ"جَسَداً" بالاعتبارين، لا يليق المعنى إلاَّ به.
* { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ }
قوله: {صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ}: "صَدَق" يتعدَّى لاثنينِ إلى ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذف. تقولُ: صَدَقْتُك الحديثَ، وفي الحديث. نحو: أمر واستغفر وقد تقدَّم في آل عمران.
* { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
(10/280)
---(1/4136)
قوله: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"كتاباً" ويجوزُ أَنْ يكونَ "فيه" هو الوصفَ وحدَه و"ذِكْرُكم" فاعلٌ. وقال بعضهم: "في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: فيه ذِكْرُ شَرَفِكم. و"ذَكَر" هنا مصدرٌ يجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي: ذِكْرُنا إياكم. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه أي: ما ذَكَرْتُمْ من الشِّرْك وتكذيبِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
* { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ }
قوله:/ {وَكَمْ قَصَمْنَا}: في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً بـ"قَصَمْنا". و"من قرية" تمييزٌ. الظاهرُ أنَّ "كم" هنا خبريةٌ لأنها تفيدُ التكثرَ.
قوله: {كَانَتْ ظَالِمَةً} في محلِّ جرٍّ صفةً لـ"قريةٍ". ولا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ قبل قرية أي: وكم قَصَمْنا من أهلِ قرية بدليلِ عَوْدِ الضميرِ في قوله: {قَوْماً} ولا يجوز أَنْ يعودَ على قولِه ِ"قوماً"؛ لأنه لم يَذْكُرْ لهم ما يَقْتَضي ذلك.
* { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ }
قوله: {إِذَا}: هذه فجائيةٌ. وقد تقدَّمَ الخلافُ فيها مُشْبَعاً. و"هم" مبتدأٌ، و"يَرْكُضون" خبرُه، وتقدَّم في أولِ هذه الموضوعِ أنَّ هذه الآيةَ وأمثالَها دالَّةٌ على أن "لَمَّا: ليست ظرفيةً، بل حرفُ وجوبٍ لوجوب لأنَّ الظرفَ لا بُدَّ له مِنْ عاملٍ ولا عاملَ هنا لأنَّ ما بعدَ إذا لا يعملُ فيما قبلَها. والجواب: أنه عَمِل فيها معنى المفاجأةِ المدلولِ عليه بـ"إذا".
والضميرُ في "مِنْها" يعودُ على "قرية". ويجوز أَنْ يعودَ على "بَأْسَنا" لأنه في معنى النِّقْمة والبأساء، فَأَنَّثَ الضميرَ حملاً على المعنى. و"مِنْ" على الأولِ لابتداءِ الغايةِ، وللتعليل على الثاني. والرَّكْضُ: ضَرْبُ الدابَّة بالرِّجْلِ. يُقال: رَكَضَ الدابَّةَ يَرْكُضها رَكْضاً.
(10/281)
---(1/4137)
* { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ }
قوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}: اسم "زالَتْ" "تلك" و"عواهم" الخبرُ، هذا هو الصواب. وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء بجواز العكس. وهو مردودٌ بأنه إذا خَفِي الإِعرابُ مع استوائِهما في المُسَوِّغ لكونِ كلٍ منهما اسماً أو خبراً وَجَبَ جَعْلُ المتقدِّم اسماً والمتأخرِ خبراً، وهو من باب "ضرب موسى عيسى" وقد تقدَّم إيضاحُ هذا في أول سورة الأعراف. وهناك شيءٌ لا يتأتَّى ههنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و"تلك" إشارةٌ إلى الجملةِ المقولة.
قوله: {حَصِيداً} مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجعلَ هنا تصييرٌ. و{حَصِيداً خَامِدِينَ}: يجدوزُ أَنْ يكونَ من باب "هذا حلٌ حامِضٌ". كأن قيل: جَعَلْناهم جامعين بين الوصفين جميعاً. ويجوز أن يكونَ "خامِدِيْن" حالاً من الضمير في "جَعَلْناهم"، أو من الضميرِ المستكنِّ في "حَصِيداً" فإنَّه في معنى مَحْصُود. ويجوزُ أن يكونيَ مِنْ باب ما تعدَّد فيه الخبرُ نحو: "زيدٌ كاتبٌ شاعرٌ". وجَوَّز أبو البقاء فيه أيضاً أن يكونَ صفةً لـ"حَصيداً" وحَصِيد بمعنى مَحْصود كما تقدَّم؛ فلذلك لم يُجْمع. وقال أبو البقاء: "والتقدير: مثل حصيدٍ، فلذلك لم يُجْمع كما لم يُجْمَعْ "مثل" المقدر" انتهى. وإذا كان بمعنى مَحْصُودين فلا حاجة.
* { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ }
قوله: {لاَعِبِينَ}: حلٌ من فاعل "خَلَقْنا".
* { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }
قوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}: في "إنْ" هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ أي: ما كُنَّا فاعلين. والثاني: أنها شرطيةٌ. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ جوابِ "لو" عليه. والتقدير: إنْ كُنَّا فاعلينَ اتَّخَذْناه.
(10/282)
---(1/4138)
* { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }
قوله: {فَيَدْمَغُهُ}: العامَّةُ على رفغ الغين نَسَقاً على ما قبله. وقرأ عيسى بن عمر بنصبِها. قال الزمخشري: "وهو في ضَعْفِ قولِه:
3332ـ سأَتْركُ منزلي لبني تميمٍ * وألحقُ بالحجازِ فَأَسْتَريحا
وقرىء شاذاً "فيَدْمُغُه" بضمِّ الميم، وهي محتملةٌ لأن يكونَ في المضارع لغتان: يَفْعَلُ ويَفْعُل، وأن يكونَ الأصلُ الفتحَ، والضمة للإتباع حرف الحق. ويدمغه: أي يصيب دماغه، من قولهِم دَمَغْتُ الرجلَ أي: ضَرَبْتُه في دماغِه كقولهم رَأَسَه وكَبَده ورَجَله، إذا أصاب منه هذه الأعضاءَ.
قوله: {مِمَّا تَصِفُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلقٌ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به الخبرُ أي: استقرَّ لكم الويلُ من أجلِ ما تَصِفُون. و"مِنْ" تعليليَّةٌ. وهذا وجهٌ وجيهٌ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، والثالث: أنه حالٌ من الويلِ أي: الويلُ واقعاً مِمَّا تَصِفون، كذا قَدَّره أبو البقاء. و"ما" في {مِمَّا تَصِفُونَ} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهورِ، وأن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً ولا بُدَّ من العائد، عند الجميع، حُذِف لاستكمالِ الشروطِ.
* { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ }
(10/283)
---(1/4139)
قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ}: يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على "مَنْ" الأولى. أخبرَ تعالى عن مَنْ في السموات والأرض، وعن مَنْ عنده بأنَّ الكلَّ له في مِلْكِه، وعلى هذا فيكون من باب ذِكْرِ الخاصِّ بعد العام مَنْبَهَةً على شرفه. لأنَّ قولَه: {مَن فِي السَّمَاوَاتِ} شَمَل مَنْ عنده، وقد مَرَّ نظيرُه في قولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}. وقوله: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} على هذا فيه أوجهٌ، أحدُهما: أنه حال/ مِنْ "مَنْ" الأولى أو الثانية أو منهما معاً. وقال أبو البقاء: "حالٌ: إمَّا مِن الأولى أو الثانيةِ على قولِ مَنْ رَفَع بالظرف" يعني أنَّه إذا جَعَلْنا "مَنْ" في قولِه {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} مرفوعاً بالفاعليةِ، والرافعُ الظرفُ؛ وذلك على رأي الأخفش، جاز أَنْ يكونَ "لا يَسْتبكرون" حالاً: إمَّا مِنْ "مَنْ" الأولى، وإمَّا مِن الثانية؛ لأن الفاعلَ يجيءُ منه الحالُ. ومفهومُه أنَّا إذا جَعَلْنا مبتدأً لا يجيءُ "يستكبرون" حالاً، وكأنه يرى أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المبتدأ، وهو رأيٌ لبعضِهم. وفي المسألةِ كلامٌ مقررٌ في غيرِ هذا الموضوعِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ "لا يستكبرون" حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "عندَه" الواقعِ صلةً، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "له" الواقع خبراً.
والوجهُ الثاني من وجهَيْ "مَنْ": أن تكونَ متبدأً، و"لا يستكبرون" خبرُه، وهذه جملةٌ معطوفةٌ على جملةٍ قبلَها. وهل الجملةُ مِنْ قوله {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} استئنافيةٌ أو معادِلَةٌ لجملة قولِه: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي: لكم الوَيْلُ، ولله تعالى جميعُ العالَمِ عُلْوِيِّه وسُفْلِيِّه؟ والأولُ أظهرُ.
ولا يَسْتَحْسِرون أي: لا يَكِلُّون ولا يَتْبعون. يقال: اسْتَحْسر البعيرُ أي كَلَّ وتَعِب. قال: علقمة بن عبدة:
3333ـ بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها * فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
(10/284)
---(1/4140)
ويقال: حَسَر البعيرُ، وحَسَرْته أنا، فيكون لازماً ومتعدياً. وأَحْسَرْتُه أيضاً. فيكون فَعَل وأفْعَلَ بمعنىً في أحدِ وجهَيْ فَعَل. قال الزمخشري: "الاستحسارُ مبالغةٌ في الحُسورِ. فكان الأبلغُ في وصفِهم أَنْ ينفيَ عنهم أَدْنى الحُسورِ. قلت: في الاستحسارِ بيانُ أنَّ ما هُمْ فيه يوجب غايةَ الحُسور وأقصاه، وأنَّهم أَحِقَّاءُ لتلك العباداتِ الباهظة بأَنْ يَسْتَحْسِروا فيما يَفْعلون" وهو سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مطابق.
* { يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }
قوله: {يُسَبِّحُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً من الفاعل في الجملةِ قبلَه. و{لاَ يَفْتُرُونَ} يجوز فيه الاستئنافُ والحالُ من فاعلِ "يُسَبِّحون".
* { أَمِ اتَّخَذُوااْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ }
قوله: {أَمِ اتَّخَذُوااْ}: هذه "أم" المنقطعةُ، فتتقدَّرُ بـ بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزةِ التي معناها الإِنكار. و"اتَّخذ" يجوزُ أََنْ يكونَ بمعنى صَنَع، فتتعلَّقَ "مِن" به. وجَوَّز الشيخُ أن يكونَ بمعنى صَيَّر التي في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} قال: "وفيه معنى الاصطفاءِ والاختيار". و {مِّنَ الأَرْضِ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذ كما تقدَّم، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها نعتٌ لـ"آلهة" أي: مِنْ جنسِ الأرض.
قوله: {هُمْ يُنشِرُونَ} جملةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً لآلهة. وقرأ العامَّةُ "يُنْشِرون" بضمِّ حرفِ المضارعة مِنْ أَنْشَر. وقرأ الحسن بفتحها وضم الشين يُقال: أَنْشَر اللهُ الموتى فَنَشَروا، ونَشَر يكون لازماً ومتعدياً.
* { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }
(10/285)
---(1/4141)
قوله: {إِلاَّ اللَّهُ}: "إلاَّ" هنا صفةٌ للنكرة قبلها بمعنى "غَيْر". والإِعرابُ فيها متعذَّر، فَجُعِل على ما بعدها. وللوصفِ بها شروطٌ منها: تنكيرُ الموصوفِ، أو قُرْبُه من النكرة بأَنْ يكونَ معرفاً بأل الجنسية. ومنها أَنْ يكونَ جمعاً صريحاً كالآية، أو ما في قوةِ الجمعِ كقوله:
3334ـ لو كان غيري سُلَيْمى اليومَ غيَّره * وَقْعُ الحوادِثِ إلاَّ الصارمُ الذَّكَرُ
فـ: إلاَّ الصارِمُ" صفةُ لغيري لأنه في معنى الجمع. ومنها أَنْ لا يُحْذَفَ موصوفُها عكسَ "غير". وقد أَتْقَنَّا هذا كلَّه في "إِيضاحِ السبيل إلى شرح التسهيل" فعليك به. وأنشد سيبويهِ على ذلك قولَ الشاعر:
3335ـ وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه * لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ
أي: وكلُّ أخٍ غيرُ الفرقدين مفارِقُه أخوه. وقد وقع الوصفُ بـ إلاَّ كما وقع الاستثناء بـ"غير"، والأصلُ في "إلاَّ" الاستثناءُ وفي "غير" الصفةُ. ومن مُلَحِ كلامِ أبي القاسم الزمخشري: "واعلم أنَّ "إلاَّ" وغير يَتَقَارضان".
ولا يجوزُ أَنْ ترتفعَ الجلالةُ على البدل مِنْ "آلهة" لفسادِ المعنى. قال الزمخشري:"فإن قلت: ما مَنَعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنَّ "لو" بمنزلةِ "إنْ" في أنَّ الكلامَ معها موجَبٌ، والبدلُ لا يِسُوغ إلاَّ في الكلام غيرِ الموجبِ كقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ} وذلك لأنَّ أعمَّ العامِّ يَصِحُّ نفيُه ولا يَصِحُّ إيجابُه". فجعل المانعَ صناعياً مستنداً إلى ما ذُكِر مِنْ عدم صحةِ إيجاب أعمِّ العام.
(10/286)
---(1/4142)
وأحسنُ مِنْ هذا ما ذكره أبو البقاء مِنْ جهة المعنى فقال: "ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً، لأنَّ المعنى يصيرُ إلى قولك: لو كان فيهما اللهُ لَفَسَدَتا، ألا ترى أنَّك لو قلت: "ما/جاءني قومُك إلاَّ زيدٌ" على البدلِ لكان المعنى: جاءني زيدٌ وحدَه. ثم ذكر الوجه الذي رَدَّ به الزمخشريُّ فقال: "وقيل: يمتنعُ البدلُ لأنَّ قبلها إيجاباً". ومنع أبو البقاء النصبَ على الاستثناء لوجهين، أحدُهما: أنه فاسدٌ في المعنى، وذلك أنك إذا قلتَ: "لو جاءني القومُ إلاَّ زيداً لقتلتُهم" كان معناه: أنَّ القَتْلَ امتنع لكونِ زيدٍ مع القوم. فلو نُصِبَتْ في الآية لكان المعنى: إنَّ فسادَ السمواتِ والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة. وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله. وإذا رُفِعَتْ على الوصفِ لا يلزمُ مثلُ ذلك؛ لأنَّ المعنى: لوكان فيهما غيرُ اللهِ لفسدتا. والوجُه الثاني: أنَّ آلهة هنا نكرةٌ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يُسْتثنَ منه عند جماعةٍ من المحققين؛ إذ لا عمومَ له بحيث يدخلُ فيه المستثنى لولا الاستثناءُ".
وهذا الوجهُ الذي منعاه ـ أعني الزمخشري وأبا البقاء ـ قد أجازه أبو العباس المبرد وغيره: أمَّا المبردُ فإنه قال: "جاز البدلُ لأنَّ ما بعد "لو" غيرُ موجَبٍ في المعنى. والبدلُ في غير الواجبِ أحسنُ من الوصفِ. وفي هذه نظرٌ من جهة ما ذكر أبو البقاء من فسادِ المعنى.
وقال ابنُ الضائعِ تابعاً للمبرد: لا يَصِحُّ المعنى عندي إلاَّ أن تكون "إلاَّ" في معنى "غير" التي يُراد بها البدلُ أي: لو كان فيهما آلهةٌ عِوَضَ واحدٍ أي بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا. وهذا المعنى أرادَ سيبويه في المسألةِ التي جاء بها توطئةً.
(10/287)
---(1/4143)
وقال الشَّلَوْبين في مسألةِ سيبويه "لو كان معنا رجلٌ إلاَّ زيدٌ لَغُلِبْنا": إنَّ المعنى: لو كانَ معنا رجلٌ مكانَ زيد لَغُلِبنا، فـ"إلاَّ" بمعنى "غير" التي بمعنى مكان. وهذا أيضاً جنوحٌ من أبي عليّ إلى البدلِ. وما ذكره ابنُ الضائع من المعنى المتقدمِ مُسَوَّغٌ للبدل. وهو جوابٌ عَمَّا أَفْسَد به أبو البقاء وجهَ البدل، إذ معناه واضحٌ، ولكنه قريبٌ من تفسير المعنى لا من تفسيرِ الإِعراب.
* { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ }
قوله: {هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ}: العامَّةُ على إضافة "ذِكْر" إلى "مَنْ" إضافةَ المصدرِ إلى مفعولِه، كقولِه تعالى: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ}. وقُرِىء "ذِكْرٌ" بالتنوين فيهما، و"مَنْ" مفتوحة الميم، إليه، المصدرُ ونُصِبَ به المفعولُ كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً
}. وقرأ يحيى بن يعمر "ذِكْرٌ" بتنوينه و"مِنْ" بكسرِ الميم، وفيه تأويلان، أحدُما: أنَّ ثَمَّ موصوفاً محذوفاً قامَتْ صفتُه وهي الظرف مَقامَه. والتقدير: هذا ذِكْرٌ مِنْ كتاب معي، ومِنْ كتابٍ قبلي. والثاني: أنَّ "معي" بمعنى عندي. ودخولُ "مِنْ" على "مع" في الجملة نادرٌ؛ لأنها ظرفٌ لا يَتَصَرَّف. وقد ضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ولم يَرَ لدخول "مِنْ" على "مع" وجهاً.
وقرأ طلحةُ "ذِكْرٌ معي وذكرٌ قبلي" بتنوينهما دونَ "مِنْ" فيهما. وقرأَتْ طائفةٌ "ذكرُ مَنْ" بالإِضافة لـ "مَنْ" كالعامَّة، وذكرٌ مِنْ قبلُ" بتنوينِه وكسرِ ميم "مِنْ". ووجهها واضحٌ ممَّا تتقدم.
(10/288)
---(1/4144)
قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} العامَّةُ على نصب "الحق". وفيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به بالفعلِ قبلَه. والثاني: أ،ه مصدرٌ مؤكِّد. قال الزمخشريُّ: "ويجوزُ أَنْ يكونَ المنصوبُ أيضاً على التوكيدِ لمضمونِ الجملةِ السابقة، كما تقول: "هذا عبدُ الله الحقَّ لا الباطل" فأكَّدَ انتفاءَ العِلْم".
وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع "الحق". وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ والخبرُ مضمرٌ. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ. قال الزمخشري: وقُرِىء "الحقُّ" بالرفعِ على توسيطِ التوكيد بين السببِ والمُسَبَّب. والمعنى: أن إعراضَهم بسببِ الجهلِ هو الحقُّ لا الباطلُ".
* { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }
قوله: {بَلْ عِبَادٌ}: "عبادٌ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم عبادٌ. و"مُكْرَمون" في العامَّة مخففٌ، وقراءة عكرمة مشدداً.
* { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }
قوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ}: جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"عبادٌ". والعامَّةُ على كسرِ الباء في "يَسْبِقونه" وقُرىء بضمِّها. وخُرِّجَتْ على أنه مضارعٌ سَبَقه أي غلبه في السبق يُقال: سابقه فَسَبقه يَسْبُقه أي: غلبه في السَّبْق. ومضارع فَعَلَ في المغالبة مضمومُ العينِ مطلقاً إلاَّ في ياءَيُ العينِ أو اللام، والمرادُ: لا يَسْبقونه بقوله، فَعَوَّض الألفَ واللامَ عن الضمة عند الكوفيين، والضميرُ محذوفٌ عن البصريين أي بالقول منه.
* { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيا إِلَاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
(10/289)
---(1/4145)
قوله: {فَذالِكَ نَجْزِيهِ}: يجوزُ في ذلك وجهان أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ. وهذا وجهٌ حسنٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ. والمسألةُ من بابِ الاشتغال. وفي هذا الوجهِ إضمارُ عاملٍ مع الاستغناءِ عنه، فهو مرجوحٌ, والفاءُ وما في حَيِّزها في موضعِ جزمٍ جواباً للشرط و"كذلك" نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضمير المصدر أي: جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ، أو نجزي الجزاءَ حالَ كونِه مثلَ ذلك.
وقرأ العامَّةُ "نجزي" بفتحِ النونِ. وأبو عبد الرحمن المقرىء بضمِها. ووجُهها أنه مِنْ أجزأ بالهمز، مِنْ أجزأئي كذا أي: كفاني، ثم خَفَّفَ الهمزةَ فاقلبت إلى الياء.
* { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {أَوَلَمْ يَرَ}: قرأ ابن كثير "ألم يرَ" من غير واو. والباقونَ/ بالواوِ بين همزةِ الاستفهام و"لم". ونظيرُ حذفِ الواوِ وإثباتِها هنا ما تقدَّم في البقرة وآل عمران في قولِه {قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} {سَارِعُوااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ} وقد تقدَّم حكمُ ذلك. والرؤيةُ هنا يجوز أن تكونَ قلبيةً، وأن تكونَ بَصَريةً. فـ"أنَّ" وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْنِ عند الجمهور على الأول، ومَسَدَّ واحدٍ والثاني محذوف، عند الأخفش، وسادَّةٌ مسدَّ واحدٍ فقط على الثاني.
(10/290)
---(1/4146)
قوله: {كَانَتَا} الضميرُ يعودُ على السموات والأرض بلفظِ التثنيةِ، والمتقدِّم جمعٌ. وفي ذلك أوجه أحدُهما: ما ذكره الزمخشري فقال: "وإنما قيل "كانتا" دونَ "كُنَّ" لأنَّ المرادَ جماعةُ السمواتِ وجماعةُ الأرَضين. ومنه قولُهم: "لِقاحان سَوْداوان" أي: جماعتان. فَعَلَ في المضمر نحوَ ما فَعَل في المظهر. الثاني: قال أبو البقاء: "الضميرُ يعودُ على الجنسين". الثالث: قال الحوفي: "قال: كانتا رَتْقاً والسموات جمعٌ لأه أراد الصِّنْفَيْنِ. قال الأسودُ ابنُ يَعْفَر:
3336ـ إن المنيِّةَ الحُتُوفَ كِلاهما * يُوفي المخارم يَرْقُبان سوادي
لأنه أراد النوعين، وتبعه ابن عطية في هذا فقال: "وقال: "وكانتا" من حيث هما نوعان. ونحوُه قولُ عمروِو بن شيم:
3337ـ ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قيسٍ * وتَغْلِبَ قد تباينتا انقطاعا
ورَتْقاً: خبرٌ. ولم يُثَنَّ لأنَّه في الأصلِ مصدرٌ. ثم لك أن تجعلَه قائماً مقاماَ المفعولِ كالخَلْقِ بمعنى المَخْلوق، أو تجعلَه على حَذْفِ مضافٍ أي: ذواتَيْ رَتْقٍ. وهذه قراءةُ الجمهور.
وقرأ الحسنُ وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى "رَتَقاً" بفتحِ التاءِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أيضاً، ففيه الوجهان المتقدِّمان في الساكنِ التاءِ. والثاني: أنه فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَض بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أَنْ يطابقَ بخبرِه في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال: "هو على تقديرِ موصوفٍ أي: كانتا شيئاً رَتَقاً". ورَجَّح بعضُهم المصدريةَ بعدمِ المطابقَةِ في التثنية، وقد عرفت جوابه. وله أن يقولَ: الأصلُ عدمُ حذفِ الموصوف فلا يُصارُ إليه دونَ ضرورةٍ.
(10/291)
---(1/4147)
والرَّتْقُ: الانضمامُ. ارْتَقَقَ حَلْقُه: أي: انظمَّ. وامرأةٌ رَتْقاءُ أي: مُنْسَدَّة الفَرْجِ، فلم يُمْكِنْ جماعُها من ذلك. والفَتْقُ: فَصْل ذلك المُرْتَتِقِ، وهو من أحسن البديع هنا؛ حيث قابل الرَّتْقَ بالفَتْق. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: متى رَأَوْهما رَتْقاً حتى جاء تقريرُهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارِدٌ في القرآن الذي هو معجِزٌ في نفسِه، فقام مقامَ المَرْئيِّ المشاهِدِ. الثاني: أنَّ تَلاصُقَ السماءِ والأرضِ وتبايَنهما كلاهما جائزٌ في العقلِ فلا بُدَّ للتباين دون التلاصُقِ من مخصِّصٍ وهو القديمُ سبحانه".
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يجوز في "جَعَل" هذه أَنْ تكونَ بمعنى "خلق" فتتعدَّى لواحدٍ وهو كلُّ شيءٍ، و{مِنَ الْمَآءِ} متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "كل شيء" لأنه في الأصلِ يجوز أن يكونَ وَصْفاً له، فلما قُدِّم عليه نُصِبَ على الحال. ومعنى خَلْقِه من الماء أحدُ شيئين: إمَّا شدةُ احتاجِ كلِّ حيوانٍ للماء فلا يعيشُ بدونِه، وإمَّا لأنه مخلوقٌ من النُّطْفَة التي تُسَّمَّى ماءً. ويجوز أن تكونَ "جَعَلَ" بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما الجارُّ بمعنى: أنَّا صَيَّرْنا كلَّ شيء حيّ بسبب من الماء لا بُدَّ له منه.
والعامَّةُ على خفض "حيّ" صفةً لشَيْء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ جَعَلْنا. والظرفُ لغوٌ. ويَبْعُد على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ "جعل" بمعنى "خَلَقَ"، وأنْ ينتصبَ "حَيَّاً" على الحال.
* { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }
(10/292)
---(1/4148)
قوله: {أَن تَمِيدَ} مفعولٌ من أجله أي: أن لا تميدَ فَحُذِفَتْ "لا" لفَهْمِ المعنى، أو كراهةَ أَنْ تيمد. وقَدَّره أبو البقاء فقال: "مخافَةَ أن تميدَ". وفيه نظرٌ لأنَّا إنْ جَعَلْنا المخافةَ مسندةً إلى المخاطبين أخْتَلَّ شرطٌ من شروطِ النصبِ في المفعولِ له وهو الفاعل. وإنْ جَعَلْناها مسندةً لفاعل الجَعْل استحال ذلك، لأنَّه تبارك وتعالى لا يُسْنَدُ إليه الخوف. وقد يقال: يُختارُ أن تُسْنَدَ المخافةُ إلى المخاطبين. قولكم: يختلُّ شرطٌ من شروطِ النصب. جوابُه: أنه ليس بمنصوبٍ، بل مجرورٌ بحرف العلةِ المقدرِ./ وحَذْفُ حرفِ الجر مُطَّردٌ مع أنْ وأنَّ بشرطه.
قوله: {فِجَاجاً سُبُلاً} في "فجاجاً" وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به و"سُبُلا" بدلٌ منه. والثاني: أنه منصوب على الحال مِنْ "سبلاً" لأنه في الأصلِ صفةٌ له فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً كقولِه:
3338ـ لميَّةَ موحشاً طَلَلُ * يلوحُ كأنَّه خِلَلُ
ويدلُّ على ذلك مجِيْئُه صفةً في الآية الأخرى، وهي قولُه تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}. قال الزمخشري: "فإن قلت: في الفجاجِ معنى الوصفِ، فما لها قُدِّمَتْ على السُّبُل ولم تُؤَخَّرْ، كقولِه تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}؟ قلت: لم تُقَدَّم وهي صفةٌ ولكنْ جُعِلَتْ حالاً كقولِه:
3339ـ لِعَزَّةَ مُوْحِشاً طَلَلٌ قديمُ * ........................
فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينهما من جهةِ المعنى؟ قلتُ: أحدُهما أعلامٌ بأنه جَعَلَ فيها طرقاً واسعة. والثاني: أنه حينَ خَلَقها خَلَقها على تلك الصفةِ، فهو بيانٌ لما أُبْهِم ثمةَ".
قال الشيخ: "يعني بالإِبهامِ أنَّ الوصفَ لا يلزمُ أَنْ يكونَ الموصوفُ متصفاً به حالةَ الإِخبارِ عنه، وإن كان الأكثرُ قيامَه به حالةَ الإِخبارِ عنه. ألا ترى أنه يُقال: مررتُ بوَحْشيٍّ القاتلِ حمزةَ، وحالةَ المرورِ لم يكن قائماً به قَتْلُ حمزة".
(10/293)
---(1/4149)
والفَجُّ: الطريقُ الواسعُ. والجمعُ : الفِجاجُ.
والضميرُ في "فيها" يجوزُ أن يعودَ على الأرض، وهو الظاهرُ كقولِه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} وأَنْ يعودَ على الرَّواسي، يعني أنه جعل في الجبال طُرُقاً واسعة
* { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ }
قوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا}: جملةٌ استئنافيةٌ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً مقدرةً. وقرأ مجاهد وحميد "عن آيتِها" بلفظِ الإِفراد. جَعَلَ الخلقَ آيةً، وهي مشتملةٌ على آياتٍ، أو أطلق الواحدَ وأراد به الجنسَ.
* { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
قوله: {كُلٌّ}: أي: كلُّ منهما أي: من الشمس والقمر، أو مِنها أي: من الليل والنهار والشمس والقمر. ويَسْبَحون" يجوز أن يكونَ خبرَ "كلٌ" على المعنى. و"في فلك". وهذا الذي: ذَكَرْتُه من كونِ المضافِ إليه يجوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بالأربعةِ الأشياءِ المذكورةِ. ذكره أبو البقاء. وأمَّا غيرُه فلم يذكرْ إلاَّ أنَّ المضافَ إليه الشمسُ والقمرُ. وهو الظاهر؛ لأنَّ السباحةَ من صفتِهما دونَ الليلِ والنهار، وعلى هذا فيُعْتَذَر عن الإِتيانِ الجمعِ، وعن كونِه جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ.
أمَّا الأولُ فقيل: إنما جُمع لأنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: والنجومُ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ أُخَرُ. وقال الزمخشري: "الضميرُ للشمسٍ والقمرِ، والمرادُ بهما جنسُ الطوالِع كلَّ يومٍ وليلةٍ، جعلوها متكاثرةً لتكاثُرِ مَطالِعها، وهو السببُ في جمعهما بالشموسِ والأقمارِ". انتهى. والذي حَسَّن ذلك كونُه رأسَ آيةً.
(10/294)
---(1/4150)
وقال أبو البقاء: "يَسْبَحُون" خبر "كلٌ" على المعنى؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ إذا سَبَح فكلُّها تَسْبَحُ. وقيل: يَسْبَحُون على هذا الوجهِ حالٌ. والخبر "في فَلَكٍ". وقيل: التقدير: كلُّها، والخبر "يَسْبَحُون"، أتى بضميرِ الجمعِ على معنى "كل". وفي هذا الكلامِ نظرٌ: من حيث إنه لمَّا جَوَّز أن يكونَ المضافُ إليه شيئين جَعَل الخبرَ الجارَّ، و"يَسْبَحون" حالاً، فِراراً من عدم مطابقةِ الخبر للمبتدأ، فَوَقَعَ في خالُفِ الحالِ وصاحبِها.
وأمَّا الثاني فلأنَّه لَمَّا أَسْنَدَ إليها السباحةَ الي هي مِنْ أفعالِ العقلاء جَمَعَها جَمْعَ العقلاءِ كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} و{أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
}. وهذه الجملةُ يجوز أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستنافِها. ويجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها النصبَ على الحال. فإنْ قُلْنا: إن السباحةَ تُنْسَبُ إلى الليل والنهار، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء في أحدِ الوجهين فتكونُ حالاً من الجميع. وإن كان لا يَصِحُّ نِسْبَتُها إليهما كانت حالاً من الشمسِ والقمرِ. وتأويلُ الجمعِ قد تقدَّم. قال الشيخ: "أو مَحَلُّها النصبُ على الحالِ من الشمس والقمر؛ لأنَّ الليلَ والنهارَ لا يَتَّصِفان بأنهما يَجْرِيان في فَلَكٍ، فهو كقولك: رأيتُ زيداً وهنداً متبرِّجةً" انتهى. وهذا قد سبقه إليه الزمخشري فَنَقَله عنه، يعني أنه قد دَلَّ دليلٌ على أنَّ الحالَ من بعضِ ما تقدَّم كما في المثالِ المذكور.
والسِّباحةُ: العَوْمُ في الماءِ. وقد يُعَبَّر به عن مطلقِ الذهابِ، وقد تقدَّم اشتقاقُه في "سُبْحانك".
* { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }
(10/295)
---(1/4151)
قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ}: قد تقدَّم نظيرُ ذلك في آل عمران عند قولِه: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ}. وفي هذه الآيةِ دليلٌ لمذهب سيبويه: وهو أنه إذا اجتمع شرطٌ واستفهام أُجيب الشرطُ. فتكونُ الآيةُ قد دَخَلَتْ فيها همزةُ الاستفهامِ على جملةِ الشرطِ. والجملةُ المقترنةُ بالفاءِ جوابُ الشرطِ، وليسَتْ مَصَبَّ الاستفهامِ، وزَعَمَ يونس أنَّ الاستفهامَ/ مُنْصَبٌّ على الجملةِ المقترنةِ بالفاء، وأنَّ الشرطَ معترٌَ بين الاستفهامِ وبينَها، وجوابه محذوف. وليس بشيءٍ إذ لو كان كما قال لكان التركيبُ: أفإن مِتَّ هم الخالدون، بغير فاء. وكأنَّ ابنَ عطية نحا مَنْحَى يونسَ فإنه قال: "وألفُ الاستفهامِ داخلةٌ في المعنى على جوابِ الشرطِ".
* { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
قوله: {فِتْنَةً}: في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ من أجله. الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي: فاتِنين. الثالث: أنَّه مصدرٌ مِنْ معنى العاملِ لا من لفظِه؛ لأن الابتلاءَ فتنةٌ فكأنَّه قيل: نَفْتِنُكم فتنةً.
وقرأ العامَّة "تُرْجَعُوْن" بتاءِ الخطابِ مبنياً للمفعول. وغيرُهم بياءِ الغَيْبة على الالتفات.
* { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ }
(10/296)
---(1/4152)
قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ}: "إنْ" هنا نافيةٌ، وهي وما في حَيِّزها جوابُ الشرط بـ إذا، و"إذا" مخالفةٌ لأدواتِ الشرطِ في ذلك، فإنَّ أدواتِ الشرطِ متى أُجِيبت بـ"إنْ" النافيةِ أو بـ"ما" النافيةِ وَجَبَ الإِتيانُ بالفاءِ تقول: إن أَتَيْتَني فإنْ أَهَنْتُك وفما أَهَنْتُك. وتقول: إذا أَتَيْتَني ما أَهَنْتُك بغير فاءٍ يَدُلُّ له قولُه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ
}. و"اتَّخَذَ" هنا متعديةٌ لاثنين. و"هُزُوا" هن الثاني: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ، وإمَّا على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً، وإمَّا على وقوعِه مَوْقِعَ اسمِ المفعول.
وفي جواب "إذا" قولان، أحدهما: أنه "إنْ" النافيةُ، وقد تقدَّم ذلك. والثاني: أنه محذوفٌ، وهو القولُ الذي قد حكى به الجملةَ الاستفهاميةَ في قوله: {أَهَاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} إذ التقديرُ: وإذا رآاك الذين كفروا يقولوَ: أهذا الذي. وتكنُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين الشرطِ وبين جوابهِ المقدَّرِ.
قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ} "هم" الأولى مبتدأٌ مخبرٌ عنه بـ"كافرون"، و"بِذكْر" متعلقٌ بالخبرِ. والتقديرُ: وهم كافرون بذِكْر. و"هم" الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً، فوقع الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بالمؤكِّد، وبين المؤكَّدِ والؤكِّدِ بالمعمولِ.
وفي هذه الجملةِ قولان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ القولِ المقدَّرِ أي: يقولون ذلك وهم على هذه الحالةِ. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ "يَتَّخِذونك"، وإليه نحا الزمخشريُّ، فإنه قال: "والجملةُ في موضعِ الحالِ أي: يَتَّخِذُونك هُزُواً وهم على حالٍ هي أصلُ الهزْءِ والسخريةِ، وهي الكفرُ باللهِ".
* { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }
(10/297)
---(1/4153)
قوله: {مِنْ عَجَلٍ}: فيه قولان، أحدهما: أنه من بابِ القلبِ. والأصلُ: خُلِقَ العَجَلُ من الإٍنسانِ لشدةِ صدورِه منه وملازَمتِه له. وإلى هذا ذهب أبو عمروِ. وقد يتأيَّد هذا بقراءةِ عبدِ الله "خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ" والقلبُ موجودٌ. قال الشاعر:
3340ـ حَسَرْتُ كَفِّيْ عن السِّربالِ آخُذُه * ....................
يريد: حسرت السِّرْبالَ عن كفي. ومثلُه في الكلامِ "إذا طَلَعَت الشِّعْرى استَوَى العُوْدُ على الحِرْباء" وقالوا: عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ. وقد قَدَّمْتُ منه أمثلةً غيرَ هذه. إلاَّ أن بعضَهم يَخُصُّه بالضرورةِ، وقد قَدَّمْتُ فيه مذاهبَ ثلاثةً.
والثاني: أنه لا قلبَ فيه وفيه تأويلاتٌ، أحسنُها: أن ذلك على المبالغةِ، جَعَلَ ذاتَ الإِنسانِ كأنها خُلِقَتْ من نفسٍ العَجَلة، دلالةً على شدةِ اتصاف الإنسانِ بها، وأنها مادتُه التي أُخِذ منها. ومثلُه في المبالغة من جانب النفي قولُه عليه السلام: "لستُ من الدَّدِ، ولا الدَّدُ مني" والدَّدُ: اللِّعِبُ. وفيه لغاتٌ: "دَدٌ" محذوفُ اللامِ و"ددا" مَقْصوراً كـ"عصا" و"دَدَن" بالنون. وألفه في إحدى لغاتِه مجهولةُ الأصل لا ندري: أهي ياءٍ أو واوٍ؟.
وقيل: العَجَلُ: الطين بلغة حمير، أنشد أبو عبيدة على ذلك لشاعرٍ منهم:
3341ـ النَّبْعُ في الصَّخْرةِ الصَّمَّاء مَنْبِتُه * والنَّخْلُ مَنْبِتُه في الماءِ والعَجَلِ
قال الزمخشري بعد إنشادِه عَجُزَ هذا البيت: واللهُ أعلمُ بصحتِه" وهو معذورٌ.
وهذا الجارُّ يحتملُ تَعَلُّقُه بـ"خُلِقَ" على المجاز أو الحقيقةِ المتقدِّمَيْن، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ كأنه قيل: خُلِق الإِنسانُ عَجِلاً. وكذا قال أبو البقاء. والأولُ أَوْلى.
وقرأ العامَّة "خُلِق" مبنياً للمفعول. "الإِنسانُ" مرفوعاً لقيامِه مقامَ الفاعلَ. وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم "خَلَقَ" مبنياً للفاعل. "الإِنسانَ" نصباً مفعولاً به.
(10/298)(1/4154)
---
* { وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله: {مَتَى هَاذَا}: "متى" خبرٌ مقدمٌ، فهي في محلِّ رفعٍ. وزعم بعضُ أهلِ الكوفةِ أنها في محلِّ نصبٍ على الظرفِ. والعاملُ فيها فعلٌ مقدرٌ رافعٌ لهذا. والتدقيرُ: متى يجيءُ هذا الوعدُ، أو متى يأتي؟ ونحوُه. والأولُ هو المشهورُ.
* { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
قوله: {لَوْ يَعْلَمُ}: جوابُها مقدَّرٌ لأنه أبلغُ في الوعيدِ. فقدَّره الزمخشريُّ: "لَما كانوا بتلك الصفةِ/ من الكفرِ والاستهزاءِ والاستعجالِ، ولكنَّ جَهْلَهم به هو الذي هَوَّنه عندهم". وقَدَّره ابنُ عطية: "لَما استعجلوا". وقدَّره الحوفي "لَسارعوا". وقَدَّره غيرُهم "لَعَلِموا صحةَ البعث".
و"حينَ" مفعولٌ به لـ"عَلِموا" وليس منصوباً على الظرفِ. أي لو يَعْلمون وقتَ عدمِ كفِّ النار. وقال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ "يعلمُ" متروكاً بلا تَعْدِيةٍ بمعنى: لو كان معهم علمٌ ولم يكونوا جاهلين لَما كاناو مستَعْجلين. و"حينَ" منصوبٌ بمضمرٍ أي: حين لا يَكُفُّون عن وجوهِهم النارَ يعلمونَ أنهم كانوا على الباطلِ"، وعلى هذا فـ"حين" منصوبٌ على الظرفِ لأنه جَعَلَ مفعولَ العلمِ "انَّهم كانوا".
وقال الشيخ: "والظاهرُ أنَّ مفعولَ "يعلم" محذوفٌ لدلالة ما قبلَه أي: لو يعلم الذين كفروا مجيْءَ الموعودِ الذي سَألوا عنه واسْتَنْبطوه. و"حين" منصوبٌ بالمفعولِ الذي هو "مجيءَ". ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ الإِعمالِ على حَذْفِ مضافٍ، وأعملَ الثاني. والمعنى: لو يعلمون مباشرةَ النارِ حين لا يَكُفُّونها عن وجوهِهم".
* { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
(10/299)
---(1/4155)
قوله: {بَغْتَةً}: في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي مباغتةً. والضميرُ في "تَأْتيهم" يعودُ على النار. وقيل: يعودُ على الحين لأنه في معنى الساعة. وقيل: على الساعةِ التي يُصَيِّرهم فيها إلى العذابِ. وقيل: على الوعد؛ لأنَّه في معنى النار التي وُعِدُوها، قال الزمخشري وفيه تكلُّفٌ.
وقرأ الأعمش: "بل يَأْتيهم" بياء الغَيْبة. "بَغَتة" بفتح الغين. "فيَبْهَتُهُمْ" بالياء أيضاً. فأمَّا الياءُ فَأعاد الضميرَ على الحين أو على الوعد. وقال بعضُهم: "هو عائدٌ على النار، وإنما ذكَّر ضميرها لأنها في معنى العذاب، ثم راعى لفظ النار فأنَّثَ في قوله: "رَدَّها".
وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِم} إضرابُ انتقالٍ. وقال ابن عطية: "بل" استدراكٌ مقدرٌ قبلَه نفيٌ، تقديرُه: "إنَّ الآياتِ لا تأتي على حَسَب اقتراحهم". وفيه نظرٌ؛ لأنه يَصيرُ التقديرُ: لا تأْتيهم الآياتُ على حسبِ اقتراحِهم، بل تأتيهم بغتةً، فيكون الظاهرُ أن الآياتِ تأتي بغتةً، وليس ذلك مُراداً قطعاً. وإنْ أراد أن يكونَ التقديرُ: بل تَأتيهم الساعةُ أو النارُ فليس مطابقاً لقاعدةِ الإِضراب.
* { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ }
قوله: {مِنَ الرَّحْمَانِ}: متعلقٌ بـ"يَكْلؤُكم" على حذفِ مضافٍ أي من أمرِ الرحمنِ أو بَأْسِه كقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. و"بالليل" بمعنى في الليل. والكِلاءَةُ: الحِفْظُ يقال: كَلأَه يَكْلَؤُه اللهُ كِلاءة بالكسر. كذا ضبطه الجوهري فهو كالِىءٌ ومَكْلُوْءٌ. قال ابنُ هَرْمة:
3342ـ إنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها * ضَنَّتْ بشَيْءٍ ما كان يَرْزَؤها
(10/300)
---(1/4156)
واكْتَلأْتُ منه: احتَرَسْتُ، و منه سُمِّي النباتُ كَلأً؛ لأنَّ به تقومُ بُنْيَةُ البهائمِ وتُحْرس. ويقال: "بَلَّغَ الله بك أَكْلأَ العُمُرِ" والمُكَلأَّ: موضعٌ تُحْفظ فيه السفن. وفي الحديث: "نهى عن بيع الكالِىء بالكالِىءِ" أي: بَيْعِ الدَّيْن بالدَّيْن؛ كأنَّ كلاً من رَبِّ الدَّيْنَيْنِ يكلأُ الآخَرَ أي: يراقبه.
وقوله: {بَلْ هُمْ} إضرابٌ عن ما تَضَمَّنه الكلامُ الأول من النفي، إذا التقدير: ليس لهم كالىءٌ ولا مانعٌ غيرُ الرحمنِ.
وقرأ الزهري وابن القعقاع "يَكْلَوُكم" بضمةٍ خفيفةٍ دونَ همزٍ. وحكى الكسائي والفراء "يَكْلَوْكم" بفتحِ اللامِ وسكونِ الواو ولم أعرفْها قراءةً، وهو قريبٌ من لغةِ مَنْ يخفِّف "أكلَتْ الكلا على الكلَوْ" وقفاً إلاَّ أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
* { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ }
قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ}: "أم" منقطعةٌ أي: بل ألهم آلهةٌ. وقد تقدم ما فيها. وقوله: {مِّن دُونِنَا} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بـ"تَمْنَعُهم" قيل: والمعنى: ألهم آلهةٌ تجعلُهم في مَنْعَةٍ وعزٍّ. وإلى هذا ذهب الحوفي. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"آلهة" أي: آلهةٌ من دونِنا تمنعُهم؛ ولذلك قال ابن عباس: "إنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً". وقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} مستأنفٌ فلا محلَّ له، ويجوز أن يكونَ صفةً لـ"آلهة" وفيه بُعْدٌ من حيث المعنى.
* { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }
(10/301)
---(1/4157)
قوله: {وَلاَ يَسْمَعُ}: قرأ ابنُ عامر هنا "ولا تُسْمِعُ" بضمِّ التاءِ للخطابِ وكسر الميم، "الصُّمَّ الدعاءَ" منصوبين. وقرأ ابنُ كثير كذلك في النمل والروم. وقرأ باقي السبعةِ بفتح ياء الغَيْبة والميمِ، "الصُّمُّ" بالرفع، "الدعاءَ" بالنصب في جميع القرآن.
وقرأ الحسن كقراءة ابن عامر إلاَّ أنه بياءِ الغَيْبة وروى عنه ابنُ خالويه "ولا يُسْمَعُ" بياءٍ الغيبة مبنياً للمفعول، "الصُّمُّ" رفعاً، "الدعاءَ" نصباً. ورُوي عن أبي عمرو بن العلاء "ولا يُسْمِعُ" بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ الميمِ "الصُّمَّ"، نصباً "الدعاءُ" رفعاً.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وانب كثير فاالفاعل فيها ضميرُ المُخاطبِ وهو الرسولُ عليه السلام، فانتصب "الصُّمَّ" والدعاءَ" على المعفولين، وأَوَّلُهما هو الفاعلُ المعنوي. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فالفعلُ مسندٌ لـ"الصُّمَّ" فانتصب الدعاء مفعولا به/ وأمَّا قراءةُ الحسنِ الأولى فَأُسْند الفعلُ فيها إلى ضميرِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم. وهي كقراءةِ ابنِ عامر في المعنى. وأمَّا قراءتُه الثانيةُ فإنه أُسْنِدَ الفعلُ فيها إلى "الصُّمُّ" قائماً مقامَ الفاعلِ، فانتصب الثاني وهو "الدعاء".
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فإنه أُسْند الفعلُ فيها إلى الدعاء على سبيل الاتساع، وحُذِف المعفول الثاني للعلمِ به. والتقديرُ: ولا يُسْمِعُ الدعاءُ الصمَّ شيئاً البتة. ولمَّا وصل أبو البقاء هنا قال: "ولا يَسْمَعُ" فيه قراءاتٌ وجوهها ظاهرة" ولم يَذْكُرْها.
و[قوله]: "إذا" في ناصِبه وجهان، أحدُهما: أنَّه "يَسْمَعُ". الثاني: أنه "الدعاءُ" فأَعمل المصدرَ المعرَّفَ بـ أل، وإذا أعملوه في المفعولِ الصريحِ ففي الظرفِ أَحْرى.
* { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }
(10/302)
---(1/4158)
قوله: {نَفْحَةٌ}: قال الزمخشري: "في هذا ثلاثُ مبالغاتٍ: لفظُ المَسَّ وما النفحِ مِنْ معنى القلَّةِ والنَّزَارةِ. يقال: نَفَحَتْه الدابَّةُ: رَمَحَتْه رَمْحاً يسيراً. ونَفَحه بعَطيَّةٍ أي: بنائلٍ قليلٍ، ولبناء المَرَّةِ منه أي: بأدنى إصابة يخضعون. والنَّفْحُ: الخَطْرة. ونَفَحَ له من عطائِه: أي رَضَخَ له بشيءٍ. قال الشاعر:
3343ـ إذا رَيْدَةٌ من حيث ما نَفَحَتْ له * أتاه برَيَّاها خليلٌ يواصِلُهْ
و{مِّنْ عَذَابِ} صفةٌ لـ"نَفْحَة".
* { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }
قوله: {الْقِسْطَ}: في نصب "القِسْطَ" وجهان أحدهما: أنه نعتٌ للموازين، وعلى هذا: فلِمَ أُفْرِد؟ وعنه جوابان، أحدهما: أنه في الأصلِ مصدرٌ، والمصدر يوحَّد مطلقاً. والثاني: أنَّه على حَذْفِ مضاف. الوجه الثاني: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ القسطِ. إلاَّ أنَّ في هذا نظراً من حيث إن المفعولَ له إذا كان معرَّفاً بأل يَقِلُّ تجرُّده من حرف العلة تقول: جئتُ للإِكرام، ويَقلُّ: جئت الإِكرامَ، كقول الآخر:
3344ـ لا أَقْعُدُ الجبنَ عن الهَيْجاءِ * ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
وقرىء "القِصْطَ" بالصاد لأجل الطاء، وقد تقدم.
قوله: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في هذه اللام أوجه، أحدهما: قال الزمخشري: "مثلُها في قولك: جِئْتُ لخمسٍ خَلَوْنَ من الشهر، ومنه بيتُ النابغة.
3345ـ تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها * لستةٍ أعوام وذا العامُ سابعُ
والثاني: أنها بمعنى في. وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك. وهو رأيُ الكوفيين ومنه عندهم: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} وكقول مسكين الدرامي:
3346ـ أولئك قومي قد مضَوْا لسبيلِهم * كما قد مضى مِنْ قبلُ عادٌ وتُبَّعُ
وكقول الآخر:
(10/303)
---(1/4159)
3347ـ وكلُّ أبٍ وابنٍ وإنْ عُمَّرا معاً * مُقِيْمَيْنِ مفقودٌ لوقتٍ وفاقدٌ
والثالث: أنَّها على بابِها مِنَ التعليل، ولكنْ على حَذْفِ مضاف.
أي: لحسابِ يومِ القيامة.
قوله: {شَيْئاً} يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الظلم.
قوله: {مِثْقَالَ} قرأ نافعٌ وفي لقمان برفع "مِثْقال" على أنَّ "كان" تامة، أي: وإنْ وُجِد مثقال. والباقون بالنصب على أنَّها ناقصةٌ، واسمها مضمر أي: وإنْ [كان] العملُ. و{مِّنْ خَرْدَلٍ} صفةٌ لحَبَّة.
وقرأ العامَّة "أَتَيْنَا" من الإِتيان بقَصْرِ الهمزة أي: جِئْنا بها، وكذا قرأ ابن مسعود وهو تفسيرُ معنى لا تلاوة. وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ وسعيد وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمدٍ "آتَيْنا" بمدِّ الهمزة وفيها أوجهٌ، أحدُها: ـ وهو الصحيحُ ـ أنه فاعَلْنا من المؤاتاة وهي المجازاةُ والمكافَأَة. والمعنى: جازَيْنا بها، ولذلك تَعَدَّى بالباء. الثاني: أنها مُفاعَلَةٌ من الإِتيان لمعنى المجازاة والكافأةِ لأنهم أَتَوْه بالأعمال وأتاهم بالجزاءِ، قاله الزمخشري. الثالث: أنه أفْعَل من الإِيتاء. كذا توهَّمَ بعضُهم وهو غلطٌ. قال ابن عطية: "ولو كان آتَيْنا أعطينا لَما تعدَّى بحرفِ جرّ. ويُوْهِنُ هذه القراءةَ أنَّ بدلَ الواوِ المفتوحةِ همزةً ليس بمعروفٍ، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومةِ والمكسورة" يعني أنَّه كان مِنْ حَقِّ هذا القارىءِ أَنْ يَقْرَأَ "واتَيْنا" مثل واظَبْنا؛ لأنها من المُواتاةِ على الصحيح، فأبدل هذا القارِىءُ الواوَ المفتوحةًَ همزةَ. وهو قليلٌ ومنه أَخَذَ "واتاه".
وقال أبو البقاء: "ويُقرأ بالمدِّ بمعنى جازَيْنا بها، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى أَعْطَيْنا؛ لأنَّ الجزاءَ إعطاءٌ، وليس منقولاً مِنْ أَتَيْنا، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم.
(10/304)
---(1/4160)
وقرأ حميد "أَثَبْنا" من الثواب. والضمير من "بها" عائد على المِثْقال، وأنَّث ضميرَه لإِضافتِه لمؤنث فهو كقوله:
3348ـ ................. * كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ
في اكتسابِه بالإِضافةِ التأنيثَ.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }
قوله: {وَضِيَآءً وَذِكْراً}: يجوزُ أن يكونَ من باب عطفِ الصفاتِ، فالمرادُ به شيءٌ واحدٌ أي: آتَيْناه الجامعَ بين هذه الأشياءَ. وقيل: الواوُ زائدةٌ. قال أبو البقاء: فـ"ضياءً" حالٌ على هذا"/.
* { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ }
قوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ}: في محلِّه ثلاثةُ الأوجهِ: وهي الجرُّ على النعتِ أو البدلُ أو البيانُ. والرفعُ والنصبُ على الطقع.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }
قوله: {رُشْدَهُ}: مفعول ثان. وقرأ العامَّة "رُشْدَه: بضم الراء وسكونِ الشين. وعيسى الثقفي بفتحِهما. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما.
قوله: {مِن قَبْلُ} أي: من قبلِ موسى وهارون. وهذا أحسنُ ما قُدِّر به المضافُ إليه. وقيل: من قبلِ بلوغِه أو نبوَّتِه. والضميرُ في "به" يعودُ على إبراهيم. وقيل: على "رَشْدَه".
* { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِيا أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }
قوله: {إِذْ قَالَ}: يجوزُ أن يكونَ منصوباً بـ"آتَيْنا" أو بـ"رُشْدَه" أو بعالِمين أو بمضمر أي: اذكر وقت قوله: وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ بدلاً من موضع قبلُ أي: إنه يَحُلُّ مَحَلَّه فيَصِحُّ المعنى، إذ يصير التقديرُ: ولقد آتَيَيْناه رُشْدَه إذ قال. وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقديرِ.
(10/305)
---(1/4161)
قوله: {لَهَا} قيل: اللامُ للعلةِ أي: عاكفون لأجلها. وقيل: بمعنى على أي: عاكفون عليها. وقيل: ضَمَّنَ "عاكفون" معنى عابِدين فلذلك أتى باللام. وقال أبو البقاء: وقيل: أفادت معنى الاختصاصِ. وقال الزمخشري: "لم يَنْوِ للعاكفين محذوفاً"، وأَجْراه مُجْرى ما لا يَتَعدَّى كقوله: فاعِلون العكوفَ". قلت: الأَولى أن تكونَ اللامُ للتعليل، وصلةُ "عاكفون" محذوفة أي: عاكفون عليها لأجلها لشيءٍ آخرَ.
والتماثيل: جمع تِمْثال، وهو الصورةُ المصنوعةُ من رُخامٍ أو نحاسٍ أو خَشَبٍ، يُشَبَّه بخَلْقِ الآدميِّ وغيرِه من الحيوانات. قال امروؤ القيس:
3349ـ فيا رُبُّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ * بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تمثالِ
* { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ }
قوله: {لَهَا عَابِدِينَ}: "عابدين" مفعولٌ ثانٍ لـ"وَجَدْنا" و"لها" لا تَعَلُّقَ له؛ لأنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به لتقدُّمهن.
* { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله: {أَنتُمْ}: تأكيدٌ للضميرِ المتصلِ. قال الزمخشري: "وأنتم من التأكيدِ الذي لا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ العطفَ على ضميرٍ هو في حكمِ بعضِ الفعلِ ممتنعٌ. ونحوه {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}. قال الشيخ: "وليس هذا حكماً مُجْمعاً عليه؛ فلا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ الكوفيين يُجيزون العطفَ على الضمير المتصلِ المرفوعِ من غير تأكيدٍ بالضمير المنفصل ولا فصلٍ. وتنظيرُ ذلك بـ{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} مخالِفٌ لمذهبِه في {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} لأنَّ مذهبَه يزعم أنَّ "وزوجُك" ليس معطوفاً على الضمير المستكنِّ في "اسكُنْ"، بل مرفوعٌ بفعلٍ مضمر أي: وَلْتَسْكُنْ، فهو عنده من قبيل عطفِ الجمل، وقوله هذا مخالفٌ لمذهبِ سيبويه".
(10/306)
---(1/4162)
قلت: لا يَلْزَمُ من ذلك أنه خالفَ مذهبَه، إذ يجوزُ أن يُنَظَّر بذلك عند مَنْ يعتقدُ ذلك، وإنْ لم يعتقدْه هو.
و{فِي ضَلاَلٍ} يجوز أَنْ كيونَ خبراً إنْ كانَتْ "كان" ناقصةً، أو متعلقاً بـ"كنتم" إن كانَتْ تامةً.
* { قَالُوااْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ }
قوله: {بِالْحَقِّ}: متعلقٌ بـ"جِئْتَ". وليس المرادُ به حقيقةَ المجيء؛ إذ لم يكنْ غائباً. و"أم أنت" "أم" متصلةٌ وإنْ كان بعدها جملةٌ لأنها في حكم المفردِ، إذ التقديرُ: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ: مجيئُك بالحقِّ أم لَعِبُك؟ كقوله:
3350ـ ما أبالي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ * أم جفاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ
وقوله:
3351ـ لَعَمْرُك ما أَدْرِي وإن كنتُ دارياً * شُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَرِ
يريد: أيُّ الأمرَيْنِ واقع؟ ولو كانَتْ منقطعةً لقُدِّرَتْ بـ بل والهمزةِ، وليس ذلك مُراداً.
* { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }
قوله: {الَّذِي فطَرَهُنَّ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ الموضعِ، أو منصوبَه على القطع. والضميرُ المنصوبُ في "فَطَرَهُنَّ" للسمواتِ والأرض. قال الشيخ: "ولَمَّا لم تكنْ السمواتُ والأرضُ تبلُغُ في العددِ الكَثيرِ منه جاء الضميرُ ضميرَ القلة". قلت: إنْ عَنَى لم يَبْلُغْ كلُّ واحدٍ من السماوتِ والأرض فمُسَلَّم، ولكنه غيرُ مرادٍ بل المرادُ المجموعُ. وإنْ عَنَى لم يبلُغْ المجموعُ منهما فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنه يبلغ أربعَ عشرةَ، وهو في حَدّ جمع الكثرةِ، اللهم إلاَّ أَنْ نقولَ: إنَّ الأرضَ شخصٌ واحدٌ، وليسَتْ بسبعٍ كالسماءِ على ما رآه بعضُهم فَيَصِحُّ له ذلك ولكنه غيرُ مُعَوَّلٍ عليه.
(10/307)
---(1/4163)
وقيل: على التماثيل. قال الزمخشري: "وكونُه للتماثيل أثبتُ لتضْليلِهم، وأدخلُ في الاحتجاجِ عليهم". وقال ابن عطية: فَطَرَهُنَّ عبارةٌ عنها كأنها تَعْقِلُ، وهذه من حيث لها طاعةٌ وانقيادٌ، وقد وُصِفَتْ في مواضعَ بوَصْفِ مَنْ يَعْقِلُ". وقال غيرُه: "فَطَرَهُنَّ: أعادَ ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا صَدَرَ منهنَّ من الأحوالِ اليت تَدُلُّ على أنَّها من قبيل مَنْ يَعْقِلُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أخبر بقولِه: {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}. وقوله عليه السلام: "أطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أَنْ تَئِطَّ
". قلت: كأنَّ ابنَ عطيةَ وهذا القائلَ تَوَهَّما أن "هُنَّ"، من الضمائرِ المختصةِ بالمؤنثات العاقلاتِ، وليس كذلك بل هو لفظٌ/ مشتركٌ بين العلاقاتِ وغيرها. قال تعالى: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثم قال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ}.
قوله: {عَلَى ذالِكُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ، أو بـ"الشاهدين" اتساعاً، أوعلى البيان. وقد تقدَّم نظيرُه نحو: {لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ
}.
* { وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ }
قوله: {وَتَاللَّهِ}: قرأ العامَّة بالتاءِ مثنَّاةً من فوقُ. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالباء موحدة. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: ما الفرقُ بين الباءِ والتاءِ؟ قلت: الباءُ هي الأصلُ، والتاءُ بدلٌ من الواوِ المُبْدَلِ منها، وإنَّ التاءَ فيها زيادةٌ معنىً، وهو التعجبُ، كأنه تَعَجَّبَ من تسهيلِ الكيدِ على يدِه وتَأَيِّه". أمَّا قولُه: "إن الباءَ هي الأصلُ" فيدلُّ على ذلك تَصَرُّفُها في الباب، بخلافِ الواوِ والتاءِ، وإن كان السهيليُّ قد رَدَّ كونَ الواوِ بدلاً منها.
وقال الشيخ: "النظرُ يقتضي أنَّ كلاً منها أصلٌ. وأمَّا قولُه "التعجبُ" فنصوصُ النَّحْويين أنه يجوزُ فيها التعجبُ وعدمُه، وإما يلزمُ ذلك مع اللامِ كقوله:
(10/308)
---(1/4164)
3352ـ للهِ يَبْقى على الأيَّامِ ذو حِيَدٍ * بمُشْمَخِرّ به الظَّيَّانُ والآوسُ
و"بعدَ" منصوبٌ بـ"لأَكِيْدَنَّ". و"مُدْبرين" حالٌ مؤكّدةٌ، لأنَّ "تُوَلُّوا" تُفْهِمُ معناها. وقرأ العامَّة "تُوَلُّوا" بضم التاءِ و اللامِ مضارعَ "ولَّى" مشدداً؟ وقرأ عيسى بن عمر "تَوَلَّوا" بفتحِهما مضارعَ "تولَّى" والأصل "تَتَوَلَّوا" فحذف إحدى التاءين: إمَّا الأولى على رأي هشام، وإمَّا الثانية على رأي البصريين. ويَنْصُرُها قراءةُ الجميع {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} ولم يقرأ أحدٌ "فَوَلَّوْا" وهي قياسُ قراءةِ الناس هنا. وعلى كلتا القراءتين فلامُ الكلمةِ محذوفٌ وهو الياءُ لأنه مِنْ وَلي.
ومتعلِّقُ هذا الفعلِ محذوفٌ تقديرُه: تُوَلُّو إلى عيدكم، ونحوُه.
* { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }
قوله: {جُذَاذاً}: قرأ العامَّة "جُذاذاً" بضمِّ الجيم. والكسائيُّ بكسرِها، وابن نهيك وأبو السَّمَّال بفتحِها. قال قطرب: هي في لغاتها كلِّها مصدرٌ فلا يثنَّى ولا يُجمع ولا يؤنَّثُ. والظاهرُ أن المضمومَ اسمٌ للشيءِ المكسِّرِ كالحُطام والرُّفات والفُتاتِ بمعنى الشيء المحطَّمِ والمفتَّتِ. وقال اليزيديُّ: "المضمومُ جمعُ جُذاذة بالضم نحو: زُجاج في زُجاجة، والمكسورُ جمع جَذيذ نحو: كِرام في كريم". وقال بعضُهم: المفتوحُ مصدرٌ بمعنى المفعولِ أي: مَجْذوذين. ويجوز على هذا أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوات جُذاذ. وقيل: المضمومُ جمع جُذاذَة بالضمِّ، والمسكورُ جمع جِذاذَة بالكسر، والمفتوح مصدرٌ.
(10/309)
---(1/4165)
وقرأ ابن وثاب "جُذُذاً" بضمَّتين دونَ إلفٍ بين الذَّالَيْن، وهو جمع جَذِيذ كقَليب وقُلُب. وقُرِىء بضمِّ الجيمِ وفتحِ الذال. وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلٌُها ضمتين، وإنما خُفِّف بإبدال الضمةِ فتحةً نحو: سُرَر وذُلَل في جمع سَرير وذَليل، وهي لغةٌ لبني كَلْب. والثاني: أنه جمع جُذَّة نحو: فُتَت في فُتَّة، ودُرَر في دُرَّة.
والجَذُّ: القطعُ والتكسير، وعليه قوله:
3353ـ بنو المهلبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ * أَمْسَوْا رَماداً فلا أَصْلٌ ولا طَرَفُ
وقد تقدَّم هذا مستوفًى في هود.
وأتى بـ"هم" وهو ضميرُ العقلاءِ معاملةً للأصنام معاملةً العقلاءِ، حين اعتقدوا فيها ذلك.
قوله: {إِلاَّ كَبِيراً} استثناءٌ من المنصوب في "فَجَعَلهم"، أي: لم يكسِرْه بل تركه. "لهم" صفةٌ له، والضمير يجوز أن يعود على الأصنام. وتأويلُ عودِ ضميرِ العقلاءِ عليها تقدَّم. ويجوز أن يكون عائداً على عابديها. والضميرُ في "إليه" يجوز أن يعود إلى إبراهيم أي: يَرْجِعون إلى مقالتِه حين يظهر لهم الحقُّ، ويجوز أَنْ يكونَ عائداً على الكبير، وبكلٍ قِيل.
* { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ }
قوله: {مَن فَعَلَ}: يجوز في "مَنْ" أن تكونَ استفهاميةً. وهو الظاهر. فعلى هذا تكونُ الجملةُ مِنْ قولِه "إنَّه لمِن الظالمين" استئنافاً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وعلى هذا فالجملةُ من "إنَّه" في محلِّ رفع خبراً للموصولِ. التقديرُ: الذي فَعَلَ هذا بآلهتنا إنه.
* { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }
(10/310)
---(1/4166)
قوله: {يَذْكُرُهُمْ}: في هذه الجملةِ [وجوهٌ] أحدُها: أنَّ "سمع" هنا تتعدَّى لاثنين لأنها متعلقةٌ بعين، فيكونُ "فتىً" مفعولاً أول، و"يَذْكُرُهم" هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ/ مفعولاً ثانياً، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: "سمعتُ زيداً" وسكتَّ لم يكن كلاماً بخلافِ سمعت قراءتَه وحديثَه. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب أيضاً صفةً لإِبراهيم، قال الزمخشري: "فإن قلتض: ما حكمُ الفعلَيْن بعد "سمعنا" وما الفرقُ بينهما؟ قلت: هما صفتان لـ"فَتَىً"؛ إلاَّ أنَّ الأولَ وهو "يَذْكُرهم" لا بُدَّ منه لـ"سَمِعَ"؛ لأنك لا تقول: سمعت زيداً، وتسكتُ، حتى تذكرَ شيئاً ممَّا يُسْمع، وأمَّا الثاني فليس كذلك".
قلت: هذا الذي قاله لا يتعيَّنُ؛ لِما عَرَفْتَ أنَّ "سَمِعَ" إنْ تعلَّقَتْ بما يُسْمع نحو "سمعت مقالةَ بكرٍ" فلا خلاف أنها تتعدَّى لواحدٍ، وإن تَعَلَّقَتْ بما لا يُسْمَع فلا يُكتْفى به أيضاً بلا خلافٍ؛ بل لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شيءٍ يُسْمَعُ فلو قلت: "سمعتُ زيداً" وسَكَتَّ، أو "سمعتُ زيداً يركبُ" لم يَجزْ. فإنْ قلتَ: سمعتُه يَقْرأ صَحَّ. وجرى في ذلك خلافٌ بين النحاةِ، بأبوا علي يجعلُها متعديةً لاثنين ولا يَتَمَشَّى عليه قولُ الزمخشري، وغيرُه يَجْعلها متعديةً لواحد، ويجعلُ الجملةَ بعد المعرفةِ حالاً، وبعد النكرةِ صفةً، وهذا أراد الزمخشري.
(10/311)
---(1/4167)
قوله: {إِبْرَاهِيمُ} في رفع "ابراهيمُ" أوجهق أحدُها: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي: قال له هذا اللفظَ، ولذلك قال أبو البقاء: "فالمرادُ الاسمُ لا المُسَمَّى" وفي هذه المسألةِ خلافٌ بين النحويين: أعني تَسَلُّطَ القولِ على المفردِ الذي لا يؤدي معنى جملة، ولا هو مقتطعٌ من جملة، ولا هو مصدرٌ لـ"قال"، ولا هو صفةٌ لمصدرِه نحو: قلتُ زيداً، أي: قلت هذا اللفظ، فاختاره جماعة كالزجاجيِّ والزمخشري وابنِ خروف وابنِ مالك، ومنعه آخرون. وممَّن اختارَ رفعَ "إبراهيمُ على ما ذكرْتُ الزمخشري وابنُ عطية. أمَّا إذا كان المفردُ مؤدياً معنى جملةٍ كقولهم: قلتُ خطبةً وشعراً وقصيدةً، أو اقْتُطِع من جملة كقوله:
3354ـ إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامَةٍ * مُعَتَّقَةٍ ممَّا يجيءُ به التُّجُرْ
أو كان مصدراً نحو: قلتُ قولاً، أو صفةً لو نحو: قلتُ حقاً أو باطلاً، فإنَّه يَتَسَلَّطُ عليه. كذا قالوا: وفي قولهم "المفردُ المقتطعُ من الجملة" نظرٌ لأن هذا لم يَتَسَلَّطْ عليه القولُ، إنما يتسلَّطُ على الجملةِ المشتملةِ عليه.
الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: يقال له: هذا إبراهيمُ، أو هو إبراهيمُ. الثالث: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر أي: يقال له: إبراهيمُ فاعلٌ ذلك. الرابع: أنّه منادى وحرف النداءِ محذوفٌ أي: يا إبراهيمُ، وعلى الأوجه الثلاثيةِ فهو مقتطعٌ من جملةٍ، وتلك الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بيُقال. وقد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة عندَ {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} رفعاً ونصباً. وفي الأعرافِ عند قولِه {قَالُواْ مَعْذِرَةً} رفعاً ونصباً.
والجملةُ من "يُقال له" يُحتمل أَنْ تكونَ مفعولاً آخرَ نحو قولك: "ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً" وأن تكونَ صفةً على رأيِ الزمخشريِّ ومَنْ تابعه، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ "فتى". وجاز ذلك لتخصُّصِها بالوصف.
* { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }
(10/312)
---(1/4168)
قوله: {عَلَى أَعْيُنِ}: في محلِّ نصبٍ على الحال من الهاء في "به" أي: ائتُوا به ظاهراً مكشوفاً بمَرْأَىً منهم ومَنْظَرٍ. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى الاستعلاء في "على"؟ قتل: هو واردٌ على طريقِ المثلِ أي: يَثْبُتُ إتيانُه في الأعين ويتمكَّنُ ثباتَ الراكبِ على المركوبِ وتمكُّنه منه".
* { قَالُوااْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ }
قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ}: في "أنت" وجهان، أحدهما: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه الظاهرُ بعدَه. والتقدير: أفعلتَ هذا بآلهتِنا، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصَلَ الضميرُ. والثاني: أنه مبتدأٌ، والخبرُ بعده الجملةُ. والفرقُ بين الوجهين من حيثُ اللفظُ واضحٌ: فإنَّ الجملةَ مِنْ قولِه "فَعَلْتَ" الملفوظِ بها على الأولِ لا محلَّ لها لأنها مُفَسّرةٌ، ومحلُّها الرفعُ على الثاني، ومن حيث المعنى: إن الاستفهامَ إذا دَخَلَ على الفعلِ أَشْعَرَ بأن الشَّكَّ إنما تعلَّق به: هل وقع أم لا؟ من غيرِ شكٍ في فاعلِه. وإذا دخل على الاسم وقع الشكُّ فيه: هل هو الفاعلُ أم غيرُه، والفعل غيرُ مشكوكٍ في وقوعه، بل هو واقعٌ فقط. فإذا قتل: "أقام زيدٌ"؟ كان شكُّك في قيامِه. وإذا قلتَ: "أزيدٌ قام" وجعلتَه مبتدأً كان شُكَّكَ في صدورِ الفعل منه أم من عمروٍ. والوجه الأولُ هو المختارُ عند النحاةِ لأنَّ الفعلَ تقدَّم ما يطلبُه وهو أداةُ الاستفهام.
* { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ }
قوله: {بَلْ فَعَلَهُ}: هذا الإِضرابُ عن جملةٍ محذوفةٍ تقديرُه: لم أفعَلْه، إنما الفاعلُ حقيقةً اللهُ تعالى، بل فعله. وإسنادُ الفعلِ إلى "كبيرهم" مِنْ أبلغِ/ المعاريض.
(10/313)
---(1/4169)
قوله: {هَاذَا} فيه ستةٌ أوجه، أحدُها: أن يكونَ نعتاً لـ"كبيرُهم". الثاني: أن يكونَ بدلاً من "كبيرُهم". الثالث: أن يكونَ خبراً لـ"كبيرهم" على أنَّ الكلامَ يَتِمُّ عند قوله {بَلْ فَعَلَهُ}، وفاعل الفعلِ محذوفٌ، كذا نقله أبو البقاء، وقال: وهذا بعيدٌ لأنَّ حَذْفَ الفاعلِ لا يَسُوغ"، قلت: وهذا القولُ يُعْزَى للكسائي، وحينئذٍ لا يَحْسُن الردُّ عليه بحذفِ الفاعلِ فإنه يُجيز ذلك ويلتزمُه، ويجعلُ التقديرَ: بل فعله مَنْ فعله. ويجوزُ أَنْ يكونَ أراد بالحذفِ الإِضمارَ لأنه لَمَّا لم يُذكر الفاعلُ لفظاً سُمِّي ذلك حَذْفاً.
الرابع: أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ "فتى". الخامس: أن يكون الفاعلُ ضميرَ "إبراهيمُ". وهذان الوجهان يؤيِّدان ما ذكَرْتُ من أنه قد يكون مرادُ القائلِ بحذفِ الفاعل إنما هو الإِضمارُ. السادس: أنَّ "فَعَلَه" ليس فعلاً، بل الفاء حرف عطف دخلَتْ على "عَلَّ" التي أصلها "لعلَّ" حرفَ تَرَجّ. وحَذْفُ اللامِ الأولى ثابتٌ، فصار اللفظُ فَعَلَّه أي فَلَعَلَّه، ثم حُذفت اللامُ الأولى وخُفِّفت الثانيةُ. وهذا يُعْزَى للفراء. وهو قولٌ مرغوبٌ عنه وقد اسْتَدَلَّ على مذهبِه بقراءةِ ابنِ السَّمَيْفَع "فَعَلَّه" بتشديدِ اللام وهذه شاذَّةٌ، لا يُرْجَعُ بالقراءة المشهورة إليها، وكأن الذي حَمَلَهم على هذا خفاءُ وجهِ صدورِ هذا الكلامِ من النبيِّ عليه السلام.
قوله: {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} جوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبلَه. ومَنْ يجوِّزْ التقديمَ يجعلْ "فسألوهم" هو الجوابَ.
* { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَاؤُلااءِ يَنطِقُونَ }
قوله: {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ}: قرأ العامَّةُ "نُكِسُوا" مبنياً للمفعول مخففةَ الكاف أي: نَكَسَهم اللهُ أو خَجَّلهم. و{عَلَى رُءُوسِهِمْ} حالٌ أي: كائنين على رؤوسهم. ويجوز أن يتعلَّق بنفسِ الفعل.
(10/314)
---(1/4170)
والنَّكْسُ والتَّنْكيسُ: القَلْبُ يقال: نَكَس رأسَه ونَكَّسه مخففاً ومشدداً أي: طَأطأه حتى صار أعلاه أسفله. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود وابن مقسم "نُكِّسوا" بالتشديد. وقد تقدَّم أنه لغةٌ في المخفف، فليس التشديدُ لتعديةٍ ولا تكثيرٍ. وقرأ رضوان بن عبدالمعبود "نَكَسُوا" مخففاً مبنياً للفاعل، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: نَكَسوا أنفسَهم على رؤوسهم.
قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} هذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ، والقسمُ وجوابُه معمولان لقولٍ مضمرٍ، وذلك القولُ المضمرُ حالٌ من مرفوع "نُكِسُوا" أي: نُكِسُوا قائلين واللهِ لقد علمتَ.
قوله: {مَا هَاؤُلااءِ يَنطِقُونَ} يجوز أَنْ تكونَ "ما" هذه حجازيةً فيكونَ "هؤلاء" اسمَها و"يَنْطِقون" في محلِّ نصب خبرَها، أو تميميةً فلا عملَ لها. والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعوليَيْنِ، إن كانت "عَلِمْتَ" على بابِها، ومَسَدَّ واحدٍ إن كانَتْ عِرْفانية.
* { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقد تقدَّم الكلامُ على "أف" في سبحان ولغاتها. واللام في "لكم" وفي "لِما" لامُ التبيينِ أي: التأفيفُ لكم لا لغيرِكم وهي نظيرةُ {هَيْتَ لَكَ
}.
* { قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }
قوله: {بَرْداً}: أي: ذاتَ بَرْد. والظاهر في "سلاماً" أنه نَسَقٌ على"بَرْدا"فيكونُ خبراً عن "كُوني". وجَوَّز بعضُهم أن ينتصِبَ على المصدرِ المقصودِ به التحيةُ في العُرْفِ. وقد رُدَّ هذا بأنَّه لو قُصِد ذلك لكان الرفعُ فيه أَوْلَى نحو قولِ إبراهيم: {سَلاَمٌ}. وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يأتيَ القرآنُ على الفصيحِ والأفصحِ. ويَدُلُّ على ذلك أنه جاء منصوباً، والمقصودُ به التحيةُ نحو قول الملائكة: {قَالُواْ سَلاَماً
(10/315)
---(1/4171)
}. وقوله: {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} متعلق بنفس "سلام" إنْ قُصِد به التحيةُ. ويجوزُ أن يكونَ صفةً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. وعلى هذا فيُحْتمل أَنْ يكونَ قد حَذَف صفةً الأول لدلالةِ صفةِ الثاني عليه تقديرُه: كوني بَرْداً عليه وسلاماً عليه.
* { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ }
قوله: {وَلُوطاً}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعولِ قبلَه، والثاني: أن يكونَ مفعولاً معه. والأولُ أَوْلى. وقوله: {إِلَى الأَرْضِ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّق بِنَجَّيْناه على أن يُضَمَّنَ معنى أخرَجناه بالنجاة. فلمَّا ضُمِّنَ معنى أخرج تعدَّى تعديتَه. والثاني: أنه لا تضمينَ فيه، وأنَّ حرفَ الجرِّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنه/ حالٌ من الضمير في "نَجَّيْناه" أي: نَجَّيْناه مُنْتَهياً إلى الأرض. كذا قدَّره الشيخ. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر كوناً مقيَّداً، وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيرِه ذلك.
* { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ }
قوله: {نَافِلَةً}: قيل في تفسير النافِلة: إنها العَطِيَّةُ. وقيل: الزيادةُ. وقيل: وَلَدُ الولد. فعلى الأول تنتصِبُ انتصابَ المصادر من معنى العامل وهو "وهبنا"، لا من لفظِه؛ لأنَّ الهِبَةَ والإِعطاءَ متقاربان فهي كالعاقبةِ والعافية. وعلى الأخيرين تنتصِبُ على الحالِ، والمرادُ بها يعقوب. والنافِلَةُ مختصةٌ بـ يعقوب على كلِّ تقديرٍ؛ لأن إسحاقَ ولدَه لصُلْبه.
قوله: {وَكُلاًّ} مفعولٌ أولُ لـ"جَعَلْنا" و"صالحين" هو الثاني، توسَّط العاملُ بينهما. والأصل: وجَعَلْنا أي: صيَّرْنا كُلاًّ من إبراهيم ومَنْ ذُكر معه صالِحِين.
(10/316)
---(1/4172)
* { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ }
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً}: كما تقدَّم إلاَّ أنه لم يُوَسَّطِ العاملُ. و"يَهْدون" صفةٌ لـ"أئمة". و"بأَمْرِنا" متعلق بـ"يَهْدُون". وقد تقدَّم التصريفُ المتعلِّق بلفظ أئمة وقراءةُ القراءِ فيها.
قوله: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} قال الزمخشري: "أصلُه أن تُفْعَلَ الخيراتُ، ثم فِعْلاً الخيراتِ، ثم فِعْلَ الخيراتِ، وكذلك "وإقامَ الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ". قال الشيخ: "كأنَّ الزمخشريَّ لمَّا رأى أَنَّ فِعْلَ الخيراتِ وإقامَ الصلاةِ وإتياءَ الزكاةِ ليس من الأحكامِ المختصةِ بالمُوْحى إليهم، بل هم وغيرُهم في ذلك مشتركون بنُي الفعلُ للمفعولِ، حتى لا يكونَ المصدرُ مضافاً من حيث المعنى إلى ضميرِ المُوْحَى إليهم، فلا يكونُ التقدير: فِعْلَهم الخيراتِ، وإقامتَهم الصلاةَ، وإيتاءَهم الزكاةَ. ولا يلزَمُ ذلك؛ إذ الفاعلُ مع المصدرِ محذوفٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ من حيث لمعنى صرفاً إلى ظاهرٍ محذوفٍ، ويشملُ المُوْحَى إليه وغيرَهم. والتقديرُ: فِعْلَ المكلَّفين الخيراتِ. ويجوز أن يكونَ مضافاً إلى ضمير الموحى إليه أي: [أن] يفعلوا الخيراتِ، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتُوا الزكاةَ، وإذا كانوا هم قد أُوْحي إليهم ذلك فأتباعُهم جارُوْن مَجْراهم في ذلك، ولا يَلْزَمُ اختصاصُهم به. ثم اعتقادُ بناءِ المصدرِ للمفعولِ مختلَفٌ فيه. أجاز ذلك الأخفشُ. والصحيحُ مَنْعُه فليس ما اختاره الزمخشريُّ بمختارٍ".
(10/317)
---(1/4173)
قلت: الذي يَظْهر أنَّ الزمخشريَّ لم يُقَدِّرْ هذا التقديرَ، لِما ذكره الشيخ، حتى يُلْزِمَه ما قاله، بل إنما قَدَّر ذلك لأنَّ نفسَ الفعلِ الذي هو معنى صادرٌ مِنْ فاعلِه لا بوَحْيٍ، إنما بوحيَ ألفاظٍ تَدُلُّ عليه، وكأنه قيل: وأَوْحَيْنا هذا اللفظ، وهو أن تُفْعَلَ الخيراتُ، ثم صاغ ذلك الحرفَ المصدريَّ مع ما بعده مصدراً منوَّناً ناصباً لِما بعده، ثم جَعَلَه مصدراً مضافاً لمفعولِه.
وقال ابن عطية: "والإِقام مصدرٌ. وفي هذا نظر". انتهى. يعني ابن عطية بالنظر أنَّ مصدرَ أَفْعَل على الإِفعال. فإن كان صحيحَ العينِ جاء تامَّاً كالإِكرام، وإنْ كان معتلَّها حُذِف منه إحدى الألفين، وعُوِّض منه تاءُ التأنيث فيقال إقامة. فلمَّا لم يُقَلْ كذلك جاء فيه النظر المذكور. قال الشيخ: "وأيُّ نظرٍ في هذا؟ وقد نَصَّ سيبويه على أنَّه مصدرٌ بمعنى الإِقامة وإنْ كان الأكثرُ الإِقامةَ بالتاء، وهو المقيسُ في مصدر أفْعَل إذا اعتلَّتْ عينُه. وحَسَّن ذلك أنه قابَلَ {وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ} وهو بغير تاءٍ، فتقع الموازنةُ بين قولِه {وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ}.
وقال الزجاج: "حُذِفَتِ التاءُ مِنْ إقامة لأنَّ الإِضافةَ عوضٌ عنها" وهذا قولُ الفراءِ: زعم أنَّ التاءَ تُحْذَفُ للإِضافةِ كالتنوين. وقد تقدم بَسْطُ القولِ في ذلك عند قراءةِ مَنْ قرأ في براءة {عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ
}.
* { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ }
قوله: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ}: "لُوْطاً" منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعدَه، تقديره: وآتَيْنا لوطاً آتَيْناه، فهي من الاشتغالِ. والنصبُ في مثلِه هو الراجحُ؛ ولذلك لم يُقرَأْ إلاَّ به لعَطْفِ جملتِه على جملةٍ فعليةٍ، وهو أحدُ المُرَجِّحات.
(10/318)
---(1/4174)
قوله: {مِنَ الْقَرْيَةِ} أي: من أهلِ. يدلُّ على ذلك قولُه بعد ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُواْ}، وكذلك إسنادُ عملِ الخبائثِ أليها، والمرادُ أهلُها. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. والخبائثُ:/ صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: تعملُ الأعمالَ الخابائثَ.
* { وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ }
قوله: {وَنُوحاً}: فيه وجهان: أحدُهما: أنَّه منصوبٌ عَطْفاً على "لُوْطاً" فيكونُ مشتَرِكاً معه في عامِلِه الذي هو "آتَيْنا" المفسَّرِ بـ"آتيناه" الظاهرِ. وكذلك {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} والتقدير: ونوحاً آتيناه حُكْماً، وداودَ وسليمان آتيناهما حكماً. على هذا فـ"إذ" بدلٌ مِنْ "نوحاً" ومِنْ "داود وسليمان" بدلُ اشتمالٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذا في طه.
الثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ "اذكُرْ" أي: اذكر نوحاً وداودَ وسليمانَ أي أذْكُرْ خبَرهم وقصتَهم، وعلى هذا فتكونُ "إذ" منصوبةً بنفسِ المضافِ المقَّدرِ أي: خبرَهم الواقعَ في وقتٍ كان كيتَ وكيتَ.
وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ هؤلاءِ المذكورين.
* { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ }
قوله: {مِنَ الْقَوْمِ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أن يُضَمَّن "نَصَرْناه" معنى منَعْناه وعَصَمْناه. ومثلُه {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ} فلمَّا ضُمِّنَ معناه تَعَدَّى تعَديتَه. الثاني: أنَّ نَصَر مطاوِعُهُ انتصر، فتعدَّى تعديةً ما طاوعه. قال الزمخشري: "وهو نَصَر الذي مطاوِعُه انتصر. وسمعتُ هُذَِليَّاً يدعو على سارِقٍ"اللهم انْصُرْهم منه" أي: اجْعَلْهم منتصِرين منه". ولم يظهر فرقٌ بالنسبةِ إلى التضمين المذكور؛ فإنَّ معنى قولِه "منتصرين منه" أي: ممتنعين أو مَعْصُوْمين منه.
الثالث: أن "مِنْ" بمعنى على أي: على القوم.
(10/319)
---(1/4175)
* { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }
قوله: {لِحُكْمِهِمْ}: في الضميرِ المضافِ إليه "حكمَ" أوجهٌ. أحدُها أنه ضميرٌ يُرادُ به المثنى، وإنَّما وقع الجمعُ موقعَ التثنيةِ مجازاً، أو لأنَّ التثنيةَ جمعٌ، وأقلُّ الجمعِ اثنان. ويدل على أنَّ المرادَ التثنيةُ قراءةُ ابن عباس "لحُكْمِهما" بصيغةِ التثنيةِ. الثاني: أنَّ المصدرَ مضافٌ للحاكِمِيْن وهما داودُ وسليمانُ والمحكوم له والمحكوم، وعليه فهؤلاء جماعةٌ. وهذا يلزَمُ منه إضافةُ المصدرِ لفاعلِه ومفعولِه دُفْعَةً واحدةً، وهو إنما يُضافُ لأحدِهما فقط. وفيه الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ، فإنَّ الحقيقةَ إضافةُ المصدرِ لفاعِله، والمجازَ إضافتُه لمفعولِه، والثالث: أن هذا مصدرٌ لا يُرادُ به الدلالةُ على عِلادٍ، بل جِيْءَ به للدلالةِ على أنَّ هذا الحدثَ وقع وصدَر كقولِهم: له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ وفَهْمٌ فهمَ الأذكياء، فلا يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ، وإذا كان كذلك فهو مضافٌ في المعنى للحاكمِ والمحكومِ له والمحكومِ عليه. ويَنْدَفع المحذوران المذكوران.
* { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ }
وقرأ العامَّةُ "فَفَهَّمْناها" بالتضعيفِ الذي للتعدية، والضميرُ للمسألةِ أو للفُتْيا. وقرأ عكرمةُ "فَأَفْهَمْناها" بالهمزةِ عَدَّاه بالهمزةِ، كما عَدَّاه العامَّةُ بالتضعيف.
(10/320)
---(1/4176)
قوله: {يُسَبِّحْنَ} في موضعِ نصبٍ على الحال. و"الطيرَ" يجوز أن ينتصبَ نَسَقاً على الجبالِ، وأن ينتصِبَ على المفعولِ معه. وقيل: "يُسَبِّحْن" مستأنفٌ فلا محلَّ له. وهو بعيدٌ، وقُرِىء "الطيرُ" رفعاً، وفيه وجهان. أحدهما: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: والطيرُ مُسَخَّراتٌ أيضاً. والثاني: أنه نَسَقٌ على الضمير في "يُسَبِّحْن" ولم يؤكَّدْ ولم يُفْصَلْ، وهو موافق لمذهب الكوفيين.
والنَّفْشُ: الانتشارُ، ومنه {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} ونَفَشَتِ الماشيةُ: أي: رَعَتْ ليلاً بغير راعٍ عكسَ الهَمَلِ وهو رَعْيُها نهاراً مِنْ غيرِ راعٍ.
* { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ }
قوله: {لَبُوسٍ}: الجمهورُ على فتح اللام، وهو الشيءُ المُعَدُّ لِلُّبْس. قال الشاعر:
3355ـ البَسْ لكلِّ حالةٍ لَبُوْسَها * إمَّا نَعيمَها وإمَّا بُوْسَها
وقُرِىء "لُبُوْس" بضمِّها، وحينئذٍ: إمَّا أَنْ يكونَ جمعَ لُبْسِ المصدرِ الواقعِ موقعَ المفعول، وإمَّا أَنْ يكنَ واقعاً موقعَه، والأولُ أقربُ. و"لكم" يجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بعَلَّمْناه، وأَنْ يتعلَّقَ بصَنْعَة. قاله أبو البقاء. وفيه بُعْد، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لِلَبوس.
قوله: {لِتُحْصِنَكُمْ} هذه لامُ كي. وفي متعلِّقها أوجهٌ، أحدها: أن يتعلَّقَ بَعَلَّمْناه. وهذا ظاهرٌ على القولين الأخيرين. وأمَّا على القولِ الثالثِ فيُشْكِلُ. وذلك أنه يلزمُ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جر متحدَيْن لفظاً ومعنىً. ويُجاب عنه: بأَنْ يُجْمعَلَ بدلاً من "لكم" بإعادةِ العاملِ، كقوله تعالى: {لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ}/ وهو بدلُ اشتمالٍ وذلك أنَّ "أنْ" الناصبةَ للفعلِ المقدرِ مؤولةٌ هي ومنصوبُها بمصدرٍ. وذلك المصدرُ بدلٌ من ضميرِ الخطابِ في "لكم" بدلُ اشتمالٍ، والتقدير: وعَلَّمْناه صنعةَ لَبوسٍ لتحصينِكم.(1/4177)
(10/321)
---
الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بـ"صَنْعَةَ" على معنى أنه بدلٌ من "لكم" كما تقدَّم تقريرُه، وذلك على رأي أبي البقاء فإنه عَلَّق "لكم" بـ"صَنْعَةَ". والثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّقَ به "لكم" إذا جَعَلْناه صفةً لِما قبله.
وقرأ الحَرَمِيَّان والأخَوان وأبو عمرو "ليُحْصِنَكم" بالياء من تحتُ. والفاعلُ اللهُ تعالى ـ وفيه التفاتٌ على هذا الوجهِ إذ تَقَدَّمَه ضميرُ المتكلم في قولِه: {وَعَلَّمْنَاهُ} ـ أو داودُ أو التعليمُ أو اللَّبوس. وقرأ حفصٌ وأبن ُ عامر بالتاء من فوقُ. والفاعل الصَّنْعَةُ أو الدِّرْعُ مؤنثة كما تقدم. وقرأ أبو بكر "لِنُحْصِنَكم"" بالنونِ جرياً على "عَلَّمْناه" وعلى هذه القراءاتِ الثلاثِ: الحاءُ ساكنةٌ والصادُ مخففةٌ.
وقرأ الأعمش "لتُحَصِّنَكم" وكذا الفقيمي عن أبي عمروٍ بفتحِ الحاءِ وتشديد الصادِ على التكثير. إلاَّ أنَّ الأعمشَ بالتاءِ من فوقُ، وأبو عمروٍ بالياء من تحتُ. وقد تقدَّم ما هو الفاعلُ.
* { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ }
قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}: العامَّةُ على النصب أي: وسَخَّرْنا الريحَ لسليمانَ، فهي منصوبةٌ بعاملٍ مقدرٍ. وقرأ ابنُ هرمزٍ، وأبو بكر عن عاصم في روايةٍ، بالرفع على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ قبلَه. وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمعِ والنصبِ. وأبوحيوةَ بالجمعِ والرفعِ. وقد تقدَّم الكلامُ على الجمع والإِفرادِ في البقرة، وبعضُ هؤلاء قرأ كذلك في سبأ. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(10/322)
---(1/4178)
قوله: {عَاصِفَةً} حالٌ. والعاملُ فيها على قراءةِ مَنْ نصب: سَخَّرْنا المقدَّر، وفي قراءةِ مَنْ رَفَع: الاستقرارُ الذي تعلَّقَ به الخبرُ. يُقال: عَصَفَتِ الريحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً فيه عاصِفٌ وعاصفةٌ. وأسدٌ تقولُ: أَعْصَفَتْ بالألفِ تُعْصِفُ، فهي مُعْصِفٌ ومُعْصِفَةٌ.
و"تَجْري" يجوزُ أَنْ تكونَ حالاَ ثانيةً، وأَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في "عاصفةً" فتكونُ حالَيْنِ متداخلين. وزعم بعضُهم أنَّ {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} صفةٌ للريح، وفي الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقدير: الريحَ التي بارَكْنا فيها إلى الأرضِ، وهو تَعَسُّفٌ.
* { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }
قوله: {مَن يَغُوصُونَ}: يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُهما: إمَّا نَصْبٌ نَسَقاً على"الريح" أي: وسَخَّرْنام له مَنْ يَغُوْصُون، أو رفعٌ على الابتداءِ. والخبرُ في الجارِّ قبلَه. وجُمِع الضميرُ حَمْلاً على معنى "مَنْ". وحَسَّنَ ذلك تقدُّمُ الجمعِ في قولِه {الشَّيَاطِينِ}، فلمَّا تَرَشَّح جانبُ المعنى رُوْعِي. ونظيرُه قولُه:
3356ـ وإنَّ مِن النَّسْوان مَنْ هي روضةٌ * تَهِيْجُ الرياضُ قبلَها وتَصُرْحُ
راعى التأنيثَ لتقدَّمِ قولِه "وإنَّ مِن النِّسْوانِ".
و{دُونَ ذالِكَ} صفةٌ لـ"عَمَلاً".
* { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قوله: {وَأَيُّوبَ}: كقولِه: "ونوحاً" وما بعده. وقرأ العامَّةُ "أني" لتسليطِ النداءِ عليها بإضمار حرفِ الجرِّ أي: بأنِّي. وعيسى بن عمر بكسرٍ. فمذهبُ البصريين إضمارُ القولِ أي: نادى فقال: أني. ومذهبُ الكوفيين إجراءُ النداءِ مُجْرَى القولِ.
والضُّرُّر بالضمِّ: المَرَضُ في البدنِ، وبالفتح: الضررُ في كلِّ شيءٍ فهو أعمُّ من الأول.
(10/323)
---(1/4179)
* { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }
قوله: {رَحْمَةً}: فيه وجهان، أظهرهما: أنها مفعولٌ من أجلِه. والثاني: أنها مصدرٌ لفعلٍ مقدرٍ أي: رَحِمْناه رحمةً. و{مِّنْ عِندِنَا} صفةٌ لـ"رحمةً".
* { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ }
قوله: {وَذَا الْكِفْلِ}: و{وَذَا النُّونِ} عطفلإ على "أيوبَ" و"ذا" بمعنى صاحب. والكِفْلُ هنا: الكَفالة يقال: إنه تكفَّلَ بأمورٍ فَوَفَّى بها.
* { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }
* {وَذَا النُّونِ}
: الحُوْتُ، ويُجمع على نِيْنان، كحُوْت وحِيْتان. وسُمِّي بذلك، لأنَّ النونَ أبتلعه. قوله: {مُغَاضِباً} حالٌ مِنْ فاعِل "ذهب". والمفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكمونَ على بابِها من المشاركةِ. أي: غاضَبَ قومه وغاضَبوه، وحين لم يُؤْمِنُوا في أول الأمر. وفي بعض التفاسير: مُغاضباً لربِّه. فإنْ صَحَّ ذلك عَمَّن يُعتبر قولُه، فينبغي أَنْ تكونَ اللامُ للتعليلِ لا للتعديةِ للمفعول أي: لأجلِ ربِّه ولدينِه., ويُحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: غضبانَ فلا مشاركةَ كعاقَبْتُ وسافَرْتُ.
والعامَّة على"مُغاضِباً" أسمَ فاعلٍ. وقرأ أو شرف "مغاضَباً" بفتح الضادِ على مالم يُسََمَّ فاعلُه. كذا نقله الشيخ، ونقله الزمخشري عن أبي شرف "مُغْضَباً" دون ألفٍ مِنْ أَغْضَبْتَه فهو مُغْضَب.
قوله: {أَن لَّن} هذه المخمففةُ، وأسمُها ضمير الشأنِ محذوفٌ. و{لَّن نَّقْدِرَ} هو الخبرُ. والفاصلُ/ حرفُ النفي المعنى: أَنْ لَنْ نُضَيِّق عليه، من باب قوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
(10/324)(1/4180)
---
}. والعامَّةُ على "نَقْدِرَ" بنون العظمة مفتوحةً وتخفيفِ الدالِ. والمفعولُ محذوفٌ أي: الجهات والأماكن. وقرأ الزُّهريُّ بضمِّها وتشديد الدال. وقرأ ابنُ أبي ليلى وأبو شرفٍ والكلبي وحميد بن قيس "يُقْدَر" بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ وفتحِ الدالِ خفيفةً مبنياً للمفعول. وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمرَ بفتح الياءِ وكَسرِ الدالِ خفيفةً. وعليٌُّ بن أبي طالب واليمانيُّ بضم الياءِ وكسرِ الدالِ مشددةً. والفاعلُ على هذين الوجهين ضميرٌ يعود على اللهِ تعالى. قوله: {أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ} يجوزُ في "أَنْ" وجهان، أحدُهما: أنها المخففةُ من الثقيلةِ. فاسمُها كا تقدَّم محذوفٌ. والجملةُ المنفيةُ بعدها الخبرُ. والثاني: أنها تفسيريةٌ؛ لأ،ها بعد ما هو بمعنى القولِ لا حروفِه.
* { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {وَكَذالِكَ نُنجِي}: لاكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ. وقرأ العامَّة "نُنْجي" بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم "نُجِّيْ" بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ. وفيها أوجهٌ، أحسنها: أن تكونَ الأصل "نُنَجِّي" بضمِّ الألوى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ، فاستثقل توالي مِثْلين، فحُذِفت الثانيةٌ، كما حُذِفَت في قوله {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ} في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه {تَذَكَّرُونَ} و{تَظَاهَرُونَ} وبابِه.
ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال: "أحدهُما: أنَّ النونَ الثانية أصلُ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُهنا يَبْعُدُ جداً. والثاني: أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ "تَظاهَرون" ألا ترى أنَّك لو قلتَ: "تُتَحامى المظالِمُ" لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية".
(10/325)
---(1/4181)
أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة: أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصسلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ. وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيَّ حركةٍ كانا.
الوجه الثاني: أن "نُجِّي" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً، كما سُكِّنت في قوله: {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك. قالوا: وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى، فمنه:
3357ـ إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ * قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ
وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً.
وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ كقراءةِ أبي جعفرٍ {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش. وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ، والتقدير: نُجِّيَ النَّحاءُ. قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ من وجهين، أحدُهما: تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح". قلت: عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم.
الوجه الثالث: أنَّ الأصلَ: ننجِّي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً، وأُدغِمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فاتُدغَمُ فيها.
الوجه الرابع: أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي: نُجِّي النَّحاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلاَّ أن "المؤمنين" ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى.
(10/326)
---(1/4182)
وهذا القراءةُ متواترةٌ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها، وإنْ كان أبو عليٍ قال: "هي لحنٌ". وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج. أمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال: "ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال: نُجِّي النَّحاءُ المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين، فتعسُّفٌ باردٌ التعسُّفِ". قلت: فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ. وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.
* { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ }
قوله: {وَيَدْعُونَنَا}: العامَّةُ على ثبوتِ الرفع قبل "نا" مفكوكةً منها. وقرأَتْ فرقةٌ "يَدْعُوْنا" بحذفِ نونِ الرفع. وطلحة بإدغامِها فيها. وهذان الوجهان فيهما أجراءُ نون "نا" مُجْرَى نونِ الوقاية. وقد تقدَّم ذلك.
قوله: { رَغَباً وَرَهَباً} يجوز أَنْ يَنْتَصِبا/ على المفعولِ من أجله، وأَنْ ينتصِبا على أنهما مصدران واقعان موقعَ الحال أي: راغبين راهبين، وأن ينتصِبا على المصدرِ الملاقي لعاملِه في المعنى دون اللفظِ لأنَّ ذلك نوعٌ منه.
والعامَّةُ على فتحِ الغينِ والهاء. وابن وثاب والأعمش ـ ورُويت عن أبي عمروٍ ـ بسكون الغين والهاءِ. ونُقِل عن الأعمش ـ وهو الأشهرُ عنه ـ بضمِّ الراء وما بعدها. وقرأَتْ فِرْقَةٌ بضمةٍ وسكونٍ فيهما.
* { وَالَّتِيا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }
(10/327)
---(1/4183)
قوله: {وَالَّتِيا أَحْصَنَتْ}: يجوز أَنْ ينتصِبَ نَسَقاً على ما قبلَها، وأن ينتصِبَ بإضمارِ اذكُرْ، وأن يرتفعَ بالابتداء، والخبرُ محذوف أي: وفيما يُتْلى عليكم التي أحصنت. ويجوز أن يكونَ الخبرُ "فنفَحْنا" وزِيْدَت الفاءُ على رأي الأخفش نحو: "زيدٌ فقائمٌ".
وفي كلامِ الزمخشري "فَنَفَخْنا الروحَ في عيسى فيها". قال الشيخ مؤاخِذاً له: "فاستعمل "نَفَخَ" متعدياً. والمحفوظُ أنه لا يَتَعَدَّى فيحتاج في تَعَدِّيه إلى سماعٍ، وغيرَ متعدٍّ أستعمله هو في قولِه "أي: نَفَخَتْ في المِزْمار" انتهى ما واخَذَه به. قلت: وقد سُمِعَ "نَفَخَ" متعدياً. ويَدُلُّ على ذلك ما قُرِىء في الشاذ "فأنفخها فيكونُ طائراً" وقد حكاها هو قراءةً فكيف يُنْكِرُها؟ فعليك بالالتفات إلى ذلك.
قوله: {آيَةً} إنما لم يطابِقْ المفعولَ الأولَ فيُثَنَّي الثاني؛ لأنَّ كلاً منهما آيةٌ بالآخر فصارا آيةً واحدة. أو نقولُ: إنَّه حُذِف من الأولِ لدلالةِ الثاني، أو بالعكس أي: وَجَعْلنا ابنَ مريمَ آيةً. وأمَّه كذلك. وهو نظيرُ الحذفِ في قولِه {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقد تقدَّم.
* { إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }
قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً}: العامَّةُ على رفع "أمتكُم" خبراً لـ"إنَّ" ونصب "أمةً واحدةً" على الجالِ. وقيل على البدل من "هذه"، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو "إن زيداً قائمٌ أخاك".
وقرأ الحسنُ "أُمَّتَكم" بالنصبِ على البدل من "هذه" أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو "أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ" برفع الثلاثة على أنْ تكونَ "أمتُكم" خبرَ "إنَّ" كما تقدَّم و"أمةٌ واحدةٌ" بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ، أو تكونَ "أمةٌ واحدةٌ" خبرَ مبتدأ محذوفٍ.
(10/328)
---(1/4184)
* { وَتَقَطَّعُوااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ }
قوله: {أَمْرَهُمْ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الخفضِ أي: تَفَرَّقوا في أمرِهم. الثاني: أنه مفعولٌ به، وعَدَّي تَقَطَّعوا لأنه قَطَّعوا. الثالث: ِأنه تمييزٌ. وليس بواضحٍ معنىً وهو معرفةٌ، فلا يَصِحُّ من جهة صناعةِ البصريين. قال أبو البقاء: "وقيل: هو تمييزٌ أي تقَّطع أمرُهم" فجعله منقولاً من الفاعلية.
و"زُبُراً" يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً على أن يُضَمَّنَ "تقطَّعوا" معنى صَيَّروا بالتقطيع، وإمَّا أن ينتصِبَ على الحالِ من المفعول ـ أي: مثلَ زُبُرٍ أي: كُتُبٍ؛ فإنَّ الزُّبُرَ جمعُ زَبُور كرُسُل جمعَ رسول، أويكون حالاً من الفاعل. نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين. وفيه نظرٌ؛ إذ لا معنى له، وإنما يَظْهر كونُه حالاً من الفاعلِ في قراءةِ "زُبَرا" بفتح الباءِ أي فِرَقاً. والمعنى: صَيَّروا أمرهم زُبُراً أو تقطَّعوه ف يهذه الحالِ. والوجهان مأخوذان مِنْ تفسير الزمخشري لمعنى الآية الكريمة، فإنه قال: "والمعنى: جعلوا أَمْرَ دينهم فيما بينهم قِطَعاً كمنا يتوزَّعُ الجماعةُ [ الشيءَ] ويقتسمونه، فيطير لهذا نصيبٌ ولذلك نصيبٌ، تمثلاً لاختلافهِم فيه وصيرورتِهم فِرَقاً وأحزاباً".
وفي الكلامِ التفاتُ من الخطاب وهو قوله "أمتُكم" إلى الغَيْبة تشنيعاً عليهم بسوءِ صنيعهم.
وقرأ الأعمش بفتحِ الباء جمع زُبْرَة، وهي قطعة الحديد في الأصل. ونصبُه على الحال من ضمير الفاعِل في "تقطَّعوا" وقد تقدَّم. ولم يَتَعرَّض له أبو البقاء في هذه السورة وتَعَرَّض له في المؤمنين فذكر فيه الأوجهَ المتقدمة وزاد أنه قُرِىء "زُبْراً" بكونِ الباء، وهو بمعنى المضمومِها.
* { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }
(10/329)
---(1/4185)
قوله: {فَلاَ كُفْرَانَ} الكُفْران: مصدرٌ بمعنى الكُفْر. قال:
3358ـ رأيتُ أُناساً لا تَنام جُدُوْدُهُمْ * وجَدِّيْ ـ ولا كفرانَ لله ـ نائمُ
و"لِسَعْيه" متعلقٌ بمحذوفٍ أي: يكفُر لسَعْيه، ولا يتعلَّق بكفران؛ لأنه يَصير مُطوَّلاً، والمطوَّل يُنْصَبُ. وهذا مبنيٌّ. والضميرُ في "له" يعودُ على السعي.
* { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
قوله: {وَحَرَامٌ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبن عمرو "وحِرْمٌ" بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ. وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال. وقرأ بن عباس وعِكْرمة و"حَرِمَ" بفتح الحاء وكسر الراء وفتحك الميم، على أنه فعلٌ ماضٍ، ورُوي عنهم أيضاً وعن أبي العالية فتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ نزنة كُرمَ، وهو فعلٌ ماض أيضاً. ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع. وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً. واليمانيُّ بضم الحال وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء و تنوين الميم.
فَمَنْ جعله اسماً: ففي رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ/ وفي الخبر حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهُا: قوله {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وفي ذلك حنيئذٍ أربعة ُ تأويلاتٍ، التأويلُ الأولُ: أنَّ "لا" زائدةٌ, والمعنى: وممتنعٌ على قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإيمانِ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ. وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} يعني في أحدِ القولين. التأويل الثاني: أنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ المعنى: أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم. التأويلُ الثالث: أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب. ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ} وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء:
(10/330)
---(1/4186)
3359ـ حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً * على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ
وأيضاَ فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ.
ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي: لا يَرْجِعون عن الشرك. وقال قتادة: إلى الدنيا. التأويل الرابع: قال أبو مسلم ابن بَحْر: "حرامٌ: ممتنع. وأنه لا يرجعون: انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ: فالمعنى: أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة. ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ يُنْكر البعثَ. وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ، وأنه يُجْزَى على ذلك يومَ القيامةِ". وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال: "وممتنعٌ على الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه، فتكون "لا" على بابِها، والحرامُ على بابه".
الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه: حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم، ويكونُ "أنَّهم لا يَرْجعون" علةً لما تقدَّم من معنى الجملة، ولكن لك حينئذ في "لا" احتمالان، الاحتمال الأول: أَنْ تكونَ زائدةً. ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم: "إذا جَعَلْتَ لا زائدةً" قتل: والمعنى عنده: لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها. الاحتمال الثاني: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ بمعنى: ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
(10/331)
---(1/4187)
الوجهُ الثالث: أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً، وإنما رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب "أقائم أخواك". قال أبو البقاء: "والجيدُ أن يكونَ "أنهم" فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر"، قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ، وهنا فلم يعتمِدْ المبتدأُ على شيءٍ من ذلك، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ، فنه لا يَشترطُ ذلك. وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع، والذي يظهر قولُ الأخفش، وحينئذ يكون في "لا" الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدِهما، باختلاف معنيين: أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ، أو امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة.
الوجه الثاني: من وجهَيْ رفعِ "حرام" أنه خبرُ مبتدأ محذوف، فقدَّره بعضهم: الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ. وقَدَّره أبو البقاء:"أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ الصالحِ حرامٌ". وقال الزمخشري: "وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك، وهو المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ. ثم عَلَّل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟
وقرأ العامَّةُ "أَهْلكناها" بنونِ العظمة. وقرأ أبو عبدالرحمن وقتادةُ "أهلكتُها" بتاءِ المتكلم. ومَن قرأ "حَرِمٌ" بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ الميم، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو: حَذِر. وقال:
3360ـ وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِضمُ
ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ لـ"أنَّ" وما في حَيِّزها. ولا يَخْفى الكلامُ في "لا" بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها/ فإنَّ المعنى واضحٌ مما تقدَّم, وقُرِىء "إنَّهم" بالكسرِ على الاستئناف، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ مبتدأ يَتِمُّ به الكلام، تقديرُه: ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ. وتقدَّم تحريرُ ذلك.
(10/332)
---(1/4188)
* { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ }
قوله: {حَتَّى إِذَا}: قد تقدم الكلام على "حتى" الداخلةِ على "إذا" مشبعاً. وقال الزمخشري هنا: "فإنْ قلت: بمَّ تعلَّقَتْ "حتى" واقعةً غايةً له وأيَّة الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقةٌ بـ"حرامٌ" وهي غايةٌ له؛ لأنَّ امتناعَ رجوعِهم لا يزول حتى تقومَ القيامةُ، وهي "حتى" التي يُحْكى بعدها الكلامُ، والكلامُ المحكيُّ هو الجملةُ من الشرطِ والجزاءِ، أعني "إذا" وما في حيزها". وأبو البقاء نَحا هذا النحوَ فقال: "وحتى" متعلقةٌ في المعنى بـ"حرامٌ" أي: يستمرُّ الامتناع إلى هذا الوقتِ، ولا عملَ لها في "إذا".
وقال الحوفي:"هي غايةٌ، والعاملُ فيها ما دَلَّ عليه المعنى مِنْ تأسُّفِهم على مافَرَّطوا فيه من الطاعةِ حين فاتَهم الاستداركُ". وقال ابنُ عطية: "حتى" متعلقةٌ بقوله "وتَقَطَّعوا". وتحتملُ على بعضِ التأويلاتِ المتقدمة أَنْ تتعلَّق بـ"يَرْجِعون"، وتحتمل أَنْ تكونَ حرفَ ابتداءٍ، وهو الأظهر؛ بسبب "إذا"؛ لأنها تقتضي جواباً هو المقصودُ ذِكْرُه". قال الشيخ: "وكونُ "حتى" متعلقةً بـ"تَقَطَّعوا" فيه بُعْدٌ من حيثن كثرةُ الفصلِ لكنه من حيث المعنى جيدٌ: وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحقِّ إلى قُرْب مجيءِ الساعةِ، فإذا جاءت الساعةُ انقطع ذلك كلُّه".
وتلخَّصَ في تعلُّق "حتى" أوجهُ، أحدها: أنها متعلقةٌ بـ"حرامٌ". الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى، وهو قولُ الحوفيِّ. الثالث: أنها متعلقةٌ بـ"تَقَطَّعوا". الرابع: أنها متعلقةٌ بـ"يَرْجِعون". وتلخَّص في "حتى" وجهانم، أحدهما: أنها حرفُ ابتداءٍ وهو قولُ الزمخشري وابنِ عطية فيما اختاره، الثاني: حرفُ جرّ، بمعنى إلى.
(10/333)
---(1/4189)
وقرأ "فُتِّحَتْ" بالتشديد ابنُ عامر. والباقون بالتخفيفِ. وقد تقدَّم ذلك أولَ الأنعام، وفي جواب "إذا" أوجهٌ أحدُها: أنه محذوفٌ فقدَّره أبو إسحاق: "قالوا يا وَيْلَنا"، وقدَّره غيرُه: فحينئذٍ يُبعثون. وقوله "فإذا هي شاخصة" عطفٌ على هذا المقدرِ. الثاني: أنَّ جوابَها الفاءُ في قولِه "فإذا هي" قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية. فقال الزمخشري: "وإذا هي المفاجأةُ، وهي في المجازاة سادَّةً مَسَدَّ الفاءِ كقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فإذا جاءت الفاءُ معها تعاونَتا على وَصْل الجزاء بالشرط فيتأكَّدُ. ولو قيل: إذا هي شاخصة كان سديداً. وقال ابن عطية: "والذي أقول: إنَّ الجوابَ في قوله "فإذا هي شاخِصَةٌ"، وهذا هو المعنى الذي قُصِد ذِكْرُه؛ لأنه رجوعُهم الذي كانوا يُكَذِّبون به وحَرَّم عليهم امتناعَه".
وقوله: {يَأْجُوجُ} هو على حذفِ مضاف أي: سدٌّ يأجوجَ ومَأْجوجَ. وتقدَّم الكلامُ فيهما قريباً.
قوله: "وهم" يجوز أَنْ يعودَ على يأجوج ومأجوج، وأن يعودَ على العالَم بأَسْرِهم. والأولُ أظهر.
وقرأ العامَّةُ: "يَنْسِلون" بكسر السين، وأبو السمَّالِ وابنُ أبي إسحاق بضمها. والحَدَب: النَّشَزُ من الأرض أي: المرتفعُ، ومنه الحَدَبُ في الظهر وكلُّ كُدْية أو أَكَمَةٍ فهي حَدَبَة، وبها سُمِّيَ القبرُ لظهورِه على وجه الأرض، والنَّسَلان مقارَبَةُ الخَطْوِ مع الإِسراعِ، يُقال: نَسَل ينسِل وينسُل بالفتح في الماضي، والكسرِ والضم في المضارع، ونسل وعَسَل واحد، قال الشاعر:
3361ـ عَسَلانَ الذئبِ أمسى قارِباً * بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ
(10/334)
---(1/4190)
والنَّسْلُ من ذلك وهو الُّرِّيَّة، أطلقَ المصدرَ على المَفْعول. و"نَسَلْتُ ريشَ الطائر" من ذلك. وقُدِّمَ الجارُّ على متعلقه لتواخي رؤوسِ الأي. وقرأ عبد الله وابن عباس "جَدَث" بالثاء المثلثة، وهو القبرُ. وقُرِىء بالفاء وهي بدلٌ منها. قال الزمخشري: "الثاء" للحجاز والفاء لتميم". وينبغي أَنْ يكونا أصلين؛ لأنَّ كلاً منهما لغةٌ مستقلةٌ، ولكن قد كَثُر إبدال الثاء من الفاء قالوا: مَعْثُور في مَعْفور، وقالوا: "فُمَّ" في ثُمَّ، فأبدلت هذه من هذه تارةً، وهذه من هذه أخرى.
* { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }
قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ}: فيه أوجهٌ أحدُها: ـ وهو الأجود ـ أن تكمونَ "هي" ضميرَ القصة، و"شاخصةٌ" خبرٌ مقدمٌ، و"ابصارُ" مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرٌ لـ"هي" لأنها لا تُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرِّحٍ بجزأيها، وهذا مذهبُ البصريين. الثاني: أن تكونَ "شاخصة" مبتدأ، و"أبصارُ" فاعلٌ سدَّ مَسَدَّ الخبرِ، وهذا يتمشَّى على رأي الكوفيين؛ لأنَّ ضميرَ القصةِ يُفَسَّر عندهم بالمفردِ العاملِ عملَ الفعلِ فإنَّه في قوة الجملة. الثالث: قال الزمخشري: "هي" ضميرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحه الأبصارُ وتُفَسِّره، كما فُسِّر {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} {وَأَسَرُّواْ}. ولم يَذْكر غيرَه. قلت: وهذا هو قولُ الفراء؛ فإنَّه قال: "هي" ضميرُ الأبصارِ تقدَّمَتْ لدلالة الكلام ومجيءِ ما يُفَسِّرها". وأنشد شاهداً على ذلك:/
3362ـ فلا وأبيها لا تقول حَليلتي * ألا فَرَّعني مالكُ بنُ أبن كعبِ
الرابع: أن تكونَ "هي" عماداً، وهو قول الفراء أيضاً، قال: "لأنه يَصْلُح موضعَها "هو" وأنشد:
3363ـ بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودِرْهمٍ * فهل هو مرفوعٌ بما ههنا راسُ
(10/335)
---(1/4191)
وهذا لا يَتَمَشَّى إلاَّ على أحدِ قولي الكسائي: وهو أنه يُجيز تقدُّمَ الفصلِ مع الخبرِ المقدَّم نحو: "هو خيرٌ منك زيد" الأصل: زيدٌ هو خيرٌ منك، وقال الشيخ: "أجاز هو القائمُ زيدٌ، على أنَّ "زيداً" هو المبتدأ و"القائم" خبره و"هو" عمادٌ. وأصلُ المسألةِ: زيدٌ هو القائم". قلتُ: وفي هذا التمثيلِ [نظرٌ]؛ لأنَّ تقديمَ الخبرِ هنا ممتنعٌ لا ستوائِهما في التعريفِ، بخلاف المثال الذي قَدَّمْتُه، فيكون أصلُ الآيةِ الكريمة: فإذا أبصارُ الذين كفروا هي شاخصةٌ، فلما قُدِّم الخبرُ وهو "شاخصةٌ" قُدِّم معها العِمادُ. وهذا أيضاً إنما يجيءُ على مذهبِ مَنْ يرى وقوعَ العمادِ قبل النكرة غيرِ المقاربةِ للمعرفةِ.
الخامس: أَنْ تكونَ "هي" مبتدأً، وخبرُه مضمرٌ، ويَتِمُّ الكلامُ حينئذذٍ على "هي"، ويُبْتَدأ بقوله "شاخصة أبصار". والتقديرُ: فإذا هي بارزةٌ أي: الساعةُ بارزةٌ أوة حاضرة، و"شاخصةٌ" خبرٌ مقدمٌ و"ابصارُ" مبتدأٌ مؤخرٌ. ذكره الثعلبي. وهو بعيدٌ جداً لتنافرِ التركيبِ، وهو التعقيدُ عند علماءِ البيان.
قوله: {ياوَيْلَنَا} معمولٌ لقولٍ محذوفٍ، وفي هذا القولِ المحذوفِ وجهان، أحدُهما: أنَّه جوابُ "حتى إذا" كما تقدَّم. والثاني: في محلِّ نصبٍ على الحال من "الذين كفروا"، قاله الزمخشري.
* { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }
قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ}: أتى هنا بـ"ما" وهي لغيرِ العقلاءِ، لأنه متى اختلطَ العاقلُ بغيرِه تَخَيَّر الناطقُ بين ما ومَنْ.
(10/336)
---(1/4192)
وقرأ العامَّةُ "حَصَبُ" بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ، وهو ما يُحْصَبُ أي: يُرْمَى في النارِ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ. فأمَّا [ما] قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل: هي لغةٌ حبشية. وقيل: يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء في النار. وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ـ ورُويت عن ابنِ كثير ـ بسكونِ الصادِ وهو مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موضع المفعول، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار، ومنه المِحْضَبُ: عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ. وأًنْشِدَ:
3364ـ فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً * فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا
وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير "حَطَبُ" بالطاء، ولا أظنُّها إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً.
* { لَوْ كَانَ هَاؤُلااءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله: {آلِهَةً}: العامَّةُ عل النصب خبراً لـ"كان" وقرأ طلحة بالرفع. وتخريجُها كتخريج قوله:
3365ـ إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَانِ... * ...........................
ففيها ضمير الشأن.
وقوله: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} جَوَّز أبو البقاء في هذه الجملةِ ثلاثةَة أوجه، أحدها: أن تكونَ بدلاً من "حَصَبُ جنهم". قلت: يعني أن الجملةَ بدلٌ من المفردِ الواقعِ خبراً، وإبدال الجملةِ من المفردِ إذا كان أحدُهما بمعنى الآخر جائز، إذ التقديرُ: إنكم أنتم لها واردون. والثاني: أن تكونَ الجملةُ مستأنفةً. والثالث: أن تكونَ في محلِّ نصب على الحال من "جهنم" ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ.
* { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }
(10/337)
---(1/4193)
قوله: {مِّنَّا}: يجوز أن يتعلَّقَ بـ"سَبَقَتْ"، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الحسنى".
* { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ }
قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من "مُبْعَدُون" لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، فيغني عنه، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في "مُبْعَدون".
قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ} إلى قوله "وتَتَلقَّاهم" كلُّ جملةٍ من هذه الجملِ يحتمل أَنْ تكونَ حالاً مِمَّا قبلها. وأن تكون مستأنفةً. وكذا الجملةُ المضمرةُ من القولِ العاملِ في جملة قولِه "هذا يومُكم" إذا التقديرُ: وتَتَلَقَّاهم يقولون: هذا يومُكم.
* { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }
قوله: {يَوْمَ نَطْوِي}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ بـ"لا يَحْزُنُهم". والثاني: أنه منصوبٌ بـ"تتلقَّاهم". الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني. والرابع: أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه: تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي فـ"يومَ" بدل من الهاء. ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذل خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول، ولذلك مَنَعُوا "جاء الذي مررتُ به أبي عبدالله" على أن يكونَ "أبي عبدالله" بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ، وإن كان في المسألة خلاف. الخامس: أنه منصوبٌ بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ "يُحْزِنُ" بضم الياء إلاَّ هنا، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ "يَحْزُن" بالفتح إلاَّ هنا.
(10/338)
---(1/4194)
وقرأ العامَّة "نَطْوي" بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين "يطوي" بياء الغَيْبة، والفاعلُ هو الله تعالى، وقرأ أبو جعفر في آخرين "تُطْوَى" بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول.
وقرأ العامَّةُ "السِّجِلِّ" بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطَّمِرِّ. وقرأ أبو هيريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما، واللامُ مشددةٌ أيضاً بزنةٍ "عُتُلّ". ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً، فتكونَ بزنةِ عُنُق، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر [بكسرِهها]. والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ، قال أبو عمرو: "قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن".
والسِّجِلُّ: الصيحفةُ مطلقاً. وقيل: بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد، وهي من المساجلةِ ، والسَجْل: الدَلْوُ المَلأى. وقال بعضهم: هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له.
و"طَيّ" مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. والفاعلُ محذوفٌ بقديرُه: كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ بأطِّراد. والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه. وأصلُ طيّ: طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره.
وقيل: السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم. وقيل: اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله. و"الكتاب" اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها. وقال أبو إسحاق: "السِّجِلُّ: الرجلُ لسان الحبشة". وقال الزمخشري: كما يُطْوَى الطُّومارُ للكتابة، أي: ليُكتبَ فيه، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب". فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول. وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
(10/339)
---(1/4195)
واللام في "للكتاب": إِمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ، وإمَّا بمعنى "على". وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ. والقراءاتُ المذكورةُ في "السِّجِلْ" كلُّها لغات. وقرأ الأخَوان وحفص "للكتب" جمعاً، والباقون "للكتاب" مفرداً، والرسُم يحتملهما: فالإفرادُ يُراد به الجنسُ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ.
قوله: {كَمَا بَدَأْنَآ} في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ بـ"نُعِيده"، و"ما" مصدريةٌ و"بدأنا" صلتُها، فيه وما في حَيِّزهنا في محلِّ جر بالكاف. و"أولَ خَلْقٍِ" مفعولُ "بَدَأنا"، والمعنى: نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي: كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود. وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: "الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه" وفي قولِه "عَوْد" نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقلوَ: إعادة.
والثاني: أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ. قال الزمخشري: ووجهُ آخرُ: وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره "نُعيده" و"ما" موصولةٌ أي: نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده، و"أولَ خَلْقٍ" ظرف لـ"بَدَأْناه" أي: أولَ ما خلق، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى".
(10/340)
---(1/4196)
قال الشيخ: "وفي تقديرِه تهيئةُ "بَدَأْنا" لأَنْ يَنْصِبَ "أولَ خَلْقٍ" على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً بـ"نُعِيْدُه"، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله. أمَّا قولُه "ووجهٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه "نُعِيْدُه" فهو ضعيفٌ جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ، وليس مذهبَ الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ. وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ". قلت: كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ، وقادَة إلى ذلك المعنى الصحيحُ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه. يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ.
وأمَّا قوله: "ما" ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها مصدريةٌ. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. وقد تقدَّم تقريرُ هذين, والثالث: أنها كافةٌ للكافش عن العملِ كما هي في قولِه:
3366ـ ..................... * كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ
فيمَنْ رفع "الناس". قال الزمخشري: "أولَ خَلْقٍ" مفعولُ "نُعيد" الذي يُفَسِّره "نُعِيده"، والكافُ مكفوفةٌ بـ"ما". والمعنى: نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء. فإنْ قلتَ: فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت: أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ".
وأمَّا "أولَ خلق" فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولُ "بَدَأْنا". والثاني: أنه ظرفٌ لـ"بَدَأْنا". والثالث: أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك. والرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعول "نُعيده" قاله أبو البقاء، والمعنى: مثلَ أولِ خَلْقِه.
(10/341)
---(1/4197)
وأمَّا تنكيرُ "خَلْقِ" فللدلالةِ على التفصيلِ. قاله الزمخشري: "فإن قلتَ" ما بالُ "خَلْقٍ" منكَّراً؟ قلت: هو كقولِك: "هو أولُ رجلٍ جاءني" تريد: أول الرجال. ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً، وكذلك معنى "أولَ خَلْقٍ" بمعنى: أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ".
قوله: {وَعْداً} منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة، فناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدْنا ذلك وَعْداً.
* { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
قوله: { مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}: يجوزُ أَنْ يتعلًَّق بـ"كَتْبنا"، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ "الزَّبُورِ" لأنَّه بمعنى المَزْبُور أي: المكتوب أي: المَزْبُور مِنْ بَعْدِ. ومفعولُ "كَتَبْنا" أنَّ وما في حَيِّزها أي: كَتَبْنا وِراثَةَ الصالحينِ للأرَ أي: حَكَمْنا به.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }
قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي: لأجلِ الرَّحْمة. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مبالغةً في أَنْ جَعَلَه نفسَ الرحمة، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رحمةٍ أو بمعنى راحِم. وفي الحديث "يا أيها الناسُ إنما أنا رحمةٌ مُهْداة
". قوله: {لِّلْعَالَمِينَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ"رَحْمَةً" أي: كائنةً للعالمين. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ"أَرْسَلْناك" عند مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ ما بعد "إلاَّ" بما قبلها جائزاً أو بمحذوفٍ عند مَنْ لا يَرَى ذلك. هذا إذا لم يُفَرَّغ الفعلُ لِما بعدها، أما إذا فُرِّغَ فيجوزُ نحو: ما مررتُ إلاَّ بزيدٍ، كذا قاله الشيخ هنا. وفيه نظرٌ من حيث إن هذا أيضاً مفرغ؛ لأنَّ المفرَّغَ عبارةٌ عمَّا افتقر ما بعد "إلاَّ" لِما قبلها على جهةِ المعمولية له.
(10/342)
---(1/4198)
* { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ }
قوله: {أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ}: "أنَّ" وما في حَيِّزِها في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ؛ إذا التقديرُ: إنما يُوْحَى إليَّ وَحْدانيةُ إلهكم. وقال الزمخشري: "إنَّما" لقَصْرٍ الحكمِ على شيءٍ أو لقَصْرِ الشيءِ على حكمٍ كقولِك: "إنما زيدٌ قائم" و"إنما يقومُ زيدٌ". وقد اجتمع المثالان في هذه الآيةِ؛ لأنََّ {إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ} مع فاعلِه بمنزلةِ "إنما يقومُ زيد"، و{أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} بمنزلةِ "إنَّما زيد قائم". وفائدةُ اجتماعِها الدلالةُ على أنَّ الوَحْيَ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقصورٌ على استئثارِ اللهِ بالوَحْدانية".
قال الشيخ: "أمَّا ما ذكره في "أنَّما" أنَّها لقَصْرِ ما ذَكَر، فهو مبنيٌّ على أن "أنَّما" للحصر، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر وأنَّ "ما" مع "أنَّ" كهي مع كأنَّ ومع لعلَّ. فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي، فكذلك لا تفيده مع "أنَّ". وأما جَعْلُه "أنما" المفتوحةَ الهمزةِ مثلَ المكسورتِها تدلُّ على القَصْر فلا نعلم الخلاف إلاَّ في "إنما" بالكسر، وأما "أنما" بالفتح فحرفٌ مصدريٌّ، ينسَبِكُ منه مع ما بَعْدَه مصدرٌ، فالجملةُ بعدها ليسَتْ جملةً مستقلةً. ولو كانَتْ "أنما" دالةً عل الحصر لزم أَنْ يُقال: إنه لم يُوْحَ إليه شيءٌ إلاَّ التوحيدُ، وذلك لا يَصِحُّ الحَصْرُ فيه، إذ قد أُوْحي له أشياءُ غيرُ التوحيد".
(10/343)
---(1/4199)
قلت: الحَصْرُ بحسب كلِّ مقامٍ على ما يناسِبُه؛ فقد يكون هذا المقامُ يقتضي الحصرَ في إيحاءِ الواحدنية لشيءٍ جَرَى من إنكارِ الكفارِ وحدانيتَه تعالى، وأنَّ اللهَ لم يُوْحِ إليه لها شيئاً. وهذا كما أجاب الناسُ عن هذا الإِشكالِ الذي ذكره الشيخُ في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ} {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى كغير ذلك. و"ما" من قوله {إِنَّمَآ يُوحَى} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ كافةً وقد تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً كهي في قوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ} ويكون الخبرُ هو الجملةَ مِنْ قوله: {أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} تقديرُه: إن الذي يوحى إليَّ هو هذا الحكمُ.
قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهامٌ معناه الأمرُ بمعنى اَسْلِموا، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي: انتهوا.
* { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيا أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ }
قوله: {آذَنتُكُمْ}: أي: أَعْلَمْتُكم. فالهمزةُ فيه للنقلِ. قال الزمخشري: "آذن منقولٌ مِنْ أَذِنَ إذا عَلِمَ، ولكنه كَثُرَ استعمالُه في الجَرْيِ مَجْرى الإِنذار. ومنه قولُه تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} وقول ابن حِلِّزَة:/
3367ـ آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ * ........................
قلت: وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة.
قوله: {عَلَى سَوَآءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل والمفعول معاً، أي: مُسْتَوِين في العلم بما أَعْلَمْتُكم به لم يَطْوِه عن أحدٍ منهم.
(10/344)
---(1/4200)
قوله: {وَإِنْ أَدْرِيا} العامَّةُ على إرسالِ الياء ساكنةً، إذ لا مُوْجِبَ لغيرِ ذلك. ورُوي عن أبن عباس أنه قرأ: "وإنْ أَدْريَ أقريبٌ"، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} بفتح الياءَيْن. وخُرِّجَتْ على التشبيهِ بياءِ الإِضافة. على أن ابنَ مجاهدٍ أنكر هذه القراءةَ البتة. وقال ابن جني: "هو غَلَطٌ، لأنَّ "إنْ" نافيةٌ لا عملَ لها". ونَقَل أبو البقاء عن غيرِه أنه قال في تخريجها: "إنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الياءِ فتحرَّكَتْ وبقيتْ الهمزةُ ساكنةً، فأُبْدِلَتْ ألفاً لا نفتاحِ ما قبلها، ثم أُبْدِلَتْ همزةً متحركةً؛ لأنها في حُكْمِ المبتدأ بها، والابتداءُ بالساكنِ مُحالٌ. وهذا تخريجٌ متكلِّفٌ لا حاجةَ إليه. ونِسْبَةُ روايها عن ابن عباس إلى الغلطِ أَوْلَى من هذا التكلُّفِ، فإنها قراءةٌ شاذةٌ مُنْكَرَة. وهذا التخريجُ وإنْ نَفَعَ في الأولى فلا يُجْدي في الثانيةِ شيئاً. وسيأتي لك قريبٌ من ادِّعاء قَلْبِ الهمزةِ ألفاً ثم قَلْبِ الألفِ همزةً في قوله: {مِنسَأَتَهُ} إنْ شاء اللهُ تعالى، وبذلك يَسْهُلُ الخَطْبُ في التخريج المذكور.
والجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ بـ"أدْري" لأنها معلَّقَةٌ لها عن العملِ، وأَخَّر المُسْتَفْهَمَ عنه لكونِه فاصلةً. ولو وَسَّطه لكان التركيبُ: أقريب ما تُوعدون أم بعيدٌ، ولكنه اُخِّر مراعاةً لرؤوسِ الآي.
و{مَّا تُوعَدُونَ} يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ، وما قبله خبرٌ عنه ومعطوفٌ عليه. وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يرتفعَ فاعلاً بـ"قريبٌ". قال: "لأنه اعتمد على الهمزة". قال: "ويُخَرَّج على قولِ البصريينَ أن يرتفعَ بـ"بعيد" لأنه أقربُ إليه". قلت: يعني أنه يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من التنازع فإنَّ كلاً من الوصفَيْنِ يَصِحُّ تَسَلُّطُه على "ما تُوْعَدون" من حيث المعنى.
* { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }
(10/345)
---(1/4201)
قوله: {مِنَ الْقَوْلِ}: حالٌ مِنْ "الجهر".
* { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }
قوله: {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ}: الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ معلِّقةٌ لـ"أَدْري"، والكوفيون يُجْرون الترجِّي مُجْرَى الاستفهام في ذلك، إلاَّ أنَّ النَّحْويين لم يَعُدُّوا من المعلِّقات "لعلَّ" وهي ظاهرةٌ في ذلك كهذه الآيةِ وكقولِه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ
}.
* { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
قوله: {قَالَ}: قرأ حفص "قال" خبراً عن الرسولِ عليه السلام. الباقون "قل" على الأمر. وقرأ العامَّةُ "رَبِّ" بكسرِ الباءِ اجتراءً بالكسرةِ عن ياءِ الإِضافةِ، وهي الفصحى. وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ، فقال صاحبُ "اللوامح": "إنه منادى مفردٌ ثم قال: "وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً لـ"أَيّ" بعيدٌ، بابُه الشعرُ". قلت: ليس هذا من المنادى المفردِ، بل نَصَّ بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ ندائه.
وقرأ العامَّةُ "أحْكُمْ" على صورةِ الأمر. وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر "رَبِّيْ" بسكونِ الياء "أَحْكَمُ" أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر.
وقُرِىء "أَحْكَمَ" بفتح الميم كألزَمَ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ أيضاً لـ"ربِّي", وقرأ العامَّةُ "تَصِفُوْن" بالخطاب. وقرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه "يَصِفُون" بالياء مِنْ تحت، وهي مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر. والغيبة والخطاب واضحان.
(10/346)(1/4202)
سورة الحج
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }
قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} يجوزُ في هذا المصدرِ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله وذلك على تقديريرن. أحدُ التقديرَيْن: أَنْ يكونَ مِنْ زلزل اللازمِ بمعنى تزَلْزَلَ فالتقدير: إنَّ تَزَلْزُلَ الساعةِ. والتقديرُ الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ زَلْزَل المتعدِّي، ويكون المفعولُ محذوفاً تقديرُه: إنَّ زِلْزالَ الساعةِ الناسَ. وكذا قَدَّره أبو البقاء. وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقَدَّرَ: إنَّ زِلْزالَ الساعةِ للأرض. يَدُلُّ عليه قولُه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} ونسبة التَّزَلْزُلِ أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني: أن يكونَ المصدرُ مضافاً الى المفعولِ به، على طريقةِ الاِّتساع في الظرف كقوله:
3368ـ طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك بقولِه: "ولا تَخْلو الساعةُ من أَنْ تكونَ على تقديرِ الفاعلةِ لها، كأنها هي التي تُزَلْزِلُ الأشياءَ، على المجازِ الحُكْمي، فتكونُ الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعِله، أو على تقديرِ/ المفعولِ فيها على طريقةِ الاتِّساعِ في الظرفِ، وإجرائه مُجْرَى المفعولِ به، كقولِه تعالى: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ
}.
* { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
(10/347)
---(1/4203)
قوله: {يَوْمَ}: فيه أوجهُ، أحدُها: أَنْ يَنْتَصِبَ بـ"تَذْهَلُ" ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره. الثاني: أنه منصوبٌ بـ"عظيم". الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار اذكر. الرابع: أنه بدلٌ من الساعة. وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ. وهذا إنما يَتَمَشَّى على قولِ الأخفش، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة. الخامس: أنه بدلٌ من "زلزلة" بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ بـ"زلزلة" لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
قوله: {تَرَوْنَهَا} في هذا الضميرِ قولان، أظهرهما: أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}. الثاني: أنه ضميرُ الساعةِ. فعهلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل، وأنها الحيثيةِ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ، وهو كقولِه: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً
}. قوله: {تَذْهَلُ} في محلِّ نصب على الحال من "ها" في "تَرَوْنَها" فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ، وهذا إنما يَجيِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ. وأمَّا الوجهُ الأولُ وهو أنَّ "تَذْهَلُ" ناصِبٌ لـ"يومَ تَرَوْنَها" فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في "عظيم"، وإنْ كان مذكراً، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في المعنى، أو من الساعمة، وإن كانت مضافاً إليها، لأنها: إمَّا فاعلٌ أو مفعولٌ كما تقدَّم. وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ تقديرُه: تَذْهَلُ فيها.
(10/348)
---(1/4204)
وقرأ العامةم "تَذْهَلُ" بفتح التاءِ والهاءِ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ "كل" على المفعولية، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ، والذُّهولُ: الاشتغالُ عن الشيءِ. وقيل: إذا كان مع دَهْشَة. وقيل: إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما. وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا.
والمُرْضِعَةُ: مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل، والمُرْضِعُ: مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض، فإذا أريد التلبُّسُ قيل: حائِضة. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت: المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به" والمعنى: إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين: المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ، وهذا مردودٌ بقولِ الشاعر:
3369ـ كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ * بني بطنِها هذا الظلالُ عن القصدِ
فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ. وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين: إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءٌ التأنيثِ نحو: حائِض وطالق. فالذي يُقال: إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال: حائضة وطالقة وطامِثة.
قوله: {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} يجوزُ في "ما" أَنْ تكمونَ مصدريةً أي: عن إرْضاعِها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي: أَرْضَعَتْه. ويُقَوِّيه تعدِّي "تَضَعُ" إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ. والحَمْلُ بالفتحِ: ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ.
(10/349)
---(1/4205)
قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} العامَّةُ على فتحِ التاءِ من "ترى" على خطابِ الواحد. وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ أو الساعةِ. وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ المعنى به أي: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سُكارى. ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك "تُرَى الناس سكارى". بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمِّ فاعله، ونصب "الناسَ"، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ: فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ، وهو ضميرُ الخطابِ، و"الناسَ سُكارى" هما الأولُ والثاني. ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [الناسَ] قوماً سُكارى. فالناسَ هو الأول و"سُكارى" هو الثاني.
وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره "وتُرى" كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً "الناسُ" على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه. والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة.
وقرأ الأخَوان "سَكْرَى" "وما هم بسَكْرى" على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك. واخْتُللإ في ذلك: هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى، أو صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟. خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه ي قوله: "أسرى". وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال: "وقومٌ يقولون: سَكْرى، جَعَلوه مثلَ مَرْضَى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان، ثم جَعَلوا "رَوْبى" مثلَ سَكْرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب. وقال الفارسي: "ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ "سَكِر" كزَمِن وزَمْنَى. وقد حُكي "رجلٌ سَكِر" بمعنى سَكْران فيجيءُ سَكْرَى حينئذٍ لتأنيث الجمع". قلت: ومِنْ وورودِ "سَكِر" بمعنى سَكْران قولُه:
3370ـ وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني * ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ
(10/350)
---(1/4206)
وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً * فصِرْتُ أَمْشِي على أُخْرى من الشَّجر
ويُروى البيتُ الأول "الشارِبِ الثَّمِلِ"، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه.
وقرأ الباقون "سُكارَى" بضمِّ السين. وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ: هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع؟
وقرأ أبو هيريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما، وهو جمع تكسير، واحدُه سَكْران. قال أبو حاتم: "وهي لغةُ تميم".
وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش "سُكْرى" "بِسُكْرى" بضمِّ السين فيهما. فقال أبن جني: "هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى. بهذا أفتاني أبو علي". وقال أبو الفضل: "فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة، أُخْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحِّدِ". وقال الزمخشري: "هو غريبٌ". قتل: ولا غرابةَ؛ فإنَّ فُعْلَى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الرُّبَّى والحُبْلَى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سُكارى. وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه. وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن. وقُرِىء "ويُرَى الناسُ" بالياء من تحت ورفع "الناسُ".
وقرأ أبو زرعة في روايةٍ "سَكْرى" بالفتح، "بسُكْرى" بالضم. وعن ابن جبير كذلك، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني.
وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي: وترى الناس سَكْرىعلى التشبيه، وما هم بسَكْرى على التحقيق. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِمَ قيل أولاً: تَرَوْن، ثم قيل: "تَرَى" على الإِفراد؟ قتل: لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم".
(10/351)
---(1/4207)
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ }
و"مَنْ" في {مَن يُجَادِلُ} يجوزُ أَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً. و{فِي اللَّهِ} أي في صفاتِه. و{بِغَيْرِ عِلْمٍ} مفعولٌ أو حالٌ مِنْ فاعلِ "يُجادل". وقرأ زيد بن علي "وَتْبَعُ".
* { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ}: قرأ العامَّةُ "كُتِبَ" مبنياً للمفعولِ وفتحَ "أنَّ" في الموضعين. وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أنَّ الضميرَ وما في حَيِّزه في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعل. فالهاءُ في "عليه" وفي "أنه" يعودان على "مَنْ" المتقدمةِ. و"مَنْ" الثانية يجوز أن تكونَ شرطيةً والفاءُ جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ لشَبَهِ المبتدأ بالشرط. وفُتِحَتْ "أنَّ" الثانيةُ لأنها وما في حَيِّزهنا في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، تقديره: فشأنهُ وحالُه أنه يُضِلُّه. أو يُقَدَّر "فَأَنَّه: مبتدأ، والخبر محذوفٌ أي: فله أنَّه يَضِلُّه.
الثاني: قال الزمخشري: "ومَنْ فَتَحَ فلأنَّ الأولَ فاعلُ "كتِب"، والثاني عَطْفٌ عليه". قال الشيخ: "وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَ "فأنَّه" عطفاً على "أنَّه" بقيت "أنَّه" بلا استيفاءِ خبرٍ، لأنَّ "مَنْ تَوَلاَّه" "مَنْ" فيه مبتدأةٌ. فإنْ قَدَّرْتَها موصولةً فلا خبرَ لها حتى تَسْتقلَّ خبراً لـ"أنه". وإنْ جَعَلْتَها شرطيةً فلا جوابَ لها؛ إذ جُعِلَتْ "فأنَّه" عَطْفاً على "أنه".
قلت: وقد ذَهبَ ابنُ عطية ـ رحمه الله ـ إلى مثلِ قولِ الزمخشري فإنه قال: "وأنَّه" في موضعِ رفعٍ على المفعولِ الذي: لم يُسَمَّ فاعلُه و"أنَّه" الثانيةُ عطفٌ على الأولى مؤكدةً مثلَها". وهذا رَدٌّ واضحٌ.
(10/352)
---(1/4208)
وقُرِىء "كَتَبَ" مبنياً للفاعلِ أي: كَتَبَ اللهُ. فـ"أنَّ" وةما في حَيِّزها في محل نصب على المفعول به، وباقي الآية على ما تقدم.
وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو "إنه" فإنه" بكسرِ الهمزتين. وقال ابن عطية: "وقرأ أبو عمروٍ "إنَّه" "فإنه" بالكسر فيهما"، وهذا يُوْهم أنَّه مشهورٌ عنه وليس كذلك. وفي تخريجِ هذه القراءةِ/ ثلاثةُ أوجهٍ ذكرها الزمخشري وهي: أَنْ تكونَ على حكايةِ المكتوبِ كما هو، كأنه قيل: كُتِب يكونَ على إضمار "قيل". الثالث: أنَّ "كُتِبَ" فيه معنى قيل. قال الشيخ: أمَّا تقديرُ "قيل" يعني فيكون "عليه" في موضعِ مفعولِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه و"أنه مَنْ تولاَّه" الجملةُ مفعولٌ لم يُسَمَّ لـ قيل المضمرة. وهذا ليس مذهبَ البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً ولا تكون مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه" وكأنَّ الشيخَ قد اختارَ ما بدأ به الزمخشريُّ أولاً، وفيه ما فَرَّ منه: وهو أنه أسندَ الفعلَ إلى الجملةِ فاللازمُ مُشْتَرَكٌ. وقد تقدَّم تقريرُ مثلِ هذا في أولِ البقرة. ثم قال: "وأمَّا الثاني يعني أنه ضُمِّنَ "كُتِب" معنى القول فليس مذهبَ البصريين لأنَّه لا تُكْسَرُ "إنَّ" عندهم" إلاَّ بعد القول الصريح لا ما هو بمعناه".
والضميران في "عليه" و"أنه" عائدان على "مَنْ" الأولى كما تقدَّم، وكذلك الضمائرُ في "تَوَلاَّه" و"فأنه"، والمرفوعُ في "يُضِلُّه" و"يَهْديه"؛ لأنَّ "مَنْ الأول هو المحدَّثُ عنه. والضميرُ المرفوعُ في "تَوَلاَّه" والمنصوبُ ف ي"يُضِِلُُّه" و"يَهْدِيه" عائدٌ على "مَنْ" الثانيةِ. وقيل: الضميرُ في "عليه" لكلِّ شيطانٍ. والضميرُ في "فأنَّه" للشأن. وقال ابن عطية: "الذي يَظْهَرُ لي أنَّ الضميرَ الأولَ في "أنَّه" يعودُ على كل شيطان، وفي "فأنَّه" يعودُ على "مَنْ" الذي هو المُتَوَلِّي".
(10/353)
---(1/4209)
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوااْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }
قوله: {مِّنَ الْبَعْثِ}: يجوزُ أن يتعلَّق بـ"ريب"، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ ريب. وقرأ الحسن "البَعَث" بفتح اليعنِ. وهي لغة كالطَّرَدِ والجَلَب في الطَّرْد والجَلْب بالسكون. قال الشيخ: "والكوفيون إسكانُ العينِ عندهم تخفيفٌ [يقيسونه] فيما وسطَه حرفُ حلقٍ كالنَّهْرِ والنَّهَر والشّعْرِ والشَّعَر، والبَصْريون لا يقيسونه، وما وَرَدَ من ذلك هو عندهم ممَّا جاء فيه لغتان" قلت: فهذا يُوْهِمُ ظاهرُه أنَّ الأصلَ البَعَث بالفتح، وإنما خُفِّف، وليس الأمرُ كذلك، وإنما مَحَلُّ النزاع إذا سُمِع الحلقيُّ مفتوحَ العين: هل يجوزُ تسكينُه أم لا؟ لا أنه كلُّ ما جاء ساكنَ العينِ من الحَلْقِيِّها يُدَّعى أن أصلَها الفتحُ كما هو ظاهرُ عبارتِه.
قوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} العامَّةُ على الجرِّ في "مُخَلَّقةٍ"، وفي "غير"، على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبِهما على الحالِ من النكرةِ، وهو قليلٌ جداً وإن كان سيبويه قاسه.
(10/354)
---(1/4210)
والعَلَقَةُ: القطعةُ من الدم الجامدة. وعن بعضهم ـ وقد سُئِل عن أصعبِ الأشياءِ ـ فقال: "وَقْعَ الزَّلَقِ على العَلَق" أي: على دمِ القتلى في المعركة. والمُضْغَةُ: القطعةُ من اللحمِ قَدْرَ ما تُمضَغُ نحو: الغُرفة والأُكْلة بمعنى: المغروفة والمأكولة. والمُخَلَّقَةُ: المَلْساء التي لا عَيْبَ فيها مِنْ قولهم: صخرةٌ خَلْقاءُ أي: مَلْساء. خَلَقْتُ السِّواك: سَوَّيْتُه ومَلَسْتُه. وقيل: التضعيفُ في "مُخَلَّقَة" دلالةٌ على تكثيرِ الخَلْق لأنَّ الإِنسانَ ذو أعضاءِ متباينةٍ وخُلْقٍ متفاوتةٍ. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية. وهو معنى حسنٌ.
قوله: {وَنُقِرُّ} العامَّةُ على رفع "ونُقِرُّ" لأنه مستأنفٌ، وليس علةً لما قبلَه فينتصبَ نَسَقاً على ما تقدَّمه. وقرأ يعقوب وعاصم في روايةٍ بنصبه. قال أبو البقاء: "على "أَنْ يكونَ معطوفاً في اللفظ، والمعنى مختلف؛ لأنَّ اللامَ في "لُنبِيِّنَ" للتعليل، واللامَ المقدرةَ من "نُقِرُّ" للصيرورة" وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه "معطوفاً في اللفظ" يَدْفعه قولُه: واللامُ المقدرة" فإنَّ تقديرَ اللام يقتضي النصبَ بإضمارِ "أَنْ" بعدها لا بالعطفِ على ما قبله. وعن عاصم أيضاً "ثم نُخْرِجَكم" بنصب الجيم. وقرأ ابن أبي عبلة "ليبيِّنَ ويَقِرُّ" بالياء من تحتُ فيهما، والفاعلُ هو اللهُ تعالى كما في قراءة النون.
وقرأ يعقوب في رواية "ونَقُرُّ" بفتح النون وضم القاف ورفع الراء، مِنْ قَرَّ الماءَ يَقُرُّه أي: صَبَّه. وقرأ أبو زيد النحوي "ويَقِرَّ" بفتح الياءِ من تحتُ وكسرِ القاف ونصبِ الراء أي: وَيقِرَّ الله. وهو مِنْ قرَّ الماء إذا صبَّه. وفي "الكامل" لابن جبارة "لِنُبَيِّن ونُقِرَّ ثم نُخْرِجَكم" بالنصبِ فيهنَّ ـ يعني وبالنون في الجميع ـ المفضل. بالياء فيهما مع النصب: أبو حاتم، وبالياء والرفع عمر بن شبة" انتهى.
(10/355)
---(1/4211)
وقال الزمخشري:/ "والقراءةُ بالرفع إخبارٌ بأنه تعالى يُقِرُّ في الأرحامِ ما يشاءُ أَنْ يُقِرَّه". ثم قال: "والقراءةُ بالنصب تعليلٌ، معطوفٌ على تعليلٍ. معناه: خلقناكم مُدَرَّجين، هذا التدريجُ لغرضين، أحدهما: أن نبيِّنَ قدرتنا. والثاني: أَنْ نُقِرَّ في الأرحام مَنْ نُقِرُّ، ثم يُوْلَدوا ويَنْشَؤوا ويَبْلُغوا حَدَّ التكليفِ فأُكَلِّفَهم. ويَعْضُد هذه القراءةَ قولُه {ثُمَّ لِتَبْلُغُوااْ أَشُدَّكُمْ}.
قلت: تسميةُ مثلِ هذه الأفعالِ المسندة إلى الله تعالى غَرَضاً لا يجوز.
وقرأ ابن وثاب "نِشاء" بكسر النون، وهو كسرُ حرفِ المضارعة، وقد تقدَّم ذلك في أولِ هذه الموضوعِ.
قوله: {طِفْلاً} حالٌ مِنْ مفعول "نُخْرِجكم"، وإنما وُحِّد لأنَّه في الأصل مصدرٌ كالرِّضا والعَدْل، فيَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكيرُ، قاله المبرد: إمَّا لأنه مرادٌ به الجنسُ، وإمَّا لأن المعنى: يُخْرِجُ كلَّ واحدٍ منكم نحو: القوم يُشْبعهم رغيفٌ أي: كلُّ واحدٍ منهم. وقد يطابِقُ به ما يُراد به، فيقال: طفلان وأطفال. وفي الحديث: "سئل عن أطفال المشركين" والطِّفْلُ يُطْلَقُ على الولدِ مِنْ حين الانفصالِ إلى البلوغ. وأمَّا الطَفْل بالفتح فهو الناعم، والمرأة طَفْلة قال:
3371ـ ولقد لَهَوْتُ بِطَفْلةٍ مَيَّالَةٍ * بَلْهاءَ تُطْلِعُني على أَسْرارِها
أمَّا الطَّفَل بفتح الطاءِ والفاءِ فوقتُ ما بعد العصر، مِنْ قولِهم: طَفَلَت الشمسُ إذا مالَتْ للغُروب. وأطفلتِ المرأةُ أي: صارت ذاتَ طِفْلٍ.
وقرأت فِرْقَةٌ "يَتَوَفَّى" بفتح الياء. وفيه تخريجان، أحدهما: أنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى أي: يَتَوَفَّاهُ اللهُ تعالى، كذا قدَّره الزمخشري. والثاني: أن الفاعلَ ضميرُ "مَنْ" أي: يَتَوَفَّى أجلَه. وهذا القراءةُ كالتي في البقرة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي: مدتهم.
(10/356)
---(1/4212)
ورُوي عن أب عمروٍ ونافع أنهما قرآ "العُمْر" بسكون العينِ وهو تخفيفٌ قياسيُّ نحوة "عُنْق" في "عُنُق". قوله: {لِكَيْلاَ} متعلقٌ بـ"يُرَدُّ". وتقدَّم نظيره في النحل.
و"هامدةً" نصب على الحال لأن الرؤيةَ بصريةٌ. والهُمُود: السكونُ الخُشُوع. وهَمَدَت الأرضُ: يَبِست ودَرَسَتْ. وهَمَدَ الثوبُ: بَلِي. قال الأعشى:
3372ـ قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لجِسْمِكَ شاحباً * وأرى ثيابَكَ بالِياتٍ هُمَّدا
والاهتزازُ: التحرُّكُ، وتُجُوِّز به هنا عن إنباتِ الأرض نباتَها بالماء. والجمهورُ على "رَبَتْ" أي: زادَت، مِنْ رَبا يَرْبُو. وقرأ أبو جعفر وعبدالله ابن جعفر وأبو عمروٍ في رواية "وَرَبَأَت" بالهمزِ أي ارتفَعَتْ. يقال: رَبَأَ بنفسه عن كذا أي: ارتفعَ عنه. ومنه الرَّبِيئَةُ وهو مَنْ يَطْلُعُ على موضعٍ عالٍ لينظر للقوم ما يأتيهم. ويقال له "رَبِيْءٌ" أيضاً قال الشاعر:
3373ـ بَعَثْنا رَبِيْئاً قبلَ ذلك مُخْمِلاً * كذئب الغَضَى يمشي الضَّراء ويَتَّقي
قوله: {مِن كُلِّ زَوْجٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه صفةٌ للمفعولِ المحذوفِ تقديره: وأنبتَتْ ألواناً أو أزواجاً من كلِّ زَوْج. والثاني: أنَّ "مِنْ" زائدة أي: أنبتَتْ كلَّ زوج. وهذا ماشٍ عند الكوفيين والأخفش.
والبهيجُ: الحَسَن الذي يُسِرُّ ناظرَه. وقد بَهُجَ ـ بالضم ـ بَهاجَةً وبَهْجَة أي: حَسُن. وأبهجني كذا أي: سرَّني بحُسْنه.
* { ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(10/357)
---(1/4213)
قوله: {ذالِكَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مبتدأ، والخبرُ الجارُّ بعدَه. والمُشارُ إليه ما تقدَّم مِنْ خَلْقِ بني آدمَ وتطويرهم. والتقدير: ذلك الذي ذكَرْنا من خلقِ بني آدم وتطويرهم حاصلٌ بأنَّ اللهَ هو الحق وأنه، إلى آخره. والثاني: أنَّ "ذلك" خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك. الثالث: أنَّ "ذلك" منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: فَعَلْنا ذلك بسببِ أنَّ الله هو الحق. فالباء على الأولِ مرفوعةُ المحلِّ، وعلى الثاني والثالث منصوبَتُه.
* { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ }
قوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على المجرورِ بالباء أي: ذلك بأنَّ الساعةَ. والثاني: أنه لَيٍ معطوفاً عليه ولا داخلاً في حَيِّزِ السببية. وإنما هو خبرٌ. والمبتدأ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: والأمرُ أنَّ الساعةَ. و"لا ريبَ فيها" يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً ثانياً وأن تكونَ حالاً.
* { ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }
قوله: {ومِنَ النَّاسِ}: جعل ابنُ عطية هذه الواوَ للحال فقال: "وكأنه يقولُ: هذه الأمثالُ في غاية الوضوحِ، ومن الناس مع ذلك مَنْ يجادِلُ، فكأن الواوَ واوُ الحال، و الآية المتقدمةُ الواوُ فيها واوُ عطف". قال الشيخ: "ولا يُتَخَيَّلُ أنَّ الواوَ في {ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ} واوُ حال، وعلى تقديرِ الجملة التي قَدَّرها قبله لو كان مُصَرَّحاً بها فلا تتقدر بـ"إذ"، فلا تكونُ للحالِ وإنما هي للعطف". قلت: ومَنْعُه مِنْ تقديرها بـ"إذ" فيه نظرٌ، إذ لو قُدِّر لم يلزَمْ/ منه محذورٌ.
قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يجوز أن يتعلَق بـ"يُجادِلُ"، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فالع "يجادل" أي: يجادِلُ ملتبساً بغير عِلْمٍ أي: جاهلاً.
(10/358)
---(1/4214)
* { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ}: حالٌ مِنْ فاعلِ "يُجادل" أي: معترضاً. وهي إضافةٌ لفيظةٌ نحو {مُّمْطِرُنَا}. العامَّةُ على كسرِ العين وهو الجانُب، كَنَى به عن التكبُّر. والحسن بفتح العين، وهو مصدرٌ بمعنى التعطُّف، وصفة بالقسوةِ.
قوله: {لِيُضِلَّ} متعلقٌ : إمَّا بـ"يُجادِلُ"، وإمَّا بـ"ثانيَ عِطْفِهِ". وقرأ العامَّة بضم الياء مِنْ "يُضِلُّ" والمفعولُ محذوفٌ أي: ليُضِلَّ غيرَه. وقرأ مجاهد وأبو عمروٍ في روايةٍ فتحها أي: ليَضِلَّ هو في نفسه.
قوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} هذه الملةُ يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً أي: مُسْتحقاً ذلك، وأن تكونَ حالاً مقدرةً، وأن تكونَ مستأنفةً. وقرأ زيد بن علي "وأُذِيْقُه" بهمزة المتكلم. "وعذابَ الحريق" يجوز أَنْ يكون من باب إضافة الموصوف لصفتِه، إذ الأصلُ: العذاب الحريق أي: المُحْرِق كالسَّميع بمعنى المُسْمِع.
* { ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ }
قوله: {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ}: كقوله: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ}. وكذا قولُه:{وَأَنَّ اللَّهَ} يجوز عطفُه على السبب. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: والأمرُ أنَّ الله، فيكون منطقعاً عما قبله.
وقوله: {بِظَلاَّمٍ} مثالُ مبالغةٍ. وأنت إذا قلت: "ليس زيدٌ بظلاَّمٍ" لا يلزمُ منه نفيُ أصلِ الظلمِ؛ فإنَّ نَفْيَ الأخصِّ لا يَسْتلزم نَفْيَ الأعمَّ. والجواب: أن المبالغةَ إنما جِيْءَ بها لتكثيرِ مَحَالِّها فإن العبيدَ جمعٌ. وأحسنُ منه أنَّ فعَّالاً هنا للنسَبِ أي: [ليس] بذي ظلم لا للمبالغة.
(10/359)
---(1/4215)
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآُخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
قوله: {عَلَى حَرْفٍ}: حالٌ من فاعل "يَعْبُدُ" أي: مُتَزَلْزلاً. ومعنى "على حرف" أي: على شك أو على انحرافٍ، أو على طرفِ الدين لا في وسطه، كالذي يكونُ في طرف العَسْكَر: إنْ رأى خيراً ثبت وإلاَّ فرَّ.
قوله: {خَسِرَ} قرأ العامَّةُ "خَسِرَ" فعلاً ماضياً. وهو يحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ: الاستئنافَ، والحاليةَ مِنْ فاعلِ، "انقلبَ"، ولا حاجةَ إلى إضمارِ "قد" على الصحيحِ، والبدليةُ مِنْ قولِه "انقلَبَ"، كما أبدل المضارعَ مِنْ مثِله في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ
}. وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ وابنُ محيصن والجحدري في آخرين "خاسِرَ" بصيغة سم فاعلٍ منصوبٍ على الحال، وهي تؤيدُ كونَ الماضي في قراءةِ العامَّةِ حالاً. وقُرِىء برفعهِ. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ فاعِلاً بـ"انقلبَ" ويكونُ مْنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ أي: انقلب خاسرُ الدنيا. والأصلُ: انقلبَ هو. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو خاسرُ . وهذه القراءةُ تُؤَيِّدُ الاستئنافَ في قراءةِ المُضِيِّ على التخريج الثاني. وحَقُّ مَنْ قَرَأ "خاسر" رفعاً ونصباً أَنْ يَجُوزُّ "الآخرةِ" لعطفِها على "الدنيا" المجرورِ بالإِضافةِ. ويجوز أن يبقى النصبُ فيها؛ إذ يجوزُ أَنْ تكونَ "الدنيا" منصوبةً. وإنما حُذِفَ التنوينُ من "خاسر" لا لتقاءِ الساكنين نحو قولِه:
3374ـ ................... * ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
* { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ }
(10/360)
---(1/4216)
قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ}: فيه عشرةُ أوجه، وذلك أنَّه: إمَّا بجَعْلِ "يَدْعُو" متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أو لا. فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً علها كان في سبعةُ أوجه، أحدها: أنَّ "يَدْعُو" بمعنى يَقُوْل، واللامُ للابتداء، و"مَنْ" موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالإبتدء. و"ضَرُّه" مبتدأ ثانٍ و"أقربُ" خبرُه. وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه: يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهُ أو إلهي أو نحوُ ذلك. والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ بـ"يَدْعُو" لأنَّه بمعنى يَقُول، فهي محكيَّةٌ به. وهذا قولُ أبي الحسنِ. وعلى هذا فيكون قولُه: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك. وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ المعنى، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها البتةَ.
الثاني: أنَّ "يَدْعُو" مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ، وأفعال القلوب تُعَلَّق، فـ"يَدْعُو" مُعَلَّقٌ أيضاً باللام. و"مَنْ" مبتدأٌ موصولٌ. والجملةُ بعده صلةٌ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه.
والجملة في محلِّ نصبٍ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب. الثالث: أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله. والرابع: أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ لـ"يَدْعوا"، وهو مذهبُ يونسَ. فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم.
(10/361)
---(1/4217)
الخامس: أنَّ "يَدْعُوا" بمعنى يُسَمَّي، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه: يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلَهاً ومعبوداً ونحو ذلك. السادس: أنَّ اللامَ مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها. والأصلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ. فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ. وهذا قولُ الفراء. وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ. السابع: أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو "مَنْ". والتقديرُ: يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب. فـ"مَنْ" موصولٌ، والجملةُ بعدَها صلتُها، والموصولُ هو المفعولُ بـ"يَدْعُو" زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه {رَدِفَ لَكُم} في أحدِ القولين. وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو بتقديم المعمول. وقرأ عبدالله "يَدْعُو مَنْ ضَرُّه" بعيرِ لامِ ابتداءٍ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ.
وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ "يَدْعُو" الثاني توكيدٌ لـ"يَدْعو" الأولِ فلا معمولَ له، كأنه قيل: يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه {ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ} معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام، ويكون قولُه {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلاماً مستأنفاً. فتكونُ اللامُ للابتداء و"مَنْ" موصولةٌ، و"ضَرُّه" مبتدأ و"أقربُ" خبرُه. والجملةُ صلةٌ، و"لَبِئْسَ" جوابٌ قسمٍ مقدر. وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول.
(10/362)
---(1/4218)
الثاني: أن يُجْعَلَ "ذلك" موصولاً بمعنى الذي. و"هو" مبتدأ، و"الضلالُ" خبره والجملةُ صلةٌ. وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً بـ"يَدْعو" أي: يدعو الذي هو الضلالُ. وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإشارةِ موصولٌ إلاَّ "ذا" بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً، وعلى هذا فيكونُ "لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ" مستأنفاً، على ما تقدَّم تقريرُه.
والثالث: أن يُجْعَلَ "ذلك" مبتدأ. و"هو": جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو فَضْلاً أو مبتدأً، و"الضلالُ" خبرُ "ذلك" أو خبرُ "هو" على حَسَبِ الخلافِ في "هو" و"يَدْعُو" حالٌ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه: يَدْعوه، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال بـ"مَدْعُوَّاً" قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ"، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه. وكأنَّ وجهَه أنَّ "يَدْعُو" مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه: داعياً ولو كان التركيبُ "يُدْعَى" مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً. وألا ترى أنَّك إذا قلتَ: "جاء زيدٌ يضربُ" كيف تُقَدِّره بـ"ضارب" لا بـ مَضْروب.
والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، وتقديرُه: لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ.
* { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
قوله: {مَن كَانَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً. وقوله: {فَلْيَمْدُدْ} إمَّا جزاءٌ للشرط أو خبرٌ للموصولِ، والفاءُ للتشبيه بالشرطِ.
(10/363)
---(1/4219)
والجمهورُ على كسرش اللام مِنْ "لِيَقْطَعْ" وسَكَّنهخا بعضُهم، وكما سَكَّنها بعد الفاءِ والواوِ لكونِهنَّ عواطفَ. وكذلك أَجْرَوْا "ثم" مُجْراهما في تَسكينِ هاء "هو" و"هي" بعدها، وهي قراءةُ الكسائي ونافعٍ في رواية قالون عنه.
قوله: {هَلْ يُذْهِبَنَّ} الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّ النظرَ يُعَلَّقُ بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر تَعَدَّى بـ"في. وقوله: {مَا يَغِيظُ} "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ هو الضميرُ المسستر. و"ما" وصلتُها مفعولٌ بعقوله "يُذْهِبَنَّ" أي: هل يُذْهِبَنَّ كيدُه الشيءَ الذي يَغِيْظُه. فالمرفوعُ في يَغيظه عائدٌ على الذي، والمنصوبُ على مَنْ كان يظن.
وقال الشيخ: "ومنا في "ما يَغيظ" بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أو مصدريةٌ". قلت: كلا هذين القولينِ لا يَصِحُّ. أمَّا قولُه: "والعائدُ محذوفٌ" فليس كذلك، بل هو مضمرٌ مستترٌ في حكم الموجودِ ـ كما تقدَّم تقريرُه قبلَ ذلك ـ ونما يُقال محذوفٌ فيما كان منصوبَ المحلِّ أو مجرورَه. وأمَّا قولُه: "أو مصدريةٌ" فليس كذلك أيضاً؛ إذ لو كانت مصدريةً لكانت حَرْفاً على الصحيح، وإذا كانَتْ حرفاً لم يَعُدْ عليها ضميرٌ، وإذا لم يَعُدْ عليها ضميرٌ بقي الفعل بلا فاعلٍ. فإن قلتَ: أُضْمِرُ في "يَغيظ" ضميراً فاعلاً يعود على مَنْ كان يظنُّ. فالجواب: أنَّ مَنْ كان يظنُّ، في المعنى مَغِيظٌ لا غائظٌ، وهذا بحثٌ حسنٌ فتأمَّلْه/.
والضمير في "يَنْصُرَه" الظاهرُ عَوْدُه على "مَنْ" وفُسِّر النصرُ بالرزقِ. وقيل: يعودُ على الدينِ والإِسلامِ فالنصرُ على بابه.
* { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ }
(10/364)
---(1/4220)
قوله: {وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ}: الكافُ: إمَّا حالٌ من ضميرِ المصدرِ المقدرِ، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلاف أي: ومثلَ ذلك الإِنزالِ أنْزَلْنا القرآنَ كلَّه آياتٍ بيناتٍ. فـ"آياتٍ" حالٌ.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي} يجوز في "أنَّ" ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّها منصوبةٌ المحلِّ عَطْفاً على مفعولِ "أَنْزَلْناه" أي: وأنزَلْنا أنَّ الله يَهْدِي مَنْ يريد. أي: أَنْزَلْنا هدايةَ اللهِ لمن يريدُ هدايتَه. الثاني: أنها على حَذْف حرفِ الجر، وذلك الحرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ. والتقديرُ: ولأنَّ اللهَ يهدِي مَنْ يريدُ أَنْزَلناه، فيجيءُ في موضعها القولان المشهوران: أفي محلِّ نَصْبٍ هي أم جر. وإلى هذا ذهبل الزمخشريُّ وقال في تقدِيره: "ولأنَّ الله يهديْ به الذي يعلمُ أنهم يؤمنونَ أنزله كذلك مبيِّناً". الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله يهدِي مَنْ يريد.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوااْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}: الآية فيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنَّ "إنَّ" الثانيةَ واسمَها وخبرَها في محلِّ رفع خبراً لـ"إنَّ" الأولى. قال الزمخشري: "وأُدْخِلَتْ "إنَّ" على كلِّ واحدٍ من جُزْأَي الجملةِ لزيادةِ التأكيدِ. ونحوُه قولُ جريرٍ:
3375ـ إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ سَرْبلَه * سِرْبالَ مُلْكٍ به تُرْجَى الخواتيمُ
(10/365)
---(1/4221)
قال الشيخ: "وظاهرُ هذا أنه شَبَّه البيتَ بالآيةِ، وكذلك قرنه الزَّجَّاج خبرُه "به تُرْجَى الخواتيمُ"، ويكونَ "إنَّ اللهَ سَرْبَله" جملةَ اعتراضٍ بين اسمِ "إنَّ" وخبرِها، بخلافِ الآيةِ، فإنه يتعيَّنُ قولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ}. وحَسَّنَ دخولَ "إنَّ" على الجملةِ الواقعةِ خبراً طولُ الفَصْلِ بينهما بالمعاطيف".
قلت: قوله: "فإنَّه يتعيَّنُ قولُه إن الله يَفْصِل" يعني أن يكونَ خبراً. ليس كذلك لأنَّ الآيةَ محتمِلةٌ لوجهين آخرين ذكرهما الناسُ. الأول: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديرُه: يفترقون يومَ القيامة ونحُوه، والمذكورُ تفسيرٌ له. كذا ذكره أبو البقاء. والثاني: أنَّ "إنَّ" الثانيةَ تكريرٌ للأولى على سبيلِ التوكيدِ. وهذا ماشٍ على القاعدة: وهو أنَّ الحرفَ إذا كُرِّرَ توكيداً أُعِيْدَ معه ما اتَّصل به أو ضميرُ ما اتَّصل به، وهذا قد أُعِيدَ معه ما أتَّصل به أولاً: وهي الجلالةُ المعظمةُ، فلم يتعيَّنْ أَنْ يكونَ قولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ} خبراً لـ"إنَّ" الأَوْلى كما ذُكر.
وقد تقدَّم تفسيرًُ ألفاظِ هذه الآيةِ، إلاَّ المجوسَ. وهم قومٌ اختلف أهلُ العلمِ فيهم فقيل: قومٌ يعبدون النارَ. وقيل: الشمسَ والقمرَ. وقيل: اعتزلوا النصارى ولَبِسوا المُسُوْح. وقيل: أَخَذوا من دين النصارى شيئاً، ومن دينِ اليهودِ شيئاً، وهم القائلونَ بأنَّ للعالم أصلين: نورٌ وظلمةٌ. وقيل: هم قومٌ يستعملون النجاساتِ، والأصل: نَجوس بالنونِ فأُبْدِلَتْ ميماً.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
(10/366)
---(1/4222)
قوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ}: فيه أوجهٌ أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: ويَسْجُدُ له كثيرٌ من الناس. وهذا عند مَنْ يمنعُ استعمالَ المشتركِ في معَنيْيه، أو الجمعَ بين الحقيقة والمجازِ، في كلمةٍ واحدةٍ؛ وذلك أنَّ السجودَ المسندَ لغيرِ العقلاءِ غيرُ السجود المسندِ للعقلاءِ، فلا يُعْطَفُ "كثيرٌ من الناس" على ماقبلَه لا ختلافِ الفعلِ المسندِ إليهما في المعنى. ألا ترى أنَّ سجودَ غيرِ العقلاءِ هو الطَّواعيةُ والإِذعانُ لأمرِه، وسجودَ العقلاءِ هو هذه الكيفيةُ المخصوصةٌ.
الثاني: أنَّه معطوفٌ على ما تقدَّمه. وفي ذلك ثلاثةُ تأويلاتٍ أحدُها: أنَّ المرادَ بالسجودِ القَدْرُ المشتركُ بين الكلِّ العقلاءِ وغيرِهم وهو الخضوعُ والطواعيةُ، وهو من بابِ الاشتراكِ المعنويِّ. والتأويلُ الثاني: أنه مشتركٌ اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمالُ المشتركِ في معنييه. والتأويلُ الثالث: أنَّ السجودَ المسندَ للعقلاءِ حقيقةٌ ولغيرِهم مجازٌ. ويجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ. وهذه الأشياءُ فيها خلافٌ، لتقريرِه موضوعٌ هو أليقُ به من هذا.
الثالثُ من الأوجه المتقدمة: أن يكونَ "كثيرٌ" مرفوعاً بالابتداء. وخبرُه محذوفٌ وهو "مُثابٌ" لدلالة خبرِ مقابلِه عليه، وهو قولُه: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} قَدَّره الزمخشريُّ. وقَدَّره أبو البقاء: "مُطيعون أو مُثابون أو نحوُ ذلك".
الرابع: أَنْ يرتفعَ "كثيرٌ" على الابتداءِ أيضاً، ويكون خبرُه "من الناس" أي: من الناس الذينهم الناسُ على الحقيقةِ، وهم الصالحون والمتَّقون.
والخامسُ: أن يرتفعَ بالاتبداءِ أيضاً. ويُبالَغَ في تكثير المحقوقينِ بالعذاب، فيُعطفَ "كثيرٌ" على "كثير" ثم يُخْبَرَ عنهم بـ{حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ذكر ذلك الزمخشري. قال الشيخ: ـ بعد أن حكى عن الزمخشريِّ الوجهين الآخرين ـ قال: "وهذان التخريجان ضعيفان" ولم يُبَيِّنْ وجهَ ضعفِهما.
(10/367)
---(1/4223)
قلت: أمَّا أوَّلُهما فلا شكَّ في ضعفِه؛ إذ لا فائدةَ طائلةٌ في الإِخبارِ بذلك./ وأمَّا الثاني فقد يظهر: وذلك أنَّ التكريرَ يفيد التكثيرَ، وهو قريبٌ مِنْ قولِهم: "عندي ألفٌ وألفٌ"، وقوله:
3376ـ لو عُدَّ قبرٌ وقبرٌ كنتَ أَكْرَمَهم * ..........................
وقرأ الزهري "والدَّوابُ" مخففَ الباءِ. قال أبو البقاء: "ووجهُها: أنه حَذَف الباءَ الأولى كراهيةَ التضعيفِ والجمعِ بين ساكنين". وقرأ جناح بن حبيش و"كبيرٌ" بالباء الموحدة. وقرىء "وكثيرٌ حَقَّاً" بالنصب.
وناصبُه محذوفٌ وهو الخبرُ، تقديرُه: وكثير حَقَّ عليه العذابُ حقاً. "والعذابُ" مرفوع بالفاعلية. وقُرِىء "حٌقَّ" مبنياً للمفعولِ.
وقال ابن عطية: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يحتمل أن يكونةَ معطوفاً على ما تقدَّم أي: وكثير حَقَّ عليه العذابُ يسجد أي كراهيةً وعلى رَغْمِه: إما بظلِّه، وإمَّا بخضوعِه عند المكاره". قلت: فقولُه: "معطوفٌ على ما تقدَّم" يعني عطفَ الجملِ لا أنه هو وحدَه عطفٌ على ما قبله، بدليلِ أنه قَدَّره مبتدأً. وخبرُه قوله: "يَسْجد".
قوله: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ} "مَنْ" مفعولٌ مقدمٌ، وهي شرطيةٌ. جوابُها الفاءُ مع ما بعدها. والعامَّةُ على "مُكْرِمٍ" بكسرِ الراء اسمَ فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتحِها، وهو اسمُ مصدرٍ أي: فما له مِنْ إكرام.
* { هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ }
(10/368)
---(1/4224)
قوله: {هَاذَانِ خَصْمَانِ}: الخَصْم في الأصل: مصدرٌ؛ ولذلك يُوحَّدُ ويذكَّرُ غالباً، وعليه قولُه تعالى: {نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ}. ويجوز أنْ يُثَنَى ويجمعض ويؤنَّثَ، وعليه هذه الآيةُ. ولمَّا كان كلُّ خَصْمٍ فريقاً يَجْمَعُ طائفةً قال: اختصَمُوا" بصغيةِ الجمع كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} فالجمعُ مراعاةً للمعنى.
وقرأ ابن أبي عبلة "اختصما" مراعاةً للفظِه وهي مخالفةٌ للسَّواد. وقال أبو البقاء: وأكثرُ الاستعمالِ توحيدُه فَمَنْ ثَنَّاه وجَمَعه حَمَله الصفات والأسماء، و"اختصموا" إنما جُمِعَ حملاَ على المعنى لأنَّ كلَّ خصمٍ [فريقٌ] تحته أشخاصٌ". وقال الزمخشري: "الخصم صفةٌ وُصِفَ بها الفوجُ أو الفريقُ فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان. وقوله: "هذان" للَّفظِ، و"اختصموا" للمعنى كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ} ولو قيل: هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يُراد: المؤمنون والكافرون". قلت: إنْ عَنَى بقوله: "إن "خَصْماً" صفةٌ" بطريقِ الاستعمال المجازي فمُسَلَّم؛ لأنَّ المصدرَ يكثرُ الوصفُ به، وإنْ أراد أنه صفةٌ حقيقةً فَخَطَؤُه ظاهرٌ لتحصريِحهم بأن نحوَ "رجلٌ خصمٌ" مثل "رجلٌ عَدْل" وقوله: هذان للفظِ" أي: إنما أُشير إشارةُ المثنى وإنْ كان في الحقيقة المرادُ الجمعَ، باعتبار لفظِ الفوجَيْن والفريقين ونحوهما. وقوله كقولِهم: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} إلى آخره فيه نظرٌ؛ لأنَّ في تيك الآيةِ تقدَّمَ شيءٌ له لفظٌ ومعنىً، وهو "مَنْ"، وهنا لم يتقدَّمْ شيءٌ له لفظٌ ومعنىً. وقوله تعالى: {فِي رَبِّهِمْ} أي: في دين ربهم، فلا بُدَّ من حذف مضاف.
(10/369)
---(1/4225)
وقرأ الكسائيُّ ـ في روايةٍ عنه ـ "خِصمان" بكسر الخاء. وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ} هذه الجملةُ تفصيلٌ وبيانٌ لفصلِ الخصومة المَعْنِيِّ بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} قال الزمخشري. وعلى هذا فيكونُ {هَاذَانِ خَصْمَانِ} معترضاً. والجملة مِنْ "اختصموا" حاليةٌ، وليست مؤكدةً؛ لأنها أخصُّ مِنْ مطلقِ الخصومةِ المفهومةِ من "خصمان".
وقرأ الزعفراني في اختياره "قُطِعَتْ" مخففَ الطاءِ. والقراءةُ المشهورةُ تفيدُ التكثيرَ، وهذه تحتمله.
قوله: {يُصَبُّ} هذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ في "لهم"، وأن تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ في "لهم"، وأن تكومنَ مستأنفةً.
* { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
قوله: {يُصْهَرُ} جملةٌ حاليةٌ من الحميم. والصَّهْرُ: الإِذابَةُ. يُقال: صَهَرْتُ الشحم أي: أَذَبْتُه والصُّهارة: الأَلْيَةُ المُذابة، وصَهَرَتْهُ الشمسُ: أذابَتْه بحرارتها قال:
3377ـ ..................... * تَصْهَرُه الشمسُ فما يَنْصَهِرْ
وسُمِّي الصِّهْرُ صِهْراً لا متزاجِه بأصهاره تخيُّلاً لشدةِ المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين "يُصَهَّرُ" بفتحِ الصادِ وتشديدِ الهاء مبالغةً وتكثيراً لذلك.
قوله: {وَالْجُلُودُ} فيه وجهان، أظهرُهما: عَطْفُه على "ما" الموصولة أي: يُذابُ الذي في بطونِهم من الأمعاءِ، وتُذاب أيضاً الجلودُ أي: يُذاب ظاهرُهم وباطنُهم,. والثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ أي: وتُحْرَقُ الجلودُ. قالوا: لأن الجلدَ لا يُذابُ، إنما يَنْقَبِضُ وينكمشُ إذا صَلِي النارَ وهو في التقدير كقوله:
3378ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * ........................
[وقوله].
3379ـ ...................... * وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
(10/370)
---(1/4226)
[وقوله تعالى]: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}. فإن تقديرِ: وسَقَيْتُها ماءً، وكَحَّلُنَ العُيونا، واعتقدوا الإِيمانَ.
* { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ }
قوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ}: يجوزُ في هذا الضميرِ وجهان، أظهرُهما: أنه يعودُ على الذين كفروا، وفي اللام حنيئذٍ قولان، أحدهما: أنها للاستحقاقِ. الثانثي: أنها بمعنى "على" كقولِه: و{لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وليس بشيءٍ. الوجه الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على الزبانية أعوانِ جهَّنَم ودَلَّ عليهم سياقُ الكلامِ، وفيه بُعْدٌ. و"مِنْ حديدٍ" صفةٌ لمقامِع وهي جمعُ "مِقْمَعَه" بكسرِ الميمِ لأنَّها آلةُ لقمعِ. يقال: قَمَعَه يَقْمَعُه إذا ضَرَبه بشيءٍ يَزْجُرُه به ويُذِلُّه، والمِقْمَعَةُ: المِطْرَقَةُ. وقيل: السَّوْطُ.
* { كُلَّمَآ أَرَادُوااْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
قوله: {كُلَّمَآ أَرَادُوااْ}: كلَّ: نصبٌ على الظرفِ. وقد تقدَّم الكلامُ في تحقيقِها في البقرة. والعاملُ فيها هنا قوله: {أُعِيدُواْ}. و{مِنْ غَمٍّ} في وجهان أحدُهما: أنه بدلٌ من الضميرِ في "منها" بإعادةِ العاملِ، بدلُ اشتمالٍ كقولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ}. ولكن لا بُدَّ في بدلِ الاشتمال من رابطٍ، ولا رابطَ، فقالوا: هو مقدرٌ تقديره: مِنْ غَمِّها. والثاني: أنه مفعولٌ له، ولمَّا نَقَصَ شرطٌ من شروطِ النصبِ جُرَّ بحرفِ السَّببِ. وذلك الشرطُ: هو عدمُ اتحادِ الفاعلِ؛ فإن فاعل الخروجِ غيرُ فاعلِ الغَمِّ، فإنَّ الغَمَّ من النارِ والخروجَ من الكفار.
قوله: {وَذُوقُواْ} منصوبٌ بقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على "أُعِيْدُوا" أي: وقِيل لهم: ذُوْقوا.
(10/371)
---(1/4227)
* { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
قوله: {يُحَلَّوْنَ}: العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً، مِنْ حَلاَّه يُحَلِّه إذا ألبسَه الحُلِيَّ. وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً، وهو بمعنى الأول، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ. قال أبو البقاء: "مِنْ قولك: أَحْلَى أي ألبسَ الحُلِيَّ، وهو بمعنى المشدَّد".
وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ. وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صار دونَ حُلِيّ. الثاني: أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته. و"مِنْ" مزيدةٌ في قولِه {مِنْ أَسَاوِرَ} قال: "فيكونُ المعنى: يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة". ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال: "وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً متعدياً، ولذلك حَكَم بزيادةِ "مِنْ" في الواجبِ. وليس مذهبَ البصريين. وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنى إلاَّ لازِماً، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ "مِنْ" للسببِ أي: بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم، أي: يَحْلَى بعضُهم بعينِ بعضٍ".
قلت: وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال: "ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن، وتكونُ "مِنْ" زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً، و"مِنْ أساورَ" نعتٌ له". فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن.
(10/372)
---(1/4228)
الثالث: أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به، فيكونُ التقديرُ: يَحْلَوْن بأساورَ. فـ"مِنْ" بمعنى الباء. ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم: لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي: لم يظفرْ به. واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية، أو بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ. وإمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها.
قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} في "مِنْ" الأولى ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها زائدةٌ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبى البقاء. وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين. والثاني: أنَّها للتعبيضِ أي: بعض أساور. والثالث: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله ابن عطية، وبه بدأ. وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ. وفي "مِنْ ذهب" لابتداءِ الغايةِ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس "مِنْ أَسَوِرَ" دونَ ألفٍ ولا هاءٍ، وهو محذوفٌ مِنْ "أساوِر" كما [في] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل، قال الشيخ: "وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف". قلت: فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ "جنادل" تنوينُ صَرْفٍ. ونقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما.
(10/373)
---(1/4229)
قوله: {وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ. والباقون بالخفضِ. فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه: ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ. الثاني: أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع "مِنْ أساور"، وهذا كتخريجِهم "وأرجُلَكُمْ" بالنصب عطفاً على محلِّ {بِرُؤُوسِكُمْ}، ولأن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} في قوة: "يَلْبَسون أساور" فَحُمِل هذا عليه. والثالث: أنه عطفٌ على "أساور"؛ لأنَّ "مِنْ" مزيدةٌ فيها كما تقدَّم تقريرُه. الرابع: أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ. التقديرُ: يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً. فـ"لؤلؤاً" عطفٌ على الملبوس.
وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدُهما: عطفُه على "أساور". والثاني: عَطْفُه على "مِنْ ذهبٍ" لانَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً، يُنْظَمُ بعضُه إلى بعضٍ. وقد منع أبو البقاء العطفَ على "ذهب" قال: "لأنَّ السِّوار لا يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً".
واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام: فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام "لؤلؤ" بغير ألفٍ بعد الواو، ونقل الجحدريُّ أنها ثباتةٌ في الإِمامِ بعد الواو. وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً.
وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه "لؤلوا" بهمزةٍ أولاً وواوٍ آخِراً. وفي روايةِ يحيى عه عكسُ ذلك.
وقرأ الفياض "ولُوْلِيا" بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً، والأصل: لُؤْلُؤاً أبدل الهمزتينِ واوَيْن، فبقي في آخرِ السم واوٌ بعد ضمةٍ. فَفُعِل فيها ما فُعِل بـ أَدْلٍ جمعَ دَلْو: بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً.
(10/374)
---(1/4230)
وقرأ ابنُ عباس: "وَلِيْلِيا" يياءَيْنِ، فَعَل ما فَعَل الفياض، ثم أتبعَ الواوَ الأولى للثانيةِ في القلبِ. وقرأ طلحة "وَلُوْلٍ" بالجر عطفاً على المجرورِ قبلَه. وقد تقدم، والأصل "ولُوْلُوٍ" بواوين، ثم أُعِلَّ إعلالَ أَدْلٍ.
واللُّؤْلُؤُ: قيل: كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه.
* { وَهُدُوااْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوااْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }
قوله: {مِنَ الْقَوْلِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من "الطيِّب"، وأن يكونَ حالاً مِن الضيمرِ المستكِنَّ فيه. و"مِنْ" للتعبيضِ أو للبيانِ.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله: {وَيَصُدُّونَ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على ما قبلَه. وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ. أحدُها: أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ، أو استقبالٍ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ. ومثلُه {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}. الثاني: أنه مؤول بالماضي لعطفِه على الماضي. الثالث: أنه على بابِه، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل.
(10/375)
---(1/4231)
الوجه الثاني: أنَّه حالٌ من فاعل "كفروا" وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسدٌ ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ. واختلفوا في موضعِ تقديرِه: فقدَّره ابن عطية بعد قولِه "والبادِ" أي: إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدَّره الزمخشري بعد قوله {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم. وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يَدُلُّ عليه.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام: "لا يصحُّ"، قال: "لأنَّ الذي" صفة للمسجد الحرام، فموضعُ التقديرِ هو بعد "البادِ" يعني: أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ، وهو خبرُ "إنّ"، فيصيرُ التركيبُ هكذا: إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس. وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن "الذين جَعَلْناه" لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً.
ثم قال الشيخ: "لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ".
(10/376)
---(1/4232)
الوجه الثالث: أنَّ الواوَ في "ويَصُدُّون" مزيدةٌ في خبر "إنَّ" تقديرُه: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون. وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه، وقال أبنُ عطية: "وهذا مُفْسِدٌ للمعنى المقصودِ". قلت: ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صَرِّح بقولِنا: إنَّ الذين كفورا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى. فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ. اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.
قوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ} يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ بإضمار فعلٍ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ. و"جَعَلَ" يجوز أن يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ.
والعامَّةُ على رفعِ ِ"سواءٌ" وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية: "سواءً مَحْياهم". ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان، وسيأتي توجيهُه. فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا: إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ، أحدها: ـ وهو الأظهرُ ـ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ} هي المفعولُ الثاني، ثم الأحسنُ في رفع "سواءٌ" أن يكون خبراً مقدماً، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأن سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به. وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة. وأجاز بعضُهم أن يكون "سواءٌ" مبتدأ، واما بعدَه الخبر. وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ. وعلى هذا الوجهِ ـ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً ـ فقولُه "للناس" يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلق بالجَعْل أي: جَعَلْنا لأجلِ الناسِ كذا. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول "جَعَلْناه" ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً.(1/4233)
(10/377)
---
الوجه الثاني: أنَّ "للناس" هو المفعولُ الثاني. والجلمةُ مِنْ قوله {سَوَآءً الْعَاكِفُ} في محلِّ نصب على الحال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائِدِه. وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً.
الوجه الثالث: أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ، قال ابن عطية: "والمعنى: الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً. فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ. إلاَّ أن الشيخ". قال "ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإِعراب. فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ. وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه "للناس" متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة. وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين، أحدهما: نه حالٌ من مفعولِ "جَعَلْناه". والثاني: أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل، كيف يكون "للناس" مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ. فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة.
وأمَّا على قراءةِ حفصٍ: فإنْ قلنا: "جَعَلَ" يتعدَّى لاثنين كان "سواءٌ" معفولاً ثانياً. وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ "جَعَلْناه" وعلى التقديرين: فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه: جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ. ويَدُلُّ عليه قولُهم: "مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ". فـ"هو" تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه، و"العَدَمُ" نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ. ويُرْوى: "سواءٍ والعدمُ" بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ.
(10/378)
---(1/4234)
وقرأ الأعمش وجماعةٌ "سَواءً" نصباً، "العاكف" جراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من "الناس" بدلُ تفصيل. والثاني: أنه عطفٌ بيانٍ. وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه "عَطْفاً على الناس" ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ "سواء" لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء: "وسواءً على هذا نصبٌ لا غير".
وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ "والبادي" وصلاً ووقفاً، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً. وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام.
قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ مفعولَ "يُرِدْ" محذوفٌ، وقولُه: "بإلحادٍ بظلم" حالان مترادفتان. والتقديرُ: ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما، عادِلاً عن القصدِ ظالماً، نُذِقْه من عذابٍ أليم. وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ. قال معناه الزمخشريُّ. والثاني: أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً، و"بإلحادٍ" حال أي: مُلْتَبِساً بإلحادٍ. و"بظُلْمٍ" بدلٌ بإعادةِ الجارِّ. الثالث: أَنْ يكونَ "بظلمٍ" متعلقاً بـ"يُرِدْ"، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و"بإلحاد" مفعولٌ به. والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [وقولِه]
3380ـ .......................... * ............ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى:
3381ـ ضَمِنَتْ برزقِ عيالِينا أرماحُنا * ...........................
أي: ضَمِنَتْ رزقَ. ويؤيِّده قراءة الحسن "ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ". اقل الزمخشري: أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف كـ {مَكْرُ الْلَّيْلِ} ومعناه: ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً. الرابع: أن يُضَمَّنَ "يُرِدْ" معنى يتلبَّس، فلذلك يتعدَّى بالباء أي: ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له.
(10/379)
---(1/4235)
والعامَّةُ على "يُرِدْ" بضم الياء من الإِرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء "يَرِدْ" بفتح الياء. وقال الزمخشري: "من الوُرُوْد ومعناه: مضنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً".
* { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا}: أي: اذكرْ حينَ. واللامُ في "لإبراهيم" فيها ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها للعلةِ، ويكون مفعولُ "بَوَّأْنا" محذوفاً أي: بَوَّأْنا الناسَ لأجل إبراهيم مكانَ البيت. و"بَوَّأَ" جاء متعدياً صَرِيحاً قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ}، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً}. وقال الشاعر:
3382ـ كَمْ مِنْ أَخٍ ليَ صالحٍ * بَوَّأْتُه بيَديَّ لَحْدا
والثاني: أنها مزيدةٌ في المفعولِ به. وهو ضعيفٌ؛ لِما عَرَفْتَ أنها لا تُزاد إلاَّ إنْ تَقَدَّم المعمولُ، أو كان العاملُ فرعاً الثالث: أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً للفعل على أنه مُضَمَّنٌ معنى فعل يتعدَّى بها أي: هَيَّأنا له مكانَ البيتِ كقولك: هَيَّأْتُ له بيتاً، فتكونُ اللامُ مُعدِّيَةً قال معناه أبو البقاء. وقال الزمخشري: "واذكرْ حينَ جَعَلْنا لإِبراهيمَ مكان البيت مباءة" ففسَّر المعنى بأنه ضَمَّن "بَوَّأْنا" معنى جَعَلْنا، ولا يريد تفسيرَ الإِعرابَ.
وفي {مَكَانَ الْبَيْتِ} وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به. الثاني: قال أبو البقاء: "أَنْ يكونَ ظرفاً". وهو ممتنعٌ من حيث إنَّه ظرفٌ مختصٌّ فحَقُّه أن يتعدَّى إليه بـ في.
(10/380)
---(1/4236)
قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ} في "أنْ هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها هي المفسَّرةُ. قال الزمخشري: ـ بعد أَنْ ذكَرَ هذا الوجه ـ : "فإن قلتَ: كيف يكونُ النهيُ عن الشرك والأمرِ بتطهيرِ البيت تفسيراً للتبوِئَةِ؟ قلت: كانت البتوئةُ مقصودةً من أجل العبادةِ، وكأنه قيل: تعبَّدْنا إبراهيمَ قُلْنا له: لا تُشْرِكْ". قلت: يعني أبو القاسم أنَّ "أنْ" المفسرةَ لا بُدَّ أن يتقَدَّمها ما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، ولم يتقدَّم إلاَّ التَّبْوِئَةُ وليست بمعنى القول، فضَمَّنها معننى القول، ولا يريدُ بقولِه "قلنا: لا تشرك" تفسيرَ الإِعراب بل تفسيرُ المعنى؛ لأنَّ المفسِّرةَ لا تفسِّر القولَ الصريح. وقال أبو البقاء: "تقديرُه: قائِلين له: لا تشركْ فـ" أنْ" مفسرةٌ للقولِ المقدَّر" وهذا.... .
الثاني: أنَّها المخففةُ من الثقيلةِ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ من حيث إن "أَنْ" المخففةَ لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها فعلُ تحقيقٍ أو ترجيح، كحالِها إذا كانَتْ مشددة.
الثالث: أنها المصدريةُ التي تنصِبُ المضارعَ، وهي تُوْصَلُ بالماضي والمضارعِ والأمرِ، والنهي كالأمر. وعلى هذا فـ"أنْ" مجرورةٌ بلام العلةِ مقدرةً أي: بَوَّأناه لئلا تشركَ. وكان من حقِّ اللفظِ على هذا الوجه أن يكون "أن لا يشرك" بياء الغَيْبةِ، وقد قُرىء بذلك. قال أبو البقاء: "وقَوَّى ذلك قراءةُ مَنْ قرأه بالياء" يعني مِنْ تحتُ. قلت: ووجهُ قراءةِ العامَّةِ على هذا التخريج أن تكونَ من الالتفاتِ من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع: أنها الناصبةٌ، ومجرورةٌ بلام أيضاً. إلاَّ أن اللامَ متعلقةٌ بمحذفوٍ أي: فَعَلْناه ذلك لئلا تشركَ، فجعل النهيَ صلةً لها. وقوَّى ذلك قراءةُ الياء. قاله أبو البقاء والأصلُ عدمُ التقديرِ مع عدمِ الاحتياج إليه.
(10/381)
---(1/4237)
وقرأ عكرمة وأبو نهيك "أن لا يُشرِك" بالياء. قال الشيخ:"على معنى: أَنْ يقولَ معنى القول الذي قيل له". وقال أبو حاتم: "ولا بُدَّ مِنْ نصبِ الكافِ على هذه القراءةِ بمعنى لئلا تشركَ". قلت: كأنه لم يظهرْ له صلةٌ "أنْ المصدرية بجملةِ النهي. فجل "لا" نافيةً، وسلَّط "أنْ" على المضارعِ بعدها، حتى صار علةً للفعل قبله. وهذا غيرُ لازمٍ لِما تقدَّم لك من وضوحِ المعنى مع جَعْلِها نايةً.
* { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ }
قوله: {وَأَذِّن}: قرأ العامَّةُ بتشديد الذال بمعنى نادِ. وقرأ الحسنُ وابن محيصن "آذِنْ" بالمدِّ والتخفيف بمعنى أعْلِمْ. ويُبْعِدُه قوله: {فِي النَّاسِ} إذا كان ينبغي أَنْ يتعدَّى بنفسِه. وقرآ أيضاً فيما نقله عنهما أبو الفتح "أَذِنَ" بالقصر وتخفيف الذال. وخرَّجها أبو الفتح وصاحب "اللوامح" على أنها عطفٌ على "بَوَّأنا" أي: واذكرْ/ إذ بَوَّأْنا وإذ أَذِنَ في الناس وهي تخريجٌ واضح. وزاد صاحب "اللوامح" فقال: فيصيرُ في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ويصير "يأتوك" جزماً على جواب الأمر الذي في "وطهِّرْ": ونَسَب أبنُ عطية أبا الفتح في هذه القراءةِ إلى التصحيفِ فقال ـ بعد أن حكى قراءةَ الحسنِ وابن محيصنٍ "وآذِنْ" بالمَدِّ ـ و"تَصَحَّفَ هذا على ابن جني فإنَّه حكى عنهما "وأَذِنَ" على فعلٍ ماضٍ. وأعربَ على ذلك بأَنْ جَعَلَه عطفاً على "بَوَّأْنا".
قلت: ولم يَتَصَحَّفْ فِعْلُه، بل حكى تلك القراءةَ أبو الفضل الرازي في "اللوامح" له عنهما، وذكرها أيضاً ابن خالويه، ولكنه لم يَطَّلِعْ عليها فنسَب مَنْ أطلع إلى الصحيفِ ولو تأنَّى أصحاب أو كاد.
وقرأ بنُ أبي إسحاقَ "بالحِجِّ" بكسرِ الحاء حيث وَقَع كما قَدَّمْتُه عنه.
(10/382)
---(1/4238)
قوله: {رِجَالاً} نصبٌ على الحالِ، وهو جمعُ راجِل نحو: صاحِب وصِحاب وتاجِر وتِجار وقائِم وقِيام. وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز "رُجَّالاً" بضمِّ الراء وتشديدِ الجيمِ. ورُوي عنهم تخفيفُها. وافقهم ابنُ أبي إسحاق على التخفيفِ وجعفر من محمد ومجاهدٌ على التشديد. ورُوِيَتْ عن ابن عباس بالألف. فالمخفف اسمُ جمعٍ كظُؤَار، والمشدَّدُ جمعُ تسكيرٍ كصائم وصُوَّام. ورُوي عن عكرمةَ أيضاَ "رُجَالى" كنُعامى بألف التأنيث، وكذلك عن ابنِ عباس وعطاء، إلاَّ أنهما شدَّدا الجيمَ.
قوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} نسَقٌ على "رِجالاً" فيكون حالاً أي: مُشاةً وركباناً.
قوله: {يَأْتِينَ} النونُ ضميرُ "كلِّ ضامِرٍ" حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى: على ضوامَر. و"يَأْتِيْنَ" صفةٌ لـ"ضامِر". وأتى بضميرِ الجمعِ حَمْلاً على المعنى. وكان قد تقرَّر أولَ هذا التصنيفِ أنَّ "كل" إذا أُضِيْفَتْ إلى نكرةٍ لم يُراعَ معناها، إلاَّ في قليلٍ كقوله:
3383ـ جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ * فتركْنَ كلَّ حَديقةٍ كالدِّرْهَمِ
وهذه الآيةُ تَرُدُّه؛ فإنَّ "كلاً" فيها مضافةٌ لنكرةٍ وقد روعي معناها. وكان بعضُهم أجاب عن بيتِ زهير بأنه إنما جاز ذلك لأنه في جملتين، فقلت: فهذه الآيةُ جملةٌ واحدةٌ لأنَّ "يَأْتِيْنَ" صفةٌ لـ"ضامِر".
وجَوَّز الشيخ أَنْ يكونَ الضميرُ يَشْمَلُ رجالاً وكل ضامر قال: "على معنى الجماعات والرفاق" قلت: فعلى هذا يجوزُ أَنْ يقالَ عنده: الرجال يَأْتِيْنتَ. ولا ينفعُه كونُه اجتمع مع الرجال هنا كلُّ ضامر فيقال: جاز ذلك لَمَّا اجتمع معه ما يجوزُ فيه ذلك؛ إذ يلزمُ منه تغليبُ غيرِ العاقلِ على العاقلِ، وهو ممنوعٌ.
(10/383)
---(1/4239)
وقرأ ابن مسعود والضحاك وابنُ أبي عبلة "يَأْتُونَ" تغليباً للعقلاءِ الذكورِ، وعلى هذا فيحتمل أَنْ يكونَ قولُه: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} حالاً أيضاً. ويكون "يَأْتُون" مستأنفاً يتعلَّقُ به {مِن كُلِّ فَجٍّ} أي: يَأْتُوك رِجالاً وركباناً ثم قال: يأتون من كلِّ فَج، وأَنْ يتعلَّقَ بقوله: "يَأْتُون" أي: يأتون على كل ضامرٍ من كلِّ فَج، و"يَأْتُون" مستأنفٌ أيضاً. ولا يجوز أن يكونَ صفةً لـ"رجالاً" ولـ"ضامِر" لاختلافِ الموصوفِ في الإِعرابِ؛ لأنَّ أحدَهما منصوبٌ والآخَرَ مجرورٌ. لو قلت "رأيتُ زيداً ومررت بعمروٍ العاقِلَيْن" على النعتِ لم يَجُزْ، بل على القطعِ. وقد جَوَّزَ ذلك الزمخشري فقال: "وقرىء "يِأْتُون" صفةً للرجال والركبان" وهو مردودٌ بما ذكرتُه.
والضَّامِرُ: المَهْزولِ، يقال:.... والعميق: البعيدُ سُفلاً. يقال: بئر عَميق ومَعِيق، فيجوز أن يكون مقلوباً، لأنه أَقَلُّ من الأول قال:
3384ـ إذا الخيلُ جاءت مِنْ فِجاجٍ عميقةٍ * يَمُدُّ بها في السيرِ أشعُ شاحِبُ
يقال: عَمِقَ وعَمُقَ بكسر العين وضَمِّها عَمْقاً بفتح الفاء. قال الليث: عَميق ومَعِيق، والعَميق في الطريق أكثرُ". وقال الفراء: "عميق" لغةُ الحجازِ، و"مَعِيْق" لغةُ تميم". وأَعْمَقْتُ البئرَ وأَمْعَقْتُها، وعَمُقَتْ ومَعُقَتْ عَماقَةً ومَعَاقة وإعْقاماً وإمْعاقاً. قال رؤبة:
3385ـ وقاتمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ
الأعماقُ هنا ـ بفتح الهمزة ـ جمع عُمْق، وعلى هذا فلا قلبَ في مَعِيق لأنها لغة مستقلة، وهو ظاهرُ قولِ الليث أيضاً. وقرأ ابن مسعود "فج مَعِيق" بتقديم الميم. ويقال: غَمِيق بالغين المعجمةِ أيضاً.
* { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِيا أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }
(10/384)
---(1/4240)
قوله: {لِّيَشْهَدُواْ}: يجوز في هذه اللامِ وجهان أحدهما: أن يتعلَّقَ بـ"أَذِّن" أي: أَذِّن لِيَشْهدوا. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"يأْتُوْك" وهو الأظهرُ. قال الزمخشري: "ونكَّر منافع لأنه أرادَ منافع مختصةً بهذه العبادةِ دينية ودنياوية لا تُوْجَدُ في غيرها من العبادات".
* { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ}: العامَّةُ على كسرِ اللامِ وهي لامُ الأمرِ. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونِها إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصل نحو "كَتْف" وهو نظيرُ تسكينِ هاء "هو" بعد "ثُمَّ" في قراءةِ الكسائي وقالون حيث أُجْرِيَتْ "ثُمَّ" مُجْرَّى الواو والفاء.
والتَّفَيُ قيل: أصلُه مِنْ التَّفَّ وهو وَسَخُ الأظفارِ، قُلِبَت الفاءُ ثاءً كـ مُغْثُور في مُغْفُور. وقيل: هو الوسخُ والقَذَرُ يقال: ما تَفَثُكَ؟ وحكى قطرب: تَفِثَ الرجلُ أي: كَثُرَ وسخُه في سَفَره. ومعنى "ليقْضُوا تَفَثَهم": ليصنعوا ما يصنعه المُحَرِمُ مِنْ إزالةِ شعرٍ وشَعْثٍ ونحوِهخما عند حِلِّه، وفي ضمن هذا قضاءُ جميعِ المناسك، إلا يُفعل هذا إلاَّ بعد فِعْل المناسِك كلِّها.
قوله: {وَلْيُوفُواْ} قرأ أبو بكر "وليُوَفُّوا" بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقد تقدم في البقرة أن فيه ثلاث لغاتٍ: وَفَى ووفَّى وأَوْفَى. وقرأ بن ذكوان "ولِيُوْفوا" بكسر اللام، والباقون بسكونها، وكذلك هذا الخلاف جارٍ في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ}.
* { ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ }
(10/385)
---(1/4241)
قوله: {ذالِكَ}: خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ والشأنُ ذلك. قال الزمخشري: "كما يُقَدِّمُ الكاتبُ جلمةً من كتابِه في بعضِ المعاني، ثم إذا أرادَ الخوضَ في معنى آخرَ قال: هذا وقد كان كذا". وقَدَّره ابنُ عطية: "فَرْظُكُمْ ذلك، أو الواجبُ ذلك". وقيل: هو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ. أي: ذلك الأمرُ الذي ذكرتُه. وقيل: في محلٍّ نصب أي: امتثلوا ذلك. ونظيرُ هذه الإِشارةِ قولُ زهير، بعد تقدُّم جُمَل في وَصْفِ هَرِم ابن سنان:
3386ـ هذا وليس كمَنْ يَعْيا بخُطْبَتِه * وسَطَ النَّدِيِّ إذا ما ناطقٌ نَطَقا
قوله: "فهو" "هو" ضميرُ المصدرِ المفهومِ من قولِه {وَمَن يُعَظِّمْ} أي: وتعظيمُه حرماتِ الله خيرٌ له كقولِه تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} و"خيرٌ" هنا ظاهرُها التفضيلُ بالتأويلِ المعروفِ.
قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يجوز أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، ويُصْرَفُ إلى ما يُحَرَّمُ مِنْ بهيمةِ الأنعام لسببٍ عارضٍ كالموت ونحوه، وأن يكونَ استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها مُحَرَّمٌ وقد تقدَّم تقريرٌ هذا الوجهِ أولَ المائدةِ.
(10/386)
---(1/4242)
قوله: {مِنَ الأَوْثَانِ} في "مِنْ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مهشورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتَّى فيها ذلك ولا بعضُه. والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: "ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا" يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه التبةَ. الثالث: أنها للتعبيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتعبيضِ، فقال: "ومَنْ قال: إن "مِنْ" للتعبيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده" وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ, ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ.
* { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
قوله: {حُنَفَآءَ}: حالٌ مِنْ فاعلِ "اجْتَنِبوا". وكذلك {غَيْرَ مُشْرِكِينَ} وهي حالٌ مؤكدة، إذ يلزَمُ من كونِهم حُنَفاءَ عدمُ الإِشراك.
(10/387)
---(1/4243)
قوله: {فَتَخْطَفُهُ} قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً. وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم. وباقي السبعةِ "فَتَخْطَفُه" بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء. وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ. ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء: "تَخْطَفُه". وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ} فلا أُعيدها.
وقرأ أبو جعفر "الرياحُ" جمعاً. وقولِه "خَرَّ" في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو "فَتَخْطَفُهُ"، ويجوز أن يكون على بابه، ولا يكونُ "فَتَخْطَفُه" عطفاً عليه، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو يَخْطَفُه.
قال الزمخشري: "ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق. فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [هلاكٌ]: بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ. وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله، بالساقط من السماء، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ". قلت: وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة.
(10/388)
---(1/4244)
والأَوْثان: جمع وَثَن. والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ. ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب. عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعدي وقد رأى في عنقه صليباً: "أَلْقِ هذا الوثنَ عنك". وقال الأعشى:
3387ـ يطوفُ العبادُ بأبوابِه * كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي: أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ. وأُنشد لرؤبة:
3388ـ على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ
أي: المقيمين على العهد. وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم.
والسَّحيقُ: البعيدُ. ومنه سَحَقَه اللهُ أي: أبعده. وقوله عليه السلام: "فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً" بُعْداً. والنَّخْلة السَّحُوقُ: الممتدةٌ في السماء، من ذلك.
* { ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }
قوله: {ذالِكَ}: إعرابُه كإعرابِ "ذلك" المتقدمِ وتقدَّم تفسيرُ "الشَّعيرة" واشتقاقُها في المائدة.
قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشعائرِ، على حَذْفِ مضافٍ. أي: فإن تعظيمَها مِنْ تقوى القلوبِ. والثاني: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعل قبلَه أي: فإنَّ التعظيمةَ مِنْ تقوى القلوب. والعائدُ على اسمِ الشرط من هذه الجملةِ الجزائيةِ مقدرٌ، وتقديرُه: فإنها مِنْ تَقَوى القلوب منهم. ومَنْ جوَّز إقامةَ أل مُقام الضميرِ ـ وهم الكوفيون ـ أجاز ذلِك هنا، والتقدير: مِنْ تقوى قلوبِهم، كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وقد تقدَّم تقريرُه. وقال الزمخشري: أي فإنَّ تعظيمَها من أفعالِ ذوي تقوى القلوبِ فحُذِفَتْ هذه المضافاتُ، ولا يَسْتقيمُ المعنى إلاَّ بتقديرِها؛ لأنه لا بُدَّ من راجعٍ من الجزاء إلى "مَنْ" لتَرْتَبِط به" قال الشيخ:
(10/389)
---(1/4245)
وما قَدَّره عارٍ من راجعٍ من الضميرِ من الجزاء إلى "مَنْ". ألا ترى أنَّ قولَه "فإنَّ تعظيمَها من أفعال ذوي تقوى القلوب" ليس في شيءٍ منه ضميرٌ يَرْجِعُ من الجزاء إلى "مَنْ" يربطه به. وإصلاحُه أن يقولَ: فإنَّ تعظيمَها منه، فالضميرُ في "منه" عائدٌ على "مَنْ".
والعامَّة على خفض "القلوب". وقُرىء برفعِها فاعلةً للمصدرِ قبلها وهو "تقوى".
* { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
[قوله: {فِيهَا}:] والضميرُ في "فيها" عائدٌ على الشعائر بمعنى الشرائع أي: لكم في التمسُّكِ بها، وقيل: عائدٌ بهيمةِ الأنعام.
* { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ }
قوله: {مَنسَكاً}: قرأ الأخَوان هذا وما بعده "مَنْسِكاً" بالكسر، والباقون بالفتح. فقيل: هما بمعنىً واحد. والمرادُ بالمَنْسَك مكانُ النُّسُكِ أو المصدرُ. وقيل: المكسورُ مكانٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. قال ابن عطية:"الكسرُ في هذا من الشاذِّ، ولا يَسُوغُ فيه القياس. ويُشْبِهُ أَنْ يكونَ الكسائيُّ سمعه من العرب". قلت: وهذا الكلامُ منه غير مَرْضِيّ: كيف يقول: ويُشْبه أَنْ يكنَ الكسائيُ سَمِعه. الكسائي يقول: قرأتُ به فكيف يحتاج إلى سماعٍ مع تمسُّكِه بأقوى السَّماعات، وهو روايتُه لذلك قرآناً متواتراً؟ وقوله: "من الشاذِّ" يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فيصحٌ في الاستعمال؛ وذلك أنَّ فَعَل يَفْعُل بضم العين في المضارع قياسُ المَفْعَل منه: أن تُفتَحَ عينُه مطلقاً أي: سواءٌ أُريد به الزمانُ أم المكانُ أم المصدرُ. وقد شَذَّتْ ألفاظُ ضَبَطها النحاةُ في كتبهم وذكرتُها أيضاً في هذا الموضوعِ.
(10/390)
---(1/4246)
* { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: يجوز أن يكونَ هذا الموصولُ في موضعِ جرٍّ أو نصبٍ أو رفعٍ. فالجرُّ من ثلاثةِ أوجهٍ: النعتُ للمُخْبِتِيْن، أو البدلُ منهم، أو البيانُ لهم. والنصبُ على المدحِ. الرفعُ على إضمار "هم" وهو مدحٌ أيضاً، ويُسَمِّه النحويون "قَطْعاً".
قوله: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ} العامَّةُ على خفضِ "الصلاةِ" بإضافةِ المقيمين إليها. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في روايةٍ بنَصْبِها على حذفِ النونِ تخفيفاً، كما يُحْذف التنوينُ لالتقاءِ السَاكنين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والأعمشُ بهذا الأصل: "والمقيمنَ الصلاةَ" بإثباتِ النونِ، ونصبِ "الصلاة". وقرأ الضحَّاكُ "والمقيمَ الصلاةَ" بميمٍ ليس بعدها شيء. وهذه لا تخالِفُ قراءةَ العامَّةِ لفظاً، وإنما تظهرُ مخالفتُها لها وَقْفاً وخَطَّاً.
* { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله: {وَالْبُدْنَ}: العامَّةُ على نصب "البُدْنَ" على الاشتغال. ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ. وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ، والجملةُ بعدها الخبرُ.
(10/391)
---(1/4247)
والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ. وقرأ الحسن ـ وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر ـ بضمِّها، وهما جمعان لـ"بَدَنَة" نحو: ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ. فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ، وأَنْ يكونَ أصلاً. وقيل: البُدُْ والبُدُنُ جمعُ بَدَن، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو: خَشَبة وخَشَب، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب./ وقيل: البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ. وقرأ ابنُ أبي إسحاق "البُدُنَّ" بضم الباء والدال وتشديد النون. وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه قرأ كالحسن، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم: "هذا فَرُخّْ" ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ في ذلك. ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل كـ عُتُلّ.
وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي: تُسَمَّنُ. وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك. قال الزمخشري: "والبُدْنُ: جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال: "البَدَنَةُ عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعة" فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبيلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ". وقيل لا تختصُّ، فقال الليث: البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي، ولا تقعُ على الشاة. وقال عطاءٌ وغيرُه: ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ. وقال آخرون: البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر. ويقال للسَّمين من الرجال. وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ.
قوله: {مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير.
(10/392)
---(1/4248)
قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الجلمةُ حالٌ: إمَّا من "ها" "جَعَلْناها"، وإمَّا مِنْ شعائر الله. وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في "فيها" هل هو عائدٌ على "البُدْن" أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ.
قوله: {صَوَآفَّ} نصبٌ على الحال أي: مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم "صَوافي" جمعَ صافِيَة أي: خالصةً لوجهِ الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ "صَوافياً". واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناةٍ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: ـ ذكره الزمخشري ـ وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف. يعني أنه وَقَفَ على "صَوافي" بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ، وهو الذي يُسَمِّه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم. والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ مالا يَنْصَرِفُ.
وقرأ الحسنُ "صَوافٍ" بالكسرِ والتنوين. وتوجيهُها: أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعوييَ التنوينِ نحو: هؤلاء جوارٍ"، ومررت بجوارٍ. وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم: "أعْطِ القوسَ بارِيْها" وقولِه:
3389ـ كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ * أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق
قوله:
3390ـ وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه.......... * ...........................
ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم "صَوافيْ" بياءٍ سكانةٍ من غيرِ تنوينٍ، نحو: "رأيتُ القاضيْ يا فتى" بسكون الياء. ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه.
(10/393)
---(1/4249)
وقرأ العبادلة ومجاهدُ والأعمش "صَوافِنْ" بالنون جمعَ "صَافِنَة" وهي التي تقومُ على ثلاثِ وطرفِ الرابعة، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}، وسيأتي، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً.
والوجوبُ: السُّقوطُ. وجَبَتِ الشَمسُ ِأي: سَقَطَتْ. ووجَبَ الجِدَارُ أي: سَقَطَ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا. وقال أوس بن حجر:
3391ـ ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّهارِ * والبدرُ للجبل الواجبِ
قوله: القانِعَ والمعتَّر" فيهما أقوالٌ. فالقانِعُ: السائل والمُعْتَرُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وقال قومٌ بالعكس. وقال ابن عباس: القانِعُ: المستغنى بما أعطيتَه، والمعترُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وعنه أيضاً: القانعُ: المتعفِّفُ، والمعترُّ: السائلُ. وقال بعضُهم: القانِعُ: الراضي بالشيءِ اليسيرِ. مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ. والقَنِعُ: بغير ألفٍ هو السَّائلُ. ذكره أبو البقاء. وقال الزمخشري: "القانِعُ: السَّائلُ. مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له. وسألتُه قُنُوْعاً. والمُعْتَرُّ: المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ، أو القانِعُ الراضي. وبما عندَه، وبما يُعْطَى، من غيرِ سؤالٍ. مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة. والمعترُّ: المعترض بالسؤال". انتهى. وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: قَنِضعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل، وقَناعة أي: تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها. وأنشد للشماخ:
3392ـ لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني * مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ
وقال ابن قتيبة: "المُعْتَرُّ: من غير سؤال. يُقال: عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي: أتاه طالباً معروفَه قال:
3393ـ لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا * لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ
وقوله الآخر:
3394ـ سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ * إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري
(10/394)
---(1/4250)
وقرأ أبو رجاء "القَنِع" دون ألف. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ أصلَها "القانِع" فَحَذَفَ الألف كما قالوا: مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في: مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط. والثاني: أن القانِعَ هو الراضي باليسير، والقَنِع: السائلُ، كما تقدَّم تقريره، قال الزمخشري:"والقَنِعُ: الراضي لا غير".
وقرأ الحسن: "والمعْتري" اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري. وقرأ إسماعيل ـ وتُروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً ـ "والمُعْتَرِ" بكسر الراء اجتزاءَ بالكسرة عن لامِ الكلمة.
وقُرِىء "المُعْتَرِيَ" بفتح الياء. قال أبو البقاء: "وهو في معناه" أي: معنى "المعترّ" في قراءة العامَّة.
و[قوله:] {كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا} الكافُ نعتٌ مصدرٍ أ و حالٌ من ذلك المصدرِ.
* { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }
وكذلك قوله: {كَذالِكَ سَخَّرَهَا}: و {لِتُكَبِّرُواْ}: متعلقٌ به. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} متعلقٌ بالتكبير. عُدَّيَ بـ"على" لتضمُّنِه معنى الشكر.
قوله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا}: العامَّةُ على القراءةِ بياءِ الغَيْبة في الفعلين؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي وقد وُجد الفصلُ بينهما. وقُرىء بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ . وقرأ زيد بن علي "لحومَها ولا دماءَها" بالنصب، والجلالةُ بالرفع، و"لكن يُنالُه" بضم الياء، على أن يكونَ القائمَ مقامَ الفاعلِ، "القتوى"، و"منكم" حالٌ من "التقوى"، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ "تَنالُه".
* { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوااْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }
(10/395)
---(1/4251)
قوله: {يُدَافِعُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو "يَدْفَعُ" والباقون "يُدافع". وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ فاعَلَ بمعنى فَعَل المجردِ نحو: جاوَزْته وجُزْتُه، وسافَرْتُ، وطارَقْتُ. والثاني: أنه أُخْرِجَ على زِنَةِ المُفاعلة مبالغةً فيه؛ لأنَّ فِعْلَ المفاعلةِ أبلغُ مِنْ غيره. وقال ابن عطية: "فَحَسُنَ دفاع لأنه قد عَنَّ للمؤمنين [مَنْ] يَدْفَعُهم ويؤذيهم فتجيء مقاومتُه ودَفْعُه عنهم مُدافَعَةً" يعني: فيُلْحَظُ فيها المفالةُ.
* { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }
قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ}: قرأه مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم. والباقون قرؤون مبنياً للفاعل. وأمَّا "يُقاتِلون" فقرأه مبنياً للمفعول نافع وابن عامر وحفص. والباقون مبنياً للفاعل. وحَصَلَ من مجموع الفعلين: أن نافعاً وحفصاً بَنَياهما للمفعول، وأنَّ ابنَ كثيرٍ وحمزةَ والكسائي بَنَياهما للفاعل، وأن أبا عمرو وأبا بكر بَنَيا الأول للمفعول والثاني للفاعل. وأن ابنَ عامر عكسُ هذا فهذِ أربعُ رُتَبٍ. والمأذونُ فيه محذوفٌ للعلمِ به أي: للذي يقاتَلون في القتال. و{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} متعلقٌ بـ"أّذِنَ" والباءُ سببيةٌ أي: بسبب أنهم مظلومومن.
* { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ}: يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ، نعتاً للموصول الأولِ أو بياناً له، أو بدلاً منه، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ.
(10/396)
---(1/4252)
قوله: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ، نحو: "ما زاد إلاَّ ما نقصَ"، "وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ". فو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان: النصبُ وهو لغةُ الحجاز، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدلُ نحو: "ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ"، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت: "الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله" لم يَصحَّ. الثاني: أنه في محلَّ جر بدلاً من حَقّ" قال الزمخشري: "أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخرادِ والتسييرِ. ومثلُه: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
(10/397)
---(1/4253)
}. وممَّنت جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال: "ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لايجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى الني. وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه. ولو قلت: "قام إلاَّ زيدٌ"، و"لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ" لم يجز. ولو قلت في غير القرآن: "أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ" لم يكن كلاماً. هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} في موضعِ جرٍّ بدلاً من "غير" المضاف إلى "حَقٍّ". وأمَّا إذا كان نبدلاً من "حق" كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غيةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي "غيراً" فيصير التركيبُ: بغير إلاَّ أَنْ يقولوا، وهذا لا يَصِحُّ، ولو قَدَّرْنا [إلاَّ] بـ"غير" كما/ يُقَدَّرُ في النفي في: "ما مررت بأحدٍ ألاَّ زيدٍ" فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ: بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ، فتكون قد أََفْتَ غيراً إلى "غير" وهي هي فيصير: بغير غير، ويَصِحُّّ في "ما ممرتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ" أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره: بغير موجبٍ سوى التوحيدِ، وهذا تمثيلُ للصفةِ جَعَلَ [إلاَّ] بمعنى سِوَى، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل. ويجوز أن تقولَ: "مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ" على الصفة لا على البدل".
قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ} قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين.
وقرأ "لَهُدِمَتْ" بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير. والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى أيضاَ.
(10/398)
---(1/4254)
والعامَّةُ على "صَلَواتٌ" بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ. وقرأ جعفر ابن محمد "وصُلُوات" بضمِّها. ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام. والجحدريُّ أيضاً "وصُلُوْت" بضمِّهما وسكونِ الواو، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ: صُلْب وصُلْوب.
والكلبيُّ والضحاكُ كذلك، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثِ مِنْ فوقها. والجحدريُّ ايضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا "صُلُوْثا" ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً. ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً "صُلْواث" بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً.
وقرأ عكرمة "صِلْوِيْثَى" بكسر الصاد وسكون اللام، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِيءَ "صِلْواث" بكسر الصاد وسكون اللام. بعدها واوٌ، بعدها ألف، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ.
وقرأ الجحدري "وصُلُوب" مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع "صليب"، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌ نحو: ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون، ورُوي عن أبي عمرو "صلواتُ" كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، المشهورُ منها واحدةٌ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة.
(10/399)
---(1/4255)
ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي: مواضع صلواتٍ، أو يُضَمَّن "هُدِّمَتْ" معنى "عُطِّلَتْ" فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه. وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ. والصلواتُ في الأمم ...... صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بَحَسٍَبِها. وظاهرُ كلام الزمخشري أنها نفسِها اسمُ مكان فإنه قال: "وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّ فيها. وقيل: هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا". انتهى.
وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل: هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ. ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ.
والصَّوامِعُ: جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ، وهو الحديدُ القولِ. ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة. وهي متعبِّد الرهبانِ لأنهم ينفردون. وقيل: متعبَّدُ الصَّابِئين.
والبِيَعُ: جمع بِيْعَة، وهي متعبَّدُ النصارى. وقيل: كنائس اليهود. والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى، والصَّلَواتِ لليهود، والمساجدَ للمسلمين.
{يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ} يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ "فيها" عليها، أو صفةً للمساجد فقط، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في "فيها" بها، والأولُ أظهر.
* { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }
(10/400)
---(1/4256)
قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ}: يجوزُ في هذا الموصولِ ما جاز في الموصولِ قبلَه. ويزيد هذا عليه: بأَنْ يجوزَ أن يكونَ بدلاً مِنْ "مَنْ يَنْصُرُه" ذكره الزجاج أي: ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ الذي إنْ مَكَّنَّاهم. وإنْ مَكَّنَّاهم" شرطٌ. و"أقاموا" جوابُه" والجُملةُ الشرطيةُ بأَسْرِها صلةُ الموصولِ.
* { وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
قوله: {نَكِيرِ}: النكيرُ مصدرٌ بمعنى الإنكار كالنَّذير بمعنى الإِنذار. وأثبتَ ياءَ "نَكيري" حيث وقع ورشٌ في الوصل، وحذفها في الوقف. والباقون بحذفِها وَصْلاً ووَقْفاً.
* { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }
قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: يجوز أن تكونَ "كأيِّنْ" منصوبةً المحل على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسره "أهلكناها" وأَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبر "أَهْلكناها". وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها.
قوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملةٌ حالية مِنْ هاء "أَهْلكناها".
قوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} عطفٌ على "أَهْلَكْناها"، فيجوزُ أن تكونَ في محلِّ رفعٍ لعطفِها على الخبر على القول الثاني، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ لعطفِها على الجملةِ المفسِّرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشريُّ بقوله: "والثانيةُ ـ يعني قولَه: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} ـ لا محلَّ لها لأنها معطوفةٌ على "أهلكناها"، وهذا الفعلُ ليس له محلٌ تفريعاً/ على القولِ بالاشتغالِ. وإلاَّ فإذا قلنا: إنه خبرٌ لـ"كأيِّن" كان له محلٌّ ضرورةً.
(10/401)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 11 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
وقرأ أبو عمروٍ "أهلكتُها". والباقون "أَهْلكناها" وهما واضحتان.(1/4257)
قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطفٌ على "قريةٍ"، وكذلك و"قَصْرٍ" أي: وكأيِّن من بئرٍ وقصرٍ أَهْلكناها أيضاً، هذا هو الوجهُ. وفيه وجهُ ثانٍ: أَنْ تكونَ معطفوةً وما بعدها على عروشِها" أي: خاوية على بئرْ وقصرٍ أيضاً. وليس بشيءٍ.
والبِئْرُ: مِنْ بَأَرْتُ الأرض أي حفرتُها. ومنه "التَّأْبِير" وهو شَقُّ ...... الطلع. والبئْر فِعْل بمعنى مَفْعول كالذِّبْح بمعنى المَذْبوح وهي مؤنثةٌ، وقد تُذَكَّرُ على معنى القليب. وقوله:
3395ـ .................. * وبِئْري ذو حَفَرْتُ وذو طَوَيْتُ
يَحتمل التذكيرَ والتأنيثَ. والمُعَطَّلَةُ: المُهْملة، والتعطيل: الإِهمال. وقرىء "مُعْطَلَةٍ" بالتخفيف يقال: أَعْطَلْتُ البئر وعَطَّلْتُها فَعَطَلَت بفتح الطاء، وأما عَطِلَتْ المرأةُ من الحُلِيَّ فبكسرِ الطاءِ. والمَشِيْدُ: قد تَقدَّم أنه المرتفعُ أو المُجَصَّصُ. وإنما بني هنا مِنْ شادَه، وفي النساء مِنْ شَيَّده؛ لأنه هناك بعد جمعٍ فناسَبَ التكثيرَ، وهنا بعد مفردٍ فناسَب التخفيفَ، ولأنه رأسُ آيةٍ وفاصلةٍ.
* { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
قوله: {فَتَكُونَ}: هو منصوبٌ على جوابِ الاستفهامِ. وعبارةُ الحوفي "على جوابِ التقريرِ". وقيل: على جوابِ النفيِِ، وقرأ مبشِّر بنُ عبيد "فيكونَ" بالياءِ من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ومتعلَّقُ الفعلِ محذوفٌ أي: ما حَلَّ بالأممِ السالفةِ.
(11/1)
---(1/4258)
قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى} الضميرُ للقصةِ. و{لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ} مُفَسِّرَةٌ له. وحَسَّنَ التأنيثَ في الضمير كونُه وَليَه فِعْلٌ بعلامةِ تأنيثٍ، ولو ذُكِّر في الكلامِ فقيل: "فإنه" لجازَ، وهي قراءةٌ مَرْوِيَّةٌ عن عبدالله، والتذكيرُ باعتبارِ الأمرِ والشأنِ. وقال الزمخشري: "ويجوزُ أن يكون ضميراً مُبْهماً يُفَسِّره "الأبصارُ" وفي "تَعْمَى" راجعٌ إليه". قال الشيخ: "وما ذكره لا يجوزُ لأن الذي يُفَسِّره ما بعدَه محصورٌ، وليس هذا واحداً منه: وهو من باب "رُبَّ"، وفي بباب نِعْم وبئس، وفي باب الإِعمال، وفي باب البدل، وفي باب المبتدأ والخبر، على خلافٍ في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسةُ الأَوَلُ تُفَسَّر بمفرد إلاَّ ضميرَ الشأنِ، فإنه يُفَسَّر بجملةٍ، وهذا ليس واحداً من الستة".
قلت: بل هذا من المواضع المذكورةِ، وهو باب المبتدأ. غايةُ ما في ذلك أنه دَخَلَ عليه ناسخٌ وهو "إنَّ" فهو نظيرُ قولِهم: "هي العروبُ تقول ما شاءَتْ، وهي النفسُ تتحمَّل ما حَمَلْتْ" وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا}. وقد جعل الزمخشريُّ جميعَ ذلك مِمَّا يُفَسَّر بما بعده، ولا فرقَ بين الآيةِ الكريمةِ وبين هذه الأمثلةِ إلاَّ دخولُ الناسخِ و لا أثرَ له، وعَجِبْتُ من غَفْلَةِ الشيخ عن ذلك.
(11/2)
---(1/4259)
قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ. وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري: "الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العَمى في الحقيقة كانُه البصرُ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ. فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العَمَى إلى القلوبِ حقيقةً، ونفيُه عن الأبصارِ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ، كما تقولُ: ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ. فقولُك:"الذي بين فَكَّيْكَ" تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتُ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لاغير، وكأنَّك قلتَ: ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بيعنه تَعَمُّداً.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه: "تَعَمَّدْتُ به إياه" وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ، وليس من مواضعِ فَصْلِه، وكان صوابُه أن يقول: تعمَّدْتُه به كما تقول: "السيفُ ضربتُك به" لا "ضربْتُ به إياك". قلت: وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ}: وهو أنه ـ مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ ـ يمتنعُ اتصالُه، وأيُّ خطأ في مثل هذه حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
(11/3)
---(1/4260)
وقال الإِمامُ فخر الدين : "وفيه عندي وجهُ آخرُ: وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ". وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال : هو مبالغةٌ كما تقول: نظرتُ إليه بعيني، كقوله: يقولون بأَفْواههم". قلت: وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله "بأفواههم" زيادةً على التأكيد.
* { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }
قوله: {مِّمَّا تَعُدُّونَ}: قرأ الأخَوان وابن كثير "يَعُدُّون" بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطاب وهما واضحتان.
* { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ}: قد تقدَّم نظيرُها. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ عُطِفَتْ الأولى بالفاء، وهذه الواو؟ قلت الأولى وَقَعَتْ بدلاً مِنْ قولِه {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} و[أمَّا] هذه فحكمُها حكمُ الجملتين قبلها المعطوفَتَيْن بالواو، أعني قلوَه {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}.
* { وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِيا آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
قوله: {مُعَاجِزِينَ}: قرأ أبو عمرو وابن كثير بالتشديد في الجيم هنا، وفي حرفَيْ سبأ، والباقون "مُعاجزين" في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن وابن الزبير: "مُعْجِزين" بسكون العين.
(11/4)
---(1/4261)
فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدُهما: قال الفارسي: معناه: ناسِبين أصحابَ النبيَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى العَجْز نحو: فَسَّقْتُه أي نَسَبْتَه إلى الفسق". والثاني: أنها للتكثير. ومعناها: مُثَبِّطِيْنَ الناسَ عن الإِيمان. وأمَّا الثانيةُ فمعناها: ظانِّين أنهم يَعْجِزوننا. وقيل: معاندِين. وقال الزمخشري: "عاجَزَه: سابقَه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما في طَلَب إعجازِ الآخرِ عن اللِّحاق به. فإذا سبقه قيل: أعجزه وعَجَزه. فالمعنى: سابقين أو مُسابقين في زعمهم وتقديرِهم طامِعين أنَّ كيدَهم للإِسلامِ يَتِمُّ لهم. والمعنى: سَعَوا في معناها بالفسادِ". وقال أبو البقاء: إنَّ معاجزين في معنى المُشَدَّدِ، مثلَ عاهَدَ وعَهَّد. وقيل: عاجَزَ سابَقَ، وعَجَز سَبَق".
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِيا أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ}: في هذه الجملةِ بعد "إلاَّ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من "رسول" والمعنى: وما أَرْسَلْناه إلاَّ حالُهُ هذه، والحالُ محصورةً. الثاني: أنها في محلِّ الصفةِ لـ"رسول"، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعها بالجرِّ باعتبارِ لفظِ الموصوف، وبالنصبِ باعتبارِ محلِّه؛ فإنَّ "مِنْ" مزيدةٌ فيه . الثالث: أنَّها في موضعِ استثناءٍ من غيرِ الجنس. قاله أبو البقاء. يعني أنه استثناءٌ منطقعٌ.
(11/5)
---(1/4262)
و"إذا" هذه يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفيُّ، وأَنْ تكونَ لمجردِ الظرفية. قال الشيخ: "ونَصَّوا علىأنَّه يَليها في النفي ـ يعني "إلاَّ" ـ المضارعُ بلا شرطٍ نحو: ما زيدٌ إلاَّ يفعلُ، وما رأيتُ زيداً إلاَّ يفعلُ، والماضي بشرطِ تقدُّم فِعلٍ نحو: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} أو مصاحبةِ قد [نحو:] "ما زيدٌ إلاَّ قد فعل". وما جاء بعد "إلاَّ" في الآية جملةُ شرطية، ولم يَلِها ماضٍ مصحوبٌ بـ"قَدْ" ولا عارٍ منها. فإنْ صَحَّ ما نَصُّوا عليه يُؤَوَّل على أنَّ "إذا" جُرِّدَتْ للظرفية ولا شرطَ فيه وفُصِل بها بين "إلاَّ" والفعلِ الذي هو"أَلْقى"، وهو فصلٌ جائز، فتكونُ "إلاَّ" قد وَلِيها ماضٍ في التقديرِ ووُجِد شرطُه: وهو تقدُّم فعلٍ قبل "إلاَّ" وهو "وما أَرْسَلْنا".
قلت: ولا حاجةَ إلى هذا التكليفِ المُخْرِجِ للآيةِ عن معناها. بل هو جملةٌ شرطيةٌ: إمَّا حالٌ، أو صفةٌ، أو استثناء، كقوله: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ} وكيف يُدَّعى الفصلُ بها وبالفعلِ بعدَها بين "إلاَّ" وبين "ألقى" مِنْ غير ضرورةٍ تدعو إليه ومع عدم صحةِ المعنى؟
وقوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى}: إنما أُفْرِد الضميرُ، وإن تقدَّمه شيئان معطوفٌ أحدُهما على الآخر بالواو؛ لأنَّ في الكلام حذفاً تقديرُه: وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إلاَّ إذا تمنَّى ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنَّى كقولِه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}. والحذفُ: إمَّا من الأول أو من الثاني.
والضميرُ في "أُمْنِيَّتِه" فيه قولان، أحدُهما: ـ وهو الذين ينبغي أن يكونَ ـ أنه ضميرُ الشيطان. والثاني: أنه ضميرُ الرسولِ، ورَوَوْا في ذلك تفاسيرَ اللهُ أعلم بصحتها.
(11/6)
---(1/4263)
* { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
قوله: {لِّيَجْعَلَ}: في متعلِّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها متعلقةٌ بـ"يُحْكِم" أي: يُحْكِم اللهُ آياتِه ليجعلَ. وقولُه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} جملةُ اعتراضٍ. واليه نحا الحوفيُّ. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"يَنْسَخُ" وإليهع نحا ابن عطية. وهو ظاهرٌ أيضاً. الثالث: أنها متعلقةٌ بأَلْقَى، وليس بظاهر. وفي اللامِ قولان، أحدهما: أنها للعلةِ، والثاني: أنها للعاقبةِ. و"ما" في قولِه {مَا يُلْقِي} الظاهرُ: أنَّها/ بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.
قوله: {وَالْقَاسِيَةِ} أل في "القاسية" موصولةٌ، والصفةُ صلتُها، و"قلوبهم" فاعلٌ بها، والضميرُ المضافُ إليه هو عائدُ الموصول وأُنِّثَتْ الصلةُ لأنَّ مرفوعَها مؤنثُ مجازي، ولو وُضع فعلٌ موضعَها لجاز تأنثيُه. و"القاسيةِ" معطوفٌ على "الذين" أي: فتنةً للذين في قلوبِهم مَرَضٌ وفتنةً للقاسيةِ قلوبُهم.
قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} مِنْ وَضْع الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ؛ إذ الأصلُ: "وإنهم في ضلال" ولكن أُبْرِزُوا ظاهرين للشهادةِ عليهم بهذه الصفةِ الذَّميمةِ.
* { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوااْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ}: عطفٌ على "ليجعلَ" عطفَ علةٍ على مثلِها. والضميرُ في "أنَّه" فيه قولان، أحدهما ـ وإليه ذهب الزمخشري ـ أنه عائدٌ على تمكينِ الشيطانِ أي: ليَعْلَمَ المؤمنون ِأن تمكينَ الشيطانِ هو الحق. الثاني ـ وإليه نحا ابن عطية ـ أنه عائدٌ على القرآنِ. وهو وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ فهو في قوة المنطوق.
(11/7)
---(1/4264)
قوله: {فَيُؤْمِنُواْ} عطفٌ على "وليعلمَ" و"فَتُخْبِتَ" عطفٌ عليه. وما أحسنَ ما وقعَتْ هذه الفاءاتُ.
وقرأ العامَّةُ "لهادِيْ الذين" بالإِضافةِ تخفيفاً. وابنُ أبي عبلة وأبو حيوةَ بتنوينِ الصفةِ وإعمالِها في الموصول.
* { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ }
والمرِْيَةُ والمُرْيَةُ بالكسر والضم لغتان مشهروتان. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنهما قراءتان، ولا أحفظ الضم هنا. والضمير في "منه" قيل: يعودُ على القرآن. وقيل: على الرسول. وقيل: على ما ألقاه الشيطان.
قوله: {عَقِيمٍ} العَقيم: من العُقْم. وفيه قولان، أحدهما: أنه السَّدُّ يقال: امرأةٌ مَعْقُومَةُ الرَّحِمِ أي: مسدودتُه عن الولادة. وهذا قول أبي عبيد. والثاني: أن أصلَه القطعُ. ومنه "الملُلْك عَقيم" أي: لأنه يقطع صلةَ الرحم بالتزاحُمِ عليه. ومنه العقيمُ لانقطاع ولادِتها. العُقْم: انقطاعُ الخير، ومنه "يومٌ عقيم". قيل: لأنَّه لا ليلةَ بعده ولا يومَ فشُبِّه بمَنْ انقطع نَسْلُه. هذا إنْ أريد به يومُ القيامة. وإن أريد به يومُ بدرٍ فقيل: لأنَّ أبناءَ الحربِ تُقْتَلُ فيه، فكأنَّ النساء لم تَلِدْهُنَّ، فيكُنَّ عُقُماً. ويقال: رجل عقيم وامرأة عقيمة أي: لا يُولد لهما، والجمعُ عُقُم.
* { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
قوله: {يَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بما تَضَمَّنه "لله" من الاستقرارِ لوقوعه خبراً. و"يَحْكم" يجوزُ أن يكونَ حالاً من اسم الله، وأن يكون مستأنفاً. والتنوينُ في "يومئذٍ" عوضٌ من جملة فقدَّرها الزمخشري: "يوم يؤمنون" وهو لازمٌ لزوال المِرْيَةِ. وقدَّره أيضاً "يوم تزولُ مِرْيَتُهم".
(11/8)
---(1/4265)
* { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ}: مبتدأ. وقوله: {فَأُوْلَائِكَ} وما بعده خبرُه. ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ تضمُّنِ المبتدأ معنى الشرطِ بالشرطِ المذكور. و"لهم" يُحتمل أن يكونَ خبراً عن "أولئك". و"عذاب" فاعلٌ به لاعتمادِه على المخبرِ عنه، وإن يكونَ خبراً مقدَّماً، وما بعده مبتدأُ، والجملةُ خبرُ "أولئك".
* { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوااْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
قوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ}: جوابُ قَسَمٍ مقدرٍ. والجملةُ القسميةُ وجوابُها خبرُ قولِه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ}, وفيه دليلٌ على وقوعِ الجملةِ القسَميةِ خبراً لمبتدأ. ومَنْ يَمْنَعُ يُضْمِرْ قولاً ه والخبر تُحكى به هذه الجملةُ القَسَمية. وهو قولٌ مرجوح.
قوله: {رِزْقاً} يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرَّعْي والذِّبْح أي: مرزوقاً حسناً، وأَنْ يكونَ مصدراً مؤكَّداً. وقوله: {ثُمَّ قُتِلُوااْ} وقوله "مُدْخَلاً" قد تقدم الخلافُ في القراءةِ بهما في آل عمران والنساء.
* { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
والجملُ مِنْ "لَيُدْخِلَنَّهُمْ" يجوزُ أن تكونَ بدلاً مِنْ "لَيَرْزُقَنَّهم"، وأن تكونَ مستأنفةً.
* { ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
(11/9)
---(1/4266)
قوله: {ذالِكَ}: خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك. وما بعده مستأنفٌ. الباء في قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} للسبيةِ في الموضعين. قاله أبو البقاء. الذين يظهر أن الأُولى يُشبه أن تكونَ للآله. و{وَمَنْ عَاقَبَ} مبتدأ، خبرُه {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ}.
* { ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
قوله: {ذالِكَ}: مبتدأ، و{بِأَنَّ اللَّهَ} خبرُه أي: ذلك النصر بسببِ أنَّ الله يُوْلج.
وقرأ العامَّةُ و"أنَّ ما" عطفاً على الاولى, والحسن بكسرِها استنافاً.
* { ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
قوله: {هُوَ الْحَقُّ}: يجوز أَنْ يكونَ فَصلآً ومبتدأً. وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ توكيداً. وبه بدأ. وهو غلط؛ لأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ المُظْهَرَ، ولكان صيغةُ النصبِ أَوْلَى به من الرفعِ فيُقال: إياه" لأنَّ المتبوعَ منصوبٌ.
وقرأ الأخَوان وحفصٌ وأبو عمروٍ هنا وفي لقمان "يَدْعُون" بالياء من تحتُ. الباقون بالتاءِ من فوقُ. والفعلُ مبنىٌّ للفاعلِ. وقرأ مجاهدٌ واليماني بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول. والواوُ التي هي ضميرٌ تعودُ على "ما" على معناها والمرادُ بها الأصنامُ أو الشياطينُ.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
(11/10)
---(1/4267)
قوله: {فَتُصْبِحُ}: فيه قولان، أحدهما: أنه مضارعٌ لفظاً ماضٍ معنى، تقديرُه فأصبحَتْ، فهو عطفٌ على أَنْزَل. قاله أبو البقاء. ثم قال بعد أن عطف على "أَنْزل": "فلا موضعَ له إذن" وهو كلامٌ متهافِتٌ؛ لأنَّ عَطْفَه على "أَنْزَلَ" يَقْتضي أن يكونَ له محلٌّ من الإِعرابِ: وهو الرفعُ خبراً لـ"أنَّ"، لكنه لا يجوزُ لعدم الرابطِ. والثاني: أنه على بابِه، ورَفْعُه على الاستئنافِ. قال/ أبو البقاء: "فهي أي الصقة، وتُصْبِحُ الخبر". قلت: ولا حاجةَ إلى تقديرِ مبتدأ، بل هذه جملةٌ فعليةٌ مستأنفةٌ، ولا سيما وقَدَّر المبتدأ ضميرَ القصة ثم حذفه وهو لا يجوز؛ لأنه لا يُؤْتى بضميرِ القصة إلاَّ للتأكيدِ والتعظيم، والحذفُ يُنافيه.
قال الزمخشري: "فإن قلتَ: هلا قيل: فَأَصْبحت، ولِمَ صُرِفَ إلى لفظِ المضارع؟ قلت: لنكتةٍ فيه: وهي إفادةُ بقاءِ أثرِ المطرِ زماناً بعد زمانٍ كما تقول: أنعم عليَّ فلانٌ عامَ كذا فأرُوْح وأَغْدوا شاكراً له. ولو قلت: رُحْتُ وغَدَوْتُ لم يَقَعْ ذلك الموقعَ. فإن قلت: فما له رُفِعَ ولم يُنْصَبْ جواباً للاستفهام؟ قلت: لو نُصِب لأعطى عكسَ الغرضِ لأنَّ معناه إثباتُ الاخضرارِ، فينقلبُ بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقولَ لصاحبِك: ألم تَرَ أني أنعمتُ عليك فتشكر" إن نَصَبْتَ فأنتَ نافٍ لشكره شاكٍ تفريطَه [فيه]، وإن رَفَعْتَه فأنت مُثْبِتٌ للشكرِ، وهذا وأمثالُه ممَّا يجب أَنْ يَرْغَبَ له من اتَّسم بالعلم في علم الإِعراب وتوقير أهله". وقال ابنُ عطية: "قوله: "فتصبحُ" بمنزلة قوله فتضحى أو تصير، عبارةٌ عن استعجالِها إثْرَ نزولِ الماءِ واستمرارها لذلك عادةً. ورَفْعُ قولِه "فتُصْبِحُ" من حيث الآيةُ خبرٌ، والفاء عاطفةٌ وليسَتْ بجواب، لأنَّ كونَها جواباً لقوله: {أَلَمْ تَرَ} فاسدُ المعنى".
(11/11)
---(1/4268)
قال الشيخ: "ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصبُ نافياً للاخضرار، إلاَّ كونَ المعنى فاسداً؟ قال سيبويه: "وسألتُه ـ يعني الخليل ـ عن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فقال: هذا واجبٌ وتنبيه. وكأنك قلت: أتسمعُ أنزل اللهُ من السماءِ ما ء فكان كذا وكذا". قال بان خروف: وقوله: "هذا واجبٌ" وقوله: "فكان كذا" يريدُ أنهما ماضيان، وفَسَّر الكلام بـ"أستمع ليريَكَ أنه لا يتصل بالاستفهام لضعفِ حكمِ الاستفهامِ فيه. وقال بعضُ شُرَّاح الكتاب: "فتصبحُ" لا يمكن نصبُه؛ لأنَّ الكلامَ واجب. ألا ترى أن المعنى: أن اللهَ أنزلَ، فالأرضُ هذه حالُها. وقال الفراء: "ألم تَرَ" خبرٌ كما تقولُ في الكلام: علم أنَّ الله يفعل كذا فيكون كذا". ويقول: "إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا؛ لأنَّ النفيَ إذا دخل عليه الاستفهامُ، وإن كان يقتضي تقريراً في بعضِ الكلام هو مُعامَلٌ معاملةَ النفيِ المَحْضِ في الجوابَ". ألا ترى إلى قولِه تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} وكذلك الجوابُ بالفاءِ إذا أَجَبْتَ النفيَ كان على معنيين في كل منهما يَنْتفي الجوابُ. فإذا قلت: "ما تأتِيْنا فتحدِّثَنا" بالنصب، فالمعنى: ما تأتينا محدِّثاً، وإنما تأتينا ولا تحدث. ويجوزُ ِأن يكون المعنى: أنك لا تأتي فكيف تحدّثُ؟ فالحديثُ منتفٍ في الحالتين، والتقريرُ بأداةِ الاستفهام كالنفي المَحْض في الجواب يُثْبت ما دَخَلْتْه الهمزةُ، وينتفي الجوابُ، فيلزَمُ من هذا الذي قَرَّرْناه إثباتُ الرؤيةِ وانتفاءُ الاخضرارِ، وهو خلافُ المقصودِ. وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ السابقِ شَرْطٌ وجزاءٌ كقوله:
3396ـ ألم تَسْألْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسومُ * .......................
(11/12)
---(1/4269)
يتقدر: إنْ تسألْ تخبرْك الرسوم، وهنوا لاي تقدَّر: إنْ تَرَ إنزالَ المطر تصبح الأرضُ مخضرةً؛ لأنَّ اخضرارَها ليس مترتباً على عِلْمِك أو رؤيتِك، إنما هو مترتبٌ على الإِنزال وإنما عَبَّر بالمضارعِ؛ لا، فيه تصويراً للهيئة التي الأرضُ عليها والحالةِ التي لا بَسَتِ الأرضَ، والماضي يفيد انقطاعَ الشيءِ. وهذا كقولِ جَحْدَرِ بنِ مَعُونة يصف ح اله مع أشدِّ نازلةٍ في قصةٍ جَرَتْ له مع الحجاج ابن يوسف الثقفي، وهي أبياتٌ فمنها:
3397ـ يَسْمُوا بناظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فيهما *لِما أَجالهما شعاعَ سِراج
لَمَّا نَزَلْتُ بحُصْنِ أَزْبَرَ مُهْصِرٍ *للقِرْن أرواحَ العدا مَجَّاجِ
فأكرٌّ أحملُ وهو يُقعي باسْته *فإذا يعودُ فراجعٌ أدراجي
وعلمْتُ أني إنْ أَبَيْتَ نِزالَه *أني من الحَجَّاج لستُ بناجي
فقوله: "فاكرٌّ" تصويرٌ للحالةِ التي لا بَسَها".
قلت: أمَّا قولُه "وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ" إلى قولِه: "إنما هو مترتِّبٌ على الإِنزال" منتزعٌ مِنْ كلامِ أبي البقاء. قال أبو البقاء: "إنما رُفع الفعلُ هنا وإنْ كان قبلَه استفهامٌ لأمرين، أحدهما: أنه استفهامٌ بمعنى الخبر أ ي: قد رأيت، فلا يكون له جوابٌ. الثاني: أنَّ ما بعدَ الفاءِ ينتصِبُ إذا كان المستفهمُ عنه سبباً له، ورؤيته لإِنزالِ الماءِ لا يُوْجِبُ اخضرارَ الأرض، وإنما يجبُ عن الماء" وأمَّا قولُه: "وإنما عَبَّر بالمضارع" فهو معنى كلامِ الزمخشري بعينه، وإنما غَيَّر عبارتَه وأَوْسَعَها.
(11/13)
---(1/4270)
وقوله: "فتصبحُ" استدلَّ به بعضُهم على أن الفاءَ لا تقتضي التعقيبَ قال: "لأنَّ اخضرارَها متراخٍ عن إنزالِ الماء، هذا بالمشاهدةِ". وقد أُجيب عن ذلك بما نقله عكرمةٌ: مِنْ أَنَّ أرضَ مكة وتهامةَ على ما ذُكر، وأنها تُمْطِرُ الليلةَ فتصبح الأرضُ غُدْوَةً خَضِرةً، فالفاءُ على بابها. قال ابن عطية: "وشاهَدْتُ هذا في السُّوس الأقصى، نَزَل المطر ليلاً بعد قَحْط، فأصبحت تلك الأرضُ الرَّمِلةُ التي تَسْفيها الرياحُ قد اخضرَّت بنباتٍ ضعيف" وقيل: تراخي كلِّ شيء بحَسَبه. وقيل: ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ قبل الفاءِ تقديره: فتهتَزُّ وتَرْبُو وتَنْبُتُ فتصبحُ. يبيِّنُ ذلك قولُه: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} وهذا من الحذفِ الذي يَدُلُّ عليه فَحْوَى الكلام كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}. إلى آخر القصة.
و"تُصْبِحُ" يجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ، وأَنْ تكونَ التامَّة. و"مُخْضَرَّةً" حالٌ. قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ عن المعنى إذ يصير التقديرُ: فَتَدخُلُ الأرضُ في وقتِ الصباح على هذه الحالِ. ويجوزُ فيها أيضاً أن تكونَ على بابِها من الدلالةِ على اقترانِ مضمونِ الجملة بهذا الزمنِ الخاصِّ. وإنما خَصَّ هذا الوقتَ لأن الخضرةَ والبساتينَ أبهجُ ما تُرى فيه. ويجوزُ أن تكونَ بمعنى تَصير.
وقرا العامَّةُ بضمِّ الميم وتشديدِ الراء اسمَ فاعلٍ، مِنْ اخْضَرَّت فيه مُخْضَرَّةٌ. والأصلُ مُخْضَرِرَة بكسر الراء الأولى، فأُدْغِمَتْ في مثلها. وقرأ بعضُهم "مَخْضَرَة" بفتح الميم وتخفيفِ الراء بزنة مَبْقَلَة ومَسْبَعَة. ولامعنى: ذات خُضْرَواتٍ وذات سِباعٍ وذات بَقْلٍ.
(11/14)
---(1/4271)
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {وَالْفُلْكَ}: العامَّةُ على نصبِ "الفلك" وفيه وجهان، أحدهما: أنها عطفٌ على {مَّا فِي الأَرْضِ} أي: سَخَّر لكم ما في الأرض، وسَخَّر لكم الفلك. وأفردها بالذِّكْرِ، وإن انْدَرَجَتْ بطريقِ العمومِ تحت "ما". ومن قوله: {مَّا فِي الأَرْضِ} لظهورِ الامتنانِ بها ولعجيب تسخيرِها دونَ سائر المُسَخَّرات. و"تَجْري" على هذا حال. الثاني: أنها عَطْفٌ على الجلالة بتقدير: ألم تَرَ أن الفلكَ تَجْري في البحر، فتجري خبرٌ على هذا.
وضمَّ لامَ "الفُلُكَ" هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن، وهي قراءةُ ابن مقسم. وقرأ أبو عبدالرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع "والفلكُ" على الابتداء وتجري بعد الخبر. ويجوز أن يكونَ ارتفاعُه عطفاً على محلِّ اسم "أنَّ" عند مَنْ يُجَوِّز ذلك نحو: "إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان" وعلى هذا فـ"تجري" حال أيضاً. و"بأمرِه" الباءُ/ للسببية. قوله: {أَن تَقَعَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ تقديرُه: من أن تقعَ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ فقط؛ لأها بدلٌ من "السماء" بدلُ اشتمالٍ. أي: ويُمْسِكُ وقوعَها يَمْنَعُه. الثالث: أنها في محلِّّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجلِه، فالبصريون يقدِّرون: كراهَة أن تقعَ. والكوفيون: لئلا تقعَ.
(11/15)
---(1/4272)
قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} في هذا الجارِّ وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بـ"تقعَ" أي: إلاَّ بإذنه فتقع. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بيُمْسِكُ. قال ابن عطية: "ويحتمل أَنْ يعودَ قولُه {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} على الإِمساك، لأنَّ الكلامَ يَقْتضي بغير عَمَدٍ ونحوَه،ـ كأنه أراد: إلاَّ بإذنِه فبه يُمْسِكها" قال الشيخ: "ولو كان على ما قال لكان التركيبُ: بإذنِه، دونَ أداةِ الاستثناءِ. ويكونُ التقديرُ: ويُمْسِك السماءَ بإذنه".
قلت: وهذا الاستثناءُ مُفَرَّغٌ، ولا يقعُ في موجَبٍ، لكنه لَمَّا كان الكلاُ قبلَه في قوةِ النفي ساغَ ذلك، إذ التقديرُ: لا يَتْرُكُها تقعُ إلاَّ بإذنه. والذي يظهرُ أنَّ هذه الباءَ حاليةٌ أي: إلاَّ ملتبسةً بأمرِه.
* { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ }
قوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ}: هذه الجلمةُ صفةٌ لـ مَنْسَكاً. وقد تقدَّم أنه يُقْرَأُ بالفتح والكسر. وتقدَّم الخلافُ فيه: هل هخو مصدرٌ أو مكانٌ؟ وقال ابنُ عطية: "ناسِكوه يُعطي أنَّ المَنْسَك المصدرُ، ولو كان مكاناً لقال: ناسِكون فيه" يعني أنَّ الفعلَ لا يَتَعَدَى إلى ضمير الظرفِ إلاَّ بواسطةِ "في". وما قاله غيرُ لازمٍ؛ لأنه قد يُتَّسع في الظرف فيجري مَجْرَى المفعولِ به، فيصِلُ الفعلُ إلى ضميرِه بنفسه، وكذا ما عَمِلَ عَمَلَ الفعل. ومن الاتِّساع في ظرفِ الزمان قوله:
3398ـ ويومٍ شَهِدْنَاه سُلَيْمَى وعامراً * قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
ومن الاِّتساع في ظرفِ المكان قولُه:
3399ـ ومَشْرَبٍ أَشْرَبُه وَشِيْلِ * لا أَجِنِ الطَّعْمِ ولا وَبِيْلِ
يريد: أشرب فيه.
(11/16)
---(1/4273)
قوله: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ} وقُرِىء بالنون الخفيفة. وقرأ أبو مجلز: "فلا يَنْزِعُنَّك" مِنْ كذا أي: قَلَعْتُه منه. وقال الزجاج: "هو مِنْ نازَعْتُه فَنَزَعْته أنْزَعُه أي: غَلَبْتُهُ في المنازَعَة". ومجيءُ هذهِ الآيةِ كقولِه تعالى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} وقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا. وهنا جاء قولُه {لِّكُلِّ أُمَّةٍ} من غير واوٍ عطفٍ، بخلافِ ما تَقَدَّم مِنْ نظيرتِها فإنها بواوِ عطفٍ. قال الزمخشري: "لأنَّ "تلك" وَقَعَتْ مع ما يُدانيها ويناسِبُها من الآيِ والواردةِ في أمر النسائِكِ، وفَعُطِفَتْ على أخواتها، وأمَّا هذه فواقعةٌ مع أباعدَ مِنْ معناها فلم تجد مَعْطَفاً.
* { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله: {تَعْرِفُ}: العامَّةُ على "تَعْرِف" خطاباً مبنياً للفاعل. "المُنْكَرَ" مفعول به. وعيسى بن عمر "يُعْرَفُِ" بالياءِ من تحتُ مبنياً للمفعول، و"المنكرُ" مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. والمُنْكَرُ اسمُ مصدرٍ بعنى الإِنكارِ. وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} من إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ للزيادةِ عليهم بذلك.
قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} هذه حالٌ: إمَّا مِنَ الموصولِ، وإنْ كان مضافً إليه، لأنَّ المضافَ جزؤُه، وإمَّا من الوجوه لأنها يُعَبَّر بها عن أصحابِها، كقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} ثم قال: "أولئك هم". و"يَسْطُون" ضُمِّن معنى يَبْطِشُون فيُعَدَّى تعديَته، وإلاَّ فهو متعدٍّ بـ على يُقال: سَطا عليه. أصلُه القهرُ والغَلَبَةُ. وقيل: إظهارُ ما يُهَوِّلُ للإِخافةِ. ولفلان سَطْوَةٌ أي: تَسَلُّطٌ وقهرٌ.
(11/17)
---(1/4274)
قوله: "النار" يُقرأ بالحركاتِ الثلاث: فالرفعُ مِنْ وجهين. أحدُهما: الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ مِنْ "وَعَدَها الله" والجملةُ لا محلَّ لها فإنها مفسِّرةٌ للشرِّ المتقدِّمِ. كأنه قيل: ما شَرٌّ من ذلك. فقيل: النارُ وعدها الله. والثاني: أ،ها خبرُ مبتدأ مضمرٍ كأنه قيل: ما شرُّ من ذلك؟ فقيل: النارُ أي: هو النارُ، وحنيئذٍ يجوزُ في "وعدها الله" الرفعُ على كونِها خبراً بعد خبرٍ.
وأُجيز أن تكون بدلاً من "النار". وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ المُبْدَلَ منه مفردٌ. وقد يُجاب عنه: بأنَّ الجملةَ في تأويلِ مفردٍ، وتكونُ بدلَ اشتمالٍ. كأنه قيل النارُ وعدها اللهُ الكفارَ. وأجيز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها. ولا يجوزُ ِأَنْ تكونَ حالً. قال ابو البقاء: "لأنه فيثس في الجملةِ ما يَصْلُح أَنْ يَعْمَلَ في الحال". وظاهرُ نَقْلِ الشيخ عن الزمخشري أنه يُجيز كونَها حالاً فقال: "وأجاز الزمخشريُّ اَنْ تكونَ "النار" مبتدأً، و"وعدَها" خبرُ، وأَنْ يكونَ حالاً على الإِعرابِ الأول". انتهى. والإِعرابُ الأولُ هو كونُ "النار" خبرَ مبتدأ مضمرِ. والزمخشريُّ لم يجعَلْها حالاً إلاَّ إذا نَصَبْتَ "النار" أو جَرَرْتَها بإضمار "قدم" هذا نصُّه. وإنما مَنَعَ ذلك لِما تقدَّم من قولِ أبي البقاء، وهو عدمُ العاملِ.
والنَصبُ ـ وهو قراءةُ زيدِ بن علي وابن أبي عبلة ـ من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الفعلُ الظاهرُ، والمسألةُ من الاشتغال. الثاني: أنها مصنوبةٌ على الاختصاصِ، قاله الزمخشري. الثالث: أن ينتصبَ بإضمارِ أعني، وهو قريبٌ ممَّا قبله أو هو هو.
/ والجرُّ ـ وهو قراءةُ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح على البدل مِنْ "شر".
(11/18)
---(1/4275)
والضميرُ في "عدها". قال الشيخ: "الظاهرُ أنَّه هو المفعولُ الأولُ على أنَّه تعالى وَعَدَ النارَ بالكفار أن يُعطْعِمَها إيَّاهم، ألا ترى إلى قولِه تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}, ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ هو المفعولَ الثاني، و{الَّذِينَ كَفَرُواْ} هو المفعولَ الأولَ كما قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ}. قلت: ينبغي أن يتعيَّنَ هذا الثاني؛ لأنَّه متى اجتمع بعدما يتعدَّى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارةً عن الأول، فالفاعلُ المعنويُّ رتبتُه التقديمُ وهو المفعولُ الأولُ. ونعني بالفاعلِ المعنويِّ مَنْ يتأتَّى منه فِعْلٌ. فإذا قلتَ: وَعَدْتُ زيداً ديناراً فالدينار هو المفعول؛ لأنه لا يتأتَّى من فِعْلٌ، وهو نظير: أعطيت زيداً درهماً" فـ"زيدٌ" هو الفاعلُ لأنه آخذُ للدرهم.
قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المخصوصُ محذوفٌ. تقديرُه: وبئس المصيرُ هي النارُ.
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }
قوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ}: قال الأخفش: "ليس هنا مَثَلٌ، وإنما المعنى: جَعَلَ الكفارُ للهِ مثلاً" وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: الذي جاء به ليس مَثَلاً فكيف سَمَّاه مَثَلاً؟ قلت: قد سُمِّيَتِ الصفةُ والقصةُ الرائعةُ المتلقَّاةُ بالاستحسانِ والاستغرابِ مثلاً؛ تشبيهاً لها ببعض الأمثالِ المسيِّرةِ لكونِها مستغربةً مستحْسنةً". وقال غيره: هو مَثَلٌ" من حيث المعهنى؛ لأنه ضُرِب مثلُ مَنْ يعبد الأصنامَ بمن يعبد ما لا يخلقُ ذُباباً".
(11/19)
---(1/4276)
وقرأ العامَّةُ "تَدْعُون" بتاء الخطاب. والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت. وهو في كلتيهما مبنيٌّ للفاعل. وموسى الأسواري واليماني: يُدْعَوْن" بالياء مِنْ أسفلُ مبنياً للمفعول.
قوله: {لَن يَخْلُقُواْ} جعل الزمخشري نَفْي "لن" للتأبيد وقد تقدَّم البحث معه في ذلك. والذبابُ معروفٌ. ويُجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمِّها وعلى ذُبّ. والمِذَبَّة ما يُطْرَدُ بها الذبابُ. وهو اسمُ جنسٍ واحدتُه ذُبابة، يقع للمذكورِ والمؤنثِ فيفرَّقُ بالوصف.
قوله: {وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} قال الزمخشري: "نصبٌ على الحالِ كأنه قال: يَسْتحيل خَلْقُهم الذبابَ مشروطاً [عليهم] اجتماعُهم جميعاً لخَلْقِه وتعاونُهم عليه" وقد تقدم غيرَ مرة أنَّ هذه الواوَ عاطفةٌ هذه الجملةَ الحاليةَ على حال محذوفةٍ أي: انتفى خَلْقُهم الذبابَ على كلِّ حال، ولو في هذه الحالِ المقتضيةِ لخَلْقِهِم لأجلِ الذباب، أو لأجلِ الصنَمِ.
والسَّلْبُ: اختطافُ الشيءِ بسرعة. يُقال: سَلَبَه نِعْمَتَه. السَلبُ: ما على القتيل. وفي الحديث: "مَنْ قتل قتيلاً فله سَلَبُه". والاستنقاذ: استعفالٌ بمعنى الإفعال يقال: أنقذه مِنْ كذا أي: أنجاه منه، وخَلَّصه. ومثله أَبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ, وقوله: "ضَعُفَ الطالبُ" قيل هو إخبار. وقيل: هو تعجُّبُ والأولُ أظهرُ.
* { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}: قيل: تقديرُه: ومن الناسِ رسلاً. ولا حاجةَ لذلك، بل قوله {وَمِنَ النَّاسِ} مقدَّرُ التقديمِ أي: يصطفي من الملائكة، ومن الناس رسلاً.
(11/20)
---(1/4277)
* { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
قوله: {حَقَّ جِهَادِهِ}: يحوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ. وهو واضح. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: جهاداً حَقَّ جهادِه" وفيه نظر من حيث إنَّ هذا معرفةٌ فكيف يُجعل صفةً لنكرةِ؟ قال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: ما وَجْهُ هذه الإِضافةِ، وكان القياسُ حَقَّ الجهادِ فيه، أو حَقَّ جهادِكم فيه. كما قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ}؟ قلت: إلإِضافةُ تكون بأَدْنى ملابسةٍ واختصاصٍ، فلمَّا كان الجهادُ/ مختصاً بالله من حيث إنه مفعولٌ من أجلِهِ ولوجهِه صحَّتْ إضافتُه إليه. ويجوز أن يُتَّسَعَ في الظرف كقولِه:
3400ـ ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامِراً * ....................
يعني بالظرفِ الجارَّ والمجرورَ، كأنه كان الأصلُ: حَقَّ جهادٍ فيه، فحذف حرفَ الجرِّ وأُضيف المصدرُ للضميرِ، وهو من باب "هو حقٌّ عالم وجِدُّ علام" اي: عالِمٌّ حقاً وعالِمٌ جدًّاً.
(11/21)
---(1/4278)
قوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} فيه أوجهٌ أحدُها: أنها منصوبةٌ بـ"اتَّبِعوا" مضمراً قاله الحوفي، وتبعه أبو البقاء. الثاني: أنها الى الاختصاصِ أي: أعني بالدين ملةَ أبيكم. الثالث: أنها منصوبةٌ بما تقدَّمها، كأنه قال: وَسَّع دينَكم تَوْسِعَةً ملَّةِ أبيكم، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. قاله الزمخشري. الرابع: أنه منصوبٌ بـ"جَعَلها" مُقَدراً، قاله ابن عطية. الخامس: أنها منصوبةٌ على حَذْف كافِ الجرِّ أي كملَّةِ إبراهيمَ، قاله الفراء. وقال أبو البقاء قريباً منه. فإنه قال: "وقيل: تقديرُه: مثلَ ملةِ؛ لأن المعنى: سَهَّل عليكم الدينَ مثلَ ملةِ أبيكم، فَحُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه". وأَظْهَرُ هذه الثالثُ. و"إبراهيم" بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ بأَعْني.
قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ} في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على "إبراهيم" فإنه أقربُ مذكورٍ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قال: "وفي هذه اللفظةِ ـ يعني قولَه "وفي هذا" ـ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ قال: الضمير لإِبراهيم. ولا يَتَوَجَّه إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ من الكلامِ مستأنفٍ" انتهى. ومعنى "ضَعْف قولِ مَنْ قال بذلك" أنَّ قوله "وفي هذا" عطفٌ على "مِنْ قبلُ"، و"هذا" إشارةٌ إلى القرآن المشارَ إليه إنما نزل بعد إبراهيم بمُدَدٍ طِوالٍ؛ فلذلك ضَعُفَ قولُه. وقوله: "إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ" الذي ينبغي أَنْ يقدَّرَ: وسُمِّيْتُم في هذا القرآن المسلمين. وقال أبو البقاء: "قيل الضميرُ لإبراهيم، فعلى هذا الوجهِ يكونُ قولُه "وفي هذا" أي: وفي هذا القرآن سببُ تسميتِهم". والثاني: أنه عائدٌ على اللهِ تعالى ويَدُلُّ قراءةُ أُبَيّ: "الله سَمَّاكم" بصريح الجلالةِ أي: سَمَّاكم في الكتبِ السالفةِ وفي هذا القرآنِ الكريمِ أيضاً.
قوله: { لِيَكُونَ الرَّسُولُ} متعلقٌ بسَمَّاكم.
(11/22)
وقوله: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى} أي: اللهُ. وحَسَّن حذفَ المخصوصِ وقوعُ الثاني رأسَ آيةٍ وفاصلةٍ.(1/4279)
سورة المؤمنون
* { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ}: العامَّةُ على "أَفْلَحَ" مفتوحَ الهمزةِ والحاءِ فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ. وورشٌ على قاعدتِه مِنْ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها وحَذْفِها. وعن حمزةَ في الوقف خلفٌ: فرُوِيَ عنه كورشٍ، وكالجمالة. وقال أبو البقاء: "مَنْ ألقى حركةَ الهمزةِ على الدالِ وحَذَفَها فَعِلَّتُه: أنَّ الهمزةَ بعد حَذْفِ حركتِها صُيِّرَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لسكونِها وسكونِ الدالِ قبلها في الأصل. ولا يُعْتَدُّ بحركةِ الدال لأنها عارضةٌ". وفي كلامِه نظرٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ اللغةَ الفصيحةَ في النقلِ حَذْفُ الهمزةِ من الأصلِ فيقولون: المَرَة والكَمَة في: المَرْأَة والكَمْأَة. واللغةُ الضعيفةُ فيه إبقاؤُها وتَدْبيرُها بحركةِ ما قبلَها فيقولون: المَرأة والكَماة بمَدَّةٍ بدل الهمزةِ كراس وفاس فيمَنْ خفَّفَهما. فقولُه: "صُيِّرَتْ ألفاً" ارتكابٌ لأضعفِ اللغتين.
الثاني: أنه ـ وإنْ سُلِّمَ أنَّها صُيِّرَتْ ألفاً فلا نُسَلِّم أنَّ حَذْفَها لسكونِها وسكونِ الدالِ في ألأصل، بل حَذْفُها لساكنٍ محققٌ في اللفظِ هو الفاء مِنْ "أفلح"، ومتى وُجد سببٌ ظاهرٌ أُحيل الحُكْمُ عليه دونَ السبب المقدر.
(11/23)
---(1/4280)
وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد "أُفْلِحَ" مبنياً للمعفول أي: دَخَلوا في الفلاح. فيُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أفلح متعدِّياً. يقال: أَفْلحه أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون "أفلح" مستعملاً لازماً ومتعديِّاً. وقرأ طلحة أيضاً "أَفْلَحُ" بفتح الهمزة واللام وضمِّ الحاء. وتخريجُها على أنَّ الأصلَ "أَفْلحوا المؤمنون" بلحاقِ علامةِ جمعٍ قبل الفاعلِ كلغة "أكلوني البراغيث" فيجيءُ فيها ما قَدَّمْتَه في قول: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قال عيسى: "سمعتُ طلحةَ يقرؤُها. فقلتُ له: أتلحنُ؟ اقل: نعم كما لحن أصحابي" يعني اتَّبَعْتُهم فيما قَرَأْتُ به . فإنْ لَحَنوا على سبيلِ فَرْضِ المُحالِ فِأنا لاحنٌ تَبَعاً لهم. وهذا يدلُّ على شدِّةِ اعتناءِ القدماءِ بالنَّقْلِ وضَبْطِه خلافاً لمن يُغَلِّطُ الرواةَ.
وقال ابن عطية: "وهي قراءةُ مردودةٌ". قلت: ولا أدري كيف يَرُدُّونها مع ثبوتِ مِثْلِها في القرآن بإجماع وهم الآيتان المتقدمتان؟ وقال الزمخشري: "وعنه ـ أي عن طلحةَ ـ "أَفْلَحُ" بضمةٍ بغير واو، اجتزاءً بها عنها قوله:
3401ـ فلَوْ أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلي * .........................
وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنَّ الواوَ لا تَثْبُتُ في مثلِ هذا دَرْجاً لئلاً يلتقي ساكنان، فالحَذْفُ هنا لا بُدَّ منه فكيف يقول اجتزاءً عنها بها؟ وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس بمطابقٍ؛ لأنَّ حَذْفَها من الآيةِ ضروريٌّ ومن البيتِ ضرورةٌ. وهذه الواوُ لا يظهر لفظُها في الدَّرْجِ، بل يظهرُ في الوقفِ وفي الخَطِّ.
(11/24)
---(1/4281)
وقد اختلف النَّقَلَةُ لقراءةِ طلحة: هل يُثَبِتُ للواوِ صورةً؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي "اللوامح": "وحُذِفَتْ الواوُ بعد الحاءِ لالتقائِهما في الدَّرج، وكانت الكتابةُ عليها محمولةً على الوصلِ نحو: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}. قلت: ومنه {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، {صَالِ الْجَحِيمِ
}. و"قد" هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: "قد: نقيضَةُ "لَمَّا"، هي تُثْبِتُ المتوقَّعَ و"لَمَّا" تَنْفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقِّعين لهذه البشارةِ، وهي للإِخبار بثباتِ الفَلاحِ لهم فَخُطبوا بما دَلَّ على ثباتِ ما تَوَقَّعوه".
* { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }
قوله:{فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}: الجارُّ متعلِّقٌ بما بعدَه وقُدِّمَ للاهتمام، وحَسَّنه كونَ متعلَّقِه فاصلةً، وكذلك فيما بعده مِنْ أخواتِه. وأُضِيْفَتْ الصلاةُ إليه لأنهم هم المُنْتَفِعون بها، والمُصَلَّى له غَنِيٌّ عنا، فلذلك أُضِيْفَتْ إليهم دونَه.
* { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }
(11/25)
---(1/4282)
قوله: {لِلزَّكَاةِ}: اللامُ مزيدةٌ في المفعولِ لتقدَّمِه على عامِلِه ولكونِه فرعاً. والزكاةُ في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلَقُ على القَدْرِ المُخْرَجِ من الأعْيانِ. قال الزمخشري: "أسمٌ مشتركٌ بين عَيْنِ ومَعْنى، فالعينُ: القَدْرُ الذي يُخْرِجُه المُزَكِّي مِنَ النِّصاب، والمعنى: فِعْلُ المُزَكِّي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكِّيْنَ فاعِلين له ولا يَسُوغ فيه غيرُه لأنَّه ما مِنْ مصدرٍ إلاَّ يُعَبَّرُ عنه بالفِعْلِ. ويُقال لمُحَدِثِه فاعلٌ. تقول للضارب: فاعلُ الضَرْبِ، وللقاتل فاعلُ القَتْل، وللمزكِّي فاعلُ التَّزْكية، وعلى هذا الكلامُ كله. والتحقيقُ في هذا أنَّك تقولُ في جميع الحوادث: مَنْ فاعلُها؟ فيُقال لك: الله أو بعضُ الخَلْق. ولم تمتنعِ الزكاةث الدالَّةُ على العينِ أَنَ يتعلَّقَ بها [فاعلون] لخروجِها مِنْ صحةِ أَنْ يتناولَها الفاعلُ، ولكن لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعليها. وقد أنشدوا لأميةَ بن أبي الصلت:
3402ـ المُطْعِمُون الطعامَ في السَّنَة الـ * أزمةِ والفاعلون للزكواتِ
ويجوز أن يُرادَ بالزكاة العَيْنُ، ويُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ وهو الأداءُ، وحَمْلُ البيتِ على هذا أَصَحُّ لأنها فيه مجموعةٌ". قلت: إنما أحوجَ أبا القاسمِ إلى هذا أنَّ بعضَهم زعم أنه يتعيَّنُ أَنْ تكونَ الزكاةُ هنا المصدرَ؛ لأنه لو أراد العينَ لقال مُؤَدُّوْن، ولم يقل فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنعْ ذلك لعدمِ صحةِ تناوُلِ فاعِل لها، بل لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعِليها، وإنما جَعَلَ الزكَواتِ في بيتِ أميةَ أعياناً لِجَمْعِها؛ لأنَّ المصدر لا يُجْمع.
وناقشه الشيخ فقال: "يجوز أَنْ مصدراً وإنما جُمِعَ لاختلافِ أنواعِه".
(11/26)
---(1/4283)
قوله: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه متعلقٌ بـ"حافِظون" على التضمين. يعني مُمْسِكين أو قاصِرين. وكلاهما يتعدَّى بـ على. قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} الثاني: أن "على" بمعنى "مِنْ" أي: إلاَّ مِنْ أزواجهم. فـ"على" بمعنى "مِنْ"، كما جاءَتْ "مِنْ" بمعنى "على" في قوله {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}، وإاليه ذَهَب الفراءُ. الثالث: أَنْ يكونَ في موضع نصب على الحالِ. قال الزمخشري: أي إلاَّ والين على أزواجِهم أو/ قَوَّمين عليهنَّ. ومِنْ قولِك: كان فلان على فلانةَ فمات عنها، فخلف عليها فلانٌ. ونظيرُه: كان زيادٌ على البصرة أي: والياً عليها. ومنه قولُهم: "ثلاثةٌ تحت فلان، وِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ المرأةُ فِراشاً". الرابع: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه "غيرُ مَلومين". قال الزمخشري: "كأنه قيل: يُلامُون إلاَّ على أزواجِهم أي: يلامون على كلِّ مباشِر إلاَّ على ما أُطْلِقَ لهم فإنهم غيرُ ملومين عليه". قلت: وإنما لم يَجْعَلْه متعلقاً بـ"ملومين" لوجهين. أحدهما: أنَّ ما بعد "إنَّ" لا يَعْمل فيما قبلها. والثاني: أنَّ المضافَ إليه لا يَعْمل فيما قبلَ المضاف، ولفسادِ المعنى أيضاً.
الخامس: أَنْ يُجْعل صلةً لحافظين. قال الزمخشري: "مِنْ قولِك: احفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فرسي"، على تضمينِه معنى النفي كما ضُمِّن قولُهم: "نَشَدْتُك باللهِ إلاَّ فَعَلْتَ" معنى: ما طَلَبْتُ منك إلاَّ فِعْلَك. يعني: أَنَّ صورتَه إثباتُ ومعناه نفيٌ.
قال الشيخ بعدما ذكَرْتُه عن الزمخشري: "وهذه وجوهٌ متكلَّفَةٌ ظاهرٌ فيها العُجْمَةُ" قلت: وأيُّ عُجْمَةٍ في ذلك؟ على أنَّ الشيخَ جعلها متعلقةً بـ"حافظون" على ما ذكره مِنَ التضمين. وهذا لا يَصِحُّ له إلاَّ بأَنْ يرتكبَ وجهاً منها: وهو التأويلُ بالنفيِ كـ"نَشَدْتُك الله" لأنه استثناءٌ مفرغ، ولا يكونُ إلاَّ بعد نفيٍ أو ما في معناه.
(11/27)
---(1/4284)
السادس: قال أبو البقاء: "في موضعِ نصبٍ بـ حافِظُون" على المعنى؛ لأنَّ المعنى: صانُوها عن كل فَرْجٍ إلاَّ عن فروجِ أزواجِهم". قلت: وفيه شيئان، أحدهما: تضمين "حافظون" معنى صانُوا، وتضمينُ "على" معنى "عن".
قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ} "ما" بمعنى اللات]. وفي وقوعها على العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنها واقعةٌ على الأننواع كقوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ} أي: أنواعَ. والثاني: قال الزمَخشري: "أُريد من جنسِ العقلاءِ ما يَجْري مَجْرى غعيرِ العقلاءِ وهم الإِناثُ". قال الشيخ "وقوله: "وهم" ليس بجيدٍ؛ لأنَّ لفظَ "هم" مختصٌّ بالذكورِ، فكان ينبغي أَنْ يقولَ: "وهو" على لفظ "ما". أو "وهُنَّ" على معنى "ما" قلت: والجواب عنه: أن الضميرَ عائدٌ على العقلاءِ، فقوله "وهم" أي: والعقلاءُ الإِناث.
* { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }
قوله: {لأَمَانَاتِهِمْ}: قرأ ابن كثير هنا وفي "سأل" لأماناتِهم" بالتوحيد. والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد؛ إذ المرادُ العمومُ والجمعُ أوفقُ. والأمانة في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلق على الشيء المُؤْتَمَنِ عليه كقوله: {أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} {وَتَخُونُوااْ أَمَانَاتِكُمْ} وإنما يُؤَدَّى ويُخان الأعيانُ لا المعاني، كذا قال الزمخشري. أمَّا ما ذكره من الآيتين فَمُسَلَّم. وأمَّا هذا الآيةُ الكريمةُ فتحتمل المصدرَ، وتحتمل العينَ.
(11/28)
---(1/4285)
وقرأ الأخَوان "على صلاتِهم" بالتوحيد. والباقون "صَلَواتهم" بالجمع. وليس في المعارج خلافٌ, والإفرادُ والجمعُ كما تقدَّم في "أمانتهم" و"أماناتهم". قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف كرَّرَ ذِكْرَ الصلاةِ أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذِكْران مختلفان، وليس بتكريرٍ، وُصِفُوا أولاً بالخشوعِ في صلاتهم، وآخِراً بالمحافظةِ عليها". ثم قال: "وأيضاً فقد وُحِّدَتْ أولاً ليُفادَ الخُشوعُ في جنسِ الصلاةِ أيَّ صلاةِ كانَتْ، وجُمعت آخراً لتُفادَ المحافظةُ على أعدادِها، وهي الصلواتُ الخمسُ والوِتْرُ والسُّنَنُ الراتبةُ".
قلت: وهذا إنما يَتَّجِهُ في قراءةِ غير الأخَوين. وأمَّا الأخوانِ فإنهما أُفِرِدا أولاً وآخراً. على أن الزمخشريَّ قد حَكَى الخلافَ في جَمْعِ الصلاة الثانية وإفرادِها بالنسبة إلى القراءة.
* { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: يجوز في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً مقدرةً: إمَّا من الفاعلِ بـ"يَرِثُون"، وإمَّا مِنْ مفعولِه؛ إذ فيها ذِكْرُ كلٍ منهما.
* { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ }
قوله: {مِن سُلاَلَةٍ}: فيه وجهان: أحدهما: ـ وهو الظاهرُ ـ أَنْ يتعلَّشقَ بـ خَلَقْنا و"مِنْ" لابتداءِ الغاية. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الإِنسان. والسُّلالَةُ: فُعالة. وهو بناءٌ يَدُلُّ على القِلَّة كالقُلامة. وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه، ومنه قولُهم: هو سُلالَةُ أبيه كأنه انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِه وأُنْشِد:
3403ـ فجاءت به عَضْبَ الأَديمِ غَضَنْفَراً * سُلالةَ فَرْجٍ كان غيرَ حَصِيْنِ
وقال أمية بن أبي الصلت:
3404ـ خَلَقَ البَرِيَّةَ مِنْ سُلالةِ مُنْتِنٍ * وإلى السُّلالَةِ كلِّها سَنعودُ
(11/29)
---(1/4286)
وقال المخشري: "السُّلالَةُ: الخُلاصة لأنَّها تُسَلُّ من بين الكَدَر". وهذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوف. أي: والله لقد خَلَقْنا. وعُطِفَت على الجملةِ قبلَها لِما بينهما من المناسبةِ؛ وهو أنَّه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ المُتَّصِفين بتلك الأوصافِ يَرِثون الفردوسَ، فتضَمَّنَ ذِكْرَ المعادِ الأُخْروي، ذَكَرَ النشأةَ الأولى ليستدِلَّ بها على المَعَادِ، فإن الابتداء في العادة أصعبُ من الإعادةِ كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وهذا أحسنث مِنْ قولهِ ابن عطية: "هذا ابتداءُ كلامٍ، والواو في أولِه عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ، وإنْ تبايَنَتا في المعنى" لأنِّي قَدَّمْتُ لك وَجْهَ المناسبة.
قوله: {مِّن طِينٍ} في "مِنْ" وجهان، أحدهما: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين "مِنْ" ومِنْ"؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه: {مِنَ الأَوْثَانِ}. قال الشيخ: "ولا تكونُ للبيان؛ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه مِنْ أُنْسِل من الطين فـ"مِنْ" لابتداءِ الغاية".
وفيما تتعلَّق به "مِنْ" هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ لـ"سُلالة". الثاني: أنَّها تتعلَّقُ بنفس "سُلالة"؛ لأنها بمعنى مَسْلولة. الثالث: أنها تتعلَّقُ بـ"خَلَقْنا" لأنها بدلٌ مِن الأولى، إذا قلنا: إن السُّلاةَ هي نفسُ الطين.
* { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }
(11/30)
---(1/4287)
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً}: في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ للإِنسانِ. فإنْ أُريد غيرُ آدمَ فواضحٌ، ويكون خَلْقُه مِنْ سُلالةِ الطينِ خَلْقَ أصلِه وهو آدم، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ. وإن كان المرادُ به آدمَ فيكونُ الضميرُ عائداَ على نَسْلِه أي: جَعَلْنا نَسْلَه فهو على حَذْفِ مضافٍ أيضاً. أو عاد الضميرُ على الإنسانِ اللائقَ به ذلك، وهون نَسْلُ آدمُ، فلفظُ الإِنسانِ من حيثُ هو صالحٌ للأصلِ والفرعِ، ويعود كلُّ شيءٍ لِما يليقُ به. وإليه نحا الزمخشري.
قوله: {فِي قَرَارٍ} يجوز ُ أَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"نُطْفَة". والقَرار: المستقَرُّ وهو مَوْضِعُ الاستقرارِ. والمرادُ بها الرَّحِمُ. ووُصِفَتْ بـ"مَكِيْن" لمكانةِ التي هي صفةٌ المُسْتَقِرِّ فيها، لأحدِ معنيين: أمَّا على المجازِ كطريقٍ سائر، وإنما السائرُ مَنْ فيه، وإمَّا لمكانتِها في نفسِها لأنها تمكَّنَتْ بحيث هي وأُحْرِزَتْ.
* { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}: وما بعدها. ضَمَّنَ "خَلَق" معنى جَعَلَ التصييريةِ فعتَدَّت لاثنين كما تَضَمَّنَ جَعَلَ معنى خَلَق فيتعدَّى لواحدٍ نحوَ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
(11/31)
---(1/4288)
}. قوله: {عِظَاماً} قرأ العامَّةُ "عِظاماً" و"العظام" بالجمع فيهما. وابن عامر وأبو بكر عن عاصم "عَظْماً" و"العظم" بالإِفراد فيهما. والسُّلمي والأعرج والأعمش بإفرادِ الأول وجَمْعِ الثاني. وأبو رجاء ومجاهد وإبراهيم ابن أبي بكر بجمع الأولِ وإفرادِ الثاني عكسَ ما قلبه. فالجمعُ على الأصل لأنه مطابِقُ لِما يُراد به، والإِفرادُ للجنسِ كقولِه: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}. وقال الزمخشري: "وَضَعَ الواحدَ موضع الجمعِ لزوالِ اللَّبْسِ لأنَّ الإِنسانَ ذو عِظام كثيرة". قال الشيخ: "هذا عند سيبويه وأصحابِه لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ وأنشدوا:
3405ـ كُلوا في بَعْضِ بطنِكُم تَعِفُّوا * ...................
وإن كان مَعْلوماً أنَّ كلَّ واحدٍ له بطنٌ". قلت: ومثله:
3406ـ لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبِيْنا * في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجينا
يريد: في حُلوقكم. ومثلُه قولُ الآخر:
3407ـ به جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها * فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
يريد: جلودُها، ومنه {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا.
قوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: أنه بدلٌ مِن الجلالة. الثاني: أنَّه نعتٌ للجلالة وهو أَوْلَى مِمَّا قبلَه؛ لأن البدلَ بالمشتقِ يَقِلُّ. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو أحسنُ. والأصلُ عدمُ الإِضمارِ. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ وصفاً قال: "لأنه نكرةٌ وإنْ أضيف لمعرفةٍ؛ لأنَّ المضافَ إليه عِوٌَ مِنْ "مِنْ" وهكذا جيمعُ أَفْعَل منك". قلت: وهذا بناءً منه على أحد القولين في أَفْعَلِ التفضيلِ إذا أُضيف: هل إضافتُه محضةٌ أم لا؟ والصحيحُ الأول.
والخالقين أي: المقدِّرين كقولِ زهير:
3408ـ ولأنتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْضُ * القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
(11/32)
---(1/4289)
/والمميٍِّزُ لأَفْعَل محذوفٌ لدلالةِ المضافِ إليه عليه أي: أحسن الخالقين خَلْقاً أي: المقدِّرين تقديراً كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي: في القِتال. حُذِف المأذونُ فيه لدلالةِ الصلةِ عليه.
* { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ }
قوله: {بَعْدَ ذالِكَ}: أي: بعدما ذُكِر، ولذلك أُفْرِد اسمُ الإِشارة. وقرأ العامَّةُ "لَمَيِّتُون". وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن "لَمائِتون" والفرقُ بينهما: أنَّ الميِّتَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، والمائِت على الحدوثِ كضيِّق وضائق، وفرَِح وفارِح. فيُقال لِمَنْ سيموتُ: ميِّت ومائت، ولمن مات: مَيّت فقط دون مائت لاستقرارِ الصفةِ وثبوتِها وسيأتي مثلُه في الزمر إن شاء الله تعالى، فإن قيل: الموتُ لم يَخْتَلِفْ فيه اثنان، وكم مِنْ مخالفِ في البعثِ فلِمَ أَكَّد المُجْمَعَ عليه أبلغَ تأكيدٍ، وتُرك المختلَفُ فيه من تلك المبالغةِ في التأكيد؟ فالجواب: أنَّ البعثَ لمَّا تظاهَرَتْ أدلتُه وتضافَرَتْ أَبْرَزَ في صورةِ المُجْمَعِ عليه المستغني عن ذلك، وأنَّهم لَمَّا لم يعملوا للموتِ ولم يهتموا بأمورِه نُزِّلوا منزلةَ مَنْ يُنكره فأبرزهم في صورةِ المُنْكِرِ الذي استعبدوه كلَّ استعبادٍ.
وكان الشيخُ، سُئِل عن ذلك. فاجاب بأنَّ اللامَ غالباً تُخَلِّص المضارعَ للحال، ولا يمكنُ دخولُها في ""تُبْعثون" لأنه مخلِّصٌ للاستقبال لعملِه في الظرف المستقبل. واعترض على نفسِه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فإنَّ اللامَ دَخَلَتْ على المضارع العاملِ في ظرفٍ مستقبلٍ وهو يومُ القيامة. وأجاب بأنه خَرَجَ هذا بقوله "غالباً" أو بأنَّ العاملَ في يوم القيامة مقدرٌ، وفيه نظرٌ لا يَخْفى؛ إذ فيه تهيئةٌ العاملِ للعملِ وقَطْعُه عنه.
و"بعد ذلك" متعلقٌ بـ"مَيِّتون" ولا تَمْنَعُ لامُ الابتداءِ من ذلك.
(11/33)
---(1/4290)
* { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ }
قوله: {عَلَى ذَهَابٍ بِهِ}: "على ذَهابٍ" متعلقٌ بـ"لَقادرون" واللامُ ـ كما تقدَّم ـ غيرُ مانعةٍ من ذلك، و"به" متعلقٌ بـ"ذَهاب" وهي مرادِفَةٌ للهمزةِ كهي في {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} أي على إذهابه.
* { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ }
قوله: {وَشَجَرَةً}: عطفٌ على "جناتٍ". وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "سيناء" بكسر السين. والباقون بفتحها. والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها. فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول، وهمزتُه للتأنيث، بل للإِلحاقِ كـ"سِرْداح" و"قِرْطاس" فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء، قال الفارسي: "وهي الياءُ التي ظهرَتْ في "دِرْحايَة". الدِّرْحاية: الرجلُ القصيرُ السمينُ.
(11/34)
---(1/4291)
وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال: "والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل "حِمْلاق" وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [حِمْراْ والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام "سنأ"] يعني: مادةة سين ونون وهمزة. وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل. على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها، وقيل: للتعريف والعُجْمة، قال بعضهم: والصحيحُ أن "سِيْناء" اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا: سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل، والخِنْذِيْذ: الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً، فهو مِن الأضداد، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ، والزِّحْلِيلُ: المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تَنحَّى.
وقال الزمخشري: "طُوْرُ سناء وطور سينين: لا يخلوا: إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ أسمُها سيناء، وسينون، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك، فيمَنْ أضاف. فَمَنْ كَسَرَ سينَ "سيناء" فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ، أو التأنيثِ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء. قلت: وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها. وكسرُ السين في "سِيْناء" لغةُ كِنانة.
وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث، فَمَنْع الصرف واضحٌ. قال أبو البقاء: "وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح. وما حكى الفراء مِنْ قولهم: ناقةٌ فيها خَزعال" لا يَثْبُتُ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه".
(11/35)
---(1/4292)
وقد وَهِم بعضُهم فجعل "سيناء" مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما: أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم، الثاني: أنَّا ـ وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ، لكنْ المادتان مختلفتان، فإنَّ عَيْنَ "السنا" نونٌ وعينَ "سيناء" ياء. كذا قال بعضُهم. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّم أن عينَ "سيناء" ياءٌ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء، ووزنها حينئذٍ فِيْعال، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ.
قوله "تنبُتُ" قرأ ابن كثير وأبو عمرو، "تُنْبِتُ" بضمِّ التاءِ وكسرِ الباءِ. والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمَّا الأولى ففيها ثلاثةٌ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ "أنبت" بمعنى نَبَتَ فهو مما أتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل وأنشدوا لزهير:
3409ـ رأيتُ ذوي الحاجات عند بيوتهِم * قَطِيْناً لها حتى إذا أَنْبَتَ البقلُ
أي: نبت، وأنكره الأصمعي, الثاني: أنَّ الهمزةَ للتعديةِ، والمفعولَ محذوفٌ لفهم المعنى أي: تُنْبِتُ ثمرَها أو جَناها. و"بالدهن" أي: ملتبساً بالدهن. الثالث: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كهي في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} وقولِ الشاعر:
3410ـ ....................... * سُوْدُ المَحاجرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وقول الآخر:
3411ـ نَضْربُ بالسَّيْفِ ونرْجُو بالفَرَجْ
وأما القراءةُ الأخرى فواضحةٌ، والباءُ للحال من الفاعل أي: ملتسبةً بالدُّهْن، يعني: وفيها الدهن.
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز "تُنْبِتُ" مبنياً للمفعول، مِنْ أنبتها الله. و"بالدهن" حالٌ من القائمِ مقامَ الفاعلِ أي: ملتسبةً بالدهن.
(11/36)
---(1/4293)
وقرأ زر بن حبيش "تُنْبِتُ الدُّهْنَ" مِنْ أَنْبَتَ، وسقوطُ الباء هنا يَدُلُّ على زيادتها في قراءة مَنْ أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك "بالدِّهان" وهو جمع دُهْن كرُمْح ورِماح. وأمَّا قراءة أُبَي "تُثْمر"، وعبدالله "تَخْرج" فتفسيرٌ لا قراءةٌ لمخالفة السواد.
والدُّهْنُ: عُصارة ما فيه دَسَمٌ. والدَّهْن بالفتح المَسْح بالدُّهن مصدرٌ دَهَن يَدْهُنُ، والمُداهَنَةُ مِنْ ذلك؛ كأنه يَمْسَح على صاحبه ليقِرَّ خاطرُه.
قوله: {وَصِبْغٍ} العامَّةُ على الجرِّ نَسَقاً على "بالدُّهْن". والأعمش "وصبغاً" بالنصبِ نَسَقاً على موضع "بالدُّهْن" كقراءةِ "وأَرْجلَكم" في أحدِ محتملاته، وعامر بن عبدالله "وصِباغ" بالألف، و كانت هذه القراءةُ مناسبةً لقراءةِ مَنْ قرأ "بالدِّهان". والصَبْغ والصِّباغ كالدِّبْغ والدِّباغ وهو اسمُ ما يُفْعل به. وللآكلين" صفةٌ.
* { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
قوله: {نُّسْقِيكُمْ}: قد ذُكر ما في النحل، وقُرِىء "تَسْقيكم" بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: أي: الأنعام.
* { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }
قوله: {مُنزَلاً مُّبَارَكاً}: قرأ أبو بكرٍ فتح الميم وكسر الزاي، والباقون بضمِّ الميم وفتحِ الزاي. والمَنْزِل والمُنْزَل كلٌّ منهما يحتملُ أَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِنزالُ والنُّزُول، وأَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ للنزولِ والإِنزالِ، إلاَّ أنَّ القياسَ "مُنْنزَلاً" بالضم والفتح لقوله "اَنْزِلْني"، وأما الفتح والكسر فعلى نيابةِ مصدرٍ الثلاثي مَناب مصدرِ الرباعي كقوله {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}، وقد تقدم نظيرُه في مَدْخَل ومُدْخَل في سورةِ النساء.
(11/37)
---(1/4294)
و"إنْ" في قوله: {وَإِن كُنَّا} مخففةٌ. واللامُ فارقةٌ. وقيل: "إنْ" نافيةٌ، واللامُ بمعنى "إلاَّ"، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة.
* { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }
قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ}: قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: حَقُّ "أَرْسَلَ" أَنْ يَتَعَدَّى بـ"إلى" كأخواتِه التي هي: وَجَّه وأنفذ وبَعَثَ، فما بالُه عُدِّي في القرآن بـ إلى تارة وبـ في أخرى كقوله {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيا أُمَّةٍ}؟ قلت: لم يُعَدَّ بـ"في" كما عُدِّي بـ"إلى" ولم يجعَلْه صلةً مثلَه، ولكن الأُمَّةَ أو القريةَ جُعِلَتْ مَوْضِعاً للإِرسالِ كقولهِ رُؤْبة:
3412ـ أرسلْتَ فيها مُصْعباً ذا إقحامِ
وقد جاء "بعث" على ذلك كقولِه تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
}. قوله: {أَنِ اعْبُدُواْ} يجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بأَنِ اعبدوا أي: بقوله اعبدوا، وأَنْ تكونَ مفسِّرةً.
قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ذَكَر مقالةَ هود في جوابه في سورةِ الأعراف، وسورة هود، بغير واو: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} {قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} وههنا مع الواوِ فأيُّ فَرْقٍ بينهما؟ قلت: الذي بغيرِ واوٍ على تقديرِ سؤالِ سائلٍ: قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيتَ وكيتَ. وأمَّا الذي مع الواو فَعَطْفٌ لِما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول: هذا الحقُّ وهذا الباطلُ، وشتان ما بينهما".
قلت: ولقائلٍ أَنْ يقولَ: هذا جوابٌ بنفس الواقعِ، والسؤالُ باقٍ/؛ إذ يَحْسُنُ أن يُقال: لِمَ لا يُجْعَلْ هنا قولُهم أيضاً جوباً لسؤالِ سائلٍ كما في نظيرتَيْها لو عكس الأمر.
(11/38)
---(1/4295)
* { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ }
قوله: {مِمَّا تَشْرَبُونَ}: أي: منه، فَحَذَفَ العائدَ لاستكمالِ شروطِه وهو: اتِّحادُ الحرفِ والمتعلِّقِ، وعدمُ قيامِه مقامَ مرفوع، وعدمُ ضميرٍ آخرَ. هذا إذا جَعَلْناها بمعنى الذي فإنْ جَعَلْتَها مصدراً لم تَحْتج إلى عائدٍ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: مِنْ مَشْروبكم. وقال في التحرير: "وزعم الفراء أنَّ معنى "ما تَشْربون" على حذفٍ أي: تشربون منه.
وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يَحْتَاج إلى حَذْفٍ البتةَ لأنَّ "ما" إذا كانَتْ مصدريةً لم تحتجْ إلى عائدٍ، فإنْ جعلتَها بمعنى حَذَفْتَ العائدَ، ولم يُحْتَجْ إلى إضمار "مِنْ". يعني أنَّه يُقَدَّرُ: تَشْربونه من غيرِ حرفِ جرّ، وحينئذٍ تكومن شروطُ الحذفِ أيضاً موجودةً، ولكنه تَفُوْتُ المقابلةُ إذ قولُه {تَأْكُلُونَ مِنْهُ} فيه تبعيضٌ، فَلَوْ قَدَّرْتَ هذا: تشربونه مِنْ غير "مِنْ" فاتَتْ المقابلةُ. ثم إنَّ قولَه: "وهو لا يجوز عند البصريين" ممنوع بل هو جائزٌ لوجود شروطِ الحذف.
* { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ }
قوله: {إِذَنْ}: قال الزمخشري: "واقعٌ في جزاءِ الشروط وجوابُ للذين قاولوهم مِنْ قومِهم". قال الشيخ: "وليس "إذن" واقعاً في جزاءِ الشرط بل واقعاً بين "إنَّكم" والخبر، و"إنكم" والخبرُ ليس جزاءً للشرط، بل ذلك جملةٌ جوابِ القَسمِ المحذوفِ قبل "إن" الشرطيةِ. ولو كانت "إنكم" والخبرُ جواباً للشرطِ، لَزِمَتِ الفاءُ في "إنكم"، بل لو كان بالفاءِ في تركيبِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ ذلك التركيبُ جائزاً إلاَّ عند الفراءِ. والبصريون لا يُجيزونه. وهو عندهم خطأٌ".(1/4296)
(11/39)
---
قلت: يعني أنه إذا توالَى شرطٌ وقسم أُجيب سابقُهما، والقَسَمُ هنا متقدِّمٌ فينبغي أَنْ يُجَابَ ولا يجابَ الشرطُ، ولو أُجيب الشرطُ لاختلَّتْ القاعدةُ إلاَّ عند بعضِ الكوفيين، فإنَّه يُجيب الشرطَ وإنْ تأخَّر. وهو موجودٌ في الشعر.
* { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ }
قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ}: الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ اسم "أنَّ" الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ غعليه مُقامَه، والخبرُ قولُه: {إِذَا مِتٌّمْ} و {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} تكريرٌ لـ "أنَّ" الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى: أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم.
الثاني: أنَّ خبرَ "أنَّ" الأولى هو "مُخْرَجُون"، وهو العامل في "إذا"، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ. وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ.
الثالث: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ "إذا" الشرطيةِ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ لـ"أنَّكم" الأولى، تقديرُه: يَحْدُث أنكم مُخْرَجون.
الرابع: ـ كالثالثِ ـ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ لـ"أنَّ" لأولى، وهو العاملُ في "إذا".
الخامس: أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه، تقديرُه: أنكم تُبْعَثُون، وهو العاملُ في الظرف، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى، وهذا مذهبُ سيبويه.
(11/40)
---(1/4297)
السادس: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مبتدأٌ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه، والجملةُ خبرٌ عن "أنكم" الأولى، والتقديرُ: أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في "إذا" "مُخْرَجُون" على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز "أنَّ" لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها "مِتُّم" لأن الحرفِ، إذ الأصلُ: أيَعِدُكم بأنَّكم. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو: وَعَدْتُ زيداً خيراً.
* { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }
قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير:
3413ـ فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه * وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: "البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون". فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و"هيهاتَ" اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: "ما توعدون" فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: "هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون". وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و"لِما تُوْعدون" للبيانِ. قال؟ الزمخشريُّ: "لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستعبادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في {هَيْتَ لَكَ} لبيانِ المُهَيَّبِ به". وقال الزجاج: "البُعْدُ لِما تُوعدون" فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما تُوعدون هو المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع بـ"هيهاتَ" كما ارتفع بقولِه:
(11/41)(1/4298)
---
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه * ..........................
فما هذا اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه: "البُعْدُ لِما تُوْعَدون"، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر". قال الشيخ: "وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر". قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه: "أول بُعْدٌ" فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما.
وقال ابن عطية: "طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون". ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ ـ وهو الوجودُ ـ وإبقاءَ معمولِه وهو "لِما تُوعدون". وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله:
3414ـ هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ * كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر:
3415ـ هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ * دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة:
3416ـ هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه
قال القيسي شارحٌ "أبيات الإِيضاح": "وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال. والألفُ في "هيهات" غيرُ الألفِ في "هيهاؤه"، وهي في "هيهات" لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في "هيهاؤه" ألف الفَعْلال الزائدة".
(11/42)
---(1/4299)
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها ما قُرِىء به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و"هَيْهاتاً" بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و"هَيْهاتٌ" بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتُرْوى عن أبي حيوةَ أيضاً، فعنه فيها وجهان، وافقة أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.
و"هَيْهاتٍ" بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضاً، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. وهَيْهاهْ" بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً. "أَيْهاتَ" بإبدال لهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاةٍ قد قُرِيء بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.
(11/43)
---(1/4300)
ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء ا لأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و"إيهان" بالنون آخراً، و"أَيْهَى" بالألِفِ أخراً. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال: "هي مثل بَيْضات" فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزياديتها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء نم باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ "سَلْقاة" و"جَعْباة" زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلاً، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبينة والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء "حَصَيَات" و"نَوَيات".
وقالوا: مَنْ فتح تاء "هيهات" فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة "كيف الإِخوةُ والأخَواهْ" ولا "هذه ثَمَرَتْ" لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.
(11/44)
---(1/4301)
واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهنم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء.
وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: "مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْداً. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ". انتهنى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوَّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المقتدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ السكانين، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ.
(11/45)
---(1/4302)
وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: "إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه "لِما تُوْعَدون" أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك". وقال الرازي في "اللوامح": "فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء]، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً". قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ. قرأ بانُ أبي عبلةَ "هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون" من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.
و"ما" في "لِما تُوْعدون" تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكمونَ بمعنى الذي،/ والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه.
* { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }
قوله: {إِنْ هِيَ}: "هي: ضميرُ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ أي: إنْ حياتُكم إلاََّ حياتُنا. قال الزمخشري: "هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُرادُ به إلاَّ بما يَتْلوه مِنْ بيانِه. وأصلُه: إنِ الحياةُ إلاَّ حياتُنا الدنيا، فوَضَعَ "هي" مَوْضِعَ "حياتُنا" لأنَّ الخبرَ يَدُلُّ عليها ويُبَيِّنها. ومنه "هي النفس تتحمَّل ما حَمَلت" و"هي العربُ تقولُ ما شاءَتْ". وقد جَعَلَ بعضُهم هذا القِسْمَ ممَّا يُفَسَّر بما بعدَه لفظاً ورتبةً ونسبه إلى الزمخشريِّ متعلقاً بهذا الكلام الذي نقلتُه عنه، لا تَعَلُّقَ له في ذلك.
(11/46)
---(1/4303)
قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعَوْه مِنْ أَنْ حياتَهم ما هي إلاَّ كذا. وزعم بعضُهم أنَّ فيها دليلاً على عدمِ التريتبِ في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموتُ إذ هنو الواقعُ. ولا دليلَ فيها؛ لأنَّ الظاهرَ مِنْ معناها: يموت البعض مِنَّا، ويَحْيا آخرون، وهَلُمَّ جرَّا. يُشيرون إلى انقراضِ العصرِ وخَلْفِ غيرِه مكانَه. وقيل: نموت نحن ويَحْيا أبناؤنا. وقيل: القومُ يعتقدونَ الرَّجْعَةَ أي: نموت ثم نَحْيا بعد ذلك الموتِ.
* { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ }
قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ}: في "ما" هذه وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ بينَ الجارِّ ومجرورِه للتوكيدِ كما زِيْدَتْ في الباءِ نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ}. وفي "مِنْ" نحو {مِّمَّا خَطِيائَاتِهِمْ}. و"قليلٍ" صفةٌ لزمنٍ محذوفٍ أي عَنْ زمنٍ قليل.
والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بل هي نكرةٌ بمعنى شيء أو زمن. و"قليل" صفتُها أو بدلٌ منها. وهذا الجارُّ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه متعلقٌ بقولِه: {لَّيُصْبِحُنَّ} أي لَيُصْبِحُن عن زمنٍ قليل نادمين. والثاني: أنه متعلقٌ بـ"نادمين". وهذَا على أحدِ الأقوالِ في لام القسم، وذلك أنَّ فيها ثلاثةَ أقوال: جوازَ تقديمِ معمولِ ما بعدها عليها مطلقاً. وهو قول الفراء وأبي عبيدة. والثاني: المَنْعُ مطلقاً وهو قولُ جمهورِ البصريين. والثالث: التفصيلُ بين الظرفِ وعديلِه، وبين غيِرهما، فيجوزُ فيهما الاتساعُ، ويمتنعُ في غيرِهما، فلا يجوز في: "والله لأضربنَّ زيداً": "زيداً لأضرِبَنَّ" لأنه غيرُ ظرفٍ ولا عديلِه.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: عَمَّا قليلٍ نُنْصَرُ حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه. وهو قولُه "رَبِّ انْصُرْني".
وقرىء "لَتُصْبِحُنَّ" بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ، أو على أن القولَ صدرَ من الرسولِ لقومِه بذلك.
(11/47)
---(1/4304)
* { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله: {غُثَآءً}: مفعولٌ ثانٍ للجَعْل بمعنى التصيير. والغُثاء: قيل هو الجُفاء وقد تقدَّم في الرعد. قاله الأخفش. وقال الزجاج: "هو البالي مِنْ ورق الشجر، إذا جَرَى السيلُ خالَطَ زَبَدَه". وقيل: كل ما يُلْقيه السَّيْلُ والقِدْرُ مِمَّا لا يُنْتَفَعُ به، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في ذلك. ولامُه واوٌ لأنه مِنْ غثا الوادي يَغْثُو غَثْوَاً وكذلك غَثَت القِدْرُ. وأمَّا غَثِيَتْ نفسُه تَغْثِي غَثَياناً أي: خَبُثَتْ فهو قريبٌ مِنْ معناه، ولكنه مِنْ مادة الياء. وتُشَدَّدُ ثاء "الغُثَّاء" وتُخَفَّفُ وقد جُمع على "أَغْثاء" وهو شاذٌّ، بل كان قياسُه أن يُجْمَعَ على أَغْثِيَة كأَغْرِبة، أو على غِثْيان كغِرْبان وغِلْمان. وأنشدوا لامرىء القيس:
3417ـ ..................... * من السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مُغْزَلِ
بتشديد الثاء وتخفيفها والجمع أي: والأَغْثاء.
قوله: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ}: بُعْداً: مصدرٌ بَدَلٌ من اللفظِ بفعلِه، فناصبُه واجبُ الإِضمارِ لأنَّه بمعنى الدعاءِ عليهم. والأصلُ: بَعُدَاً وبَعَداً نحو: رَشَدَ رُشْداً ورَشَداً. وفي هذه اللامِ قولان أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ للبيانِ كهي في سَقْياً له وجَدْعاً له. قاله الزمخشري. الثاني: أنها متعلقةٌ بـ بُعْداً. قاله الحوفي. وهذا مردودٌ؛/ لأنه لا يُحْفَظُ حَذْفُ هذه اللامِ ووصولُ المصدرِ إلى مجرورِها البتةَ، ولذلك منعوا الاشتغالَ في قولِه {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} لأنَّ السلام لا تتعلَّقُ بـ"تَعْساً" بل بمحذوفٍ، وإن كان الزمخشريُّ جَوَّزَ ذلك، وسيأتي في موضِعه إنْ شاءَ الله تعالى.
(11/48)
---(1/4305)
* { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {تَتْرَى}: فيه وجهان، أحدُهما : ـ وهو الظاهرُ ـ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ "رُسُلَنا" بمعنى متواتِرين أي: واحداً بعد واحدٍ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي. وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ. والثاني: أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه: إرسالاً تَتْرى أي: متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال.
(11/49)
---(1/4306)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ـ وهي قراءةُ الشافعيِّ ـ "تَتْرَىً" بالتنوين. وباقي السبعةِ "تَتْرَى" بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ. وهذه هي اللغةُ المشهورةٌ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان، أحدُهما: أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس، فقوله: "تَتْرَىً" كقولك: نَصَرْتُه نَصْراً. وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً. وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه، فيُقال: هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو: هذا نَصْرٌ، ورأيت نصراً، ومررتُ بنصرٍ. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً. الثاني: أن ألفَه للإِلحاقِ بـ جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين. وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ، الثالث: أنها للتأنيثِ كدَعْوى. وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ. الثاني: أنها للإِلحاق. الثالث للتأنيث. واخْتُلف فيها: هل هي مصدرٌ كدَعْوى وذِكْرى، أو سامُ جمعٍ كأَسْرى وشتى، كذا قالهما الشيخ. وفيه نظرٌ، إذا المشهورُ أنَّ أَسْرَى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ. وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه، فإنها من الوَرْي الوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه.
واختلفوا في مَدْلُولِها: فعن الأصمعيِّ: واحداً بعد واحد، وبينهما مُهْلَة. وقال غيره: هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة. وقال الراغب: "والتواتُرُ: تتابُعُ الشيءٍ وِتْراً وفرادى. قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} والوَتِيْرَة: السَّجِيَّةُ والطريقة. يقال: هم على وَتيرةٍ واحدةٍ. والتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرة: الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن.
(11/50)
---(1/4307)
قوله: {أَحَادِيثَ} قيل: هو جمعُ "حديث" ولكنه شادٌّ. وقيل: بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة. وقال الأخفش: "لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ. ولا يُقال في الخير. وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع". وقال الزمخشري: "الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم". قال الشيخ: "وأَفاعيل ليس من أبنيةِ اسمِ الجمع، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى "أحاديث" وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو "حديث" فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا".
* { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }
قوله: {هَارُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلاً، وأَنْ يكونَ بياناً، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار "أَعْني".
* { فَقَالُوااْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ }
قوله: {لِبَشَرَيْنِ}: "بَشَر" يقع على الواحدِ والمثنى والمجموع والمذكرِ والمؤنثِ. قال تعالى: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وقد
يُطابق. ومنه هذه الآيةُ. وأما إفراد "مِثْلِنا" فلأنَّه يَجْري مَجْى المصادرِ في الإِفراد والتذكير، ولا يُؤَنَّثُ أصلاً، وقد يطابقُ ما هو له تثنيةً كقوله: {مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وجمعاً كقولِه: {ثُمَّ لاَ يَكُونُوااْ أَمْثَالَكُم}. وقيل: أُريد المماثلةُ في البشرية لا الكميَّة. وقيل: أكتُفي بالواحدِ عن الاثنين.
قوله: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} جملةٌ حاليةٌ.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }
(11/51)
---(1/4308)
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: قيل: أراد قومَ موسى فَحُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه؛ ولذلك أعاد الضميرَ مِنْ قولِه "لعلَّهم" عليهم. وفيه/ نظرٌ؛ إذ يجوز عَوْدُ الضميرِ على القومِ مِنْ غيرِ تقديرِ إضافتِهم إلى موسى، وتكونُ هِدايتُهم مُتَرَتِّبةً على إيتاء التوراةِ لموسى.
* { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }
قوله: {وَمَعِينٍ}: صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: وماءٍ مَعِيْنٍ. وفيه أحدهما: أنَّ ميمَه زائدةٌ، وأصله مَعْيُوْن أي: مُبْصَرٌ بالعينِ، فأُعِلَّ إعْلالَ "مبيع" وبابه، وهو مثلُ قولِهم "كَبَدْتُه" أي ضربْتُ كَبِدَه، ورَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه، وعِنْته أي: أدركتُه بعيني. ولذلك أدخلَه الخليلُ في مادة ع ي ن. والثاني: أن الميمَ أصليةٌ، ووزنُه فَعيل مشتقٌّ من المَعْن. واختُلِف في المَعْن فقيل: هو الشيءُ القليلُ ومنه الماعُون. وقيل: هو مِنْ مَعَنَ الشيءُ مَعانَةً أي كَثُر. قال جرير:
3418ـ إنَّ الذين غَدَوْا بِلُبِّك غادَروا * وَشَلاً بعينِك لا يَزال مَعيناً
وقال الراغب: "وهو مِنْ مَعَن الماءُ: جرى" وسمَّى مجاري الماءِ مُعْنان. "وأمعنَ الفرس: تباعَدَ في عَدْوِه، وأَمْعَنَ بحقي ذهبَ به، وفلان مَعَنٌ في حاجته". يعني سريعاً. قلت: كلُّه راجعٌ إلى معنى الجَرْيِ والسُّرْعة.
* { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
قوله: {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً}: يجوزُ أَنْ يكونَ "صالحاً" نعتاً لمصدرٍ محذوف ِأي: واعملوا صالحاً من غير نظرٍ إلىلا ما يَعْلونه كقولهم: تُعْطي وتمْنع. ويجوز أن يكونَ مفعولاً به وهو واقعٌ على نفسِ المعمولِ.
* { وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }
(11/52)
---(1/4309)
قوله: {وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ}: قرأ ابن عامر وحده "وأنْ" هذه بفتحِ الهمزةِ وتخفيفِ النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل، والباقون بفتحها والتثقيل. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ فهي المخففةُ من الثقيلة. وسيأتي توجيِهُ الفتح في الثقيلة فيتضحُ معنى قراءتِه. وأمَّا قراءةُ الكوفيين فعلى الاستئنافِ.
وأمَّا قراءة الباقين ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها على حذف اللام أي: ولأَِنَّ هذه، فلمَّا حُذِف الحرفُ جرى الخلافُ المشهورُ. وهذه اللامُ تتعلَّقُ بـ أتَّقون". والكلامُ في الفاءِ كالكلامِ في قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. والثاني: أنها منسوقَةٌ على "بما تَعْملون" أي: إنيِّ عليمٌ بما تَعْملون وبأنَّ هذه. فهذه داخلةٌ في حَيِّز المعلومِ. والثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً تقديره: واعلموا أنَّ هذه أمَّتُكم.
* { فَتَقَطَّعُوااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
وقد تقدَّم {فَتَقَطَّعُوااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} وما قيل فيهما، وما قُرِىء به فَأَغْنى عن إعادِته.
* { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ }
(11/53)
---(1/4310)
قولهم: {فِي غَمْرَتِهِمْ} مفعولٌ ثانٍ لـ"ذَرْهم" أي: اتْرُكهم مُسْتَقِرِّين في غَمْرَتهمه. ويجوز أّنْ يكونَ ظرفاً للتَّرْكِ. والمفعول الثاني محذوفٌ. والغَمْرَةُ في الأصلٍ: الماءُ الذي يَغْمُرُ القامةِ، والغَمْرُ: الماءُ الذي يَغْمُر الأرضَ، ثم استُعير ذلك للجَهالةِ، فقيل: فلانٌ في غَمْرَة، والمادة تدلُ على الغِطاء والاستتارِ، ومِنه الغُمْرُ بالضم لمَنْ لم يُجَرِّبِ الأمورَ، وغُمِارُ الناسِ وخُمَارُهم: زِحامهم. والغِمْر بالكسر الحقد؛ لأنه يُغَطي القلب. والغَمَرات: الشدائدُ. والغامِرُ : الذي يُلْقى نفسَه في المهالِك. وقال الزمخشري: "والغَمْرَةُ: الماءُ الذي يَغْمُر القامةَ، فضُرِبَتْ لهم مَثَلاً لِما هم [مَغْمورون] فيه مِنْ جَهْلهم وعَمايتهم. أو شُبِّهوا باللاعبين في غَمْرَةٍ الماءِ؛ لِما هم عليه من الباطل كقوله:
3419ـ .................... * كأنني ضاربٌ في غَمْرَةٍ لَعِبُ
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبدالرحمن "غَمَراتهم" بالجمع؛ لأنَّ لكلَّ منهم غَمْرَةً تَخُصُّه. وقراءةُ العامَّةِ لا تأْبَى هذا المعنى فإنه اسمُ جنسٍ مضافٌ.
* { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }
* {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }
(11/54)
---(1/4311)
قوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ}: في "ما" هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ "أنْ" و"نُمِدُّهم" صلتُها وعائدُها."ومن مال" حالٌ من الموصولِ، أو بيانٌ له، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و"نُسارعُ" خبرُ "أنَّ" والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم "أنَّ" محذوفٌ تقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ. وقيل: الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم "أنَّ" هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه "في الخيرات"، إذ الأصل: نُسارعُ لهم فيه، فأوقع "الخيرات" موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات. وهذا يَتَمَشّى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ، وإن. لم يكنْ بلفظِ الأولِ، فيُجيز "زيد الذي قام أبو عبدالله" إذا كان "أبو عبدالله" كنيةَ "زيد". وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ يكون َ الخبرُ "مِنْ مالٍ" لأنه كان "مِنْ مال"، فلا يُعاب عليهم [ذلك، وإنما يعابُ عليهم] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم".
الثاني: أن تكمونَ "ما" مصريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم "أنَّ" و"نُسارع" هو الخبرُ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ "أنْ" المصريةِ قبل "نُسارع" ليصِحَّ الإِخبراُ، تقديرُه: أَنْ نسارعَ. فلمَّا حُذِفَتْ "أنْ" ارتفعَ المضارعُ بعدَها. والتقديرُ: أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات. والثالث: أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ. وبه قال الكسائي في هذه الآية/ وحينئذٍ يُوقف على "وَبَنِين" لأنه قد حصل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو: حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ، وأنما تقومُ أنت.
(11/55)
---(1/4312)
وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب "إنما" بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ، ويكونُ حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً. وأبنُ كثيرٍ في روايةٍ "يُمِدُّهم" بالياءِ، وهو اللهُ تعالى. وقياسُه أَنْ يقرأ "يُسارع" بالياء أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ "يُسارع" بالياءِ وكسرِ الراء. وفي فاعِله وجهان، أحدُهما: الباري تعالى, الثاني: ضميرُ "ما" الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً. وحينئذٍ يكون "يُسارع لهم" اللخبرَ. فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي: يُسارع اللهُ لهم به أو فيه. وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ "ما" الموصولة.
وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً "يُسارَع" بالياء مبنياً للمفعول وفي الخيرات" هو القائمُ مَقامَ الفاعل. والجملةُ خبرُ "أنَّ" والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم, وقرأ الحسن "نُسْرع" بالنون مِنْ "أَسْرَعَ" وهي كـ "نُسارع فيما تقدَّم.
و{بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ، وهو إضرابُ انتقالٍ.
* { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ }
قوله: {مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنسِ. قال ابن عطية: "هي لبيانِ جنسِ الإِشفاق". قلت: وهي عبارةٌ قلقة. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"مُشْفِقُون" قاله الحوفي، وهو واضح.
* { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }
قوله: {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ}: العامَّةُ على أنَّه من الإِتياء أي: يُعْطون ما أَعْطَوا. وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعشى "يَأْتُون ما أَتَواْ" من الإِتيان أي: يفعلون ما فَعَلوا من الطاعاتِ. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على "أتَوْا" بالقصرِ فقط. وليس بجيدٍ لأنه يُوهم أنَّ مَنْ قرأ "أَتَوْا" بالقَصْرِ قرأ "يُؤْتُون" من الرباعي. وليس كذلك.(1/4313)
(11/56)
---
قوله: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل "يُؤْتُوْن"، فالواوُ للحال.
قوله "أنَّهم" يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: وَجِلةُ مِنْ أنَّهم، أي: خائفةٌ مِنْ رجوعِهم إلى ربهم. ويجوزُ أن يكون "لأنَّهم" أي: سَبَبُ الوجَلِ الرجوعُ إلى ربهم.
* { أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }
قوله: {أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ}: هذه الجملةُ خبرُ "إنَّ الذين". وقرأ الأعمش "إنهم" بالكسر على الاستئنافِ فالوقفُ على "وَجِلة" تامٌّ أو كافٍ. وقرأ الحُرُّ "يُسْرِعُون" منْ أَسْرع. قال الزجاج: "يُسارِعُون أَبْلَغُ" يعني من حيث إنَّ المفاعَلة تَدُلُّ على قوةِ الفعلِ لأجلِ المغالبةِ.
قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} في الضمير في "لها" أوجهٌ، أظهرها: أنَّه يعودُ على "الخيرات" لتقدُّمِها في اللفظ. وقيل: يعودُ على الجنة. وقيل: على السعادة. وقيل: على الأمم,. الظاهرُ أنَّ "سابقون" هو الخبرُ. و"لها" متعلقٌ به قُدِّمَ للفاصلةِ وللاختصاصِ. واللامُ قيل: بمعنى إلى. يقال: سَبَقْتُ له وإليه بمعنىً. ومفعولٌ "سابقون" محذوفٌ تقديرُه: سابقون الناسَ إليها. وقيل: اللامُ للتعليل أي: سابِقُون الناسَ لأجلِها. وتكونُ هذه الجملةُ مؤكدةً للجملةِ قبلها، وهي "يُسارِعُون في الخيرات" ولأنها تفيدُ معنىً آخرَ وهو الثبوتُ والاستقرارُ بعدما دَلَّتِ الأولى على التجدد.
وقال الزمخشري: "أي فاعلون النَّسبْقَ لأجلها أو سابقونَ الناسَ لأجلها". قال الشيخ: "وهذا القولان عندي واحدٌ". قلت: ليسا بواحدٍ إذ مرادُه بالتقدير الأول أَنْ لا يُقَدَّرَ للسَّبْقِ مفعولٌ البتةَ، وإنما الغرضُ الإِعلامُ بوقوعِ السَّبْقِ منهم غيرِ نَظَرٍ إلى مَنْ سَبقوه كقولِه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} "يعطي ويمنع" وغرضُه في الثاني تقديرُ مفعولٍ حُذِف للدلالةِ، واللام للعلة في التقديرين.
(11/57)
---(1/4314)
وقال الزمخشري أيضاً: "أو إياها سابقون أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عُجِّلت لهم في الدنيا". قلت: يعني أنَّ "لها" هو المفعولُ بـ"سابقون" وتكون اللامُ قد زِيْدَتْ في المفعولِ. وحَسَّن زيادتَها شيئان،/ كلٌّ منهما لو انفرد لاقتضى الجوازَ: كونُ العاملِ فرعاً، وكونُه مقدّماً عليه معمولُه. قال الشيخ: "ولا يَدُل لفظُ "لها سابقون" على هذا التفسيرِ لأنَّ سَبْقَ الشيءٍ الشيءَ يدلُّ على تقدُّمِ السابقِ على المسبوقِ فكيفَ يقول: وهم يَسْبقون الخيراتِ؟ وهذا لا يَصِحُّ". قلت: ولا أَدْري: عدمُ الصحةِ من أيِّ جهةٍ؟ وكأنه تخيَّل أنَّ السابِقَ يتقدَّم على المسبوعٌ فكيف يتلاقيان؟ لكنه كان ينبغي أن يقولَ: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات وهم لا يُجامِعُونها لتقدمُّمهم عليها؟ إلاَّ أنْ يكونَ قد سبقه القلمُ فكَتَبَ بدل "وهم يَنالون": "وهم يَسْبِقون"، وعلى كلِّ تقديرٍ فأين عَدَمُ الصِّحة؟.
وقال الزمخشري أيضاً: "ويجوز أَنْ يكونَ "وهم لها سابقون" خبراً بعد خبرٍ، ومعنى "وهم لها" كمعنى قوله:
3420ـ أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ
يعني أنَّ هذا الوصفَ الذي وَصَفَ به الصالحين غيرُ خارجٍ من حَدِّ الوْسْعِ والطاقةِ". فتحصَّل في اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى "إلى". الثاني: أنها للتعليلِ على بابِها. الثالث: أنَّها مزيدةٌ. وفي خبرِ المبتدأ قولان، أحدُهما: أنه "سابِقون" وهو الظاهرُ. والثاني: أنه الجارُّ كقولِه:
ـ أنت لها أحمدُ مِ،ْ بينِ البَشَرْ
وقد رجَّحه الطبريُّ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عباس.
* { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
قوله: {يَنطِقُ}: صفةُ لـ"كِتاب",. و"بالحق" يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ"يَنْطِقُ"، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، حالاً من فاعلِه أي: يَنْطِق مُلْتسباً بالحق.
(11/58)
---(1/4315)
* { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }
قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: كقولِه {هُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.
* { حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }
قوله: {حَتَّى إِذَآ}: "حتى" هذه: إمَّا حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدَها غايةٌ لِما قبلها، و"إذا" الثانيةُ فجائيةُ هي جواُ الشرطيةِ، وإمَّا حرفُ جَرٍّ عندَ بعضِهم. وقد تقدَّم تحقيقُه غيرَ مرةٍ. وقال الحوفيُّ: "حتى غايةُ، وهي عاطفةٌ، "إذا" ظرفٌ مضافٌ لِما بعده، فيه معنى الشرطِ، "إذا" الثانية في موضعِ جواب الأولى، ومعنى الكلام عاملٌ في "إذا" والمعنى جَاَْرُوا. والعاملُ في الثانيةِ "أَخَذْنا". وهو كلامٌ لا يَظْر.
وقال ابن عطية: و"حتى" حرفُ ابتداءٍ لا غيرُ. و"إذا" والثانيةٌ التي هو جوابٌ تمنعان مِنْ أَنْ تكونَ "حتى" غايةً لـ"عامِلون". قلت: يعني أن الجملةَ الشرطيةَ وجوابَها لا يَظْهر أَنْ تكونَ غايةً لـ"عامِلون". وظاهرُ كلامِ مكي أنها غايةٌ لـ"عامِلون" فإنَّه قال: "أي لكفارِ قريش أعمالُ من الشرِّ دونَ أعمالِ أهلِ البرِ لها عاملون، إلى أن يأخذَ اللهُ أهلَ النِّعْمةِ والبَطَرِ منهم إذا هم يَضِجُّون". انتهى.
والجُؤَار: الصُّراخُ مطلقاً. وأنشد الجوهري:
3421ـ يُراوِحُ مِنْ صَلَواتِ المَلِيْكِ * طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤارا
وقد تقدَّم هذه مستوفىً في النحل.
* { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ }
قوله: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ"تَنْكِصُون". كقوله {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}؟ والثاني: أنه متعلقٌ بمجذوفٍ لأنه حال مِنْ فاعلِ "تَنْكِصُون" قاله أبو البقاء ولا حاجةَ إليه. وقرأ أميرُ المؤمنين "تَنْكُِصُون" بضم العين. وهي لغةٌ.
(11/59)
---(1/4316)
* { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ }
قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ}: حالٌ مِنْ فاعل "تَنْكِصُون". قوله: "به" فيه قولان، أحدُهما: أنَّه يتعلقُ بـ:"مُسْتكْبرين". والثاني أنه متعلقٌ بـ"سامِراً". وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه بـ"تَنْكِصون"، كقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ}. والباءُ هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ ع ليهم، وبسببِ البيتِ لأنهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه بـ"سامِراً" فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنه كانوا يَسْمُرُون بالقرآنت وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ، فالباء ظرفيةٌ على هذا، و"سامِراً"/ نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل "تَنْكِصُون"، وإمَّا مِنَ الضمير في "مُسْتَكْبرين".
وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة ـ وتُروى عن أبي عمروٍ ـ "سُمَّراً" بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً. وزيد بن عليى وأبو رجاء وابن عباس أيضاً "سُمَّاراً" كذلك، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء، وكلاهما جمعٌ لـ"سامِِر". وهما جمعان مَقيسان لـ"فاعِل" الصفةِ نحو: ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب. والأفصحُ الإفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإفراد تقول: قومٌ سامِرٌ. والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر، فيجلسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به. قال الشاعر:(1/4317)
(11/60)
---
3422ـ كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا * أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
وقال الراغب: "السَّامِرُ: الليلُ المظلم، ولا آتِْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ، يَعْنُون الليل والنهار. والسُّمْرة: أحدُ الألوان، والسَّمْراء: كُني بها عن الحِنْطة".
قوله: {تَهْجُرُونَ} قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما. الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هَذَى فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: "يعني سَبَّ الصحابةِ". زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ.
* { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ }
قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ}: الجمهورُ على كسرِ الواوِ لالتقاء الساكنين. وابن وثاب بضمِّها تشبهاً بواوِ الضميرِ كما كُسِرَتْ واوُ الضميرِ تشبهاً بها.
(11/61)
---(1/4318)
قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ} العامَّةُ على إسناد الفعل إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه. والمرادُ: أَتَتْهم رسلُنا. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ "آتيناهم" بالمدِّ بعمنى أَعْطيناهم، فيُحتمل أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني غيرَ مذكورٍ. ويُحتمل أَنْ يكونَ "بذِكْرِهم" والباءُ مزيدةٌ فيه. وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمروٍ أيضاً "أَتَيْتُهم" بتاءِ المتكلم وحدَه. وأبو البرهسم وأبو حيوة والجدري وأبو رجاء "أَتَيْتُهُمْ" بتاء الخطاب، وهو للرسول عليه السلام, وعيسى "بذكراهم" بألفِ التِأنيث. وقتادةُ "نُذَكِّرُهم" بنون المتكلمِ المعظمِ نفسَه مكانَ باءِ الجرِّ مضارعَ "ذَكَّر" المشدَّدِ، ويكون "نُذَكِّرُهم" جملةً حاليةً. وقد تقدَّم الكلامُ في "خَرْجاً" و"خَراج" في الكهف.
* { وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }
قوله: {عَنِ الصِّرَاطِ}: متعلقٌ بـ"ناكِبون"، ولا تمنعُ لامُ الابتداءِ مِنْ ذلك على رأيٍ قد تقدَّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدولُ والمَيْلُ. ومنه النَّكْباءُ للريح بين رِيْحَيْنِ، سُمِّيَتْ بذلك لعُدولها عن المَهَابِّ ونَكَبَتْ حوداثُ الدهر أي: هَبَّتْ هبوبَ النَّكْباء، والمَنْكِبُ: مُجْتَمَعُ ما بينَ العَضُدِ والكَتِفِ. والأَنْكَبُ المائلُ المَنْكِبِ. ولفلانٍ نِكابة في قومه أي: نِقابة فيشبه أن تكونَ الكافُ بدلاً من القاف. ويقال: نَكَبَ ونَكَّب مُخَففاً ومُثَقلاً.
* { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
(11/62)
---(1/4319)
قوله: {لَّلَجُّواْ}: "لو". وقد توالى فيه لامان وفيه تَضْعيفٌ لقول مَنْ قال: إنَّ جوابها إذا نفي بـ"لم" ونحوِها مِمَّا صُدِّر فيه حرفُ النفي بلام، إنه لا يجوزُ دخولُ اللامِ لو قلت: "لو قام زديٌ لَلَمْ يقم عمروٌ" لم يَجْزْ قال: لئلاَّ يتوالَى لا مان. وهذا موجودٌ في الإِيجابِ كهذهِ الآية ولم يَمْنَعْ، وإلاَّ فما الفرقُ بين النفي والإِثباتِ في ذلك؟
واللَّجاجُ: التَّمادِي في العِناد في تعاطي الفعلِ المزجورِ عنه. ومنه اللَّجَّة بالفتح لتردُّد الصوت كقوله:
4323ـ في لَجَّمةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ
ولُجَّة البحرِ لتردُّدِ أمواجه. ولُجَّةُ الليلِ لتردُّدِ ظَلامِه. واللَّجْلَجَةُ تردُّدُ الكلامِ، وهو تكريرُ لَجَّ. ويقال: لَجَّ وأَلجَّ.
* { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }
قوله: {فَمَا اسْتَكَانُواْ}: قد تقدم قبلَه استكان في آل عمران. وجاء الأولُ ماضياً، والثاني مضارعاً ولم يَجِيْئا ماضيين ولا مضارعين، ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً؛ لإفادةِ الماضي وجودَ الفعلِ وتحقُّقَه وهو بالاستكانةِ أليقُ بخلافِ التضرُّع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبالِ. وأمَّا الاستكانةُ فقد تُوْجَدُ منهم. وقال الزمخشري: "فإن قلت: هلاَّ قيل: وما تَضَرَّعوا فما يَسْتَكِيْنون.قلت: لأن المعنى مَحَنَّاهم فما وُجِدَتْ منهم عقيبَ المِحْنَةِ استكانةٌ، وما من عادةِ هؤلاء أَنْ يَسْتَكينوا ويتضرعوا حتى/ يُفْتَحَ عليهم بابٌ العذابِ الشديد". قلت: فظاهرُ هذا أنَّ "حتى" غايةٌ لنفيِ الاستكانةِ والتضرُّعِ.
* { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }
وقرىء "فَتَّحنا" بالتشديدِ. والكلام في "إذا" و"إذا" قد تقدم قريباً. وقرأ السُّلميُّ "مُبْلَسُوْن" بفتحِ اللامِ مِنْ أَبْلَسه أي: أدخله في الإبْلاس.
(11/63)(1/4320)
---
* { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}: قرأ أبو عمروٍ ـ في روايةٍ ـ "يَعْقِلون" بياء الغيبةِ على اللالتفات.
* { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}: قرأ أبو عمرو "سيقولون اللهُ" في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه "مَنْ" [مِنْ] قولِه: "سيقولون اللهُ، قل: أفلا تَتَّقون" "سيقولون اللهُ ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرون" لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو "مَنْ" فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ المرضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون "لله" في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه "مَنْ ربُّ السموات" وبين قولِه "لِمَنِ السموات". ولا بينَ قولِه "م،َْ بيده" ولا "لِمَنْ له" إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك: مَنْ ربُّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ. وإن شِئٍتَ: لزيدٍ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال: لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه "لله" لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز؛ لأنه لا فرقَ بين "لِمَن الأرضُ" و"مَنْ رَبُّ الأرض" إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
* { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ} قد قُرىء هنا ببعض ما قُرىء به في نظيره: فقرأ ابنُ أبي إسحاق "أَتَيْتَهم" بتاء الخطاب، وغيرُه بتاء المتكلم.
* { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }
(11/64)
---(1/4321)
قوله: {إِذاً لَّذَهَبَ}: "إذَنْ" جوابٌ وجزاءٌ. قال الزمخشري: فإن قلتَ: "إذَنْ" لا تَدْخُلُ إلاَّ على كلامٍ هو جوابٌ وجزاءٌ، فكيف وقع قولُه: "لَذَهَبَ" جواباً وجزاءً، ولم يتقدَّمْه شرطٌ ولا سؤالُ سائلٍ؟ قلت: الشرطُ محذوفٌ تقديرُه: "لو كان معه آلهةٌ" حُذف لدلالةِ "وما كان معه مِنْ إلَهٍ". قلت: هذا رأي الفرءا، وقد تقَّدم ذلك في الإِسراء في قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ
}. قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ}. وقرىء تَصِفُون، بتاء الخطابِ. وهو التفاتٌ.
* { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصم بالجرِّ على البدل من الجلالةِ. وقال الزمخشري: صفة الله" كأنَّه تَمَحَّضَ للإِضافةِ فتعرَّفَ المضافُ. والباقون بالرفع على القطعِ خبرَ مبتدأ محذوفٍ.
قوله: {فَتَعَالَى} عطفٌ على معنى ما تَقَدَّم كأنه قال: عَلِمَ الغيبَ فتعالَى كقولِك: زيدٌ شجاعٌ فَعَظُمَتْ منزلتُه أي: شَجُعَ فعَظُمَتْ. أو يكونُ على إضمارِ القولِ أي: أقول: فتعالَى اللهُ.
* { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ }
قوله: {إِمَّا تُرِيَنِّي}: قرأ العامَّةُ "تُرِيَنِّي" بصريحِ الياء. والضحَّاك "تُرِئَنِّي" بالهمز عوض الياء وهذا كقراءته: "فإمَّا تَرَئِنَّ" "لَتَرَؤُنَّ" بالهمز وهو بدلٌ شاذٌ.
* { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله: {فَلاَ تَجْعَلْنِي}: جوابُ الشرط. و"رَبِّ" نداءٌ معترضٌ بين الشرطِ وجزائِه.
* { وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ }
قوله: {عَلَى أَن نُّرِيَكَ}: متعلقٌ بـ لَقادِرون أو بمحذوفٍ على خلافٍ سَبَقَ: في أنَّ هذه اللامَ تمنعُ ما بعدها أَنْ تعملَ فيما قبلها.
* { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ }
(11/65)
---(1/4322)
قوله: {مِنْ هَمَزَاتِ}: جمع هَمْزَة وهي النَّخْسَة والدَّفْعَةُ بيدٍ وغيرِها. المِهْماز: مِفْعال من ذلك كالمحِراث من الحَرْث. والهَمَّاز: الذي يَعيبُ الناسَ كأنه يَدْفع بلسانه ويَنْخُس به.
* { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ }
قوله:{حَتَّى إِذَا}: في "حتى" هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: "بما يَصِفون". الثاني: أنها غايةٌ لـ"كاذبون". وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: "حتى تتعلق بـ"يَصِفون" أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ". ثم قال: "أو على قولِه "إنهم لكاذِبون". قلت: قوله: أو على قولِه كذا" كلام محملٌ على المعنى إذ التقدير "حتى" مُعَلَّقَةٌ على "يَصِفون" أو على قوله: "لَكاذِبون". وفي الجملة فعبارةٌ مُشْلكة.
الثالث: قال ابنُ عطية: "حتى" في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه". قال الشيخ: "فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن "حتى" إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ". وقال أبو البقاء: "حتى" غايةٌ في معنى العطفِ". وقال الشيخكم "والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكمون "حتى" غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر:
3424ـ فيا عَجَبا حمتى كُليْبٌ تَسُبُّني * ....................
أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.
(11/66)
---(1/4323)
قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} في قوله "ارْجِعُون" بخطابِ الجمعغ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر:
3425ـ فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ * وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
وقال آخر:
2326ـ ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ * ..............................
قد يُؤْخَذُ من هذا البيت ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال: "إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون". قال "لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد". وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.
الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله: "إرْجِعُون" ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، بفحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} التفاتاً لـ"أهل" المحذوف.
الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه:
3427ـ فِقا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ * ....................
أي: قِفْ قِفْ.
* { لَعَلِّيا أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
قوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ}: من بابِ إطْلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ. كقوله: "أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةٌ لبيدٍ" بعني قوله:
3428ـ ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ * ......................
وقد تقدَّم طَرَفٌ مٍنْ هذا بأوسعِ عبارةٍ في آل عمران. و"هو قائلُها" صفلةٌ لـ"كلمة".
(11/67)
---(1/4324)
قوله: {بَرْزَخٌ} البَرْزَخْ: الحاجِزُ بين المتنافِيَيْنِ. وقيل: الحِجابُ بين الشيئين أَنْ يَصِلَ أحدُهما للآخر، وهو بمعنى الأول. وقال الراغب: "أصلُه بَرْزَه بالهاءِ فَعُرِّب. وهو في القيامة الحائلُ بين الإِنسانِ وبين المنازلِ. الرفيعة. والبَرْزَخُ قبلَ البعثِ: المَنْعُ بين الإنسانِ وبين الرَّجْعَةِ التي يتمنَّاها".
* { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ }
قوله: {فِي الصُّورِ}: قرأ العامَّةُ بضم الصادِ وسكونِ الواو. وابن عباسٍ والحسنُ بفتحِ الواوِ جمعَ صورة. وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواوِ وهو شاذٌّ، وهذا عكسُ "لُحَى" بضم اللام جمعَ "لِحْية" بكسرِها.
قوله: {فَلاَ أَنسَابَ} الأنسابُ: جمعُ نَسَب وهو القَرَابةُ مِنْ جهةِ الوِلادة، ويُعَبَّر به عن التواصلِ، وهو في الأصلِ مصدرٌ. قال الشاعر:
3429ـ لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً * اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقِع
قوله: {بَيْنَهُمْ} يجوزُ تَعَلُّقُه بنفسِ "أنساب"، وكذلكَ "يومئذٍ" أي: فلا قرابةَ بينهم في ذلك اليوم. ويجوزُ أن يتلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "أَنْساب". والتنوينُ في "يومئذٍ" عوضٌ من جملةٍ، تقديرهُ: يومَ إذ يُنْفخ في الصُّور.
* { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُوااْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }
(11/68)
---(1/4325)
قوله: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ "خالِدون" خبراً ثانياً لـ"أولئك" وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم خالدون، وقال الزمخشري: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدلٌ مِنْ "خَسِروا أنفسَهم"، ولا محلَّ للبدلِ والمبدلِ منه؛ لأنَّ الصلة لا مَحَلَّ لها. قال الشيخ: "جَعَلَ "في جهنم" بدلاً مِنْ "خَسِروا" وهذا بدلٌ غريبٌ. وحقيقتُه أَنْ يكونَ البدلُ الفعلَ الذي تَعَلَّق به "في جهنم" أي: استقرُّوا في جهنم، وهو بدلُ شيءٍ مِنْ شيء؛ لأنَّ مَنْ خَسِر نفسَه استقرَّ في جهنَم".
قلت: فجعل الشيخُ الجارُّ والمجرورَ البدلَ دون "خالدون" والزمخشريُّ جعل جميع ذلك بدلاً، وبدليلِ قولِه بعد ذلك: "أو خبرٌ بعد خبرٍ لـ"أولئك" أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ". وهذان إنما يلقيان بـ"خالدون"، وأمَّا "في جهنم" فمتعلِّقٌ به، فيحتاج كلامُ الزمخشريِّ إلى جوابٍ. وأيضاً فيصير "خالدون" مُفْلتاً. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الموصولُ نعتاً لاسمِ الإِشارة وفيه نظرٌ؛ إذا الظاهرُ كونُه خبراً له.
* { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ }
قوله: {تَلْفَحُ}: يجوزُ استئنافُه، ويجوز حاليَّتُه. ويجوز كونُه خبراً آخرَ لـ"أولئك"، واللَّفحُ: إصابةُ النارِ الشيءَ/ وكَلْحها وإحْراقُها له، وهو أشَدُّ من النَّفْخِ. وقد تقدَّم النفخ في الأنبياء.
قوله: {كَالِحُونَ} الكُلُوح: تَشْميرُ الشَّفَةِ العليا، واسترخاءُ السُّفْلى. وفي الترمذي: تَتَقَلَّصُ شَفَتُه العليا، وحتى بتلغَ وسطَ رأسِه، وتَسْتَرْخي السلفى حتى تَبْلُغَ سُرَّته" ومنه "كُلوحُ الأَسَدِ" أي: تكشيرُه عن أنيابِه. ودهرٌ كالِحٌ، وبردٌ كالحٌ أي: شديد. وقيل: الكُلُوْحُ هو: تَقْطيبُ الوجهِ وبُسُورُه. وكَلَح الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً وكِلاحاً.
* { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ }
(11/69)
---(1/4326)
قوله: {شِقْوَتُنَا}: قرأ الأخَوان: "شَقاوتُنا" بفتح الشين وألفٍ بعد القاف. والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة. وأنشد الفراء:
3430ـ كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ * بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز. قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ. وشبلٌ في اختيارُ كالباقين، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.
* { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }
قوله: {إِنَّهُ كَانَ}: العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ استئنافاً. وأُبَيّ والعتكيُّ بفتحها أي: لأنه. والهاءُ ضميرُ الشأنِ.
* { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ }
قوله: {سِخْرِيّاً}: مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي ص بكسرِ السين. والباقون بضمّشها في المؤمين. واختلف الناس في معناهما. وفقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: "إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ ـ وتبعه مكي ـ قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}. قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً. والسُّخْرَةْ بالتاء: الاستخدام، وسُخْرِيَّاً" ـ بالضمِّ ـ منها، والسُّخْرُ بدونها: الهزء، والمكسورُ منه. قال الأعشى:
3431ـ إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به * مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ
(11/70)
---(1/4327)
ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما. إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ عبدِ الله كسروه أيضاً، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى.
والياءُ في "سِخريَّاً" و"سُخْريَّاً" للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص: خصوصيَّة، دلالةً على قوةِ ذلك، قال معناه الزمخشري.
* { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوااْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ }
قله: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ}: قرأ الأخوان بكسرِ الهمزةِ استئنافاً. والباقون بالفتحِ، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه تعليلٌ وهي موافقةٌ للأولى فإنَّ الاستئنافَ يُعَلَّلُ به أيضاً. والثاني ـ ولم يذكُرْ الزمخشري غيرَه ـ أنَّه مفعولٌ ثانٍ لجَزَيْتُهم. أي: بأنهم أي: فَوزْهم. وعلى الأول يكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً.
* { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ }
قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ}: قرأ الأخَوان "قل: كم لَبِثْتُمْ". "قُلْ إنْ لبثتم" بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون "قال" في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافلقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو افقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و"كم" في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و"عددَ" بدلٌ مِنْ "كم" قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن "عد سنين" تمييز لـ"كم" وهذا هو الصحيحُ.
(11/71)
---(1/4328)
وقرأ الأعمش والفضل عن عاصم "عَدَداً" منوناً. وفيه أوجهق، أحدُها: أَنْ يكونَ "عدداً" مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب "اللوامح". يعني أن الأصل: "سنين عدداً" أي: معدودة، لكنهخ يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالاً. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ "لَبِثْتُم" بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ "عدداً" على المصدر و"سنين" بدلٌ منه. وقال صاحب "اللوامح" أيضاً: "وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد". والثالث: أنَّ "عدداً" تمييزٌ لـ"كم" و"سنين" بدلٌ منه.
* { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ }
قوله: {الْعَآدِّينَ}: جمعُ "عادِّ" من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ "عادٍ" اسم فاعل مِنْ عدا أي/: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: "وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقَّدمين كقولك: "وهذه بِئْرٌ عادية"، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النَسب كما قالوا الأشعرون حَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين". قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنهنا المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: "وقُرىء "العادِيِّين" أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم؟". وقال ابن خالويه: "ولغةٌ أخرى "العاديِّين" ـ يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة ـ بمعنى القدماء".
* { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله: {لَّوْ أَنَّكُمْ}: جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: لو كنتم تعلمونَ مقدارَ لُبْثِكم من الطول لَمَا أَجَبْتُم بهذه المدة. وانتصب "قليلاً" على النعتِ لزمنٍ محذوفٍ أو لمصدرٍ محذوف أي: إلاَّ زمناً قليلاً أو إلاَّ لُبْثاً قليلاً.
(11/72)
---(1/4329)
* { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }
قوله: {عَبَثاً}: في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: عابثين. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجل العَبَثِ. والعَبَثُ: اللَّعِبُ وما لا فائدةً فيه وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ. يقال: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثاً إذ خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ. وأصله من قولِهم: عَبَثْتُ الأَقِطَ أي: خَلَطْتُه. والعَبِيْثُ طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِيُّ لتمر وسَوِيْقٍ وسمن مختلط.
قوله: {وَأَنَّكُمْ} يجوز أَنْ يكونَ معطوفاتً على {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} فيكونُ الحُسْبانُ منسحباً عليه، وأن يكون معطوفاً على "عبثاً" إذا كان مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "عبثاً" أي: للبعث ولتَرْكِكِم غيرَ مرجوعين". وقدَّم "إلينا" على "تُرْجَعون" لأجل الفواصلِ.
قوله: {لاَ تُرْجَعُونَ} هو خبر "انكم". زوقرأ الأخوان "تَرْجِعُون" مبنياً للفاعل. البابقون مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنَّ "رَجَعَ" يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلاَّ متعدِّياً والمفعولُ محذوفٌ.
* { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
قوله: {الْكَرِيمِ}: قرأه العامَّةُ مجروراً نعتاً للعرش وُصِفَ بذلك لتَنَزُّل الخيراتِ منه أو لنسبتِه إلى أكرمِ الأكرمين. وقرأ أبو جعفر وأنب محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب مرفوعاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ للعرش أيضاً. ولكنه قُطِع عن إعرابه لأجلِ المدحِ على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيدٌ لتَوافُقِ القراءتين في المعنى. الثاني: أنه نعتٌ لـ"رب".
* { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
(11/73)
---(1/4330)
قوله: {وَمَن يَدْعُ}: شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله "فإنما حِسابُه" وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ} وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ لـ"إلهاً" وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون إلإلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: "وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله: "يَطير بجناحيه"، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك: "مَنْ أحسن إلى زيدٍ ـ لا أحقَّ بالإِحسان منه ـ فاللهُ مُثيبُه".
الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ "قولُه لا بُرْهانَ له به" كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله:
3432ـ مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها * ....................
البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ "لا برهانَ له" على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
(11/74)
قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ "انه" بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر "حِسابُه" قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع "الكافرون" في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك "حٍسابُه أنه لا يُفلح" في معنى: حاسبهم أنه لا يُفْلحون" انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [لـ] أنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن "لا يَفْلح" بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. الله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.(1/4331)
سورة النور
* { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}: يجوزُ في رَفْعِها وجهان. أحدهما: أن يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعدَها صفةٌ لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ. وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وإلى هذا نحا ابن عطية، فإنه قال: "ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وما بَعد ذلك. والمعنى: السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم". والثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ.
(11/75)
---(1/4332)
والوجهُ الثانِ مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: "سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عتليك سورةٌ فلا تكونُ "سورةٌ" مبتدأَةً لأنها نكرةٌ". وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم. وقرأ الحسن بن عبدالعزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدُ وأبو حيوة في آخرين "سورةً" بالنصبِ. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه. بتقديره: اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده. والمسألةُ من الاشتغال. تقديرُه: أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها. والفرق بين الوجهين: أنَّ الجملةَ بعد "سورةً" في محلِّ نصبٍ على الأول، ولا محلَّ لها على الثاني. الثالث: أنها منصوبةٌ على الإِغراء، أي: دونَكَ سورةً. قال الزمخشري، ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ. ومعنى ذلك: أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [فيه] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ، وهنا لو رُفِعَتْ "سورة" بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ. فلا يُقال: رجلاً ضربتُه لامتناعهِ: رجلٌ ضربتُه. ثم أجاب: بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز، أي: سورة مُعَظَّمة ـ أو مُوَضَّحة ـ أَنْزَلْناها، فيجوزُ ذلك.
(11/76)
---(1/4333)
الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ "ها" في "أَنْزِلْناها". والحالُ من المُكْنَى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في "أَنْزَلْناها" ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.
قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ. والباقون بالتخفيف. فالتشديد: إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض. والتخفيفُ بمعنى: أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها.
* { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}: في رفعهما وجهان: مذهب سيبويه أنَّه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم حكمُ الزانية. ثم بيَّن ذلك بقوله: {فَاجْلِدُواْ} إلى آخره. والثاني وهو مذهبُ الأخفش وغيرِه: أنه مبتدأٌ. والخبرُ جملة الأمر. ودخلت الفاءُ لشبْه المبتدأ بالشرط. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألةِ مستوفىً عند قولِه {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} وعند قولِه {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} فأغنى عن إعادتِه.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة ورُوَيْس بالنصبِ على الاشتغال. وقال الزمخشري: "ةوهو أحسنُ مِنْ "سورةً أنزلناها" لأجلِ الأمر. وقُرىء "واللذَّانِ" بلا ياءٍ.
(11/77)
---(1/4334)
قوله: {رَأْفَةٌ} قرأ العامَّةُ هنا، وفي الحديد، بسكون الهمزة، وابنُ كثير بفتحها. وقرأ ابن جُرَيْج ـ وتُروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم ـ "رَآفة" بألفٍ بعد الهمزة بزنةِ سَحابة، وكلُها مصادِرُ لـ رَأَفَ به يَرْؤُف. وقد تقدَّم معناه. وأشهرُ المصادرِ الأولُ. ونقل أبو البقاء فيها لغةً رابعةً: وهي إبدالُ الهمزةِ ألفاً. مثلُ هذا ظاهرٌ غيرُ محتاجٍ للتنبيهِ عليه فإنها لغةٌ مستقلةٌ وقراءةٌ متواترة.
وقرأ العامَّةُ "تَأْخُذْكم" بالتأنيثِ مراعاةً للَّفظِ. وعلي بن ابي طالب والسُّلمي ومجاهد بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفصلِ بالمفعولِ والجارِّ. و"بهما" متعلقٌ بـ"تَأْخُذْكم" أو بمحذوفٍ على سبيل البيانِ. ولا يتعلَّقُ بـ"رَأْفة" لانَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وفي "دين الله" متعلقٌ بالفعلِ قبله أيضاً. وهذه الجملةُ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها، أو هي الجوابُ عند بعضِهم.
* { الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {وَحُرِّمَ ذالِكَ}: قرأ أبو البرهسم "وحرَّم" مبنياً للفاعل مشدِّداً. زيد بن علي "وحَرُمَ" بزنة كَرُم.
* { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
(11/78)
---(1/4335)
قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}: كقولِه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ}، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله. وقوله: {الْمُحْصَنَاتِ} فيه وجهان أحدُهما: أنَّ المرادَ به النساءُ فقط، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ. والثاني: أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال، وعلى هذا فيقالُ: كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ: أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ، أي: الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ. أو تقولُ: ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى، والإجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي: والمُحْصَنين.
قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبدالله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: "لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين" وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و"شهداء" مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ} وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو: ثلاثةُ رجالٍ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.
وفي {شُهَدَآءَ} على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ موهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث.
(11/79)
---(1/4336)
قوله: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} يجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً. وهو الأظهرُ، وجَوَّزَ أبو البقاء فيها أن تكونَ حالاً.
* { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}: في هذا الاستثناءِ خلافٌ: هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليهم من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي. فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ، والمهاباذي إلى الأخيرة. وقال الزمخشري:"ردٌّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ. فإذا شهد
[به] قبل الحَدَّ أو قبلَ مام استيفائِه قُلِبَتْ شهادتُه. فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ. فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة. وكلاهما متمسِّكٌ بالآية: فأبو حنيفةَ ـ رحمه الله ـ جَعَلَ جزاءَ الشرطِ ـ الذي هو الرميُ ـ الجَلْجَ ورَدَ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم، وجعل قولَه {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ، و{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} استثناءٌ من "الفاسقين". ويَدُلُّ عليه قولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. والشافعيُّ ـ رحمه الله ـ جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [والرجوع] عن القذف، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً". انتهى، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه.
(11/80)
---(1/4337)
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في "لهم" وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه "وحَقُّ المستثنى عنده ـ أي الشافعي ـ أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ "هم" في "لهم"، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. الذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصنتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسِّقين". وقال الشيخ: "وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها".
والوجه الثالث: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ من قولِه {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. واعتُرِض بخُلُوِّهما مِنْ رابطٍ. وأُجيب بأنه محذوفٌ أي: غفورٌ لهم، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ: هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً.
* { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }
(11/81)
---(1/4338)
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ}: في رفع "أنفسهم" وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ "شهداء"، ولم يذكر الزمخشري في غضونهِ كلامِه غيرَه. والثاني: أنه نعتٌ له، على أنَّ "إلاَّ" بمعنى "غير". قال أبو البقاء: "ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان، أو منصوباً على الاستثناء. وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ "إلاَّ" هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء". قلت: وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ "كان" ناقصةً، وخبرُها الجارُّ، وأَنْ تكونَ تامةً أي: ولم يُوجَدْ لم شهداءُ.
وقرأ العامَّةُ "يكن" بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ "إلاَّ" على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو:
ما قام إلاَّ هندٌ" ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله:
3433ـ ................. * وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةٍ الحسنِ: "لا تُرَى إلاَّ مَساكنُهم" وقرىء "ولم تَكُنْ" بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. المصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ "أربعَ شهاداتٍ" بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه "شهادة" فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً}. وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع "أربع" على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: "فشهادة".
(11/82)
---(1/4339)
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: "بالله"، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: "فشهادةُ" أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ بـ"أربع" لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول، وهو مختار البصريين. وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ. ولم يُختلفْ في "أربع" الثانية وهي قولُه "أَنْ تَشْهد أ ربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها. وهو الفعلُ.
* { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
(11/83)
---(1/4340)
قوله: {وَالْخَامِسَةُ}: اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفصٌ، نَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش. فالرفعُ على الابتداءِ، وما بعده مِنْ "أنَّ" وما في حَيِّزها الخبرُ. أمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ "أربعَ شهادات" يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها. وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي: ويَشْهَدُ الخامسةَ. وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو"اربع شهادات". والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه: ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه. وأمَّا "أنَّ" وما في حَيِّزها: فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم، وعلى قراءةِ النصبِ تكونَ على إسقاطِ الخافضٍ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي: ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة.
(11/84)
---(1/4341)
قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} قرأ العامَّةُ بتشديد "أنَّ" في الموضعين. وقرأ نافعٌ بتخفيضها في الموضعين، إلاَّ أنه يقرأ "غَضِبَ اللهُ" بجَعْلِ "غَضِبَ" فعلاً ماضياً، والجلالة فاعلَه. كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً، ولم ينقُلْه غيره. فعلى قراءتِه يكون اسمُ "أنْ" ضميرَ الشأنِ في الموضعين، و"لعنةُ الله" مبتدأ و"عليه" خبرُها. والجملةُ خبرُ "أنْ". وفي الثانية يكون "غضِبَ الله" جملةً فعليةً في محل خبر "إنْ" أيضاً، ولكنه يقال: يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ. تقريرُ ذلك: أنَّ خبرَ المخخفةِ منتى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ بـ"قد: وَجَبَ الفصلُ بينهما. بما تقدَّم في سورة المائدة. فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطليبةَ لا تقع خبراً لـ"إنَّ". حتى تأوَّلوا قولَه:
3434ـ ........................ * إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله:
3435ـ إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ * لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
على إضمارِ القول. ومثلُه {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف "أنْ و"غَضَبُ الله" بالرفع على الابتداء، والجارُّ بعدَه خبرُه. والجلمةُ خبرُ "أنْ".
(11/85)
---(1/4342)
وقال أبنُ عطية: "وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله: "أَنْ غَضِبَ" وقد وليها الفعلُ. وقال أبو علي: "وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشء نحو قولِه {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} فأمَّا قولُه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} فذلك لقلةِ تمكُّنِ "ليس" في الأفعال. أمَّا قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} فـ"بُوْرِكَ" في معنى الدعاء فلم يَجيءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى". قلت: فظاهرُ هذا أنَّ "غَضِبَ" ليس دعاءً، بل هو خبرٌ عن "غَضَِبَ الله عليها" والظاهرُ أنه دعاءٌ، كما أنَّ "بُورك" كذلك. وليس المعنى على الإخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ.
* { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }
قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ}: جوابُ "لولا" محذوفٌ أي: لَهَلَكْتُمْ.
* { إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(11/86)
---(1/4343)
قوله: {نَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ}: في خبر "إنَّ" وجهان، أحدهما: أنه "عُصْبةٌ" و"منكم" صفتُه. قال أبو البقاء: "وبه أفادَ الخبر". والثاني: أنَّ الخبرَ الجملةُ مِنْ قولِه {لاَ تَحْسَبُوهُ} ويكونُ "عُصْبَةٌ" بدلاَ من فاعلِ "جاؤوا". قال ابن عطية: "التقديرُ: إنَّ فِعْلَ الذين. وهذا أنْسَقُ في المعنى وأكثرُ فائدةً من أَنْ يكونَ "عُصبةٌ" خبرَ إنَّ. كذا أورده عنه الشيخ غيرَ معترِضٍ عليه. والاعتراضُ عليه واضحٌ: من حيث إنه أوقع خبرَ "إنَّ" جلمةً طليبةً، وقد تقدم أنه لا يجوزُ. وإن وَرَدَ منه شيءٌ في الشعر أُوِّل كالبيتين المقتدمين، وتقديرُ إبنِ عطيةَ ذلك المضافَ قبل الموصولِ ليَصِحَّ به التركيبُ الكلاميُّ؛ إذ لو لم يُقَدِّرْ لكان التركيبُ: لا تَحْسَبوهم. ولا يعودُ الضمير في "لا تَحْسَبوه" على قولِ ابنِ عطيةَ على الإِفكِ لئلا تَخْلُوَ الجملةُ من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ. وفي قولِ غيرِه يجوزُ أَنْ يعودَ على الإفك أو على القَذِف، أو على المصدرِ المفهومِ من "جاؤوا" أو على ما نال المسلمين من الغَمِّ.
قوله: {كِبْرَهُ} العامَّةُ على كسرِ الكافِ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبدالرحمن، ورُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل: هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي: عَظُم، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال: هو كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي: أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً. وفي الحديث ـ في قصة مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة ـ "الكُبْرَ الكُبْرَ" ـ وقيل: الضم معظمُ الإِفْكِ، وبالكسرِ البُداءَةُ به. وقيل: بالكسر الإِثمُ.
* { لَّوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ }
(11/87)
---(1/4344)
قوله: {لَّوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ}: هذه تحضيضيةٌ، و"إذ" منصوبٌ بـ ظَنَّ. والتقدير: لولا ظَنَّ المؤمنين بأنفسِهم إذ سَمِعْتُموهن. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ. قال الزمخشري: "فإنْ قُلْتَ: هلاَّ قيل: لولا إذ سَمِعْتُموه ظَنَنْتُمْ بأنفسِكم خيراً وقُلْتم. ولِمَ عَدَلَ عن الخطابِ إلى الغَيْبة، وعن الضميرِ إلى الظاهرِ؟ قلت: ليُبالِغَ في التوبيخِ بطريقةِ الالتفاتِ، وليُصَرِّحَ بلفظِ الإِيمانِ دلالةً على أنَّ الاشتراكَ فيه مُقْتَضٍ أَنْ لا يُصَدِّقَ أحدٌ قالةً في أخيه". وقوله "لِمَ عَدَلَ الخطابِ"؟ يعني في وقولِه "وقالوا" فإنَّه كان الأصلُ: وقلتم فعدل عن هذا الخطاب إلى الغَيْبة في: "وقالوا". وقوله: "وعن الضميرِ" يعني أنَّ الأصلَ كان: ظَنَنْتُمْ فَعَدَلَ عن ضميرِ الخطابِ إلى لفظِ المؤمنين.
* { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ }
قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ}: "إذْ" منصوبٌ بـ"الكاذبون" في قوله: {فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. وهذا الكلامُ في قوةِ شرطٍ وجزاء.
* { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }
(11/88)
---(1/4345)
قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ}: "إذْ" منصوبٌ بـ"مَسَّكُمْ" أو بـ"أَفَضْتُمْ". وقرأ العامَّةُ "تَلَقَّوْنه". والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن كـ"تَنَزَّلُ" ونحوه. ومعناه: يلتقَّاه بعضُكم من بعض. البزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ "تَتَلَقَّوْنَه" بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ "تُلْقُوْنَه" بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ "ألقى" إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى "تَلْقَوْنه" بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: "جاؤوا بالمعتدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير". يعني أنهم جاؤوا بـ"تَلِقُوْنه" وهو متعدٍ مُفَسَّراً بـ"تُكذِّبون" وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: "إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد:
3436ـ جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ
وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون".
وقرأ زويد بن أسلم وأبو جعفر "تَأْلِقُوْنه" بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب "تِيْلَقُوْنه" بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل.
(11/89)
---(1/4346)
وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} وقد تقدَّم.
* { وَلَوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }
قوله: {وَلَوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ}: كقوله: {لَّوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ} ولكن لا التفاتَ فيه. وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف جاز الفصلُ بين "لولا" و"قُلْتم". قلت: للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها". قال الشيخ:"وهذا يُوْهِمُ اختصاص ذلك بالظروف، وهو جارٍ في المفعول به تقول، لولا زيداً ضَرَبْتَ، ولولا عمراً قَتَلْتَ".
وقال الزمخشري أيضاً: "فإِنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه. فإنْ قلتَ: ما معنى "يكون" والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل: ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت: معناه ينبغي ويَصِحُّ، أي: ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه: {مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أَقُولَ
}.
* { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله: {أَن تَعُودُواْ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلهِ أي: يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا. الثاني: أنه على حَذْفِ "في" أي: في أَنْ تعودوا نحو: وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه. الثالث: أنَّه ضُمِّنم معنى فِعْلٍ يتعدى بـ عَنْ،ثم حُذِفَتْ أي: يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ. وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ "أنْ" بعد نَزْعِ الخافضِ.
(11/90)
---(1/4347)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله: {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ}: في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها ضميرُ الشَّأن. وبه بدأ أبو البقاء. والثاني: أنها ضميرُ الشيطان. وهذان الوجهان إما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة الجماء. والثالث: أنه عائدٌ على "مَنْ" الشرطيَةِ.
قوله: {مَا زَكَا} العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال: زكا يَزْكُو. وفي ألفه الإِمالةُ وعدُمها. وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها. وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا. وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ. فعلى قراءة التخفيفِ يكون "مِنْ أحد" فاعلاً. وعلى قراءةِ الشديدِ يكونُ مفعولاً . و"مِنْ" مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. والفاعلُ هو اللهُ تعالى.
* { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوااْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوااْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله:
3437ـ .................. * ..... وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن "ولا يَتَأَلَّ" من الأَلِيَّة كقوله: "مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه". ويجوزَ أَنْ يكنَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى/: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} قال:
(11/91)
---(1/4348)
3438ـ وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْشِه * بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء: وقُرِىء "ولا يَتَأَلَّ" على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً".
قلت: ومنه:
3439ـ تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني * إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ
قوله: {أَن يُؤْتُوااْ} هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب "تُؤْتُوا" بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه: ألا تُحِبون". وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده.
* { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله: {أَن يُؤْتُوااْ}: ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به "لهم". وقيل: بل ناصبُه "عذابُ". ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ, وأجيب: بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما يُتَّسَعُ في غيرِه. وقرأ الأخَوان "يَشْهَدُ" بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ، وقد وقعَ الفَصْلُ. والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ.
* { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }
والتنوينُ في "إذ" عوضٌ من الجملة، تقديرُه: يوم إذ تشهد. وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه، وقرأ زيد بن علي "يُوْفِيْهِمْ" مخففاً مِنْ أَوْفَى. وقرأ العامَّةُ بنصب "الحق" نعتاً لـ"دينَهم"، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدُ ـ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ ـ برفعِه نعتاً لله تعالى.
(11/92)
---(1/4349)
* { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ}: يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً، ويجوزُ أَنْ يكونَ "لهم" خبرَ "أولئك" و"مغفرةٌ" فاعلُه.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قوله: {تَسْتَأْنِسُواْ}: يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ يَسْتَوْحِشُ من أنه: هل يُؤْذن له أولا؟ فيُزالُ استيحاشُه، وهو رَدِيْفُ الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه. وقيل: من الإِيناس وهو الإِبْصار أي: حتى تَسْتَكْشفوا الحال. وفسَّره ابن عباس "حتى تَسْتَأْذِنُوا" وليست قراءةً. وما يُنقل عنه أنه قال: "تستأنسوا خطأٌ من الكاتب، إنما هون تستأذنوا"..... منحولٌ عليه. وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوااْ} وقد تقدَّم القول فيه.
والاستِئْناسُ: الاسْتِعْلام، قال:
3440ـ كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا * يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ
وقيل: هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي: يتعرَّفُ: هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى الطبريُّ أنه بمعنى: وتُؤْنِسُوا أنفسَكم".
قال ابنُ عطية: "وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ".
* { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }
قوله: {أَن تَدْخُلُواْ}: أي: في أن تدخلوا. والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح.
(11/93)
---(1/4350)
* { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ}: في "مِنْ" أوجهٌ، أحدُها: أنها للتعبيضِ لأنَّه يُعْفَى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ. والثاني: لبيانٍ الجنسِ. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً بـ"مِنْ". والثالث: أنها لابتداءِ الغاية. وقاله ابنُ عطية. الرابعُ: أنها مزيدةٌ. وهو قولُ الأخفشِ.
* { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيا إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوااْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ}: ضَمَّن "يَضْرِبْنَ" معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه بـ"على". وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ.
وقرأ طلحة "بخُمْرِهنَّ" بكسونِ الميمِ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ. وكَسَر الجيمَ مِنْ "جُيُوْبِهِنَّ" ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان.
والغَضُّ: إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية. قال:
(11/94)
---(1/4351)
3441ـ فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ * فلا كعباً بَلَغغْتَ ولا كِلابا
والخُمُر: جمع خِمار. وفي القلَّة يُجْمَعُ على "أَخْمِرَة"، قال امرؤُ القيس:
3442ـ وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ * كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ
والجَيْبُ: ما في طَوْقِ القميصِ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ.
قوله: {غَيْرِ أُوْلِي} قرأ ابن عامر وأبو بكر "غيرَ" نصباً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ، والثاني: أنَّه حالٌ، والباقون "غيرِ" بالجرِّ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدَّم اشتقاقُها في طه.
قوله: {مِنَ الرِّجَالِ} حالٌ من "اُولي", وأمَّا قولُه: "او الطفلِ الذين" فقد تقدَّم في الحج أن "الطفلَ" يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع. وقيل: لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم: "أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ".
و"عَوْرات" جمعُ عَوْرَة وهو: ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه، وغَلَبَ في السَّوْءَتين. والعامَّةُ على "عَوْرات" بسكون الواوِ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ، سَكَّنوها تخفيفاً، لحرفِ العلة. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ "عَوَرات" بتفح العين. ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش. وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة. قال الفراء: "وأنشدَن] بعضُهم:
3443ـ أخُوا بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ * رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ، يعني من طريق الرواية، وإلاَّ فهي لغة ثابتة.
(11/95)
---(1/4352)
قوله: {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء، وهي "ها" التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف {ياأَيُّهَا السَّاحِرُ}، في الرحمن {أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ} بضم الهاء وصلاً، فإذا وَقَفَ سَكَّن. ووجْهُها: أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ. فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ، والباقون بدونِها، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل، نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ.
* { وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
قوله: {الأَيَامَى}: هو جمعُ "أيِّم" بزنةِ فَيْعِل. يُقال منه: آمَ يَئِيْم كباع يبيع قال الشاعر:
3444ـ كلُّ امرىءٍ سَنَئِيْكُ مِنْهُ * العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ
وقياسُ جمعِه "أيائم" كسَيِّد وسِيائِد. و"أَيامى" فيه وجهان، أظهرُهما: ـ من كلام سيبويه ـ أنه جمعٌ على فَعلى غيرَ مقلوب وكذلك "يَتامى"، وقيل: إن الأصل أيايِم ويتايِم في: أيِّم ويتيم فقُلبا. والأَيِّم: مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان أو أنثى. وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر مجازٌ. و"منكم" حالٌ وكذا "مِنْ عبادِكم".
(11/96)
---(1/4353)
* { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِيا آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}: يحجوز فيه الرفعُ على الابتداء. والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط. ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. وهذا أرجحُ لمكان الأمر.
وقال الزمخشري: "وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما: إذا لم يتزوَّجا، بِكْرين كانا أو ثِّيَبْن. قال:
3445ـ فإن تنكحِي أنكِحْ وإن تتأيَّمي * ـ وإن كنتُ أَفْتَى منكمُ ـ أتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم: "اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم". قلت: أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن، وبالعجمةِ شدةُ العطشِ. والأَيْمة: كول العُزْبَة، والكَزَم: شدةُ شهوةِ الأكل. والقَرَمُ: شدةُ شهوةِ اللحم.
قوله: {عَلَى الْبِغَآءِ} "البغاء" مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً، أي: زَنَتْ. وهو مختصٌّ بزِنى النساء. ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرادة.
(11/97)
---(1/4354)
قوله: {فِإِنَّ اللَّهَ} جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط. والعائدُ على اسمِ اشرط محذوفٌ تقديرُه: غفور لهم. وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه، وابن عطية، وأبو البقاء: فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي: للمُكْرَهات، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ. لا يُقال: إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ: مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ، تقول: "هندٌ عجبْتُ مِنْ ضَرْبِها زيداً" فهذا جائزٌ، ولو قلت: هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي: من ضَرْبِها، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً.
وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ "بهم" ورَجِّح تقديرَ "بهنَّ" فقال: "فيه وجهان، أحدُهما: غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَل. والثاني: فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ. وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ". وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على أسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ. ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ "لهنَّ" أورد سؤالاً فقال: "فإن قلتَ: لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزِّنَى ـ بخلاف المكرِه [عليه في أنها] غيرُ آثمةٍ ـ. قلت: لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ. وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً".
* { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }
وتقدَّمَ الخلافُ في "مُبَيّنات" كسراً وفتحاً.
(11/98)
---(1/4355)
قوله: {وَمَثَلاً} عطفٌ على "آيات" أي: وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم.
* { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }
قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السموات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه {مَثَلُ نُورِهِ}. وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السمواتُ والأرضُ، وإمَّا الإِرادةِ أهلِ السموات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة:
3446ـ فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ * إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال:
3447ـ قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد * ............................
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السمواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي "نَوَّرَ" فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و"السمواتِ" مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و"الأرضَ" بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السموات.
(11/99)
---(1/4356)
قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال الزمخشري: أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة".
واختلفوا في الضمير في "نُوره" فقيل: هو اللهِ تعالى، وهو الأَوْلَى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإفراد./ قال مكي:"يُوْقَفَ على "الأرض" في هذه الأقوالِ الثلاثةِ"..
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتٍ النورِ عنكم؟ أو تشبيهُ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في "نوره".
والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم جبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال "المِشْكاة" الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة.
(11/100)
---(1/4357)
والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس. وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله "الزجاجةُ".
والجلمةُ مِنْ قوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} صفةُ لـ"مِشْكاة". ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و"مصباحٌ" مرتفعٌ به فاعلاً.
قوله: {دُرِّيٌّ}، قرأ ابو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيِّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً "دَرِّيْء" بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو "سِكِّين" وفي الصفاتِ نحوِ سِكِّير".
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُهما بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءًها، قيل: ولوم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابٍ، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: "وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.
(11/101)
---(1/4358)
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنْ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح: "وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين". قلت: وقد حكى الأخفشُ: "فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار" و"كوكَتبٌ دَرِّيْءٌ" مِنْ دَرَاْتُه".
قولِه: {يُوقَدُ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمورٍ "تَوَقَّدَ" بنزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على "كوكب" لفسادِ المعنى. والأخوان وابو بكر "تُوْقَدُ" بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ يعودُ على "زجاجة" فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ. والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع "تَوَقَّدَ"، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما كـ"تَذَكَّرُ". والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.
(11/102)
---(1/4359)
وقرأ عبدالله "وَقَّدَ" فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً "يَوَقَّدُ" بالياء مِنْ تحتُ، وضَمَّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ "تَنَزَّلُ" و"تَذَكَّرُ" وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد./ وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء.
قوله: {مِن شَجَرَةٍ} "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ زيتِ شجرةٍ. وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما: أنَّها بدلٌ مِنْ "شجرةٍ". الثاني: أنها عطفٌ بيان، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ. وقد تقدَّم هذا في قوله {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ
}. قوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ} صفةٌ لـ"شَجَرة" ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ., وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي: لا هي شرقيةٌ. والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً لـ"شَجَرة".
قوله: {يَكَادُ} هذه الجملةُ أيضاً نعتُ لـ"شجرةٍ".
قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} محذوفٌ أي: لأضاءَتْ لدلالةِ اما تقدَّمَ عليه، والجلمةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه "رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس" وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ: حتى في هذه الحال. وقرأ ابن عباس والحسن "يَمْسَسْه" بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ، ولأنه قد فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً.
قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك نورٌ. و"على نورٍ" صفةٌ لـ"نور.
(11/103)
---(1/4360)
* { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }
قوله: {فِي بُيُوتٍ}: فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ لـ"مِشْكاةٍ" أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ لـ"زجاجة". الرابع: أنه متعلقٌّ بـ"تُوْقَدُ". وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على "عليم". الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي: يُسَبِّحه في بيوت. والسادس: أَنْ يتعلَّقَ بـ"يُسَبِّحُ" أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا}. وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على "عليم". وقال الشيخ: "وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ" ولم يُذْكر سوى قولين.
قوله: {أَذِنَ اللَّهُ} في محلِّ جرٍّ صفةً لـ"بيوتٍ"، و"أن تُرفع" على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ "في بيوت" بقوله: "ويُذْكَرُ" لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز "أَنْ"، وما بعد "أَنْ" لا يتقدَّم عليها.
قوله: {يُسَبِّحُ} قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأَوْلَى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أَوْلَى. و"رجالٌ" على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابٌ سؤالٍ مقدِّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر:
3448ـ لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ * ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
(11/104)
---(1/4361)
كأنه قيلأ: مَنْ يبيكه؟ فقيل: يُبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزه، ومنهم مَنْ مَنعه. الوجهُ الثاني في البيت: أنَّ "يَزيدُ" منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً.
والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبَّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ "رجال" فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة "تُسَبِّح" بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: "صِيْد عليه يومان" أي: وَحْشُها. وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: ليُجْزَى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح.
* { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ }
قوله: {لاَّ تُلْهِيهِمْ}: في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"رجالٌ".
قوله: {يَخَافُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول "تُلْهِيْهم"، و"يوماً" مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر. و"يتقلَّبُ" صفةٌ لـ يوماً.
* { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
(11/105)
---(1/4362)
قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ}: يجوز تعلُّقُه بـ"يُسَبِّح" أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء. ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليَجْزيهم. وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه من بابِ الإِعمال فإنه قال: "والمعنى: يُسَبِّحونَ، ويَخافون ليجزِيَهم، ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
قوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي ثوابَ أحسنِ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا. و"ما" مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة.
* { وَالَّذِينَ كَفَرُوااْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله: {بِقِيعَةٍ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءَى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:
3449ـ فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ * كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ
يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ./ وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة.
(11/106)
---(1/4363)
وَقرأ مسملة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: "مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ" قاله صاحب "اللوامح". والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم: "الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ" أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري: "وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة" فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.
وقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجلمةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في "جاءَه" وفي "لم يَجِدْه" وفي "وَجَد"، والضمائرُ في "عنده" وفي "وَفَّاه" وفي "حسابه" كلُّها تَرْجِع إلى الضمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في "جاءه" و"وجد" عائدان على الضمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا ـ وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوااْ} ـ حَمْلاً على المعنى، إذِ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.
وقرأ أَبو جعفر ـ ورُوِيَتْ عن نافع ـ "الظَّمان" بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.
* { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }
(11/107)
---(1/4364)
قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ}: فيه :أوجهٌ، أحدها: أنه نَسَقٌ على "كسَراب"، على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه: أو كذي ظُلُمات. ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليَّ. الثاني: أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتُقَدِّر "ذي" ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ}، وتُقَدِّر "أعمال" ليَصِحَّ تشبهُ أعمالِ الكفارِ باعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ. الثالث: أنه لا حاجةَ إلى حَذْفٍ البتة. والمعنى: أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يُهْتدي به بالظُّلْمة. وأمَّا الضميران في "أَخْرج يَده" فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي: إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها.
و"أو" هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا.
وقرأ سفيان بن حسين "أوَ كظَلُمات" بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
}. قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ}: "في بحرٍ" صفةٌ للظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمة، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ.
قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفةٌ أخرى لـ"بَحْرٍ" هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في "يَغْشاه" على "بحرٍ" وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات ـ كما فَعَل بعضُهم ـ كان الضمير في "يَغْشاه" عائداً عليه، وكانت الجلمةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.
(11/108)
---(1/4365)
قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً لـ"موجٌ" الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و"مَوْجٌ" فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.
قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكران قبلَه: من كونِ الجملةِ صفةً لـ"موج" الثاني، أو الجارِّ فقط.
قوله: {ظُلُمَاتٌ} قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ "ظُلُمات" مبتدأً. والجلمةُ من قولِه "بعضُها فوقَ بعض" خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديراً، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ, كقولهم: "السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم".
وقرأ ابن كثير "ظلماتٍ" بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من "سَحاب"، فقرأ البزي عنه "سحابُ" ظلماتٍ" بإضافة "سَحابُ" لـ"ظلمات". وَرَوى قنبل عنه التنوينَ في "سَحابٌ" كالجماعة مع جرِّه لـ"ظُلُماتٍ". فأمَّا رواية البزي فقال أبو البقاء:/ "جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ"، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ "ظلماتٍ" بدلاً مِنْ "ظلماتٍ" الأولى.
(11/109)
---(1/4366)
قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في "ظلمات" قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع "ظلماتٌ" في "بعضُها" أن يكونَ بدلاً من "ظلمات". ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ فوق بعضٍ وصفاً بالتراكم، لا أنَّ المعنى: أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك "بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض"، وبين قولك "الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ" وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ.
وقد تقدَّم الكلامُ في "كاد"، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: "لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:
3450ـ إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ * رَسِيْسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
(11/110)
---(1/4367)
أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ". وقال أبوة البقاء: "أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ "كاد" إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه "لم يَرَها" جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله: "لم يَكَدْ" إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى "لم يكَدْ يَراها": لم يَرَها البتةَ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. الوجه الثاني: أنَّ "كاد" زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ "كاد" أُخْرِجَتْ ههنا على معنى "قارب" والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها. وعليه جاء قولُ ذي الرمة:
ـ إذا غَيَّر النَّأْيُ.............. * ..........................
البيت. أي: لم يقارِبِ البَراحَ. ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال: لم أجِدْ بدل "لم يَكَدْ". والمعنى الثاني: أنَّه رآها بعد جُهْدٍ. والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها" انتهى.
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو:
3451ـ أَنْحْويَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ * ......................
(11/111)
---(1/4368)
البيتين. وأمَّا [ما] ذكره مِنْ زيادةٍ "كاد" فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه، ولكنه مردودٌ عندَهم. وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو مذهبُ الفراء والمبرد. والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟
وقال أبنُ عيطة: ما معناه: "إذا كان الفعلُ بعد "كا" منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو: "كاد زيد يقوم" وإذا تقدَّم النفيُ على "كاد" احتمل أن يكونَ مُوْجَباً، وأَنْ يكونَ منفياً. تقول: "المفلوح لا يَكاد يَسْكُن" فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن"، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد".
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }
قوله: {وَالطَّيْرُ}: قرأ العامَّةُ "والطيرُ" رفعاً. "صافاتٍ" نصباً: فالرفعُ عطفٌ على "مَنْ" والنصبُ على الحال. وقرأ الأعرج "والطيرَ" نصباً على المفعولِ مع و"صافَّاتٍ" حالٌ أيضاً. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع "والطيرُّ صافَّاتٌ" برفعِهما على الابتداءِ والخبر. ومفعولُ "صافَّاتتٌ" محذوفٌ أي: أجنحَتَها.
قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ} في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها عائدٌ على "كل" أي: كلُّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها. وهذا/ أَوْلَى لتوافُقِ الضمائر. والثاني: أنَّ الضميرَ في "عَلِمَ" عائدٌ على الله تعالى، وفي "صلاتَه وتسبحَه" عائدٌ على "كل". الثالث: بالعكس أي: عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي: أَمَرَ بهما، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخاللق.
(11/112)
---(1/4369)
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ "كل" قال: لأنَّ القراءة برفع"كلٌّ" على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ "كل" لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك: "زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه" فتنصِبُ "زيداً" بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز". قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ }
قوله: {بَيْنَهُ}: إنما دخلَتْ "بينَ" على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى فما فوقَه لأنه: إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِ، وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي: بين قِطَعِه، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ.
قوله: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} تقدَّم الخلافُ في "خِلال" هل هو مفرد كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد
الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ، ويُرْوَى عن أبي عمروٍ أيضاً "مِنْ خَلَلِه" بالإِفرادِ.
والوَدْقُ قيلأ: هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً. قال:
3452ـ فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقيل: هو البَرْقُ. وأَنْشد:
(11/113)
---(1/4370)
3453ـ أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها * خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ
والوَدْقُ في الأصل: مصدرٌ يقال: وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و"يَخْرجُ" حالٌ لأنها بَصَرية.
قوله: {مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} "مِن" الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ. الثاني: أنها للتعبيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ الإِنزالِ كأنه قال: ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ. الثالثَ: أنها زائدة أي: يُنَزِّل من السماءِ جبالاً. وقال الحوفيُّ: "مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى". ثم قال: "وهي للتبعيضِ".
ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: "خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ" لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية.
(11/114)
---(1/4371)
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ "يُنَزِّلُ" هو "مِنْ جبال" كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري: "أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتعبيض" قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول "يُنَزِّل" هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهوب دلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً لـ"يُنَزِّل"، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه الجارُّ قبلَه؟ خلافُ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً لـ"جبال"، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ. ويجوزُ أن يكونَ "فيها" وحدَه هو الوصفَ، ويكون "مِنْ بَرَدٍ" فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.
وقال الزَّجاج: "معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ: "هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ" أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية بـ"مِنْ" لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً" انتهى. فيكونُ "مِنْ بَرَدٍ" في موضعِ جَرٍّ صفةً/ لـ"جبال"، كما كان "من حديد" صفةً لـ"خاتم"، ويكونُ مفعلوٌ "يُنَزِّل" "من جبال". ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً.
(11/115)
---(1/4372)
وقال أبو البقاء: "والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه {فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكوُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةٌ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه". وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: "وتَقْديرٌ مستغنى عنه"، وينافي قولَه: "وهذا الوجه هو الصحيح". والضميرُ في "به" يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ.
قوله: {سَنَا بَرْقِهِ} العامَّةُ على قَصْر "سَنا" وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَناً. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس:
3454ـ يضيءُ سَناه، أو مصابيحُ راهِبٍ * ..........................
والسَّنا بالمدِّ: الرِفْعَةُ. قال:
3455ـ وسِنَّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً * ..........................
وقرأ ابنُ وثَّاب "سَنتاءُ بُرَقِه" بالمدِّ، وبضمِّ الباء مِنْ "بُرَقِه" وفتح الراء. ورُوي عنه ضَمَّ الراءِ أيضاً. فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ. وأمَّا "بُرَقِه" فجمعُ بُرْقَة، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب. وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء. وإنْ كان أصلُها السكونَ.
(11/116)
---(1/4373)
وقرأ العامَّة أيضاً "يَذْهَبُ" بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: "لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة".
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى "مِنْ" تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه:
3456ـ .......................... * شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
* { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: {مِّن مَّآءٍ}: فيها وجهان. أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ بـ"خَلَق" أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة. و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. وعلى هذا فيُقال: وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب، وعيسى فإنَّه مِنْ رُوحٍ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ. وأُجيب بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك. وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان، والجنَّ أيضاً أضعافُهم. وقيل: لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [إلاَّ] به، فجُعِل منه لذلك، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة، ومنه الضبُّ.
وقيل: جاء في التفسير: أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء، فمنها خَلَق ذلك. والثاني: أنَّ "مِنْ" متعلقةٌ بمحذفٍ على أنها صفةٌ لـ"دابَّة" والمعنى: الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء، أي: كلُّ دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى. قاله القفَّال.
(11/117)
---(1/4374)
ونكَّر "ماء" وعَرَّفه في قوله: {مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ.
قوله: {مِنْهُمْ مَّن يَمْشِي} إلى آخره. إنما أَطْلَقَ "مَنْ" على غيرِ العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل بـ"مَنْ" وهو "كلَّ دابة"، وكان التعبيرُ بـ"مَنْ" أَوْلَى لِتَوافُقِ اللفظِ. وقيل: لمَّا وصفَهم بما يُوصف به العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها "مَنْ". وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ خاصةً بالعقلاء، بخلافِ قولِه تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}:.[وقوله:]
3457ـ .............. هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه * لَعَلِّي .................
البيت. وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} في سورة إبراهيم. واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ وبالعكسِ.
* { وَإِذَا دُعُوااْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ }
قوله: {لِيَحْكُمَ}: أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما: اللهُ ورسوله، فهو كقولِه تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [لأنَّ] حكمَ رسولِه هو حكمُه. قال الزمخشري: "كقولك: "أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ" أي: كرمُ زيدٍ/ ومنه:
3458ـ ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ * غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ
أي: قبل فُرَّط القَطا، يعني قبل تقدُّمِ القطا.
وقرأ أبو جعفرٍ "ليُحْكَمَ بينَهم" هنا والتي بعدَها مبنياً للمعفولِ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل.
قوله:{إِذَا فَرِيقٌ} "إذا" هي المفاجائيةُ. وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وهي جوابُ "إذا" الشرطيةِ أولاً. وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في "إذا" الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيها قبلها، كذا ذكره الشيخ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وجوابُ الجمهور عنه.
(11/118)
---(1/4375)
* { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوااْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ }
قوله: {إِلَيْهِ}: يجوزُ تعلُّقُه بـ"يَأْتُوا" لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ بـ"إلى". ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ"مُذْعِنين"؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة. وصَحَّحَه الزمخشري قال: لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص". و"مُذعِنين" حالٌ. والإِذْعان: الانقيادُ يُقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي: انقادَ له. وقال الزجاج: "الإذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ".
* { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوااْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قوله: {أَمِ ارْتَابُوااْ أَمْ يَخَافُونَ}: "أَمْ" فيهما منقطعٌ، تتقدَّرُ عند الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ. وتقديرُه: بل ارْتابوا، بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنام التقريُ والتوقيفُ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله:
3459ـ ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا * على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر
وتارةً في المدح كقولِ جرير:
3460ـ أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا * وأَنْدى العالمينَ بُطونَ راحِ
و[قوله]: {أَن يَحِيفَ} مفعول الخوف. والحَيْفُ: المَيْلُ والجَوْرُ في القضاءِ.
يقال: حاف في قضائِه أي: مال.
* { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوااْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(11/119)
---(1/4376)
قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ}: العامَّةُ على نصبِه خبراً لـ كان، والاسمُ "أنْ" المصدريةُ وما بعدَها. وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و"أَنْ" وما في حيِّزها الخبرُ. وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ، وإنْ كان سيبويه خَيِّر في ذلك بين كلِّ معرفتين، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ. وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران.
* { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون }
قوله: {وَيَتَّقْهِ}: القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين: الأَولى تسكينُ القافِ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ: الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي. والثانيةُ: تسكينُها قولاً واحداً. وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم. الثالثةُ: إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ. الرابعةُ: تحريكها من غير صلةٍ. وبها قرأ قالون وحفص. الخامسةُ: تحريكُها مصولةً أو مقصورةً. وبها قرأ هشامٌ.
فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ من هذا التصنيفِ. وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ: وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون: كَبْد وكَتْف وصَبْر في: كَبِد وكَتِف وصَبِر، لأنها كلمةٌ واحدة، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مُجْرى المتصل؛ فإنَّ "يَتَّقْهِ" صار منه "تَقِهِ" بمنزلة "كَتِف" فَسُكِّن كما تُسَكَّن. ومنه: 3461ـ قالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لنا سَوِيقا
بسكونِ الراءِ، كما سَكَّن الآخرُ:
3462ـ فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا
والآخر:
3463ـ عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ * وذي وَلِدٍ لم يَلْدَهُ أبوان(1/4377)
(11/120)
---
يريد: مُنْتَصِباً، ولم يَلِدْه. وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}، وهي ونحوها.
وقال مكي: "كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو: مِنْهُ وعَنْهُ. ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاَ لم يُعْتَدَّ به، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ، ولم يَصِلْها بياءٍ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه". واقل الفارسي: "الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه، ولمَّا أُجْرِيَ "تَقْهِ" مجرى "كَتْف" وسكَّن القافَ التقى ساكنان، ولَمَّا التَقَيا اضْطَرَّ إلى تحريكِ أحدِهما: فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني. لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما. وأصلُ التقاءِ الساكنين [الكسر] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه:
.................. * ............... لم يَلْدَه أَبَوانِ
وذلك أنَّ أصلَه "لَمْ يلِده" بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ.
(11/121)
---(1/4378)
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول: "لا يَصِحُّ قولُه: إنه كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط". وقد رَدَّ أبو عبدالله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: "وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عه في "أَرٍجِهْ" و"فَأَلْقِهْ" وإذا قرأه في "أَرٍجِهْ" و"فَأَلْقِهْ" احتمل أن يَكونَ "يَتَّقْهِ" عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بكونِ الهاء مع كسرِ القاف".
قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءِ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنتما عَنَى هاءَ "يَتَّقْهِ" بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ: "تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ "يُؤَدِّهي" وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبدالله: "وهو وإنْ قَرَأ "يؤدِّهي" وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ "يَرْضَهُ" بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي "يَتَّقْهِ" بـ"يَرْضَهُ" وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباعت الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه "يَتَّقِهِ" بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا شعلى ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.
* { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(11/122)
---(1/4379)
قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ "أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين": اُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ كـ{َضَرْبَ الرِّقَابِ}، قال الزمخشري. والثاني أنه حالٌ تقديرُه: مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم: أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك. وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه: "وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنهن قيل: جاهدين أَيْمانَهم". وقد تقدَّم الكلامُ على {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في المائدة.
قوله: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهس. أحدُها: أنها خبرُ متبدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أَوْلَى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه: {صَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله:
3464ـ فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ * وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ
على خلافٍ في ذلك. والثالث: أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ. واستُضْعِفَ ذلك: بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم مُشْعِرٌ به كقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ}/ في قراءةِ مَنْ بناه للمعفولِ أي: يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ: "بلى زيدٌ" لمَنْ قال: لم يقم أحدٌ، أو استفهامٌ كقوله:
3465ـ ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ * بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ
(11/123)
---(1/4380)
والعامَّةُ على رفعِ "طاعةٌ" على ما تقدَّم. وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ، وهو الأصلُ. قال أبو البقاء "ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية، وذلك على المصدرِ أي: أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ}. قلت ما وَدَّ يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه. وأمَّا قولُه: و{قُولُواْ قَوْلاً} فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ولكن النصبَ هنال ممتنعٌ أو بعيدٌ.
* { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين. ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة. وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه. والأصل: تَتَوَلَّوْا. ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء: "فإنْ تَّوَلَّوْا" وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما. ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}. ودَعْوَى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ.
(11/124)
---(1/4381)
* { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}: فيه وجهان، أحدُهما: هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي: أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه: وَعَدَهم الاستخلافَ لدلالةِ قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} عليه. والثاني: أَنْ يجريَ "وعد" مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ.
قوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ} أي: استخلافاً كاستخلافهم. والعامَّةُ على بناء "اسْتَخْلَفَ" للفاعل. وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصولُ منصوبٌ على الأول، ومرفوعُ على الثاني.
قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ "ولَيُبْدِلَنَّهم" بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ "أَبْدَلَ". وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا
}. قوله: {يَعْبُدُونَنِي} فيه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنفٌ أي: جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل: ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل: يَعْبُدونني. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم يعبدونني. والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ "وَعَدَ اللهُ". الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولُ "لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ". الخامس: أن يكونَ حالاً مِنْ فاعِله. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ "لَيُبَدِّلَنَّهُمْ". السابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه.
(11/125)
---(1/4382)
قوله: {لاَ يُشْرِكُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "يَعْبُدُونَنِي" أي: يَعْبُدونني مُوَحِّدين، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها.
* { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}: فيه وجهان. أحدُهما: أنه معطوفٌ على {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}. وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه. قاله الزمخشري. قلت: وقولُه: "لانَّ حَقَّ المعطوفِ" إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادِّعاه. والثاني: أنَّ قولَه {وَأَقِيمُواْ} من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ. وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك "منكم".
* { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ}: قرأ العامَّة "لا تَحْسَبنَّ" بتاءِ الخطابِ. والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي: لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ. ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى يُنْهى عنه. وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ "لا يَحْسَبَنَّ" بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة. فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي: لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ ـ أو أحدٌ ـ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه. ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدَّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء. قال النحاس: "ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ، فمنهم مَنْ يقولُ: هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ بمفعولٍ واحدٍ لـ"يَحْسَبَنَّ".
(11/126)
---(1/4383)
وقال الفراء: "هو ضعيفٌ" وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني. التقديرُ: "لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفٍسَهم مُعْجِزين" قلت: وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ "الذين" فاعلٌ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو "معجزين"، فلذلك قالوا ما قالوا. والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم، أو على مايُفْهَمُ من السياق، كما سَبَقَ تحريرُه. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفٍسَهم مُعْجِزين. إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدٍ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين. ومنه قولُ عنترةَ:
3466ـ ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه * مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: لا تظني غيرَه واقعاً. ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوةجه قال: "وأن يكونَ الأصلُ: لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول. وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث" فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً. قال الشيخ: "وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة، وجَعَل الفاعلَ "الذين يَفْرحون". وملخَّصُه: أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر "لا يَحْسَبَنَّهم" إذ لا يجوزُ: "ظَنَّه زيدٌ قائماً" على رَفْعِ "زيدٌ" بـ"ظنَّه" قلت: وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه.
(11/127)
---(1/4384)
الثالث: أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه: {مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} قاله الكوفيون. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال: "والمعنى: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك. وهذا معنىً قويٌّ جيد". قلت: قيل: هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في "الأرض" بـ"مُعْجِزين" فجعله معفولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه، وهو نظيرُ: "ظَنَنْتُ قائماً في الدار".
قوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه. الثاني: أنَّها معطوفةٌ عليها، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ. والتقدير: الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ. هذا ظاهرُ حالِه. الثالث: أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ.
قال الجرجاني: "لا يُحتمل أَنْ يكونَ "ومَأْواهم" متصلاً بقولهِ: "لا تَحْسَبَنَّ ذاك" أي: وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه تقديرُه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}.
(11/128)
---(1/4385)
* {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي: ثلاثةَ أوقاتٍ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله: {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ} {وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ}. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ. ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/: "والظاهرُ مِنْ قوله: "ثلاثَ مرات". ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ: ضربتْ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات. ويؤيِّده قولُه عليه السلام: "الاستئذانُ ثلاث" قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في رواية "الحُلْمَ" بسكونِ العينِ وفي تيميةٌ.
قوله: {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله "ثلاث" فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ "عورات" فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ.
(11/129)
---(1/4386)
قوله: {مِّنَ الظَّهِيرَةِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ "مِنْ" لبيانِ الجنس أي: حين ذلك الذي هو الظيهرةُ. الثاني: أنها بمعنى "في" أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ. وأمَّا قولُه: {وَحِينَ تَضَعُونَ} فعطفٌ على محلِّ {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ}، وقوله: {وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ} عطفٌ على ما قبلَه، والظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، وهو انتصافُ النهارِ.
قوله:{ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} قرأ الأخَوان وأبو بكر "ثلاثَ" نصباً. والباقون رفعاً. فالأَوْلى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}. قال ابن عطية: "إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه"، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أّنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العورات مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ ـ أعني وجهَ البدل ـ لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه.
الثاني: أنَّ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ} وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.
الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ. فقَدَّره أبو البقاء أعني. وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ "اتَّقوا" أو "احْذروا" ثلاثَ.
(11/130)
---(1/4387)
وأمَّا الثانية فـ"ثلاثُ" خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال: "أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ". قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه. قال الزمخشري: "وسَمَّى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ" فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً لـ"عَوْراتٍ" بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجيهن قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقِف على ما قبلَ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها.
وقرأ الأعمش "عَوَرات" وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ:
3467ـ أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ * رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل: هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب "ثلاثَ عَوْراتٍ".
(11/131)
---(1/4388)
قوله: {بَعْدَهُنَّ} قال أبو البقاء: "التقديرُ: بعد استئذانِهم فيهنَّ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ، فبقي: بعد استئذانِهم، ثم حَذَفَ المصدرَ" يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر. وهذا غيرُ ظاهرٍ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى: ليس عليكم جناحٌ. ولا عليهم أي: العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره.
قوله: {طَوَافُونَ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم طَوَّافون، و"عليكم" متعلِّقٌ به.
قوله: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} في "بعضُكم" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، و"على بعض" الخبرُ، فقدَّره أبو البقاء "يَطُوْفُ على بعض". وتكونُ هذه الجملةُ بدلاَ مِمَّا قبلها. ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة. يعني: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً، أو مؤكِّدةَ., ورَدَّ الشيخ هذا: بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ الجارِّ مقامَه، ولذلك قال الزمخشري: "خبرُه "على بعض"، على معنى: طائف على بعض، وحُذِفَ لدلالةِ "طَوَّافون"عليه".
(11/132)
---(1/4389)
الثاني: أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ "طوَّافون" قاله ابن عطية. قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ "هم" لأنَّه يصيرُ التقديرُ: هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، وهو لا يَصِحُّ. فإنْ جَعَلْتَ التقدير: أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، فيدفَعُه أنَّ قولَه "عليكم" يَدُلُّ على أنهم هم المَطَوفُ عليهم، "وأنتم طَوَّافون" يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا". قلت: نختار أنَّ التقديرَ: أنتم، ولا يلزَمُ محذورٌ. قوله: "فيدفعه إلى آخره" لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى: كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ، ويكونُ "بعضُكم" بدلاً من "طَوَّافون", وقيل: "بعضُ" بدلٌ مِنْ "عليكم" بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ، ومجروراً من مجرور. ونظيرُه قولُ الشاعرِ:
3468ـ فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه * ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا
فـ"بعضُه" بدلُ من "النبعَ" المنصوب، و"ببعض" بدلٌ من المجرورِ بالباء.
الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي: يطوفُ بعضُكم على بعضٍ، حُذِفَ لدلالةِ "طَوَّافون" عليه. قاله الزمخشري.
وقرأ ابن أبي عبلة "طوَّافين" بالنصبِ على الحال من ضميرِ "عليهم".
* { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }
(11/133)
---(1/4390)
قوله: {وَالْقَوَاعِدُ}: جمع "قاعِد: من غيرِ تاءِ تانيثٍ. ومعناه: القواعدُ عن النكاحِ، أو عن الحيضِ، أو عن الاستمتاعِ، أو عن الحَبَل، أو عن الجميع. ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو: ضارِبة وقاعِدة من القعود المعروف. وقوله: {مِنَ النِّسَآءِ} ومابدَه بيانٌ لهن و"القواعدُ" مبتدأٌ. و"من النساء" حالٌ و"اللاتي" صفةٌ للقواعد لا للنساء. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ} الجملةُ خبرُ المبتدأ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ بموصول، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ تكونَ "اللاتي" صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ. وقال أبو البقاء: "ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ بمعنى الذي". وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقُه في المائدة. ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك: وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ.
و{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} حالٌ مِنْ "عليهنَّ". والتبرُّجُ: الظهورُ، مِن البُرْج: وهو البناءُ الظاهرُ. و"بزينةٍ" متعلقٌ به.
قوله: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} مبتدأٌ بتأويل: استعفافُهن، "خيرٌ" خبرُه.
(11/134)
---(1/4391)
* { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}: العامةُ على فتح/ الميمِ، واللامُ مخففةٌ. وابن جبير "مُلِّكْتُم" بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي: مَلَّككم غيرُكم. والعامَّةُ علكى "مفاتحَه" دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون جمع "مِفْتَح" بالكسرِ وهو الآلةُ، وأن يكون جمعَ "مَفْتح" بالفتح وهو المصدر. بمعنى الفتح. وابن جبير "مفاتيحَه" بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح. والأولُ أقيسُ. وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه "مِفتْاحَه" بالإِفراد وهي قراءةُ قتادة.
قوله: {وْ صَدِيقِكُمْ} العامَّةُ على فتحِ الصادِ. وحميد الخزاز روى كسرَها إتْباعاً لكسرةِ الدال. والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين وشِبْهِهما.
قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من "تَأْكُلوا"، و"أَشْتاتاً" عطفٌ عليه وهو جمعُ شَتّ.
(11/135)
---(1/4392)
قوله: {تَحِيَّةً} منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى "فسَلِّموا" فهو من بابِ قَعَدْتُ جُلوساً. وقد تقدَّم وزن التحيَّة. و{مِّنْ عِندِ اللَّهِ} يدجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لـ"تحيةً"، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ "تحيِّة" أي: التحية صادرةً من جهةِ الله. و"مِنْ" لابتاء الغايةِ مجازاً، إلاَّ أنه يُعَكِّر على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ. وقد تقدَّم ما فيه.
* { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}: "جامع" مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً. وقرأ اليمانيُّ "على أَمْرٍ جميعٍ" فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع، وأَنْ لا تكونَ. والجملةُ الشرطيةُ مِنْ قولِه: {وَإِذَا كَانُواْ} وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله: "آمَنوا".
قوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} تعليلٌ أي: لأجلِ بعضِ حاجتِهم. وأظهر العامَّةُ الضادَ عند الشينِ، وأدغَمها أبو عمروٍ فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ، والشينَ مِنْ وسَطِه. وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوهنا عن أبي عمورٍ رأسِ الصناعةِ من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف. وأساء الزمخشري على روايها السوسي.
(11/136)
---(1/4393)
وقد أجاب الناس فقال: "وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ، وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها، وإدغامُ الأنقصِ في الأَزْيد جائزٌ". قال: "ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ العرب "اطَّجَعَ" في "اضْطجع"، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى". والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ.
* { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله: {دُعَآءَ الرَّسُولِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي: دعاءَكم الرسولَ بمعنى: أنَّكم لا تنادُوهن باسمِه فتقولون: يا محمدُ، ولابكُنيته فتقولون: يا أبا القاسمِ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله. وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل. واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل: لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤْون عنه، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمر، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه. واختاره أبو العباس، ويؤيِّدُه قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. وقيل: معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه، ورُبَّما لا تُجاب. وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ... في التخريجةِ الأخرى.
(11/137)
---(1/4394)
وقرأ الحسنُ "نَبِيِّكم" بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [بعدَها] ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ "بينَكم" الظرفِ في قراءة العامَّة. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه بدلٌ من الرسول. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [رسولُ]، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول. الثالث: أنَّه نعتٌ. لا يُقال: إنَّه لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ. بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفاً.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في أفعالِ اللهِ تعالى، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ. وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه.
(11/138)
---(1/4395)
قوله: {لِوَاذاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ: يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً، أو يَلاوِذُون لِواذاً. والثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين. واللِّواذُ: مصدرُ لاوَذَ. وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو: لاوَذَ فلو اُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو: القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام. فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ فمعتلٌّ نحو:م لاذَ لِياذاً، مثل: صام صِياماً وقام قِياماً. واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ: التَّسَتُّرُ يُُقال: لاَوَذَ فلانٌ بكذا أي: اسْتَتَر به. واللَّوْذُ: ما يُطِيْفُ بالجبل. وقيلأ: اللَّواذُ: الرَّوغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفيَةٍ. وفي التفسير: أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا. والمفاعَلَةُ: لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ.
وقرأ يزيد بن قطيب "لَواذاً" بفتحِ اللامِ، وهي محتملةٌ لوجهين أحدُهما: أَنْ تكونَ مصدرَ "لاذ" ثلاثياً فتكمون مثلَ: طافَ طَوافاً. وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ.
(11/139)
---(1/4396)
قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} فيه وجهان، أشهرُهما: ـ وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه ـ أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و"أن "تصيبَهم" مفعولُه أي: فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ. والثاني: أنَّ فاعل "فَلْيَحْذَرْ" ضميرٌ مستترٌ، والموصولُ مفعولٌ به. وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها: أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ. وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به، فلا يُقال: هو خلافُ الأصلِ. ألا ترى أنَّ نحوَ: قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ، ولا يُقال في شيءٍ منه: هو خلافُ الأصلِ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
}. ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي: ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً، وأُجيب: بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي: فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه, فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي: أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وقد رَدُّوا هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ الضميرَ مفردٌ، والذي يعودُ عليه معُ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في ت فسيرِ الضمائر. الثاني: أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم.
(11/140)
---(1/4397)
ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ: بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمعِ باعتبارِ أنَّ المعنى: فليحذَرْ هو. أي: مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك. وحكى سيبويه "ضرَبني وضربْتُ قومَك" أي: ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ، أو يكونُ التقديرُ: فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين. وعن الثاني: بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً. يعني أنَّه لا يطاوعُهال على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ. كأنه قيل: فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به، ولهذا يُقال: أَمَر نفسَه ونهاها، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ.
ومنها: أنَّه يَصيرُ قولُه: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ "يَحْذَرُ" يتعدَّى لواحدٍ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو "الذين يُخالفون"، ولا يَتَعَدَّى إلى اثنين حتى يَقُولوا: إنَّ "أنْ تصيبَهم فتنةٌ" في محلِّ أجله. واعتُرِضَ على هذا: بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ. فنقول:مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً، وإنما حُذِفَتْ مع "أَنْ" لطولِها بالصلة.
و"يُخالِفُون" يتعدَّى بنفسِه نحو: خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ، و"إلى" نحو: خالَفْتُ إلى كذا، فكيف تَعَدَّى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي: صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عه مخالِفاً له. والثاني: قال ابن عطية: "معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عن ريحِ كذا، وعَنْ لما عدا الشيءَ". الثالث: أنها مزيدةٌ أي: يخالفون أمرَه، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادةُ خلافُ الأصلِ.
(11/141)
---(1/4398)
وقُرِىء "يُخَلِّفون" بالتشديد، ومَفْعولُه محذوفٌ أي: يُخَلِّفون أنفسَهم.
* { أَلاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ }
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ}: قال: الزمخشري: "أَدْخَلَ "قد" ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ: وذلك أنَّ "قد" إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى "رُبَّما" فوافَقَتْ "رُبَّما" في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
3469ـ فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما * أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ
ونحوٌ من ذلك قولُ زهير:
3470ـ أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه * ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ: "وكونُ "قد" إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ لبعضِ النحاةِ. وليس بصحيحٍ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق. والصحيحُ: أنَّ "رُبَّ" للتقليلِ للشيءِ، أو لتقليلِ نظيرِه. وإنْ فُهِم تكثيرُ فمِنْ السِّياقِ لا منها".
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ} في "يوم" وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يَرْجَعُون كقولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ}. والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية: "ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم ـ أو نحو هذا ـ يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ" انتهى.
(11/142)
وقرأ العامَّةُ "يُرْجَعون" مبنياً للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتُ من الخطابِ في قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغَيْبة في قوله: "يَرْجَعون". والثاني: أنَّ "ما أنتم عليه" خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في "يَرْجَعُون" للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حنيئذٍ.(1/4399)
سورة الفرقان
* { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }
قوله: {لِيَكُونَ}: اللامُ متعلقةٌ بـ"نَزَّل". وفي اسم "يكون" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه ضميرٌ يعودُ على الذي نزَّل. أي: ليكونَ الذي نَزَّل الفرقانَ نذيراً. الثاني: أنه يعودُ على الفرقانِ وهو القرآنُ. اي: ليكون الفرقانُ نذيارً. الثالث: أنه يعودُ على "عبدِه" أي: ليكونَ عبدُه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نذيراً. وهةا أحسنُ الوجوهِ معنىً وصناعةً لقُرْبِه ممَّا يعودُ عليه، والضميرُ يعودُ على أقربِ مذكورٍ. و"للعالمين" متعلقٌ بـ"نذيراً" وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. ودَعْوى إفادةِ الاختصاصِ بِعيدةٌ لعدمِ تأتِّيهاهنا. ورَجَّح الشيخ عَوْده على "الذي" قال: لأنه العُمْدُة المسندُ إليه الفعلُ، وهو مِنْ وصفِه تعالى كقوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}. و"نذيراً" الظاهرُ فيه أنه بمعنى مُنْذِر. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الإِنذار كالنكير مبعنى الإنكار منه {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}.
* { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }
(11/143)
---(1/4400)
قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ}: يجوز في "الذي" الرفعُ نعتاً للذي الأولِ، أو بياناً، أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو النصبُ على المدحِ. ما بعد "نَزَّل" من تمام الصلة فليس أجنبياً، فلا يضُرُّ الفصلُ به بين والموصولِ الأولِ والثاني إذا جَعَلْنا الثاني تابعاً له.
قوله: {وَخَلَقَ} الخَلْقُ هنا عبارةٌ عن الإِحداثِ والتهيئةِ لِما يَصْلُح له حتى يجيءَ قولُه: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} مفيداً؛ إذ لو حَمْلَنا {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} على معناه الأصليث من التقدير لصار الكلام: وقَدَّر كلَّ شيءٍ فقدَّره.
* { وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً }
قوله: {وَاتَّخَذُواْ}: يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على الكفارِ الذينُ يَضُمُّهم لَفْظُ "العالمين"، وأن يعودَ على مَنْ ادَّعَى للهِ شريكاً وَولداً لدلالةِ قولِه: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ}، وأنْ يعودَ على المُنْذَرين لدلالة "نذيراً" عليهم.
قوله: {لاَّ يَخْلُقُونَ} صفةٌ لـ"آلهةً"، وغَلَّبَ العقلاءَ على غيرَهم؛ لأنَّ الكفارَ كانوا يَعْبُدون العقلاءَ كعُزَيْرٍِ والمسيح والملائكةِ وغيرِهم كالواكبِ والأصنامِ. ومعنى "لا يَخْلُقُون" لا يَقْدِرُوْن على التقدير، والخَلْقُ يُوْصَفُ به العبادُ. قال زهير:
3471ـ وَلأَنْتَ تَفْري ماخَلَقْتَ وبَعْضُ * القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
ويقال: خَلَقْت ُ الأَديمَ أي: قدَّرْتُهُ. هذا إذا أُريد بالخَلْقِ التقديرُ. فإنْ أُريد به الإِيجادُ فلا يُوْصَفُ به غير الباري تعالى وقد تقدَّم. وقيل: بمعنى يَخْتَلِقون، كقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً
}.
(11/144)
---(1/4401)
* { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً }
قوله: {افْتَرَاهُ}: الهاءُ تعودُ على إفك. وقال أبو البقاء: "الهاء تعود على "عَبْدِه" في أول السورة" ولا أظنَّه إلاَّ غَلَطاً، وكأنه أراد أَنْ يقولَ: الضمير المرفوع في افتراه فَغَلِط.
قوله: {ظُلْماً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ به؛ لأنَّ "جاء" يتعدَّى بنفسِه وكذلك "أتى". والثاني: أنه على إسقاطِ الخافضِ أي: جاؤوا بظلمٍ. الثالث: أنه في موضعِ الحال، فيجيءُ فيه ما في قولك "جاء زيدٌ عَدْلاً" من الأوجه.
* { وَقَالُوااْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }
قوله: {اكْتَتَبَهَا}: يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحُدها: أَنْ يكونَ حالاً من أساطيرُ، والعاملُ فيها معنى التنبيه، أو الإِشارةِ المقدورةِ؛ فإنَّ "أساطيرُ" خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هذه أساطيرُ الأَوَّلِين مُكْتَتَبَةً. والثاني: أن يكونَ في موضع خبرٍ ثانٍ لـ"هذه". والثالث: أَنْ يكونَ "أساطيرُ" مبتدأً و"اكْتَتَبها" خبرُه، واكْتَتَبها: الافتعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر بكتابتها كاقتصد واحتَجم، إذا أَمَر بذلك، ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها، وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه لأنه [عليه السلام] كان أمِّيَّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتب، ويكون كقولهم: اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه أي: سكبه وصبَّه. والافتعالُ مُشْعِرٌ بالتكلُّفِ. ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ، من الكَتْبِ وهو الجَمْعُ، لا من الكتابة بالقلَم.
(11/145)
---(1/4402)
وقرأ طلحةُ "اكْتُتِبَها" مبنياً للمعفولِ. قال الزمخشري: "والمعنى اكتتبها له كاتِبٌ لأنه كان أمِّيَّاً لا يكتُب بيدِه، ثم حُذِفَتِ اللامُ فأَفْضَى الفعلُ إلى الضمير فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. كقولِه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ثم بُني الفعلُ للضمير الذي هو "إياه" فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، وبقي ضمير الأساطير على حالِه فصارَ "اكْتُتِبَها" كما ترى".
قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ ذلك على مذهبِ جمهورِ البصريين؛ لأنَّ "اكتتبها له كاتب" وَصَل الفعلُ فيه لمفعولين أحدُهما مُسَرَّح، وهو ضميرُ الأساطير، والآخرُ مقيدٌ، وهو ضميرُه عليه السلام، ثم اتُّسِع في الفعلِ فحُذِفَ حرفُ الجر، فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. فإذا بُني هذا للمفعولِ: إنما ينوبُ عن الفاعلِ المفعولُ المُسَرَّحُ لفظاً وتقديراً لا المسرَّحُ لفظاً، المقيَّدُ تقديراً. فعلى هذا يكون التركيب اكْتُتِبَه لا اكتتباها، وعلى هذا الذي قُلْناه جاء السماعُ. قال: الفرزدق:
3472ـ ومِنَّا الذي اختير الرجالَ سماحةً * وجوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزَّعازعُ
ولو جاء على ما قَرَّره الزمخشريُّ لجاء التركيُ: "ومنا الذي اختيره الرجالُ" لأنَّ "أخْتير" تَعدَّى إلى الرجال بإسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ تقديرُه: اختير من الرِّجال". قلت: وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بالنسبة إلى مذهبِ الجمهورِ، ولكن الزمخشريَّ قد لا يلْتزمه، ويوافق الأخفشَ والكوفيين، وإذا كان الأخفشُ وهم، يتركون المَسرَّحَ لفظاً وتقديراً، ويُقيمون المجرورَ بالحرفِ مع وجودِه فهذا أَوْلَى وأَحْرى.
(11/146)
---(1/4403)
والظاهر أنَّ الجملةَ مِنْ قوله: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى} مِنْ تَتِمَّةِ قولِ الكفارِ. وعن الحسن أنَّها من كلامِ الباري تعالى، وكان حَقُّ الكلام على هذا أَنْ يَقْرَأَ "اَكْتَتَبها" بهمزةٍ مقطوعةٍ مفتوحةٍ للاستفهام كقولِه: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ}. ويمكنُ أن يُعْتَذَرَ عنه: أنه حَذَفَ الهمزةَ للعلمِ بها كقولِه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ}. وقول الآخر:
3473ـ أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصا نَبْلا
يريدُ: أو تلك، وأَأَفْرَحُ، فُحُذِفَ لدلالةِ الحالِ، وحَقُّه أَنْ يقفَ على "الأوَّلين". قال الزمخشري: "كيف قيل: اكْتَتَبها فهي تُمْلَى عليه، وإنما يُقال: أَمْلَيْتُ عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أراد اكتتابَها وطَلَبه فيه تُمْلَى عليه أو كُتِبَتْ له وهو أُمِّيٌّ فهي تُمْلَى عليه أي: تُلْقَى عليه مِنْ كتابٍ يَتَحفَّظُها؛ لأنَّ صورةَ الإِلقاءِ على الحافظِ كصورة الإِلقاءِ على الكاتبِ".
وقرأ عيسى وطلحة "تُتْلَى" بتاءَيْن مِنْ فوقُ، من التلاوة. و{بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ظرفا زمان للإِملاء. والياءُ في "تلمَى" بدلٌ من اللامِ كقولِه: {فَلْيُمْلِلْ} وقد تقدَّمَ.
* { وَقَالُواْ مَالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً }
قوله: {مَالِ هَاذَا}: "ما" استفهاميةٌ مبتدأةٌ. والجارُّ بعدَها خبرُ. "ويَأْكل" جملةٌ حاليةٌ، وبها تَتِمُّ فائدةُ الإِخبار كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}. وقدت تقدم في النساء أنَّ الجرِّ كُتِبَتْ مفصولةً من مجرورِها وهو خارجٌ عن قياسِ الخطِّ.
والعاملُ في الحالِ الاستقرارُ العاملُ في الجارِّ، أو نفسُ الجارِّ، ذكرَه أبو البقاء.
(11/147)
---(1/4404)
قوله: {فَيَكُونَ} العامَّةُ على نصبِه. وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على جوابِ التحضيضِ. والثاني قال أبو البقاء: فيكوَ منصوبٌ على جوابِ الاستفهام" وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفاءِ لا يَتَرَتَّبُ على هذا الاستفهامِ. وشرطُ النصبِ: أن ينعقدَ منها شرطٌ وجزاءٌ. وقُرىء "فكيونُ" بالرفعِ، وهو معطوفٌ على "أُنْزِل". وجاز عطفُه على الماضيي؛ لأنَّ المرادَ بالماضي المستقبلُ، إذ التقدير: لولا نُنَزِّلُ.
* { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }
قوله: {أَوْ يُلْقَى}: "أو تكونُ" معطوفان على "أُنْزِلَ" لِما تقدَّم مِنء كونِه بمعنى نُنَزَّل. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطفا على "فيكونَ" المنصوبِ في الجواب، لأنهما مُنْدَرجان في التحضيض في حكم الواقعِ بعد "لولا". وليس المعنى على أنهما جوابٌ للتحضيضِ فيعطفا على جوابِه. وقرأ الأعمش وقتادةُ "أو يكونُ له" بالياء من تحتُ؛ لأن تأنيثَ الجنةِ مجازيٌّ.
قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} الجملةُ في موضعِ الرفعِ صفةً لـ"جنةٌ". وقرأ الأخَوان "نَأْكُلُ" بنون الجمعِ. والباقون بالياء من تحتُ أي: الرسول.
قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} وَضَعَ الظاهرَ موضعَ المضمرِ، إذ الأصل: وقالوا. قال الزمخشري: "وأرادَ بالظالمين إياهم بأعيانهم". قال الشيخ: "وقوله ليس تركيباً سائغاً، بل التركيبُ العربيُّ أَنْ يقولَ: أرادَهم بأعيانِهم".
* { تَبَارَكَ الَّذِيا إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً }
قوله: {جَنَّاتٍ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "خيراً"، وأَنْ يكونَ عطفَ بيانٍ عند مَنْ يُجَوِّزه في النكراتِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ أعنى. و{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} صفةٌ.
(11/148)
---(1/4405)
قوله: {وَيَجْعَل لَّكَ} قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع "ويجعَلُ" والباقون بإدغامِ لامِ "يَجْعَلْ" في لام "لك". وأمَّا الرفعُ ففيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مستأنفٌ. والثاني: أنه معطوفٌ على جوابِ الشرط. قال الزمخشري: "لأنَّ الشرطَ إذا وقع ماضياً جاز في جوابِه الجزمُ، والرفعُ كقولِه:
3474ـ وإن أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
قال الشيخ: "وليس هذا مذهبَ سيبويه، بل مذهبُه: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، وأنَّ هذا المضارعَ مَنْوِيُّ به التقديمُ، ومذهبُ المبرد والكوفيين أنه جوابٌ على حَذْفِ الفاءِ., ومذهبُ آخرين: أنه جوابٌ لا على حَذْفِها، بل لمَّا كان الشرطُ ماضياً ضَعُفَ تأثيرُ "إنْ" فارتفع". قلت: فالزمخشريُّ بنى قولَه على هذين المذهبين. ثم قال الشيخ:"وهذا التركيبُ جائزٌ فصيحٌ. وزعم بعضُ أصحابِنا أنه لا يجيءُ إلاَّ في ضرورة".
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فتحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ سكونَ اللامِ للجزمِ عطفاً على مَحَلِّ "جَعَل"؛ لأنَّه جوابُ الشرط. والثاني: أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن لأجلِ الإِدغام. قال الزمخشري وغيرُه وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ مِنْ جملةِ مَنْ قرأ بذلك ـ وهو نافعٌ والأخَوان وحفصٌ ـ ليس مِنْ أصولِهم الإِدغامُ، حتى يُدَّعَى لهم في هذا المكانِ. نعم أبو عمرو أصلُه الإِدغامُ وهو يقرأ هنا بسكونِ اللامِ، فيُحتمل ذلك على قراءته، وهذا من محاسِنِ علمِ النحوِ والقراءاتِ معاً.
وقرأ طلحةُ بن سليمان "ويَجْعَلَ" بالنصبِ؛ وذلك بإضمارِ "أنْ" على جوابِ الشرطِ، واستضعافها ابنُ جني. مثلُ هذه القراءة:
3475ـ فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ * رَبيعُ الناسِ والبَلدُ الحرامُ
ونَأْخُذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ * أَجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
بالتثليث في "نَأْخذ".
* { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً }
(11/149)
---(1/4406)
قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ}: هذه الجملةُ الشرطيةُ في موضعِ نصبٍ صفةً لـ"سَعيراً" لأنَّه مؤنَّثٌ.
قوله: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} إنْ قيل: التغيُّظُ لا يُسْمع. فالجوابُ من ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: صوتَ تغيُّظِها. والثاني: أنه على حَذْفٍ تقديرُه: سَمِعوا وَرَأَوْا تغيُّظاً وزفيراً، فيرتفع كلُّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به أي: رَأَوْا تغيُّظاً وسَمِعُوا زَفيراً. والثالث: أَنْ يُضَمَّن "سمعوا" معنىً يَشْتَملُ الشيئين أي: أَدْرَكوا لها تغَيُّظاً وزفيراً. وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قوله:
3476ـ يا ليتَ زوجَك قد غَدا * متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً
ومن قوله:
3477ـ فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * ..................
أي: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً، أو تضمِّنُ "مُتَقَلِّداً" معنى مُتَسَلِّحاً، و"عَلَفْتُها" معنى: أَطْعَمْتُها تِبْناً وماءً بارداً.
* { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }
قوله: {مَكَاناً}: منصوب على الظرف و"منها" في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ "مكان" لأنه في الأصل صفةٌ له. و"مُقَرَّنين" حال مِنْ مفعول "أُلْقُوا". و"ثُبوراً" مفعول به. فيقولون: يا ثُبوراه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى "دُعُوا" وقيل: منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه: ثَبَرْنا ثُبوراً. وقرأ/ معاذ بن جبل "مُقَرَّنُوْنَ" بالواو. ووجُهها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول "أُلْقُوا".
وقرأ عمر بن محمد "ثَبورا" بفتح الثاء. والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح قليلةٌ جداً. ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عدن قولِه {وَقُودُهَا النَّاسُ
}.
* { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }
(11/150)
---(1/4407)
قوله: {خَالِدِينَ}: منصوبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل "يَشاؤون" وإمَّا مِنْ فاعل "لهم" لوقوعِه خبراً. والعائدُ على "ما" محذوفٌ أي: لهم فيهنا الذي يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين.
قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} في اسمِ كان وجهان، أحدهما: أنه ضميرُ "ما يَشاؤون"، ذكره أبو البقاء. والثاني: أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنء قولِه {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. و{مَّسْئُولاً} على المجازِ أي: يُسْأَلُ: هل وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به.
* { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ }
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ}: قرأ ابنُ عامر "نَحْشُرهم" ِ"فنقول" بالنون فيهما. وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما. والباقون بالنونِ في الأولِ، وبالياءِ في الثاني. وهنَّ واضحاتٌ. وقرأ الأعرج "نَحْشِرُهم" بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: "هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين". وقال أبو الفضل الرازي: "وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هون فَعُل بضمِّها في الماضي". قال الشيخ: "وليس كما ذكرا، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه، إذا لم يكن للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لمٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل كثيراً. فإنْ شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ، وإلاَّ فالخيارُ. حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا خَيَّر فيهما: سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا". قلت: الذي خَيَّرَ في ذلك هو أبنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ: "زيد يَفْعِل" بكسرِ العين، و"يَضْرُب" [بضمِّ] الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني. وسبَقَه إلى ذلك ابنُ درستويهِ، إلاَّ أنَّ النحامة على خلافِه.(1/4408)
(11/151)
---
قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} عطفٌ على مَفْعولِ "نَحْشُرهم" ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة. وغَلَّب غيرَ العاقلِ فأتى بـ"ما" دونَ "مَنْ".
قوله: {هَؤُلاَءِ} يجوزُ أن يكونَ نعتاً لعِبادي، أو بدلاً، أو بياناً.
قوله: {ضَلُّوا السَّبِيلَ} على حَذْفِ الجرِّ وهو "عن"، كما صَرَّح به في قوله {يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} ثم اتُّسِع فيه فَحُذِف نحو: "هَدَى"، فإنه يتعدَّى بـ"إلى"، وقد يُحْذَفُ اتِّساعاً. و"ظَلَّ" مطاوعُ أَضَلَّ.
* { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً }
قوله: {يَنبَغِي}: العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وأبو عيسى الأسودُ القارىء "يُنَبَغى" مبنياً للمفعولِ. قال ابنُ خالويه: "زعم سيبويه أن يُنْبَغَى لغة".
قوله: {أَن نَّتَّخِذَ} فاعلُ "ينبغي" أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود. وقرأ العامَّةُ "نَتَّخِذَ" مبنياً للفاعل. و"من أولياء" مفعولُه، وزِيْدَتْ فيه "مِنْ". ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ "اتَّخَذَ" متعديةٌ لاثنين، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ، فعلى هذا "مِنْ دونك" متعلِّقٌ بالاتِّخاذ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ "أولياء".
(11/152)
---(1/4409)
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرينت "نُتَّخَذَ" مبنيِّاً للمفعول. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها المتعديةُ لاثنينِ، والأولُ همز ضمير المتكلمين. والثاني: قولُه: مِنْ أولياء" و"مِنْ" للتبعيضِ أي: ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء، قال الزمخشري. الثاني:أنَّ "مِنْ أولياء" هو المفعولُ الثاني ايضاً، إلاَّ أنَّ "مِنْ" مزيدةٌ في المفعولِ الثاني. وهذا مردودٌ: بأنَّ "مِنْ" لا تُزاد في المفعول الثاني، إنما تُزاد في الأولِ.قال ابن عطية: "ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ "مِنْ" في قوله: "مِنْ أولياء". اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه". الثالث: أَنْ يكونَ "مِنْ أولياء" في موضعِ الحالِ. قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: "ودَخَلَتْ "مِنْ" زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم، كقولك: ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل". قلت: فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ "مِنْ" مزيدةً، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و"مِنْ" مزيدةٌ فيه، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ "مِنْ" في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً، وإنما حُفِظ زيادةٌ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك.
وقوله: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ} {أَمْ هُمْ ضَلُّوا} إما قَدَّم الاسمَ على الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ
}. وقرأ الحَجَّاج "نتخذ مِنْ دونِك [أولياءَ]" فبلغ عاصماً فقال: "مُقِتَ المُخْدِجُ. أَوَ عَلِم أنَّ فيها "مِنْ"؟
قوله: {وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ} لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم، ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي: أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية.
(11/153)
---(1/4410)
قوله: {بُوراً} يجوز فيه وجهان أحدُهما: أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ. والثاني: أنه مصدرٌ في الأصلِ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنثُ. وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ. وقيل: من الفسادِ. وهي لغةٌ للأزد يقولون:/ بارَتْ بضاعتُه أي: فَسَدَتْ. وِأمرٌ بائِرٌ أي: فسادٌ. وهذا معنى قولِهم: كَسَدَتِ البضاعةُ". وقال الحسن: "وهو مِنْ قولِهم: أرضُ بُوْرٌ أي: لا نباتَ بها. وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد".
* { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }
قوله: {بِمَا تَقُولُونَ}: هذه الجملةُ من كلامِ اللهِ تعالى اتفاقاً، فيه على إضمارِ القولِ والالتفاِ. وقال الزمخشري: "هذه المفاجأةُ بالاحتجاجِ والإِلزامِ حسنةٌ رائعةٌ، وخاصةً إذا انظمَّ إليه الالتفاتُ وحَذْفُ القولِ. ونحُوها قولُه عَزَّ وجَلَّ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} وقولُ القائل:
3478ـ قالوا خُرسانُ أَقْصى ما يُرادُ بنا * ثم القُفُوْلُ فقد جِئْنا خُرسانا
انتهى. يريد: أن الأصلَ في الآيةِ الكريمة: فقُلْنا: قد كَذَّبوكم، وفي البيت فقلنا: قد جِئْنا. والخطابُ في "كَذَّبوكم" للكفارِ، فالمعنى: فقد كَذَّبكم المعبودون بما تقولون مِنْ أنَّهم أَضَلُّوكم. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبوكم فيما تقولون من الافتراءِ عليهم أنَّهم أَضَلُّوكم, وقيل: هو خطابٌ للمؤمنين في الدنيا أي: فقد كَذَّبكم أيَّها المؤمنون الكفارَ بما تقولون من التوحيدِ في الدنيا.
(11/154)
---(1/4411)
وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياءِ مِنْ تحتُ أي: فقد كَذَّبكم الآلهةُ بما يقولون {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ} إلى آخِرِه. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبكم أيها المؤمنونَ الكفَّارُ بما يقولون من الافتراءِ عليكم.
قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأ حفص بتاءِ الخطاب والمرادُ عبادُها. والباقون بياءِ الغَيْبة. والمرادُ الآلهةُ التي كانوا يعبُدونها مِنْ عاقلٍ وغيرِه؛ ولذلك غَلَّب العاقَل فجيْءَ بواوِ الضميرِ.
قوله: {نُذِقْهُ} العامَّةُ بنونِ العظمةِ، وقرىء بالياءِ, وفي الفاعلِ وجهان، أظهرهُما: أنَّه اللهُ تعالى لدلالةِ قراءةِ العامَّةِ على ذلك. والثاني: أنه ضميرُ الظلمِ المفهومِ من الفعل. وفيه تَجَوُّزُ بإسناد إذاقةِ العذابِ إلى سببِها وهو الظلمُ.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }
(11/155)
---(1/4412)
قوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ}: في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج: "وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المسرلين إلاَّ آكلين ماشِين" وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه. وقَدَّره ابنُ عطية: "رجالا ً أو رُسُولاً". والضميرُ في "إنهم" وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ. والثاني: أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسلْنا، تقديرُه: إلاَّ مَنْ إنهم، فالضميرُ في "إنهم" وما بعدَه عائدٌ على معنى "مَنْ" المقدرةِ، وإليه ذهب الفراء. وهو مردودٌ: بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوُ إلاَّ في مواضعَ التنبيهُ عليها في البقرةِ. الثالث: أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ. وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري.قال: التقديرُ: إلاَّ وإنهم، يعني أنَّها حاليةٌ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية. ورُدَّ: بكونِ ما بعدَ "إلاَّ" صفةً لِما قبلَها. وقدَّره أبو البقاء أيضاً.
والعامَّةُ على كسرِ "إنَّ" لوجودِ اللامِ في خبرِها، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ: قال أبو البقاء: "وقيل: لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ، إذ المعنى: إلاَّ وهم [يأْكلون"]. وقُرِىء "أنهم" بالفتح على زيادةِ اللامِ، و"أَنْ" مصدريةٌ. التقدير: إلاَّ لأنَّهم. أي: ما جَعَلْناهم رسلا ً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم.
وقرأ العامَّةُ "يَمْشُوْن" خفيفةً. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبدالله "يُمَشَّون" مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. أي: تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ. وقرأ [أبو] عبد الرحمن "يُمَشُّون" بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهي بمعنى "يَمْشُون". قال الشاعر:
3479ـ ومَشَّى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابْتَغَى * قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورُكُوْبُ
(11/156)
---(1/4413)
قال الزمخشري: "ولو قُرِىء "يُمَشَّون" لكان أوجهَ، لولا الروايةُ" يعني بالتشديد. قلت: قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد.
قوله: {أَتَصْبِرُونَ} المعادِلُ محذوفٌ أي: أم لا تصبرون. وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري: "موقعها بعد الفتنةِ موقع "أيُّكم" بعد الابتلاءِ في قولهِ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ.
* { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيا أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً }
قوله: {عُتُوّاً}: مصدرٌ. وقد صَحَّ هنا، وهو الأكثرُ، وأُعِلَّ في سورة مريم في {عِتِيّاً} لمناسبةٍ ذُكِرَتْ هناك وهي تواخي رؤوسِ الفواصلِ.
* { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً }
قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ عليه قوله: "لا بُشْرى" أي: يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن. الثاني: أنه منصوبٌ باذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. الثالث: أنه منصوبٌ بـ"يُعَذِّبون" مقدراً. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البُشْرى: لوجهين، أحدهما: أنها مصدرٌ، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبله. والثاني: أنها منفيةٌ بـ"لا"، وما بعدَها لا يَعْمل فيما قبلَها.
(11/157)
---(1/4414)
قوله: {لاَ بُشْرَى} هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي: يَرَوْنَ الملائكةَ يقولون: لا بُشْرَى، فالقولُ حالٌ من الملائكة.وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم}. قال الشيخ: "واحْتَمَلَ "بُشْرَى" أَنْ يكونَ مبنياً مع "لا"، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ، ومُنِع من الصرفِ للتأنيثِ اللازمِ. فإنْ كان مبنياً مع "لا" احْتَمَلَ أَنْ يكونَ "يومئذٍ" خبراً، و"للمجرمين" خبرٌ بعد خبرٍ، أو نعتاً لـ"بُشْرى"، أو متعقاً بما تَعَلَّق به الخبرُ، وأَنْ يكنَ "يومئذٍ" صفةً لـ"بُشْرَى"، والخبرُ "للمجرمين" ويجيءُ خلافُ سيبويهِ والأخفشِ: هل الخبرُ لنفسِ لا، أو الخبرُ للمبتدأ الذي هو مجموعُ "لا" وما بُني معها؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ جاز أن يكونَ "يومئذٍ" و"للمجرمين". خبرين، وجاز أَنْ يكونَ "يومئذٍ خبراً و"للمجرمين" صفةً. والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لفنسِ "لا" بإجماع".
قلت: قوله: "واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ" إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قولِ أبي إسحاقَ. وهو أنَّه يَرَى أنَّ اسمَ "لا" النافيةِ للجنسِ معربٌ، ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ إليه في الضرورةِ. ويُنشِد:
3480ـ أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً * ......................
(11/158)
---(1/4415)
وتيأَوَّلُه البصريون على إضمار: ألا تَرَوْنَني رجلاً. وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معرباً ـ كما ادَّعى ـ بطريق أخرى: وهي أن يَجْعَلَ "بشَرى" عاملةً في "يومَئذٍ" أو في "للمجرمين" فييصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل، والمُطَّولَلُ معربٌ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك. وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله. ويجوز أَن يكونَ "بُشرى" معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى. وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي: لا يُبَشَّرون بُشرَى كقولِه تعالى: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ}، "لا أهلا ولا سهلاً". إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ: "جاز أَنْ يكونَ "يومَئذٍ" و"للمجرمين" خبرين" فقد حكمَ أنَّ لها خبراً. وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون لـ"لا" حينئذٍ خبرٌ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ. وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه.
قوله: {يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} قد تقدَّم من "يومئذٍ" أوجهُ. وحَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً بـ"بُشْرى" قال: إذا قَدَّرْتَ أها منونةٌ غيرُ مبينةٍ مع "لا" ويكونُ الخبرُ "للمجرمين".
(11/159)
---(1/4416)
وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ "يومئذٍ" تكريراً لـ"يومَ يَرَوْن".ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال: "لأنَّ يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ "اذْكُر"، أو مِنْ يَعْدِمون البُشرى. وما بعد "لا" العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ماقبلَها. وعلى تقدير ما ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا". قلت: وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مَنَ "الملائكة"، والملائكةُ معمولةٌ لـ"يَرَوْن"، ويَرَوْن معمولٌ لـ"يوم" خفضاً بالإِضافة، فـ"لا" وما فيرحَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها. والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل؟
و"للمُجْرمين" مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك. والضميرُ في "يقولون" يحوزُ عَوْدُه للكفارِ و"للملائكة".
و"حِجْراً" من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها، ولا يُتَصَرَّف فيه. قال سيبويه:"ويقولُ الرجلُ للرجل: أَتفعل كذا؟ فيقول: حِجراً". وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه. وكأن المعنى: أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً.
والعامَّةُ على كسرِ الحاء. والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمَّها وهو لغةٌ فيه. قال الزمخشري: "ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك.
وأنشدتُ لبعض الرُجاز:
3481ـ قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ * عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ
(11/160)
---(1/4417)
وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ "حجراً" وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ. وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ. قال: "وقد قُرِيء بها". فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ.
ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للممعنى كقولهم: ذَيْل ذائِل، ومَوْت مائتِ. والحِجْر: العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه.
* { وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }
قوله: {هَبَآءً}: الهَباءُ والهَبْوَة: الترابُ الدقيق قاله أبن عرفة. قال الجوهري: "يُقال منه: هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً". وقال الخليل والزجَّاج: "هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس". وقيل: الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارش إذا أُضْرِمَتْ . والواحدةُ هَباءة على حَدَّ تَمْر وتمرة. ومَنْثوراً أي مُفَرَّقاً، نَثَرْتُ الشيءَ: فَرَّقْتُه والنَّثْرَة: لنجومٍ متفرقة. والنَّثْرُ: الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ. وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظماً مع الضوء/ فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك. وقال الزمخشري: "أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي: فَجَعَلْناه جامِعاً لحقارِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ". قال الشيخ: "وخالَفَ ابنُ درستويه، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ، وقياسُ قولِه في "جَعَلَ" أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث". قلت: مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياساً على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر "كان".
* { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }
(11/161)
---(1/4418)
قوله: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ}: في أفْعَل هنا قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من التفضيل. والمعنى: أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقراً مِنْ مستقرِّ الكفارِ، وأحسنُ مقيلاً مِنْ مَقِيلهم، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك، أو على أنه خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا. والثاني: أَنْ تكونَ لمجرِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ.
* { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً }
قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ}: العاملُ في "يومَ": إمَّا اذْكُرْ، وإمَّا: ينفردُ اللهُ بالمُلْك يومَ تَشَقَّقُ، لدلالة قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} عليه.
وقرأ الكوفيون وابو عمرو هنا وفي ق "تَشَقَّق" بالتخفيف. والباقون بالتشديدِ. وهما واضحتان. حَذَفَ الأَوَّلون تاءَ المضارعةِ، أو تاءَ التَّفَعُّلِ، على خلافٍ في ذلك. والباقون أَدْغموا تاء التَفَعُّل في الشين لِما بينهما من المقاربَةِ، وهما "كَتَظَاهَرون وتَظَّاهرون" حَذْفاً وإدغاماً. وقد مَضَى في البقرة.
قوله: {بِالْغَمَامِ} في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما: على السببيَّة أي: بسببِ الغَمام، يعني بسببِ طُلوعِه منها. ونحو {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} كأنَّه الذي تَنْشَقُّ به السماءُ. الثاني: أنها للحالِ أي: ملتبسَةً بالغَمام. الثالث: أنها بمعنى عَنْ أي: عن الغمامِ كقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ
(11/162)
---(1/4419)
}. قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ} فيها اثنتا عشرة قراءة: ثِنْتان في المتواتِر، وعشرةٌ في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة "ونُنْزِلُ" بنونِ مضمومةٍ ثم أُخْرى ساكنةٍ وزايٍ خفيفةٍ مكسورةٍ مضارعَ "أَنْزَلَ"، و"الملائكةَ بالنصبِ مفعولٌ به. وكان من حَقِّ المصدرِ أَنْ يجيءَ بعد هذه القراءةِ على إنْزال. قال أبو علي: "لَمَّا كان ألأَنْزَل ونَزَّل يَجْريان مَجْرىً واحِداً، أَجْرى مصدرَ أحدِهمام على مصدرِ الآخرة: وأنشد:
3482ـ وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ
لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَوَيْتُ بمعنىً". قلت: ومثلُه {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي: تَبَتُّلاً. وقرأ الباقون من السبعةِ "ونُزِّل" بضمِّ النون وكسرِ الزاي المشدَّدةِ وفتحِ اللامِ، ماضياً مبنياً للمفعول. "الملائكةُ" بالرفعِ لقيامةِ مقامَ الفاعلِ. وهي موافقةٌ لمصدرِهات.
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء "ونَزَّلَ" بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعلِ، وهو الله تعالى، "الملائكةَ" مفعولٌ به. وعن أيضاً "وأَنْزَل" مبنياً للفاعلِ عَدَّاه بالتضعيفِ مرةً، وبالهمزة أخرى. والاعتذارُ عن مجيء مصدرِه على التفعيلِ كالاعتذارِ عن ابنِ كثير. وعنه أيضاً "وأُنْزِل" مبنياً للمفعولِ.
وقرأ هارون عن ابن عمروٍ "تُنَزَّل الملائكةُ" بالتاء من فوق وتشديدِ الزايِو فرعِ اللام مضارعاً مبنياً للفاعل، "الملائكةُ" بالرفعِ، مضارعَ نَزَّل بالتشديد، وعلى هذه القراءةِ فالمفعولُ محذوفٌ أي: وتُنَزِّل الملائكةُ ما أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه.
وقرأ الخَفَّاف عنه، وجناح بن حبيش "ونَزَل" مخففاً مبنياً للفاعلِ "الملائكة" بالرفع. وخارجة عن أبي عمروٍ وأيضاً وأبو معاد "ونُزِّلُ" بضم النون وتشديدِ الزاي ونصب "الملائكةَ", والأصل: ونُنَزِّلُ بنونين حُذِفَتْ إحداهما.
(11/163)
---(1/4420)
وقرأ ابو عمروٍ وابنُ كثير في روايةٍ عنهما بهذا الأصلِ "ونُنَّزِّل" بنونين وتشديدِ الزايِ. وقرأ أُبَيُّ و"نُزِّلَتْ" بالتشديدِ مبيناً للمفعولِ. و"تَنَزَّلَتْ" بزيادةِ تاءٍ في أولهِ، وتاءِ التأنيث فيهما.
وقرأ أبو عمروٍ في طريقةِ الخَفَّاف عنه "ونُزِلَ" بضمِّ النون وكسرِ الزازيِ خفيفةَ مبنياً للمفعول، قال صاحب اللوامح: "فإنْ صَحَّتِ القراءةُ فإنَّه حُذِفَ منها المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، تقديره: ونُزِل نزولُ الملائكةِ، فحُذِفَ النزولُ، ونُقِل إعرابُه إلى الملائكة. بمعنى: نُزِل نازلُ الملائكةِ؛ لأنَّ المصدرَ يجيءُ بمعنى الاسمِ. وهذا ممَّا يجيءُّ على مذهب سيبويهِ/ في ترتيب بناءِ اللازمِ للمفعولِ به؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على مصدره"، قلت: وهذا تَمَحُّلٌ كثيرٌ دَعَتْ إليه ضرورةٌ الصناعةِ، وقال ابن جني: "وهنذا غيرُ معروفٍ؛ لأنَّ نَزَلَ لا يَتَعَدَّى إلى مفعولٍ فيُبْنى هنا للملائكة. ووجهُه: أَْن يكونَ مثل: زُكِم الرجلُ وجُنَّ، فإنه لا يقال: إلاَّ: أَزْكمه وأَجَنَّه الله، وهذا بابُ سماعٍ لا يقاسٍ". قلت: ونظيرُ هذه القراءة ما تقدَّم في سورة الكهفِ في قراءةِ مَنْ قرأ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} بنصب "وَزْناً" من حيث تَعْدِيَةُ القاصرِ وتَقَدَّم ما فيها.
* { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً }
قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ}: فيه ِأوجهٌ، أحدها: أن يكونَ "المُلْكُ" مبتدأً، والخبر: "الحق"، ويومئذٍ" متعلِّقٌ بالمُلْك. و"للرحمن" متعلقٌ بالحق، أو بمحذوفٍ على التبيين، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للحق. الثاني: أنَّ الخبرَ "يومئذٍ"، و"الحقُّ" نعتٌ للمُلْك. و"للرحمن" على ما تقدَّم. الثالث: أنَّ الخبرَ "للرحمن" و"يومئذٍ" متعلقٌ بالمُلْك، و"الحقُّ" نعتٌ للمُلك.
(11/164)
---(1/4421)
* { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً }
قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ}: معمولٌ لمحذوفٍ، أو معطوفٌ على "يومَ تَشَقَّقُ". و"يَعَضُّ" مضارعُ عَضَّ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ، بدليلِ قولِهم: عَضِضْتُ أَعَضُّ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي، فعلى هذا يُقال: أَعِضُّ بالكسر في المضارع. والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ. ومثله: حَرَقَ نابَه، قال:
3483ـ أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه * عليه فأَفْضَى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
وهذا الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المُكْنَى عنه. وأَلْ في "الظالم" تحتملُ العهدَ، والجنسَ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك.
قوله: {يَقُولُ} هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل "يَعَضُّ". وجملةُ التمنِّي بعد القولِ مَحْكيَّةٌ به. وتقدَّم الكلامُ في مباشرة "يا" لـ"ليت" في النساء.
وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ يَعْقِل من الذكور، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ، والفلانُ والفلانةُ بالألف واللام عن غير العاقلِ. ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
3484ـ في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ
(11/165)
---(1/4422)
وليس "فُلُ" مُرَخَّماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم الشيخ أنَّ ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في جَعْلهم "فُلُ" كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان. ولامُ فُل وفلان فيها وجهان، أحدهما: أنها واوٌ. والثاني: أنها ياءٌ، وقرأ الحسن "يا ويلتي" بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها، وهي الأصلُ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة، أبو عليّ: "وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ، فبُدِّلت الكسرةُ فتحةً، واليءاُ ألفاً؛ فِراراً من الياءِ. فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي منه فَرَّ أولاً" قلت: وهذا منقوضٌ بنحو "باع" فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك أمالوا، وقد أمالُوا {ياحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ} و {يَاأَسَفَى} وههما كـ"يا ويلَتى" في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم.
* { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً }
قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ}: يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ من مقولِ الظالمِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ بالقولِ، وأَنْ تكونَ من مقولِ الباري تعالى: فلا مَحَلَّ لها لا ستئنافِها.
* { وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
قوله: {مَهْجُوراً}: مفعولٌ ثانٍ لـ"اتَّخَذُوا" أو حال. وهو مفعولٌ مِنْ الهَجْرِ بفتحِ الهاءِ وهو التَّرْكُ والبُعْدُ. أي: جعلوه متروكاً بعيداً. وقيل: هو من الهُجْر بالضم أي: مهجوراً فيه، حيث يقولون فيه: إنه شِعْرٌ وأساطيرُ، وجَعَل الزمخشري مفعولاً هنا مصدراً بمعنى الهَجْر قال: "كالمَجْلود والمَعْقُول". قلت: وهو غيرُ مَقيسٍ، ضَبَطَه أهلُ اللغةِ في أًُلَيْفاظٍ فلا تُتَعَدَّى إلاَّ بنَقْلٍ.
* { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }
(11/166)
---(1/4423)
قوله: {هَادِياً}: حالٌ أو تمييزٌ. وقد تقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملةِ.
* { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }
قوله: {جُمْلَةً}: حالٌ من القرآن، إذ هي في معنى مُحْتَمعاً.
قوله: {كَذَلِكَ} إمَّا مرفوعةٌ المَحَلِّ أي: الأمرُ كذلك. و"لِنُثَبِّتَ" علةٌ لمحذوفٍ أي: لِنُثَبِتَ فَعَلْنا ذلك. وإمَّا منصوبتُه على الحالِ أي: أنزل مثلَ ذلك، أو على النعت لمصدر محذوفٍ، و"لِنُثَبِّتَ" متعلقٌ بذلك الفعلِ المحذوفِ. وقال أبو حاتمِ:"هي جوابُ قسمٍ" وهذا قولٌ مرجُوْحٌ نحا إلي الأخفش وجَعَلَ مه "ولِتَصْغَى"، وقد تقدَّم في الأنعام.
وقرأ عبدالله "لِيُثَبِّتَ" بالياءِ أي: اللهُ تعالى.
والتَّرْتيل: التفريقُ. ومجيءُ الكلمةِ بعد الأخرى بسكونٍ يسيرٍ دونَ قَطْع النَّفَسِ. منه ثَغْرٌ رَتْلٌ ومُرَتَّل أي: مُفَلَّحُ الأسنان، وبين أسنانِه فُرَجٌ يسيرةٌ.
قال الزمخشري: "ونُزِّل هنا بمعنى: أَنْزَل لا غير كـ خَبَّر بمعنى أَخْبر، وإلاَّ تدافَعا" يعني أنَّ "نَزَّلَ" بالتشديدِ يقتضي بالأصالةِ التنجيمَ والتفريق، فلو لم يُجْعَلْ بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك لتدافعَ مع قولِه "جُمْلَةً" لأنَّ الجلمةَ تُنَافي التفريقَ، وهذا بناءً منه على معتقدِه وهو أنَّ التضعيفَ يَدُلُّ على التفريقِ. وقد نَصَّ على ذلك في مواضعَ من كتابة "الكشاف". وتقدَّم ذلك في البقرةِ وأولِ آل عمران وآخرِ الإِسراء، وحكى هناك عن ابنِ عباس منا يُقَوِّي ظاهرُه صحتَه.
* { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }
(11/167)
---(1/4424)
قوله: {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا. والمعنى: ولا يَأْتُونك بسؤالٍ عجيبٍ إلاَّ جِئْناك بالأمرِ الحقِّ. و"تَفْسيراً" تمييزٌ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي: تفسيراً مِنْ مِثْلِهم.
* { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً }
قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ}: يجوز رفعُه خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هم الذين. ويجوزُ نصبُه على الذمِّ، ويجوز أن يرتفعَ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه {وْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً}. ويجوز أَنْ يكومنَ "أولئك" بدلاً من أو بياناً للموصول، و"شَرٌّ مكاناً" خبر الموصول.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً }
قوله: {هَارُونَ}: بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ على القطع. و"وزيراً" مفعولٌ ثانٍ، وقيل: حالٌ، والمفعولُ الثاني قوله: "معه".
* { فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً }
قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ}: العامَّةُ على "فَدَمَّرْنا" فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوفٍ أي: فَذَهبا فكذَّبُوهما فدَمَّرْناهم. وقرأ عليٌّ كرَّم اللهُ وجهَه "فَدَمِّراهم" أمرً لموسى وهارون. وعنه أيضاً "فَدَمِّرانِّهم" كذلك أيضاً، ولكنه مؤكَّدٌ بالنونِ الشديدةِ. وعنه أيضاً: "فدَمِّرا بهم" بزيادةِ باءِ الجر بعد فعلِ الأمرِ، وهي تُشْبِهُ القراءةَ قبلَها في الخَط. ونَقَلَ عنه الزمخشري "فَدَمَّرْتُهم" بتاءٍ المتكلِّمِ.
* { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً }
(11/168)
---(1/4425)
قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً، عطفاً على مَفْعول "دَمَّرْناهم". ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره قولُه "أغْرَقْناهم". ويُرَجَّح هذا بتقدُّم جملةٍ فعليةٍ قبلَه. هذا إذا قُلنا: إنَّ "لَمَّا" ظرفُ زمانٍ، وأمَّا إذا قُلْنا إنَّها حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ فلا يَتَأتَّى ذلك؛ لأنَّ "أَغْرقناهم" حينئذٍ جوابٌ "لَمَّا"، وجوابُها لا يُفَسِّر، ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ لا على سبيلِ الاشتغالِ، أي: اذكرْ قومَ نوحٍ.
* { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً }
قوله:{وَعَاداً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أَنْ يكونَ معطوفاً على قومِ نوح، وأنْ يكونَ معطوفاً على مفعولِ "جَعَلْناهم"، وأَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ "للظالمين" لأنَّه في قوةِ: وَعَدْنا الظالمين بعذابٍ.
قوله: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} فيه وجهان، أحدهما: من عَطْفِ المغايِرِ. وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّه من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ. والمرادُ بأصحابِ الرِّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البِئْرُ التي لم تُطْوَ، عن أبي عبيد، وثمودُ أصحابُ آبار. وقيل: الرَّسُ نهرٌ بالمشرق، ويقال: إنهم أناسٌ عبدةُ أصنامٍ قَتَلوا نبيَّهم، ورسَوْه في بئرٍ أي: دَسُّوه فيها.
قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} "ذلك" إشارةٌ إلى مَنْ تقدَّم ذكرُه، وهم جماعاتٌ، فلذلك حَسُنَ "بين" عليه.
* { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }
قوله: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} : يجوزُ نصبُه بفعلٍ يفسِّره ما بعده أي: وحَذَّرْنا أو ذكَّرْنا، لأنهما في معنى: ضَرَبْنا له الأمثالَ. ويجوزُ أَنْ يكومنَ معطوفاً على ما تقدَّم، و"ضَرَبْنا" بيانٌ لسببِ إهْلاكهم. وأمَّا "كلاً" الثانيةُ فمفعولٌ مقدمٌ.
(11/169)
---(1/4426)
* { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِيا أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً }
قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصدرٌ على حَذْفِ الزائدِ أي: إمْطار السَّوْس. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ إذا المعنى: أعطيتُها وأَوْلَيْتُها مطرَ السَّوْء. والثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: إمطاراً مثلَ مطرِ السَّوْء.
وقرأ: زيد بن علي "مُطِرَت" ثلاثياً مبنياً للمفعولِ و"مَطَرَ" متعدٍ قال:
3485ـ .................... * كَمَنْ بِوادِيْه بعد المَحْلِ مَمْطورِ
وقرأ أبو السَّمَّال "مَطَرَ السُّوء". بضم السين. وقد تقدَّم الكلامُ على السُّوء والسَّوْء في براءة.
وقوله: {أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} إما عَدَّى "أتى" بـ"على" لأنه ضُمِّنَ معنى "مَرَّ".
* { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً }
(11/170)
---(1/4427)
قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ}: "إنْ" نافيةٌ و"هُزُواً" مفعولٌ ثانٍ، ويحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: موضعَ هُزْء، وأَنْ يكونَ مَهْزُوَّاً بك. وهذه الجملةُ المنفيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أنها جوابُ الشرطية. واختصَّت "إذا" بأنَّ جوابها متى كان منفياً بـ"ما" أو "إنْ" أو "لا"، لا يَحْتاج إلى الفاءِ، بخلافِ غيرِها مِنْ ِأدواتِ الشرط. فعلى هذا يكون قولُه: أهذا الذي" في محلِّ نصبٍ بالقولِ المضمرِ. وذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: إنْ يَتَّخذونك قائلين ذلك. والثاني: أنَّها جملةٌ معترضةً بين "إذا" وجوابِها، وجوابُها: هو ذلك القولُ المضمرُ المَحْكيُّ به "أهذا الذي" والتقديرُ: وإذا رَأَوْك قالوا: أهذا الذي بعثَ، فاعترض بجملة النفي. ومفعولُ "بَعَثَ" محذوفٌ هو عائدٌ الموصولِ أي: بَعَثَه. و"رسولاً" على بابِه من كونِه صفةً فينتصبُ على الحالِ. وقيل هو مصدرٌ/ بمعنى رِسالة فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رسولٍ، بمعنى: ذا رسالة، أو يُجْعَلُ نفسَ المصدرِ؟ مبالغةً، أو بمعنى مُرْسَل. وهو تكلُّف.
* { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً }
قوله: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا}: قد تقدَّم نظيرهُ في "سبحان".
قوله: {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا} جوابُها محذوفٌ أي: لضَلَلْنا عن آلهتِنا، قال الزمخشري: "ولولا في مثلِ هذا الكلامِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعةُ مَجْرى التقييدِ للحكمِ المطلقِ".
(11/171)
---(1/4428)
قوله: {مَنْ أَضَلُّ} جملةُ اللاستفهامِ معلِّقةٌ لـ"يَعْلمون"، فهي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها إنْ كانَتْ على بابِها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. ويجوزُ في "مَنْ" أَنْ تكنَ موصولةً. و"أَضَلُّ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، هو العائدُ على "مَنء" تقديرُه: مَنْ هو أضلُّ. وإنما حُذِفَ للاستطالةِ بالتمييزِ كقولِهم: "ماأنا بالذي قائلٌ لك سوءاً"، وهذا ظاهرٌ إن كانَتْ متعديةً لواحد، وإنْ كانَتْ متعديةً لاثنين فتحتاجُ إلى تقديرٍ ثانٍ ولا حاجةَ إليه.
* { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً }
قوله: {مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ} مفعولا الاتِّخاذِ مِ،ْ غيرِ تقديمٍ ولا تأخيرٍ لاستوائِهما في التعريفِ، وقال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ أَخَّر "هواه" والأصلُ قولُك: اتَّخذ الهوى إلَهاً"؟ قلت: ما هو إلاَّ تقديمُ المفولِ الثاني على الأولِ للعنايةِ به، كما تقولُ "عَلِمْتُ منطلقاً زيداً" لفضلِ عنايتِك بالمنطَلقِ". قال الشيخ: "وادِّعاءُ القلبِ ـ يعني التقديمَ ـ ليس بجيدٍ لأنَّه من ضرائرِ الأشعارِ". قلت: قد تقدَّم فيه ثلاثةُ مذاهبَ. على أنَّ هذا ليس من القلبِ المذكورِ في شيء، إنما هو تقديمٌ وتأخيرٌ فقط.
وقرأ ابن هرمز "إلا هَةً هواه" على وزن فِعالة. والإَهة بمعنى: المألوه، والهاءُ للمبالغةِ كعلاَّمَة ونسَّابة. وإلاهَةً مفعولٌ ثانٍ قُدِّم لكونِه نكرةً، ولذلك صُرِفَ. وقيل: الإَهَةً هي الشمسُ. ورُدَّ هذا: بأنَّه كان ينبغي أن يمتنعَ من الصرفِ للعلميةِ والتأنيث. وأُجيب بأنها تدخُل عليها أل كثيراً فلمَّا نُزِعَتْ منها صارَتْ نكرةً جاريةً مَجْرى الأوصافِ. ويُقال: أُلاهَة بضمِّ الهمزةِ أيضاً اسماً للشمس.
وقرأ بعضُ المدنيين "آلهةً هواه" جمع إلَه، وهو أيضاً مفعولٌ مقدَّمٌ، وجمُِع باعتبارِ الأنواعِ، فقد
(11/172)
---(1/4429)
كان الرجلُ يعبُدُ آلهةً شَتى. ومفعولُ: "أرأيتَ" الأولِ "مَنْ"، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً }
قوله: {كَيْفَ}: منصوبةٌ بـ"مَدَّ" وهي مُعَلِّقَةٌ لـ"تَر" فهي في موضعِ نصبٍ وقد تقدَّم القولُ في "ألم تَرَ".
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا} قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: "ثم" في هذين الموضعين كيف موقعُها؟ قلت: موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ، كأنَّ الثاني أعظمُ من الأولِ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبهاً؛ لتاعُدِ ما بينهما في الفَضْلِ بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ".
* { لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً }
قوله: {لِّنُحْيِيَ بِهِ}: فيه وجهان أظهرُهما: أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ. والثاني: ـ وهو ضعيفٌ ـ أنَّه متعلقٌ بـ"طَهورٍ". وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: إنزالُ الماءِ موصوفاً بالطهارة، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك ما تقول: "حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ لأَصِيْدَ عليه الوحشَ"، قلت: لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم.
و"ظَهُور" يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من ظاهر, كقوله: {شَرَاباً طَهُوراً}، وقال:
3486ـ إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا * عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ طَهُوْرُ
وأضنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول والوَلُوع. ووصفُ "بَلْدةً" بـ"مَيْت" وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد.
(11/173)
---(1/4430)
قوله: {وَنُسْقِيَهِ} العامَّةُ على ضمِّ النونِ. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواةٍ عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها. وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل والمؤمنين. وتقدم كلامُ الناسِ عليهما.
قوله: { مِمَّا خَلَقْنَآ} يجوز أن تَتَعلَّقَ بـ"نُسْقيه"، وهي لابتداء الغاية. ويجوزُ أن تَتَعَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ "أنعاماً". ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ: قال الزمخشري: "لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم مُنيخون بالأودية والأنهارِ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء، وأعقابُهم ـ وهم كثيرٌ منهم ـ لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه".
قوله: {وَأَنَاسِيَّ} في وجهان، أحدهما: ومذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ إنسان. والأصلُ: إنسان وأنَاسين، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ قبلَها، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ. والثاني: وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج أنه مع إنْسِيّ. وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو: كُرْسِيّ وكَرَاسيّ./ فلو أُريد بـ كرسيّ النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ. ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ: إن الياءَ في إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ على أَناسِية نحو: مَهالبة في المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي.
وقرأ يحيى بن الحارث الِّماري والكسائي ـ في رواية ـ "وأناسِيَ" بتخفيف الياء. قال الزمخشري: "بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك: أناعِم في أناعِيم". وقال: "فإنْ قلت لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي. قلت: لأن حياةَ الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم، ولأنَّهم إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم".
* { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }
(11/174)
---(1/4431)
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ}: يجوزُ أَنْ تعودَ الهاءُ على القرآن، وأن تعودَ على الماءِ أي: صَرَّفنا نُزولَه مِنْ وابِل وَطلّ وجَوْد ورَذاذ وغيرِ ذلك. وقرأ عكرمة "صَرَفْناه" بتخفيف الراء.
* { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً }
قوله: {وَجَاهِدْهُمْ}: أي بالقرآن، أو بتركِ الطاعةِ المدلولِ عليها بقولهِ {فَلاَ تُطِعِ}، أو بما دَلَّ عليه {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} مِنْ كونِه نذيرَ كافةِ القُرى أو بالسيف.
* { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً }
قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}: في مَرَجَ قولان، أجدها: بمعنى: خَلَطَ ومَرَجَ، ومنه مَرَجَ الأمرُ أي: اختلط قاله ابن عرفة. وقيل: مَرَجَ: أجرى. وأَمْرَجَ لغةٌ فيه. قيل: مَرَجَ لغةُ الحجاز، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ. وفي كلامِ بعضِ الفصحاء: "بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ، وماءُ العذاب منهما بالأُجاج ممروج".
قوله: {هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ. وكأنَّ قائلاً قال: كيف مرْجُهما؟ فقيل: هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ. ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً. والفُراتُ المبالِغُ في الحلاوةِ. والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ. ووزنُه فُعال، وبعضُ العربِ يقفُ عليها هاءً. وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت. ويُقال: سُمِّي الماءُ الحُلْوُ فُراتاً؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي: يَشُقُّه ويَقْطَعُه. والأُجاج: المبالِغُ في الملُوحة. وقيلأ: في الحرارةِ. وقيل: في المَرارة، وهذا من أحسنِ المقابلةِ، وحيث قال تعالى "عَذْبٌ فُراتٌ مِلْحٌ أُجاجٌ. وأنشدْتُ لبعضهم:
3487ـ فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي * إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا
(11/175)
---(1/4432)
أَأُلَْحى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني * على جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُراتَا
ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج، وعن المبكيَّ عليه بالعذاب الفُراتِ، وكان سببَ إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه "عُراتا": كيف يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ؟ فقلت: إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً. حَكَوْا عنهم. أكلْتُ تَمْرَتا، نحو: أكلْتُ زَيْتا.
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي "مَلِحٌ" بفتح الميم وكسرِ اللام، وكذا في سورة فاطر، وهو مقصورٌ مِنْ مالح، كقولهم: بَرِد في بارد قال:
3488ـ وصِلِّيانا بَرِدا
وماء مالح لغةٌ شاذةٌ. وقال أبو حاتم: "وهذه قراءةُ مُنْكَرَةٌ".
قوله:{وَحِجْراً مَّحْجُوراً}: الظاهرُ عطفُه على "بَرْزَخاً". وقال الزمخشري:"فإنْ قلتَ: حِجراً مَحْجُوراً ما معناه؟ قلت: هي الكلمةُ التي يَقُولُها المتعوِّذُ، وقد فَسَّرناها، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ. كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه: حِجْراً مَحْجُوراً، وهي من أحسنِ الاستعاراتِ"، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ.
قوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ "بَرْزَخاً"، والأولُ أظهرُ.
قوله: {مِنَ الْمَآءِ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بخَلَقَ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ "ماء" و"مِنْ" للابتداء أو للتبعيض. والصِّهْرُ: قال الخليل: "لا يُقال لأهلِ بيتِ المرأةِ إلاَّ "أَصْهار"، ولا لأهلِ بيتِ الرَّجل إلاَّ "أَخْتان". قال: "ومن العربِ مَنْ يُطلق الأصهارَ على الجميع". وهذا هو الغالب.
* { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً }
(11/176)
---(1/4433)
قوله: {عَلَى رَبِّهِ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"ظَهيراً" وهو الظاهر، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ "كان" و"ظهيراً" حالٌ. والظَّهير: المُعاوِن.
* { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً }
قوله: {عَلَى رَبِّهِ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"ظَهيراً" وهو الظاهر، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ "كان" و"ظهيراً" حالٌ. والظَّهير: المُعاوِن.
* { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً }
قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ}: فيه وجهان، أحدُهما: هو منقطعٌ أي: لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ. والثاني: أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني: إلاَّ أجرَ مَنْ، أي: الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك. كذا حكاه الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى، إنما أسندَه إلى المخاطبين. فيكف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟
* { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً }
قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: يجوزُ فيه على قراءةِ العامَّةِ في "الرحمنُ" بالرفع أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ و"الرحمنُ" خبره، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مقدرٍ أي: هو الذي خَلَقَ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ، وأَنْ يكونَ صفةً للحيِّ الذي لا يموت أو بدلاً/ أو بياناً. وأمَّاا على قراءةِ زيدِ بن علي "الرحمنِ" بالجرِّ فيتعيَّن أَنْ يكونَ "الذي خلق" صفةً للحيِّ فقط؛ لئلا يُفْصَلَ بين النعتِ ومنعوتِه بأجنبيّ.
(11/177)
---(1/4434)
قوله: {الرَّحْمَانُ} مَنْ قرأ بالرفعِ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خبرُ "الذي خَلَق" وقد تقدَّم. أو يكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو الرحمنُ، أو يكونُ بدلاً من الضمير في "استوى" أو يكونُ مبتدأ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه {فَسْئَلْ بِهِ} على رأيِ الأخفش. كقوله:
3489ـ وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ * ........................
أو يكونُ صفةً للذي خلق، إذا قلنا: إنه مرفوعٌ. وأمَّا على قراءةِ زيدٍ فيتعيَّن أَْن يكونَ نعتاً.
قوله: "به" في الباء قولان: أحدهما: هي على بابِها، وهي متعلقةٌ بالسؤالِ. والمرادُ بالخبير اللهُ تعالى، ويكونُ مِنَ التجريدِ، كقولك: لقيت به أَسَداً. والمعنى: فاسألِ اللهَ الخبيرَ بالأشياء. وقال الزمخشري: "أو فاسْأَلْ بسؤالِه خبيراً، كقولك: رأيتُ به أسداً أي: برؤيتِه" انتهى. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ صلةً "خبيراً" و"خبيراً" مفعول "اسْأَلْ" على هذا، أو منصوبٌ على الحالِ المؤكِّدة. واستضعفه أبو البقاء. قال "ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ خبيراً حالاً مِنْ فاعل "اسألْ" لأنَّ الخبيرَ لا يُسْأل إلاَّ على جهةِ التوكيد كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} ثم قال: "ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من "الرحمن" إذا رَفَعْتَه بـ أستوى. والثاني: أن تكمونَ الباءُ بمعنى "عن": إمَّا مطلقاً، وإمَّا مع السؤالِ خاصةً كهذه الآيةِ الكريمةِ وكقولِ الشاعر:
3490ـ فإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ ......... * .........................
البيت. والضميرُ في "عنه" للهِ تعالى و"خبيراً" من صفاتِ المَلَكِ وهو جبريلُ عليه السلام. ويجوز على هذا ـ أعني كونَ "خبيراً" من صفاتِ جبريل ـ أَنْ تكونَ الباءُ على بابِها، وهي متعلقةٌ بـ"خبيراً" كما تقدَّم أي: فاسْأَلِ الخُبَراء به.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }
(11/178)
---(1/4435)
قوله: {لِمَا تَأْمُرُنَا}: قرأ الأخَوان "يأْمُرُنا" بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. والباقون بالخطاب يعني: لِما تأمرنا أنت يا محمد. و"ما" يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ "أَمَرَ" يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ. ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء: وهو أنَّ الأصلَ: لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له، ثم بسجودِه،ـ ثم تَأْمُرُناه، ثم تأْمُرُنا. كذا قَدَّره، ثم قال: هذا على مذهبِ أبي الحسن، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنء غيرِ تَدْريج". قلت: وهذا ليس مذهبَ سيبويه. ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً، والكلامُ في عائِدها مصوفةً كهي موصولةً. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي: أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْلِكَ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً. أي: أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا. وعلى هذا لا تكونُ "ما" واقعةً على العالِم. وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ.
* { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }
(11/179)
---(1/4436)
قوله: {سِرَاجاً}: قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان "سُرُجاً" بضمتين جمعاً، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً. الحسن والأعمش والنخعي وعاصم ـ في روايةِ عصمة ـ و"قُمْراً" بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْرا. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه بـ"منيرا". ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان:
3491ـ يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ * بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: "يُصَفِّقُ" بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ "تُصَفِّقُ" بالتاء مِنْ فوقُ. على انَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه:
3492ـ ...................... * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً.
* { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }
قوله: {خِلْفَةً}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ ثانٍ. والثاني: أنه حالٌ بحَسَبِ القَوْلَيْن في "جَعَل". وخِلْفَه يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ خَلَفَه يَخْلُفه، إذا جاء مكانَه، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ، وأَنْ يكونَ من الاختلافِ كقولِه:
3493ـ ولها بالماطِرُوْنَ إذا * أكلِ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ * سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعاً
في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ * حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا
ومثلُه قوله زهير:
(11/180)
---(1/4437)
3494ـ بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً * ....................
وأَفْرَدَ "خِلْفَةً" قال أبو البقاء: "لأنَّ المعنى: يَخْلُفُ/ أحدُهما الآخرَ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما" انتهى.
والشُّكور: بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ.
* { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }
قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ}: رفعٌ بالابتداءِ. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجملةُ الأخيرةُ في آخرِ السورة: {أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ} وبه بَدَأ الزمخشريُّ. "والذين يَمْشُون" وما بعده صفاتٌ للمبتدأ. والثاني: أنَّ الخبرَ "يَمْشُوْن". العامَّةُ على "عباد". واليماني "عُبَّاد" بضمِّ العين، وشدِّ الباءِ جمع عابد. والحسن "عُبُد" بضمتين.
والعامَّةُ "يَمْشُوْن" بالتخفيفِ مبنياً للفاعل. واليماني والسُلميُّ بالتشديد مبنياً للمفعول.
قوله: {هَوْناً}: إمَّا نعتُ مصدرٍ أي: مَشْياً هَوْناً، وإمَّا حالٌ أي: هَيِّنِيْن. والهَوْن: اللِّيْنُ والرِّفْقُ.
قوله: {سَلاَماً}: يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: نُسَلِّم سَلاماً، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي: قالُوا هذا اللفظَ. قال الزمخشري: أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأّذى. المرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله:
3495ـ ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا * فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ.
* { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }
(11/181)
---(1/4438)
قوله: {سُجَّداً}: خبرُ "يَبِيْتُون" ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ تامةَ. أي: دَخَلوا في البَيات. و"سُجَّداً" حال. و"لربِّهم" متعلقٌ بسُجَّداً وقَدَّمَ السجودَ على القيام، وإن كان بعدَه في الفعلِ لاتفاق الفواصل. وسُجَّداً جمعُ ساجِد كضُرِّب في ضارِب. وقرأ أبو البرهسم "سُجوداً" بزنة قُعُود. و"يَبِيْتُ" هي اللغةُ الفاشيةُ، وأَزْدُ السَّراة وبُجَيْلَة يقولون: يَباتُ وهي لغةُ العوامِّ اليوم.
* { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }
قوله:{غَرَاماً}: أي: لازمِاً دائماً. وعن الحسن: كلُّ غَريمٍ يفارِقُ غَريمه إلاَّ غريمَ جهنَّمَ. وأنشدُوا قولَ بشر بن أبي خازم:
3496ـ ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفارِ * كنا عَذاباً وكانا غَراما
وقال الأعشى:
3497ـ إن يُعاقِبْ يكُنْ غَراماً وإنْ يُعطِ * جَزِيلاً فإنَّه لا يُبالي
فـ"غراماً" بمعنى لازم.
* { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }
(11/182)
---(1/4439)
قوله: {سَآءَتْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى أَخْزَنَتْ فتكونَ متصرفةً، ناصبةً المفعولَ به، وهو هنا محذوفٌ أي: إنها أي: جهنَم أَحْزَنَتْ أصحابَها وداخليها. ومُسْتقراً: يجوزُ أن يكونَ تمييزاً، وأَنْ يكونَ حالاً. ويجوز أَنْ تكونَ "ساءَتْ" بمعنى بِئْسَتْ فتُعْطى حكمَها. ويكونُ المخصوصُ محذوفاً. وفي ساءَتْ ضميرٌ مبهمٌ. و"مُسْتَقَراً" يتعيَّنُ أنْ يكونَ تمييزاً أي: ساءَتْ هي. فـ"هي" مخصوصٌ. وهو الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين ما وَقَعَتْ خبراً عنه، وهو "إنَّها"، وكذا قَدَّره الشيخ. وقال أبو البقاء: "ومُسْتَقَرَّاً تمييزٌ. وساءَتْ بمعنى بِئْسَ". فإن قيلَ: يَلْزَمُ من هذا إشكالٌ، وذلك أنه يَلْزَمُ تأنيثُ فعلِ الفاعلِ المذكَّرِ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ لذلك، فإنَّ الفاعلَ في "ساءَتْ" على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعدَه، وهو "مُسْتقراً ومُقاماً"، وهما مذكَّران فمِنْ أين جاء التأنيثُ؟ والجوابُ: أن المستقرَّ عبارةٌ عن جهنَّمَ فلِذلك جاز تأنيثُ فِعْلِه. ومثلُه قولُه:
3498ـ أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ * دعائمُ الزَّوْرِ نعْمَتْ زَوْرَقُ البلدِ
ومُسْتقراً ومُقاماً: قيل: مُترادفان، وعُطِفَ أحدُهما على الآخر لاختلافِ لَفْظَيْهما. وقيل: بل هما مختلفا المعنى، فالمستقرُّ: للعُصاةِ فإنهم يَخْرجُون. والمُقام: للكفَّارِ فإنَّهم يَخْلُدون.
وقرأت فرقةُ "مَقاماً" بفتح الميم أي: مكانَ قيامِ. وقراءةُ العامَّةِ هي المطابِقَةُ للمعنى أي: مكانَ إقامةٍ وثُوِيّ وقوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً} يُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ كلامِهم، فتكونَ منصوبةً المحلِّ بالقول، وأَنْ تكونَ مِنْ كلامِ اللهَ تعالى.
* { وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
(11/183)
---(1/4440)
قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُواْ}: قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمروٍ بالفتحِ والكسرِ. ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ اَقْتَرَ. وعليه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. وأنكر أبو حاتم/ "أقتر" وقال: "لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه "وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه". ورُدَّ عليه: بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق.
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق.
قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} في اسم كان وجهان، أشهرهما: أنه ضميرٌ بعودٌ على الإِنفاقِ المفهومِ مِنْ قوله: "أَنْفَقُوا" أي: وكان إنفاقُهم مُسْتوياً قَصْداً لا إسرافاً ولا تَقْتيراً. وفي خبرِها وجهان. أحدُهما: هو قَواماً و"بينَ ذلك": إمَّا معمولٌ له، وإمَّا لـ"كان" عند مَنْ يَرَى إعمالَها في الظرف، وإمَّا لمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "قَواما". ويجوزُ أَنْ يكونَ "بين ذلك قواماً" خبرَيْن لـ"كان" عند مَ،ْ يَرَى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن دُرُسْتَوَيْه. الثاني: أن الخبرَ "بين ذلك" و"قَواماً" حالٌ مؤكدةٌ.
والثاني: من الوجهين الأَوَّلين: أَنْ يكونَ اسمُها "بين ذلك" وبُني لإضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، و"قواماً" خبرُها. قاله الفراء. قال الزمخشري: "وهو من جهةِ الإِعرابِ لا بأسَ به، ولكنه من جهةِ المعنى ليس بقويٍ، لأنَّ ما بينَ الإِسْرافِ والتَّقْتيرِ قَوامٌ لا مَحالةَ، فليس في الخبر الذي هو معتمدٌ الفائدةِ فائدةٌ". قلت: هو يُشْبِهُ قولَك "كان سيدُ الجارية مالكَها".
وقرأ حسان بن عبدالرحمن "قِواما" بالكسرِ فقيل: هما بمعنىً. وقيل: بالكسرِ اسمُ ما يُقام به الشيءُ. وقيل: بمعنى سَداداً ومِلاكاً.
(11/184)
---(1/4441)
* { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً }
قوله: {إِلاَّ بِالْحَقِّ}: يَجُوزُ أَنْ تتعلَّقَ الباءُ بنفسِ "يَقْتُلون" أي: لا يَقْتُلونها بسببٍ من الأسبابِ إلاَّ بسببِ لحق، وأَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ للمصدرِ أي: قَتْلاً ملتبساً بالحقِّ، أو على أنها حالٌ أي: إلاَّ مُلْتَبِسين بالحقِّ.
قوله: "ذلك" إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم لأنهن بمعنى: ما ذُكِر، فلذلك وُحِّدَ. العامَّةُ على "يَلْقَ" مجزوماً على جزاءِ الشرط بحذفِ الألِف. وعبدالله وأبو رجاء "يَلْقَى" بإثباتها كقوله: {فَلاَ تَنسَى} على أحدِ القولين، وكقراءةِ: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى} في أحدِ القولين أيضاً، وذلك بأَنْ نُقَدِّرَ علامةَ الجزمِ حَذْفَ الضمة المقدِرة.
وقرأ بعضُهم "يُلَقَّ" بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف مِنْ لَقَّاه كذا. والأَثام: العقوبةُ. قال الشاعر:
3499ـ جزى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيث أَمْسى * عَقوقاً والعُقوقُ له أَثامُ
أي: عقوبةٌ. وقيل: هو الإِثمُ نفسُه. والمعنى: يَلْقَ جزاءَ إثمِ، فأطلقَ اسمَ الشيءِ على جزائِه. وقال الحسن: "الأَثامُ اسمٌ مِنْ أسماْ جهنَّم. وقيل: بئرٌ فيها. وقيل: وادٍ. وعبدالله "أيَّاماً" جمعُ "يوم" يعنى شدائدَ، والعرب تُعَبِّر عن ذلك بالأيام.
* { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً }
قوله: {يُضَاعَفْ}: قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع "يُضاعَفُ" و"يَخْلُدُ" على أحدِ وجهين: إمَّا الحالِ، وإمَّا على الاستئنافِ. والباقون بالجزمِ فيها، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال. ومثلُه قولُه:
3500ـ متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا * تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
(11/185)
---(1/4442)
فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ. وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم.
وقرأ أبو جعفر وشيبة "نُضَعِّفْ" بالنون مضمومة وتشديدِ العين، و"العذابَ" نصباً على المفعول به. وطلحة بن سليمان و"تَخْلُدْ" بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ. وأبو حيوةَ "وُيخَلِّد" مشدداً مبنياً للمفعولِ. ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك، إلاَّ أنه بالتخفيف.
قوله: {مُهَاناً} حالٌ. وهو اسمُ مفعولٍ. مِنْ أَهانه يُهِيْنُه أي: أذلَّه وأَذاقه الهوان.
* { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ}: فيه وجهان، أحدُهما: ـ وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ. الثاني: أنه منقطع. قال الشيخ: "ولا يَظْهَرْ ـ يعني الاتصال ـ لأنَّ المستثنى منهه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذابُ، فيصيرُ التقديرُ: إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ له. ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ، فالأولى عندي أَنْ يكونَ استثناءً منطقعاً أي: لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ. وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ". قلت: والظاهرُ قولُ الجمهورِ. وأمَّا ما مقاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ الإِخيارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ، إلاَّ أَنْ يتوبَ. وأمَّا إصابةُ اصلِ العذابِ وعدُمها فلا تَعرُّضَ في الآية له.
(11/186)
---(1/4443)
قوله: {سَيِّئَاتِهِمْ} هو المفعولُ الثاني للتبديلِ، وهو المقيِّدُ بحرفِ الجر، وإنما حُذِفَ لفهم المعنى وحَسَنات هو الأولُ المُسَرَّح وهو المأخوذُ، والمجرورُ بالباءِ هو المتروكُ. وقد صَرَّح بهذا في قولِه تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ}. وقا الراجز:
3501ـ تَضْحَكُ منِّي أختُ ذاتِ النِّحْيَيْنْ *أَبْدلكِ اللهُ بلونٍ لَوْنَيْنْ
سوادً وجهٍ وبياضَ عَيْنَيْنُ
وقد تقدم تحقيقُ هذا في البقرةِ عند قولِه: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ
}.
* { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }
قوله: {الزُّورَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به أي: لا يَحْضُرون الزُّوْرَ. وفُسِّر بالصنمِ واللهوِ. الثاني: أنه مصدرٌ، والمرادُ شهادةُ الزُّوْرِ.
قوله: {بِاللَّغْوِ} أي بأهِله.
* { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }
قوله: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً}: النفيُ مُتَسَلِّطٌ على القيدِ، وهو الصَّمَمُ والعَمَى أي: إنهم يَخِرُّون عليها، لكنْ لا على هاتين الصفتين. وفيه تعريضٌ بالمنافقين.
* { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }
(11/187)
---(1/4444)
قوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا}: يجوزُ أَنْ تكونَ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وأنْ تكونَ للبيانِ. قاله الزمخشري، وجعله من التجريدِ، أي: هَبْ لنا قُرّةَ أَعْيُنٍ من أزواجِنا كقولِك: "رأيت منك أسداً" وقرأ أبو عمروٍ والأخَوان وأبو بكر "ذُرِّيَّتِنا" بالتوحيدِ، والباقون بالجمعِ سلامةً. وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود "قُرَّاتِ" بالجمعِ. وقال الزمخشري: "أتى هنتا بـ"أَعْيُن" صيغةِ القلةِ، دون "عيون" صيغةٍ الكثرة، إيذاناً عيونَ المتقين قليلةٌ بالنسبةِ إلى عُيون غيرهم". ورَدَّه الشيخُ بأنَّ يُطْلَقُ على العشرة فما دونَها، وعيونَ المتقين كثيرةٌ فوق العَشرة"، وهذا تَحَمُّل عليه؛ لأنه إنما أراد القلةَ بالنسبة إلى كثيرِ غيرِهم، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً.
قوله: {إِمَاماً} فيه وجهان، أَحدُهما: أنَّه مفردٌ، وجاء به مفرداً إرادةً للجنس، وحَسَّنَه كونُه رأسَ فاصلةٍ. أو المراد: اجعَلْ كلَّ واحدٍ منا إماماً، وإمَّا لا تِّحادِهم واتفاقِ كلمتِهم، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ كصِيام وقِيام. والثاني: أنه جمعُ آمّ كحالٍّ وحِلال، أو جمعُ إِمامة كقِلاة وقِلاد.
* { أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً }
قوله: {الْغُرْفَةَ}: مفعولٌ ثانٍ لـ"يُجْزَوْن". والغُرْفَةُ ما ارتفعَ من البناءِ، والجمعُ غُرَفٌ.
قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} أي: بصَبْرِهم" أي: بسببِه أو بسببِ الذي صبروه. والأصلُ: صبروا عليه، ثم حُذِفَ بالتدريج. والباءُ للسببية كما تقدَّم. وقيل: للبدلِ كقوله:
3502ـ فليت لي بهُم قَوْماً ......... * ......................
البيت. ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله: {وَيُلَقَّوْنَ} قرأ الأَخَوان وأبو بكر بفتح الياء، وسكونِ اللام، مِنْ لَقِيَ يَلْقَى. الباقون بضمِّها وفتحِها وتشديدِ القافِ على بنائِه للمفعول.
(11/188)
---(1/4445)
* { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }
قوله: {لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}: جوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم. أي: لولا دعاؤُكم ما عَنَى بكم ولا اكترَثَ. و"ما" يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً. وهو الظاهرُ. وقيل: استفهاميةٌ بمعنى النفي، ولا حاجةَ إلى التجوُّزِ في شيءٍ يَصِحُّ أَنْ يكونَ حقيقةً بنفسه. و"دعاؤُكم": يجوز أن يكونَ مضافَاً للفاعلِ أي: لولا تَصَرُّعُكم إليه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي: لولا دعاؤُه إيَّاكم إلى الهدى. ويقال: ما عَبَأْتُ بك أي: ما اهتَمَمْتُ ولا اكتَرَثْتُ. ويقال: عَبَأْتُ الجيشَ وعَبَّأته أي: هَيَّأْتُه وأَعْدَدْتُه، والعِبْء: الثِّقَلُ.
قوله: {لِزَاماً} خبرُ "يكون" واسمُها مضمرٌ أي: يكون العذابُ ذا لِزام. واللِّزام: بالكسرِ مصدرٌ كقوله:
3503ـ فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ * فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما
وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال "لَزاماً" بفتح اللامِ. وهو مصدرٌ أيضاً نحو: البَيات. وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً "لَزامِ" بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو: "بَدادِ" فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال:
3504ـ إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا * فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ(1/4446)
سورة الشعراء
* { طسم }
(11/189)
قوله: {طساما}: أظهر حمزةُ نونَ "سين" قبل الميمِ كأنه ناوِي الوقفِ/ وإلاَّ فإدغامُ مثلِه واجبٌ. والباقون يُدغمون. وقد تقدَّم إعرابُ الحروفِ المقطعة. وفي مصحفِ عبدالله ط . س . م . مقطوعةً من بعضها. قيل: هي قراءةُ أبي جعفر، يَعْنُون أنه يقف على كلِّ حرفٍ وَقْفَةً يميز بها كلَّ حرفٍ، وإلاَّ لم يُتَصَوَّرْ أَنْ يُلْفَظُ بها على صورِتها في هذا الرسمِ. وقرأ عيسى ـ وتَرْوَى عن نافع ـ بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء. وأمال الطاءَ الأخَوان وأبو بكر. وقد تقدَّم ذلك.
* { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }
قوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ}: العامَّةُ على نونِ العظمةِ فيهما. ورُوِي عن أبي عمروٍ بالياء فيهما أي: إنْ يَشَأْ اللهُ يُنَزَّلْ. و"إنْ" أصلُها أَنْ تدخلَ على المشكوكِ أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُه، والآيةُ من هذا الثاني.
قوله: {فَظَلَّتْ} عطفٌ على "نُنَزِّلْ" فهو في محلِّ جزمٍ. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً غيرَ معطوفٍ على الجزاءِ. ويؤيِّد الأولَ قراءةُ طلحة "فَتَظْلِلْ" بالمضارعِ مفكوكاً.
قوله: {خَاضِعِينَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن "أعناقُهم". واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ. وأُجيب عنه بأوجهٍ، أحدُها: أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ، كما قِيل: لهم وجوهٌ وصدورٌ قال:
3505ـ .................. * في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني: أنه على حذفِ مضافٍ أي: فظَّ أصحابُ الأعناقِ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ. وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ {وَقَمَراً مُّنِيراً}. الثالث: أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه:
(11/190)
---(1/4447)
3506ـ ..................... * كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع: أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس، وهم الجماعةُ، فليس المرادُ الجارحةَ البتة. ومن قولُه:
3507ـ أنَّ العراقَ وأهلَه * عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت: وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ. إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم. الخامس: قال الزمخشري: "أصلُ الكلامِ: فظلًُّوا لها خاضعين، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلامُ على أصله، كقوله: ذهبَتْ أهلُ اليمامة، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور". قلت: وفي التنظير بقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ" نظرٌ؛ لأنَّ "اهل" ليس مقحماً البتة؛ لأن المقصودُ بالحكم, وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ. السادس: أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله {ساجدِين} و{طائِعِين} في يوسف والسجدة.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في "أعناقُهم" قاله الكسائي، وضَعَّفه أبو البقاء قال: "لأنِّ "خاضعين" يكون جارياً على غايرِ فاعلِ "ظَلَّتْ" فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل، فكان يجبُ أَنْ يكونَ "خاضعين هم". قلت: ولم يَجْرِ "خاضعين" في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له، وهو الضمير في "أعناقُهم"، والمسألة التي قالها: هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذ أُمِنَ اللَّبْسُ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ. على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقوله: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً
}.
(11/191)
---(1/4448)
* { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ }
قوله: {إِلاَّ كَانُواْ}: جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا وما قبلَه في أول الأنبياء.
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }
قوله: {كَمْ أَنبَتْنَا}: "كم: للتكثيرِ فهي خبريةٌ، وهي منصوبةٌ بما بعدَها على المفعولِ به أي: كثيراً من الأزواج أنْبتنا. و{مِن كُلِّ زَوْجٍ} تمييزٌ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً ولا معنى له.
قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى الجمعِ بين كم وكل؟ ولو قيل: أنبتنا فيها مِنْ كل زوج؟ قلت: قد دَلَّ "كل" على الإِحاطةِ بأزواجِ النباتِ على سبيلِ التفصيلِ، و"كم" على أن هذا المحيطَ متكاثرٌ مُفْرِطٌ".
* { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله: {وَإِذْ نَادَى}: العامُ فيه مضمرٌ. فقدَّره الزجَّاج: اتلُ، وغيرُه: اذكر.
قوله: {أَنِ ائْتَ} يجوزُ أن تكونَ مفسِّرةً، وأن تكونَ مصدريةً أي بأن.
* { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ }
قوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}: بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ للقومِ الظالمين. وقال أبو البقاء: "إنه مفعولٌ "تَتَّقون" على قراءةِ مَنْ قرأ "تتقون" بالخطاب وفتح النون كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءةِ أن يكونَ منادى".
(11/192)
---(1/4449)
قوله: {أَلا يَتَّقُونَ} العامَّةُ على الياء في "يتَّقون" وفتحِ النون، والمرادُ قومُ فرعونَ. والمفعولُ محذوفٌ أي: يتقون عقابَ. قرأ عبدالله بن مسلم ابن يسار وحماد وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات، خاطبهم بذلك توبيخاً، والتقدير: يا قومَ فرعونَ/ وقرأ بعضُهم "يتقونِ" بالياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ النونِ. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ يتَّقونِ" مضارعٌ، ومفعولُه ياءُ المتكلم، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ. الثاني: ـ جَوَّزَه الزمخشري ـ أن تكونَ "يا" للنداء. و"اتقون" فعلُ أمرٍ كقوله: "ألا يا اسْجدوا" أي يا قومِ اتقونِ. أو ياناسُ اتقونِ. وسيأتي تحقيقُ مثلِ هذا في النمل. وهذا تخريجٌ بعيد.
وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ. وجَّوزَ الزمخشري أن تكونَ حالاً في الظالمين أي: يَظْلِمون غيرَ متقين اللهِ وعقابَه. فأُدْخلت همزةُ الإِنكارِ على الحالِ. وخطَّأه الشيخ من وجهين، أحدهما: أنه يلزَمُ منه الفصلُ بين الحالِ وعامِلها بأجنبيّ منهم، فإنه أعربَ "قومَ فرعون" عطفَ بيانٍ للقوم الظالمين. والثاني: أنه على تقديرِ تسليمِ ذلك لا يجوزُ أيَضاً؛ لأنَّ ما بعد الهمزةِ لا يعمل فيه ما قبلها. قال: "وقولك: جئت أمسرعاً" إن جعلت "مسرعاً" معمولاً لـ جئت لم يَجُزْ فإنْ أضمرْتَ عاملاً جاز.
والظاهرُ أن "ألا" للعرض.وقال الزمخشري: "إنها لا الناقيةُ دخلت عليها همزةُ الإِنكار". وقيل: هي للتنبيهِ.
* { قَالَ رَبِّ إِنِّيا أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }
قوله: {أَن يُكَذِّبُونِ}: مفعولُ :أخافُ" أي: أخاف تكذيبهم إيَّاي".
* { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ }
(11/193)
---(1/4450)
قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ}: الجمهورُ على الرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ، أخبر بذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على خبر "إنَّ". وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى والأعمش بالنصب فيهما. والأعرج بنصبِ الأولِ ورفعِ الثاني: فالنصبُ عطفٌ على صلة "أنْ" فتكونُ الأفعالُ الثلاثة: يُكَذِّبُونِ ، ويَضيقُ، ولا يَنْطَلِقُ، دالخةً في حَيِّز الخوف. قال الزمخشري: "والفرقُ بينهما ـ أي الرفع والنصب ـ أن الرفعَ فيه يُفيد أن فيه ثلاثَ عللٍ: خوفَ التكذيبِ، وضيقِ الصدر، وامتناعَ انطلاقِ اللسانِ. والنصبُ: على أنَّ خَوْفَه متعلقٌ بهذه الثلاثة. فإنْ قلتَ: في النصبِ تعليقُ الخوفِ بالأمور الثلاثةِ. وفي جُملتها نفيُ انطلاقِ اللسانِ، وحقيقةُ الخوف إنماهي غَمٌّ يَلْحَقُ الإِنسانَ لأمرٍ سيقعُ، وذلك كان واقعاً، فكيف جازَ تعليقُ الخوفِ به؟ قلت: قد عَلَّقَ الخوفَ بتكذيبهم، وبما يَحْصُل له [بسببِه] من ضيقِ الصدرِ، والحَبْسَةُ في اللسانِ زائدةٌ على ما كان به.على أن تلك الحَبْسَةَ التي كانَتْ به زالَتْ بدعوتِه. وقيل: بَقيَتْ منها بقيةٌ يسيرةٌ. فإنْ قلت: اعتذارُك هذا يَرُدُّه الرفعُ؛ لأن المعنى: إني خائفٌ ضَيِّقُ الصدرِ غيرُ منطلقِ اللسانِ. قلت: يجوز أن يكونَ هذا قبلَ الدعوةِ واستجابتِها. ويجوز أَنْ يريدَ القَدْرَ اليسيرَ الذي بقي".
قوله: {فَأَرْسِلْ} أي: فأَرْسِلْ جبريلَ أو المَلَكَ، فحذف المفعولَ به.
* { قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ }
قوله: {فَاذْهَبَا}: عطفٌ على ما دَلَّ عليه حرفُ الرَّدْعِ من الفعل. كأنه قيل: ارتدِعْ تظنُّ فاذهَبْ أنت وأخوكَ.
* { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {نَّا رَسُولُ}: إنما أَفْرد رسولاً: إمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى رسالة، والمصدرُ يُوَحَّد. ومن مجيءِ "رسول" بمعنى رسالة قوله:
(11/194)
---(1/4451)
3508ـ لقد كَذَبَ الواشُون ما فُهْتُ عندهمْ * بِسِرٍّ ولا أَرْسٍَلْتُهُمْ برسولِ
أي: برسالة، وإمَّا لأنهمام ذوا شريعةٍ واحدة فنُزِّلا منزلةَ رسول، وإمَّا لأنَّ المعنى: أنَّ كلَّ واحدٍ منا رسولٌ، وإمَّا لأنه مِنْ وَضْعِ الواحدِ موضعَ التثينةِ لتلازُمِهما، فصارا كالشيئين المتلازِمَيْن كالعينين واليدين، وحيث لم يقصِدْ هذه المعانيَ طابَقَ في قولِه: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ
}.
* { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ }
قوله: {أَنْ أَرْسِلْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً لـ"رسول" إذ قيل: بأنَّه بمعنى الرسالة، شرحا الرسالة بهذا، وبَيَّناها به. ويجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي: رسولٌ بكذا.
* { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }
قوله: {وَلِيداً}: حال مفعول "نُرَبِّكَ" وهو فَعيل بمعنى مَفْعول. والوليد: الغلامُ تسميةً بما كان عليه.
قوله: {مِنْ عُمُرِكَ} حال من "سنين". وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ الميم تخفيفاً لـ فُعُل.
* { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
وقرأ "فِعْلتَك" بالكسرِ على الهيئة: الشعبيُّ لأنها نوع من القَتْلِ وهي الوَكْزَةُ. و{أَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} يجوز أن تكونَ حالاً، وأَن تكونَ مستأنفةً.
* { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ }
قوله: {إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ}: إذن هنا حرفُ جوابٍ فقط. وقال الزمخشري: "إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً" قال: "فإنْ قلتَ: إذَنْ حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معاً، والكلامُ وقع جواباً لفرعون فيكف وقع جزاءً؟ قلت: قولُ فرعون "وفَعَلْتَ فعْلتَك" فيه معنى: أنك جازَيْتَ نعمتي بما فعلْتَ. فقال له موسى: نعم: فعلتُها مُجازياً لك تسليماً لقولِه، كأنَّ نعمتَه كانت عنده جديرةً بأَنْ تُجازَى/ بنحوِ ذلك الجزاءِ".
(11/195)
---(1/4452)
قال الشيخ: "وهذا مذهبُ سيبويهِ يعني أنها للجزاءِ والجوابِ معاً. قال: ولكنَّ شُرَّاح الكتابِ فهموا أنَّه قد تتخلَّفُ عن الجزاءِ، والجوابُ معنىً لازمٌ لها".
* { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
قوله: {لَمَّا خِفْتُكُمْ}: العامَّة على تشديدِ الميم وهي "لَمَّا: التي هي حرف وجوبٍ عند سيبويهِ أو بمعنى حين عند الفارسي. وروي عن حمزةَ بكسرِ اللام وتخفيف الميم أي: لتخَوُّفي منكم. و"ما" مصدريةٌ. وهذه القراءةُ تُشْبِهُ قراءتَه في آل عمران: "لِما آتَيْتُكم" وقد تقدَّمَتْ مستوفاةً. وقرأ عيسى "حُكُماً" بضمِّ الكاف إتباعاً.
* { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ}: فيه وجهان أحدُهما: أنه خبرٌ على سبيلِ التهكُّمِ أي: إن كانَ ثَمَّ نعمةُ فليسَتْ إلاَّ أنَّك جَعَلْتَ قومي عبيداً لك. وقيل: حرفُ الاستفهام محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: أو تلك وهذا مذهب الأخفش، وجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر:
3509ـ أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ.......... * ...........................
وقد تقدَّم هذا مشبعاً في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وفي غيرِه.
(11/196)
---(1/4453)
قوله: {أَنْ عَبَّدتَّ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان لـ"تلك"،كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ}. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه. والثالثَ: أنها بدلٌ من "نعمةٌ". الرابع: أنها بدلٌ من "ها" في "تَمُنُّها". الخامس: أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي: بأَّن عَبَّدْت. السادس: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي. السابعُ: أنها منصوبةٌ بإضمار أعني. والجملة مِنْ "تَمُنُّها" صفةٌ لنعمة. و"تُمُنُّ" يتعدَّى بالباء فقيل: هي محذوفةٌ أي: تمُنُّ بها، وقيل: ضَمَّنَ "تَمُنُّ" معنى تَذْكُرُ.
* { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}: إنما أتى بـ"ما" دون "مَنْ"؛ لأنها يُسْأل بها عن طلِ الماهيةِ كقولك: ما العنقاء؟ ولَمَّا كان جوابُ هذا السؤالِ لا يمكنُ عَدْلُ موسى عليه الصلاة والسلام إلى جوابٍ ممكنٍ، فأجاب بصفاتِه تعالى، وخَصَّ تلك الصفاتِ لأنه لا يشارِكُه تعالى فيها أحدٌ. وفيه إبطالٌ لدعواه أنه إلَهٌ. وقيل: جَهِلَ السؤالَ، فأتى بـ"ما" دون "مَنْ" وليس بشيءٍ. وقيل: إنما سأَلَ عن الصفاتِ. ذكره أبو البقاء. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ أهلَ البيانِ نَصُّوا على أنها يُطْلَبُ بها الماهياتِ وقد جاء بـ"مَنْ" في قوله: {رَّبُّكُمَا يامُوسَى
}.
* { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }
قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَآ}: عادَ ضميرُ التثنيةِ على جمعَيْن: اعتباراً بالجنسَيْن كما فَعَلَ ذلك في الظاهر في قول الشاعرِ:
3510ـ ..................... * بين رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ
* { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ }
(11/197)
---(1/4454)
قوله: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}: إنما عَدَل عن لأَسْجُنَنَّك وهو أَخَصُّ منه؛ لأنَّ فيه مبالغةً ليسَتْ في ذاك، أو معناه: لأَجْعَلَنَّك مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَه في سُجون].
* { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ }
قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ}: هذه واوُ الحالِ. وقال الحوفي: "للعطف". وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} في البقرة. وغالبُ الجملِ هنا تقدَّم إعرابُها.
* { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
قوله: {حَوْلَهُ}: حالٌ من "الملأ". ومفعولُ القولِ قولُه: {إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، وقيل: صلةٌ للملأ فإنه بمعنى الذي. وقيل: الموصولُ محذوفٌ، وهما قولان للكوفين.
* { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ }
قوله: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ}: يجوزُ أن يكون قَسَماً، وجوابُه: {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: نَغْلِبُ بسببِ عزَّتِه، يَدُلُّ عليه ما بعدَه، ولا يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ:الغالبون"، لأنَّ ما في حَيِّز "إنَّ" لا يتقدم عليها.
* { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ }
قوله: {فَأُلْقِيَ}: قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: فاعلُ الإِلقاءِ ما هو صُرِّح به؟ قلت: هو اللهُ عزَّ وجل"، ثم قال: ولك أَن لا تقدِّرَ فاعلاً؛ لأنَّ "أُلْقُوا" بمعنى خَرُّوا وسقطوا". قال الشيخ: "وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لا يُبْنَى الفعلُ للمعفولِ إلاَّ وله فاعلٌ ينوبُ المفعولُ به عنه. أما أنه لا يُقَدَّر له فاعلٌ فقولُ ذاهِبٌ عن الصوابِ".
(11/198)
---(1/4455)
قوله: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} قد تقدَّم خلافُهم فيها. وقال ابن عطية هنا: "وقرأ البزي وابن فليح عن ابن كثير بشدِّ التاءِ وفتح اللام وشدِّ القاف. ويلزم على هذه القراءةِ إذا ابتدَاَ أن يحذف همزةَ الوصلِ، وهمزةُ الوصلِ لا تدخلُ على الأفعالِ المضارعةِ كما لا تدخُل على أسماءِ الفاعلين"، قالا لشيخ: "كأنه يُخَيِّل إليه أنه لا يمكن الابتداءُ بالكلمةِ إلاَّ باحتلابِ همزةِ الوصلِ، وهذا ليس بلازم، كثيراً ما يكون الوصلُ مخالفاً للوقفِ، والوقفُ مخالفاً للوصل، ومَنْ له تَمَرُّنٌ في القراءات/، عَرَفَ ذلك". قلت: يريد قولَه: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} فإن البزيَّ يُشَدِّد التاء، إذ الأصل: تَتَلَّقَّفُ بتاءَيْن فَأَدْغم، فإذا وَقَفَ على "هي" وابتدأ تَتَلَقَّفَ فحقُّه أَنْ يَفُكَّ ولا يُدْغِمَ؛ لئلا يُبتدأَ بساكنٍ وهو غيرُ مُمْكِنٍ، وقولُ ابن عطية: "ويَلْزمُ على هذه القراءةِ" إلى آخر تضعيفٌ للقراءةِ لِما ذكره هو: مِ،ْ أنَّ همزةَ الوصلِ لا تَدْخُل على الفعلِ المضارعِ، ولا يمكن الابتداءُ بساكنٍ، فمِنْ ثَمَّ ضَعُفَتْ. وجوابُ الشيخ بمَنْعِ الملازَمَةِ حَسَنٌ، إلاَّ أنه كان ينبغي أن يُبْدِلَ لفظةَ الوقفِ بالابتداء؛ لأنه هو الذي وقع الكلامُ فيه، أعني الابتداءَ بكلمة "تَّلَقَّفُ".
* { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {أَن كُنَّآ}: قرأ العامَّة بفتح "أَنْ" أي: لأَنْ كُنَّا مبدأ القول بالإِيمان. وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسرِ الهمزةِ. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ لفهمِ المعنى أو متقدمٌ عند مَنْ يُجِيزه. والثاني: أنها المخففةُ من الثقيلة واسْتُغْني عن اللامِ الفارقةِ لإِرشادِ المعنى: إلى الثبوت دونَ النفي، كقوله:
3511ـ .................... * وإنْ مالِكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
(11/199)
---(1/4456)
وفي الحديث: "إن كانَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحِبُّ العَسَلَ" أي: ليُحبه.
* { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ }
قوله: {حَاشِرِينَ}: هو مفعولُ "أَرْسَلَ" و"حاشرين" معناه: حاشرين السحرةَ.
* { إِنَّ هَاؤُلااءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ }
قوله: {إِنَّ هَاؤُلااءِ لَشِرْذِمَةٌ}: معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي: قال إنَّ هؤلاءِ. وهذا القولُ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: أَرْسَلَهم قائلاً ذلك، ويجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً لـ أَرْسَلَ، والشِّرْذِمَةُ: الطائفةُ من الناسِ. وقيل: كلُّ بقيةٍ مِنْ شيءٍ خسيسٍ يُقال لها: شِرْذِمة، ويقال: ثوبٌ شَراذم أي: أَخْلاق، قال:
3512ـ جاء الشتاءُ وقميصي أُخْلاقْ * شراذِمٌ يضحكُ منه الخَلاَّقْ
وأنشد أبو عبيدة:
3513ـ [يُحْذَيْنَ] في شَراذِمِ النِّعالِ
* { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }
قوله: {حَاذِرُونَ}: قرأ الكوفيون وابن ذكوان "حاذِرُون" بالألفِ، والباقون "حَذِرُوْن" بدونهِا، فلقال أبو عبيدة: "هما بمعنىً واحد يُقال: رجلٌ حَذِرٌ وحَذْرٌ وحاذِرٌ بمعنىً" وقيل: بل بينهما فرقٌ. فالحَذِرُ: المُتَيَقِّظُز الحاذِرُ: الخائفُ. وقيل: الحَذِر: المخلوقُ مَجْبُولاً على الحَذَر. والحاذِرُ: ما عُرِض في ذلك، وقيل: الحَذِرُ: المُتَسَلِّح أي: له شوكةُ سلاحٍ. وأنشد سيبويهِ في إعمال حَذِر على أنه مثالُ مبالغةٍ مُحَوَّلٌ مِنْ حاذر قولَه:
3514ـ حَذِرٌ أموراً لا تَضِيْرُ وآمِنٌ * ما ليسَ مُنْجِيَه من الأَقْدارِ
وقد زعم بعضُهم أنَّ سيبويهِ لمَّا سأله: هل تحفظُ شيئاً من إعمالَ فَعِل. صنع له هذا البيتَ. فعيب على سيبويه: كيف يأخذُ الشواهدَ الموضوعة؟ وهذا غَلَطٌ؛ فإن هذا الشخصَ قد أقرَّ على نفسِه بالكذبِ فلا يُقْدَحُ قولُه في سيبويهِ. والذي ادَّعَى أنَّه صنعَ البيتَ هو اللاحقيُّ. وحَذِر يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ}، وقال العباس بن مرادس:(1/4457)
(11/200)
---
3515ـ حاذِرٌ أَنْمِيْ سِلاحي * إلى أوصالِ ذَيَّالٍ مَنيعِ
وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عمار "حاذِرُوْن" بالدال المهملة من قولهم: "عَيْنٌ حَدْرَة" أي: عظيمة، كقوله:
3516ـ وعَيْنٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ * ......................
والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادِرُ: القويُّ الممتلىء. وحُكي: رجلٌ حادِرٌ أي: ممتلِىءٌ غَيْظاً، ورجلٌ حادِرٌ أي: أحمقُ كأنه ممتلىءٌ مِنْ الحَمَقِ، قال:
3517ـ أُحِبُّ الغلامَ السَّوْءَ من أجلِ أمِّه * وأُبْغِضُهُ من بُغْضِها وهو حادِرُ
ويقال: أيضاً: رجلٌ حَذُر، بزنة "يَقُظ" مبالغةً في حاذِر، من هذا المعنى قلت: فقد صار يُقال: حَذِرَ وحَذُر وحاذر بالدال المعجمة والمهملة، والمعنى مختلف.
* { وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ }
قوله: {وَمَقَامٍ}: قرأ العامَّةُ بفتحِ الميمِ، وهو مكانُ القيامِ، وقتادة والأعرج بضمِّها. وهو مكانُ الإِقامة.
* { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ }
قوله: {كَذَلِكَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، قال الزمخشري: "يَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ على" أخْرَجْناهم مثلَ ذلك الإخراج الذي وَصَفْنا. والجرُّ على أنَّه وصفٌ لـ مَقامٍ أي: ومقامٍ كريمٍ مثلِ ذلك المَقامِ الذي كان لهم. زوالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: الأمر كذلك". قال الشيخ: "فالوجهُ الأولُ لا يَسُوْغُ؛ لأنه يَؤُوْل إلى تشبيهِ الشيءِ بنفسِه، وكذلك الوجهُ الثاني لأنَّ/ المَقامَ الذي كان لهم هو المَقامُ الكريمُ فلا يُشَبَّهُ الشيءُ بنفسِه" قلت: وليس في ذلك تشبيهُ الشيِ بنفسِه؛ لأنَّ المرادَ في الأول: أَخْرَجْناهم إخراجاً مثلَ الإِخراجِ المعروفِ المشهورِ، وكذلك الثاني.
قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا} عطفٌ على "فَأَخْرَجْناهم".
* { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ }
(11/201)
---(1/4458)
قوله: {فَأَتْبَعُوهُم}: العامَّةُ بقطع الهمزة مِنْ أَتْبَعَه أي: ألحقه نفسَه، فحذف الثاني، وقيل: يُقال: أتبعه بمعنى اتَّبعه بوصل الهمزة أي: لحقه، والحسن والحارث الذماري بوصِلها وتشديدِ التاءِ وهي بمعنى اللَّحاق.
قوله: {مُّشْرِقِينَ} منصوبٌ على الحالِ. والظاهرُ أنه من الفاعلِ. ومعنى مُشْرِقين أي: داخِلين في وقتِ الشروقِ كأصبح وأمسى أي: دخَلَ في هذين الوقتين، وقيل: داخلين نحو: المَشْرق كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ، وقيل: مُشْرقين بمعنى مُضيئين. وفي التفسير: أنَّ بني إسرائيل كانوا في نُوْر، والقِبْطَ في ظُلمة، فعلى هذا يكون "مُشْرِقين" حالاً من المفعول، وعندي أنه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاَ من الفاعل والمفعول، إذا جَعَلْنا "مُشرِقين" داخلين في وقتِ الشُّروق، أو في مكانٍ المَشْرِق؛ لأنَّ كلاً من القبيلين كان داخِلاً في ذلك الزمانِ، أو في ذلك المكان.
* { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }
قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}: قرأ العامَّةُ "تراءَى" بتحقيقِ الهمزة، وابن وثاب والأعمش من غير همزٍ. وتفسيرُه أن تكنَ الهمزةُ مخففةً بينَ بينَ، لا بالإِبدال المحض؛ لئلا تجتمعَ ثلاثُ أَلِفاتٍ: الأولى الزائدةُ بعد الراءِ، والثانيةُ المبدلةُ عن الهمزةِ، والثالثةُ لامُ الكلامة، لكن الثالثة لا تَثْبُتُ وَصْلاً. لحذفِها لالتقاء الساكنين. ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فأقول: هذا الحرف إمَّا أَنْ يُوْقَفَ عليه أو لا. فإن وُقِفَ عليه: فحمزةُ يُميل ألفَه الأخيرةَ لأنها طرفٌ منقبلةٌ عن ياء. ومن ضرورةِ إمالتِها إمالةُ فتحةِ الهمزةِ المُسَهَّلَةٍ؛ لأنه إذا وُقف على مثلِ هذه الهمزةِ سَهَّلَها على مقتضى مذهبِه، وأمال الألفَ إتْباعاً لإِمالةِ فتحةِ الهمزةِ. ومِنْ ضرورةِ إمالَتِها إمالةُ فتحةِ الراءِ قبلها. وهذا هو الإِمالةُ لإِمالةٍ.
(11/202)
---(1/4459)
وغيرُه من القُرَّاءِ لا يُميل شيئاً من ذلك، وقياسُ مذهبِ الكسائيِّ أَنْ يُميلَ الألفَ الأخيرةَ وفتحةَ الهمزةِ قبلها. وكذا نقله ابنُ الباذش عنه وعن حمزةَ.
وإنْ وُصِلَ: فإنَّ ألفَه الإخيرةَ تَذْهَبُ لالتقاءِ الساكنين، ولذهابِها تَذْهَبُ إمالةُ فتحةِ الهمزة وتبقى إمالةُ الألف الزائدة. وإمالةُ فتحةِ الراءِ قبلَها عنده اعتداداً بالألفِ المحذوفةِ. وعند ذلك يُقال: حُذِفَ السببُ وبقي المُسَبَّبُ؛ لأن إمالةَ الألفِ الأولى إنما كان لإمالةِ الألفِ الأخيرةِ كما تقدَّم تقريرُه، وقد ذَهَبَتِ الأخيرةُ، فكان ينبغي أَنْ لا تُمال الأولى لذهابِ المُقْتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوفَ، وجعلَه في قوةِ المنطوقِ، ولذلك نحا عليه أبو حاتمٍ فقال: "وقراءةُ هذا الحرفِ بالإِمالةِ مُحالٌ: قلت: وقد تقدَّم في الأنعام عند "رأى القمر" و"رأى الشمس" ما يُشْبه هذا العملَ فعليك باعتبارِه ثَمَّة.
قوله: {لَمُدْرَكُونَ} العامَّةُ على سكونِ الدالِ اسمَ مفعولٍ مِنْ أَدْرك أي: لمُلْحَقُون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدالِ مشدَّدةً وكسرِ الراء. قال الزمخشري: "والمعنى: متتابِعُون في الهَلاك على أيديهم. ومنه بيت الحماسة:
3518ـ أَبَعْدَ بَني أمِّي الذين تتابَعُوا * أُرَجِّيْ الحياةَ أم مِنْ الموتِ أجْزَعُ
يعني: أن ادَّرَك على افْتَعَل لازمَ بمعنى فَنِي واضْمَحَلَّ. يقال: ادَّرَكَ الشيءُ يَدَّرِكُ فهو مُدَّرِك أي: فَنِيَ تتابعاً، ولذلك كُسِرَت الراءُ. وممَّنْ نَصَّ على كسرِها أبو الفضلِ الرازي قال: "وقد يكون "ادَّرَكَ" على افْتَعَل بمعنى أَفْعَلَ متعدِّياً، ولو كانَتِ القراءةُ مِنْ هذا لَوَجَبَ فتحُ الراءِ، ولم يَبْلُغْني عنهما ـ يغني عن الأعرجِ ـ وعُبيد إلاَّ الكسرُ".
* { فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }
(11/203)
---(1/4460)
قوله: {فَانفَلَقَ}: قبلَه جملةٌ محذوفةٌ أي: فضربَ فانفلقَ. وزعم ابنُ عُصْفور أنَّ المحذوفَ إنما هو ضَرَبَ وفاءُ انفلقَ، وأن الفاءَ الموجودَة هي فاء "فَضَرَبَ"، بأبقى من كلٍ ما يُدْلُّ على المحذوفِ. أبقى الفاءَ مِنْ "فضرب" لِتَدُلَّ على "ضَرَبَ" وأبقى "انفلق" لِتَدُلَّ على الفاء المتصلةٍ به، وهذا كلامٌ متهافتٌ.
واختلفَ القُراء في ترقيقِ راءِ "فِرْق" عن ورشٍ لأجلِ القاف. وقُرِىء "فِلْق" بلامٍ بَدَلِ الراءِ لموافقةِ "فانفلقَ". والطَّوْدُ: الجبلُ العظيمُ/ المتطاولُ في السماءِ.
* { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ }
قوله: {وَأَزْلَفْنَا}: أي: قَرَّبْنا مِنَ النجاةِ. و"ثَمَّ" ظرفُ مكانٍ بعيدٍ. و"الآخرين" هم موسى وأصحابُه، وقرأ الحسن وأبو حيوة "وزَلَفْنا" ثلاثياً، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس وعبدالله بن الحارث بالقاف أي: أَزْلَلْنا. والمرادُ بالآخَرين في هذه القراءة فرعونُ وقومُه.
* { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ }
قوله: {إِذْ قَالَ} : العاملُ في "إذ" "نَبَأَ" أو اتْلُ. وقاله الحوفي. وهذا لا يتأتَّى إلاَّ على كونِ "إذ" مفعولاً به. وقيل: "إذ" بدلٌ مِنْ "نَبَأ" بدلُ اشتمالٍ. وهو يَؤُوْلُ إلى أنَّ العامَ فيه "اتْلُ" بالتأويلَ المذكورِ.
قوله: {وَقَوْمِهِ} لأنَّه أقربُ مذكورٍ، أي: قال لأبيه وقومِ أبيه، ويؤيِّده {إِنِّيا أَرَاكَ وَقَوْمَكَ}، حيث أضافَ القومَ إليه.
* { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ }
قوله: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً}: أَتَوْا في الجوابِ بالتصريحِ بالفعل ليَعْطِفُوا عليه قولَهم "فَنَظَلُّ" افتخاراً بذلك وابتهاجاً به، وإلاَّ فكان قولُهم "أصناماً" كافياً، كقوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} {قَالُواْ خَيْراً
}.
* { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ }
(11/204)
---(1/4461)
قوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ}: لا بُدَّ مِنْ محذوفٍ أي: يسمعون دعاءَكم، أو يَسْمَعُوْنكم تَدْعُون. فعلى التقديرِ الأولِ: هي متعديةٌ لواحدٍ اتفاقاً، وعلى الثاني: هي متعديةٌ لاثنين، قامَتِ الجملةُ المقدرَّةُ مَقام الثاني. وهو قولُ الفارِسيِّ. وعند غيرِه الجملةُ المقدَّرَةُ حالٌ. وقد تقدَّمَ تحقيقُ القولَيْن. وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضمِّ الياءِ وكسرِ الميمِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ. أي: يُسْمِعُونَكم الجوابَ.
قوله: {إِذْ تَدْعُونَ} منصوبٌ بما قبلَه، فما قبله وما بعده ما ضيان معنىً، وإنْ كانا مستقبلَيْنِ لفظاً، لعملِ الأولِ في "إذ"، ولعَمَلِ "إذ" في الثاني. وقال بعضُهم: "إذ" هنا بمعنى إذا. وقال الزمخشري: "إنه على حكاية الحالِ الماضيةِ، ومعناه: اسْتَحْضِروا الأحوالَ [الماضيةَ] التي كنتم تدَّعُونها فيها، [وقولوا]: هل سَمِعُكم أو أَسْمَعُوا، وهو أبلغ في التَّبْكِيْتِ". و قد تقدَّم أنه قُرِىءَ بإدغامِ ذال "إذا" وإظهارِها في التاء. وقال ابنُ عطيةَ: ويجوز فيه قياسُ "مُدَّكِر" ونحوِه. ولم يَقْرَأْ به أحدٌ. والقياسُ أن يكون اللفظُ به "إدَّعْون" والذي مَنَعَ من هذه اللفظِ اتصالُ الدالِ الأصلية في الفعل، فكَثُرَتْ المتماثلاتُ" قلت: يَعْني فيكون اللفظُ بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ ثم أبدالٍ ساكنةٍ مهملةٍ أيضاً".
(11/205)
---(1/4462)
قال الشيخ: "وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ هذا الإِبدالَ إنما هو في تاءِ الافتعالِ بعد الدالِ والذالِ والزايِ نحو: ادَّهَنَ وادَّكَرَ و ازْدَجَر، وبعد جيمٍ شذوذاً نحو: "اجْدمَعُوا" في "اجتمعوا"، أو في تاء الضميرِ بعد الدالِ والزايِ نحو "فُزْدُ" في "فُزْتُ" و"جَلَدَّ" في "جَلَدْتُ" أو تاء "تَوْلَج" قالوا فيها: "دَوْلج"، وتاء المضارعة ليس شيئاً مِمَّا ذَكر. وقله: "والذي مَنَعَ إلى آخرِه" يَقْتضي جوازَه لو لم يُوْجَدْ ما ذُكِر، فعلى مقتضى قولِه يجوز أَنْ تقولَ في إذْ تَخْرج: ادَّخْرُج، ولا يقول ذلك أحدٌ، بل يقولون: اتَّخْرُج، فيُدغمون الذالَ في التاءِ".
* { قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }
قوله: {كَذَلِكَ}: منصوبٌ بـ"يَفْعَلون" أي: يَفْعَلون مثللاَ فِعْلِنَا. ويَفْعَلُون في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً لـ"وَجَدْنا".
* { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيا إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {عَدُوٌّ}: اللغةُ العاليةُ إفرادُ "عَدُوّ" وتذكيرُه. قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ}. وإنما فُعِل به ذلك تَشْبيهاً بالمصادرِ نحو: الوَلُوع والقَبُول. وقد يُقال: أعداءٌ وعَدُوَّة. وقوله: {عَدُوٌّ لِيا} على أصلِه مِنْ غيرِ تقديرِ مضافٍ ولا قلبٍ. وقيل: الأصنامُ لا تُعادِي لأنها جَمادٌ، فالتقديرُ: فإنَّ عُبَّادَهم عدوُّ لي. وقيل: بل في الكلامِ قَلْبٌ، تقديرُه: فإنِّي عدوٌّ لهم, وهذان مرجوحان لاستقامةِ الكلامِ بدونِهما.
قوله: {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ ربُّ العالمين ليس بعدُوّ لي. وقال الجرجاني: "فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي: أفَرَأَيْتُمْ ما كنتم تَعْبُدُوْنَ أنتم وآباؤكم الأَقدمون، إلاَّ ربَّ العالمين فإنهم عدوٌّ لي، و"إلاَّ" بمعنى/ "دون" و"سوى". والثاني: أنه متصلٌ. وهو قول الزجاج؛ لأنهم كانوا يَعْبدون اللهَ تعالى والأصنامَ.
(11/206)
---(1/4463)
* { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }
قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي}: يجوز فيه أوجهٌ: النصبُ على النعتِ لـ"رَبِّ العالمَين" أو البدلِ، أو عطفِ البيانِ، أو على إضمارِ أعني. والرفعُ على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ أي: هو الذي خلقني أو على الابتداءِ.
و[قوله]: {فَهُوَ يَهْدِينِ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ رفعٍ خبراً له. قال الحوفي: "ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تَضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط". وهذا مردودٌ؛ لأنَّ الموصولَ مُعَيَّنٌ ليس عامَّاً، ولأنَّ الصلةَ لا يمكنُ فيها التجدُّدُ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ. وتابع أبو البقاء الحوفيَّ ولكنه لم يتعرَّضْ للفاء. فإنْ عَنَى ما عناه الحوفيُّ فقد تقدَّمَ ما فيه. وإن لم يَعْنِهِ فيكونُ تابعاً للأخفش في تجويزِه زيادةَ الفاءِ في الخبر مطلقاً نحو: "زيدٌ فاضربه"، وقد تقدَّم تحريرُه.
* { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ }
قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي}: يجوز أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ. وكذلك ما بعده. ويجوزُ أَنْ يكونوا أوصافاً للذي خَلَقني. ودخولُ الواوِ جائزٌ. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ البقرةِ كقوله:
3519ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ * وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابنُ أبي إسحاقَ ـ وتُرْوى عن عاصم أيضاً ـ ياءَ المتكلمِ في "يَسْقِينِ" و"يَشْفِينْ" و"يُحْيِيْنِ". والعامَّةُ "خَطِيئَتي" بالإفرادِ. والحسن "خطاياي" جمعَ تسكيرٍ.
* { وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ }
قوله: {مِن وَرَثَةِ}: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً أ] مستقِرَّاً أو كائناً مِنْ وَرَثَةِ، وإمَّا أَنْ يكونَ صفةً لمحذوفٍ هو المفعولُ الثاني، أي: وارِثاً مِنْ وَرَثَةِ.
* { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ }
(11/207)
---(1/4464)
قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ}: بدلٌ مِنْ "يوم" قبلَه. وجعل بانُ عطيةَ هذا من كلامِ اللهِ تعالى إلى آخر الآياتِ مع إعرابِه "يومَ لا ينفعُ" بدلاَ مِنْ "يوم يُبْعَثون". ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ العامِلَ في البدلِ هو العامِلُ في المبدلِ منه، أو آخرُ مثلُه مقدَّرٌ. وعلى كِلا هذين القولَين لا يَصِحُّ لاختلافِ المتكلِّمين.
* { إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منقطِعٌ أي: لكنْ مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك. وقال الزمخشري: "ولا بُدَّ لك مع ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ، وليست من جنسِ المالِ والبنينَ، حتى يَؤول المعنى إلى: أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ، وإنما ينفعُ سَلامةُ القلبِ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنى".
قال الشيخ: "ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر". قلت: إنما قَدَّرَ المضافَ لُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ، ولهذا مَنَعوا: "صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ الإِبِلَ" إلاَّ بتأويلٍ.
الثاني: أنه مفعولٌ به لقوله: "لا يَنْفَعُ" أي: لا ينفعُ المالُ والبنونَ إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ، وبنوه الصلحاءُ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم. الثالث: أنه بدلٌ مِن المفعولِ المحذوفِ، أو مستثنى منه، إذ التقديرُ: لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه. والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله:
3520ـ ....................... * ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سيفٍ ومِئْزرا
(11/208)
---(1/4465)
أي: ولم يَنْجُ بشيءٍ. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ "يَنْفَعُ" فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: "وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ: إلاَّ مالُ مَنْ، أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة".
قلت: وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ: وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من فاعل "ينفع" فلنا فيه طريقان، أحدهما: طريقةُ التغليب أي: غَلَّبْنا البنين على المالِ، فاستثنى من البنين، فكأنه قيل: لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه، وغيرَه بالشفاعةِ.
والطريقة الثانية: أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل "مَنْ" أي: إلاَّ مالُ مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً.
ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ، بوجهين، أحدُهما: إلاَّ حالَ مَنْ أتى اللهِ بقلبٍ سليمٍ، وهو مِنْ قوله:
3521ـ ...................... * تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
"وما ثوابُه إلاَّ السيفُ" ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبَنُوه سلامةُ قلبِه. تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثباتَ سلامةِ قلبِه بدلاً عن ذلك. والثاني ق ال: "وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنى وجَعَلْتَ المالَ والبنين في معنى الغِنَى، كأنه قيل: يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ أتى؛ لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه وبنيه.".
* { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ }
قوله: {وَبُرِّزَتِ}: قرأ مالك بن دينام "وَبَرَزَتْ" بفتح الباء والراء خفيفةً، مبنياً للفاعل، مسنداً للجحيم فلذلك رُفِعَ.
* { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ }
(11/209)
---(1/4466)
قوله: {فَكُبْكِبُواْ}: أي: أُلْقُوا، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض. قال الزمخشري:"الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ. جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى". وقال ابن عطية نحوً منه، قال: "وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وصَرصَرَ" وهذا هو مذهب الزجاج. وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ، أحدها: هذا. والثاني: ـ وهو مذهبُ البصريين ـ أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ . والثالث ـ وهو قول الكوفيين ـ أنَّ ا لثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني، فأصل كَبْكَبَ: كَبَّبَ بثلاثِ باءات. ومثلُه: لَمْلَمَ وكَفْكَفَ. هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث. فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو: سِمسِم وخِمْخِم.
وواو "كُبْكِبوا" قيل: للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ. وقيل: لعابديها.
* { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ }
قوله: {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}: جملةٌ حاليةٌ معترضةٌ بين القولِ ومعمولِه، ومعمولُه الجملةُ القسميةُ.
* { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله: {إِن كُنَّا لَفِي} مذهبُ البَصْريين: أنَّ "إنْ" مخففة واللامَ فارقةٌ، ومذهبُ الكوفيين: أنَّ "إنْ" نافية، بمعنى "إلاَّ".
* { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ}: "إذ" منصوبٌ: إمَّات بـ"مُبين"، وإمَّا بمحذوفٍ أي: ضَلَلْنا في وقتِ تَسْويتنا لكم بالله في العبادةِ. ويجوز على ضَعْفٍ أَنْ يكونَ معمولاً لـ"ضلال"، والمعنى عليه. إلاَّ أنَّ ضعفَه صناعيٌّ: وهو أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يَعْمَلُ بعد وصفِه.
* { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ }
(11/210)
---(1/4467)
قوله: {حَمِيمٍ}: الحميمُ: القريبُ مِنْ قولِهم: "حامَّةُ فلانٍ" أي: خاصَّتُه. وقال الزمخشري: "الحميمُ مِنَ الاحتمامِ، وهو من الاهتمام، أو من الحامَّةِ وهي الخاصَّةُ، وهو الصديقُ الخالص" والنفي هنا يَحْتمل نفيَ الصديقِ من أصلِه، أو نفيَ صفتِه فقط فهو من باب:
3522ـ على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه * .........................
والصديقُ: يحتمل أَنْ يكونَ مفرداَ، وأَنْ يكونَ مُسْتَعملاً للجمع، كما يُسْتعمل العدوُّ له يقال: هم صديق وهم عدو.
* { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {فَلَوْ أَنَّ}: يجوزُ أَنْ تكونَ المُشْرَبَةَ معنى التمني، فلا جوابَ لها على المشهورِ. ويكون نصبُ "فنكونَ" جواباً للتمني الذي أَفْهَمَتْه "لو" ويجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وجوابُها محذوفٌ أي: لَوَجَدْنا شُفَعاءَ وأصدقاءَ أو لَعَمِلْنا صالحاً. وعلى هذا فنَصْبُ الفعلِ بـ "أَنْ" مضمرةً عطفاً على "كَرَّةً" أي: لو أنَّ لَنا كَرَّةً فكوناً، كقولها:
3523ـ لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني * ..........................
* { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ }
قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ}: إنَّما أَنَّثَ فعلَ القومِ؛ لأنه مؤنثُ بدليلِ تصغيره على قُوَيْمَة. وقيل: لأنَّه بمعنى "أُمَّة" ولمَّا كانَتْ آحادُه عقلاءَ ذكوراً وإناثاً عاد الضميرُ عليه باعتبارِ تغليبِ الذكورِ فقيل: "لهم أخوهم". وحَذَفَ مفعولَ "تتَّقون" أي: ألا تتَّقون عقابَ الله.
* { قَالُوااْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ }
(11/211)
---(1/4468)
قوله: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}: جملةٌ حاليةٌ مِنْ كاف "لك". وقرأ عبدالله وابن عباس وأبو حيوة "وأَتْباعُك" مرفوعاً، جمعَ تابع كصاحِب وأَصْحاب، أو تَبِيْع كشَريف وأشراف، أو تَتَبع كـ بَرَم وأَبْرام. وفي رفعه وجهان، أحدهما: أنَّه مبتدأٌ، "والأَرْذَلُون" خبرُه. والجملةُ حاليةٌ أيضاً., والثاني: أنه عطفٌ على الضميرِ المرفوعِ في "نُؤْمِنُ" وحَسَّن ذلك الفصلُ بالجارِّ. و"الأرذلون" صفتُه.
وقرأ اليماني: "وأتباعِك" بالجرِّ عطفاً على الكاف في "لك". وهو ضعيفٌ أو ممنوعٌ عند البصريين. وعلى هذا فيرتفع "الأَرْذَلُون" على خبر ابتداء مضمير أي: هم الأرذلون. وقد تقدَّم مادة "الأَرْذَل" في هود.
* { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله: {وَمَا عِلْمِي}: يجوز في "ما" وجهان، أحدهما: ـ وهو الظاهر ـ أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء. و"علمي" خبرها. والباء متعلقة به. والثاني: أنها نافيةٌ. الباءُ متعلقةٌ بـ"عِلْمي"أيضاً. قال الحوفي، ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلامُ به جملةً.
* { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ }
قوله: {لَوْ تَشْعُرُونَ}: جوابُها محذوفٌ، ومعفولُ "تَشْعُرون" أيضاً.
وقرأ الأعْراج وأبو زرعة "لو يَشْعُرون" بياء الغَيْبة، وهو التفاتٌ. ولا يَحْسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.
* { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {فَتْحاً}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به، بمعنى المفتوحِ/، وأَنْ يكونَ مصدراً مؤكَّداً.
قوله: {وَنَجِّنِي} المُنَجَّى منه محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: ممَّا يَحُلُّ بقومي. و{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بيانٌ لقولِه {مَن مَّعِي}.
* { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }
(11/212)
---(1/4469)
قوله: {الْمَشْحُونِ}: أي المَمْلوءُ المُؤْقَرُ. يقال: شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورِجالاً., والشَّحْناء: العَداوةُ؛ لأنها تملأَ الصدورَ إحَناً. والفُلْكُ هنا مفردٌ بدليلِ وَصْفِه بالمفردِ. وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة.
* { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }
قوله: {تَعْبَثُونَ}: جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ "تَبْنُون". والرِّيع بكسر الراء وفتحها: جمع رَِيْعة. وهو في اللغةِ المكانُ المرتفعُ. قال ذو الرمة:
3524ـ طِراقُ الخَوافي مُشْرِفٌ فوقَ رِيْعَةٍ * نَدَى ليلِه في رِيْشه يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة: "هو الطريقُ" وأنشد للمسيَّب بن عَلَس يصفُ ظُعُناً:
3525ـ في الآلِ يَخْفِضُها ويَرْفَعُهما * رِيْعٌ يَلُوْحُ كأنه سَحْلُ
واختلفَ المفسِّرون في العبارة عنه على أقوالٍ كثيرةٍ. والرَّيْعُ بالفتح: ما يَحْصُل مِنَ الخَراج.
* { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ }
قوله: {تَخْلُدُونَ}: العامَّةُ على تخفيفِه مبنياً للفاعلِ. وقتادَةُ بالتشديدِ مبنياً للمفعول. ومنه قولُ امرِىء القيس:
3526ـ وهَلْ يَنْعضمَنْ إلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ * قليلٌ الهُمومِ ما يَبِيْتُ بأَوْجالِ
و"لَعَلَّ" هنا على بابِها. وقيل: للتعليل. ويؤيِّده قراءةُ عبدِ الله "كي تَخْلُدون" فقيل: للاستفهام، قال زيد بن علي. وبه قال الكوفيون. وقيل: معناها التشبيهُ أي: كأنكم تَخْلُدُون. ويؤيِّدُه ما في حرفِ أُبَيّ "كأنكم تَخْلُدون". وقُرِىء "كأنَّكم خالِدُون". وكم مَنْ نَصَّ عليها أنَّها تكونُ للتشبيهِ.
والمصانِعُ: جمعُ مَصْنَعَة، وهي بِرَكُ الماء. وقيل: القصور. وقيل: بُروجُ الحَمام.
* { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }
قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ}: أي: وإذا أَرَدْتُمْ. وإنما احْتَجْنا إلى تقديرِ الإِرادة لئلا يَتَّحد الشرطُ والجزاءُ. و"جَبَّارِين" حالٌ.
(11/213)
---(1/4470)
* { وَاتَّقُواْ الَّذِيا أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ }
* {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ }
قوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الجملةَ الثانيةَ بيانٌ للأولى، وتفسيرٌ لها. والثاني: أَنَّ "بأَنْعامٍ" بدلٌ مِنْ قولِه: {بِمَا تَعْلَمُونَ} باعادةِ العاملِ كقولِه {اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} قال الشيخ: "والأكثرون لا يَجْعَلُون هذا بدلاً، وإنما يَجْعلونه تكريراً وإما يَجْعلون بدلاً بإعادةِ العاملِ إذا كانَ حرفَ جرّ مِنْ غيرِ إعادةِ متعلِّقِه نحو: "مَرَرْتُ بزيدٍ بأخيكَ" ولا يقولون: "مَرَرْت بزيدٍ، مررتُ بأخيك" على البدل".
* { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ }
قوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ}: معادِلٌ لقولِه: {أَوَعَظْتَ}، وإنما أتى المعادِلِ كذا، دونَ قولِه: "أم لم تَعِظْ" لتواخي القوافي، وأَبْدَى له الزمخشريُّ معنىً فقال: وبينهما فرقٌ، لأنَّ المعنى: سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ هذا الفعلَ ـ الذي هو الوعظُ ـ أم لم تَكُنْ أصلاً مِنْ أهلِه ومباشرَتِه، فهو أبلغُ في قِلَّةِ اعْتِدادِهم بوَعْظِه. مِنْ قولِك: أَمْ لم تَعِظْ".
وقرأ العامَّةُ "أَوَعَظْتَ" باظهارِ الظاءِ قبل التاءِ، ورُوِيَ عن أبي عموروٍ والكسائيِّ وعاصمٍ، وبها قرأ الأعمش وابن محيصن بالإِدْغامِ، وهي ضعيفةٌ؛ لأنَّ الظاءَ أقوى ولا يُدْغَمُ الأقوى في الأضعفِ، على أنَّه قد جاء من هذا في القرآنِ العزيزِ أشياءُ متواترةٌ يجبُ قَبولُها نحو: {زُحْزِحَ عَنِ} و{لَئِن بَسَطتَ
}.
* { إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ }
(11/214)
---(1/4471)
قوله: {إِلاَّ خُلُقُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ. والباقون بضمَّتين, فقيل: معناهما الاختلاقُ وهو الكَذِبُ. وكذا قرأ بانُ مسعودٍ. وقيلأ: ما نحن فيه من البِنْية حياةٌ وموتٌ هو خُلُقُ الأوَّلينَ وعادَتُهُم. وروى الأصمعيُّ عن نافعٍ، وبها قرأ أبو قلابة، بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللام وهي تخفيفُ المضمومَةِ.
* { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }
قوله: {فِي جَنَّاتٍ}: بدلٌ مِنْ "فيما ههنا" بإعادةِ العاملِ؛ فَصَّل بعدما أَجْمَلَ كما في الآيةِ قبلَها. و"ما" موصولةٌ، وظرفُ المكان صلتُها.
* { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ }
قوله: {وَنَخْلٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ ذِكْرِ الخاص بعد العامِّ؛ لأنَّ الجناتِ تشمَل النخلَ، ويجوزَ أَنْ يكونَ تكريراً للشيءِ الواحدِ بلفظٍ آخَرَ، فإنَّهم يُطْلِقُوْن الجنةَ ولا يريدونَ إلاَّ النخلَ. قال زهير:
3527ـ كأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ * من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا
/ وسُحُقاً: جمعُ "سَحُوْق" ولا يُوْصَفُ به إلاَّ النخلُ والطَّلْعُ الكُفُرَّى، وهو عُنقودُ التَّمْرِ قبل خروجهِ من لكُمِّ., قال الزمخشري: "الطَّلْعَةُ: هي التي تَطْلُع من النخلةِ كنَصْلِ السيفِ، في جَوْفه شماريخُ القِنْو. والقِنْو هو اسمٌ للخارج من الجِذْعِ كما هو بُعْرَجُوْنِه". والهَضِيْمُ: اللطيفُ، مِنْ قولهم: "كَشْحٌ هضميٌ". وقيل المتراكِبُ.
* { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ }
قوله: {وَتَنْحِتُونَ} العامَّةُ على الخطابِ وكسرِ الحاءِ. والحسنُ وعيسى وأبو حيوة بفتحها، وعن الحسن أيضاً "تَنْحاتون" بألفٍ للإِشباعِ، وعنه وعن أبي حيوة "يَنْحِتُون" بالياء مِنْ تحتُ. وقد تَقَدَّم ذلك كلُّه في الأعراف.
(11/215)
---(1/4472)
قوله: {فَارِهِينَ} قرأ الكوفيون وابنُ عامر "فارِهيْنَ" بالألف كما قرؤوا "حاذِرون" بها والباقونَ "فَرِهين" بدون ألف، كما قرؤوا "حَذِرُون" بدونِها. والفَراهَةُ: النشاطُ والقوةُ. وقيل: الحذِْقُ. يقال: دابَّة فارِهٌ، ولا يقال: فارِهَة، وقد فَرُه يَفْرُه فَراهة.
* { قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ }
قوله: {لَّهَا شِرْبٌ}: صفةٌ لـ"ناقَةٌ". ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه الجارَّ والمجرورَ و"شِرْبٌ" فاعلٌ به لاعتمادِه. وقرأ ابن أبي عبلة "شُرْبٌ" بالضمِّ فيهما. والشِّرْبُ: ـ بالكسرِ ـ النصيبُ كالسِّقْيِ، وبالضمِّ المصدرُ.
* { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ }
قوله: {لِعَمَلِكُمْ}: كقولِه: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وقد تقدَّم. وقيل: "من القالِيْن" صفةٌ لخبرٍ محذوفٍ. وهذا الجارُّ متعلِّقٌ به. أي: إنِّي قالٍ لِعلمكم من القالِيْنَ.
* { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ }
قوله: {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مَطَرهم. والقالي: المُبْغِضُ. يقال: قَلاه يَقْليه قِلَىً ويَقْلاه، وهي شاذَّة. قال:
3528ـ وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أي: أنتَ مُذْنِبٌ * وتَقْلِينني لكنَّ إياكِ لا أَقْلي
وقال آخر:
3529ـ واللهِ ما فارَقْتُكم عَنْ قِلَىً لكمْ * ولكنَّ ما يُقْضَى فسوفَ يكونَ
واسمُ المفعولِ منه: مَقْلِيّ. والأصلُ مَقْلُوْي. فأُدْغِمَ كـ مَرْمِيّ قال:
3530ـ ..................... * وَلسْتُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ
أي: لا يَبْغُضُني غيري ولا أَبْغَضُه. وغَلِط بعضُهم فَجَعَلَ ذلك مِنْ قولهم قلا اللحمَ أي: شواه، فكأنه: قلا كَبِدَه بالبُعْض. ووَجْهُ الغَلَظِ: أنَّ هذا من ذواتِ الياءِ، وذَلك من ذواتِ الواوِ. ويُقال: قلا اللحمَ يَقْلُوه قَلْواً فهو قالٍ كغازٍ، ومَقْلُوٌّ.
(11/216)(1/4473)
---
* { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ }
قوله: {الأَيْكَةِ}: قرأ نافع وابنُ كثير وابن عامر "لَيْكَةَ" بلامٍ واحدةٍ وفتح التاء. جعلوهن اسماً غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافاً إليه "أصحاب" هنا، وفي ص خاصة. والباقون "الأَيْكَةِ" مُعَرَّفاً بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي ق.
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى. وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها، وسأذكر لك من ذلك طرفاً. فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد: "أَنَّ لَيْكَةَ اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله. قال أبو عبيد: " لا أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ، وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل: لَيْكة هي اسمُ القرية التي كانوا فيها، والأَيْكَةُ: البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهاً بما بين بَكَّة ومَكَّة، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال: إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ مفتَرِقاتٍ، فوجَدْتُ التي في الحجز والتي في ق "الأَيْكَة"، ووَجَدْتُ التي في الشعراءِ والتي في ص "لَيْكَة"، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها. وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ". انتهى ماقاله أبو عبيد. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه: "هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ؛ فإن اللامَ موجودةٌ في "لَيْكة" وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ". قلت: بل هي سديدةٌ. فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامِ في الجملة.
(11/217)
---(1/4474)
وقد تُعُقِّبَ قولَ ِأبي عبيدٍ، وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر: "أَجْمع القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ/ فيه إلى ما تُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحداً. فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ "ليكَةَ" اسمُ القرية، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعاً من المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه. ولا نَعْلم خلافاً بين أهلِ اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ. فامَّا احتجاجُ بعضِ من احتجَّ لقراءة مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ "لَيْكة" فلا حجَّةَ فيه. والقولُ فيه: أنَّ أصلَه: الأَيْكَة، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ؛ لأنَّ اللامَ قد تحرَّكَتْ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ، كما تقول: مررتُ بالأَحْمَرِ على تحقيقِ الهمزةِ، ثم تُخَفِّفُها فتقول: بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في الخَطِّ على ما كتبتَه أولاً، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ الخفضُ، فلذلك لا يجوزُ في "الأَيْكَةِ" إلاَّ الخفضُ. قال سيبويه: "واعلَمْ أنَّ كلَّ مال م يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو أَضَفْتَه انصرَفَ"، ولا نعلمُ أحداً خالَف سيوبيه في هذا".
(11/218)
---(1/4475)
وقال المبردُ في كتاب "الخط" "كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ "كَذَّبَ أصحابُ لَيْكَة" بغير ألفٍ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ فَتَوَهَّم أنَّ "لَيْكَةَ" اسمُ شيءٍ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ: أصحابُ ليكةَ". وقال الفراء: "نرى ـ والله أعلم ـ أنهاكُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام". قال مكي: تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على أبي عبيد فاختار "الأَيْكَةِ" بالأفلِ والهمزةِ والخفضِ قال: " إنما كُتِبَتْ بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ". قال: وقد أجمعَ الناسُ على ذلك، يعني في الحجر وق، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه، فما أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه".
وقال أبو إسحاق: "القراءة بجَرِّ قوله: "ليكةِ" وأنت تريد "الأيكة" أجودُ مِنْ أَنْ تجعلَها "لَيْكَةَ"، وتفتَحها؛ لأنَّها لا تنصرفُ؛ لأنَّ لَيْكَة لا تُعَرَّفُ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ، وأَيْك للجمعِ مثل: أَجَمَة وأَجَم. والأَيْكُ: الشجرُ الملتفُ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ، وإسقاطُ الهمزة، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قُرِيىء به".
وقال الفارسيُّ: "قولُ مَنْ قال "ليكةَ" ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ، لأنه فَتَحَ معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ. وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال: "مَرَرْتُ بِلَحْمَرَ" ففتحَ الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ، وإنما كُتِبَتْ "لَيْكَةَ" على تخفيفِ الهمزِ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال "مررتُ بلَحْمَرَ". ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش".
(11/219)
---(1/4476)
قلت: يعني أنَّ وَرْشاً نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ، ومن جملةِ ذلك: ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ "الأيكة" فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ الياءِ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضاً.
وقال الزمخشري: "قُرِىءَ "أصحابُ الأَيْكة" بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على الإِضافةِ، وهو الوجهُ. ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة اسمُ بلد، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطٌّ المصحفِ، وإنما كُتبتع على حكمِ لفظِ اللافظ كما يكتب أَصحاب [النحو]، لأن ... على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ، والقصة واحدةٌ. على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ. ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال: "وهذا كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ" ولذلك لم يَذْكرها صاحب "الصحاح" مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد، ولو كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها.
وقال الزجاج أيضاً: "أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ: أن اسمَ المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة" قال أبو علي: "لو صَحَّ هذا فلِمَ/ أجمعَ القرَّاءُ على الهمزِ في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} في الحجر. والأَيْكة التي ذُكِرَتْ ههنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك. وقد قال ابن عباس: "الأَيْكَةُ: الغَيْضَةُ" ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ".
(11/220)
---(1/4477)
قلت: وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إما أَخَذوا هذه القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ القراءِ وأعلاهُمْ إسناداً، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل إمامِ المدينةِ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه؟ ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ بالظنِّي.
وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك، عَبَّر عنها تارةً بالقريةِ خاصةً، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرىء كلِّها، الشاملِ هو لها. وأمَّا تفسيرُ ابنِ عباس فلا ينافي ذلك، لأنَّه عَبَّر عنها كَثُر فيها. ومَنْ رأى ما ذكرْتُه من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ "حرز الأماني" أطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم، وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم. وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ: "وهذا لا يَسْتقيمُ؛ إذ ليس في الكلامِ "لَيْكة" حتى يُجْعَلَ عَلَماً. فإن ادُّعِي قَلْبُ الهمزة لاماً فهو في غايةِ البُعْدِ". قلت:
3531ـ وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ * لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
"أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقُرى" "مَنْ أنت وزيداً".
* { وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ }
قوله: {الْجِبِلَّةَ} العامَّةُ على كسرِ الجيمِ والباءِ وشَدِّ اللامِ. وأبو حُصَيْن والأعمشُ والحسن بضمِّهما وشدِّ اللام. والسُّلمي بفتحِ الجيمِ أو كسرها مع سكون الباء. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ ومعناه: الخَلْقُ المتَّحِدُ الغليظُ مأخوذٌ من الجَبَل. قال الشاعر:
3532ـ والمَوْتُ أعظمُ حادِثٍ * فيما يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
(11/221)
---(1/4478)
وقال المهدَوِيُّ: "الجِبْلُ والجَبْلُ والجُبْلُ لغاتٌ، وهو الجمعُ الكثيرُ العددِ من الناس. وقيل: الجِبِلَّةُ مِنْ قولِهم: جُبِل على كذا أي: خُلِق وطُبِع عليه. وسيأتي في يس إنْ شاء الله تعالى تمامُ الكلامِ على ذلك عند قولهِ: {مِنْكُمْ جِبِلاًّ} واختلافُ القراء فيه.
* { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ }
قوله: {وَمَآ أَنتَ}: جاء في قصةِ هود "ما أنت" بغير واو هنا "وما أنت" بالواو، فقال الزمخشري: "إذا دَخَلَتْ الواوُ فقد قُصِدَ مَعْنيان كلاهما مخالِفٌ للرسالةِ عندهم: التسخيرُ والبَشَريَّةُ، وأنَّ الرسولَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ مُسَخَّراً ولا بَشَراً. وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلم يُقْصَدْ إلاَّ معنىً واحدٌ وهو كونُه مُسَخَّرا، ثم قَرَّر بكونِه بشراً". وتقدَّم الخلافُ في "كِسَفاً" واشتقاقُه في الإِسراء.
* { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ}: الهاءُ تعودُ على القرآنِ، وإن يَجْزِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به. وتنزيل بمعنى مُنَزَّل، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو تنزيل.
* { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }
قوله: {نَزَلَ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص "نَزَل" مخففاً. و{الرُّوحُ الأَمِينُ} مرفوعان على إسنادِ الفعلِ للروحِ، والأمينُ نعتُه، والمرادُ به جبريل. وباقي السبعة بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهو اللهُ تعالى. "الروحَ الأمينَ" منصوبان على المفعولِ. و"الروحُ الأمينُ" مرفوعان على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه. و"به" إمَّا متعلِّقٌ بـ"نَزَلَ" أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ.
* { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }
(11/222)
---(1/4479)
قوله: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ}: قال الشيخ: الظاهرُ تعلُّقُ "على قلبِك" و"لتكون" بـ"نَزَل" ولم يَذْكُرْ ما يقابلُ هذا الظاهرَ. وأكثرُ مايُتَخيل أنَّه يجوزُ أن يتعلقا بـ"تنزيل" أي: وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين على قلبك لتكون. ولكنْ فيه ضَعْفٌ من حيث الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بجملة "نَزَلَ به الروحُ". وقد يُجاب عنه بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذه الجملةَ اعتراضيةٌ وفيها تأكيدٌ وتسديدٌ، فليسَتْ بأجنبية. والثاني: الاغتفارُ في الظرفِ وعديلِه. وعلى هذا فلا يَبْعُدُ أن يجيءَ في المسألةِ بابُ الإِعمالِ؛ فإنَّ كُلاًّ من "تنزيل" و"نَزَل" يطلبُ هذه الجارَّيْن.
* { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }
قوله: {بِلِسَانٍ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ المُنْذِرين أي: ليكونَ من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسانِ العربيِّ وهم: هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإسماعيلُ ومحمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. ويجوز أن يتعلَّقَ بـ"نَزَلَ" أي: نَزَلَ باللسانِ العربيِ لتنذرَ به؛ لأنه لو نَزَلَ بالأعجمي لقالوا: لِمَ نَزَل علينا مالا نفهمُه؟ وجَوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من "به" بأعادِة العاملِ قال: "أي: نَزَلَ بلسانٍ عربيّ أي: برسالة أو لغة".
* { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ }
قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ}: أي: وإن القرآنَ. وقيل: وإن محمداً. وفيه التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل: وإنَّك لفي زُبُر. وقرأ الأعمش "زُبْرِ" بسكونش الباء، وهي مخففةٌ من المشهورةِ.
* { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيا إِسْرَائِيلَ }
(11/223)
---(1/4480)
قوله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً}: قرأ ابن عامر "تكن" بالتاء مِنْ فوقُ "آيةٌ" بالرفع. والباقون "يكنْ" بالياء مِنْ تحتُ "آيةً" بالنصب. وابن عباس "تكن" بالتاء مِنْ فوقُ و"آيةً" بالنصبِ. فأمَّا قراءةُ ابن عامرٍ فـ"تكون" تُحتمل أَنْ تكونَ تامةً، وأَنْ تكونَ ناقصةً. فإن كانَتْ تامةً جاز أن يكونَ ِ"لهم" متعلقاً بها، و"آيةٌ" فاعلاً بها. و"أَنْ يعلَمَه": إمَّا بدلٌ مِنْ آية، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: أو لم يَحْذُثْ لهم علامَةُ عِلْمِ علماءِ بني إسرائيل.
وإنْ كانَتْ ناقصةً جاز فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ اسمُها مضمراً فيها بمعنى القصةِ، و"آيةٌ أَنْ يَعْلَمَه" جملةٌ قُدِّم فيها الخبرُ واقعةٌ موقعَ خبر "تكن". الثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ أيضاً، و"لهم" خبرٌ مقدمٌ، و"آيةٌ" مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبر "تكن" و"أَنْ يعلَمَه": إمَّا بدلٌ من "آيةٌ"، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي أَنْ يعلَمه. الثالث: أَنْ يكونَ "لهم" خبرَ "تكنْ" مقدَّماً على اسمها، و"آيةٌ" اسمُها و"أَنْ يعلَمَه" على الوجهين المتقدِّمين: البدليةِ وخبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. الرابع: أَنْ يكونَ "آيةٌ" اسمَها و"أَنْ يعلمَه" خبرُها. وقد اعتُرِضَ هذا: بأنه يَلْزَمُ جَعْلُ الاسمِ نكرةً، والخبرِ معرفةً. وقد نصَّ بعضُهم على أنه ضرورةٌ كقوله:
3533ـ ....................... * ولا يَكُّ مَوْقِفٌ منكِ الوَدعا
وقوله:
3534ـ ...................... * يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءٌ
وقد اعتُذِر عن ذلك: بأنَّ "آية" قد تخصَّصَتْ بقوله: "لهم" فإنه حالٌ منها، والحال صفة، وبأن تعريفَ الجنسِ ضعيفٌ لعمومه. وهو اعتذارٌ باطلٌ ولا ضرورةَ تَدْعُو إلى هذا التخريجِ، بل التخريجُ ما تقدم.
وأمَّا قراءةُ الباقينَ فواضحةٌ جداً فـ"آيةً" خبرٌ مقدمٌ، و"أَنْ يَعْلَمه" اسمُها مؤخرٌ، و"لهم" متعلِّقٌ بآية حالاً مِنْ "آية".
(11/224)
---(1/4481)
وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فكقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} وكقول لبيد:
3535ـ فمضَى وقدَّمها وكانت عادَةً * منه إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
إمَّا لتأنيثِ الاسمِ لتأنيِث [الخبر]، وإمَّا لأنه بمعنى المؤنث. ألا ترى أنَّ "أَنْ يعلَمَه" في قوةِ "المعرفةِ" و"إلاَّ أَنْ قالوا" في قوة "مقالتهم" وإقدامها "بإقدامها".
وقرأ الجحدريُّ: "أَنْ تعلمَه" بالتاء من فوق. شَبَّه البنين بجمع التكسير في تغيُّر واحدِه صورةً، فعامَلَ فعلَه المسندَ إليه معاملةَ فعلِه في لَحاقِ علامةِ التأنيثِ. وهذا كقوله:
3536ـ قالَتْ بنو عامرٍ خالُوامم بني أَسَدٍ * يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوامِ
وكتبوا في الرسم الكريم "عُلَمؤا" بواو الميمِ والألف. قيل: هو على لغة مضنْ يُميل الألفَ نحو الواوِ، وهذا كما فُعِلَ في الصلاةِ والزكاةِ.
* { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ }
قوله: {الأَعْجَمِينَ}: قال صاحب "التحرير": "الأعْجَمين جمع أعجمي بالتخفيف. ولولا هذا التقديرُ لم يَجُزْ أَنْ يُجمعَ جَمْعَ سلامةٍ" قلت: وكان سببُ مَنْعِ جمعهِ: أنه من بابِ أَفْعَل فَعْلاء كأَحْمرا حَمْراء. والبصريون لا يُجيزون جَمْعَه جمعَ سلامة إلاَّ ضرورةً كقوله:
3537ـ ....................... * حلائلَ أَسْوَدِيْنَ وأَحْمَرينا
فلذلك قَدَّره منسوباً فخففَ الياء. وقد جعله ابنُ عطية جمعَ أَعْجَم فقال: ألأَعْجَمون جمعُ أَعْجَمُ/ هو الذي لا يُفْصِحُ، وإن كان عربيَّ النسبِ يقال له "أعجمُ" وذلك يقال للحيوانات. ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : "جُرْحُ العجماء جُبار". وأسند الطبريُّ عن عبدِالله بن مطيع: أنه كان واقفاً بعرفةَ وتحته جَمَلٌ فقال: جملي هذا أعجمُ، ولو أنه أُنْزِل عليه ما كانوا يُؤْمِنون. والعَجَمِيُّ: هو الذي نِسْبَتُه في العَجَمِ، وإن كان أفصحَ الناسِ".
(11/225)
---(1/4482)
وقال الزمخشري: "الأعجمُ: الذي لا يُفْصِحُ، وفي لسانِه عُجْمَةٌ أو استعجامٌ. والأعجميُّ مثلُه، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ النسَبِ توكيداً" قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا في سورة النحلِ. وقد صَرَّح أبو القاء بمَنْع أن يكون "الأعجمين" جمعَ "أَعْجم" وإنما هو جمعُ أعجمي مخففاً مِنْ أعجميّ كـ"الأَشْعرون" في الأشعري قال: الأعجمين [أي]: الأعجميين فحذف ياءَ النسب كما قالوا: الأشعرون أي: الأشعريُّون، وواحدُه أعجمي، ولا يجوز أن يكونَ جمعَ أعجم لأنَّ مؤنثَه عَجْماء. ومثلُ هذا لا يُجْمَعُ جَمْعَ التصحيح".
قلت: وقد تقدَّم ذلك. ففيما قال ابنُ عطية نظرٌ. وأمَّا الزمخشري فليس في كلامِه أنه جمع أَعْجم مخففاً أو غيرَ مخففٍ، وإنْ كان ظاهرُه أنَّه جمع أعجم مِنْ غيرِ تخفيفٍ. ولكن الذي قاله ابن عطية تَبِعَ فيه الفراء فإنه قال: "الأعجمين جمعَ أَعْجم أو أعجمي على حَذْفِ ياءِ النِّسَبِ كما قالوا: الأشعرين وواحدهم أشعري. وأنشد للكميت:
3538ـ ولو جَهَّزْتَ قافيةً شَرُوْدا * لقد دَخَلَتْ بيوتَ الأَشْعَريْنا
لكنَّ الفراء لا يَضُرُّوه ذلك فإنه من الكوفيين. وقد قَدَّمْتُ عنهم أنهم يُجيزون جمع أَفْعَل فَعْلاء.
و[قرأ] الحسن وابن مقسم "الأَعْجميِّين" بياءَي النسب، وهي مؤيدةٌ لتخفيفِه منه في قراءةِ العامَّة.
* { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }
قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ}: أي: مثلَ ذلك، أو الامر كذلك. والضمير في "سَلَكْناه" عائدٌ على القرآن وهو الظاهرُ أي: سلكناه في قلوبِ المجرمين، كما سَلَكْناه في قلوبِ المؤمنين. ومع ذلك لم ينجَعْ فيهم. وقيل: عائدٌ على التذكيبِ أو الكفر.
* { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }
(11/226)
---(1/4483)
قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}: في الجملةِ وجهان، أحدُهما: الاستئنافُ على جهةِ البيانِ والإِيضاح لِما قبله. والثاني: أنها حالٌ من الضمير في "سَلَكْناه" أي: سَلَكْناه غيرَ مُؤْمَنٍ به. ويجوز أن يكونَ حالاً من "المجرمين" لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه.
* { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله: {فَيَأْتِيَهُم}: و"فيقولوا" عطفٌ على "يَرَوْا". وقرأ العامة بالياءِ مِنْ تحتُ. والحسن وعيسى بالتاء مِنْ فوقُ. أَنَّث ضميرَ العذابِ لأنَّه في معنى العقوبة. وقال الزمخشري: "أنَّثَ على أن الفاعل ضميرُ الساعة". وقال الزمخشري:"فإن قتلَ: ما معنى التعقيب في قوله: "فَيَأْتِيَهم"؟ قلت: ليس المعنى التعقيبَ في الوجود، بل المعنى تَرَتُّبُها في الشدَّة. كأنَّه قيل: لا يُؤْمِنُون بالقرآنِ حتى تكونَ رُؤْيَتُهم العذابَ [فما هو] أشدُّ منها. ومثالُ ذلك أن تقول: "إنْ أسَأْتَ مَقَتَك الصالحون فَمَقَتَك اللهُ"، فإنَّك لا تَقْصِدُ [بهذا الترتيب] أنَّ مَقْتَ اللهِ بعد مَقْتِ الصالحين، وإنما قَصْدُك إلى ترتيبِ شدَّةِ الإمرِ على المسيء".
وقرأ الحسن "بَغَتَةً" بفتحِ الغين.
* { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ }
(11/227)
---(1/4484)
قوله: {أَفَرَأَيْتَ}: قد تقدَّمَ تحقيقُه. وقد تنازَعَ "أفرأيت" و"جاءهم" في قوله: "ما كانوا يُمَتَّعون" فإن أَعْمَلْتَ الثاني وهو "جاءهم" رَفَعْتَ به "ما كانوا" فاعلاً به، ومفعولُ "أرأَيْتَ" الأولُ ضميرُه، ولكنه حُذِفَ، والمفعولُ ا لثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ في قوله: "ما أَغْنَى عنهم". ولا بُدَّ مِنْ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين المفعولِ الأولِ المحذوفِ، وهو مقدَّرٌ، تقديره: أفرأيْتَ ما كانوا يُوْعَدُون ما أَغْنَى عنهم تَمَتُّعُهم، حين حَلَّ أي: الموعودُ به. ودَلَّ على ذلك قوةُ الكلامِ. وإنْ أَعْمَلَتْ الأولَ نصبْتَ به "ما كانوا يُوْعَدُون" وأَضْمَرْتَ في "جاءهم" ضميرَه فاعلاً به. والجملةُ الاستفهاميةُ مفعولٌ ثانٍ أيضاً. والعائدُ مقدرٌ على ما تقرَّرَ في الوجهِ قبلَه، والشرطُ معترضٌ، وجوابُه محذوفٌ. وهذا كلُّه مفهومٌ مما تقدَّم في سورةِ الأنعامِ، وإنما ذكرْتُه هنا لأنه تقديرُ عَسِرٌ يحتاج إلى تأمُّلٍ وحسنتِ صناعةٍ، وهذا كلُّه إنَّما يتأتَّى على قولِنا: إنَّ "ما" استفهاميةً، ولا يَضُرُّنا تفسيرُهم لها بالنفي، فإن الاستفهامَ قد يَرِدُ بمبعنى النفي. وأمَّا إذا جَعَلْتَها نافيةً حرفاً، كما قال أبو البقاء، فلا يتأتَّى ذلك؛ لأنَّ مفعولَ "أرأيت" الثاني لا يكونُ إلاَّ جملةً استفهاميةً كما تقرَّر غيرَ مرة.
قوله: {مَآ أَغْنَى}: يجوز أَنْ تكونَ "ما" استفهاميةً في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدَّماً، و"ما كانوا" هو الفاعلُ، و"ما" مصدريةٌ بمعنى: أيُّ شيءٍ أغنى عنهم كونَهم متمتِّعين. وأَنْ تكونَ نافيةً والمفعولُ محذوفٌ أي: لم يُغْنِ عنهم تمتُّعُهم شيئاً.
وقرىء "يُمْتَعُون" بإسكانِ الميم وتخفيف التاءِ، مِنْ اَمْتَع اللهُ زيداً بكذا.
* { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }
(11/228)
---(1/4485)
قوله: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ}: يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً لـ"قريةٍ"، وأَنْ تكونَ حالاً منها. وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ "إلاَّ" ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} قلت: الأصلُ عَزْلُ الواوِ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ لـ"قريةٍ". وإذا زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. قال الشيخ: "ولو قدَّرنا "لها مُنْذِرُون" جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد "إلاَّ".
ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد "إلاَّ" معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ نحو: ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ. وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ، أي: إلاَّ رجلٌ را كبٌ. ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ: "ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً" ولا يُحْلَظُ عنهم "إلاَّ قائمٍ" بالجرِّ. فو كانت الجملةُ صفةً بعد "إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا. [وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ صفةً للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد "إلاَّ" يعني نحو: "ما مررتُ بزيدٍ إلاَّ العاقلِ"].
ثم قال: فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد "إلاَّ" نحو: "ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ". التقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمروٍ إلاَّ زيدٌ. وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين. لو قلتَ: "جاءني رجلٌ وعاقلٌ" أي: "رجلٌ عاقلٌ" لم يَجُزْ. وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ بعضُها على بعضٍ، و تَغَايَرَ مدلُولها نحو: مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ. وأمَّا {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فتقدَّم الكلامُ عليه".
(11/229)
---(1/4486)
قلت: أمّضا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد "إلاَّ" معتمدةً، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ هذا، فإنَّهاغ مسألةً خلافيةً. وأمَّا كونُه لم يُقَلْ "إلاَّ قائماً" بالنصبِ دونَ "قائم" بالجرِّ فلذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ قَسيمِه. وأمَّا قولُهخ "فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين" فمَمنوعٌ. هذا ابنُ جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه. وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد إلاَّ" للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد "إلاَّ" فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً. وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ. وإنما اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ، والتأكيد لائقٌ بالجملةِ. وأمَّا قولُه: "لو قلتَ: جائني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ" فمُسَلَّمٌ، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ. وقد تقدَّم {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة.
* { ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ }
قوله: {ذِكْرَى}: يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مفعولٌ مِنْ أجله. وإذا كانَتْ مفعولاً مِنْ أجلهِ ففي العاملِ فيه وجهان، أحدهما: "مُنْذِرُوْن"، على أنَّ المعنى: مُنْذِرون لأجلِ الموعظةِ والتذكرةِ. الثاني: "أَهْلَكْنا". قال الزمخشري: "والمعنى: وما أهلَكْنا مِنْ أهلِ قريةٍ ظالمين إلاَّ بعدَما ألزَمْناهم الحُجَّةَ بإرسالِ المُنْذَرِين إليهم ليكون [إهلاكُهم] تذكرةً وعبرةَ لغيرِهم فلا يَعْصُوا مثلَ عصيانِهم" ثم قال: "وهذا الوجهُ عليه المُعَوَّل".
(11/230)
---(1/4487)
قال الشيخ "وهذا لا مُعَوَّلَ عليه فإنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ ما قبل "إلاَّ" لا يعمل فيما بعدها، إلاَّ أَنْ يكونَ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً له غعيرَ معتمدٍ على الأداة نحو: "ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٌ من عمروٍ"، والمفعولُ له ليس واحداً من هذه. ويتخرَّج مذهبُه على مذهبِ الكسائي والأخفشِ، وإن كانا لم يَنُصَّا على المفعولِ له بخصوصيِّته". قلت: والجواب ما تقدَّم قبلَ ذلك مِنْ أنَّه يختارُ مذهبَ الأخفش.
الثاني: من الأوجهِ الأوَلِ: أنَّها في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هذه ذِكْرى. وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً. الثالث: أنها صفةٌ لـ"مُنْذِرُوْن: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على الحذفِ أي: مُنْذروْن ذَوو ذكرى، أو على وقوعِ المصدرِ وقوعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنْذِرون مُذكِّرون. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك. الرابع: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي: مُذَكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جُعِلوا نفسَ الذكرى مبالغةً. الخامس: أنها منصوبةٌ على المصدرِ المؤكِّد. وفي العاملِ فيها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: لفظُ "مُنْذِرُون" لأنَّه مِنْ معناها فهما كـ"قَعَدْتُ جلوساً". والثاني: أنه محذوفٌ مِنْ لفظِها أي: تَذْكُرون ذِكْرى. وذلك المحذوفُ صفةٌ لـ"مُنْذِرون".
* { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ }
(11/231)
---(1/4488)
قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}: العامَّةُ على الياء/ ورفعِ النونِ، وهو جمعُ تكسيرِ. وقرأ الحسن البصري وابن السَّمَفيْفع والأعمش بالواوِ مكانَ الياءِ، والنونُ مفتوحةٌ إجراءَ له مُجْرى جمعِ السلامة. وهذه القراءةُ قد رَدَّها جمعٌ كثيرٌ من النحويين. قال الفراء: "غَلِطَ الشيخُ ظنَّ أنها النونُ التي على هِجاءَيْن". وقال النضر بن شميل: "نْ جاز أن يُحْتَجَّ بقولِ العَجَّاجِ ورؤبةَ فهلا جازَ أَنْ يُحْتَجَّ بقولِ الحسنِ وصاحبِه يعني محمد بن السميفع، مع أنَّا نعلُم أنَّهما لم يُقْرآ به إلاَّ وقد سَمِعا فيه". وقال النحاس: "هو غَلَطٌ عند جميعِ النَّحْويين". وقال المهدويُّ: "هو غيرُ جائزْ في العربيةِ". وقال أبو حاتم: "هي غلطٌ منه أو عليه".
وقد أَثْبَتَ هذه القراءةَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ، ودفعوا عنها الغَلَطَ، فإنَّ القارىءَ بها من العلمِ بمكانٍ مَكينٍ، وأجابوا عنها بأجوبةٍ صالحةٍ. فقال: النضر بن شميل: "قال يونس بن حبيب: سمعتُ أعرابياً يقول: "دَخلتُ بساتينَ من ورائِها بساتُون" فقلت: ما أشبَه هذا بقراءةِ الحسنِ" وخرَّجها بعضُهم على أنها جمعُ شَيَّاط بالتشديد مِثالَ مبالغةٍ، مثلَ "ضَرَّاب" و"قتَّال"، وعلى أَنْ يكونَ مشتقاً من شاط يَشِيْط أي: أَحْرَقَ، ثم جُمِع جَمْعَ سلامةٍ مع تخفيفِ الياءِ فوزنُه فَعالُون مخففاً مِنْ فعَّالين بتشديد العين. ويَدُلُّ على ذلك أنَّهما وغيرَهما قرؤُوا بذلك أعني بتشديدِ الياءِ. وهذا منقولٌ عن مؤرج السدوسي ووجَّهها آخرون: بأنَّ أخِرَه لَمَّا كان يُشْبِهُ آخرَ يَبْرِين وفِلَسْطينُ ويبرونَ وفلسطونَ. وقد تقدَّم القولُ في ذلك في البقرة.
والهاء في "به" تعود على القرآن.
(11/232)
---(1/4489)
وجاءت هذه الجمل الثلاث منفيةً على أحسنِ ترتيبٍ نفى أولاً تنزيلَ الشياطين به؛ لأنَّ النفيَ في الغالبِ يكونُ في الممكنِ، وإنْ كان الإِمكانُ هنا منتفياً. ثم نفى ثانياً انْبِغاءَ ذلك أي: ولو فُرِضَ الإِمكانُ لم يكونوا أهلاً له، ثم نفى ثالثاً الاستطاعةَ والقُدْرَةَ، ثم ذكر علةَ ذلك، وهي انعزالهُم عن السَّماع من الملأِ الأعلى؛ لأنهم يُرْجَمُون بالشُّهُبِ لو تَسَمَّعوا.
* { فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ }
قوله: {فَتَكُونَ}: منصوبٌ في جوابِ النهي.
* { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ }
قوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ}: في هذه الواوِ وجهان، أحدُهما: أنَّها ضميرُ الكفارِ أي: فإنْ عَصاك الكفارُ في أَمْرِك لهم بالتوحيدِ. الثاني: أنها ضميرُ المؤمنين أي: فإنْ عَصاك المؤمنون في فروعِ الإِسلام وبعضَ الأحكامِ بعد تصديقِك والإِيمان برسالتِك. وهذا في غاية البعد.
* { وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ }
قوله: {وَتَوكَّلْ}: قرأ نافعٌ وابنُ عامر بالفاءِ. والباقون بالواوِ. فأمَّا قراءةُ الفاءِ جَعَلَ فيها ما بعد الفاءِ كالجزاءِ لِما قبلها مُتَرَتِّباً عليه، وقراءةُ الواوِ لمجرَّدِ عَطْفِ جملةٍ على أخرى.
* { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ }
قوله: {الَّذِي يَرَاكَ}: يجوزُ أنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو منصوبَه على المدحِ، أو مجرورَهُ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ.
* { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }
قوله: {وَتَقَلُّبَكَ}: عطفٌ على مفعول "يَراك" أي: ويرى تَقَلُّبَك. وهذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ جناح بن حبيش بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً، وكسر اللامِ ورفعِ الباء جَعَلَه فعلاً، ومضارع "قَلَّب" بالتشديد، وعَطَفْه على المضارعِ قبلَه، وهو "يراك" أي: الذي يُقَلِّبُك.
(11/233)
---(1/4490)
* { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ }
قوله: {عَلَى مَن تَنَزَّلُ} متعلِّقٌ "بـ"تَنَزَّلُ" بعده. وإنما قُدِّمَ لأنَّ له صدَر الكلامِ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله مِنْ فعلِ التنبئةِ لأنَّها بمعنى الِعلْمِ. ويجوزُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لاثنين فتسدَّ الجملةُ المشتملةُ على الاستفهام مَسَدَّ الثاني؛ لأن الأولَ ضميرُ المخاطبين، وأَنْ تكونَ متعدِّيةً لثلاثة فتسدَّ مَسَدَّ اثنين. وقرأ البزي "على مَنْ تَّنَزَّلُ" بتشديد التاء [مِنْ تنزَّل" في الموضعين، والأصل تَتَنَزَّلُ بتاءَيْن، فأدغم. والإِدغامُ في الثاني سَهْلٌ لتحرُّكِ ما قبل المُدْغَمِ، وفي الأول صعوبةٌ لسكونِ ما قبلَه، وهو نونُ "مَنْ" وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ
}.
* { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ }
قوله: {يُلْقُونَ}: يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على "الشياطين"، فيجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ "يُلْقُون" حالاً، وأَنْ تكونَ مستأنفةً. ومعنى إلقائِهم السمعَ: إنصاتُهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُّوا شيئاً، أو يُلْقُوْن الشيءَ المسموعَ إلى الكهنةِ. ويجوزُ أَنْ يعودَ على {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} من حيثُ إنَّه جَمْعٌ في المعنى. فتكونُ الجملة: إمَّا مستأنفةً، وإمَّا صفةً لـ"كلِّ أَفَّاكٍ" ومعنى الإِلقاء ما تقدَّم.
وقال الشيخ الشيخ ـ حال؟َ عَوْدِ الضميرِ على "الشياطين"، وبعدما ذكر المعنيين المتقدَّمين في إلقاءِ المسموع إلى الكَهَنَةِ يُحْتَمَلُ الاستئنافُ، واحْتُمِلَ الحالُ من "الشياطين" أي: تَنَزَّل على كلِّ أَفَّاكٍ أثمٍ مُلْقِِيْنَ ما سَمِعُوا". أنتهى وفي تخصيصه الاستئنافَ بالمعنى الأولِ، وتجويزِه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ؛ لأنَّ جوازَ الوجهين جارٍ في المعَنيَيْن فيُحتاج في ذلك إلى دليلٍ.
* { وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }
(11/234)
---(1/4491)
قوله: {يَتَّبِعُهُمُ}: قد تقدَّمَ أن نافعاً يقرأ بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قولِه: {لا يَتَّبِعُوكم" والفرقُ بين المخفَّفِ والمثقَّلِ، فَلْيُنْظَرْ ثَمَّة. وسكَّن الحسنُ العينَ، ورُوِيَتْ عن أبى عمروٍ، وليسَتْ ببعيدةِ عنه كـ{يَنْصُرْكم} وبابِه. وروى هارونُ عن بعضِهم نصبَ العينِ وهي غلط. والقولُ بأنَّ الفتحةَ للإِتباعِ خطأٌ.
والعامَّةُ على رَفْعِ "الشعُراءُ" بالابتداءِ. والجملةُ بعدَه الخبرُ. وقرأ عيسى بالنصبِ على الاشتغال.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ }
قوله: {يَهِيمُونَ}: يجوزُ أنْ تكمون هذه الجملةُ خبرَ "أنَّ". وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه مَحَطُّ الفائدةِ. و"في كلٍ وادٍ" متعلقٌ به. ويجوزُ أَنْ يكونَ "في كلٍ وادٍ" هو الخبرَ، و"يهيمون" حالٌ من الضميرِ في الخبر. والعاملُ ما تَعَلَّق به هذا الخبرُ أو نفسُ الجارَّ، كما تقدَّم في نظيرِه غيرَ مرة. ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً بعد خبرٍ عند مضنْ يرى تعدُّدَ الخبرَ مطلقاً وهذا من بابِ الاستعارِ البليغةِ والتمثيلِ الرائعِ، شبَّه جَوَلانَهم في أفانينِ القولِ وطرائقِ المدحِ والذمِّ والتشبيهِ وأنواعِ الشعرِ بِهَيْمِ الهائمِ في كلِّ وادٍ وطريقٍ.
والهائِمُ: الذي يَخْبِط في سَيْرِه ولا يَقْصِدُ موضعاً معيَّناً. هام على وجهه: أي ذَهَبَ. والهائمُ: العاشِقُ من ذلك. والهيمانُ: العَطْشانُ. الهُيام: داءُ يأخذُ ا لإِبلَ من العطشِ. وجمل أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ. والجمع فيهما: هِيم. قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}. والهَيام من الرَّمْلِ: اليابسُ كأنهم تَخَيَّلُوا فيه معنى العطشِ.
* { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }
(11/235)
قوله: {أَيَّ مُنقَلَبٍ}: منصوبٌ على المصدرِ. والناصبُ له "يَنْقَلِبُون" وقُدِّمَ لتضمُّنِهِ معنى الاستفهامِ. وهو مُعَلَّق لـ"سَيَعْلَمُ" سادَّاً مَسَدَّ مفعولَيْها. وقال أبو البقاء: "أيَّ مُنْقَلبِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أَيْ: يَنْقلبون انقلااباً أيَّ مُنْقَلَبٍ. ولا يعملُ فيه "سَيَعْلم" لأنَّ الاستفهامَ لا يعمل فيه ما قبله". وهذا الذي قاله مردودٌ: بأنَّ أَيَّاً الواقعةَ صفةً لا تكونُ استفهاميةً, وكذلك الاستفهاميةُ لا تكونُ صفةً لشيء، بل هما قِسْمان، كلٌّ منهما قِسْمٌ برأسِه. و"أيّ" تنقسمُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ وهي: الشرطيةُ، والاستفهاميةُ، والموصولةُ، والصفةُ والمصوفةُ عند الأخفش خاصة، والمناداةُ نحو: ياأيُّهذا، والمُوْصِلَةُ لنداءِ ما فيه أل نحو: يا أيُّها الرجلُ، عند غير الأخفش. والأخفشُ يجعلُها في النداءِ موصولةً. وقد اَتْقَنْتُ ذلك في "شرح التسهيل".
وقرأ ابن عباس والحسن "أي مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون" بالفاءِ والتاءِ من فوقُ. من الانفلاتِ، ومعناها واضحٌ. والله أعلم.(1/4492)
سورة النمل
* { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله: {وَكِتَابٍ}: العامَّةُ على جَرِّه عطفاً على القرآن، وهل المرادُ نفسُ القرآنِ فيكونَ من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ، والمدلولُ واحدٌ، أو اللوحُ المحفوظُ أو نفس السورةِ؟ وقيل: القرآنُ والكتابُ عَلَمان للمنزَّلِ على نبيِّنا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهما كالعبَّاسِ وعَبَّاس. يعني فتكون أل فيهما لِلَمْحِ الصفةِ. وهذا خطأٌ؛ إذ لو كانا عَلَمَيْن لما وُصِفا بالنكرةِ، وقد وُصِف "قرآن" بها في قوله :{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} في سورة الحجر. ووُصِفَ بها "كتاب" كما في هذه الآية الكريمةِ. والذي يُقال: إنه نكرةٌ هنا لإِفادةِ التفخيم، كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
(11/236)
---(1/4493)
}. وقرأ ابن أبي عبلة "كتابٌ مبينٌ" برفعِهما، عطفٌ على "آياتُ" المُخْبِرِ بها عن "تلك". فإن قيل: كيف صَحَّ أَنْ يُشارَ لاثنين، أحدُهما مؤنثٌ، والآخرُ مذكرٌ باسم إشارةِ المؤنثِ ولو قلتَ: "تلك هندٌ وزيدٌ" لم يَجُزْ؟ فالجواب من ثلاثةِ أوجه: أحدُها: أنَّ المرادَ بالكتابِ هو الآياتُ؛ لأنَّ الكتابَ عبارةٌ عن آياتٍ مجموعةٍ فلمَّا كانا شيئاً واحداً/ صَحَّتْ الإِشارةُ إليما بإشارةِ الواحدِ المؤنثِ. الثاني: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ أي: وآياتٌ كتابٍ مبين. الثالث: أنه لَمَّا وَليَ المؤنثَ ما يَصِحُّ الإِشارةُ به إليه اكتُفي به وحَسُنَ، ولو أُوْلِيَ المذكرَ لم يَحْسُنْ. ألا تراك تقولُ: "جاءَتْني هندٌ وزيدٌ" ولو حَذَفْتَ "هند" أو أَخَّرْتَها لم يَجُزْ تأنيثُ الفعلِ.
* { هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {هُدًى وَبُشْرَى}: يجوزُ فيهما أوجهٌ، أحدُها: أنَّ يكونا منصوبَيْنِ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِهما أي: يَهْدي هُدَي هُدَىً ويُبَشِّر بُشْرَى. الثاني: أن يكونا في موضعِ الحالِ من "آياتُ". والعاملُ فيها ما في "تلك" مِنْ معنى الإِشارةِ. الثالث: أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ من "القرآن". وفيه ضعفٌ من حيث كونُه مضافاً إليه. الرابع: أَنْ يكونَ حالاً من "كتاب" في قراءة مَنْ رَفَعه. ويَضْعُفُ في قراءة مَنْ جرَّه لِما تقدَّمَ مِنْ كونِه في حكمِ المضافِ إليه لعَطْفِه عليه. الخامس: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في "مبين" سواءً رَفَعْتَه أم جَرَرْتَه. السادس: أَنْ يكونا بَدَلَيْن مِنْ "آيات". السابع: أَنْ يكونا خبراً بعد خبر. الثامن: أن يكونا خبرَيْ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي هدىً وبُشْرى.
* { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
(11/237)
---(1/4494)
قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ}: يجوزْ أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً للمؤمنين، أو بدلاً، أو بياناً، أو منصوباً على المدحِ أو مرفوعَه على تقديرِ مبتدأ أي: هم الذين.
قوله: {وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} "هم" الثاني تكريرٌ للأول على سبيلِ التوكيدِ اللفظيَّ. وفهم الزمخشري منه الحَصْرَ أي: لا يُوقِنُ بالآخرةِ حقَّ الإِيقانِ إلاَّ هؤلاءِ المتصفونَ بهذه الصفاتِ. و"بالآخرةِ" متعلقٌ بـ"يُوقنون" ولا يَضُرُّ الفصلُ بينهما بالتوكيدِ. وهذه الجملةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ داخلةً في حَيِّزِ الموصولِ، وحينئذٍ يكون قد
قايَرَ بين الصلتين جملةً فعليةً فقال: "يُقيمون" و"يُؤْتُون". ولمَّا كان الإِيقانُ بالآخرةِ أمراً ثابتاً مطلوباً دوامُه أتى باصلةِ جملةً اسميةً مكَّرراً فيها المسندُ إليه مُقَدَّماً فيها المُؤقَنُ به الدالُّ على الاختصاصِ ليدلَّ على الثباتِ والاستقرارِ. وجاء بخبرِ المبتدأ في هذه الجملةِ فعلاً مضارعاً، دلالةً على أنَّ ذلك مُتَجَدِّدٌ كلَّ وقتٍ غيرُ منقطعٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ مستأنفةً غيرَ داخلةٍ في حَيِّز الموصولِ.
قال الزمخشري: "ويُحتمل أَنْ تَتِمَّ الصلةُ عنده" أي: عند قولِه: "وهم". قال "وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً" يريد أنَّ الصلةَ تَمَّتْ عند "الزكاةِ" فيجوزُ في ذلك. وإلاَّ فكيف يَصِحُّ إذا أخَذْنا بظاهِر كلامِه أنَّ الصِّلةَ تَمَّتْ عند قولِه "وهم"؟ وتسميتُه هذا اعتراضاً يعني من حيث المعنى، وسياقُ الكلام، وإلاَّ فالاعتراضُ في الاصطلاحِ لِما يكون بين متلازِمَيْنِ من مبتدأ وخبرٍ، وشرطٍ وجزاءٍ، وقَسَمٍ وجوابِه، وتابعٍ ومتبوعٍ، وصلةٍ وموصولٍ، وليس هنا شيءٌ من ذلك.
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُواءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }
(11/238)
---(1/4495)
قوله: {الأَخْسَرُونَ} في أَفْعَل قولان، أحدهما: ـ وهو الظاهرُ ـ أنَّها على بابِها من التفضيل، وذلك بالنسبةِ إلى الكفَّار من حيث اختلافُ الزمانِ والمكانِ. يعني: أنَّهم أكثرُ خُسْراناً في الآخرةِ منهم في الدنيا، أي: إنَّ خُسْرانَهم في الآخرة أكثرُ من خُسْرانِهم في الدنيا. وقال جماعةٌ منهم الكرماني: "هي هنا للمبالغةِ لا للشِّرْكة؛ لأن المؤمنَ لا خُسْران له في الآخرةِ البتة". وقد تقدَّم جوابُ ذلك: وهو أنَّ الخسرانَ راجعٌ إلى شيءٍ واحدٍ. باعتبارِ اختلافِ زمانهِ و مكانِه.
وقال ابن عطية: "الأَخْسرون" جمع "اَخْسَر" لأنَّ أَفْعَلَ صفةٌ لا يُجْمَعُ، إلاَّ أن يُضافَ فَتَقْوى رتبتُه في الأسماء، وفي هذا نظرٌ". قال الشيخ: "ولا نظرَ في أنَّه يُجمع جَمْعَ سلامةٍ أو جمعَ تكسيرٍ إذا كان بأل، بل لا يجوزُ فيه إلاَّ ذلك، إذا كان قبله ما يُطابِقُه في الجمعيَّةِ. فتقول: "الزيدون هم الأفضلون والأفاضل" و"الهندات هنَّ الفُضْلَياتُ، والفُضُلُ. وأمَّا قوله: "لا يُجْمَعُ إلاَّ أَنْ يُضَافَ" فلا يَتَعَيَّنُ إذ ذاك جَمْعُه، بل إذا أُضيف إلى نكرةٍ لا يجوزُ جَمْعُه، وإن أضيف إلى معرفةٍ جاز في الجمعُ والإِفرادُ".
* { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }
قوله: {لَتُلَقَّى}: "لَقِيَ" مخفَّفاً يتعدَّى لواحدٍ، وبالتضعيف يتعدَّى لاثنين فأُقيم أَوَّلُهما هنا مُقامَ الفاعلِ، والثاني "القرآنَ". وقول من قال: إنَّ أصلَه تَلَقَّنَ بالنون/ تفسيرُ معنىً فلا يَتَعَلَّقُ به مُتَعَلَّقٌ، فإنَّ النونَ أُبْدِلَتْ حرفَ علةٍ.
* { إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّيا آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
(11/239)
---(1/4496)
قوله: {إِذْ قَالَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار اذكْرْ أو تَعَلَّمْ مقدَّراً مدلولاً عليه بـ عَليم أو بـ حَليم. وفيه ضعفٌ لتقيُّدِ الصفةِ بهذا الظرفِ.
قوله: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} قرأ الكوفيون بتنوين "شهاب" على أنَّ قَبَساً بدلاً مِنْ "شهاب" أو صفةً له؛ لأنه بمعنى مَقْبوس كالقَبَضِ والنَّقَضِ. ولباقون بالإِضافةِ على البيانِ؛ لأن الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه. والشِّهابُ: الشُّعلةُ. والقَبَس: القطعةُ منها، تكونُ في عُوْدٍ وغيرِ عُوْد. و"أَوْ" على بابِها من التنويع. والطاء في "تَصْطَلُون" بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال لأنه مِنْ صَلِيَ بالنار.
* { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {نُودِيَ}: في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ موسى، وهو الظاهرُ. وفي "أَنْ" حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول. والثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي. وتقدَّم تحقيقُ ذلك، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي: نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك. الثالث: أنها المخففةُ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، و"بُوْرِك" خبرُها، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ، وقد تقدَّم نحوُه في النور في قوله: {أَنَّ غَضَبَ} في قراءته فعلاً ماضياً.
(11/240)
---(1/4497)
قال الزمخشري: "فإن قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ، والتقدير: بأنَّه بُورك. والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت: لا لأنه لا بُدَّ مِنْ "قد". فإنْ قلتَ: فعلى إضمارِها؟ قلت: لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ". انتهى. فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر، وهذا بناءً منه على أَنَّ "بُوْرِكَ" خبرٌ لا دعاءٌ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم. وقد تقدَّم فيه استشكالٌ: وهو أنَّ الطلبَ لا يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً لـ"أَنْ" المخففةِ وهو دُعاءٌ؟
الثاني: من الأوجهِ الأَوَلِ: أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ "أَنْ بُوْرِكَ" على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: بأَنْ بُوْرِكَ. و"أَنْ" حينئذٍ: إمَّا ناصبةٌ في الأصلِ، وإمَّا مخففةٌ.
الثالث: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي: نُودي النداءُ، ثم فُسِّر بما بعدَه. ومثلُه {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ
}. قوله: {مَن فِي النَّارِ} "مَنْ" قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ"بُوْرك". وبارَكَ يتعدَّى بنفسِه، ولذلك بُني للمفعولِ. يقال: بارَكَكَ اللهُ، وبارَكَ عليكَ، وبارَكَ فيك، وبارك لكَ، وقال الشاعر:
3539ـ فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً * وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبدُ الله بن الزبير:
3540ـ فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ * إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ
وقال آخر:
3541ـ بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْرِكَ * نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ
والمرادُ بـ"مَنْ": إمَّا الباري تعالى، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي: مَنْ قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار. وقيل: المرادُ به موسى والملائكةُ، وكذلك بمَنْ حولَها. وقيل: المرادُ بـ"مَنْ" غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها.
(11/241)
---(1/4498)
قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي: نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ. أي: نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ. الثاني: أنه من كلامِ اللهِ تعالى مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ. الثالث: أنَّ معناه: وبُوْرِك مَنْ سَبَّح اللهَ. يعني أنه حَذَفَ "مَنْ" وصلَتها وأَبْقَى معمولَ الصلةِ إذ التقدير: بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها، ومَنْ قال: سبحان الله و"سُبْحانَ" في الحقيقةِ ليس معمولاً لـ"قال" بل لفعلٍ مِنْ لفظِه، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ بالقول.
* { يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ}: في اسمِ "إنَّ" وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ الشأن. و{أَنَا اللَّهُ} مبتدأ وخبرُه، و{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان لله. والثاني: أنه ضميرٌ راجعٌ إلى ما دلَّ ما قبله، يعني: أنَّ مُكَلِّمَكَ أنا، و"الله" بيانٌ لـ"أنا". واللهُ العزيزُ الحكيمُ صفتان للبيانِ. قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وإذا حُذِفَ الفاعلُ وبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ فلا يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على ذلك/ المحذوفِ، إذ قد غُيِّرَ الفعلُ عن بنائِه له. وعُزِمَ على أَنْ لا يكونَ مُحَدَّثاً عنه، فَعَوْدُ الضميرِ إليه مِمَّا يُنافي ذلك؛ إذ يصيرُ مُعْتَنَىً به".
قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد يُلْتَفَتُ إليه. وقد تقدَّم ذلك في قوله في البقرة {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} ثم قال: "وأداءٌ إليه" قيل: أي: الذي عفا، وهو وليٌّ الدمِ، على ما تقدَّم تحريره. ولَئِنْ سُلِّم ذلك فالزمخشريُّ لم يَقُلْ: إنه عائدٌ على ذلك الفاعلِ، إنما قال: راجعٌ إلى ما دَلَّ عليهِ ما قبلَه، يعني مِن السِّياقِ.
وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ "رَبّ" أي: إنَّ الرَّبَّ أنا الله، فيكون "أنا" فَصْلاً، أو توكيداً، أو خبراً إنَّ، واللهُ بدلٌ منه".(1/4499)
(11/242)
---
* { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ }
قوله: {وَأَلْقِ}: عطفٌ على ما قبلَه من الجملةِ الاسميةِ الخبريةِ. وقد تقدَّم أنَّ سيبويهِ لا يَشْترط تناسُبَ الجملِ، وأنه يُجيز "جاء زيدٌ ومَنْ أبوك" وتقدَّمت أدلَّتُه في أول البقرة. وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ علامَ عَطَفَ قولَه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قلت: على قوله "بُوْرِكَ" لأنَّ المعنى: نُوْدِيَ أَنْ بُوْرِكَ. وقيل له: أَلْقَ عَصاك. والدليلُ على ذلك قولُه: "وأَنْ أَلْقِ عَصاك" بد قولِه "يا موسى إنَّه أنا اللهُ" على تكريرِ حرف التفسيرِ كما تقول: "كتْبْتُ إليه أَنْ حُجَّ واعْتَمِرْ" وإنْ شِئْتَ: أَنْ حُجَّ وأَنِ اعْتَمِرْ". قال: الشيخ: "وقولُه: "إنه معطوفٌ على "بُوْرِكَ" منافٍ لتقديرِه "وقيل له: "أَلْقِ عصاك" لأَنَّ هذه جملةٌ معطوفةٌ على "بُوْرِكَ" وليس جُزْؤها الذي هو معمول "وقيل" معطوفاً على "بُوْرِكَ"، وإما احتاج إلى تقديرِ "وقيل له: أَلْقِ" لتكونَ جملةً خبريةً مناسِبَةً للجملةِ الخبريةِ التي التي عُطِفَتْ عليها. كأنه يَرَى في العطفِ تناسُبَ الجملِ المتعاطفةِ. والصحيحُ أنَّه لا يُشْتَرَطُ ذلك" ثم ذكرَ مذهبَ سيبويه.
قوله: {تَهْتَزُّ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ هاء "تَراها" لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ.
قوله: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانيةً، وأَنْ تكونَ حش الاً من ضمير "تَهْتَزُّ" فتكونَ حالاً متداخلةً. وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد "جَأَنٌّ" بهمزةٍ مكانَ الألفِ، وتقدَّم تقريرُ هذا في آخرِ الفاتحةِ عند {وَلاَ الضَّآلِّينَ
}. قوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} يجوز أن يكونَ عطفاً على"وَلَّى"، وأَنْ يكونَ حالاً أخرى. والمعنى: لم يَرْجِعْ على عَقِبِه. كقوله:
(11/243)
---(1/4500)
3542ـ فما عَقَّبوا إذ قيلَ: هل مَنْ مُعَقِّبٍ * ولا نَزَلوا يومَ الكَريهةِ مَنْزِلا
* { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُواءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ المرسلين مَعْصُومون من المعاصي. وهذا هو الظاهرُ الصحيحُ. والثاني:: أنه متصلٌ. وِلأهلِ التفسيرِ فيه عباراتٌ ليس هذا موضعَها. وعن الفراء: أنَّه متصلٌ. لكن من جملةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وإنما يَخاف غيرُهم إلاَّ مَنْ ظَلَمَ. وردَّه النحاس: بأنه لو جاز هذا لجازَ "لا أضرب القوم إلاَّ زيداً" أي: وإنما اَضْرِبُ غيرَهم إلاَّ زيداً، وهذا ضدُّ البيانِ والمجيءُ بما لا يُعْرَفُ معناه.
وقَدَّره الزمخشري بـ"لكن". وهي علامةٌ على أنه منقطعٌ، وذكر كلاماً طويلاً. فعلى الانقطاعِ يكونُ منصوباً فقط على لغةِ الحجاز. وعلى لغةِ تميمٍ يجوزُ فيه النَصبُ والرفعُ على البدلِ من الفاعلِ قبلَه. وأمَّا على الاتصالِ فيجوزُ فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيارُ البدلَ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.
وقرأ أبو جعفر وزيد وأسلم "ألا" بفتح الهمزة وتخفيفِ اللامِ جعلاها حرفَ تنبيهٍ. و"مَنْ" شرطيةٌ، وجوابُها {فَإِنِّي غَفُورٌ}.
والعامَّةٌ على تنوينِ "حُسْناً". ومحمد بن عيسى الأصبهاني غيرَ منوَّن، جعله فُعْلى مصدراً كرُجْعَى فمنعَها الصرفَ لألفِ التأنيثِ. وابنُ مقسم بضم الحاء والسين منوناً. ومجاهد وأبو حيوة ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ ـ بفَتْحِهما. وقد تقدَّم تحقيقُ القراءتين في البقرة.
* { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
(11/244)
---(1/4501)
قوله: {تَخْرُجْ}: الظاهرُ أنه جوابٌ لقولِه "اَدْخِلْ" أي: إنْ أَدْخَلْتَها تَخْرُجْ على هذه الصفةِ، وقيل: في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه: وأَدْخِلْ يدَك تَدْخُلْ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ. فَحَذَفَ من الثاني ما أَثْبَتَه في الأولِ، ومن الأولِ ما أَثْبته في الثاني. وهذا تقديرُ ما لا حاجةَ إليه.
قوله: {بَيْضَآءَ} حالٌ مِنْ فاعلِ "تَخْرُجْ". و{مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً أخْرى، أو مِن الضميرِ في "بَيْضاء" أو صفةً لـ"بَيْضاءَ".
قوله: {فِي تِسْعِ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنهُ حالٌ ثالثة. قال أبو البقاء. يعني: مِنْ فاعل يَخْرُجْ"/ آيةً في تسعِ آياتٍ. كذا قدَّره، والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: اذهَبْ في تسعِ. وقد تَقَدَّم اختيارُ الزمخشري لذلك في أولِ هذه الموضوعِ عند ذِكْر البَسْملةِ، ونَظَّره بقولِ الآخرِ:
3543ـ وقُلْتُ إلى الطَعامِ فقالَ منهم * .......................
وقولهم: "وبالرَّفاهِ والبنين"، وجَعَلَ هذا التقديرَ أعربَ وأحسنَ. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: "وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ". قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكوينَ المعنى: وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ يَدك في تسع آياتٍ أي: في جملةِ تسعِ آياتٍ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: كانَتِ الآياتُ إحدى عشرةَ منها اثنتان: اليدُ والعَصا. والتِّسْعُ: الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقمَّلُ والضفادِعُ والدَّمُ والطَّمْسَةُ والجَدْبُ في بَواديهم، والنُّقْصانُ في مزارِعهم" انتهى. وعلى هذا تكونُ "في" بمعنى "مع" لأنَّ اليدَ والعَصا حينئذٍ خارِجتان مِن التِّسْع، وكذا فعلَ ابنُ عطية، أعني أنه جَعَلَ "في تِسْع" متصلاً بـ"أَلْقِ" و"أَدْخِلْ" إلاَّ أنَّه جَعَلَ اليدَ والعَصا مِنْ جملةِ التسعِ. وقال: "تقديرُه نُمَهِّد لكَ ذلك، ونُيَسِّر في [جملةِ] تسعِ".
(11/245)
---(1/4502)
وجَعَلَ الزجاجُ أنَّ "في" بمعنى "مِنْ" قال: كما تقول: خُذْ لي من الإِبلِ عشراً فيها فَحْلان أي: منها فَحْلان".
قولُه: {إِلَى فِرْعَوْنَ} هذا متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به "في تسعِ"، إذا لم تَجْعَلْه حالاً، فإنْ جَعَلْناه حالاً عَلَّقْناه بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء "مُرْسَلاً إلى فرعون". وفيه نظرٌ؛ لأنَّه كونٌ مقيدٌ وسبَقَه إلى هذا التقديرِ الزجاجُ، وكأنهما أرادا تفسيرَ المعنى دونَ الإِعرابِ. وجَوَّزَ أبو البقاء أيضاً أن تكونَ صفةً لآيات، وقدَّره: "واصلةً إلى فرعونَ". وفيه ما تقدَّم.
* { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }
قوله: {مُبْصِرَةً}: حالٌ، ونَسَبَ الإبصارَ إليها مجازاً؛ لأنَّ بها تُبْصِرُ، وقيل: بل هي مِنْ أَبْصَرَ المنقولةِ بالهمزةِ مِنْ بَصِرَ أي: إنها تُبْصِرُ غيرَها لِما فيها من الظهور. ولكنه مجازٌ آخرُ غيرُ الأولِ، وقيل: هو بمعنى مفعول نحو: ماءٌ دافِقٌ أي: مَدْفُوق. وقرأ علي بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصادِ أي: على وزنِ "أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ" ذاتُ سِباع، ونصبُها على الحالِ أيضاً، وجَعَلها أبو البقاء في هذه القراءةِ [مفعولاً مِنْ أجله. وقد تَقَدَّم ذلك].
* { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
قوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَآ}: يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ معطوفةً على الجملةِ قبلَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ افعلِ "جَحَدُوا" وهو أبلغُ في الذَّمِّ. اسْتَفْعل هنا بمعنى تَفَعَّل نحو: اسْتَعظم واسْتَكْبر، بمعنى: تَعَظَّم وتَكَبَّر.
(11/246)
---(1/4503)
قوله: {ظُلْماً وَعُلُوّاً} يجوزُ أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ أي: ظالِمين عالِين، وأَنْ يكونا مفعولاً مِنْ أجلِهما أي: الحامِلُ على ذلك الظُّلْمُ والعُلُوُّ. وقرأ عبدالله وابن وثاب والأعمش وطلحة "وعِليَّاً" بكسر العينِ واللامِ، وقَلْبِ الواوِ ياءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في "عِتيَّا" في مريم. ورُوي عن الأعمش وابن وثاب ضمُّ العين كما في "عِتيّا". وقرىء و"غُلُوَّاً" بالغينِ مُعَجَمَةً، وهو قريبٌ من هذا المعنى.
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} "كيف" خبرٌ مقدمٌ "وعاقبةُ" اسمُها، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنها مُعَلِّقةٌ لـ"انْظُرْ" بمعنى تَفَكَّرْ.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله: {وَقَالاَ}: قال الزمخشري: فإن قلتَ: أليسَ هذا موضعَ الفاءِ دونَ الواو كقولك: "اَعْطَيْتُه فَشَكر" و"مَنَعْتُه فَصَبرَ"؟ قلت: بلى. ولكنَّ عَطْفَه بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاه بعضُ ما أَحْدَثَ فيهما إيتاءُ العِلْمِ وشيءٌ من مَواجبِهِ، فأضمرَ ذلك ثُمَّ عَطَفَ عليه التحميدَ، كأنه قال: ولقد آتيناهُما عِلْماً فَعَمِلا به، وعَلَّماه وعَرَفاه حَقَّ مَعْرِفَتِه وقالا: "الحمد" انتهى. وإنما نَكَّره "عِلْماً" تَعْظيماً له أي: علماً سَنِيَّاً، أو دلالةً على التبعيضِ لأنه قليلٌ جداً بالنسبةِ إلى عِلْمِه تعالى.
* { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }
قوله: {مِنَ الْجِنِّ}: وما بعَده بيانٌ لجنودِه، فيتعلَّق بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا لجارُّ حالاً، فيتعلَّقُ بمحذوففٍ أيضاً.
(11/247)
---(1/4504)
قوله: {يُوزَعُونَ} أي: يُمْنَعون ويُكَفُّون. والوَزْعُ: الكَفُّ والحَبْسُ، يقال: وَزَعَه يَزَعُهُ فهو وازِعٌ ومَوْزُوْع، وقال عثمان رضي الله عنه: "ما يَزَعُ السلطانُ أكثرُ مِمَّا يَزَغُ القرآنُ" وعنه:/ "لا بُدَّ للقاضي مِنْ وَزَغَةٍ"..
وقال الشاعر:
3544ـ ومَن لم يَزَغْه لُبُّه وحَياؤُه * فليس له مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْه وازِعُ
وقوله: {أَوْزِعْنِيا أَنْ أَشكُرَ} بمعنى: أَلْهِمْني، من هذا؛ لأن تحقيقَه: اجعلني أَزَعُ نفسي عن الكفر.
* { حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله: {حَتَّى إِذَآ}: في المُغَيَّا بـ"حتى" وجهان، أحدهما: هو يُوْزَعُون؛ لأنَّه مُضَمَّنٌ معنى: فهم يسيرون ممنوعاً بعضُهم مِنْ مفارقةِ بعضٍ حتى إذا. والثاني: أنَّه محذوفٌ أي: فسارُوا حتى. وتقدَّم الكلامُ في "حتى" الداخلةِ على "إذا" هل هي حرفُ ابتداءٍ أو حرفُ جرّ؟
قوله: "وادي" متعلقٌ بـ"أَتَوْا" وإنما عُدِّيَ بـ"على" لأنَّ الواقعَ كذا؛ لأنَّهم كانوا محمولْينَ على الرِّيح فهم مُسْتَعْلُون. وقيل: هو مِنْ قولِهم: أَتَيْتُ عليه، إذا اسْتَقْصَيْتَه إلى آخره والمعنى: أنهم قَطَعوا الواديَ كلَّه وبَلَغُوا آخرَه. ووقف القُراءُ كلُّهم على "وادٍ" دونَ ياءٍ اتِّباعاً للرَّسْمِ، ولأنها محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ السكانين في الوصلِ، ولأنها قد حُذِفَتْ حيث لم تُحْذَفْ لالتقاءِ السكانين نحو: {جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ} فَحَذُفها وقفاً ـ وقد عُهِدَ حَذْفُها دونَ التقاءِ ساكنين ـ أَوْلَى. إلاَّ الكسائيَّ فإنه وَقَفَ بالياء قال: "لأنَّ المُوْجِبَ للحذفِ إنما هو التقاءُ سكانين بالوصلِ، وقد زالَ فعاَدتِ اللامُ"، واعتَذَر عن مخالفةِ الرسمِ بقوةِ الأصلِ.
(11/248)
---(1/4505)
والنَّمْلُ اسمُ جنسٍ معروفٌ، واحده نَمْلة، ويقال: نُمْلَة ونُمْلٌ بضمِّ النونِ وسكونِ الميم، ونُمُلَةٌ ونُمُلٌ بضمهما ونَمُلَة بالفتح والضم، بوزن سَمُرة، ونَمُل بوزن رَجُل. واشتقاقُه من التنمُّلِ لكثرةِ حركتِه. ومنه قيل للواشي: المُنْمِل، يقال: أَنْمَلَ بين القومِ يُنْمِلُ أي: وَشَى، ونَمَّ لكثرةِ تَرَدُّدِه وحركتِه في ذلك، قال:
3545ـ ولَسْتُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ * ولا مُنْمِشٍ فيهمُ مُنْمِلُ
ويقال أيضاً: نَمَل يَنْمُلُ فهو نَمِل ونَمَّال. وتَنَمَّل القوم: تفرَّقوا للجمع تفرُّقَ النملِ. وفي المثل: "أجمعُ مِنْ نملة". والنَّّمْلَةُ أيضاً: فُرْجَةٌ تخرج في الجَنْب تشبيهاً بها في الهيئة، والنَّمْلَة أيضاً: شَقٌّ في الحافِر، ومنه: فَرَسٌ مَنْمولُ القوائم. والأَنْمُلَة طرفُ الإِصْبَعِ مِنْ ذلك لِدِقَّتِها وسُرْعَةِ حركتِها. والجمعُ: أَنامِل.
قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكرِ وعلى الأنْثى، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل: نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو: حَمامةٌ ويَمامةٌ. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه. أنه وقف على قتادةَ وهو يقول: سَلُوني. فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان: هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب. فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال: كانَتْ أنثى. واستدل بلَحاقِ العلامةِ. قال الزمخشري: "وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى، وهو وهي" انتهى.
(11/249)
---(1/4506)
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال: "ولَحاقُ التاءِ في "قالَتْ" لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر: "قالت نملة"؛ لأنَّ "نملة" وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه أخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس"، قال: "وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ. وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذ عَلِم أنَّ النلمةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين. ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى" قال: "وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ بـ"قالَتْ" ولو كان ذَكَراً لقيل: قال، فكلامُ النحاةِ على خِلافه، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى"، قال: "وأمَّات تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة، وأمَّا تمييزُه بـ هو وهي فإنه لا يجوزُ. لا تقول: هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو: المرأة، أو غيرِ العاقل كالدابَّة، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك، فيجوزُ أَنْ تَلحٌ العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية" انتهى.
(11/250)
---(1/4507)
أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ: من حيث إنَّ التأنيثَ: أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ البتة، بدليلِ أنه لا يجوز: "قامَتْ ربعةُ" وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز: قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً: وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه.
وأمَّا قوله: "وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ" يعني: لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ. قد يمكن الاطلاعُ على ذلك، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ. ومَنْعُه أيضاً أن يقال: هو الشاةُ، وهو الحمامة، ممنوعٌ.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة. وسليمان التميمي بضمتين فيهما. وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ.
(11/251)
---(1/4508)
قوله: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه نهيٌ. والثاني: أنه جوابٌ للأمرِ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان، أحدُهما: أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإعرابُ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي: لا تكونوا بحيث يُحْطِموْنَكُمْ كقولهِم: "لا أُرَيَنَّك ههنا". والثاني: أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه، وهي ادْخلوا. وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال: "فإنْ قلتَ: لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل: يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاَ من الأمرِ. والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أ،ه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيَحْطِمَنَّكم، على طريقةِ "لا أُرَيَنَّك ههنا" أرادَتْ: لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان، فجاءت بما هو أبلغُ. ونحوُه "عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها". قال الشيخ: أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمرِ فإنه مجزومٌ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي" قلت: يعني أنَّ الأعمشَ قرأ "لا يَحْطِمْكم" بجزم الميمِ، دونَ نونِ توكيدٍ.
قال: وأمَّا مع جودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ. وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ. ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر:
3546ـ نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى * حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا
وقول الآخر:
3547ـ فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ * ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا
(11/252)
---(1/4509)
قال سيبويه: "وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب" قال: "وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ "لا يَحْطِمَنَّكم" مخالِفٌ لمدلولِ "ادْخُلوا". وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى: لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ. نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ: لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرض. وأمَّا قوله: "إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه" فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ، بل الظاهرُ إاسنادُ الحكمِ إلى سلمانَ وإلى جنودِه. وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيلُ سليمانَ وجنودُه، أو نحو ذلك، مما يَصِحُّ تقديره". انتهى.
أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال: "وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار". وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى. وأمَّا كقوله: "فيُسَوَّغُ زيادةَ الأسماءِ" لم يُسَوِّغ ذلك، وإنما فَسَّر المعنى. وعلى تقدير ذلك فقد قيل به. وجاء الخطابُ في قولها: "ادْخُلوا" كخطابِ العقلاء لَمَّال عُوْمِلوا معاملتَهم.
(11/253)
---(1/4510)
وقرأ اُبَيٌّ "ادْخُلْنَ"، "مَساكِنَكُّنَّ"، "لا يَحْطِمَنْكُنَّ" بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب "مَسْكَنَكُمْ" بالإِفراد. وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ، وفتحِ الحاءِ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد. وعن الحسن أيضاً قراءاتان: فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها. والأصل: لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم. وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في "لا يَهِدِّي" ونحوِه. وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية. الحَكْمُ: الكَسْر. يقال: منه: حَطَمْتُه فحَطِمَ ثم اسْتُعمِل لكلِّ كَسْرٍ مُتَناهٍ. والحُطامُ: ما تكسَّر يُبْساً، وغَلَبَ على الأشياءِ التافهةِ. والحُطَمُ: السائق السريع كأنه يَحْطِمُ الإِبل قال:
3548ـ قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ * ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ
ولا بَجَزَّارٍ على ظهرِ وَضَمْ
والحُطَمَةُ: من ذَرَكاتِ النار. ورجلٌ حُطَمة: للأكولِ. تشبيهاً لبطنه بالنارِ كقوله:
3549ـ كأنمَّا في جَوْفِه تَنُّوْرُ
* { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيا أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِيا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }
قوله: {ضَاحِكاً}: قيل: هي حالٌ مؤكدةٌ؛ لأنَّها مفهومةٌ مِنْ تَبَسَّمَ. وقيل: بل هي حالٌ مقدرةٌ فإنَّ التبسُّمَ ابتداءُ الضحكِ. وقيل: لَمَّا كان التبسُّمُ قد يكون للغَضَبِ، ومنه: تَبَسَّم تَبَسُّمَ الغَضْبانِ، أتى بضاحكاً مبيِّناً له. قال عنترة:
3550ـ لمَّا رآني قد قَصَدْت أُرِيْدُه * أبْدى نواجِذَه لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتَبَسَّمَ تفعَّل، بمعنى بَسَمَ المجرد. قال:
(11/254)
---(1/4511)
3551ـ وتَبْسِمُ عن أَلْمَى كأن مُنَوَّراً * تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ له نَدِي
وقال بعض المُوَلَّدين:
3552ـ كأنَّما تَبْسِمُ عن لؤلؤٍ * مُنَضَّدٍ أو بَرَدٍ أو أَقَاحِ
وقرأ ابن السمفيع "ضَحِكاً" مقصوراً. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى تَبَسَّم لأنه بمعناه. الثاني: أنه في موضع الحالِ فهو في المعنى كالذي قبله. الثالث: أنه اسمُ فاعل كفَرِح؛ وذلك لأنَّ فِعْلَه على فَعِل بكسر العين وهو لازم فَهو كفَرحِ وبَطرِ.
قوله: {أَنْ أَشْكُرَ} مفعولٌ ثانٍ لأَوْزِعْني لأنَّ معناه أَلْهِمْني. وقيل: معناه اجْعَلني أَزَعُ شكرَ نعمتك أي: أكُفُّه وأمنعُه حتى لا ينفلتَ مني، فلا أزال شاكراً. وتفسير الزَّجاج له بـ"امْنَعْني أن أكفَر نعمتَك" من بابِ تفسيرِ المعنى باللازم.
* { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ }
قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ}: هذا استفهامُ توقيفٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء القَلْب، وأنَّ الأصلَ: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قويٌّ دونه. والهُدْهُدُ معروفٌ. وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس. وزعم بعضُ النوحويين أنه تُقْلَبُ ياءُ تصغيره ألفاً، فيقال: هُداهِد. وأنشد:
3553ـ كهُداهدٍ كَسَرَ الرماةُ جناحَه * يَدْعو بقارعةِ الطريق هَدِيْلا
كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة، في: دَوَيْبَّة وشُوَيْبَّة. ورَدَّه بعضُهم: بأن الهُداهِد الحَمامُ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ. تزعُمُ العربُ أن جارحاً في زمان الطُّوفانِ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل. قالوا: فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل.
(11/255)
---(1/4512)
قوله: {أَمْ كَانَ} هذه "أم" المنطقعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها. وقال أبن عطية: "قوله مالي لا أرى الهدهد" مَقْصَدُ الكلامِ: الهُدْهُدُ غاب، وكلنه أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه: وهو أَنْ لا يَراه، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ عن اللازمِ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز. والاستفهامُ الذي في قولهِ "مالي" نابَ منابَ الألفِ التي تحتاجُها أم". قال الشيخ: "فظاهرُ كلامِه أنَّ "ام" متصلةٌ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله "مالي" ناب منابَ ألفِ الاستفهام. فمعناه: أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ، ولم أَشْعُرْ بغَيْبَتِه؟". قلت: لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ.
* { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }
قوله: {عَذَاباً}: أي: تَعْذِيباً، فهو اسمُ مصدرٍ أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد كـ{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}. وقد كتبوا "أو لأَاذْبَحَنَّه" بزيادةِ ألفٍ بين لامِ ألفٍ والذال. ولا يجوز أن يُقرأ بها. وهذا كما تقدم أنهم كتبوا "ولأَاوْضَعوا خلالَكم" بزيادة ألف بين لام ألف والواو.
قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} قرأ ابنُ كثيرٍ بنون التوكيد المشددة، بعدها نونُ الوقايةِ. وهذا هو الأصلُ واتَّبع مع ذلك رَسْمَ مصحِفه. والبقاون بنونٍ مشدَّدَةٍ فقط. الأظهرُ نونُ التوكيدِ الشديدةِ، تُوُصِّل بكسرِها لياءِ المتكلم. وقيل بل هي نونُ التوكيدِ الخفيفةِ أُدْغِمَتْ في نونِ الوقايةِ. وليس بشيءٍ لمخالَفَةِ الفعلين قبلَه. وعيسى بن عمر بنونٍ مشددةٍ مفتوحة لم يَصِلْها بالياء.
* { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }
(11/256)
---(1/4513)
قوله: {فَمَكَثَ}: قرأ عاصم بفتحِ الكافِ. والباقون بضمِّها. وهما لغتان. إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ، ولذلك جاءت الصفة على "ماكِث" دون مَكِيْث. واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو: حَمُض فهو حامِض، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ.
قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يجوُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي: مُكْثاً غيرَ بعيدٍ، وللزمان أي: زماناً غيرَ بعيدٍ، وللمكان أي: مكاناً غيرَ بعيدٍ. والظاهرُ أنَّ الضمير في "مكث" للُهدْهُدِ. قيل: لسليمان عليه السلام.
قوله: {مِن سَبَإٍ}: قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ، جعلاه اسماً للقبيلة، أو البُقْعَةِ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث. وعليه قولُه:
3554ـ مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ * يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما
وقرأ قبنل بسكونِ الهمزةِ، كأنه نوى الوقفَ وأَجْرَى الوَصْلَ مُجْراه. والبقاون بالجَرِّ والتنوينِ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ. وعليه قولُه:
3555ـ الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَاٍ * قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ
وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ. وفي قوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} فيه من البديع: "التجانُسُ" وهو تَجْنيسُ التصريفِ. وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ. ومثلُه: {تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} وفي الحديث: "الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ
". وقال آخر:
3556ـ للهِ ما صَنَعَتْ بنا * تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ
(11/257)
---(1/4514)
وقال الزمخشري: "وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع. وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً ومعنىً. وألا ترى أنه لو وُضِع مكان "بنَبأ" "بخبر" لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصَحٌّ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال". يريد بالزيادة: أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ، وعلى ما لا شأنَ له، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ. وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} في علم البديع بالتَّرْدِيد. قال صاحب "التحرير". وقال غيرُه: إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني. فمثالُ الأولِ قولُه:
3557ـ سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه * وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ
ومثالُ الثاني قولُه:
3558ـ والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ * والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
(11/258)
---(1/4515)
وقرأ ابن كثير في رواةٍ "مِنْ سَبَاً" مقصوراً منوَّناً. وعنه أيضاً: "مِنْ سَبْأَ" بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم. وعن الأعمش "مِنْ سَبْءِ" بهمزةِ مكسورةٍ غير منونةٍ. وفيها إشكالٌ؛ إلا لا وجهَ للبناء، والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء، والذي يظهر لي أنَّ تنونَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء، فسمعها الراوي، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ. ورُوِيَ عن أبي عمروٍ "مِنْ سَبَا" بالألفِ صريحةً كقولِهم: "تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا". وكذلك قُرِىء "بنَباَ" ألفٍ خالصةٍ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ.
و"سَبَأ" في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ، واسمه عبد شمس، وسَبَأُ لقبٌ له. وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سَبى، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ، تيامَنَ ستةٌ وهم: حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم: لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ.
* { إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
قوله: {وَأُوتِيَتْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على "تَمْلِكُهم". وجاز عَطْفُ الماضي على المضارع؛ لأنَّ المضارعَ بمعناه أي: مَلَكَتْهُمْ. ويجوز أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ "تَمْلِكُهم"، و"قد" معها مضمرةٌ عند مَنْ يَرَى ذلك.
وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عامٌّ مخصوصٌ بالعَقْلِ لأنهعا لم تُؤْتَ ما أُوْتِيَه سُلَيْمانُ.
(11/259)
---(1/4516)
قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً بنفسِها سِيْقَتْ للإِخبارِ بها، وأَنْ تكونَ معطوفةً على "أُوْتِيَتْ"، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ "أُوْتِيَتْ". والأحسنُ أَنْ تُجْعَلَ الحالٌ الجارَّ، و"عَرْشٌ" مرفوعٌ به، وبعضُهم يَقِفُ على"عَرْشٌ"، ويَقْطَعُه عن نَعْتِه. قال الزمخشري: "ومِنْ نَوْكَى القُصَّاص مَنْ يقفُ على قولِه: {وَلَهَا عَرْشٌ} ثم يَبْتَدِىءُ "عظيمٌ وَجَدْتُها" يريد: أمرٌ عظيمٌ أَنْ وَجَدْتُها، فَرَّ مِنْ استعظامِ الهُدْهُدِ عرشَها فوقع في عظيمةٍ وهي مَسْخٌ كتابِ الله". قلت: النَّوْكَى: الحَمْقَى جمعَ أَنْوكِ. وهذا الذي ذكرَه مِنْ أَمْرِ الوقف نقله الدانيُّ عن نافعٍ، وقَرَّره، وأبو بكر بن الأنباري، ورفعه إلى بعضِ أهل العلمِ، فلا ينبغي أَنْ يُقال: "نَوْكَى القُصَّاص". وخرَّجه الدانيُّ على أَنْ يكونَ "عظيم" مبتدأ و"وَجَدْتُها" الخبرُ. وهذا خطأٌ كيف يُبْتدأ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ، ويُخْبَرُ عنها بجملةٍ لا رابطَ بينها وبينَه؟ والإِعرابُ ما قاله الزمخشريُّ: مِنْ أنَّ عظيماً صفةٌ لمحذوفٍ خبراً مقدماً [و"وَجَدْتُها" مبتدأٌ مؤخرٌ مُقَدَّراً معه حرفٌ مصدريٌّ أي: أمرٌ عظيمٌ وُجْداني إياها وقومَها غيرَ عابدي اللهِ تعالى.
* { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ }
* {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
قوله: {وَجَدتُّهَا}: هي التي بمعنى لَقِيْتُ] وأَصَبْتُ/ فتتعدَّى لواحدٍ، فكيونُ "يَسْجُدون" حالاً مِنْ مفعولِهما وما عُطِفَ عليه.
(11/260)
---(1/4517)
قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ}: قرأ الكسائيُّ بتخفيف "ألا"، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ فـ"ألا" فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و"يا" بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و"اسْجُدوا" فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطَّ على هذه القراءةِ أن يكونَ "يا اسْجُدوا"، لكنَّ الصحابةَ اسقطُوا ألفَ "يا" وهمزةَ الوصلِ من "اسْجُدوا" خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين "اسْجُدوا"، فصارَتْ صورتُه "يَسْجُدوا" كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في "يا" هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادَى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه: يا لَيْتَني" في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءٍ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادَى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما أذا جَعَْلتَها للتبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو "ألا". وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:
3559ـ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به * ......................
فغيرُ العامِلَيْن أَوْلَى. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:
3560ـ فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي * ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ
فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ "يا" لفعلِ الأمرِ وقبلَها "ألا" التي للاستفتاح كقوله:
3561ـ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي * ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي
وقوله:
3562ـ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى * ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْ عائِكِ القَطْرُ
وقوله:(1/4518)
(11/261)
---
3563ـ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ * وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ
وقوله:
364ـ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ * وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ
وقوله:
3565ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ ابي بكرِ * لعل منايا نا قَرُبْنَ ولا نَدْري
وقوله:
3566ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ * ............................
وقوله:
3567ـ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ * فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي
وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها "ألا" كقوله:
3568ـ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي * بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةٍ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:
3569ـ يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ * والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادى محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على "يَهْتَدون" تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على "ألا يا " معاً ويَبْتَدىءَ "اسْجُدوا" بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على "ألا" وحدَها، وعلى "يا" وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةٍ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
(11/262)
---(1/4519)
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ "ألاَّ" أصلُها: أَنْ لا، ف"أنْ" ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و"لا" بعدها حَرفُ نفيٍ. و"أنْ" وما بعدها في موضع مفعولِ "يَهْتَدون" على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و"لا" مزيدةٌ كزيادتِها في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}. الثاني: أنه بدلٌ مِ،ْ "أعمالَهم" وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من "السبيل" على زيادة "لا" أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى. الرابع: أنَّ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بـ"صَدَّهم" أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي "لا" حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنى: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على "أعمالَهم" التقديرُ: هي لا يَسْجدوا، فتكون "لا" على بابِها من الفني، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على "السبيل". التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون "لا" مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على "يَهْتدون" لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ "زَيَّن" و"صَدَّ"، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ "أعمالَهم" أو من "السبيل" على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.
(11/263)
---(1/4520)
وقد كُتِبَتْ "ألاَّ" موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ "أنْ" منفصِلةً مِنْ "لا" فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على "أنْ" وحدَها لاتِّصالِها بـ"لا" في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على "ألاَّ" بجملتِها، كذا قال القُراء. والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً بـ"لا" غيرُ مانعٍ من ذكل. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها بـ"لا"، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِض التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: "فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جمعياً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك". فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، وعلى أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيَّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد ـ وهو الظاهرُ ـ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يَخْفى.
(11/264)
---(1/4521)
وقرأ الأعمشُ "هَلاَّ"، و"هَلا" بقلب الهمزة هاءً مع تشديد "لا" وتخفيفها وكذا هي مي مصحفِ عبدالله. وقرأ عبدُ الله "تَسْجُدون" بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: "ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث" وفي حرف عبدِالله أيضاً: "ألا هَلْ تَسْجدُون" بالخطاب.
قوله: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً، أو منصوبَة/ على المدحِ، ومرفوعَه على خبر ابتداءٍ مضمرٍ. والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي: سَتَرْتُهُ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء. ونحُوه: {هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ}. وفي التفسير: الخَبْءُ في السمواتِ: المطرُ، وفي الأرض: النباتُ. والخابِيَةُ مِنْ هذا، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة عند بعضِهم. وقرأ أُبَيٌّ وعيسى "الخَبَ" بنَقْلِ حركةٍ الهمزةِ إلى الباءِ، وحَذْفِ الهمزة، فيصيرُ نحوَ: رأيتُ الأَب. وقرأ عبدالله وعكرمةُ ومالك بن دينار "الخبا" بألفٍ صريحة. ووجْهُها: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً فلزِمَ تحريكُ الباءِ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِشفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول: هذا الخَبُوْ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي، ثم أُجْرِي الوصلُ مُجْرَى الوقفِ. وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةٍ ما قبلها، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون: المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ.
(11/265)
---(1/4522)
وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال: "لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقى حركتَها على الباء، فقال: الخَبَ، وإن حَوَّلها قال: الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها" قال المبرد: "كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ، لم يَلْحَقْ بهم، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه".
قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"الخَبْءَ" أي؟: المخبوءَ في السمواتِ. والثاني: أنه متعلقٌ بـ"يُخْرِجُ" على أنَّ معنى "في" معنى "مِنْ" أي: يُخْرِجُه من السمواتِ. وهو قول الفراء.
قوله: {مَا تُخْفُونَ} قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ. فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به. والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ ـ غيرَ حفصٍ ـ ظاهرةٌ أيضاً؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله: "لهم" و"أعمالهم" و"صَدَّهم" و"فهمْ". وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ أهلِ سَبَأ. ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه.
وقال ابن عطية: "القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم". وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً. وكذلك الخلافُ في قولِه {اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه، لَمَّا وَصَفَ عَرْشضَ بلقيسَ العظيمَ، أو من كلامِ اللهِ تعالى رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها العظيم؟.
* { اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }
(11/266)
---(1/4523)
والعامَّةُ على جرِّ "العظيم" تابعاً للجلالة. وابن محيصن بالرفعِ. وهو يحتمل وجهين. أن يكونَ نعتاً للربِّ، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عن تبعيَّةِ العرش إلى الرفعِ بإضمارِ مبتدأ.
* { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ}: الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ بـ"نَنْظُرُ" لأنها معلَّقةٌ لها. و"أم" هنا متصلةٌ. وقوله: {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أبلَغُ مِنْ قولِه: "أم كَذَبْتَ" وإنْ كان هو الأصلَ؛ لأنَّ المعنى: مِن الذين اتَّصفوا وانْخَرَطوا في سِلْكِ الكاذبين.
* { اذْهَب بِّكِتَابِي هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }
قوله: {هَاذَا}: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لـ"كتبي" أو بدلاً منه أو بياناً له.
قوله: {فَأَلْقِهْ} قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه. وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ. والباقون بالصلة بلا خلاف. وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} و{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}. وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ: "فَأَلْقِهُوْ إليهم" وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ.
[قوله:] "ثم تَوَلَّ عنهم" زعم أبو على وغيرُه أنَّ في الكلام تقديماً وأن الأصلَ: فانظرْ ماذا يَرْجِعون ثم تَوَلَّ عنهم. ولا حاجةَ إلى هذا [لأن المعنى بدونِه صحيحٌ أي: قِفْ قريباً منهم لتنظرَ ماذا يكون].
(11/267)
---(1/4524)
قوله: {مَاذَا يَرْجِعُونَ} إنْ "انظر" بمعنى تأمَّلْ وتَفَكَّرْ كانت "ما" استفهاميةً. وفيها حينئذٍ وجهان،/ أحدُهما: أَنْ تُجْعَلَ مع "ذا" بمنزلةِ اسمٍ واحد، وتكونُ مفعولةً بـ"يَرْجِعُون" تقديرُه: أيَّ شيء يَرْجِعون. والثاني: أن تُجْعل "ما" مبتدأً، و"ذا" بمعنى الذي و"يَرْجِعُون" صلتَها، وعائدُها محذوفٌ تقديرُه: أيُّ شيء الذي يَرْجِعونه. وهذا الموصولُ هو خبر "ما" الاستفهامية، وعلى التقديرين فالجملة الاستفهاميةُ مُعَلَّقَةُ لـ"انْظُرْ" فمحلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ أي: انْظُرْ في كذا وفَكِّر فيه، وإنْ جَعَلْناه بمعنى انتظرْ مِنْ قوله: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} كانت "ماذا" بمعنى الذي، و"يَرْجِعون" صلةٌ، والعائدُ مقدرٌ كما مرَّ تقريرُه. وهذا الموصولُ مفعولٌ به أي: انتظر الذي يَرْجِعونه.
وقال الشيخ: "وماذا: إنْ كان معنى "انظرْ" معنى التأمُّلِ بالفكر كان "انظر" مُعَلَّقاً. و"ماذا" إمَّا أَنْ يكونَ استفهاماً في موضعِ نصبٍ، وإمَّا أَنْ يكونَ "ما" استفهاماً، وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأولِ يكونُ "يَرْجِعون" خبراً عن "ماذا"، وعلى الثاني يكون "ذا" هو الخبرََ، وَيَرْجِعُون صلة" انتهى.
(11/268)
---(1/4525)
وهذا غَلَطٌ: إمَّا من الكاتبِ، وإمَّا مِنْ غيرِه؛ وذلك أنَّ قولَه "فعلى" الأولِ" يعني به أنَّ "ماذا" كلَّه استفهامٌ في موضع نصبٍ يمنعُ قولَه: "يَرْجِعون" خبرٌ عن "ماذا". كيف يكون خبراً عنه وهو منصوبٌ به كما تقدَّم تقريرُه؟ وقد صَرَّح هو بأنه منصوبٌ يعنى بما بعدَه، ولا يعملُ فيه ما قبلَه. وهذا نظيرُ ما تقدَّم في آخرِ السورةِ قبلَها في قولِه: {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} في كونِ اسمِ الاستفهامِ معمولاً لِما بعدَه، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله، فكما حَكَمْتَ على الجملةِ مِنْ "يَنْقَلِبُوْن" وما اشتملَتْ عليه من اسمِ الاستفهامِ المعمولِ لها بالنصبِ على سبيلِ التعليقِ، كذلك تَحْكُمُ على "يَرْجِعُون" فكيف تقول: إنها خبرٌ عن "ماذا".
* { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ }
قوله: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ}: العامَّةُ على كسرِ الهمزتين على الاستئنافِ جواباً لسؤالِ قومِها كأنَّهم قالوا: مِمَّن الكتابُ؟ وما فيه؟ فأجابَتْهم بالجوابَيْن.
وقرأ عبدالله "وإنَّه مِنْ سليمانَ" بزيادةِ واوٍ عاطفةٍ "إنه من سليمان" على قولِه: {إِنِّيا أُلْقِيَ إِلَيَّ}. وقرأ عكرمةُ وابن أبي عبلةَ بفتح الهمزتين. صَرَّح بذلك الزمخشري وغيرُه، ولم يذكر أبو البقاء إلاَّ الكسرَ في "إنه من سليمان"، وكأنه سكتَ عن الثانيةِ؛ لأنها معطوفةٌ على الأولى. وفي تخريجِ الفتح فيهما أوجهٌ، أحدُهما: أنه بدلٌ من "كتاب" بدلُ اشتمالٍ، أو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، كأنه قيل: أُلْقِي إليَّ أنه من سليمانَ، وأنه كذا وكذا. وهذا هو الأصحُّ. والثاني: أنه مرفوعٌ بـ"كريمٌ" ذكره أبو البقاء، وليس بالقويِّ. الثالث: أنه على إسقاطِ حرفِ العلةِ. قال الزمشخري: "ويجوز أَنْ تريدَ: لأنه مِنْ سليمانَ، ولأنَّه، كأنها عَلَّلَتْ كرمَه بكونِه من سليمان وتصديرَه باسم الله".
(11/269)
---(1/4526)
قال مكي: "وأجاز الفراء الفتحَ فيهما في الكلامِ" كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ.
وقرأ أُبَيٌّ "أَنْ مِنْ سليمانَ، وأنْ بسمِ اللهِ" بسكون النون فيهما. وفيها وجهان، أظهُرهما: أنَها "إنْ" المفسرةُ، لتقدُّم ما هو بمعنى القول. والثاني: أنَّها المخففةُ، واسمُها محذوفٌ وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين؛ لأنَّ اسمَها لا يكونُ إلاَّ ضميرَ شأنٍ، وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍ بُجُزْأَيْها.
* { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }
(11/270)
---(1/4527)
قوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ "أنْ" مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في "أنْ" قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه "وَأْتُوْني". والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ "كتاب" كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ. والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ "لا" في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ "أَنْ" المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: "وأَنْ في قولِه: "أن لا تَعْلُوا عليَّ" في موضع رفعٍ على البدلِ من "كتاب". وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى]: بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون "أنْ" ناصبةً للفعل". قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد "أَنْ" الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشرينِّ فإنه قال: "وقال الزمخشريُّ: وأنْ في "أَنْ لا تَعْلُوا" مفسرةٌ" قال: "فعلى هذه تكون "لا" في "لا تَعْلُوا" للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه". فقوله: "فعلى هذا" إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا ـ يعني الوجهين المتقدمين ـ ليست للنهي فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي "تَغْلُوا" بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.
* { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ }
(11/271)
---(1/4528)
قوله: {مَاذَا تَأْمُرِينَ}: "ماذا" هن والمفعولُ الثاني لـ"تَأْمُرين"، والأولُ محذوفٌ، تقديره: تَأْمُرِيْنَنَا. والاستفهامُ مُعَلِّق للنظرِ، ولا يَخْفى حكمُه ممَّا تقدَّم قبلَه.
* { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوااْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ }
قوله: {وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ}: أي: مِثْلَ ذلك الفعلِ يَفْعلون. وهل هذه الجملةُ مِنْ كلامِها ـ وهو الظاهرُ ـ فتكونُ منصوبةً بالقولِ أو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، فهي استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وهي معترضَةٌ بين قَوْلَيْها؟
* { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ }
والهَدِيَّةُ: ما بُعِثَ على جهةِ الإِكرامِ، وهي اسمٌ للمُهْدَى فيحتمل أَنْ يكونَ اسماً صريحاً، ويُحتملُ أَنْ يكونَ في الأصلِ مصدراً أُطْلِقَ على اسمِ المفعولِ، وليسَتْ مصدراً قياسياً؛ لأنَّ الفعلَ منها "أَهْدَى" رباعياً فقياسُ مصدرِه: إهداءً.
قوله: {فَنَاظِرَةٌ}: عطفٌ على "مُرْسِلَة". و"بمَ" متعلقٌ بـ"يَرجِعُ". وقد وَهِمَ الحوفيُّ فجعَلَها متعلقةً بـ"ناظِرَةٌ" وهذا لا يستقيمُ؛ لأنَّ اسمَ الاستفهامِ له صدرُ الكلامِ. "وبمَ يَرْجِعُ" مُعَلِّقٌ لـ"ناظِرَةٌ".
* { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }
قوله: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ}: أي: فلمَّا جاء الرسولُ، أضمرَه لدلالةِ قَولِها "مُرْسِلَةٌ" فإنه يَسْتَلْزِمُ رسولاً. والمرادُ به الجنسُ لا حقيقةُ رسولٍ واحدٍ بدليلِ خطابِه لهم بالجمع في قوله: "أتُمِدُّونَنِ" إلى آخره. ولذلك قرأ عبدالله "فلمَّا جْاؤُوا" وقرأ "فارْجِعوا" إليهم اعتباراً بالأصلِ المشارِ إليه.
(11/272)
---(1/4529)
قوله: {أَتُمِدُّونَنِ} استفهامُ إنكارٍ. وقرأ حمزةُ بإدغام نونِ الرفع في نونِ الوقايةِ. وأمَّا الياءُ فإنه يَحْذِفُها وقفاً ويُثْبِتُها وصلاً على قاعدتِه في الزوائد. والباقون بنونَيْنِ على الأصل. وأمَّا الياءُ فإنَّ نافعاً وأبا عمروٍ كحمزةَ يُثْبِتانها وصلاً ويَحْذِفانها وَقْفاً، وابنُ كثيرٍ يُثْبِتُها في الحالَيْن، والباقون يَحْذِفونها في الحالَيْن. ورُويَ عن نافعٍ أنه يَقْرأ بنونٍ واحدة، فتكمَّلَتْ ثلاثُ قراءات، كما في {تَأْمُرُونِّيا أَعْبُدُ
}. قال الزمخشري: "فإن قلتَ ما الفرق بين قولِك: أتُمِدُّونني بمال وأنا أَغْنى منكم، وبين أَنْ تقولَه بالفاء؟
قلت: إذا قلتُه بالواوِ فقد جَعَلْتُ مخاطَبي عالماً بزيادتي عليه في الغِنَى، وهو مَعَ ذلك يَمُدُّني بالمال. وإذا قُلْتُه بالفاءِ فقد جَعَلْتُه مِمَّن خَفِي عليه حالي، وإنما أُخْبِره الساعةَ بما لا أَحْتاجُ معه إلى إمدادهِ كأني أقولُ: أُنْكِرُ عليك ما فَعَلْتَ فإني غَنِيٌّ عنه، وعليه وَرَد قولُه: {فَمَآ آتَانِي اللَّهُ} انتهى. وفي هذا الفرِق نَظَرٌ؛ إذ لا يُفهم ذلك بمجردِ الواوِ والفاءِ، ثم إنه لم يُجِبْ عن السؤال الأول: وهو أنه لِمَ عَدَلَ عن قوله: "وأنا أَغْنَى منكم" إلى قوله: {فَمَآ آتَانِي اللَّهُ}؟ وجوابُه: أنه أًُسْنِدَ إيتاءُ الغِنَى إلى اللهِ إظهاراً لنعمتِه عليه، ولو قال: وأنا وأَغْنى منكم، كان في افتخارٌ من غيرِ ذِكْرٍِ لنعمةِ اللهِ عليه.
قوله: {بَلْ أَنتُمْ} إضرابُ انتقالٍ. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: فما وجه الإِضرابِ؟ قلت: لَمَّا أَنْكر عليهم الإِماداَ، وعَلَّل إنكارَه، أَضْرَبَ عن ذكل إلى بيان السببِ الذي حَمَلَهم عليه، وهو أنَّهم لا يَعْرِفُون سببَ رضا إلاَّ ما يُهْدَى إليهم/ من حُظوظِ الدنيا اليت لا يَعْرِفُون غيرُها. والهديَّة يجوزُ إضافتُه إلى المُهْدي. وإلى المُهْدَى إليه وهي هنا محتملةٌ للأمرَيْن".
(11/273)(1/4530)
---
قال الشيخ: "وهي هنا مضافةٌ للمُهْدَى إليه. وهذا هنو الظاهرُ. ويجوز أَنْ تكونَ مضافةً إلى المُهْدِي أي: بل أنتم بهديَّتِكم هذه التي أَهْدَيْتُموها تَفْرَحُوْنَ فَرَحَ افتخارٍ". قلت كيف يَجْعَلُ هذا الأولَ هو الظاهرَ، ولم يُنْقَلْ أنَّ سليمان صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم هديةً في هذه الحالةِ حتى يُضيفَها إليهم؟، بل الذي يتعيَّن إضافتُها إلى المُهْدِي.
* { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }
قوله: {ارْجِعْ}: الظاهرُ أنَّ الضميرَ يعودُ على الرسولِ. وتقدَّمَتْ قراءةُ عبدِ الله "ارْجِعُوا". وقيل: يعودُ على الهُدْهُدِ.
قوله: {لاَّ قِبَلَ}: صفةٌ لـ"جُنودٍ" ومعنى لا قِبَلَ: لا طاقَةَ. وحقيقتُها لا مقابلةَ. والضميرُ في "بها" عائدٌ على "جنود" لأنه جمعُ تسكيرٍ فيجري مَجْى المؤنثةِ الواحدةِ كقولهِم: "الرجال وأَعْضادُها".
وقرأ عبدالله "بهم" على الأصلِ.
وقوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حالٌ ثانيةٌ. والظاهرُ أنها مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ "اَذِلَّة" تُغْني عنها. إنْ قيل: قولُه: "فَلَنَأْتِيَنَّهم" و"لنُخْرِجَنَّهُمْ" قسمٌ فلا بدَّ أن يقعَ. فالجوابُ: أنه مُعَلَّقٌ على شرطٍ حُذِفَ لفَهْمِ المعنى أي: إنْ لم يأْتُوْني مُسْلِمين.
* { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }
قوله: {عِفْرِيتٌ}: العامَّةُ على كسرِ العينِ وسكونِ الياء بعدها تاءٌ مجبورةٌ. وقرأ أبو حيوةَ بفتح العينِ. وأبو رجاء وأبو السَّمَّال ـ ورُوِيَتْ عن أبي بكر الصدِّيق ـ "عِفْرِيَةٌ" بياءٍ مفتوحةٍ بعدها تاءٌ التأنيثِ المنقلبةُ هاءً وَفْقاً. وأنشدوا على ذلك قولَ ذي الرمة:
3570ـ كأنه كوكبٌ في إِثْر عِفْرِيَةٍ * مُصَوَّبٌ في سوادِ الليلِ مُنْقَضِبُ
(11/274)
---(1/4531)
وقرأَتْ طائفةٌ "عِفْرٌ" بحذفِ الياء والتاء. فهذه أربعُ لغاتٍ، وقد قُرِىء بهِنَّ. وفيه لغتان أُخْرَيان وهما عَفارِيَة، وطيِّىء وتميمٌ يقولون: عِفْرَى بألفِ التأنيثِ كذِكْرَى. واشتقاقُه من العَفْرِ وهو الترابُ يقال: عافَرَه فَعَفَرَه أي صارَعَه فَصَرَعَه، وألقاء في العَفْرِ وهو الترابُ. وقيل: من العُفْر وهو القُوَّةُ، والعِفْريتُ من الجنِّ المارِدُ الخبيثُ. ويقال: عِفْريت نِفْريت وهو إتْباعٌ كشَيْطان لَيْطان، وحَسَن بَسَن. ويُستعار للعارِمِ من الإِنس، ولاشتهارِ هذه الاستعارةِ وُصِفَ في الآيةِ بكونِه من الجِنِّ تمييزاً له. وقال ابن قتيبة: "العِفْرية: المُوَثَّقُ الخَلْقِ" وعِفْرِيَةُ الدِّيكِ والحُبارَى: الشَّعْر الذي على رأسِهما، وعِفِرْنَى للقويِّ، ورجلٌ عِفِرّ بتشديدِ الراءِ للمبالغةِ مثل: شَرٌّ شِمِرٌّ.
* { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }
قوله: {أَنَاْ آتِيكَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ فعلاً مضارعاً، فوزنُه أفْعِلُ نحو: أَضْرِبُ، والأصل أَاْتِيْك بهمزتين، فَأُبْدلت الثانيةُ ألفاً، وأن يكونَ اسمَ فاعِلٍ، وزنُه فاعِل والألفُ زائدةٌ، والهمزةُ أصليةٌ عكسُ الأول. وأمالَ حمزةُ "آتِيْكَ" في الموضعين من هذه السورةِ بخلافٍ عن خَلاَّد.
قوله: {طَرْفُكَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه الجَفْنُ. عَبَّر به عن سُرْعةِ الأمرِ. وقال الزمخشري: "هو تحريكُ أجفانِك إذا نظرْتَ فوُضِعَ مَوْضِعَ النظرِ". والثاني: أنه بمعنى المَطْروفِ أي: الشيء الذي تَنْظُره. والأولُ هو الظاهرُ؛ لأنَّ الطَّرْفَ قد وُصِفَ بالإِرسال في قولِه:
(11/275)
---(1/4532)
3571ـ وكنتَ متى أرسَلْتَ طرفَك رائداً * لقلبِك يوماً أَتْعَبَتْكَ المناظِرُ
رأيتُ الذي لا كلُّه أنت قادِرٌ * عليه ولا عَنْ بَعْضِه أنتَ صابرُ
قوله: {مُسْتَقِرّاً} حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ. و"عنده" معمولٌ له. لا يُقال: إذا وقع الظرفُ حالاً وَجَبَ حَذْفُ متعلَّقِه فكيف ذُكِرَ هنا؟ لأنَّ الاستقرارَ هنا ليس هو ذلك الحصولَ المطلقَ بل المرادُ به هنا الثابتُ الذي/ لا يَتَقَلْقَلُ، قاله أبو البقاء. وقد جَعَلَه انُ عطيةَ هو العاملَ في الظرفِ الذي كان يجبُ حَذْفُه فقال: "وظهرَ العاملُ في الظرفِ مِنْ قولِه "مُسْتَقرًّا" وهذا هو المقدَّرُ أبداً مع كلِّ ظرفٍ جاء هنا مُظْهَراً، وليس في كتابِ اللهِ مثلُه". وما قاله أبو البقاءِ أحسنُ. على أنَّه قد ظهرَ العاملَ المُطْلَقُ في قولِه:
3572ـ ..................... * فأنتَ لدى بُحْبُوْحَةِ الهَوْنِ كائنُ
وقد تقدَّم ذلك مُحقَّقاً في أولِ الفاتحة، فعليكَ بالالتفاتِ إليه.
قوله: {أَأَشْكُرُ} مُعَلِّقُ "لِيَبْلُوَني" و"أم" متصلةٌ، وكذلك قولُه {نَنظُرْ أَتَهْتَدِيا أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ
}. قوله: {وَمَن شَكَرَ} {وَمَن كَفَرَ} يُحْتمل أَنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً أو موصولةً مُضَمَّنَةً معنى الشرطِ، فلذلك دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر. والظاهرُ: أنَّ جوابَ الشرطِ الثاني أو خبرَ الموصولِ قولُه: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ولا بدَّ حنيئذٍ مِنْ ضميرِ يعودُ على "مَنْ" تقديرُه: غنيٌّ عن شكرِه. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرهُ: فإنَّما كفرُه عليه؛ لدلالةِ مقابلهِ وهو قولُه: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} عليه.
* { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيا أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ }
قوله: {نَنظُرْ}: العامَّةُ على جزمِه جواباً للأمرِ قبله. وأبو حيوةَ بالرفعِ جَعَلَه استئنافاً.
(11/276)
---(1/4533)
* { فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ }
قوله: {أَهَكَذَا}: فَصَلَ بحرفِ الجرِّ بينَ حرفِ التنبيهِ واسمِ الإِشارةِ. والأصلُ: أكهذا أي: أَمِثْلُ هذا عرشُكِ؟ ولا يجوزُ ذلك في غير الكافِ، لو قلت: أبهذا مَرَرْتَ، وأَلِهذا فعلتَ، لم يَجُزْ أن يُفْصَلَ بحرفِ الجرِّ بين "ها" و"ذا" فتقول: أها بِذا مَرَرْتَ، وأها لِذا فَعَلْتَ.
قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مِنْ كلامِ بلقيسَ. والضميرُ في "قَبْلِها" راجعٌ للمعجزةِ والحالةِ الدالِّ عليهما السياقُ. والمعنى: وأُوتيِنا العلمَ بنبوةِ سليمانَ من قبلِ ظهورِ هذه المعجزةِ، أو من هذه الحالةِ؛ وذلك لِما رأَتْ قبلَ ذلك من أمرِ الهُدْهُدِ ورَدِّ الهدايةِ. والثاني: أنه من كلامِ سليمانَ وأتباعِه، فالضميرُ في "قَبْلِها" عائدٌ على بلقيسَ.
* { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }
قوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ}: في فاعلِ "صَدِّ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرُ الباري. والثاني: ضميرُ سليمان. وعلى هذا فـ{مَا كَانَت تَّعْبُدُ} منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ أي: وصدَّها اللهُ، أو سليمانُ، عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ الله، قاله الزمخشري مُجَوِّزاً له. وفيه نظرق: من حيث إنَّ حَذْفَ الجارِّ ضرورةٌ كقوله:
3573ـ تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوْجُوا * ......................
(11/277)
---(1/4534)
كذا قاله الشيخ. وقد تقدَّم لك آياتٌ كثيرةٌ من هذا النوعِ فلهذه بِهِنَّ أُسْوَةٌ. والثالث: أنَّ الفاعلَ هو "ما كَانَتْ" أي: صَدَّها ما كانَتْ تعبدُ عن الإِسلامِ وهذا واضِحٌ. والظاهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه "وصَدَّها" معطوفةٌ على قولِه: "وأُوْتِيْنا". وقيل: هي حالٌ مِنْ قوله: "أم تكونَ من الذينَ" و"قد: مضمرةٌ وهذا بعيدٌ جداً. وقيل: هو مستأنَفٌ إخبارٍ من اللهِ تعالى بذلك.
قوله: "إنَّها" العامَّةُ على كسرِها استئنافاً وتعليلاً. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوةَ بالفتح، وفيها وجهان، أحدهما: أنها بدلٌ مِنْ "ما كانَتْ تعبدُ"، أي: وصَدَّها أنها كانَتْ. والثاني: أنها على إسقاطِ حَرْفِ العلةِ أي: لأنَّها، فهي قريبةٌ من قراءةِ العامة.
* { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {الصَّرْحَ}: قد تقدم الخلافُ في الظرف الواقع بعد "دخل": هل هو منصوبٌ على الظرفِ؟ وشَذَّ ذلك مع "دخل" خاصةً كما قاله سيبويه، أو مفعول به كهَدَمْتُ البيتَ كما قاله الأخفش. والصَّرْحُ: القَصْرُ أو صَحْنُ الجارِ أو بَلاطٌ متخَذٌ مِنْ زُجاج. وأصلُه من التصرِيح، وهو الكشفُ. وكَذِبٌ صُراحٌ أي: ظاهرٌ مكشوفٌ وَلُؤْمٌ صُراحٌ. والصَّريحُ: مقابِلُ الكنايةِ لظهورِه واستتارِ ضدَّه. وقيل: الصريحُ: الخالِصُ، مِنْ قولِهم: لَبَنٌ صَريحٌ بَيِّنُ الصَّراحَةِ والصُّرُوْحَةِ.
وقال الراغب: الصَّرْحُ: بيتُ عالٍ مُزَوَّقٌ، سمِّي بذلك اعتباراً بكونِه صَرْحاً عن/ الشَّوْبِ أي: خالصاً".
(11/278)
---(1/4535)
قوله: {سَاقَيْهَا} العامَّةُ على ألفٍ صريحةٍ. وقنبل روى همزَها عن ابنِ كثير. وضَعَّفَهخا أبو عليّ. وكذلك فعل قنبل في جمع "ساق" في ص، وفي الفتح هَمَزَ واوَه. فقرأ "بالسُّؤْقِ والأَعْناق" "فاسْتَوَى على سُؤْقِه" بهمزةٍ مكانَ الواوِ. وعنه وجهٌ آخرٌ: "السُّؤْوْق" و"سُؤْوْقة" بزيادة الواوِ بعد الهمزةِ.
ورُوِي عهنه أنه كان يَهْمِزُه مفرداً في قوله: {يُكْشَفُ عَن سَاقٍ
}. فأمَّا هَمُْ الواوِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّ الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلَها يَقْلِبُها بعضُ العربِ همزةَ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أولِ البقرةِ عند "يُوْقنون" وأنشَدْتُ عليه:
3574ـ أَحَبُّ المُؤْقِدِين إليَّ مُوْسَى * .....................
وكان أبو حَيَّةَ النميري يَهْمِزُ كلَّ واوٍ في القرآن، هذا وَصْفُها. الثاني: أنَّ ساقاً على فَعَلَ كأَسَدٍ، فجُمِعَ على فُعُل بضمِّ العين كأُسُدٍ. والواوُ المضمومةُ تُقْلب همزةً نحو: وُجوه، ووُقِّتَتْ، ثم بعد الهمزِ سَكَنَتْ.
الثالث: أنَّ المفردَ سُمِعَ هَمْزُه، كما سيأتي تقريرُه، فجاء جَمْعُه عليه.
وأمَّا "سُؤْوْق" بالواوِ بعد الهمزةِ فإنَّ ساقاً جُمِع على "سُوُوق" بواوِ، فهُمِزَتْ الأولى لانظمامِها. وهذه الروايةُ غريبةٌ عن قنبلٍ، وقد قَرَأْنا بها ولله الحمدُ.
وأمَّا "سَأْقَيْها" فوجهُ الهمزِ أحدُ أوجهٍ: إمَّا لغةُ مَنْ يَقْلِبُ الألفَ همزةَ، وعليه لغةُ العَجَّاج في العَأْلَمِ والخَأْتَكِ. وأنشد:
*3575ـ وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ * وسيأتي تقيريرُه أيضاً في "مِنْسَأَته" في سبأ إنْ شاء اللهُ تعالى، وتقدَّم طَرَفٌ منه في الفاتحة، وإمَّا على التشبيهِ برِأْس وكَأْس، كما قالوا: "حَلأْت السَّويق" حَمْلاً على حَلأُتُه عن الماء أي طَرَدْتُه، وإمَّا حَمْلاً للمفرد والمثنى على جَمْعِهما. وقد تَقَرَّر في جمعِهما الهمزُ.
(11/279)
---(1/4536)
قوله: {مُّمَرَّدٌ} أي مُمَلَّسٌ. ومنه الأَمْرَدُ لِمَلاسَةِ وجهه من الشَّعر. وبَرِّيَّة مَرْدَاء: لخُلُوِّها من النباتِ، ورَمْلَةٌ مَرْداء: لا تُنْبِتُ شيئاً. والمارِدُ من الشياطين: مَنْ تَعَرَّى من الخير وتَجَرَّد منه. ومارِدٌ: حِصْنٌ معروفٌ. وفي أمثال الزَّبَّاء: "تَمَرَّد مارِدٌ وعَزَّ الأَبْلَقُ" قالَتْها في حِصْنَيْنِ امتنع فَتْحُهما عليها.
والقوارِيْرُ: جمعُ قارُوْرة، وهي الزُّجاج الشفافُ. و"مِنْ قواريرَ" صفةٌ ثانية لـ"صَرْحٌ".
قوله: {مَعَ سُلَيْمَانَ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، ولا يتعلَّقُ بـ"أَسْلَمْتُ"؛ لأنَّ إسلامَه سابقٌ إسلامَها بزمانٍ. وهو وجهٌ لطيفٌ. وقال ابن عطية: "ومع ظرفٌ بُنِيَ على الفتحِ. وأمَّا إذا أُسْكِنَتِ العينُ فلا خِلافَ أنه حرفٌ" قلتُ: قد تقدَّم القولُ في ذلك. وقد قال مكي هنا نحواً مِنْ قولِ ابنِ عطيةَ.
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ }
قوله: {أَنِ اعْبُدُواْ}: يجوز في "أَنْ" أَنْ تكونَ مُفَسَّرةً، وأَنْ تكونَ مصدريةً أي: بأَنْ اعْبُدوا، فيجيء في محلِّها القولان.
(11/280)
---(1/4537)
قوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} تقدَّم الكلامُ في "إذا" الفجائيةِ. والمرادُ بالفريقين: قومُ صالحٍ، وأنهم انقسموا فريقين: مؤمن وكافر. وقد صَرَّح بذلك في الأعراف حيث قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ}. وجَعَلَ الزمخشري الفريقَ الواحدَ صالحاً وحدَه، والأخر جميعَ قومِه. وحَمَلَه على ذلك العطفُ بالفاءِ؛ فإنَّه يُؤْذِنُ أنه بمجرَّدِ إرسالهِ صاروا فريقَيْنِ، ولا يصيرُ قومُه فريقين إلاَّ بعد زمانٍ ولو قليلاً. و"يَخْتَصمون" صفةٌ لـ"فريقان" كقولِه: {هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ} {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}. اختير هنا مراعاةُ الجَمْعِ لكونِها فاصلةً.
* { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }
وقُرِىءَ "تَطَيَّرْنا بك" وهو الأصلُ وأُدْغِمَ. وقد تقدَّم تقريرُه.
قوله: {تُفْتَنُونَ} جاء بالخطاب مراعاةٌ لتقدُّمِ الضميرِ. ولو رُوْعِيَ ما بعدَه لقيل: "يُفْتَنُون" بياءٍ الغَيْبة، وهو جائزٌ، ولكنه مرجوحٌ. وتقول: أنت رجلٌ تَفْعل، ويَفْعل، بالتاء والياء، ونحن قومٌ نقرأ ويَقْرؤون.
* { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ }
(11/281)
---(1/4538)
قوله: {تِسْعَةُ رَهْطٍ}: الأكثرُ أَنَّ تمييزَ العددِ بهذا مجرورٌ بـ"مِنْ" كقولِه: {أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ}. وفي المسألةِ مذاهبُ، أحدُها: أنه لا يجوزُ إلاَّ في قليلٍ. الثاني: أنه يجوزُ، ولكن لا ينقاس. الثالث: التفصيل بين أن/ يكونَ للقلة كرَهْطٍ ونَفَرٍ فيجوزَ أو للكثرةِ فقط، أو لها وللقلةِ فلا يجوز، نحو: تسعةُ قوم. ونَصَّ سيبويه على امتناعِ "ثلاث غنم". قال الزمخشري: "وإنما جاز تمييزُ التسعةِ بالرَّهْطِ لأنه في معنى الجمعِ كأنه قيل: تسعةُ أنفسٍ" قال الشيخ: "وتقديرُ غيرِه "تسعة رجالٍ" هو الأَوْلَى لأنه من حيث أضافَ إلى أَنْفُس كان ينبغي أَنْ يقولَ "تِسْع أنفس"، على تأنيث النفس؛ إذ الفصيحُ فيها التأنيثُ. ألا تراهُمْ عَدُّوا من الشذوذِ قولَ الشاعر:
3576ـ ثلاثةُ أَنْفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * ........................
قلت: وإنما أراد تفسيرَ المعنى.
قوله: {يُفْسِدُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للمعدودِ أو العددِ، فيكونَ في موضع جرٍّ أو رفعٍ.
قوله: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} قيل: مؤكِّدٌ للأولِ. وقيل: ليس مؤكَّداً؛ لأنَّ بعض المفسدين قد يُصْلِحُ في وقتٍ ما، فأْخْبَرَ عن هؤلاءِ بانتفاءِ تَوَهُّمِ ذلك.
* { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }
(11/282)
---(1/4539)
قوله: {تَقَاسَمُواْ}: يجوز في "تقاسموا" أَنْ يكونَ أمراً أي: قال بعضُهم لبعضٍ: احْلِفُوا على كذا. ويجوز أن يكونَ فعلاً ماضياً، وحنيئذٍ يجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً لـ"قالوا"، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسَمُوا. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار "قد" أي: قالوا ذلك متقاسِمِيْن، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال: "يُحْتمل أَنْ يكونَ أمراً وخبراً في محلِّ الحالِ بإضمار قد". قال الشيخ: "أمَّا قولهُ: "وخبراً" فلا يَصِحُّ لأنَّ الخبرَ أحدُ قسمَيْ الكلام؛ لأنه ينقسم إلى الخبرِ والإِنشاء، وجميعُ معانيه إذا حُقِّقَتْ راجعةٌ إلى هذين القسمين". قلت: ولا أدري: عدمُ الصحة مِنْ ماذا؟ لأنه جَعَلَ الماضي خبراً لاحتمالِهن الصدقَ والكذبَ مقابلاً للأمرِ الذي لا يَحْتَملهما. أمَّا كونُ الكلامِ لا ينقسِمُ إلاَّ إلى خبر وإنشاء، وأنَّ معانِيَه إذا حُقِّقَتْ تَرْجِعُ إليهما، فأيُّ مَدْخلٍ لهذا في الردِّ على أبي القاسم؟
ثم قال الشيخ: والتقييدُ بالحالِ ليس إلاَّ من باب نسبةٍ التقييدِ لا من نسبةِ الكلامِ التي هي الإِسنادُ، فإذا أُطْلِقَ عليها الخبرُ كان ذلك على تقديرِ: أنَّها لو لم تكنْ حالاً لجازَ أَنْ تُستعملَ خبراً. وكذلك قولُهم في الجملةِ الواقعةِ صلةٌ: هي خبريةٌ فهو مجازٌ والمعنى: أنها لو لم تكن صلةً لجاز أَنْ تُستَعْمَلَ خبراً وهذا فيه غموضٌ". قتل: مُسَلَّمٌ أنَّ الجملةَ ما دامَتْ حالاً أو صلةً لا يُقال لها: خبرية، يعني أنها تَسْتَقِلُّ بإفادةِ الإِسنادِ؛ لأنها سِيْقَتْ مَسَاقَ القَيْدِ في الحالِ ومَسَاقَ جزءِ كلمةٍ في الصلةِ، وكان ينبغي أن تُذْكَرَ أيضاً الجملةُ الواقعةُ صفةً فإن الحكمَ فيها كذلك.
(11/283)
---(1/4540)
ثم قال: "وأمَّا إضمارُ "قد" فلا يُحتاج إليه لكثرةِ وقوع الماضي حالاً دون "قد"، كثرةً ينبغي القياسُ عليها" قلت: الزمخشريُّ مَشَى مع الجمهورِ؛ فإنَّ مذهَبهم أنهم لا بُدَّ من "قد" ظاهرةً أو مضمرةً لِتُقَرِّبَه من الحال.
وقرأ ابنُ أبي ليلى "تَقَسَّموا" دونَ ألفٍ مع تشديد السين. والتقاسُمُ والتَّقَسُّم كالتظاهُر والتظَهُّر.
قوله: {بِاللَّهِ} إن جَعَلْتَ "تقاسَمُوا" أمراً تَعَلَّق به الجارُّ قولاً واحداً، وإنْ جَعَلْتَه ماضياً احْتَمَلَ أَنْ يَتَعلَّقَ به، ولا يكونُ داخلاً تحت المَقُولِ، والمقولُ هو "لَنُبَيِّتَنَّه" إلى آخره. واحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ هو فعلُ القسمِ، وجوابه "لَنُبَيِّتَنَّه" فعلى هذا يكونُ مع ما بعده داخلاً تحتَ المَقُوْلِ.
قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ. "ثم لَنَقولَنَّ" قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ. والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ. ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين. وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني.
(11/284)
---(1/4541)
فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن: فإنْ جَعَلْنا "تقاسَمُوا" فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه. وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك. وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ: فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم. وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ "تَقاسَمُوا" ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ. وإنْ جَعَلْناه أمراً كان "لَنُبيِّتَنَّه" جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: كيف تقاسَمُوا؟ فقيل: لنبيِّتَنه. وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين.
قال الزمخشري: "وقُرِىءَ "لَنُبِّتَنَّه" بالياء والتاء والنون. فتاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان" ـ يعني يَصِحُّ في "تقاسَمُوا" أن يكونَ أمراً، وأَنْ يكونَ خبراً ـ قال: "ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً". قلت: وليس كذلك لِما تقدَّم: مِنْ أنَّه يكونُ أمراً، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: "تقاسَمُوا" فيه وجهان، أحدهما: هو أمرٌ أي: أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً. فعلى هذا يجوزُ في "لَنُبَيِّتَنَّه" النونُ تقديرُه: قولوا: لَنُبَيِّتَنَّهُ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ. ولا يجوزُ ألياء. والثاتني: هو فعلٍ ماضٍ. وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ ـ يعني بالأوجه: النونَ والتاءَ والياءَ ـ. قال: "وهو على هذا تفسيرُ" أي: تقاسَمُوا على كوِه ماضياً: مُفَسِّرٌ لنفسِ "قالوا". وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ. وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة. وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى. وتقدَّم الكلاُ في {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} في النمل.
(11/285)
---(1/4542)
* { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }
قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}: قرأ الكوفيون بالفتح. والباقون بالكسر. فالفتح من أوجهٍ، أحدُهما: أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي: لأَنَّا دَمَّرْناهم. و"كان" تامةٌ و"عاقبةٌ" فاعلٌ بها، و"كيفِ" حالٌ. الثاني: أَنْ يكمونَ بدلاً من "عاقبة" أي: كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى: كيف حَدَثَ. الثالث: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هي أنَّا دَمَّرْناهم أي: العاقبةُ تدميرُنا إياهم. ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ "كان" ناقصةً، وتُجْعَلَ "كيف" خبرَها، فتصيرَ الأوجهُ ستةً: ثلاثةً مع تمام "كان" وثلاثةً مع نُقْصانها. ويُزاد مع الناقصة وجهُ أخر: وهو أَنْ تُجْعَلَ "عاقبة" اسمَها و"أنَّا دَمْرناهم" خبرَها و"كيف" حالٌ. فهذه سبعةُ أوجهٍ.
والثامن: أَنْ تكونَ "كان" "زائدةً، و"عاقبة" مبتدأٌ، وخبرُه "كيف" و"أنَّا دَمَّرْناهم" بدلٌ مِنْ "عاقبة" أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وفيه تَعَسُّفٌ. التاسع: أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً، إلاَّ أنه الباءُ أي: بأنَّا دمَّرْناهم، ذكره أبو البقاء. وليس بالقويِّ. العاشر: أنها بدل مِنْ "كيف" وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو: "كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون"؟ وقال مكي: "ويجوز في الكلام نصبُ "عاقبة"، ويُجْعَلُ "أنَّا دمَّرْناهم" اسمَ كان" انتهى. بل كان هذا هو الأرجحَ، كما كان النصبُ في قولِه "فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا" ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا.
(11/286)
---(1/4543)
وقرأ أُبَيُّ "أَنْ دَمَّرْناهم" وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ، والكلامُ فيها كالكلامِ على "أنَّا دَمَّرْناهم". وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ. و"كان" يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ. وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض، لأنه مُعَلِّق للنظرِ.
و"أَجْمعين" تأكيدٌ للمعطوفِ والمعطوفِ معاً.
* { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوااْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
قوله: {خَاوِيَةً}: العامَّةُ على نصبِها حالاً. والعاملُ فيه معنى اسمِ الإِشارة. وقرأ عيسى "خاويةٌ" بالرفع: إمَّا على خبر "تلك" "بيوتُهم" بدلٌ مِنْ "تلك"، وإمَّا خبرٌ ثانٍ و"بيوتُهم" خبرٌ أولُ، وإمَّا على خبرِ مبتدأ محذوف أي: هي خاويةٌ، وهذا إضمارٌ مُسْتَغْنَى عنه. و{بِمَا ظَلَمُوااْ} متعلقٌ بـ"خاوية"/ أي: بسببِ ظُلْمهم.
* { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }
قوله: {وَلُوطاً}: إمَّا منصوبٌ عطفاً على "صالحاً" أي: وَأَرْسَلْنا لُوْطاً، وإمَّا عطفاً على الذين آمنوا أي: وأَنْجَيْنام لوطاً، وإمَّا بـ"اذْكُرْ" مضمرةً.
قوله: {إِذْ قَالَ}: بدلٌ اشتمالٍ مِنْ "لوطاً". وتقدَّم نظيرُه في مريم وغيرِها.
* { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }
قوله: {شَهْوَةً}: مفعولٌ مِنْ أَجْله، أو في موضعِ الحالِ، وقد تقدَّم.
* { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوااْ أَخْرِجُوااْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }
(11/287)
---(1/4544)
قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}: خبرٌ مقدَّمٌ، و"إلاَّ أْن قالوا" في موضعِ الاسمِ. وقرأ الحسنُ وابنُ أبي إسحاق برفِعه اسماً، و"إلاَّ أنْ قالوا" خبراً. وهو ضعيفٌ لِما عَرَفْتَ غيرَ مرةٍ. وتقدَّم قرآناً "قَدَّرْنا" تشديداً وتخفيفاً.
* { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ }
والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ. أي: فساءَ مَطَرُ المنذَرينَ مَطَرُهم.
* { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}: العامَّةُ على كسرِ لام "قُلِ" لالتقاءِ الساكنين. وأبو السَّمَّال بفتحِها تخفيفاً، وكذا في قولِه: {وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}. "سلامٌ" مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً.
قوله: "أَمْ ما" "أم" هذه متصلةٌ عاطفةٌ لاستكمالِ شروطِها. والتقديرُ: أيُّهما خيرٌ؟ و"خيرٌ": إمَّا تفضيلُ على رغمِ الكفارِ وإلزامِ الخَصْمِ، أو صفةٌ لا تفضيلَ فيها. و"ما" في "أَمْ ما" بمعنى الذي. وقيل: مصدرٌ. وذلك على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ أي: أتوحيدُ اللهِ خيرٌ أم شِرْكُهم.
وقرأ أبوعمروٍ وعاصم "أضمْ ما يُشْرِكون" بالغَيْبَةِ حَمْلاً على ما قبلَه من قوله....
* { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }
قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ}: أَمْ هذه منقطعةٌ؛ لعدمِ تقدُّمِ همزةِ استفهامٍ ولا تَسْويةٍ. "ومَنْ خَلَقَ" مبتدأٌ. وخبرُه محذوفٌ، فَقَدَّره الزمخشري: "خيرٌ أَمْ ما تُشْرِكُون" فَقَدَّرَ ما أَثْبَته في الاستفهامِ الأولِ، وهو حَسَنٌ، وقدَّره ابنُ عطيةً: "يُكْفَرُ بنعتِه ويُشْرك به، ونحوَ هذا من المعنى".(1/4545)
(11/288)
---
وقال أبو الفضل الرازي: "لا بُدَّ من إضمارِ جملةٍ معادِلةَ، وصار ذلك المضمرُ كالمنطوق [به] لدلالةِ الفَحْوى عليه. وتقديرُ تلك الجملة: أَمَنْ خَلَقَ المسواتِ والأرضَ كمَنْ لم يَخْلُقْ، وكذلك أخواتُها. وقد أظهرَ في غيرِ هذا الموضعِ ما أَضْمَرَ فيها، كقولِه تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}. قال الشيخ: "وتَسْمِيَةُ هذا المقدَّرِ جملةً: إنْ أراد بها جملةً من الألفاظِ فصحيحٌ، وإنْ أراد الجملةَ المصطلحَ عليها في النحوِ فليس بصحيحٍ، بل هو مضمرٌ من قبيلِ المفردِ".
وقرأ الأعمش: "أمَنْ" بتخفيفِ الميمِ جَعَلَها "مَنْ" الموصولةَ، داخلةً عليها همزةٌ الاستفهام. وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأَةً، والخبرُ محذوفٌ. وتقديرُه ما تقدَّم من الأوجهِ. ولم يذكُرْ الشيخُ غيرَ هذا. والثاني: أنها بدلٌ من "الله" كأنه قيل: أمَنْ خلَقَ السمواتِ والأرضَ تخيرٌ أَمْ ما تُشْركون. ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيره. ويكون قد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بالخبرِ وبالمعطوف على المبدل منه. وهو نظيرُ قولك: "أزيدٌ خيرٌ أم عمروٌ أأخوك" على أن يكونَ "أَأخوك" بدلاً من "أزيد"، وفي جوازِ مثلِ هذا نظرٌ.
قوله: {فَأَنبَتْنَا} هذا التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلمِ لتأكيدِ معنى اختصاصِ الفعلِ بذاتِه، والإِنذارِ بأنَّ إنباتَ الحدائقِ المختلفةِ الألوانِ والطُّعوم مع سَقْيها بماءٍ واحدٍ لا يَقْدِرُ عليه إلاَّ هو وحدَه؛ ولذلك رشَّحه بقولِه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}.
والحَدائِقُ: جمعُ حديقة، وهي البستان. وقيل: القطعةُ من الأرضِ ذاتِ الماء. قال الراغب: "سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدَقَةِ العين في الهيئة وحُصولِ الماءِ فيه" وقال غيرُه: سُمِّيَتْ بذلك لإِحداقِ الجُدْران بها. وليس بشيءٍ لأنها يُطْلَقُ عليها ذلك مع عَدَمِ الجُدْران.
(11/289)
---(1/4546)
ووقف القراء على "ذات" مِنْ "ذاتَ بَهْجَة" بتاءٍ مجبورة. والكسائي بهاءٍ لأنها تاءٌ تأنيثٍ.
قوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ} "أن تُنْبِتُوا" اسمُ/ كان، و"لكم" خبرٌ مقدمٌ". والجملةُ المنفيةُ يجوزُ أَنْ تكون صفةً لـ"حدائق"، وأن تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفةِ. وقرأ ابنُ أبي عبلة "ذواتَ بَهَجة" بالجمعِ وفتحِ هاءِ "بَهَجة".
* { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {خِلاَلَهَآ}: يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لجَعَلَ بمعنى خَلَقَ المتعديةِ لواحدٍ، وأَنْ يكونَ في مَحَلِّ المفعولِ الثاني على أنها بمعنى صَيَّر.
قوله: {بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ}: يجوزُ فيه ما جازَ في "خلالَها". والحاجزُ: الفاصِلُ. حَجَزَ بينَهم يَحْجِزُ أي: مَنَعَ وفَصَل.
وقُرِىءَ "أَإِلَهٌ" بتحقيق الهمزتين. وتخفيفِ الثانيةِ وإدخالِ ألفِ بينهما تخفيفاً وتَسْهيلاً. وهذا كلُّه معروفٌ مِنْ أولِ هذا الموضوعِ. وقُرِىء "أإلهاً" بالنصبِ على إضمارِ: أَتَدْعُوْنَ أو أَتُشْرِكون إلهاً.
* { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّواءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
والمُضْطَرُّ: اسمُ مفعولٍ. مأخوذٌ مِنْ اضْطُرَّ، ولا يُسْتعمل إلاَّ مبنياً للمفعول. وإنما كُرِّر الجَعْلُ هنا، ولم يُشْرَكْ بين المعمولاتِ في عاملٍ واحد، لأنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ هذه منه مستقلةٌ فَأَمْرَرَه في جمةلٍ مستقلةٍ بنفسِها.
* { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
(11/290)
---(1/4547)
قوله: {بُشْرَاً}: قد تقدَّم في الأعراف.
* { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }
قوله: {إِلاَّ اللَّهُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعلٌ "يَعْلَمُ" و"مَنْ" مفعولُه. و"الغيبَ" بدلٌ مِنْ "مَنْ السمواتِ" أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السمواتِ والأرَضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ. وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ. الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ "مَنْ"، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى: أنَّ عِلْمَه في السموات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في {مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ} بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السمواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ "مَنْ" وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.
وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال:"فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ تعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السمواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون: "ما في الدار أحدٌ إلا حمارٌ" يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ "أحداً" لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه:
3577ـ عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها * ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم: "ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانيي إخوانكم إلاَّ إخوانُه". فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه:
3578ـ إلاَّ اليَعافِيرُ....................
بعد قوله:
3579ـ .............. لَيْسَ بها أنيسُ
(11/291)
---(1/4548)
ليَؤْوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السموات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنى ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيهما أنيسُ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السمواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون: "إنَّ الله في كلِّ مكان" على معنى: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ" قلتُ: يَأْبَى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك "مَنْ في السموات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالوةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترى كيف قال عليه السلام لِمَنْ قال: ""ومَنْ يَعْصِمها فقد غوى"، "بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت"". قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ. وقد قال به الشافعيُّ".
قوله: {أَيَّانَ} هي هنا، بمعنى "متى"/ وهي منصوبةٌ بـ"يُبْعَثون" فتعلُّقُه بـ"يَشْعُرون" فيه مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي: ما يَشْعرون بكذا. وقرأ السُّلميٌّ "إيَّان" بكسرِ الهمزةِ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم.
* { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ }
(11/292)
---(1/4549)
قوله: {ادَّارَكَ}: قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو ونافع "أَدْرَكَ" كأَكْرم. والباقون من السبعةِ "ادَّارك" بهمزةِ وَصْلٍ، وتشديدِ الدالِ المفتوحةِ، بعدها ألفٌ. والأصلُ: تَدارك وبه قرأ اُبَيٌّ، فأُريد إدغامُ التاءِ في الدالِ فأُبْدِلَتْ دالاً، وسُكِّنَتْ فتعذَّر الابتداءُ بها لسكونهِا، فاجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار ادَّارك كما ترى، وتحقيقُ هذه قد تقدَّم في رأسِ الحزبِ من البقرة: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}. وقراءةُ ابنِ كثير قيل: تَحْتمل أن يكونَ أَفْعَلُ فيها بمعنى تَفاعَلَ فتَتََّحِدَ القراءتان. وقيل: أَدْرَكَ بمعنى بَلَغَ وانتهى. وقرأ سليمان وعطاء ابنا يَسار "بلَ ادَّرَكَ" بفتحِ لامِ "بل" وتشديد الدالِ دونَ ألفٍ بعدَها. وتخريجُها: أنَّ الأصلَ ادَّرك على وزن افْتَعَل فأُبْدِلَتْ تاءُ الافعتالِ دالاً لوقوعِها بعد الدال. قال الشيخ: "فصار فيه قَلْبُ الثاني للأولِ كقولِهم: أثَّرَدَ، وأصلُه اثْتَرَدَ من الثَّرْدِ". انتهى. قلت: ليس هذا مما قُلِب فيه الثاني للأولِ لأجلِ الإِدغام كـ اثَّرضدَ في أثْتَرَدَ؛ لأنَّ تاءَ الافتعال تُبدَلُ دالاً بعد أحرفٍ منها الدالُ نحو: ادَّان في افْتَعَل من الدَّيْن فالإِبدالُ لإجلِ كونِ الدالِ فاءَ لا للإِدغام، فليس مثلَ اثَّرَدَ في شيءٍ فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ. فلمَّا أُدْغِمَت الدالُ في الدال أُدْخِلَتْ همزةُ الاستفهامِ فسقَطَتْ همزةُ الوصلِ فصار اللفظُ "أَدْرَكَ" بهمزةِ قطعٍ مفتوحةٍ، ثم نُقِلَتْ حركةُ هذه الهمزةِ إلى لامِ ِ"بل" فصار اللفظ: "بَلَ دَّرَكَ".
وقرأ أبو رجاءٍ وشيبةٌ والأعمشُ والأعرجُ وابنُ عباس، وتُرْوى عن عاصم كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ لام "بل" على أصلِ التقاءِ الساكنين، فإنهم لم يَأْتوا بهمزةِ استفهامٍ.
(11/293)
---(1/4550)
وقرأ عبدالله وابن عباس والحسن وابن محيصن "أادَْكَ" بهمزةٍ ثم ألفٍ بعدَها. وأصلُها همزتان أُبْدِلَتْ ثانيتُهما ألفاً تخفيفاً. وأنكرها أبو عمروٍ. قلت: وقد تقدَّم أولَ البقرةِ أنه قُرىءُ "أَانْذَرْتَهم" بألفٍ صريحةٍ فلهذه بها أسوةٌ. وقال أبو حاتم: "لا يجوزُ الاستفهامُ بعد "بل" لأنَّ" "بل" إيجاب، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ بمعنى: لم يكن، كقولِه تعالى {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أي: لَم يَشْهدوا، فلا يَصِحُّ وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإِيجاب والإِنكارِ". قلت: وفي منع هذا نظرٌ؛ لأنَّ "بل" لإِضرابِ الانتقالِ، فقد أضربَ عن الكلامِ الأولِ، وأَخَذَ في استفهامِ ثانٍ. وكيف يُنْكَرُ هذا والنَّحْويون يُقَدِّرون "أم" المنقطعةَ بـ"بل" والهمزة؟ وعجِبْتُ من الشيخِ كيف قال هنا:"وقد أجاز بعضُ المتأخرين الاستفهامَ بعد "بل" وشبهه؟ يقول القائل: "أخبزاً أكلْتَ، بل أماءً شرِبْتَ" على تَرْكِ الكلامِ الأولِ والأَخْذِ في الثاني". انتهى فتخصيصُه ببعضِ المتأخرين يُؤْذِنُ أن المتقدِّمينَ وبعضَ المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لِما حَكَيْتُ عنهم في "أم" المنقطعةِ.
وقرأ ابنُ معسودٍ "بل أَأَدْرَكَ" بتحقيقِ الهمزتين. وقرأ ورش في رواية "بلَ ادْرَكَ" بالنقل. وقرأ ابنُ عباس أيضاَ "بلى ادْرَك" بحرف الإِيجاب أختِ نَعَم. "بَلأى اَأَدْرك" بألفٍ بين الهمزتين. زقرأ أُبَيٌّ ومجاهد "أم" بدلَ "بل" وهي مخالفةٌ للسَّواد.
(11/294)
---(1/4551)
قوله: {فِي الآخِرَةِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ "في" على بابها و"أَدْرَك" وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً؛ لأنه كائنٌ قطعاً كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وعلى هذا فـ"في" متعلقٌ بـ"ادَّاركَ". والثاني: أنَّ "في" بمعنى الباء أي بالآخرة. وعلى هذ فيتعلَّق بنفسِ عِلْمِهم كقولِك: "عِلْمي بزيدٍ كذا". وأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ "بلى" فقال الزمخشري: "لَمَّا جاء بـ"بَلَى" بعد قولِه: {وَمَا يَشْعُرُونَ} كان مَعْناه: "بلى يَشْعْرون" ثم فَسَّر/ الشعورَ بقولِه {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} على سبيلِ التهكمِ الذي معناه المبالغةُ في نَفْي العلمِ" ثم قال: و"أمَّا قراءةُ "بلى أَأَدْرك" على الاستفهامِ فمعناه: بلى يَشْعُرون متى يُبْعثون. ثم أ نكر علمَهم بكونِها، وإذا أنكر علمَهم بكونِها لم يتحصَّلْ لهم شعورٌ بوقتِ كونِها؛ لأنَّ العلمَ بوقتِ الكائنِ تابعٌ للعلم بكونِ الكائنِ" ثم قال: "فإنْ قلتَ ما معنى هذه الإضراباتِ الثلاثةِ؟ قتل: ما هي إلاَّ تنزيلٌ لأحوالِهم، وَصَفَهم أولاً بأنهم لا يَشْعُرون وقتَ البعثِ ثم بأنَّهم لا يعلمون أنَّ القيامةَ كائنةٌ ثم بأنَّهم يَخْبِطُون في شكٍّ ومِرْيَة". انتهى.
فإنْ قِيل: عَمِيَ" يتعَدَّى بـ"عن" تقول: عَمِيَ فلانٌ عن كذا فلِمَ عُدِّيَ بـ"مِنْ" في قولِه: "مِنْها عَمُوْن"؟ فالجوابُ: أنه جَعَلَ الآخرةَ مَبْدأ عَماهم ومَنْشَأَه.
* { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ }
(11/295)
---(1/4552)
قوله: {أَإِذَا}: قد تقدَّم الكلامُ في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورةِ الرعدِ وتحقيقُه. والعاملُ في "إذا" محذوفٌ يَدُلُّ عليه "لَمُخْرَجُون" تقديره: نُبْعَثُ ونَخْرُجُ. ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيها "مُخْرَجُون" لثلاثةِ موانَع: الاستفهامِ، و"إنَّ"، ولامِ الابتداءِ. ومن لامِ الابتداء في خبر "إنَّ" خلافٌ. وتكايَسَ الزمخشري هنا فعَبَّر بعبارةٍ حُلْوة فقال: لأنَّ بينَ يَدَيْ عَمَلِ اسمِ الفاعل فيه عِقاباً، وهي: همزةُ الاستفهام وإنَّ ولامُ الابتداء، وواحدةٌ منها كافيةٌ فكيف إذا اجتمَعْنَ؟". وقال أيضاً: "فإنْ قُلْتَ: قَدَّم في هذه الآيةِ "هذا" على {نَحْنُ وَآبَآؤُنَا} وفي آيةٍ أخرى قَدَّم {نَحْنُ وَآبَآؤُنَا} على "هذا"!! قلتُ: التقديمُ دليلٌ على أنَّ المُقَدَّمَ هو المَعْنِيُّ المعتمدُ بالذِّكْرِ، وأنَّ الكلامَ إنما سِيْق لأجلِه، ففي إحدى الآيتين دَلَّ على أنَّ إيجادَ البعثِ هو الذي تُعُمِّد بالكلام، وفي الأخرى على إيجاد المبعوث بذلك الصدد".
و"آباؤُها عطفٌ على اسمِ كان. وقام الفَصْلُ بالجرِّ مقامَ الفَصْلِ بالتوكيدِ.
* { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }
قوله: {رَدِفَ لَكُم}: فيه أوجهٌ، أظهرُها: أنَّ "رَدِفَ" ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدَّى باللامِ. أي: دنا وقَرُب وأَزِفَ. وبهذا فسَّره ابنُ عباس و"بعضُ" الذي فاعِلٌ به وقد عُدِّي بـ"مِنْ" أيضاً على تَضْمينِه معنى دَنا، قال:
3580ـ فلمَّا رَدِفْنا مِنْ عُمَيْرٍ وصَحْبِه * توَلَّوْا سِراعاً والمنيَّةُ تُعْنِقُ
أي: دَنَوْنَا مِنْ عُمَيْر. والثاني: أنَّ مفعولَه محذوف، واللامُ للعلةِ أي: رَدِفَ الخَلْقُ لأَجْلكم ولِشُؤْمِكم. والثالث: أنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعولِ تأكيداً لزيادتِها في قولِه:
3581ـ ...................... * أَنَخْنا لِلكَلاكِلِ فارْتَمَيْنا
(11/296)
---(1/4553)
وكزيادةِ الباء في قولِه تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} وعلى هذه الأوجهِ الوقفُ على "تَسْتَعجلون". والرابع: أنَّ فاعل "رَدِفَ" ضميرُ الوعدِ أي: رَدِفَ الوعدُ أي: قَرُبَ ودَنا مُقْتضاه. و"لكم" خبرٌ مقدمٌ و"بعضُ" مبتدأ مؤخرٌ. والوقفُ على هذا على "رَدِفَ" وهذا فيه تفكيكُ للكلامِ. والخامس: أنَّ الفعلَ محمولٌ على مصدرِه أي: الرَّدافةُ لكم، و"بعضُ" على تقديرِ: رَدافةِ بعضٍ، يعني حتى يتطابقَ الخبرُ والمخبرُ عنه. وهذا أضعفُ مِمَّا قبله.
وقرأ الأعرج "رَدَفَ" بفتح الدال وهي لغةٌ، والكسر أشهرُ.
* { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }
قوله: {لاَ يَشْكُرُونَ}: يجوز أن يكونَ مفعولُه محذوفاً أي: لا يشكرون نِعَمَه. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ؛ بمعنى: لا يعترفون بنعمهِ، فعبَّر عن انتفاءِ مَعْرِفتِهم بالنعمةِ بانتفاءِ ما يترتَّبُ على معرفتِها وهو الشكرُ.
* { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }
قوله: {مَا تُكِنُّ}: العامَّةُ على ضمِّ تاءٍ المضارعةِ، مِنْ أَكَنَّ. قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ}. وابن محيصن وابن السَّمَيفع وحُمَيْد بتفحها وضمِّ الكاف. يقال: كَنَنْتُه وأكْنَنْتُه، بمعنى: أَخْفَيْتُ وسَتَرْتُ.
* { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ}: في هذه التاءِ قولان، أحدُهما: أنها للمبالغةِ كراوِيَة وعَلاَّمة. والثاني: أنها كالتاءِ الداخلةِ على المصادرِ نحو: العاقِبَة والعافِيَة. قال الزمخشري: "ونظيرُهما: الذَّبيحةُ والنَّطيحةُ والرَّمْيَةُ في أنها أسماءُ غيرُ صفاتٍ".
* { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }
(11/297)
---(1/4554)
قوله: {بِحُكْمِهِ}: العامَّةُ على ضمِّ الحاءِ وسكونِ الكاف. وجناح بن حبيش بكسرِها وفتحِ الكاف جمعَ "حِكْمة".
* { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ }
قوله: {وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ}: تقدَّم تحريره في الأنبياء عليهم السلام.
* { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ }
قوله: {بِهَادِي الْعُمْيِ}: العامَّةُ/ على "هادِيْ" مضافاً للعُمْي. وحمزة "يَهْدِي" فعلاً مضارعاً، و"العمُيَ" نصبٌ على المفعول به، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة "بهاد" منوَّناً "العُمْيَ" منصوب به، وهو الأصلُ.
واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على "هاد" في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً. واختلفوا في الروم. فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه. أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها "يَهْدي" فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائيُّ: "مَنْ قرأ "يَهْدِي" لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على "هادٍ" ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ". انتهى. ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على {يَقْضِي بِالْحَقِّ} {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ} بإثباتِ الياءِ والواوِ. ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ القياسِ. وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ "بهادي" اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على "هادي" في هذه السورةِ، وفيه مخالفةٌ الرسمِ السلفيِّ.
(11/298)
---(1/4555)
قوله: {عَن ضَلالَتِهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ"يَهْدي". وعُدِّي بـ"عن" لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم. والثاني: أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول: عَمِيَ عن كذا، ذكره أبو البقاء.
* { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ }
قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ}: أي: مضمونُ القول، أو أَطْلَقَ المصدرَ على المفعولِ أي: المَقُوْلُ.
قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} العامَّةُ على التشديد. وفيه وجهان، الأظهر: أنه من الكلامِ والحديث، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ "تُنَبِّئُهم" وقراءةُ يحيى بن سَلام "تُحَدِّثُهم" وهما تفسيران لها. والثاني: "تَجْرَحُهم" ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابنعباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري "تَكْلُمُهم" بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ. وقد قُرِىء "تَحْرَحُهم" وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر.
قوله: {أَنَّ النَّاسَ} قرأ الكوفيون بالفتح، والباقون بالكسرِ، فأمَّا الفتحُ فعلى تقديرِ الباءِ أي: بأنَّ الناسَ. ويدلُّ عليه التصريحُ بها في قراءةِ عبدِ الله "بأنَّ الناسَ". ثم هذه الباء تُحتملُ أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً، وأن تكونَ سببيةً، وعلى التقديرين: يجوزُ أَنْ يكونَ "تُكَلِّمهم" بمعنَيَيْه من الحديثِ والجَرْح أي: تُحَدِّثهم بأنَّ الناسَ أو بسببِ أنَّ الناسَ، أو تجرَحهم بأنَّ الناس أي: تَسِمثمهم بهذا اللفظِ، أو تَسِمُهم بسبب انتفاءِ الإٍِيمانِ.
(11/299)
---(1/4556)
وأمَّا الكسرُ على الاستئناف. ثم هو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ من كلامِ الكلهِ تعالى وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ من كلامِ الدابَّةِ، فيُعَكِّرَ عليه "بآياتنا". ويُجاب عنه: إمَّا باختصاصِها، صَحَّ إضافةُ الآياتِ إليها، كقولِ أتباعِ الملوكِ: دوابُّنا وخَيْلُنا، وهي لِمَلِكهم، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: بآيات ربِّنا. وتُكَلِّمهم إنْ كان من الحديثِ فيجوزُ أَنْ يكونَ: إمَّا لإجراءءِ "تُكَلِّمُهم" مُجْرى تقولُ لهم، وإمَّا على إضمارِ القولِ أي: فتقول كذا. وهذا القولُ تفيسرٌ لـ"تُكَلِّمُهم".
* { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ }
قوله: {مِن كُلِّ أُمَّةٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً بالحشر، و"مِنْ" لابتداءِ الغاية، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "فَوْجاً"؛ لأن يجوزُ أن يكونَ صفةً له في الأصل. والفَوْجُ: الجماعمة كالقوم، وقيَّدهم الراغبُ فقال: الجماعةُ المارَّةُ المسرعةُ" وكأنَّ هذا هو الأصلُ ثم أُطْلِقَ، وإنْ لم يكُن مرورٌ ولا إسراعٌ. والجمعُ: أفواجٌ وفُؤُوج. و"مِمَّنْ يُكَذِّبُ" صفةٌ له. و"ِمنْ" في "مِنْ كلِّ" تبعيضيةٌ، وفي "مِمَّن يُكَّذِّبُ" تَبييينَّة.
* { حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
والواو في "ولم تُحِيْطُوا" يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ، وأن تكونَ الحاليَّةَ. و"عِلْماً" تمييزُ.
قوله: "أَمْ ماذا": "أم" هنا منقطعةٌ. وتقدَّم حكمُها و"ماذا" يجوز أَنْ يكونَ برُمَّتِه استفهاماً منصوباً بـ"تَعْمَلون" الواقعِ خبراً عن "كنتم"، وأَنْ تكونَ "ما" استفهاميةً مبتدأً، و"ذا" موصولٌ خبرُه، والصلةُ "كنتمُ تعملون"، وعائدُه محذوفٌ أي: أيَّ شيءٍ الذي كنتم تَعْملونه.
(11/300)
---(1/4557)
وقرأ أبو حيوةَ "أَمَا" بتخفيفِ الميمِ، جَعَلَ همزةَ الاستفهامِ داخلةً على اسمِه تأكيداً كقولِه:
3582ـ ....................... * أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
* { وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ }
قوله: {بِمَا ظَلَمُواْ}: أي: بسببِ ظُلْمِهم. ويَضْعُفُ جَعْلُ "ما" بمعنى الذي.
* { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {لِيَسْكُنُواْ فِيهِ}: قيل: قد حُذِفَ من الأولِ ما أُثْبت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبتْ نظيرهُ في الأولِ؛ إذ التقديرُ: جَعَلْنا الليلَ مُظْلماً/ لِيَسْكنوا فيه، والنهارَ مُبْصِراً ليَتَصَرَّفوا فيه. فحذف "مُظْلِماً" لدلالةِ "مُبْصِراً"، و"لِيتصَرَّفوا" لدلالة "لَيَسْكُنُوا". وقولُه "مُبْصراً" كقولِه: {آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} وتقدَّمَ تحقيقه في الإِسراء. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما للتقابلِ لم يُراعَ في قولِه: "لِيَسْكُنوا" و"مُبْصِراً" حيث كان أحدُهما علةَ والآخرُ حالاً؟ قلت: هو مُراعَى من حيث المعنى، وهكذا النظمُ المطبوعُ غيرُ المتكلِّفِ".
* { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }
قوله: {فَفَزِعَ}: دونَ فَيَفْزعُ؛ لتحقُّقِه كقوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ} و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
}. قوله: {أَتَوْهُ} قرأ حمزة وحفص "أَتَوْه" فعلاً ماضياً. ومفعولُه الهاءُ. والباقون "آتُوْه" اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ. وهذا حَمْلٌ على معنى "كُل" وهي مضافةٌ تقديراً أي: وكلَّهم. وقرأ قتادةُ "أتاه" مُسْنداً لضميرِ "كُل" على اللفظِ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ "داخِرين". والحسن والأعرج "دَخِرين" بغير ألفٍ.
(11/301)
---(1/4558)
* { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِيا أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }
قوله: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}: هذه الجملةُ حاليةٌ مِنْ فاعلِ "تَرَى"، أو مِنْ مفعولهِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ.
قوله: {وَهِيَ تَمُرُّ} الجملةُ حاليةٌ أيضاً. وهكذا الأجرامُ العظيمةٌ تراها واقفةً وهي مارَّة. قال النابغةُ الجعديُّ يصف جيشاً كثيفاً.
3583ـ بأَرْعَنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم * وُقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ
و"مرَّ السَّحابِ" مصدرٌ تشبيهيٌّ.
قوله: {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ. عاملُه مضمرٌ. أي: صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله. وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وقَدَّره "ويومَ يُنْفَخُ" وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين، وعاقَبَ المسيئين، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه. وقيل: منصوبٌ على الإِغراء أي: انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به.
والإِتْقانُ: الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه. وهو مِنْ قولِهم "تَقَّن أَرْضَه" إذا ساقَ إليه الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة. وأرضٌ تَقْتَنةٌ. والتَّقْنُ: فِعْلُ ذلك بها، والتقْنُ أيضاً: ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك الأرض.
قوله: {بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه: "وكلٌّ أَتَوْهُ". والبقاون بالخطاب جَرْياً على قولِه: "وتَرى" لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه.
* { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }
(11/302)
---(1/4559)
قوله: {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}: في "خيرٌ" وجهان، أحدُهما: أنها للتفضيلِ باعتبارِ زَعْمهم، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيرٌ مِنْ قَدْرِها واستحقاقِها فـ"مِنْها" في محلِّ نصبٍ، وأَنْ لا تكونَ للتفضيلِ. فيكونَ "منها" في موضعِ رفعٍ صفةً لها.
قوله: {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} قد تقدَّم في هود فتحُ "يوم" وجَرُّه، و"إذ" مضافةٌ لجملةٍ حُذِفَتْ وعُوِّض عنها التنوينُ. والأحسنُ أَنْ تٌقَدَّرَ: يومَ إذ جاءَ بالحسنةِ. وقيل: يومَ إذ تَرى الجبالَ. وقيل: يومَ إذ يُنْفَخُ في الصُّور. والأولُ أَوْلى لقُرْب ما قُدِّر منه.
* { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ}: على إضمار قولٍ، وهذا القولُ حالٌ مِمَّا قبله أي: كُبَّتْ وجوهُهم مقولاً لهم ذلك القولُ.
* { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
قوله: {الَّذِي حَرَّمَهَا}: هذه قراءةُ الجمهورِ صفةً للرَّب. وابن مسعودٍ وابن عباس "التي" صفةً للبَلْدة، والسياقُ إنما هو للربِّ لا للبلدة، فلذلك كانتِ العامَّةُ واضحةً.
* { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ }
"التي" صفةً للبَلْدة، والسياقُ إنما هو للربِّ لا للبلدة، فلذلك كانتِ العامَّةُ واضحةً.
* { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَىا فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ }
(11/303)
قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}: العامَّةُ على إثباتِ الواوِ بعد اللام. وفيها تأويلان، أحدُهما ـ وهو الظاهر ـ أنَّه من التلاوةِ وهي القراءةُ، ومابعدَه يُلائمه. والثاني: من التُّلُوِّ وهو الاتِّباعُ كقولِه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ}. وقرأ عبدالله "أنْ اتْلُ" أمراً له عليه السلام، فـ"أن" يجوز أَنْ تكونَ المفسِّرة، وأَنْ تكونَ المصدريةَ وُصِلَتْ بالأمر. وقد تقدَّم ما فيه.
قوله: {وَمَن ضَلَّ} يجوز أَنْ يكونَ الجوابُ قولَه: {فَقُلْ إِنَّمَآ}. ولا بُدَّ مِنء حَذْفِ عائدٍ على اسمِ الشرط. اي: مِنَ المنذِرين له؛ لِما تَقَدَّم في البقرة. وأَنْ يكونَ الجوابُ محذوفاً، أي: فوبالُ ضلالهِ عليه.
* { وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ }
قوله: {عَمَّا تَعْمَلُونَ}: قد تقدَّمَ أنه قُرِىء بالياء والتاءِ في آخرِ هود.(1/4560)
سورة القصص
* { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {نَتْلُواْ}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً، دَلَّتْ عليه صفتُه وهي {مِن نَّبَإِ مُوسَى}، تقديرُه: نَتْلو عليك شيئاً مِنْ نَبأ موسى. ويجوزُ أَنْ تكونَ "مِنْ" مزيدةً على رَأْيِ الأخفش. أي: نَتْلُو عليك نَبَأ موسى.
قوله: {بِالْحَقِّ} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاَ مِنْ فاعلِ "نَتْلو" أو من مفعولِه أي: مُلْتبسين أو مُلْتبساً بالحقِّ، أو متعلقٌ بنفسِ "نَتْلو"ب معنى: نَتْلو بسببِ الحقِّ. و"لقوم"/ متعلقٌ بفعلِ التلاوةِ أي: لأجلِ هؤلاء.
* { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: هذا هو المتلُوُّ فجيءَ به في جملةٍ مستأنفةٍ مؤكِّدة.
(11/304)(1/4561)
---
قوله: {يَسْتَضْعِفُ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مستأنِفٌ، بيانٌ بحالِ الأهل الذين جَعَلهم فِرَقاً وأصنافاً. والثاني: أنه حالٌ مِنْ فاعلِ "جَعَل" أي: جعَلَهم كذا حالَ كونِه مُسْتَضْعِفاً طائفةً منههم. الثالث: أنه صفةٌ لـ"شِيَعاً".
قوله: {يُذَبِّحُ} يجوزُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ: الاستئنافُ تفسيراً لـ"يَسْتَضْعِفُ"، أو الحالٌ مِنْ فاعِله، أو صفةٌ ثانيةٌ لطائفة. والعامَّةُ على التشديدِ في "يُذَبِّح" للتكثير. وأبو حيوة وابن محيصن "يَذْبَحُ" مفتوحَ والباءِ مضارعَ "ذَبَحَ" مخففاً.
* { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }
قوله: {وَنُرِيدُ}: فيه وجهان، أظرُهما: أنه عطفٌ على قولِه: إنَّ فرعونَ"، عطفَ فعليةٍ على اسميةٍ، لأنَّ كلتيهما تفسيرٌ للنبأ. والثاني: أنَّها حالٌ مِنْ فاعلِ "يَسْتَضْعِفُ". وفيه ضعفٌ من حيث الصناعةُ، ومن حين المعنى. أمَّا الصناعةُ فلكونِه مضارعاً مُثْبتاً فحقُّه أن يتجرَّد مِن الواوِ. وإضمارُ مبتدأ قبلَه أي: ونحن نريدُ كقولِه:
3584ـ ........................ * ..................... وأرْهَنُهُمْ مالِكاً
تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه. وأمَّا المعنى فكيف يَجْتمع استضعافُ فرعونَ وإرادةُ المِنَّةِ من اللهِ؟ لأنه متى مَنَّ الله عليهم تَعَذَّرَ استضعافُ فرعونَ إياهم. وقد أُجيب عن ذلك. بأنَّه لمَّا كانت المِنَّةُ بخلاصِهِم مِنْ فرعونَ سريعةَ الوقوعِ، قريبتَه، جُعِلَتْ إرادةُ وقوعِها كأنها مقارِنَةٌ لاستضعافِهم.
* { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ }
قوله: {وَنُمَكِّنَ}: العامَّةُ على ذلك مِنْ غير لامِ علةٍ. والأعمش "ولِنُمَكِّنَ" بلامِ العلةِ، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي: ولنمكِّنَ فَعَلْنا ذلك.
(11/305)
---(1/4562)
قوله: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} قرأ الأخوانَ "يَرَى" بفتح الياءِ والراءِ مضارعَ "رَأى" مسنداً إلى فرعونَ وما عُطِفَ عليه فلذلك رفعوا. والبقاون بضمِّ النون وكسرِ الراءِ مضارعَ "أرى"؛ ولذلك نُصِبَ فرعنن وما عُطِف عليه مفعولاً أولَ. و"ما كانوا" هو الثاني و"منهم" متعلِّقٌ بفعلٍِ الرؤيةِ أو الإِراءة، لا بـ"يَحْذَرون" لأنَّ ما بعد الموصولِ لا يَعْمَلُ فيما قبلَه. ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نقول: اتُسِعَ فيه.
* { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيا إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
قوله: {أَنْ أَرْضِعِيهِ}: يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرة والمصدريةَ. وقرأ عمر بن عبدالعزيز وعمر بن عبدالواحد بكسرِ النونِ على التقاءِ الساكنين كأنه حَذَف همزةَ القطعِ على غيرِ قياسٍ، فالتقى ساكنان، فكُسِرَ أَوَّلُهما.
* { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ }
قوله: {لِيَكُونَ}: في اللامِ الوجهان المشهوران: العِلِّيَّةُ المجازيةُ بمعنى: أنَّ ذلك لَمَّا كان نتيجةَ فِعْلِهم وثمرتَه، شُبِّه بالداعي الذي يفعلُ الفاعلُ الفعلَ لأجله، أو الصيرورةُ. وقرأ العامَّةُ بفتحِ الحاءِ والزاي وهي لغةُ قريشٍ والأخوان بضمٍ وسكونٍ. وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالعُدْمِ والعَدَم.
قوله: {خَاطِئِينَ}: العامَّةُ على الهمزِ. مأخوذٌ من الخَطأ ضدَّ الصواب. وقُرِىءَ بياءٍ دونَ همزةٍ، فاحْتُمِلَ أن يكونَ كالأولِ ولكن خُفِّفَ، وأَنْ يكنَ مِنْ خطا يَخْطُو، أي: تجاوزَ الصوابَ.
* { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
(11/306)(1/4563)
---
قوله: {قُرَّةُ عَيْنٍ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو قُرَّةُ عينٍ. والثاني: ـ وهو بعيدٌ جداً ـ أَنْ يكنَ مبتدأ، والخبرُ "لا تَقْتُلوه". وكأنَّ هذا القائلَ حقُّه أَنْ يُذَكَّر فيقول: لا تقتلوها إلاَّ أنه لمَّا كان المرادُ مذكراً ساغَ ذلك.
والعامَّة من القرَّاء والمفسرين وأهلِ العلم يقفون على "ولَكَ". ونقل ا بن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وَقَف على "لا" أي: هو قُرَّةُ عينٍ لي فقط، ولك لا، أي ليس هو لك قرةَ عين، ثم يَبْتَدِىء بقوله "تَقْتُلوه"، وهذا لا ينبغي أن يَصِحَّ عنه، وكيف يَبْقَى "تَقْتُلوه" من غيرِ نونِ رفعٍ ولا مُقْتَضٍ لحَذْفِها؟ ولذلك قال الفراء: "هو لحنٌ.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ. وهل هي من كلامِ الباري تعالى وهو الظاهرُ، أو من كلامِ امرأةِ فرعون؟ كأنَّها لَمَّا رأَتْ مَلأَه أشاروا بقتلِه قالَتْ له كذا أي: افعلَ أنتَ ما أقولُ لك، وقومُك لا يَشْعُرون. وجَعَل الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} معطوفةً على "فالتقطه"، والجملةَ مِنْ قولِه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} إلى "خاطئين" معترضاً بين المتعاطفين/، وجَعَلَ متعلَّقَ الشعور مِنْ جنسِ الجملةِ المعترضةِ أي: لا يَشْعُرون أنهم على خطأ في التقاطِه. قال الشيخ: "ومتى أمكن حَمْلُ الكلامِ على ظاهرِه مِنْ غيرِ فصلٍ كان أحسنَ".
* { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
(11/307)
---(1/4564)
قوله: {فَارِغاً}: خبرُ "أصبحَ" أي: فارغاً من العقلِ، أو من الصبرِ، أو من الحُزْن. وهو أبعدُها. ويَرُدُّه قراءاتُ تُخالِفهُ: فقرأ فضالةُ والحسنُ "فَزِعاً" بالزاي، مِنَ الفزعِ. وابن عباس "قَرِعاً" بالقافِ وكسرِ الراء وسكونِها، مِنْ قَرِِعَ رأسُه: إذا انحسَرَ شعرُه. والمعنى: خلا مِنْ كلِّ شيء، وانحسَر عنه كلُّ شيءٍ، إلاَّ ذِكْرَ موسى. وقيل: الساكنُ الراءِ مصدرُ قَرَعَ يَقْرَعُ أي: أصيب. وقُرِىء "فِرْغاً" بكسر الفاءِ وسكونِ الراء. والغينِ معجمةً، أي: هَدْراً. كقوله:
3585ـ فإنْ يَكُ قَتْلى قد أُصيبَتْ نفوسُهُمْ * فلَنْ يَذْهبُوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ
"فَرْغاً" حالٌ مِنْ "بِقَتْلِ". وقرأ الخليلُ "فُرُغاً" بضم الفاء والراء وإعجامِ الغين، من هذا المعنى.
قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي} "إنْ": إمَّا مخففةٌ، وإمَّا نافيةٌ. واللامُ: إمَّا فارقةٌ، وإمَّا بمعنى إلاَّ.
قوله: {لَوْلاا أَن رَّبَطْنَا} جوابُها محذوفٌ أي: لأَبْدَتْ، كقولِه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. و{لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} متعلقٌ بـ"رَبَطْنا". والباء في "به" مزيدةٌ في المفعولِ أي: لِتُظْهِرَه وقيلأ: ليسَتْ زائدةً بل سببيةٌ. والمفعولٌ محذوفٌ أي: لَتُبْديْ القولَ بسببِ موسى أو بسببِ الوَحْي. فالضميرُ يجوزُ عَوْدُه على موسى أوعلى الوحي.
* { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله: {قُصِّيهِ}: أي: قُصِّي أثرَه أي: تَتَبَّعيه.
قوله: {فَبَصُرَتْ} أي: أَبْصَرَتْه، وقرأ قتادةُ "بَصَرَتْ" بفتح الصاد. وعيسى بكسرِها. وتقدَّم معناه في طه.
(11/308)
---(1/4565)
قوله: {عَن جُنُبٍ} في موضعِ الحال: إمَّا مِنَ الفاعلِ أي: بَصُرَتْ به مُسْتَخْفِيَةً كانئةً عن جُنُبٍ، وإمَّا مِن المجرورِ، أي: بعيداً منها. وقرأ العامَّةُ "جُنُبٍ" بضمتين وهو صفةٌ لمحذوفٍ. أي: مِنْ مكان بعيد. وقال أبو عمرو ابن العلاء: "أي: عن شوق"، وهي لغةُ جُذام يقولون: جَنِبْتُ إليك أي: اشْتَقْتُ. وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيمِ وسكونِ النونِ، وعن قتادةَ أيضاً بفتحهما. وعن الحسن "جُنْبِ" بالضم والسكونِ. وعن سالم "عن جانبٍ" وكلُّها بمعنى واحد. ومثلُه: الجَنَابُ والجَنابَة.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ، ومتعلَّق الشعورِ محذوفٌ أي: أنها تَقُصُّه، أو أنه سيكونُ لهم عَدُوَّاً وحَزَناً.
* { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }
قوله: {الْمَرَاضِعَ}: قيل: يجوزُ أَنْ تكونَ جمعغَ مُرْضِع، وهي المرأة.
وقيل: جمعُ "مَرْضَعْ" بفتح الميمِ والضاد. ثم جَوَّزوا فيه أَنْ يكونَ مكاناً أي: مكان الإِرضاع وهو الثَّدْيُ، وأَنْ يكونَ مصدراً أي: الإِرْضاعاتِ أي: أنواعَها.
قوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ قَصِّها أثرَه.
قوله: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} الظاهرُ أنه ضميرُ موسى. وقيل: لفرعون. ومن طريف ما يُحْكى: أنها لَمَّا قالَتْ لهم ذلك استنكروا حالَها وتفرَّسوا أها قَرابَتُه. فقالَتْ: إنما أردْتُ: وهم للمَلِكِ ناصحون. فتخلَّصَتْ منهم. قاله ابن جريج. قلت: وهذا يُسَمَّى عند أهلِ البيانِ "الكلامَ المُوَجَّه" ومثلُه لَمَّا سُئل بعضُهم وكان بين أقوامٍ، بعضُهم يُحِبُّ عليَّاً جونَ غيرِه، وبعضُهم أبا بكر، وبعضُهم عمرَ، وبعضُهم عثمانَ، فقيل له: أيُّهم أحبُّ إلى رسول الله؟ فقال: مَنْ كانت انبتُه تحته.
(11/309)
---(1/4566)
* { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {وَلاَ تَحْزَنَ}: عطفٌ على "تَقَرَّ". ودمعةُ الفرحِ قارَّةٌ، ودمعة التَّرَحِ حارَّة. قال أبو تمام:
*3586ـ فأمَّا عيونُ العاشِقين فَأُسْخِنَتْ * وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ * وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في مريم.
* { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }
قوله: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}: في موضع الحال [إمَّا] من الفاعل: كائناً على حين غَفْلَةٍ ِأي: مُسْتَخْفِياً، وإمَّا من المفعول. وقرأ أبو طالبٍ القارىء "على حينَ" بفتح النون. وتكلَّف الشيخُ تخريجَها على أنه حَمَلَ المصدرَ على الفعل في أنه إذا أضيف الظرفُ إليه جاز بناؤه على الفتح كقوله:
3587ـ على حينَ عاتَبْتُ المشيب على الصِّبا * ....................
و"مِنْ أهلِها" صفةٌ لـ"غَفْلَة" أي: صادرةٍ من أهلها.
قوله: {يَقْتَتِلاَنِ} صفةٌ لـ"رجلين". وقال ابن عطية: "حال منهما" وسيبويه وإنْ كان جَوَّزَها مِن النكرة/ مُطْلقاً. إلاَّ أنَّ غيرَه ـ وهم الأكثرون ـ يَشْتَرِطون فيها ما يُسَوِّغُ الابتداءَ بها, وقرأ نعيم بن ميسرة "يَقَتِّلان" بالإِدغام نَقَلَ فتحَة التاءِ الأولى إلى القافِ وأدغمَ.
قوله: {هَاذَا مِن شِيعَتِهِ} متبدأٌ وخبرٌ في موضعِ الصفةِ لـ"رجلين" أو الحالِ من الضمير في "يَقْتَتِلان" وهو بعيدٌ لعدمِ انتقالها.
(11/310)
---(1/4567)
وقوله: "هذا، وهذا" على حكايةِ الحالِ الماضيةِ فكأنهما حاضران. وقال المبردُ: "العربُ تُشير بـ هذا إلى الغائب وأنشد الجرير:
3588ـ هذا ابنُ عَمِّي في دمشقَ خليفةَ * لو شِئْتُ ساقَكُمُ إليَّ قَطِينا
قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ} هذه قراءةُ العامَّةِ، من الغَوْثِ أي: طَلَبَ غَوْثَه ونَصْرَه. وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة، والنون، من الإِعاننة. قال ابنُ عطية: "هي تصحيفٌ". وقال ابن جبارة صاحب "الكامل": "الاختيارُ قراءةُ ابن مقسم؛ لأنَّ الإِعانة أَوْلَى في هذا البابِ". قلت: نسبةُ التصحيفِ إلى هؤلاء غيرُ محمودةٍ، كما أن تَعالِيَ الهُذَليِّ في اختيارِ الشاذِّ غيرُ محمودٍ.
قوله: {فَوَكَزَهُ} أي: دَفَعَه بجميع كَفَّه. والفرقُ بين الوَكْزِ واللَّكْزِ: أنَّ الأولَ بجميعِ الكفِّ، والثانيْ بأطرافِ الأصابِع وقيل: بالعكسِ. والنَّكْزُ كاللَّكْزِ. قال:
3589ـ يا أَيُّها الجاهِلُ ذو التَّنَزِّي * لا تُوْعِدَنِّي حَيَّةً بالنَّكْزِ
وقرأ ابنُ مسعود "فَلَكَزه" و"فَنَكَزَه" باللام والنونِ.
قوله: {فَقَضَى} أي: موسى، أو الله تعالى، أو ضميرُ الفعلِ ِأي: الوَكْزُ
قوله: {مِنْ عَمَلِ}: مِنْ وَسْوَسَتِه وتَسْوِيْلِه والإِشارةُ إلى القَتْلِ الاصدرِ منه.
* { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }
قوله: {بِمَآ أَنْعَمْتَ}: يجوزُ في الباءِ أن تكونَ قَسَماً، والجوابُ: لأَتُوْبَنَّ مقدراً. ويُفَسِّره "فَلَنْ أكونَ"، وأَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ، ومعناها السببيَّةُ. وأي: اعْصِمْني بسببِ ما أَنْعَمْتَ به عليَّ، ويترتَّبُ عليه قولُه: "فلن أكونَ ظَهيراً". و"ما" مصدريةٌ، أو بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ. وقوله: "فلن" نفيٌ على حقيقتِه. وزعمَ بعضُهم أنه دعاءٌ، وأنَّ "لن" واقعةٌ موقعَ "لا". وأجاز قومٌ مُسْتَدِلِّينَ بهذه الآية، وبقولِ الشاعر:
(11/311)
---(1/4568)
3590ـ لَنْ تَزالُوا كذلِكُمْ ثُمَّ لا زِلْتَ * لهمْ خالِداً خُلُوْدَ الجبالِ
وليس فيهما دلالةٌ لظهورِ النفيِ فيهما مِنْ غيرِ تقديرِ دعاءٍ، وإنْ كان في البيت أقوى.
* { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }
قوله: {خَآئِفاً}: الظاهرُ أنه خبرُ "أَصْبح" و "في المدينة" [متعلِّقٌ] به. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، والخبرُ "في المدينة". ويَضْعُفُ تمامُ "أصبحَ" أي: دَخَل في الصباح.
قوله: {يَتَرَقَّبُ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ حالاَ ثانيةً، وأن يكونَ بدلاً من الحالِ الاولى، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضميرِ في "خائفاً" فتكونُ متداخلةً. ومفعولُ "يترقَّبُ" محذوفٌ، أي: يترقَّبُ المكروهَ، أو الفرَرَجَ، أو الخبر: هل وصل لفرعونَ أم لا؟
قوله: {فَإِذَا الَّذِي} "إذا" فجائيةٌ. و"الذي" مبتدأ. وخبره: إمَّا "إذا"، فـ "يَسْتَصْرِخُه" حالٌ، وإمَّا "يَسْتَصْرِخُه" فـ"إذا" فَضْلةٌ على بابها. و"بالأمس" معربٌ؛ لأنه متى دَخَلَتْ عليه أل وأُضيفَ أُعْرِبَ، ومتى عَرِيَ منهما فحالُه معروفٌ: الحجازُ تَبْنيه، والتميميُّون يَمْنعوننه الصرفَ كقولِه:
3591ـ لقد رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسا
على أنَّه قد يُبْنَى مع أل نُدوراً، كقوله:
3592ـ وإنِّي حُبِسْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه * إلى الشمسِ حتى كادَتِ الشمسُ تَغْرُبُ
يُرْوَى بكسر السين.
قوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى} الضميرُ: قيل: للإِسرائيليِّ؛ لأنه كان سبباً في الفتنةِ الأولى. وقيل: للقبطيِّ.
* { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }(1/4569)
(11/312)
---
قوله: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ}: الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن لموسى. وقيل: للإِسائيليِّ والعدوُّ هو القِبْطي. والضميرُ في "قال يا موسى" للإِسرائيليِّ، كأنه تَوَهَّم مِنْ مُوْسى مُخاشَنَةً، فمِنْ ثَمَّ قال كذلك، وبهذا فشا خبرُه، وكان مِشْكوكاً في قاتِله.
و"أنْ" تَطَّرِدُ زيادتُها في موضعين، أحدُهما: بعد "لَمَّا" كهذِه. والثاني قبل "لو" مسبوقةً بقَسَمٍ كقولِه:
3593ـ أَمَا واللهِ أنْ و كنتُ حُرّاً * ....................
[وقولِه]:
3594ـ فَأُقْسِمُ أَنْ لو التَقَيْنَا وأنتُمُ * لكان لنا يومٌ مِنْ الشَّرِّ مُظْلِمُ
والعامَّةُ على "يَبْطِشُ" بالكسرِ. وضَمِّها أبو جعفر.
* { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }
قوله: {يَسْعَى}: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً، وأَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصَتْ بالوصفِ بقولِه: {مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} فإن جَعَلتْ "مِنْ أَقْصَى" متعلقاٌ بـ"جاء" فـ"يَسْعَى" صفةٌ ليس إلاَّ. قاله الزمخشري، بناءً منه على مذهب الجمهورِ وقد تقدَّم/ أنَّ سيبويه يجيز ذلك مِ،ْ غيرِ شرطٍ. وفي آية يس تقدَّم "مْن أقصى" على "رجل" لأنَّه لم يكنْ مِنْ أقصاها، وإنما جاء منه، وهنا وصَفَه بأنه مِنْ أقصاها، وهما رجالان مختلفان وقِصَّتان متباينتان.
قوله: {يَأْتَمِرُونَ} أي: يَتَآمَرُوْنَ بمعنى يَتشاورون، كقولِ النِّمِر ابنِ تَوْلب:
3595ـ أرى الناسَ قد أَحْدَثُوا شِيْمَةً * وفي كلِّ حادثةٍ يُؤْتَمَرْ
وعن ابن قتيبة: يأمرُ بعضُهم بعضاً. أخذَه مِنْ قولِه تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ(1/4570)
}. قوله: "لك" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بما يَدُلُّ "الناصحين" عليه أي: ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفسِ "الناصحين" للاتِّساع في الظرف، أو على جهةِ البيان أي: أعني لك.
(11/313)
---
* { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله: {يَتَرَقَّبُ}: أي: يرتقَّبُ هِدايتَه وغَوْثَ الله إياه.
* { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }
قوله: {تَذُودَانِ}: صفةٌ لـ"امرَأَتَيْنِ" لا مفعولُ ثان لأنَّ "وَجَدَ" بمعنى لَقِيَ. والذَّوْدُ: الطَّرْدُ والدَّفْعُ قال:
3596ـ فَقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه * .......................
وقيل: حَبَسَ، ومفعولُه محذوفٌ أي: تَذُوْدان الناسَ عن غَنَمِهما، أو غَنَمَهما عن مزاحمةِ الناس. و"مِنْ دونِهم" أي من مكانٍ أسفلَ مِنْ مكانِهم.
قوله: {مَا خَطْبُكُمَا} قد تقدَّم في طه. وقال الزمخشري هنا: "وحقيقتُه ما مَخْطُوْبُكما؟ أي: ما مطلوبُكما من الذِّياد، سَمَّى المخطوبَ خَطْباً، كما سُمِّي المَشْؤُوْن شأناً في قولك: ما شَأْنُك؟ يقال: شَأَنْتُ شَأْنَه أي: قََصَدْتُ قَصْدَه". وقال ابنُ عطية: "السؤالُ بالخَطْبِ إنما هو في مُصابٍ أو مُضْطَهَدٍ" أو مَنْ يَشْفَقُ عليه، أو يأتي بمنكرٍ من الأمرِ".
وقرأ شمر "خِطْبُكما" بالكَسْر أي: ما زوجُكما؟ أي: لِمَ تَسْقِيان ولم يَسْقِ زوجُكما؟ وهي شاذَّةٌ جداً.
(11/314)
---(1/4571)
قوله: {يُصْدِرَ} قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ بفتح الياءِ وضمِّ الدالِ مِنْ صَدَرَ يَصْدُر وهو قاصرٌ أي: يَصْدُرون بمواشِيهم. والباقون بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ مضارعَ أَصْدَرَ مُعَدَّى بالهمزةِ، والمفعولُ محذوفٌ أي: يُصْدِرون مواشِيَهم. والعامَّةُ على كسرِ الراءِ من الرِّعاء" وهو جمعُ تكسيرٍ غيرُ مَقيس؛ لأنَّ فاعِلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ كقاضٍ قياسُه فُعَلَة نحو: قُضَاة ورُمَاة. وقال الزمخشري: "وأما الرِّعاء بالكسرِ فيقاسُ كصِيامٍ وقِيامٍ" وليس كما ذَكَر لما ذَكَرْتُه.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بفتحِ الراءِ. قال أبو الفضل: "هو مصدرٌ أُقيم مُقامَ الصفةِ؛ لذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ"، أو على حَذْفِ مضافٍ. وقُرِىء بضمِّها وهو اسمُ جمعٍ كـ رُخَال، وثُناء.
وقرأ ابن مصرف "لا نُسْقي" بضمِّ النونِ مِنْ أَسْقَى، وقد تقدَّم الفرقُ بين سَقَى وِأَسْقى في النحل.
* { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }
قوله: {فَسَقَى لَهُمَا}: مفعولُه محذوفٌ أي: غَنَمَهما لأجلِهما.
قوله: {لِمَآ أَنزَلْتَ}" متعلقٌ بـ"فقيرٌ". قال الزمخشري: "عَدَّى "فقيرٌ" باللام لأنه ضُمِّن معنى سائلٌ وطالبٌ. ويُحتمل: إني فقيرٌ من الدنيا لأجلِ ما أَنْزَلْتَ إليَّ من خيرِ الدين، وهو النجاةُ من الظالمين.
قتل: يعني أنَّ افْتَقَرَ يتعدَّى بـ"مِنْ"، فِإمَّا أن تجعلَه من بابِ التضمين، وإمَّا أَنْ تُعَلِّقَه بمحذوفٍ. و"أَنْزَلْتَ" قيل: ماضٍ على أصلِه. ويعني بالخيرِ ما تقدَّم مِنْ خيرِ الدين. وقيل: بمعنى المستقبل.
* { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
(11/315)
---(1/4572)
قوله: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا}: قرأ ابن محيصن "فجاءَتْه حُداهما" بحذفِ الهمزةِ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ كقولِهم: يا با فلان، وقولِه:
3597ـ يا با المُغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ * فَرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
و"وَيْلُمِّه" أي: ويلٌ لأمِّه. قال:
3598ـ وَيْلُمِّها خُلَّةً لو أنَّها صَدَقَتْ * .........................
و"تَمْشي" حالٌ، و"على استحياء" حالٌ أخرى: إمَّا مِنْ "جاءَتْ"، وإمَّا مِنْ "تَمْشي".
* { قَالَ إِنِّيا أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
قوله: {أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى}: رُوِيَ عن أبي عمروٍ: "أُنْكِحك حْدَى" بحَذْفِ همزةِ "إحْدى"، وهذه تُشْبِهُ قراءةُ ابن محيصن "فجاءَتْه حْداهما". وتقدَّم التشديدُ في نونِ "هاتَيْن" في سورةِ النساء.
(11/316)
---(1/4573)
قوله: {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول أي: مَشْروطاً على، أو عليك ذلك. "وتَأْجُرَني" مضارعُ أَجَرْتُه: كنتُ له أَجيراً. ومفعولُه الثاني محذوفٌ أي: تَأْجُرني نفسَك. و"ثماني حِجَج" ظرفٌ له. ونقل الشيخ عن الزمخشري أنها هي المفعولُ الثاني: قلتُ: الزمشخريُّ لم يَجْعَلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجهِ، وإنما جَعَلَها مفعولاً ثانياً على وجهٍ آخرَ. وأمَّا على هذا الوجهِ فلم يَجْعَلْهما غيرَ ظرفٍ. وهذا نصُّه ليتبيَّنَ لك. قال: "تَأْجُرُني مِنْ أَجَرْتُه إذا كنتَ له أَجيراً، كقولك: أَبَوْتُه إذا كنتَ له أباً. وثماني حِججٍ ظرفٌ، أو مِنْ آجَرْتُه[كذا]: إذا أَثْبَتَّه [إياه]. منه تعزيةٌ/ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: "آجَرَكم اللهُ ورَحِمَكم" و"ثمانيَ حِجَجٍ" مفعولٌ به. ومعناه رِعْيَةَ ثَمانِي حِججٍ". فنقل الشيخُ عنه الوجهَ الأولَ من المعنيَيْن المذكورَيْن لـ"تَأْجُرَني" فقط، وحكى عنه أنه أعربَ "ثمانيَ حِجَج" مفعولاً به. وكيف يَسْتقيم ذلك أو يَتَّجه؟ وانظر إلى الزمخشريِّ كيف قَدَّر مضافاً ليَصِحَّ المعنى به أي: رَعْيَ ثماني حِجج؛ لأنَّ العملَ هو الذي تقع الإِثابة عليه لا نفسُ الزمان فكيف تُوَجَّه الإِجازُ على الزمان؟
قوله: {فَمِنْ عِندِكَ} يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: فهي مِنْ عندِك، أو نصبٍ أي: فقَد زِدْتها أو تَفَضَّلْتَ بها مِنْ عندِك.
قول: {أَنْ أَشُقَّ} مفعولٌ "أُرِيْدُ". وحقيقةُ قولِهم "شَقَّ عليهخ" أي: شَقَّ ظَنَّه نِصْفَيْن، فتارةً يقول: أُطيق، وتارة: لا أُطيق. وهو مِنْ أحسنِ مجازٍ.
* { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
(11/317)
---(1/4574)
قوله: {ذَلِكَ}: مبتدأٌ. والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه، والظرفُ خبرُه. وأُضِيْفَتْ "بين" لمفرِدٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ. ولو قلتَ: "المالُ بين زيدٍ فعمروٍ" لم يَجُزْ. فأمَّا قولُه:
3599ـ .................... * ............ بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي "وحَوْمَلِ" بالواو. والصحيحُ بالفاءِ، وأوَّلَ البيتَ على: "الدَّخولِ وَحَوْمَلِ" مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ، نحو قولِك: "داري بين مصرَ" لأنه به المكانُ الجامع. والأصل: ذلك بَيْنَنا، ففرَّق بالعطف.
قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ} "أيّ" شرطيةٌ. وجوابُها "فلا عُدْوانَ" عليَّ. وفي "ما" هذه قولان، أشهرُهما: أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط. والثاني: أنها نكرةٌ. والأَجَلَيْن بدلٌ منها. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في رواية "أَيْما" بتخفيفِ الياءِ، كقوله:
3600ـ تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما * عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ
وقرأ عبدالله "أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ" بإقحام "ما" بين "الأجلين" و"قَضَيْتُ". قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ "ما" في القراءتين؟ قلت: وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ "أيّ" زائدةً في شِياعِها، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال: أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه، وجَرَّدْت عَزيمتي له".
(11/318)
---(1/4575)
وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب "عِدْوان". قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت: معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [كان عدواناً] لا شك فيه، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان. أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ، وأنه ثابتٌ مستقرٌ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء: إمَّا هذا وإمَّا هذا". ثم قال: "وقيل: معناه: فلا أكونُ متعدياً. وهو في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك: لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ". قال الشيخ: "وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ". قلتُ: كأنه أعجبه الثاني، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً. وكذلك نَقَلَه عن غيره.
وقال المبرد: "وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء".
* { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوااْ إِنِّيا آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيا آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
قوله: {وْ جَذْوَةٍ}: قرأ حمزة بضم الجيم. وعاصم بالفتح. والباقون بالكسرِ. وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ، هذا هو المشهورُ. قال السُّلمي:
3601ـ حِمَى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي * وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ
وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً * دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ
وقيَّده بعضُهم فقال: في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ. قال ابن مقبل:
3602ـ باتَتْ حاطِبُ ليلى يَلْتَمٍسْنَ لها * جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
(11/319)
---(1/4576)
الخَوَّارُ: الذي يتقصَّفُ. الدَّعِرُ: الذي فيه لَهَبٌ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللهبِ فيه. قال الشاعر:
3603ـ وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً * شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها
وقيل: الجَذْوَة: العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم ليم يكنْ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ.
قوله: {مِّنَ النَّارِ} صفةٌ لـ جَذْوَةٍ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها بـ"آتِيْكُمْ" كما تَعَلَّق به "منها"؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً، أو معرَّفَةً بـ أل العهديةِ، وقد جُمِع الامران هنا.
* { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يامُوسَى إِنِّيا أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
قوله: {مِن شَاطِىءِ}: "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. والأَيْمن صفةٌ للشاطىء أو للوادي. والأَيمن من اليُمْن وهو البركة أو من اليمين المعادِلِ لليسار من العُضْوَيْن. ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي: الذي يَلي يمينَكَ دونَ يسارِك. الشاطىء ضفَّةُ الوادي والنهر أي حافَّتُه وطرفُه، وكذلك الشَّطُّ والسِّيْفُ والساحلُ كلُّها بمعنى. وجَمْعُ الشاطىء/ أشْطَاء قاله الراغب. وشاطَأْتُ فلاناً: ماشَيْتُه على الشاطىء.
قوله: {فِي الْبُقْعَةِ} متعلقٌ بـ"نُوْدِيَ" أو بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الشاطىء. وقرأ العامَّةُ بضم الباء وهي اللغةُ العاليةُ. وقرأ مَسْلَمَةُ والأشهبُ العُقيلي بفتحها. وهي لغةٌ حكاها أبو زيدٍ. قال: "سَمِعْتُهم يقولون: هذه بَقْعَةٌ طيِّبةٌ".
قوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هذا بدلٌ مِنْ "شاطىء" بإعادةِ العاملِ، وهو بدلٌ اشتمال.
قوله: {أَن يامُوسَى} "أنْ" هي المفسِّرةُ. وجُوِّز فيها أَنْ تكونَ المخخفةَ. وأسمُها ضيمرُ الشأنِ. وجملةُ النداءِ مفسِّرةٌ له. وفيه بُعدٌ.
(11/320)(1/4577)
---
قوله: {إِنِّيا أَنَا اللَّهُ} العامَّةُ على الكسرِ على إضمار القولِ، أو على تضمينِ النداءِ معناه. وقُرِىء بالفتح. وفيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِلَتْ "أَنْ" تفسيريةً وَجَبَ كسرُ "إِنِّي" للاستئنافِ المفسِّر للنداء بماذا كان؟ وإنْ جَعلْتَها مخففةً لَزِم تقديرُ "أَنِّي" بمصدرٍ، والمصدرُ مفردٌ، وضميرُ الشأن لا يُفَسَّرُ بمفردٍ. والذي ينبغي أَنْ تُخَرَّج عليه هذه القراءةُ أَنْ تكون "أَنْ" تفسيريةً و"أني" معمولةٌ لفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه: أنْ يا موسى اعلَمْ أنِّي أنا الله.
* { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
قوله: {مِنَ الرَّهْبِ}: متعلِّقٌ بأحدِ أربعةِ أشياء: إمَّا بـ"وَلَّى"، وإمَّا بـ"مُدْبِراً"، وإمَّا بـ"اضْمُمْ" ويظهر هذا الثالث إذا فَسَّرنا الرَّهْبَ بالكُمِّ، وإمَّا بمحذوفٍ أي: [تَسْكُن] من الرِّهْب. وقرأ حفصٌ بفتح الراءِ وإسكانِ الهاء. والأخَوان وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ بالضمِّ والإِسكان. والباقون بفتحتين. والحسن وعيسى والجحدريُّ وقتادة بضمتين. وكلُّها لغاتٌ بمعنى الخَوْفِ. وقيل: هو بفتحتين الكُمُّ بلغةِ حِمْير وحنيفة. قال الزمخشري: "هو مِنْ بَدَع التفاسير" قال: "وليت شعري كيف صِحَّتُه في اللغةِ، وهل سُمِع من الثقاتِ الأثباتِ الذين تُرْتَضَى عربيتُهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعُه في الآيةِ وكيف تطبيقُه المفصَّلُ كسائرِ كلماتِ التنزيل. على أنَّ موسى ـ صلوات الله عليه ـ ليلةَ المُناجاة ما كان عليه إلاَّ رُزْمانِقَةٌ من صوف لا كُمَّيْ لها" الرُّزْمانِقَةُ: المِدْرَعَة.
(11/321)
---(1/4578)
قال الشيخ: "هذا مرويٌّ عن الأصمعي، وهو ثقةٌ سمعهم يقولون: أَعْطِني ما رَهْبِك أي: كُمِّك. أمَّا قولُه كيف موقعُه؟ فقالوا: معناه أخرِجْ يدَك مِنْ كُمِّك" قلت: كيف يَسْتقيم هذا التفسير؟ يُفَسِّرون اضْمُمْ بمعنى أَخْرِجْ.
وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: قد جُعِل الجناحُ وهو اليدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} فما التوفيقُ بينهما؟ قلت: المرادُ بالجناحِ المضمومِ [هو] اليدشُ اليمنى، وبالجناح المضمومِ إليه هو اليدُ اليُسْرى، وكلُّ واحدةٍ مِنْ يُمْنى اليدين ويُسْراهما جناح".
قوله: {فَذَانِكَ} قد تقدَّمَ قراءةُ التخفيفِ والتثقيلِ في سورة النساء وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياءٍ بعد نونٍ مكسورةٍ، وهي لغةُ هُذَيْلٍ. وقيل: تميمٌ. ورَوَى شبل عن ابن كثير بياءٍ بعد نونٍ مفتوحةٍ. وهذا على لغةِ مَنْ يفتح نونَ التثنيةِ، كقوله:
3604ـ على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقلَّتْ عَشِيَّةً * فما هي إلاَّ لَمْحَةٌ وتَغيبُ
والياءُ بدلٌ من إحدى النوني كـ"تَظَنَّيْت". وقرأ عبدالله بتشديدِ النون وياءٍ بعدها. ونُسِبَتْ لهُذَيْل. قال المهدوي: بل لغتُهم تخفيفُها. ولا أظنُّ الكسرةَ هنا إلاَّ إشباعاً كقراءةِ هشام {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
}. و"ذانِكَ" إشارةٌ إلى العصا واليد وهما مؤنثتان، وإنما ذُكِّر ما أُشير به إليهما لتذكيرِ خبرِهما وهو برهانان، كما أنه قد يُؤَنَّثُ لتأنيثِ خبرِه كقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} فيمَنْ أََنَّثَ، نَصَبَ "فِتْنَتَهم"، وكذا قولُ الشاعر:
3605ـ .................... * فقد خابَ مَنْ كانَتْ سَرِيْرَتَه الغَدْرُ
وتقدَّم إيضاحُ هذا في الأنعام. والبُرْهان تقدَّم اشتقاقُه.
(11/322)
---(1/4579)
وقال الزمخشري هنا: "فإنْ قلتَ: لِمَ سُمِّيَتِ الحُجَّةُ بُرْهاناً؟ قلت: لبياضِها وإنارتِها، مِنْ قولِهم للمرأةِ البيضاء "بَرَهْرَهَةُ" بتكريرِ العين واللام. والدليلُ على زيادةِ النون قولهم: أَبْرَهَ الرجلُ إذا جاء بالبُرْهان. ونظيرُه تسميتُهم إياها سُلْطاناً، من السَّليطِ وهو الزيتُ لإِنارتِها".
قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلقٌ بمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء "مُرْسَالا إلى فرعونَ" وغيرُه: اذهَبْ إلى فرعون. وهذا المقدَّرُ ينبغي أن يكونَ حالاً مِنْ "برهانان" أي: مُرْسَالاً بهما إلى فرعونَ. والعاملُ في هذه الحالِ ما في اسمِ الإِشارةِ.
* { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيا أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }
قوله: {هُوَ أَفْصَحُ}: الفَصاحَةُ لغةً: الخُلوصُ. ومِنْه فَصُحَ اللبنُ وأَفْصَحَ فهو مُفْصِحٌ وفَصيح أي: خَلَصَ من الرَّغْوَة. ورُوِي/ قولُهم:
3606ـ .................... * وتحتَ الرَّغْوَةِ اللبنُ الفَصيحُ
ومنه فَصُحَ الرجل: جادَتْ لغُته. أَفْصَحَ: تكلَّم بالعربية. وقيل: بالعكس. وقيل: الفصيح الذي يَنْطِقُ. والأعجمُ: الذي لا ينطقُ. وعن هذا اسْتُعير أَفْصَح الصبح ِأي: بدا ضَوْءُه. وأفصح النصرانيُّ: دنا فِصْحُه بكسرِ الفاءِ وهو عيدٌ لهم. وأمَّا في اصطلاحِ أهل البيانِ فيه خُلُوصُ الكلمة من تنافرِ الحروفِ كقوله: "تَرْعَى الهِعْخِع". ومن الغرابةِ. كقوله:
3607ـ .............. ومَرْسِناً مُسَرَّجاً
ومِنْ مخالفةِ القياس اللغوي كقوله:
3608ـ .............. العَليِّ الأَجْلَل
وخُلوصُ الكلام من ضعفِ التأليف كقوله:
3609ـ جزى ربُّه عني عَدِيَّ بنَ حاتمٍ * ...........................
ومن تنافرِ الكلماتِ كقولهِ:
3610ـ وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرِ * وليسَ قربَ قبرِ حَرْبٍ قبرُ
(11/323)
---(1/4580)
ومن التعقيدِ وهو: إمَّا إخلالُ نظمِ الكلامِ فلا يُدْرَى كيفُ يُتوصَّلُ إلى معناه كقوله:
3611ـ وما مثلُه في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً * أبو أمِّه حيٌّ أبوه يُقارِبُهْ
وإمَّا عَدَمُ انتقالِ الذهنِ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، الذي هو لازِمه والمرادُ به، ظاهراً كقوله:
3612ـ سأطلبُ بُعْدَ الدارِ عنكم لِتَقْرَبُوا * وَتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لتَجْمُد
وخُلوصُ المتكلم من النطقِ بجميع ذلك فصارتِ الفصاحةُ يوصف بها ثلاثةُ أشياءَ: الكلمةُ والكلامُ والتكلمُ بخلاف البلاغةِ فإنه لا يُوْصَفُ بها إلاَّ الأخيران. وهذا له موضوعٌ يُوَضَّحُ فيه، وإنما ذكَرْتُ لك ما ينبِّهُك على أصلِه.
و[قوله]: "لِساناً" تمييز.
قوله: "رِدْءاً" منصوبٌ على الحال. والرِّدْءُ: العَوْنُ وهو فِعْلٌ بمعهنى مَفْعول كالدِّفْءِ بمعنى المَدْفوء به. ورَدَأْتُه على عَدُوِّه أَعَنْتُه عليه. ورَدَأْتُ الحائط: دَعَمْتُه بخشَبَة كيلا يَسْقُطَ. وقال النحاس: "يقال: "رَدَأْته وأَرْدَأْته".
وقال سلامة بن جندل:
3613ـ ورِدْئي كلُّ أبيضَ مَشْرَفيٍّ * شَحيذِ الحَدِّ ابيضَ ذي فُلولِ
وقال آخر:
3614ـ ألم تَرَ أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئي * وخيرَ الناسِ في قُلٍّ مالِ
وقرأ نافع "رِدا" بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلاَّ أنه لم يُنَوِّنْه كأنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرَى الوقفِ. ونافعٌ ليس من قاعدتِه النقلُ في كلمةٍ إلاَّ هنا. وقيل: ليس فيه نَقْلٌ وإنما هو مِنْ أَرْدَى على كذا. أي: زاد. قال الشاعر:
3615ـ وأسمرَ خَطِّيّاً كأنَّ كُعُوبَه * نوَى القَسْبِ قد أَرْدَى ذِراعاً على العَشْرِ
أي: زاد [وأنشده الجوهريُّ: قد أَرْبَى، وهو بمعناه].
(11/324)
---(1/4581)
قوله: {يُصَدِّقُنِي} قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالرفع على الاستئناف أو الصفةِ لـ"رِدْءاً" أو الحالِ من هاء "أَرْسِلْه"، أو من الضميرِ في "رِدْءاً". والباقون بالجزمِ جواباً للأمرِ. وزيد بن علي واُبَيٌّ "يُصَدِّقوني" ِأي: فرعونُ ومَلَؤُه. قال ابن خالويه: "وهذا شاهدٌ لِمَنْ جَزَم؛ لأنه لو كان رفعاً لقال "يُصَدِّقونَني" يعني بنونين".
وهذا سهوٌ من ابن خالويه؛ لأنه متى اجتمعَتْ نونُ الرفعِ من نون الوقايةِ جازَتْ أوجهٌ، أحدها: الحذفُ، فهذا يجوزُ أن يكونَ مرفوعاً، وحَذْفُ نونِه لما ذكرْتُ لك. وقد تقدم تحقيقُ هذا في الأنعام وغيرِها. وحكاه الشيخُ عن ابنِ خالَويه ولم يُعْقِبْه بنَكير.
* { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ }
قوله: {عَضُدَكَ}: العامَّةُ على فتحِ العينِ وضمِّ الضادِ. والحسن وزيد بن علي بضمِّهما. وعن الحسن بضمةٍ وسكونٍ وعيسى بفتحِهما، وبعضُهم بفتحِ العينِ وكسرِ الضادِ. وفيه لغةٌ سادسةٌ: فتح العينِ وسكونُ الضادِ. ولا أعلمُها قراءةً. وهذا كنايةٌ عن التقوِيَةِ له بأخيه.
قوله: {بِآيَاتِنَآ} يجوزُ فيه أوجهٌ: أَنْ يتعلَّقَ بـ"نَجْعَلُ" أو بـ"يَصِلُوْن"، أو بمحذوفٍ أي: اذْهبا، أو على البيان، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً، أو بـ"الغالبون"، على أنَّ أل ليست موصولةً، أو موصولةٌ واتُّسِعَ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه، أو قَسَمٌ وجوابُه متقدِّمٌ وهو "فلا يَصِلُون"، أو مِنْ لَغْوِ القسمِ. قالهما الزمخشري. ورَدَّ عليه الشيخُ بأنَّ جوابَ القسمِ لا تدخُلُه الفاءُ عند الجمهور. ويريدُ بلَغْوِ القسمِ أنَّ جوابَه محذوفٌ أي: وحَقِّ آياتِنَا لتَغْلُبُنَّ.
(11/325)
---(1/4582)
* { وَقَالَ مُوسَى رَبِّيا أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
قوله: {وَقَالَ مُوسَى}: هذه قراءةُ العامَّة بإثباتِ واوِ العطفِ. وبانُ كثيرٍ حَذَفَها، وكلٌ وافقَ مصحفَه؛ فإنها ثابتةٌ في المصاحفِ غيرَ مصحفِ مكةَ. وإثباتُها وحَذْفُها واضحان، وهو الذي يسميِّه أهلُ البيان الوصلَ والفصلَ.
قوله: {وَمَن تَكُونُ} قرأ العامَّةُ "تكون" بالتأنيث و"له" خبرُها "وعاقبةُ" اسمُها. ويجوزُ أَنْ يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ، والتأنيثُ لأجلِ ذلك، و{لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} جملةٌ في موضع الخبرِ. وقرىء بالياء مِنْ تحتُ، على أَنْ تكونَ "عاقبةٌ" اسمَها والتذكيرُ للفصلِ؛ لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ. ويجوزُ أن يكون اسمُها ضميرَ الشأنِ. الجملةُ خبرٌ كما تقدم. ويجوزُ أَنْ تكونَ تامةً، وفيها ضميرٌ يرجِعُ إلى "مَنْ"، والجملةُ في موضعِ الحالِ. ويجوز أن تكونَ ناقصةً، واسمُهنا ضميرُ "مَنْ"/، والجملةُ خبرُها.
* { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ }
قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: حالٌ أي: استكبروا مُلتبسينَ بغيرِ الحقِّ.
قوله: {لاَ يُرْجَعُونَ} قرأ نافعٌ والأخوان مبنياً للفاعل. والباقون للمفعول.
* { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}
* {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ }
قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ} أي: صَيَّرْناهم. وقال الزمخشري: "دَعَوْناهم" كأنه فرََّ مِنْ نسبةِ ذلك إلى الله تعالى، أعني التصييرَ؛ لأنه لا يوافِقُ مذهبَه. و"يَدْعُون" صفةٌ لـ"أَئمةً".
(11/326)
---(1/4583)
قوله: {وَيَوْمَ القِيَامَةِ} فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ بـ"المقبوحين" على أنّ أل ليست موصولةً، أو موصولةٌ واتُّسِع فيه، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يُفَسِّره المقبوحين، كأنه قيل: وقُبِّحُوا يومَ القيامةِ نحو: {لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} أو يُعْطَفَ على موضع "في الدنيا" أي: وأَتْبَعْناهم لعنةً يوم القيامة، أو معطوفةٌ على "لعنةً" على حذفِ مضافٍ أي: ولعنةَ يوم القيامة. والوجهُ الثاني أظهرُها.
والمقبوحُ: المطرودُ. قبَّحه الله: طرده. قال:
3616ـ ألا قَبَّح اللهُ البراجِمَ كلِّها * وجَدَّعَ يَرْبُوعاً وعَقَّر دارِما
وسُمِّيَ ضِدُّ الحُسْنِ قبيحاً؛ لأنَّ العينَ تَنْبُو عنه، فكأنها تطردُه يُقال: قَبُح قَباحةً. وقيل: من المقبوحينَ: من المَوْسومين بعلامةً مُنْكَرَةٍ كزُرْقة العيون وسوادِ الوجوهِ. والقبحُ أيضاً: عَظْمُ الساعدِ ممَّا يلي النصفَ منه إلى المِرْفَقِ.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
قوله: {بَصَآئِرَ}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ حالاً: أمَّا علىحَذْفِ مضافٍ أي: ذا بصائرَ أو على المبالغة.
* { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ }
قوله: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ حَذْفِ الموصوف وإقامةِ صفتهِ مُقامَة أي: بجانبِ المكانِ الغربيِّ، وأَنْ يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، وهو مذهبُ الكوفيين. ومثلُه: "بَقْلةُ الحمقَاء، ومَسْجد الجامع".
* { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيا أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }
(11/327)
---(1/4584)
قوله: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا}: وجهُ الاستداركِ: أنَّ المعنى وما كنتَ شاهداً لموسى ما جَرَى عليه، ولكنَّا أَوْحَيْناه إليك. فذكر سببَ الوَحْيِ الذي هو أطالةُ الفترةِ، ودَلَّ به على المسَبَّب، على عادةِ الله تعالى في اختصاراته. فإذن هذا الاستداركُ هو شبيهُ بالاستدراكَيْن بعده. قاله الزمخشري بعد كلامٍ طويل.
قوله: {ثَاوِياً} أي: مُقيماً يقال: ثَوَى يَثْوِي ثَواءً وَثَوِّياً، فهو ثاوٍ ومَثْوِيٌّ. قال ذو الرمة:
3617ـ لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثوَيْتُه * تَقَضِّي لُباناتٍ ويُسْأَمُ سائِمُ
وقال آخر:
3618ـ طال الثَّواءُ على رُسومِ المنزلِ * ....................
وقال العجاج:
3619ـ فباتَ حيث يَدْخُلُ الثَّوِيُّ
يعني: الضيفَ المقيم.
قوله: {تَتْلُواْ} يجوز أن يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "ثاويا"، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأنْ يكونَ هو الخبرَ و"ثاوياً" حالٌ. وجعله الفراء منقطعاً مِمَّا قبلَه أي: مستأنفاً كأنه قيل: وها أنت تَتْلُو على أمَّتِك. وفيه بُعدٌ.
* { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
قوله: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ}: في موضع الصفةِ لـ"قوماً".
[قوله:] {وَلَاكِن رَّحْمَةً} أي: أَرْسَلْناك رحمةً أو أَعْلمناك بذلك رحمةً. وقرأ عيسى وأبو حيوةَ بالرفع أي: أنت رحمةٌ.
* { وَلَوْلاا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
(11/328)
---(1/4585)
قوله: {وَلَوْلاا أَن تُصِيبَهُم}: هي الامتناعيةُ. وأنْ وما في حَيِّزها في موضعِ رفعٍ بالابتداءِ. أي: ولولا إصابتُهم المصيبةَ. وجوابُها محذوفٌ فقدَّره الزجاج: "ما أرْسَلْنا إليهم رُسُلاً" يعني: أنَّ الحاملَ على إرسالِ الرسلِ إزاحةُ عِلَلِهم بهذا القولِ فهو كقولِه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. وقدَّره ابنُ عطية: "لعاجَلْناهم" ولا معنى لهذا.
و"فَيَقولوا" عطفٌ [على] "تُصيبَهم"، و"لولا" الثانيةُ تحضيضٌ و"فنَتَّبِعَ" جوابُه، فلذلك نُصِبَ بإضمار "أَنْ". قال الزمخشري: "فإن قلتَ: كيف استقامَ هذا المعنى، وقد جُعِلَتْ العقوبةُ هي السببية لا القولُ؛ لدخولِ حرفِ الامتناعِ عليه دونَه؟ قلت: القولُ هو المقصودُ بأَنْ يكونَ سبباً للإِرسال ولكنَّ العقوبةَ لَمَّا كانت هي السببَ للقولِ، وكان وجودُه بوجودِها جُعِلَتِ القعوبةُ كأنها سببٌ للإِرسال بواسطة القولِ فَأُدْخلَتْ عليها "لولا". وجيْءَ بالقول معطوفاً عليها بالفاءِ المُعْطِيَةِ معنى السببية، ويَؤُْول معناه إلى قولِك: "ولولا قولُهم هذا إذا أصابَتْهم مصيبةٌ لَمَا أَرْسَلْنا" ولكن اخْتِيْرَتْ هذه الطريقةُ لنُكتةٍ: وهي أنهم لو لم يُعاقَبوا مثلاً على كفرِهم وقد عاينوا ما أُلْجِئوا به إلى العلمِ اليقين لم يقولوا: لولا أَرْسَلْتَ إلينا رسولاً، وإنما السببُ في قولِهم هذا هو العقابُ لا غيرَ، لا التأسُّفُ على ما فاتهم من الإِيمان بخالِقهم".
* { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ }
قوله: {مِن قَبْلُ}: إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بيَكْفروا، أو بـ"أُوْتِي" أي: مِنْ قبلِ ظهورِك.
(11/329)
---(1/4586)
قوله: {سِحْرَانِ} قرأ الكوفيون "سِحْران" أي: هما. أي: القرآن والتوراة، أو موسى وهارون وذلك على المبالغةِ، جعلوهما نفسَ السِّحْرِ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذَوا سِحْرَيْن. ولو صَحَّ هذا لكانَ يَنبغي أن يُفْرَدَ "سِحْر" ولكنه ثُنِّيَ تنبيهاً على التنويع. وقيل: المرادُ موسى ومحمدٌ عليهما السلام أو التوراةُ والإِنجيلُ. والباقون "ساحران" أي: موسى وهارون أو موسى ومحمدٌ كما تقدَّم.
قوله: {تَظَاهَرَا} العامَّةُ على تخفيفِ الظاءِ فعلاً ماضياً لـ سِحْران" أو "ساحران" أي: تَعاوَنا. وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذَّماري وأبو حيوة واليزيدي بشديدِها. وقد لحَّنهم الناسُ. وقال ابن خالويه: تشديدُه لَحْنٌ؛ لأنه فعلٌ ماضٍ. وإنما يُشَدَّد في المضارع". وقال الهُذَلي: "لا معنى له" وقال أبو الفضل:"لا أعرفُ وجهَه". وهذا عجيبٌ من هؤلاءِ وقد حُذِفَتْ نونُ الرفع في مواضعَ، حتى في الفصيح، كقولِه عليه السلام: "لا تَدْخلوا الجنةَ حتى تؤْمِنوا ولا تُؤْمنوا حتا تحابُّوا" ولا فرقَ بين كونِها بعد واوٍ وألفٍ أو ياءٍ، فهذا أصلُه "تَتَظاهران" فَأُدْغِم وحُذِفت نونُه تخفيفاً.
وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبدالله "أظَّاهَرا" بهمزةِ وصلٍ وشدِّ الظاءِ، وأصلُها "تَظاهرا" كقراءةِ العامةِ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَّنْتَ الأولَ فاجْتُلبَتْ همزةُ الوصل.
* { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله: {أَتَّبِعْهُ}: جوابُ الأمرِ وهو "فَأْتوا". "منهما" أي: من التوراةِ والقرآنِ، وهو مؤيدٌ لقراءة "سِحْران"، أو مِنْ كتابَيْهُما على حذف مضافٍ، وهو مؤيد لقراءةِ "ساحِران". وزيد بن علي "أتَّبِعُه" بالرفع استئنافاً أي: فأنا أتَّبعُه.
(11/330)
---(1/4587)
* { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
[قوله]: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ}: استجاب بمعنى أجاب. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين فعلِ الاستجابة في الآيةِ وبينه في قولِه:
3620ـ ..................... * فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجِيْبُ
حيثُ عُدِّيَ بغيرِ لامٍ؟ قلت: هذا الفعلُ يتعدَّى إلى الدعاء بنفسِه وإلى الداعي باللام، ويُحْذَفُ الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: "استجاب اللهُ دعاءَه" أو "استجاب له"، ولايكاد يُقال: استجاب له دعاءَه. وأمَّا البيتُ فمعناه: لم يَسْتَجبْ دعاءَه على حذفِ المضاف". قلت: قد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة، وأنَّ استجابَ بمعنى أجاب. والبيتُ الذي أشار إليه هو:
ـ وداعٍ دَعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى * فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
* { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
قوله: {وَصَّلْنَا}: العامَّةُ على التشديد: إمَّا من الوصلِ ضدِّ القطع أي: تابَعْنا بعضَه ببعض. وأصلُه مِنْ وَصْلِ الحَبْل., قال الشاعر:
3621ـ فَقُلْ لبني مروانَ ما بالُ ذِمَّتي * بحبلٍ ضعيفِ لا يَزال يُوَصَّل
وإمَّا: جَعَلْناه أَوْصالاً، أي: أنواعاً من المعاني. قاله مجاهد. والحسن قرأ بتخفيفِ الصاد. وهو قريبٌ ممَّا تقدَّم.
* { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ }
(11/331)
---(1/4588)
قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ}: مبتدأٌ، و"هم" مبتدأ ثانٍ، و"يؤْمِنون" خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولِ و"به" متعلِّقٌ بـ"يُؤْمِنون". وقد يُعَكِّر على الزمخشريِّ وغيرِ مِنْ أهل البيانِ حيث قالوا: التقديمُ يُفيد الاختصاصَ وهنا لا يتأتَّى ذلك، لأنهم لو خَصُّوا إيمانَهم بهذا الكتابِ فقط لَزِمَ كفرُهم بما عَداه، وهو عكسُ المرادِ، وقد أَبْدى أهلُ البيانِ هذا في قوله: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فقالوا: لو قَدَّم "به" لأوْهَمَ الاختصاصَ بالإِيمان بالله وحدَه دونَ ملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر، وهذا بعينِه جارٍ هنا. والجوابُ: أنَّ الإِيمانَ بغيرهِ معلومٌ فانصَبَّ الغرضُ إلى الإِيمانِ بهذا.
* { أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
قوله: {مَّرَّتَيْنِ}: منصوبٌ على المصدرِ. و{بِمَا صَبَرُواْ} مصدريةٌ. والباءُ تتعلَّق بـ"يُؤْتَوْن" أو بنفسِ الأَجْر.
* { وَقَالُوااْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {نُتَخَطَّفْ}: العامَّةُ على الجزمِ جواباً للشرطِ. والمنقَري بالرفعِ على حَذْفِ الفاءِ كقوله:
3622ـ مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها * ....................
وكقراءةٍ "يُدْرِكُكُمْ" بالرفع أو على التقديم، وهو مذهب سيبويه.
قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً} قال أبو البقاء: "عَدَّاه بنفسه لأنه بمعنى جَعَلَ. وقد صَرَّح به في قولِه {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً} ومَكَّن متعدٍّ بنفسِه مِنْ غيرِ أنُ يُضَمِّنَ معنى "جَعَلَ" كقوله: {مَكَّنَّاهم}. وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام.
(11/332)(1/4589)
---
و"آمِناً" قيل: بمعنى مُؤَمَّن/ أي: يُؤَمَّن مَنْ دخله. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ أي: آمناً أهلُه. وقيل: فاعِل بمعنى النَّسبِ أي: ذا آَمنٍ.
قوله: {يُجْبَى} قرأ نافعٌ بتاءِ التأنيثِ مراعاةً للفظِ "ثَمَرات". والباقون بالياء للفَصْلِ، ولأنه تأنيثٌ مجازيٌ. والجملةُ صفةٌ لـ"حرماً" أيضاً. وقرأ العامَّةُ "ثَمَرات" بفتحَتْين. وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتَيْن. وبعضُهم بفتحٍ وسكونٍ.
قوله: "رِزْقاً" إنْ جَعَلْتَه مصدراً جاز انتصابُه على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى "يُجْبَى إليه": يَرْزُقهم، وأَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له. والعاملُ محذوفٌ أي نَسُوْقه إليه رِزْقاً، وأَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ "ثَمَرات" لتخصيصِها بالإِضافةِ، وإنْ جَعَلْتَه اسماً للمرزوقِ انتصبَ على الحال مِنْ "ثَمَرات".
* { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }
قوله: {مَعِيشَتَهَا}: فيه أوجهٌ: مفعولٌ به على تضمينِ بَطِرَتْ خَسِرَت، أو على الظرف أي: أيام معيشتها ـ قاله الزجاج ـ أو على حذف "في" أي: في معيشتِها، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريبٌ مِنْ {سَفِهَ نَفْسَهُ
}. قوله: {لَمْ تُسْكَن} جملةٌ حاليةٌ، والعاملُ فيها معنى "تلك". ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إلاَّ سَكَناً قليلاً كسكونِ المسافر ونحوِه، أو إلاَّ زمناً قليلاً، أو إلاَّ مكاناً قليلاً. يعني أن القليلَ منها قد سكن.
* { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله: {فَمَتَاعُ}: أي: فهو مَتاعٌ. وقُرِىء "فمتاعاً الحياةَ" بنصبِ "متاعاً" على المصدر أي: يتمتَّعون متاعاً، و"الحياةَ" نصبٌ على الظرف.(1/4590)
(11/333)
---
قوله: {تَعْقِلُونَ} قرأ أبو عمرو بالياءِ مِنْ تحتُ التفاتاً. والبقاون بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم.
* { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ }
وقرأ طلحة "أمَنْ وَعَدْناه" بغيرِ فاءٍ.
قوله: {ثُمَّ هُوَ}: الكسائي وقالون بسكونِ الهاءِ إجراءً لـ ثم مُجْرى الواو والفاء. والباقون بالضمِّ على الأصل.
* { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }
قوله: {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}: مفعولاه محذوفان أي: تزعمونهم شركاءَ.
* { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلااءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوااْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ }
قوله: {هَاؤُلااءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ} فيه وجهان، أحدهما، أنه مبتدأ، و"الذين أَغْوَيْنا" صفةٌ للمبتدأ. والعائدُ محذوفٌ أي: أَغْويناهم، والخبر "أَغْوَيْناهم". و{كَمَا غَوَيْنَا} نعتٌ لمصدرٍ محذوف. ذلك المصدرُ مطاوِعٌ لهذا الفعلِ أي: [أَغْوَيناهم" فَغَوَوْا غَيَّاً كما عَوَيْنا. قاله الزمخشريُّ. وهذا الوجهُ مَنعه أبو علي قال: "لأنه ليس في الخبر زيادةُ فائدةٍ على ما فيه صفتِه". قال: "فإنْ قلتَ: قد وُصِل بقوله {كَمَا غَوَيْنَا} وفيه زيادةٌ. قلت: الزيادةُ في الظرفِ لا تُصَيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظروفَ صِلاتٌ" ثم أعرب هو "هؤلاء" مبتدأً و"والذين أَغْوَيْناهم" خبرَه. و"أَغْوَيْناهم" مستأنف. وأجابَ أبو البقاء وغيرُه عن الأول: بأنَّ الظرفَ قد يَلْزَمُ كقولك: "زيد عمرٌو في دارِه".
(11/334)
---(1/4591)
قوله: {مَا كَانُوااْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} "إيَّانا" مفعولُ "يَعْبُدون" قدِّم لأجلِ الفاصلةِ. وفي "ما" وجهان، أحدهما: هي نافيةٌ، والثانيةُ مصدريةٌ., ولا بُدَّ مِنْ تقديرِ حرفِ جرٍّ: تَبَرَّأْنا مِنْ ما كانوا أي: مِنْ عبادتِهم إيانا. وفيه بُعدٌ.
* { وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ }
قوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ}: جوابُها محذوفٌ أي: لَمَا رَأَوَا العذابَ أو لَدَفعوه.
* { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }
قوله: {فَعَمِيَتْ}: العامَّةُ على تخفيفها. وقرأ الأعمشُ وجناح بن حبيش بضمِّ العينِ وتشديدِ الميم. وقد تقدَّمت القراءتان للسبعةِ في هود. وقرأ طلحة "لا يَسَّاءَلُوْن" بتشديدِ السينِ على إدغامِ التاءِ في السينِ كقراءةِ {تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
}.
* { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أن "ما" نافيةٌ فالوقفُ على "يَخْتار". والثاني: "ما" مصدريةٌ أي: يختار اختيارَهم، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: مُختارهم.
الثالث: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: ما كان لهم الخيرةُ فيه كقولِه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي: منه.
وجَوَّزَ ابنُ عطية أَنْ تكونَ "كان" تامةً و"لهم الخِيَرَةُ" جملةٌ مستأنفةٌ. قال: "ويَتَّجه عندي أن تكون "ما" مفعولةً إذا قدَّرْنا كان التامةَ أي: إنَّ اللهَ يختار كلِّ كائنِ. و"لهم الخيرةُ" مستأنفٌ. معناه تعديدُ النِّعمِ عليهم في اختيار الله لهم لو قَبلوا". وجعل بعضُهم في "كان" ضميرَ الشأن/ وأنشد:
(11/335)
---(1/4592)
3633ـ أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العين تَذْرِيْفُ * لو كان ذا منك قبل اليوم معروفُ
ولو كان "ذا" اسمَها لقال: "معروفاً". وابنُ عطيةَ منع ذلك في الآية قال: "لأنَّ تفسيرَ الأمرِ والشأنِ لا يكون بجملةٍ فيها محذوف". قلت: كأنه يريد أنَّ الجارَّ متعلقٌ بمحذوفٍ. وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرَّح بجزْأَيْها. إلاَّ أنَّ في هذا نظراً إنْ أراده؛ لأن هذا الجارَّ قائمٌ مقامَ الخبرِ. ولا أظنُّ أحداً يمنعُ "هو السلطان في البلد" و"هي هندٌ في الدار".
والخِيَرَةُ مِنَ التخيير، كالطِّيَرَةِ من التَّطَيُّرِ فيُستعملان استعمالَ المصدر. وقال الزمخشري:"ما كان لهم الخيرةُ بيانٌ لقولِه "ويختار" لأنَّ معناه: ويختار ما يشاءُ، ولهذا لم يَدْخُلِ العاطفُ. والمعنى: أنَّ الخِيَرَةَ للهِ تعالى في أفعالِه، وهو أعلمُ بوجوهِ الحكمة فيها ليس لأحدٍ مِنْ خَلْقِه أَنْ يختار عليه". قتل: لم يَزَلِ الناسُ يقولون: إن الوقفَ على "يختار"، والابتداءَ بـ"ما" على أنها نافيةٌ هو مذهبُ أهلِ السنةِ. ونُقِل ذلك عن جماعةٍ كأبي جعفرٍ وغيرِه، وأنَّ كونَها موصولةً متصلةً بـ"يختار" غيرَ موقوفٍ عليه مذهبُ المعتزلة. وهذا الزمخشريُّ قد قَّررَ كونَها نافيةً، وحَصَّل غرضَه في كلامِه، وهو موافقٌ لكلامِ أهلِ السُّنةِ ظاهراً، وإنْ كان لا يريده. وهذا الطبريُّ مِنْ كبار أهل السنة مَنَعَ أَنْ تكونَ [ما] نافيةً قال: لئلا يكون المعنى: أنَّه لم تكنْ لهم الخيرةُ فيما مضى، وهي لهم فيما يُستقبل، وأيضاً فلم يتقدَّمْ نفيٌ". وهذا الذي قاله ابنُ جريرٍ مَرْوِيٌّ عن ابن عباس. وقال بعضُهم: ويختار لهم ما يشاء من الرسلِ، فـ"ما" على هذا واقعةٌ على العقلاء.
* { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }
(11/336)
---(1/4593)
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}: "أَرَأَيْتُمْ" و"جَعَلَ" تنازعا في "الليلَ" وأعملَ الثاني. ومفعولُ "أَرَأَيْتُم" هي جملةُ الاستفهامِ بعده. والعائدُ منها على "الليل" محذوفٌ، وتقديرُه: بضياءٍ بعدَه. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ. وتحريرُ هذا قد مَضَى في الأنعام فهو نظيرُه.
و"سَرْمَداً" مفعولٌ ثانٍ، إنْ كان الجَعْلُ تصييراً، أو حالٌ إن كان خَلْقاً وإنشاءً. والسَّرْمَدُ: الدائمُ الذي لا ينقطعُ. قاله طرفة:
3624ـ لَعَمْرُكَ ما أَمْريْ عليَّ بغُمَّةٍ * نهاري ولا لَيْلي عَلَيَّ بسَرْمَدِ
والظاهرُ أنَّ أصليةٌ، ووزنُه فَعْلَل كجَعْفَر. وقيل: هي زائدةٌ. واشتقاقُه من السَّرْد، وهو تتابُعُ الشيءِ على الشيءِ، إلاَّ أنَّ زيادةِ الميمِ وَسَطاً وأخيراً لا يَنْقاسُ نحو: دُلامِص، وزُرْقُم، من الدِّلاص والزُّرْقَة.
قوله: {إِلَى يَوْمِ} متعلقٌ بـ"جَعَل"، أو بـ"سَرْمداً"، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"سَرْمَداً".
* { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ}: من باب اللَّفِّ والنشر. ومنه:
3625ـ كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً * لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
* { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }
قوله: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ}: "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، صلتُها "إنَّ" وما في حَيِّزها، ولهذا كُسِرَتْ. ونَقَل الأخفش الصغير عن الكوفيين مَنْعَ الوَصْلِ بـ"إنَّ"، وكان يَسْتَقْبح ذلك عنهم. يعني لوجودِه في القرآن.
(11/337)
---(1/4594)
قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الباءً للتعديةِ كالهمزةِ، ولا قَلْبَ في الكلام. والمعنى: لَتُنِيْءُ المفاتيحُ العُصْبَةَ الأقوياءَ، كما تقولُ: أَجَأْتُه وجِْتُ به، وأَذْهَبْتُه وذَهَبْتُ به. ومعنى ناء بكذا: نَهَضَ بِهِ بثِقَلٍ. قال:
3626ـ تَنُوْءُ بأُخْراها فَلأْياً قِيامُها * وَتَمْشِي الهَوَيْنَى عن قَريبٍ فَتَبْهَرُ
وقال أبو زيد: "نُؤْتُ بالعَمَل أي: نَهَضْتُ". قال:
3627ـ إذا وَجَدْنا خَلَفاً بِئْسَ الخَلَفْ * عبداً إذا ما ناء بالحِمْلِ وَقَفْ
وفَسَّره الزمخشريُّ بالإِثْقال. قال: "يُقال: ناء به الحِمْلُ، حتى أَثْقله وأماله" وعليه يَنْطبقُ المعنى أي: لَتُثْقِلُ المفاتحُ العُصْبةَ.
والثاني: أنَّ في الكلام قَلْباً، والأصلُ: لَتَنُوْءُ العُصْبةُ بالمفاتحِ، أي: لَتَنْهَضُ بها. قاله أبو عبيد، كقولهم: "عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ". وقد تقدم الكلامُ في القَلْبِ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ.
وقرأ بُدَيْل بن مَيْسَرة "لَيَنُوْءُ" بالياء مِنْ تحتُ والتذكير؛ لأنه راعى المضافَ المحذوفَ. إذ التقديرُ: حِمْلُها أو ثِقْلُها. وقيل: الضَمير في "مفاتِحَه" لقارون، فاكتسب المضافُ من المضاف إليه التذكيرَ كقولِهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ" قال الزمخشري. يعني كما اكتسبَ "أهلُ" التأنيثَ اكتسَبَ هذا التذكيرَ.
قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أوجهٌ: أَنْ يكونَ معمولاً لتنوءُ. قاله الزمخشري: أو لـ"بَغَى" قاله ابنُ عطية. ورَدَّهما الشيخُ:/ بأنَّ المعنى ليس على التقييد بهذا الوقتِ. أو لـ"آتيناه" قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأن الإِتياءَ لم يكنْ ذلك الوقتَ، أو لمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء: بَغَى عليهم. وهذا يَنْبغي أَنْ يُرَدَّ بما رُدَّ به قولُ ابنِ عطية. وقَدَّره الطبري: اذكُرْ، وقَدَّره الشيخُ: أظهر الفرحَ وهو مناسِبٌ.
وقُرِىء "الفارِحين" حكاها عيسى الحجازي.
(11/338)
---(1/4595)
* { وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
قوله: {فِيمَآ آتَاكَ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"ابْتَغٍ"، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ أي: مُتقلِّباً فيما آتاكَ. و"ما" مصدريةٌ أو مبعنى الذي.
قوله: {كَمَآ أَحْسَنَ} أي: إحْساناً كإحسانه إليك.
قوله: {فِي الأَرْضِ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ"تَبْغِ" أو بالفساد، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ وهو بعيدٌ.
* { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيا أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }
قوله: {عَلَى عِلْمٍ}: حالٌ مِنْ مرفوع "أُوتِيْتُه".
قوله: {عِندِيا} إمَّا ظرفٌ لـ"أُوْتِيْتُه"، وإمَّا صفةٌ للعلم.
قوله: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ}: "مَنْ" موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ. وهو في موضع المفعولِ بـ"أَهْلَكَ". و"مِنْ قبلِه" متعلقٌ به. و"مِنَ القرون" يجوزُ فيه ذلك، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالً مِنْ "مَنْ هو أشدُّ".
(11/339)
---(1/4596)
قوله: {وَلاَ يُسْأَلُ} هذه قراءةُ العامَّةِ على البناء للمفعول، وبالياءِ مِنْ تحتُ ورَفْعِ الفعلِ. وقرأ أبو جعفر "ولا تُسْأَلْ" بالتاء مِنْ فوقُ والجزم. وابنُ سيرين وأبو العالية كذلك، إلاَّ مبنيٌّ للفاعل وهو المخاطَبُ. قال ابن أبي إسحاق: "لا يجوزُ ذلك حتى تنصبَ المجرمين". قال صاحب اللوامح: "هذا هو الظاهرُ؛ إلاَّ أنه لَمْ يَبْلُغْني فيه شيء. فإنْ تَرَكاه مرفوعاً فيحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ ِ"المجرمون" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم المجرمون. والثاني: أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ أصلِ الهاءِ والميم في "ذُنوبهم"، لأنهما مرفوعا المحلِّ" يعني أنَّ ذنوباً مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. قال: "فمحل المجرمون على الأصلِ، كما تقدَّم لنا في قراءةِ {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} بجرِّ بعوضة. وكان قد خَرَّجها على أن الأصلَ: بضَرْب مَثَلِ بعوضةٍ" وهذا تعسُّفٌ كثيرٌ. ولا ينبغي أَنْ يَقْرأ ابنُ سيرين وأبو العالية إلاَّ "المجرمين" بالياءِ فقط، وإنما تُرِك نَقْلُها لظهورِه.
* { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
قوله: {فِي زِينَتِهِ}: إمَّا متعلِّقٌ بـ"خَرَجَ"، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ "خَرَجَ.
* { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ }
قوله: {وَيْلَكُمْ}: منصوبٌ بمحذوفٍ أي: أَلْزمَكم اللهُ وَيْلَكم.
قوله: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ} أي: هذه الخَصْلَةُ، وهي الزهدُ في الدنيا والرغبةُ فيما عند الله.
* { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ }
(11/340)
---(1/4597)
قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ}: المشهورُ كَسْرُ هاءِ الكنايةِ في "به" و"بداره" لأجلِ كسرِ ما قبلَها. وقُرِىءَ بضمِّها,. وقد تقدَّم أنها الأصلُ، وهي لغةُ الحجازِ.
قوله: {مِن فِئَةٍ} يجوز أن تكونَ اسمَ كان، إنْ كانَتْ ناقصةً، و"له" الخبرُ، أو "يَنْصُرونه"، وأَنْ تكونَ فاعلةً إنْ كانَتْ تامَّةً، و"يَنْصُرونه" صفةٌ لـ"فِئَة" فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ لفظاً وبالرفعِ معنى؛ لأنَّ "مِنْ" مزيدةٌ فيها.
* { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}: و"ويْكَأنَّه" فيه مذاهبُ منها: أنَّ "وَيْ" كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا. والكافُ للتعليل، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي: أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون، وسُمِع "كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللهُ له". وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على "وَيْ" وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيُّ. إلاَّ أنه يُنْقل عنهأنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها: وَيْلَكَ كما سيأتي، وهذا يُنافي وَقْفَه. وأنشد سيبويه:
3628ـ وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبَ يُحْبَبْ * ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
الثاني: قال بعضهم: قوله: "كأنَّ" هنا للتشبيه، إلاَّ أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبرِ واليقين. وأنشد:
3629ـ كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني * مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا
وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على "وَيْ".
الثالث: أنَّ "وَيْكَ" كلمةٌ برأسِها، والكافَ حرفُ خطابٍ، و"أنَّ" معمولٌه محذوفٌ أي: أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ. قاله الأخفش. وعليه قولُه:
3630ـ ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ * ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ
(11/341)(1/4598)
---
وقال عنترةٌ:
3631ـ ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/ * قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ
وحقُّه أَنْ يقفَ على "وَيْكَ" وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع: أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف. وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم. وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمروٍ. ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المقتدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما: وَيْلَكَ، فحذف. ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ: وَيْكأنَّ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين، فعامَّةُ القراءِ أتَّبعوة الرسمَ، والكسائيُّ وقف على "وَيْ"، وأبو عمروٍ على وَيْكَ. وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ.
الخامس: أنَّ "وَيْكأنَّ" كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ، ومعناها: ألم تَرَ، ورُبَّما نُقِل ذلك عن ابن عباس. ونَقَلَ الكسائيُ والفراء أنها بمعنى: أما ترى إلى صُنْعِ الله. وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رَحْمَةً لك، في لغة حِمْير.
قوله: {لَوْلاا أَن مَّنَّ} قرأ الأعمشُ "لولا مَنَّ" بحذفِ "أنْ" وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ "لولا" هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأ. وعنه "مَنُّ" برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ.
قوله: {لَخَسَفَ} حفص: "لَخَسَفَ" مبنياً للفاعل أي: الله تعالى: والباقون ببنائِه للمفعولِ. و"بنا" هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ. وعبدالله وطلحةُ "لا نْخُسِفَ بنا" أي: المكان. وقيل: "بنا" هو القائمُ مَقامنَ الفاعلِ، كقولك "انقُطِع بنا" وهي عبارةٌ... وقيل: الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي: لا نخسَفَ الانخسافَ، وهي عِيٌّ أيضاً. وعن عبدِ الله "لَتُخُسِّفَ" بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ، و"بنا" قائمةٌ مقامَه.
* { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
(11/342)
---(1/4599)
قوله: {تِلْكَ الدَّارُ}: مبتدأٌ وصفتُه. و"نجعلها" هو الخبرُ. ويجوز أَنْ تكونَ "الدارُ" خبراً، و"نَجْعَلُها" خبرٌ آخرُ، أو حالٌ. والأول أحسنُ.
قوله: {وَلاَ فَسَاداً} كَرَّر "لا" ليُفيدَ أنَّ كلاً منهما مستقلٌ في الآية لا مجموعُهما.
* { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله: {فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ}: مِنْ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ تَشْنيعاً عليهم.
قوله: {إِلاَّ مَا كَانُواْ} أي: إلاَّ مثلَ ما كانوا.
* { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّيا أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله: {إِلَى مَعَادٍ}: تنكيرُه للتعظيم أَيْ: مَعادٍ أيِّ مَعادٍ وهو مكةُ أو الجنة.
قوله: {مَن جَآءَ بِالْهُدَى} منصوبٌ بمضمرٍ أي: يعلمُ أو بـ أَعْلم، إنْ جَعَلْناها بمعنى عالم وأَعْمَلْناها أعمالَه.
* { وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ}
* {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً}: فيه وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ أي لكنْ رَحِمَكَ رحمةً. والثاني: أنه متصلٌ. قال الزمخشري: "هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى. كأنه قيل: وما أَلْقَى إليك الكتابَ إلاَّ رحمةً" فيكونُ استثناءً من الأحوالِ أو من المفعولِ له.
قوله: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} قرأ العامَّةُ بفتح الياء وضمِّ الصاد، مِنْ صَدَّه، يَصُدَّه. وقٌرِىء بضمِّ الياء وكسرِ الصاد مِنْ أصَدَّه بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيدٍ عن كلبٍ. قال:
(11/343)
---(1/4600)
3632ـ أناسٌ أَصَدَّوا الناسَ بالسيفِ عنهم * صُدودَ السَّوافي عن أُنوفِ المَخارِمِ
وأصلُ يَصُدُّونك: يَصُدُّونَنَّك، فَفُعِل فيه ما فُعِل في {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ
}.
* { وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً آخَرَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
قوله: {إِلاَّ وَجْهَهُ}: مَنْ جَعَل "شيئاً" يُطْلَق على الباري تعالى ـ وهو الصحيح ـ قال: هذا استثناءٌ متصلٌ، والمرادُ بالوجِ الذاتُ، وإنما جرى على عادةِ العربِ في التعبير بالاشرفِ عن الجملة. ومَنْ لم يُطْلِقْ عليه جَعَله متصلاً أيضاً، وجعل الوجهَ ما عُمِل لأجله أو الجاهَ الذي بين الناس، أو يجعلُه منقطعاً أي: لكن هو بحاله لم يَهْلَكْ.
قوله: {تُرْجَعُونَ} العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وعيسى على بنائِه للفاعل، وهي حسنةٌ.(1/4601)
سورة العنكبوت
* { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {أَن يُتْرَكُواْ}: سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ حَسِب عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ.
قوله: "أنْ يقولوا" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ "أَنْ يُتْرَكوا"، أبدلَ مصدراً مؤولاً مِنْ مثلِه. الثاني: أنها على إسقاط الخافض وهو الباءُ، أو اللام، أي: بأَنْ يَقولوا، أو لأن يقولوا. قال ابن عطية وأبو البقاء: "وإذا قُدِّرَتِ الباءُ كان حالاً". قال ابن عطية: "والمعنى في الباء واللام مختلفٌ؛ وذلك أنَّه في الباء كما تقول: "تركْتُ زيداً بحالِه"/ وهي في اللام بمعنى مِنْ أجل أي: أَحَسِبوا أنَّ إيمانَهم عِلةٌ للترك" انتهى. وهذا تفسيرُ معنى، ولو فَسَّر الإِعرابَ لقال: أَحُسْبانُهم التركَ لأجل تلفُّظِهم بالإِيمان.
(11/344)
---
وقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: فأين الكلامُ الدالُّ على المضمونِ الذي يَقْتضيه الحُسبانُ؟ قلت: هو في قولِه: {أَن يُتْرَكُوااْ أَن يَقُولُوااْ: آمَنَّا، وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}. وذلك أنَّ تقديرَه: أَحَسِبُوا تَرْكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا، فالتركُ أولُ مفعولَيْ "حَسِب" و"لقولهم آمنَّا" هو الخبر. وأمَّا غيرَ مفتونين فتتمةُ التركِ؛ لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
3633- فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَه * ....................
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحُسْبان تَقْدِرُ أَنْ تقولَ: تَرَكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا على [تقدير]: حاصل ومستقر قبل اللام. فإنْ قلت: "أَنْ يَقُولوا" هو علةُ تَرْكِهم غيرَ مَفْتونين، فكيف يَصِحُّ أن يقعَ خبرَ مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ وضَرْبُه للتأديب، وقد كان التأديبُ والمخافةُ في قولِك: خَرَجْتُ مخافةَ الشرِّ وضَرَبْتُه تأديباً تعليلين. وتقول أيضاً: حَسِبْتُ خروجَه لمخافةِ الشَّرِّ، وظنَنْتُ ضربَه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتَهما مبتدأ وخبراً".
(11/345)
---(1/4602)
قال الشيخ بعد هذا كلِّه: "وهو كلامٌ فيه اضطرابٌ؛ ذكر أولاً أنَّ تقديرَه غيرَ مفتونين تتمةٌ، يعني أنه حالٌ لأنه سَبَكَ ذلك مِنْ قولِهِ {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} وهي جملةٌ حالية، ثم ذكر أَنَّ "يُتْركوا" هنا من الترك الذي هو تَصْييرٌ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ مفعولَ "صيَّر" الثاني لا يَسْتقيمُ أَنْ يكونَ "لقولِهم"؛ إذا يصيرُ التقديرُ: أن يُصَيَّروا لقولِهم وهم لا يُفْتنون، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ. وأمَّا ما مَثَّله به من البيت فإنه يَصِحُّ أن يكون "جَزَرَ السِّباع" مفعولاً ثانياً لـ تَرَكَ بمعنى صَيَّر، بخلاف ما قَدَّر في الآية. وأمَّا تقديرهُ تَرَكهم غيرَ مفتونين لقولهم [آمَنَّا] على تقديرِ حاصل ومستقر قبل اللام فلا يَصِحُّ إذا كان تركُهم بمعنى تصييرهم، وكان غيرَ مفتونين حالاً؛ إذ لا يَنْعَقِد مِنْ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم وَتَقَوُّلِهم مبتدأٌ وخبرٌ، لاحتياجِ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم إلى مفعولٍ ثانٍ لأنَّ غيرَ مفتونين عنده حالٌ لا مفعولٌ ثانٍ. وأمَّا قولُه: فإنْ قلت: أَنْ يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فَضْلِ فَهْمٍ: وذلك أنَّ قولَه: "أَنْ يقولوا" هو علةُ تَرْكِهم فليس كذلك؛ لأنه لو كان علةً له لكان به متعلقاً كما يتعلَّقُ بالفعلِ، ولكنه علةٌ للخبرِ المحذوفِ الذي هو مستقر أو كائن، والخبرُ غيرُ المبتدأ، ولو كان "لقولِهم" علةً للترك لكان مِنْ تمامِه فكان يحتاج إلى خبرٍ. وأمَّا قولُه كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ فـ "لمخافة" ليس علةً للخروجِ بل للخبر المحذوف الذي هو مستقرٌّ أو كائن" انتهى.
قلت: وهذا الذي ذكره الشيخُ كلُّه جوابُه: أنَّ الزمخشريَّ إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامُه عليه صحيحٌ. وأمَّا قولُه: ليس علةً للخروج ونحو ذلك يعني في اللفظ. وأمَّا في المعنى فهو علةٌ له قطعاً، ولولا خَوْفُ الخروج عن المقصود.
(11/346)
---(1/4603)
* { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }
قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ}: العامَّةُ على فتح الياء مضارعَ "عَلِم" المتعديةِ لواحد. كذا قالوا. وفيه إشكالٌ تقدَّمَ غيرَ مرةٍ: وهو أنها إذا تَعَدَّتْ لمفعولٍ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. وهذا المعنى لا يجوز إسنادُه إلى الباري تعالى؛ لأنه يَسْتَدعي سَبْقَ جهلٍ؛ ولأنه يتعلَّقُ بالذاتِ فقط دون ما هي عليه من الأحوالِ.
وقرأ عليٌّ وجعفرُ بن محمد بضمِّ الياءِ، مضارعَ أَعْلم. ويحتمل أَنْ يكونَ مِنْ عَلِم بمعنى عَرَفَ، فلمَّا جِيْءَ بهمزةِ النقلِ أَكْسَبَتْها مفعولاً آخرَ فَحُذِفَ. ثُم هذا المفعولُ يُحتمل أَنْ يكونَ هو الأولَ أي: لَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الناسَ الصادقين، وليُعْلِمنَّهم الكاذبين، أي: بشهرةٍ يُعْرَفُ بها هؤلاءِ مِنْ هؤلاء. وأن يكونَ الثاني أي: ليُعْلِمَنَّ هؤلاء منازِلَهم، وهؤلاءِ منازلَهم في الآخرةِ. ويُحتمل أَنْ يكونَ من العلامةِ وهي السِّيمِياء، فلا يتعدَّى إلاَّ لواحدٍ. أي: لنجعلَنَّ لهم علامةً يُعرفون بها. وقرأ الزهريُّ الأولى كالمشهورةِ، والثانيةَ كالشاذة.
* { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }
(11/347)
---(1/4604)
قوله: {أم حَسِبَ}: "أم" هذه منقطعةٌ فتتقدَّرُ بـ بل والهمزةِ عند الجمهورِ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطال. وقال ابنُ عطية: "أم" معادِلَةٌ/ للألفِ في قولِه "أَحَسِبَ"، وكأنَّه عَزَّ وجَلَّ قَرَّر الفريقين: قرر المؤمنين على [ظَنِّهم أنَّهم] لا يُفْتَنُون، وقَرَّر الكافرين أنهم يَسْبِقُون عقابَ اللَّهِ". قال الشيخ: "ليسَتْ معادِلةً؛ إذ لو كانت كذلك لكانَتْ متصلةً. ولا جائزٌ أَنْ تكونَ متصلةً لفَقْدِ شرطَيْن، أحدهما: أنَّ ما بعدَها ليس مفرداً، ولا ما في قوته. والثاني: أنَّه لم يكن هنا ما يُجابُ به مِنْ أحد شيئين أو أشياء.
وجَوَّز الزمخشريُّ في "حَسِبَ" هذه أَنْ تتعدَّى لاثنين، وجعل "أنَّ" وما في حَيِّزها مَسَدَّهما كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ا ;لْجَنَّةَ}ا وأَنْ تتعدَّى لواحدٍ على أنها تَضَمَّنَتْ معنى "قَدَّر". إلاَّ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ.
قوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}: "ساء" يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى بِئْس، فتكونُ "ما": إمَّا موصولةً بمعنى الذي، و"يَحْكمون" صلتُها. وهي فاعلُ "ساء". والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: حُكْمُهم. ويجوز أَنْ تكونَ "ما" تمييزاً، و"يَحْكُمون" صفتُها، والفاعلُ مضمر يُفَسِّره "ما"، والمخصوصُ أيضاً محذوفٌ. ويجوزُ أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً، وهو قولُ ابنِ كَيْسان. فعلى هذا يكونُ التمييزُ محذوفاً، والمصدرُ المؤولُ مخصوصٌ بالذمِّ أي: ساءَ حُكْماً حكمُهم. وقد تقدَّمَ حكمُ "ما" إذا اتصلَتْ بـ "بِئْسَ" مُشْبعاً في البقرة. ويجوزُ أَنْ تكونَ "ساء" بمعنى قَبُح، فيجوز في "ما" أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي، ونكرةً موصوفَةً. وجيْءَ بـ "يَحْكمون" دونَ حُكْمِه: إمَّا للتنبيهِ على أن هذا دَيْدَنُهم، وإمَّا لوقوعِه مَوْقِعَ الماضي لأجلِ الفاصلة.
* { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(11/348)
---(1/4605)
قوله: {مَن كَانَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ: لشَبَهِها بالشرطيةِ. والظاهرُ أنَّ هذا ليس بجوابٍ؛ لأنَّ أجلَ اللَّهِ آتٍ لا مَحالةَ من غيرِ تقييدٍ بشرطِ، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحاً، ولا يُشْرِكْ بعبادةِ ربِّه أحداً، كما قد صَرَّح به.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ، والخبرُ جملةُ القسمِ المحذوفةُ وجوابُها، أي: واللَّهِ لنُكَفِّرَنَّ. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغال أي: ولَيُخَلِّصَنَّ الذين آمنُوا مِنْ سيئاتهم.
قوله: {أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قيل: على حَذْفِ مضافٍ أي: ثوابَ أحسنِ. والمرادُ بـ "أَحْسَن" هنا مجردُ الوصفِ. قيل: لئلا يَلْزَمَ أَنْ يكونَ جزاؤُهم بالحُسْن مسكوتاً عنه. وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه من بابِ الأَوْلى إذا جازاهم بالأحسنِ جازاهم بما دَوْنَه فهو من التنبيهِ على الأَدْنى بالأعلى. قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: يجوز فيه الرفعُ على الابتداء، والنصبُ على الاشتغالِ.
* { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله: {حُسْناً}: فيه أوجهٌ، أحدُها، أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي إيصاءً حُسْناً: إمَّا على المبالغةِ، جُعِل نفسَ الحُسْن، وإمَّا على حَذْفِ مضاف أي: ذا حُسْن. الثاني: أنه مفعولٌ به. قال ابنُ عطية: "وفي ذلك تَجَوَّزٌ. والأصلُ: ووَصَّيْنا الإِنسانَ بالحُسْن في فِعْله مع والدَيْه. ونظيرُ هذا قولُ الشاعر:
(11/349)
---(1/4606)
3634- عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذ تَشْكُوْنا * ومِنْ أبي دَهْماءَ إذ يُوصِيْنا
خيراً بنا كأنَّنا جافُونا
ومثلُه قولُ الحطيئة:
3635- وَصَّيْتُ مِنْ بَرَّةَ قلباً حُرَّاً * بالكَلْبِ خيراً والحَماةِ شَرَّاً
وعلى هذا فيكونُ الأصلُ: وصَّيْناه بحُسْنٍ في أَمْرِ والدَيْه ثم جُرَّ الوالدان بالباء فانتصَبَ "حُسْناً"، وكذلك البيتان. والباءُ في الآية والبيتين في هذه الحالةِ للظرفيةِ.
الثالث: أنَّ "بوالديه" هو المفعولُ الثاني: فينتصبُ "حُسْناً" بإضمار فعلٍ أي: يَحْسُن حُسْناً، فيكونُ مصدراً مؤكداً. كذا قيل. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ عاملَ المؤكِّد لا يُحْذَفُ. الرابع: أنَّه مفعولٌ به على التضمينِ أي: أَلْزَمْناه حُسْناً. الخامس: أنَّه على إسقاطِ الخافض أي: بحُسْنٍ. وعبَّر صاحب "التحرير" عن ذلك بالقطع. السادس: أنَّ بعضَ الكوفيين قَدَّره: ووصَّيْنا الإِنسانَ أَنْ يَفْعَلَ بوالديه حُسْناً. وفيه حَذْفُ "أنْ" وصلتِها وإبقاءُ معمولِها. ولا يجوزُعند البصريين. السابع: أنَّ التقديرَ: ووصَّيْناه بإيتاءِ والدَيْه حُسناً. وفيه حَذْفُ المصدرِ، وإبقاءُ معمولِه. ولا يجوزُ. الثامن: أنَّه منصوبٌ انتصابَ "زيداً" في قولِك لمَنْ رأيتَه مُتَهيِّئاً للضَرْب: زيداً أي: اضرِبْ زيداً. والتقديرُ هنا: أَوْلِهما حُسْناً أو افعلْ بهما حُسْناً. قالهما الزمخشري.
وقرأ عيسى والجحدري/ "حَسَناً" بفتحتين، وهما لغتان كالبُخْلِ والبَخَل، وقد تقدَّم ذلك أوائل البقرة.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }
(11/350)
---(1/4607)
قوله: {لَيَقُولُنَّ}: العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ ليُسْنِدَ الفعلَ لضمير جماعةٍ حَمْلاً على معنى "مَنْ" بعد أَنْ حُمِل على لفظِها. ونقل أبو معاذ النحوي أنه قُرِئ "لَيَقُولَنَّ" بالفتح جَرْياً على مراعاةِ لفظِها أيضاً. وقراءةُ العامَّةِ أحسنُ لقولِه "إنَّا كُنَّا".
* { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
قوله: {وَلْنَحْمِلْ}: أمرٌ في معنى الخبر. وقرأ الحسن وعيسى بكسرِ لامِ الأمرِ. وهو لغةُ الحجاز. وقال الزمخشري: "وهذا قولُ صناديدِ قريشٍ كانوا يقولون لمَنْ آمنَ منهم: لا نُبْعَثُ نحن ولا أنتم، فإنْ عَسَى كان ذلك فإنَّا نَتَحَمَّلُ". قال الشيخ: "هو تركيبٌ أعجميٌّ مِنْ جهةِ إدخالِ حرفِ الشرطِ على "عسى"، وهي جامدةٌ، واستعمالِها مِنْ غيرِ اسمٍ ولا خبرٍ وإيلائِها كان".
وقرأ العامَّةُ " خطاياكُمْ" جمعَ تكسيرٍ. وداود بن أبي هند "مِنْ خَطِيْئاتهم" جمعَ سلامةٍ. وعنه أيضاً "خَطيئتِهم" بالتوحيد، والمرادُ الجنسُ. وهذا شبيهٌ بقراءتَيْ {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيائَتُهُ} و"خطيئاته" وعنه أيضاً "خَطَئِهم". قيل: بفتحِ الطاءِ وكسرِ الياءِ. يعني بكسرِ الهمزةِ القريبةِ من الياء لأجلِ تسهيلِها بينَ بينَ.
و"مِنْ شيء" هو مفعولٌ بـ "حامِلين"، و"مِنْ خطاياهم" حالٌ منه، لمَّا تقدَّم عليه انتصبَ حالاً.
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }
(11/351)
---(1/4608)
قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ}: منصوبٌ على الظرفِ. {إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} منصوبٌ على الاستثناءِ، وفي وقوع الاستثناءِ مِنْ أسماءِ العددِ خلافٌ. وللمانعين منه جوابٌ عن هذه الآيةِ. وقد رُوْعِيَتْ هنا نكتةٌ لطيفةٌ: وهو أَنْ غايرَ بين تمييزَيْ العددَيْن فقال في الأول: "سَنَة" وفي الثاني: "عاماً" لئلا يَثْقُلَ اللفظُ. ثم إنه خَصَّ لفظَ العامِ بالخمسين إيذاناً بأنَّ نبيَّ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا استراح منهم بقيَ في زمنٍ حسنٍ، والعربُ تُعَبِّرُ عن الخِصْبِ بالعام، وعن الجَدْبِ بالسَّنَة.
* { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }
قوله: {وَجَعَلْنَاهَآ}: أي: العقوبَة أو الطَّوْفَةَ، ونحو ذَلك.
* { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ}: العامَّةُ على نصبِه عَطفاً على "نوحاً"، أو بإضمار اذْكُرْ، أو عطفاً على هاء "أَنْجَيْناه". والنخعي وأبو جعفر وأبو حنيفةَ "وإبراهيمُ رفعاً على الابتداءِ، والخبرُ مقدَّرٌ أي: ومن المرسلينَ إبراهيمُ.
قوله: "إذ قالَ" بدلٌ مِنْ "إبراهيمَ" بدلُ اشتمالِ.
* { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
(11/352)
---(1/4609)
قوله: {وَتَخْلُقُونَ}: العامَّةُ بفتحِ التاءِ وسكونِ الخاءِ وسكونِ اللامِ، مضارعَ خَلَقَ، "إفكاً" بكسرِ الهمزةِ وسكون الفاء أي: وَتَخْتَلِقُوْن كذباً أو تَنْحِتُون أصناماً. وعلي بن أبي طالب وزيدُ بن علي والسُّلمي وقتادةُ بفتح الخاءِ واللامِ مشددةً، وهو مضارعُ "تَخَلَّقَ" والأصلُ: تَتَخَلَّقُوْن بتاءَيْن، فَحُذِفَت إحداهما كـ تَنزَّلُ ونحوِه. ورُوي عن زيد بن علي أيضاً "تُخَلِّقُوْن" بضم التاء وتشديد اللام مضارعَ خَلَّق مضعَّفاً.
وقرأ ابن الزُّبير وفضيل بن زُرْقان "أَفِكاً" بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدرٌ كالكَذِب معنىً ووزناً. وجَوَّز الزمخشري في الإِفْك بالكسرِ والسكون وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكِذْب واللِّعْب، وأصلُهما الكَذِب واللَّعِب، وأن يكونَ صفةً على فِعْل أي خَلْقاً إفكاً أي: ذا إفك. قلتُ: وتقديرُه مضافاً قبلَ إفْك مع جَعْلِه له صفةً غيرُ محتاجٍ إليه، وإنما كان يُحْتاجُ إليه لو جَعَلَه مصدراً.
قوله: "رِزْقاً" يجوزُ أن يكونَ منصوباً على المصدرِ، وناصبُه "لا يَمْلِكون" لأنَّه في معناه. وعلى أصولِ الكوفيين يجوزُ أَنْ يكونَ الأصلُ: لا يملِكُون أن يَرْزُقوكم رِزْقاً، فـ "أَنْ يَرْزُقوكم" هو مفعولُ "يَمْلكون". ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المَرْزوق، فينتصبَ مفعولاً به.
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
قوله: {يَرَوْاْ كَيْفَ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر بالخطاب، على خطابِ إبراهيمِ لقومِه بذلك. والباقون بالغَيْبة ردَّاً على الأممِ المكذِّبةِ.
(11/353)
---(1/4610)
قوله: "كيف يُبْدِئُ" العامَّةُ على ضَمِّ الياءِ مِنْ أَبْدَأَ. والزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلافٍ عنه "يَبْدَأُ" مضارعَ بدأ. وقد صَرَّح بماضيه هنا حيث قال: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} وقرأ الزهري: "كيف بَدا" بألفٍ صريحةٍ، وهو تخفيفٌ على غيرِ قياسٍ. وقياسُه بين بينَ، وهو في الشذوذ كقولِه:
3636- ..................... * فَارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
* { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: {النَّشْأَةَ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهما لغتان كالرَّأْفة والرَّآفة. وانتصابُهما على المصدرِ المحذوفِ الزوائدِ. والأصلُ الإِنشاءة. أو على حَذْف العالمِ أي: يُنْشِئ فَيَنْشَؤون النشأةَ. وهي مرسومةٌ بالألفِ وهو يُقَوِّيَ قراءةَ المدِّ.
* { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قوله: {وَلاَ فِي السَّمَآءِ}: على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها كقولِه: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ} أي: على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها. وقال ابن زيد والفراء: "معناه ولا مَنْ في السماءِ أي: يُعْجِزُ إنْ عَصَى" يعني: أنَّ مَنْ في السمواتِ عطفٌ على "أنتم" بتقدير: إنْ يَعْصِ. قال الفراء: "وهذا من غوامضِ العربيةِ". قلت: وهذا على أصلِه حيث يُجَوِّز حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ وتَبْقى صلتُه. وأنشد:
3637- أمَن يهْجُو رسولَ الله منكُمْ * ويَنْصُرُه ويَمْدَحُه سَواءُ
(11/354)
---(1/4611)
وأبعدُ مِنْ ذلك مَنْ قدَّر موصولين محذوفين أي: وما أنتم بمعجِزِين مَنْ في الأرض مِن الإِنسِ والجنِّ ولا مَنْ في السماء من الملائكة، فكيف تُعْجِزُون خالقِها؟ وعلى قولِ الجمهورِ يكونُ المفعولُ محذوفاً أي: وما أنتم بمعجِزين أي: فائِتينَ ما يريدُ اللَّهُ بكم.
وقوله: "ثم يُعيدُه" {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ} مُسْتأنفان، من إخبارِ الله تعالى، فليس الأولُ داخلاً في حَيِّزِ الرؤيةِ، ولا في الثاني في حَيِّزِ النظَر.
* { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}: العامَّةُ على نصبِه. والحسن وسالمٌ الأفطسُ برفعِه. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا.
* { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
قوله: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ}: في "ما" هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، وهو المفعولُ الأول. و"أَوْثاناً" مفعولٌ ثانٍ. والخبرُ "مَوَدَّةُ" في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي. والتقدير: إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ، أي: ذو مودةٍ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ "مَوَدَّةَ" أي: إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم، أو "يكونُ عليكم"، لدلالةِ قولِه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}.
(11/355)
---(1/4612)
الثاني: أن تُجْعَلَ "ما" كافةً، و"أوثاناً" مفعولٌ به. والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ، أو لاثنين، والثاني، هو {مِّن دُونِ اللَّهِ} فَمَنْ رفع "مودةُ" كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ. أي: هي مودة، أي: ذاتُ مودة، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً. والجملةُ حينئذٍ صفةٌ لـ "أَوْثاناً" أو مستأنفةٌ. ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له، أو بإضمار أَعْني.
الثالث: أَنْ تُجْعَلَ "ما" مصدريةً، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي: إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ، فيمَنْ رفَعَ "مودةُ". ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، بل يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً. وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً، على ما مَرَّ في الوجه الأول.
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع "مودةُ" غيرَ منونة وجَرِّ "بَيْنِكم". ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب "مودةً" منونةً ونصبِ "بينَكم". وحمزةُ وحفص بنصب "مودةَ" غيرَ منونةٍ وجرِّ "بَيْنِكم". فالرفعُ قد تقدَّم. والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان، ويجوز وجهٌ ثالثٌ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم:
3638- يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ
ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه. ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع "مودةُ" غيرَ منونةٍ ونَصَبَ "بينَكم". وخُرِّجَتْ على إضافة "مودةُ" للظرف، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالفتح إذا جعلنا "بينَكم" فاعلاً.
(11/356)
---(1/4613)
وأمَّا "في الحياة" ففيه [أوجهٌ] أحدها: أنه هو و"بينَكم" متعلقان بـ "مودَّة" إذا نُوِّنَتْ. وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما. الثاني: أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان لـ "مودَّة". الثالث: أن يتعلَّق "بَيْنَكم" بموَدَّة. و"في الحياة" صفةٌ لـ "مودة". ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ. والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ، وهذا عَمِلَ فيه بعد أَنْ وُصِفَ. على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف. فهذا وجهٌ رابعٌ.
الخامس: أَنْ يتعلَّقَ "في الحياة" بنفس "بينَكم" لأنه بمعنى الفعل، إذ التقديرُ: اجتماعُكم ووَصْلُكم. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ "بينَكم". السابع: أن يكونَ "بينَكم" صفةً لـ "مودة". و"في الحياة" حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه. الثامن: أَنْ يتعلَّقَ "في الحياة" بـ "اتَّخذتُمْ" على أَنْ تكون "ما" كافةً و"مودة" منصوبةً. قال أبو البقاء: "لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ الموصولِ وما في الصلة بالخبر".
* { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ }
قوله: {وَلُوطاً}: كقولِه: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ
}. قوله: "ما سَبَقكم" يجوز أَنْ تكونَ استئنافيةً جواباً لمَنْ سأل عن ذلك، وأَنْ تكونَ حاليةً، أي: مُبْتَدِعين لها.
* { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ?لسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ?لْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ?ئْتِنَا بِعَذَابِ ?للَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّادِقِينَ }
* { قَالَ رَبِّ ?نصُرْنِي عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْمُفْسِدِينَ }
(11/357)
---(1/4614)
* { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِ?لْبُشْرَى? قَالُو?اْ إِنَّا مُهْلِكُو? أَهْلِ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ }
* { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ?مْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ?لْغَابِرِينَ }
* { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ?مْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ?لْغَابِرينَ }
* { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى? أَهْلِ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ ?لسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
* { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
* { وَإِلَى? مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ي?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لأَخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ?لأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
* { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
* { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }
* { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى? بِ?لْبَيِّنَاتِ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِي ?لأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ }
}
* { { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُو?اْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
(11/358)
---(1/4615)
* { مَثَلُ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِ ?للَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ?لْعَنكَبُوتِ ?تَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ?لْبُيُوتِ لَبَيْتُ ?لْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
* { إِنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ }
* { وَتِلْكَ ?لأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ?لْعَالِمُونَ }
* { خَلَقَ ?للَّهُ ?لسَّمَاوَاتِ وَ?لأَرْضَ بِ?لْحَقِّ إِنَّ فِي ذ?لِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ }
* { ?تْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَابِ وَأَقِمِ ?لصَّلاَةَ إِنَّ ?لصَّلاَةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَآءِ وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }
* { وَلاَ تُجَادِلُو?اْ أَهْلَ ?لْكِتَابِ إِلاَّ بِ?لَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُو?اْ آمَنَّا بِ?لَّذِي? أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـ?هُنَا وَإِلَـ?هُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
* { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ?لْكِتَابَ فَ?لَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ?لْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـ?ؤُلا?ءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ?لْكَافِرونَ }
* { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ?لْمُبْطِلُونَ }
* { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ?لظَّالِمُونَ }
* { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ?لآيَاتُ عِندَ ?للَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }
(11/359)
---(1/4616)
* { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَابَ يُتْلَى? عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذ?لِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى? لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
* { قُلْ كَفَى? بِ?للَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي ?لسَّمَاوَاتِ وَ?لأَرْضِ وَ?لَّذِينَ آمَنُواْ بِ?لْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِ?للَّهِ أُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَاسِرُونَ }
* { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِ?لْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ?لْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
* { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِ?لْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِ?لْكَافِرِينَ }
* { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ?لْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
* { ي?عِبَادِيَ ?لَّذِينَ آمَنُو?اْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَ?عْبُدُونِ }
* { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ?لْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
* { وَ?لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ?لْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ?لْعَامِلِينَ }
* { ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى? رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
* { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ }
* { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَاوَاتِ وَ?لأَرْضَ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ فَأَنَّى? يُؤْفَكُونَ }
* { ?للَّهُ يَبْسُطُ ?لرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(11/360)
---(1/4617)
* { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ?لسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ?لأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ قُلِ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }
* { وَمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَاةُ ?لدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ لَهِيَ ?لْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
* { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
* { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ }
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِ?لْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ?للَّهِ يَكْفُرُونَ }
* { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِ?لْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }
* { وَ?لَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ }
قوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ}: فيه وجهان، أحدهما: هو مستأنفٌ. والثاني: أنه حالٌ مِنْ "وَجْه" والعاملُ فيه "يَبْقَى" أي: يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السمواتِ والأرضِ.
قوله: {كُلَّ يَوْمٍ} منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه "في شَأْنِ" والشَّأْنُ: الأَمْرُ.
* { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ }
قوله: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ}: تقدَّم نظيرُها. إلاَّ أَنَّ هنا زِيْدَتْ "أَنْ" وهو مطردٌ تأكيداً.
(11/361)
---(1/4618)
قوله: "إنَّا مُنَجُّوك" في الكافِ وما أشبهها مذهبان: مذهبُ سيبويهِ: أنها في محلِّ جرٍ. فعلى هذا في نَصْبِ "وأهلَكَ" وجهان: إضمارُ فعلٍ، أو العطفُ على المحلِّ. ومذهبُ الأخفشِ وهشام أنها في محلِّ نصبٍ، وحُذِفَ التنوينُ والنونُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ.
وقد تقدَّمَتْ قراءتا التخفيفِ والتثقيلِ في "لنُنَجِّيَنَّه" و"مُنَجُّوك" في الحجر.
* { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
وقُرئ "مُنْزِلون" مخففاً ومشدداً. وقرأ ابن محيصن "رُجْزاً" بضم الراء. والأعمش وأبو حيوة "يَفْسِقون" بالكسر.
* { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
قوله: {تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً}: فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ بعضَها باقٍ وهو آيةٌ باقيةٌ إلى اليوم. الثاني: أنَّ "مِنْ" مزيدةٌ. وإليه نحا الفراء أي: تَرَكْناها آيةً، كقوله:
3639- أمْهَرْت مِنْها جُبَّة وتَيْسا
أي: أَمْهَرْتُها. وهذا يجيءُ على رَأْيِ الأخفش.
* { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ}: أي: وأَرْسَلْنَا، أو بَعَثْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم. و"شُعَيباً" بدلٌ أو بيانٌ أو بإضمار أعني.
* { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }
قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ}: نصبٌ بأَهْلَكْنا مقدَّراً، أو عطفٌ على مفعولِ "فأَخَذْتُهم"، أو على مفعول {فَتَنَّا} أول السورة وهو قولُ الكسائيِّ وفيه بُعْدٌ كبيرٌ. وتقدَّمَ تنوينُ ثمود وعدمه في هود.
(11/362)
---(1/4619)
وقرأ ابن وثاب "وعادٍ وثمودٍ" بالخفض عَطْفاً على "مَدْيَنَ" عُطِف لمجرَّد الدلالةِ، وإنْ لا يَلْزمْ أن يكون "شعيباً" مرسَلاً إليهما. وليس كذلك.
قوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} أي: ما حلَّ بهم. وقرأ الأعمش "مساكنُهم" بالرفع على الفاعلية بحذف "مِنْ".
* { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ }
قوله: {وَقَارُونَ}: عطفٌ على "عاداً وثمودَ" أو على مفعول "فَصَدَّهم" أو بإضمار اذكر.
* { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوااْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله: {فَكُلاًّ}: منصوبٌ بـ "أَخَذْنا". و"بذَنْبه" أي: بسبب أو مصاحباً لذنبه.
قوله: "مَنْ أَغْرَقْناه" عائدهُ محذوفٌ لأجلِ شِبْهِ الفاصلةِ.
* { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
قوله: {الْعَنكَبُوتِ}: معروفٌ. ونونُه أصليةٌ، والواوُ والتاءُ مزيدتان، بدليل قولِهم في الجمعِ: عناكِب، وفي التصغير عُنَيْكِب. ويُذَكَّر ويُؤنث فمن التأنيثِ: قولُه: "اتَّخَذَتْ". ومن التذكير قوله:
3640- على هَطَّالِهم منهمْ بيوتٌ * كأنَّ العنكبوتَ هو ابْتَناها
وهذا مُطَّرِدٌ في أسماءِ الأجناس، تُذَكَّر وتؤنَّث.
(11/363)
---(1/4620)
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ أي: لَمَا اتَّخذوا مَنْ يُضْرَبُ له بهذه الأمثالِ لحقارتِه. ومتعلَّق "يَعْلمون" لا يجوز أَنْ يكونَ مِنْ جنسِ قولِه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ}؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك، وإنما متعلَّقُه مقدرٌ مِنْ جنسِ ما يدلُّ عليه السياقُ. أي: لو كانوا يعلمونَ أنَّ هذا مثلُهم.
* { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله: {مَا يَدْعُونَ}: قرأ أبو عمروٍ وعاصم بياء الغيبة، والباقون بالخطاب. و"ما" يجوز فيها أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً بـ "يَعْلَم" أي: يَعْلَم الذين يَدْعُوْنَهم، ويَعْلَم أحوالهم. و"منْ شيء" مصدرٌ. وأَنْ تكونَ استفهاميةً، وحينئذٍ يجوز فيها وجهان: أَنْ تكونَ هي وما عَمل فيها معترضاً بين قوله: "يَعْلَمُ" وبين قولِه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كأنه قيل: أيَّ شيءٍ يَدْعون مِنْ دونه. والثاني: أن تكونَ متعلِّقَةً لـ "يَعْلَم"، فتكونَ في موضع نصبٍ بها، وإليه ذهب الفارسي، وأن تكونَ نافيةً و"مِنْ" في "من شيء" مزيدةٌ في المفعول به. كأنه قيل: ما يَدْعُون مِنْ دونِه ما يَسْتَحِقُّ أن يُطلق عليه شيء. والوجهُ فيها حينئذٍ: أَنْ تكونَ الجملةُ معترضةً كالأولِ مِنْ وجهَيْ الاستفهامية، وأن تكونَ مصدريةً. قال أبو البقاء: "وشيء مصدرٌ". وفي هذا نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير: ويعلمُ دعاءَكم مِنْ/ شيءٍ من الدعاء.
* { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ }
قوله: {نَضْرِبُهَا}: يجوز أَنْ يكونَ خبر "تلك" و"الأمثالُ" نعتٌ أو بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ، وأَنْ [تكونَ] "الأمثالُ" خبراً و"نَضْرِبُها" حال، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً.
(11/364)
---(1/4621)
* { وَلاَ تُجَادِلُوااْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوااْ آمَنَّا بِالَّذِيا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ}: استثناءٌ متصلٌ. وفيه معنيان، أحدهما: إلاَّ الظَّلَمَةَ فلا تُجادلوهم البتةَ. بل جادِلوهم بالسيف. والثاني: جادِلوهم بغير التي هي أحسنُ أي: أَغْلِظوا لهم كما أَغْلَظوا عليكم. وقرأ ابن عباس "ألا" حرفُ تنبيهٍ أي: فجادِلوهم.
* { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }
قوله: {مِن كِتَابٍ}: مفعولُ "تَتْلُو" و"مِنْ" زائدةٌ. و"مِنْ قبلِه" حالٌ مِنْ "كتاب"، أو متعلِّقٌ بنفسِ "تَتْلو".
قوله "إذاً لارتابَ" جوابٌ وجزاءٌ أي: لو تَلَوْتَ كتاباً قبلَ القرآنِ، أو كنتَ مِمَّن يكتبُ لارتابَ المُبْطلون.
* { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ }
قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ}: قرأ قتادةُ "آيةٌ" بالتوحيد.
* { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }
قوله: {آيَاتٌ}: قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو بكر "آيةٌ" بالإِفراد؛ لأنَّ غالِبَ ما جاء في القرآن كذلك. والباقون "آياتٌ" بالجمعِ؛ لأنَّ بعدَه {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ} بالجمعِ إجماعاً، والرسمُ محتملٌ له.
* { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله: {أَنَّآ أَنزَلْنَا}: فاعل "يَكْفِهم".
(11/365)
---(1/4622)
* { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله: {وَيِقُولُ}: قرأ الكوفيون ونافع بياءِ الغَيْبة أي: الله تعالى أو المَلَك. وباقي السبعة بنونِ العظمة لله تعالى، أو لجماعة الملائكةِ.
وأبو البرهسم بالتاءِ من فوقُ أي: جهنم كقوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}. وعبد الله وابن أبي عبلة "ويُقال" مبنياً للمفعول.
* { ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوااْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }
قوله: {فَاعْبُدُونِ}: جعله الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ، وجعل تقديمَ المفعولِ عوضاً مِنْ حَذْفِه مع إفادتِه للاختصاصِ. وقد تقدَّم منازعةُ الشيخِ له في نظيره.
* { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}: قرأه بالغيبة أبو بكر، وكذا في الروم في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وافقه أبو عمرو في الروم فقط. والباقون بالخطاب فيهما. وقُرِئ "يَرْجِعُون" مبنياً للفاعل.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
(11/366)
---(1/4623)
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: يجوز فيه الوجهان المشهوران: الابتداءُ والاشتغال. والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ. والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ. و"غُرفاً" على القراءةِ الأولى: إمَّا مفعولٌ به على تضمين "أَثْوَى" أنزل، فيتعدَّى لاثنين، لأنَّ ثوى قاصرٌ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي: في غُرَف.
وأمَّا في القراءةِ فمفعولٌ ثانٍ، لأنَّ "بَوَّأ" يتعدَّى لاثنين، قال تعالى: {تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} ويتعدَّى باللامِ قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ}. وقد قُرِئ "لَنُثَوِّيَنَّهم" بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة. و"تَجْرِي" صفةٌ لـ "غُرَفاً".
* { الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
قوله: {الَّذِينَ صَبَرُواْ}: يجوز فيه الجرُّ والنصبُ والرفعُ كنظائرَ له تقدَّمتْ.
* { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(11/367)
---(1/4624)
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ}: جوَّز أبو البقاء في "كَأَيِّن" وجهين، أحدهما: أنها مبتدأٌ، و"لا تحملُ" صفتها، و"اللَّهُ يَرْزُقها" خبره، و"مِنْ دابَّةٍ" تبيينٌ. والثاني: أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ بإضمار فعل يُفَسِّره "يَرْزُقها" ويُقدَّرُ بعد "كَأَيِّنْ" يعني لأنَّ لها صدرَ الكلامِ. وفي الثاني نظرٌ؛ لأنَّ مِنْ شرط المفسِّرِ العملَ، وهذا المفسِّر لا يعملُ؛ لأنه لو عَمِلَ لحلَّ مَحَلَّ الأولِ، لكنه لا يَحُلُّ مَحَلَّه؛ لأنَّ الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضميرٍ مفردٍ امتنع تقديمُه على المبتدأ، وإذا أرَدْتَ معرفةَ هذه القاعدة فعليك بسورةِ هود عند قولِه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً
}.
* { وَمَا هَاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
قوله: {الْحَيَوَانُ}: قدَّر أبو البقاء وغيرُه قبل المبتدأ، مضافاً أي: وإنَّ حياةَ الدارِ الآخرة. وإنما قدَّروا ذلك ليتطابقَ المبتدأ والخبر، والمبالغةُ أحسنُ.
وواوُ "الحيوان" عن ياءٍ عند سيبويه وأتباعِه. وإنما أُبْدِلَتْ واواً شذوذاً، وكذا في "حَيْوَة" عَلَماً. وقال أبو البقاء: "لئلا يلتبسَ بالتثنيةِ" يعني لو قيل: حَيَيان. قال: "ولم تُقْلب ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها لئلا تُحْذَفَ إحدى الألفين". وغيرُ سيبويه حَمَلَ ذلكَ على ظاهرِهِ، فالحياة عنده لامُها واوٌ. ولا دليلَ لسيبويهِ في "حَيِي" لأنَّ الواو متى انكسرَ ما قبلها قُلِبَتْ ياءً نحو: غُزِي ودُعِي ورَضِيَ.
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}/ أي: لو كانوا يعلمون أنها الحَيَوانُ لَما آثروا عليها الدنيا.
* { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
(11/368)
---(1/4625)
قوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ} قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: بم اتصلَ قولُه: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ}؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه ما وَصفَهم به وشَرَحَ مِنْ أمرِهم. معناه: هم على ما وُصِفوا به من الشِرْكِ والعنادِ فإذا ركبوا".
* { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ }
قوله: {لِيَكْفُرُواْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي، وهو الظاهرُ، وأن تكون لامَ أمرٍ.
قوله: "ولِيَتَمَتَّعوا" قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين. والباقون بسكونها. وهي ظاهرةٌ في الأمر. فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام.
وقرأ عبد الله {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ} وأبو العالية "فيُمَتَّعوا" بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول.
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ }
قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}: قرأ العامَّةُ "يُؤْمنون" و"يكفرون" بياء الغيبة. والحسن والسلمي بتاء الخطاب فيهما.
* { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }
قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ}: استفهامُ تقريرٍ كقوله:
3641- ألَسْتُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا * وأندى العالمين بطونَ راحِ
* { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ}: يجوز فيه ما جاز في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أول السورة. وفيه رَدٌّ على ثعْلب: حيث زعم أنَّ جملةَ القسم لا تقع خبراً للمبتدأ.
(11/369)
قوله: "لَمع المحسنين" من إقامة الظاهر مُقامَ المضمرِ إظهاراً لشرفِهم.(1/4626)
سورة الروم
* { فِيا أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {فِيا أَدْنَى الأَرْضِ}: زعم بعضُهم أنَّ أل عِوَضٌ من الضميرِ، وأنَّ الأصلَ "في أَدْنى أَرْضِهم" وهو قولٌ كوفيٌّ. وهذا على قولِ: إن الهَرَب كان مِنْ جهة بلادِهم. وأمَّا مَنْ يقول: إنه من جهةِ بلادِ العَرَبِ فلا يَتَأَتَّى ذلك. وقرأ العامَّةُ "غُلِبَتْ" مبنياً للمفعول. وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائِه للفاعلِ.
قوله: "غَلَبِهم" على القراءةِ الشهيرةِ يكون المصدرُ مضافاً لمفعولِه. ثم هذا المفعولُ: إمَّا أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ المضافَ إليه مأخوذٌ مِنْ مبنيّ للمفعولِ على خلافٍ في ذلك، وإمَّا منصوبَ المحلِّ على أنَّ المصدرَ مِنْ مبني للفاعل، والفاعلُ محذوفٌ تقديره: مِن بعد أَنْ غَلَبَهم عدوُّهم، وهم فارس. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فهو مضافٌ لفاعلِه.
قوله: "سَيَغْلِبون" خبرُ المبتدأ. و{مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} متعلقٌ به. والعامَّةُ - بل نقل بعضُهم الإِجماعَ - على "سَيَغْلِبون" مبنياً للفاعل. فعلى الشهيرةِ واضحٌ أي: مِنْ بعدِ أن غَلَبَتْهُمْ فارسُ سيَغْلِبون فارسَ. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فأخبرَ أنهم سيَغْلبون ثانياً بعد أن غَلَبوا أولاً. ورُوِي عن ابنِ عمرَ أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالِف لِما وَرَدَ في سبب الآية وما وَرَدَ في الأحاديث. وقد يُلائم هذا بعضَ ملاءَمَةٍ مَنْ قرأ "غَلَبَتْ" مبنياً للفاعلِ. وقد تقدَّم أن ابن عمرَ ممَّن يقرأُ بذلك. وقد خَرَّج النحاسُ قراءةَ عبدِ الله بن عمرَ على تخريجٍ حَسَنٍ، وهو أن المعنى: وفارسُ مِنْ بعدِ غَلَبِهم للرومِ سيُغْلَبون. إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ ما لم يُذْكَرْ، ولا جَرى سببُ ذِكْرِه.
(11/370)
---(1/4627)
* { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }
قوله: {فِي بِضْعِ}: متعلِّقٌ بما قبلَه. وتقدَّم تفسيرُ البِضْع واشتقاقُه في يوسف. وقال الفراء: "الأصلُ في "غَلَبِهم": غَلَبَتِهم بتاءِ التأنيثِ فَحُذِفت للإِضافة كـ "وإقامَ الصلاةِ". وغَلَّطه النحاسُ: بأنَّ إقامَ الصلاةِ قد يُقال فيه ذلك لاعتلالِها، وأمَّا هنا فلا ضرورةَ تَدْعو إليه.
وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع وأبو حيوة "غَلْبِهم" بسكونِ اللام، فَتَحْتملُ أَنْ تكونَ تخفيفاً شاذاً، وأن تكونَ لغةً في المفتوحِ كالظَّعْن والظَّعَن.
قوله: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة. وأراد بها أي: مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه. أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده. وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين. وغَلَّطه النحاسُ، وقال: "إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً". قلت: وقد قُرِئ بذلك. ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله:
3642- فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً * أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
[وقوله:]
3643- ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ * فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا
وحُكي "مِنْ قبلٍ" بالتنوينِ والجرِّ، "ومِنْ بعدُ" بالبناءِ على الضم.
وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه. وأنشد:
3644- ................. * بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ
والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً.
قوله: "ويومَئذٍ" أي: إذ يغلِبُ الرومُ فارسَ. والناصب لـ "يومَ" "يفرحُ".
* { بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }
وقوله: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ}: مِن التجنيس. وتَقَدَّم آخرَ الكهف.
(11/371)
---(1/4628)
قوله: "بِنَصْرِ الله" الظاهرُ تعلُّقُه بـ "يَفْرَح". وجَوَّز فيه أَنْ يتعلَّقَ بـ "يَنْصُرُ" أبو البقاء. وهذا تفكيكٌ للنَّظْمِ.
* { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {وَعْدَ اللَّهِ}: مصدرٌ مؤكدٌ ناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدَهم اللَّهُ ذلك وَعْداً. وقوله {لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} مقرِّرٌ لمعنى هذا المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من المصدر، فيكونَ كالمصدرِ الموصوف فهو مبيِّنٌ للنوعِ كأنه قيل: وَعَد اللَّهُ وَعْداً غيرَ مُخْلِفٍ.
* { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيا أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }
قوله: {فِيا أَنفُسِهِمْ}: ظرفٌ للتفكُّر. وليس مفعولاً للتفكُّر، إذ متعلِّقُه [ما] خَلَق السمواتِ والأرضَ.
قوله: "ما خَلَقَ" "ما" نافيةٌ. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها. والثاني: أنها معلِّقَةٌ للتفكُّرِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ استفهاميةً بمعنى النفيِ. وفيها الوجهان المذكوران.
و"بالحقِّ إمَّا سببيَّةٌ، وإمَّا حاليةٌ.
قوله: "بلقاءِ" متعلقٌ بـ "لَكافرون". واللامُ لا تَمْنَعُ مِنْ ذلك لكونِها في حَيِّزِ "إنَّ".
* { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوااْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوااْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
(11/372)
---(1/4629)
قوله: {أَكْثَرَ مِمَّا}: نعتُ مصدرٍ محذوف أي: عِمارةً أكثرَ مِنْ عِمارتِهم. وقُرِئ "وآثاروا" بألفٍ بعد الهمزة وهي إشباعٌ لفتحة الهمزة.
* { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّواءَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ }
قوله: {عَاقِبَةَ الَّذِينَ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالرفع. والباقون بالنصب. فالرفعُ على أنها اسمُ كان، وذُكِّر الفعلُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وفي الخبرِ حينئذٍ وجهان، أحدهما: "السُّوْءَى" أي: الفَعْلَة السُّوْءَى أو الخَصْلَةَ السُّوْءى. والثاني: "أَنْ كَذَّبوا" أي: كان آخرُ أَمْرِهم التكذيبَ. فعلى الأولِ يكونُ في "أَنْ كَذَّبوا" وجهان: أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافض: إمَّا لامِ العلةِ أي: لأَنْ كَذَّبوا، وإمَّا باءِ السببيةِ أي: بأَنْ كَذَّبوا. فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جَرَى القولان المشهوران بين الخليلِ وسيبويه في محلِّ "أَنْ". والثاني: أنه بدلٌ من "السُّوْءَى" أي: ثم كان عاقبتُهم التكذيبَ، وعلى الثاني يكونُ "السُّوْءَى" مصدراً لـ أساْءُوا، أو يكونُ نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ أي: أساْءُوا الفَعْلَةَ السُّوْءَى، والسُّوْءَى تأنيثُ الأَسْوَأ.
وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ خبرُ كان محذوفاً للإِبهامِ، والسُّوْءَى: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا مفعولٌ كما تقدَّم أي: اقْتَرَفوا الخطيئةَ السُّوْءَى أي: كان عاقبتُهم الدَّمارَ.
وأمَّا النصبُ فعلى خبر كان. وفي الاسم وجهان، أحدهما: السُّوْءى أي: كانت الفَعْلَةُ السُّوْءَى عاقبةَ المُسيئين، و"أنْ كَذَّبُوا" على ما تقدَّم. والثاني: أن الاسمَ "أنْ كَذَّبُوا" والسُّوْءَى على ما تقدَّم أيضاً.
* { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ }
قوله: {يُبْلِسُ}: قرأ العامَّةُ ببنائه للفاعلِ، وهو المعروفُ يُقال: أَبْلَسَ الرجلُ أي: انقطعَتْ حُجَّتُه فسكتَ، فهو قاصرٌ لا يتعدَّى. قال العجاج:(1/4630)
(11/373)
---
3645- يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكَرَّسَاً * قال نعم أعرِفُه وأَبْلَسا
وقرأ السُّلمي "يُبْلَسُ" مبنياً للمفعول وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ أَبْلَسَ لا يتعدَّى. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ مصدرُ الفعلِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه؛ إذ الأصلُ: يُبْلِس إبلاسَ المجرمين. ويُبْلِس هو الناصبُ لـ "يومَ تقومُ".
* { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ }
و{يَوْمَئِذٍ}: مضافٌ لجملةٍ، تقديرُها: يومئذٍ تقومُ. وهذا كأنه تأكيدٌ لفظيٌّ؛ إذ يصيرُ التقدير: يُبْلِس المجرمون يومَ تقومُ الساعةُ، يومَ تقومُ الساعة.
* { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ }
قوله: {يُحْبَرُونَ}: أي: يُسَرُّون. والحَبْرُ والحُبُور: السُّرور. وقيل: هو مِن التحبير وهو التحسين. يُقال: هو حَسَنُ الحِبْر والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما. وفي الحديث: "يَخْرج من النارِ رجلٌ ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه" فالمفتوح مصدرٌ والمكسورُ اسمٌ.
والرَّوضةُ: الجنَّةُ. قيل: ولا تكونُ روضةً إلاَّ وفيها نبتٌ. وقيل: إلاَّ وفيها ماءٌ. وقيل: ما كانَتْ منخفضةً، والمرتفعةُ يقال لها تُرْعَة. وقيل: لا يُقال لها: رَوْضة/ إلاَّ وهي في مكانٍ غليظ مرتفعٍ. قال الأعشى:
3646- ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ * خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رِياض: رِواض، فقُلِبت الواوُ ياءً على حَدِّ: حَوْض وحِياض.
* { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }
(11/374)
---(1/4631)
قوله: {حِينَ تُمْسُونَ}: تُمْسُون وتُصْبحون تامَّان أي: تَدْخلون في المساء والصباح، كقولهم: "إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ بأنَّه مُصْبِحٌ" أي: مُقيم في الصباح. والعامَّةُ على إضافة الظرف إلى الفعلِ محذوفٌ أي: تُمْسُون فيه كقولِه: {وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ}. والناصب لهذا الظرفِ "سُبْحانَ" لأنه نابَ عن عاملِه.
* { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
قوله: {وَعَشِيّاً}: عطفٌ على "حينَ"، وما بينهما اعتراضٌ. و"في السموات" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد أي: إنَّ الحمدَ يكون في هذين الظرفين.
* { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }
وقد تقدم خلافُ القُراء في تخفيفِ "الميت" وتثقيلِه وكذا قوله: "تُخْرَجون" في سورة الأعراف. و"كذلك" نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ومثلَ ذلك الإِخراجِ العجيبِ تُخْرَجون.
* { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ}: مبتدأٌ وخبر أي: ومن جملةِ علامات توحيدِه وأنه يَبْعَثكُم خَلْقُكم واختراعُكم. و"مِنْ" لابتداءِ الغاية.
قوله: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ}. الترتيبُ والمُهْملة هنا ظاهران؛ فإنهم إنما يصيرون بَشَراً بعد أطوارٍ كثيرةٍ. "وتَنْتشرون" حالٌ. و"إذا" هي الفجائيةُ. إلاَّ أنَّ الفجائيةَ أكثرُ ما تقع بعد الفاء لأنها تَقْتضي التعقيبَ. ووجهُ وقوعِها مع "ثُمَّ" بالنسبة إلى ما يليقُ بالحالةِ الخاصةِ أي: بعد تلك الأطوارِ التي قَصَّها علينا في موضعٍ آخرَ مِنْ كونِنا نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عَظْماً مجرداً ثم عَظْماً مَكْسُوَّاً لحماً فاجأ البشريَّةَ والانتشارَ.
(11/375)
---(1/4632)
* { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ }
قوله: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ}: أي: لغاتِكم من عَرَبٍ وعَجَمٍ، مع تنوُّعِ كلٍ من الجيلين إلى أنواعٍ شتى لا سيما العجمُ، فإن لغاتِهم مختلفةٌ، وليس المرادُ بالألسنةِ الجوارحَ.
قوله: "للعالمين" قرأ حفصٌ بكسر اللام جعله جمعَ عالِم ضدَّ الجاهل. ونحوُه {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ} والباقون بفتحها؛ لأنها آياتٌ لجميع الناس، وإن كان بعضُهم يَغْفُلُ عنها. وقد تقدَّم أولَ الفاتحةِ الكلامُ في "العالمين": هل هو جمعٌ أو اسمُ جمع؟ فعليك باعتبارِه ثَمَّةَ.
* {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }
قوله: {مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: قيل: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ليكونَ كلُّ واحدٍ مع ما يلائمه. والتقدير: ومِنْ آياتِه منامُكم بالليل وابتغاؤكم مِنْ فضلِه بالنهارِ، فحُذِف حرفُ الجرِّ لاتصالِه بالليل وعَطْفِه عليه؛ لأنَّ حرفَ العطفِ قد يقومُ مَقامَ الجارِّ. والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ على حالِه، والنومُ بالنهار ممَّا كانَتِ العربُ تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقاتِ القَيْلولة في البلاد الحارَّة.
* { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
قوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: - وهو الظاهرُ الموافقُ لإِخوانِه - أَنْ يكونَ جملةً من مبتدأ أو خبرٍ، إلاَّ أنه حُذِفَ الحرفُ المصدريُّ، ولمَّا حُذِفَ بَطَلَ عملُه. والأصل: ومِنْ آياتِه أَنْ يُرِيَكم كقوله:
(11/376)
---(1/4633)
3647- ألا أيُّهذا الزاجرِيْ أَحْضُرُ الوغَى * ...................
الثاني: أنَّ "مِنْ آياتِه" متعلِّقٌ بـ "يُرِيكم" أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من البرق. والتقديرُ: ويُرِيْكم البرقَ مِنْ آياته، فيكون قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسمية. الثالث: أنَّ "يُرِيْكُم" صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: ومِنْ آياتِه آيةٌ يُريكم بها، أو فيها البرقُ فحُذِفَ الموصوف والعائدُ عليه. ومثلُه:
- وما الدَّهْرُ إلاَّ تارَتان فمِنْهما *موتُ ..................
ما تارةٌ أموتُ فيها. الرابع: أنَّ التقديرَ: ومن آياتِه سحابٌ أو شيءٌ يُريكم. فـ "يُريكم" صفةٌ لذلك المقدرِ، وفاعلُ "يُريكم" ضميرٌ يعود عليه بخلافِ الوجهِ قبله؛ فإنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى.
* { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ }
قوله: {مِّنَ الأَرْضِ}:فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلِّقٌ بـ "دَعاكم" وهذا أظهرُ.
الثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ صفةً لـ دَعْوة. الثالث: أنه متعلِّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه "تَخْرُجون" أي: خَرَجْتُمْ من الأرض. ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بـ "تَخْرُجون" لأنَّ ما بعد "إذا" لا يعملُ فيما قبلها. وللزمخشري هنا عبارةٌ جيدة.
* { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(11/377)
---(1/4634)
قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: في "أَهْوَن" قولان، أحدهما: أنها للتفضيل على بابِها. وعلى هذا يُقال: كيف يُتَصَوَّرُ التفضيلُ، والإِعادةُ والبُداءة بالنسبةِ إلى اللَّهِ تعالى على حدٍّ سواء؟ في ذلك أجوبة، أحدها: أنَّ ذلك بالنسبةِ إلى اعتقاد البشرِ باعتبارِ المشاهَدَة: مِنْ أنَّ إعادَة الشيءِ أهونُ من اختراعِه لاحتياجِ الابتداءِ إلى إعمالِ فكر غالباً، وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانَه وتعالى فخوطبوا بحسَبِ ما أَلِفوه.
الثاني: أنَّ الضميرَ في "عليه" ليس عائداً على الله تعالى، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي: والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر، إلى أنْ صار إنساناً، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل: وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً.
الثالث: أنَّ الضميرَ في "عليه" يعودُ على المخلوق، بمعنى: والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه، هذا في عُرْفِ المخلوقين، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟
(11/378)
---(1/4635)
والثاني: أنَّ "أهونُ" ليسَتْ للتفضيل، بل هي صفةٌ بمعنى هَيِّن، كقولهم: اللَّهُ أكبرُ [أي]: الكبير. والظاهرُ عَوْدُ الضمير في "عليه" على الباري تعالى ليُوافِقَ الضميرَ في قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى}. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصلةُ في قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقُدِّمَتْ في قولِه {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}؟ قلت: هنالك قُصِدَ الاختصاصُ، وهو مَحَزُّه فقيلِ: هو عليَّ هيِّنٌ وإن كان مُسْتَصعباً عندك أن يُوْلَدَ بين هِمٍّ وعاقِر، وأمَّا هنا فلا معنى للاختصاص. كيف والأمرُ مبنيٌّ على ما يعقلون من أنَّ الإِعادةَ أسهلُ من الابتداء؟ فلو قُدِّمَت الصلة لَتَغيَّر المعنى". قال الشيخ: "ومبنى كلامِه على أنَّ التقديمَ يُفيد الاختصاصَ وقد تكلَّمْنا معه ولم نُسَلِّمه". قلت: الصحيحُ أنه يُفيده، وقد تقدَّم جميعُ ذلك.
قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} يجوز أَنْ يكونَ مرتبطاً بما قبلَه، وهو قولُه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: قد ضَرَبه لكم مَثَلاً فيما يَسْهُل وفيما يَصْعُبُ. وإليه نحا الزجَّاج أو بما بعدَه مِنْ قولِه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} وقيل: المَثَلُ: الوصفُ. "وفي السموات" يجوز أَنْ يتعلَّق بالأَعْلى أي: إنه علا في هاتين الجهتين، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن الأعلى، أو مِن المَثَل، أو مِن الضمير في "الأَعْلى" فإنه يعودُ على المَثَل.
قوله: "مِنْ أَنْفُسكم" "مِنْ" لابتداء الغاية في موضع الصفةِ لـ مَثَلاً أي: أَخَذَ مثلاً، وانتزعه مِنْ أقربِ شيءٍ منكم هو أنفسكُم.
* { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
(11/379)
---(1/4636)
قوله: {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ}: "مِنْ شركاء" مبتدأٌ، و"مِنْ" مزيدةٌ فيه لوجودِ شرطَيْ الزيادة. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجارُّ الأولُ وهو "لكم" و{مِّن مَّا مَلَكَتْ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "شركاءَ" لأنه في الأصل نعتُ نكرةٍ، قُدِّم عليها. والعاملُ فيه العاملُ في هذا الجارِّ الواقع خبراً. والخبرُ مقدرٌ بعد المبتدأ، و{فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} متعلِّقٌ بشركاء. [وما في "ممَّا" بمعنى النوع] تقديرُ ذلك كلِّه: هل شركاءُ فيما رَزَقْناكم كائنون مِن النوع الذي مَلَكَتْه أَيْمانُكم مستقِرُّون لكم. فكائنون هو الوصفُ المتعلِّقُ به "ممَّا مَلَكَتْ" ولَمَّا تقدَّم صار حالاً، و"مستقرُّون" هو الخبرُ الذي تعلَّق به "لكم".
والثاني: أنَّ الخبرَ "مِمَّا مَلَكَتْ" و"لكم" متعلِّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "شركاء" أو بنفس "شركاء" كقولك: "لك في الدنيا مُحِبٌّ" فـ "لك" متعلقٌ بـ مُحِبّ. و"في الدنيا" هو الخبرُ.
قوله: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} هذه الجملةُ جوابُ الاستفهامِ الذي بمعنى النفي، و"فيه" متعلِّقٌ بـ "سَواء".
قوله: "تَخافونهم" فيه وجهان، أحدهما: أنها خبرٌ ثانٍ لـ أنتم. تقديرُه: فأنتم مُسْتَوُوْن معهم فيما رَزَقْناكم، خائفوهم كخَوْفِ بعضِكم بعضاً أيها السادة. والمرادُ نَفْيُ الأشياء الثلاثة أعني الشِّرْكةَ والاستواءَ مع العبيد وخوفَهم إياهم. وليس المرادُ ثبوتَ الشركة ونَفْيَ الاستواءِ والخوفِ، كما هو أحدُ الوجهين في قولك: "ما تأتينا فتحدِّثَنا" بمعنى: ما تأتينا مُحدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثنا، بل المرادُ نفيُ الجميع كما تقدَّم.
(11/380)
---(1/4637)
وقال أبو البقاء: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} الجملةُ في موضع نصبٍ على جوابِ الاستفهامِ أي: "هل لكم فَتَسْتَوُوا" انتهى. وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمارِ ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال: إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاءِ لكان منصوباً بإضمار "أن" لكان صحيحاً. ولا بُدَّ أَنْ يُبَيَّنَ أيضاً أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه مِنْ نَفْيِ الأشياءِ الثلاثة.
والوجه الثاني: أنَّ "تخافونهم" في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل/ في "سَواء" أي: فتساوَوْا خائِفاً بعضُكم بعضاً مشاركتَه له في المال. أي: إذا لم تَرْضَوا أن يشارِكَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشرِكون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء.
وقال الرازي معنى حسناً، وهو: "أنَّ بين المَثَلِ والمُمَثَّلِ به مشابهةً ومخالفةً. فالمشابهةُ معلومةٌ، والمخالفةُ مِنْ وجوه: قوله: "مِنْ أنفسكم" أي: مِنْ نَسْلِكم مع حقارةِ الأنفس ونَقْصِها وعَجْزِها، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتِها وعظمتِها وقُدْرَتِها. قوله: {مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: عبيدِكم والمِلْكُ طارئ قابلٌ للنقلِ بالبيع وللزوالِ بالعِتْقِ، ومملوكُه تعالى لا خروجَ له عن المِلْكِ، فإذا لم يَجُزْ أَنْ يُشْرِكَكم مملوكُكُم، وهو مِثْلُكم إذا تحرَّرَ مِنْ جميعِ الوجوهِ، ومثلُكم في الآدميَّةِ حالةَ الرِّق فكيف يُشْرَكُ باللَّهِ تعالى مملوكُه مِنْ جميع الوجوهِ، المباينُ له بالكلية؟ وقوله: "فيما رَزَقْنَاكم" يعني أنه ليس لكم في الحقيقة، إنما هو لله تعالى ومَنْ رَزَقه حقيقةً. فإذا لم يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكم فيما هو لكم، من حيث الاسمُ، فكيف يكون له تعالى شريكٌ فيما له من جهة الحقيقة؟" انتهى وإنما ذكرْتُ هذا المعنى مَبْسوطاً لأنَّه مبيِّنٌ لِما ذكرته مِنْ وجوهِ الإِعراب.
(11/381)
---(1/4638)
وقوله: "كَخِيْفَتِكم" أي: خِيْفَةً مثلَ خِيْفتكم. والعامَّةُ على نصب "أنفسَكم" لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافةِ المصدرِ لمفعولِه. واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجِد الفاعلُ. وقال بعضُهم: ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا. وأنشد:
3649- أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ * قَرْعُ القواريزِ أفواهَ الأباريقِ
بنصب "الأفواه" ورَفْعِها.
قوله: "كذلك نُفَصِّل" أي: مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّنِ نُفَصِّل. وقرأ أبو عمرو في رواية "يُفَصِّلُ" بياء الغيبة رَدًّا على قوله: "ضَرَبَ لكم". والباقون بالتكلم رَدًّا على قوله: "رَزَقْناكم".
* { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {حَنِيفاً}: حالٌ مِنْ فاعل "أَقِمْ" أو مِنْ مفعولِه أو مِن "الدِّين".
قوله: "فِطْرَةَ الله" فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة كقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} و{صُنْعَ اللَّهِ}. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل. قال الزمخشري: "أي: الزموا فطرةَ الله، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطابِ الجماعة لقولِه: "مُنِيبيْن إليه". وهو حالٌ من الضمير في "الزَموا". وقولُه: "واتَّقوه، وأقيموا، ولا تكونوا" معطوفٌ على هذا المضمر". ثم قال: "أو عليكم فطرةَ". ورَدَّه الشيخُ: "بأنَّ كلمةَ الإِغراءِ لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عِوَضٌ عن الفعلِ، فلو حَذَفْتَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. وهو إحجافٌ". قلت: هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك.
* { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
(11/382)
---(1/4639)
قوله: {مُنِيبِينَ}: حالٌ مِنْ فاعل "الزموا" المضمرِ كما تقدَّم، أو مِنْ فاعل "أَقِمْ" على المعنى؛ لأنَّه ليس يُرادُ به واحدٌ بعينِه، إنما المرادُ الجميعُ. وقيل: حالٌ من الناس إذا أُريد بهم المؤمنون. وقال الزجَّاج: "بعد قوله: وَجْهَكَ" معطوفٌ محذوف تقديره: فأقمْ وجهَك وأمتك. فالحالُ من الجميع. وجاز حَذْفُ المعطوفِ لدلالةِ "مُنيبين" عليه كما جاز حَذْفُه في قوله: {ياأيُّهَا النَّبِيُّ} أي: والناسُ لدلالة {إِذَا طَلَّقْتُمُ} عليه. كذا زعم الزجَّاج في {ياأيُّهَا النَّبِيُّ}. وقيل: على خبرِ كان أي: كونوا مُنِيبين؛ لدلالة قوله: "ولا تكونوا".
* { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
قوله: {فَرِحُونَ}: الظاهر أنَّه خبرُ "كلُّ حِزْب" وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يرتفعَ صفةً لـ "كل" قال: "ويجوز أن يكونَ "من الذين" منقطعاً مَمَّا قبله. ومعناه: من المفارقين دينَهم كلُّ حزب فَرِحين بما لديهم، ولكنه رَفَع فرحين وصفاً لـ "كل" كقولِه:
3650- وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نَفْسِه * ........................
قال الشيخ: "قَدَّر أولاً "فرحين" مجروراً صفةً لـ حِزْب ثم قال: ولكنه رُفِع على الوصف لـ "كل" لأنك إذا قلتَ: "مِنْ قومِك كلُّ رجلٍ صالح" جاز في "صالح" الخفضُ نعتاً لرجل وهو الأكثر، كقوله:
3651- جادَتْ عليه كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ * فَتَرَكْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهمِ
وجاز الرفعُ نعتاً لـ "كل" كقوله:
3652- وَلِهَتْ عليه كلُّ مُعْصِفَةٍ * هَوْجاءُ ليس لِلُبِّها زَبْرُ
برفع "هوجاء" صفةً لـ "كل". انتهى. وهو تقريرٌ حسنٌ.
* { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }
(11/383)
---(1/4640)
قوله: {إِذَا فَرِيقٌ}: هذه "إذا" الفجائيةُ وقعَتْ جوابَ الشرطِ لأنها كالفاء في أنها للتعقيبِ، ولا تقع أولَ/ كلامٍ، وقد تجامِعُها الفاءُ زائدةً.
* { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
قوله: {لِيَكْفُرُواْ}: يجوز أن تكونَ لامَ كي، وأَنْ تكونَ لامَ الأمرِ، ومعناه التهديدُ نحو: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ
}. قوله: "فَتَمَتَّعُوْا" قرأ العامَّة بالخطاب فيه وفي "تَعْلمون". وأبو العاليةِ بالياء فيهما، والأولُ مبنيٌّ للمفعول. وعنه "فَيَتَمَتَّعوا" بياءٍ قبل التاء. وعن عبد الله "فَلْيَتَمَتعوا" بلامِ الأمر.
* { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ }
قوله: {سُلْطَاناً}: أي: بُرْهاناً وحُجَّة. فإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان "يتكلم" مجازاً، وإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان "يتكلم" مجازاً، وإنْ جَعَلْناه على حذف مضاف أي: ذا سلطان كان "يتكلَّم" حقيقةً. وقال أبو البقاء هنا: "وقيل: هو جمعُ سَلِيْط كـ رَغِيف ورُغْفان" انتهى. وهذا لا يجوزُ لأنه كان ينبغي أَنْ يُقال: فهم يتكلمون. و"فهو يتكلمُّ" جوابُ الاستفهام الذي تضمَّنَتْه "أم" المنقطعةُ.
* { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }
قوله: {لِّيَرْبُوَ}: العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ مفتوحةً، أسند الفعلَ لضمير الرِّبا أي: ليزدادَ. ونافع بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةً خطاباً للجماعة. فالواوُ على الأولِ لامُ كلمة، وعلى الثاني كلمةُ ضميرٍ لغائبين. وقد تقدَّمتْ قراءتا "آتيتم" بالمدِّ والقصرِ في البقرة.
(11/384)
---(1/4641)
قوله: "المُضْعِفُون" أي: أصحابُ الأضعاف. قال الفراء: "نحو مُسْمِن، ومُعْطِش أي: ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش". وقرأ أُبَيُّ بفتح العين، جعله اسمَ مفعولٍ.
وقوله: "فأولئك هم" قال الزمخشري: "التفاتٌ حسن، كأنه [قال] لملائكتِه: فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون. والمعنى: هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما" انتهى. يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه. وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية. ثم قال: ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يكونَ تقديرُه: فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعِفُون. والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه. وهذا أسهلُ مَأْخَذاً، والأولُ أمْلأُ بالفائدة".
* { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
(11/385)
---(1/4642)
قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}: يجوز في خبر الجلالة وجهان، أظهرهما: أنه الموصولُ بعدها. الثاني: أنه الجملةُ مِنْ قولِه {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} والموصولُ صفةٌ للجلالة. وقَدَّر الزمخشري الرابطَ بين المبتدأ والجملةِ الواقعةِ خبراً فقال: "وقوله: "مِنْ ذلكم" هو الذي رَبَط الجملةَ بالمبتدأ؛ لأنَّ معناه مِنْ أفعاله". قال الشيخ: "والذي ذكره النحويون أنَّ اسمَ الإِشارةِ يكون رابطاً إذا أُشيرَ به إلى المبتدأ، وأمَّا "ذلك" هنا فليس إشارةً إلى المبتدأ لكنه شبيهٌ بما أجازه الفراءُ مِن الربطِ بالمعنى، وخالفه الناسُ، وذلك في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} قال: "التقدير: يتربَّصُ أزواجُهم". فقدر الرَّبْط بمضافٍ إلى ضميرِ الذين فحصل به الربطُ، كذلك قدَّر الزمخشريُّ "من ذلكم": "مِنْ أفعالِه" بمضافٍ إلى الضميرِ العائد إلى المبتدأ".
قوله: "مِنْ شركائِكم" خبرٌ مقدمٌ و"مِنْ" للتبعيض. و"مَنْ يَفْعَلُ" هو المبتدأ و"مِنْ ذلكم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حال مِنْ "شيء" بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له. و"مِنْ" الثالثةُ مزيدةٌ في المفعولِ به؛ لأنه في حَيِّزِ النفي المستفادِ من الاستفهام. والتقدير: ما الذي يَفْعَلُ شيئاً مِنْ ذلكم مِنْ شركائكم. وقال الزمخشري: "ومِنْ الأولى والثانية كلُّ واحدةٍ مستقلةٌ بتأكيدٍ لتعجيز شركائِهم وتجهيل عَبَدَتهم". قال الشيخ: "ولا أَدْري ما أراد بهذا الكلام؟"
وقرأ الأعمش "تُشْرِكون" خطاباً.
* { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
قوله: {بِمَا كَسَبَتْ}: أي بسببِ كَسْبهم. والباءُ متعلقةٌ بـ "ظَهَر"، أو بنفس الفساد، وفيه بُعْدٌ.
(11/386)
---(1/4643)
قوله: "لِيُذِيقَهم" اللامُ للعلةِ متعلقةٌ بـ "ظهر". وقيل: بمحذوفٍ أي: عاقبهم بذلك لِيُذِيقَهم. وقيل: اللامُ للصيرورةِ. وقرأ قنبل "لنُذِيْقَهم" بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة.
* { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ }
قوله: {لاَّ مَرَدَّ لَهُ}: المَرَدُّ مصدر رَدَّ. و"مِن الله" يجوز أن يتعلَّقَ بـ يأتي و بمحذوفٍ يدلُّ عليه المصدر أي: لا يَرُدُّهُ من الله أحدٌ. ولا يجوز أن يعملَ فيه "مَرَدّ" لأنَّه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ؛ إذ هو من قبيل المطوَّلات.
* { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ }
قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}: و"فلأَنْفُسِهم يَمْهَدون" تقديمُ الجارَّيْنِ يُفيد الاختصاصَ بمعنى: أن ضَرَرَ كفرِ هذا ومنفعةَ عملِ هذا لا يتعدَّاه".
* { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
قوله: {لِيَجْزِيَ}: في متعلَّقِه أوجهٌ، أحدها: "يَمْهدون". والثاني "يَصَّدَّعون"، والثالث محذوف. قال ابن عطية: "تقديره ذلك ليجزيَ. وتكون الإِشارةُ إلى ما تقرر مِنْ قوله "مَنْ كفر" و"مَنْ عمل". وجعل الشيخُ قسيمَ قوله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} محذوفاً لدلالة قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} عليه. هذا إذا عَلَّقْنا اللام بـ "يَصَّدَّعون" أو بذلك المحذوفِ قال: "تقديرُه ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ مِنْ فَضْلِه والكافرين بعَدْلِه".
* { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
(11/387)
---(1/4644)
قوله: {الرِّيَاحَ}: قرأ العامَّةُ "الرياحَ" جمعاً/ لأجلِ مبشِّراتٍ. والأعمش بالإِفراد، وأراد الجنسَ لأجلِ "مبشِّرات".
قوله: "ولِيُذيْقَكم" إمَّا عطفٌ على معنى "مُبَشِّرات"؛ لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهِمان العلةَ، فكأنَّ التقديرَ: ليبشِّرَ وليذيقَكم، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ، فتتعلَّقَ اللامُ بـ "أَنْ يُرْسِلَ".
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ }
قوله: {وَكَانَ حَقّاً}: بعضُ الوَقَفَةِ يقف على "حقاً" ويَبْتدِئ بما بعدَه، يجعل اسمَ كان مضمراً فيها و"حقاً" خبرُها. أي: وكان الانتقامُ حقاً. قال ابن عطية: "وهذا ضعيفٌ؛ لأنه لم يَدْرِ قَدْرَ ما عَرَضَه في نَظْمِ الآية" يعني الوقفَ على "حَقَّاً". وجعل بعضُهم "حَقَّاً" منصوباً على المصدر، واسمُ كان ضميرُ الأمرِ والشأن، و"علينا" خبرٌ مقدمٌ، و"نَصْرُ" مبتدأ مؤخرٌ. وبعضُهم جَعَلَ "حقاً" منصوباً على المصدر أيضاً، و"علينا" خبرٌ مقدم، و"نَصْرُ" اسمٌ مؤخر. والصحيحُ أنَّ "نَصْر" اسمها، و"حَقَّاً" خبرُها، و"علينا" متعلقٌ بـ "حَقاً" أو بمحذوفٍ صفةً له.
* { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ }
(11/388)
---(1/4645)
قوله: {مِّن قَبْلِهِ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه تكريرٌ لـ "مِنْ قَبلِ" الأولى على سبيلِ التوكيد. والثاني: أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ. وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في "قَبْله" للسحاب. وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه، أو للريح، فتتعلَّقُ "مِنْ" الثانيةُ بـ "يُنَزَّل". وقيل: يجوزُ عَوْدُ الضمير على "كِسَفا" كذا أطلق أبو البقاء. والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين. وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ "كِسَفاً" في "سبحان". وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثير رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه.
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور. فقال ابن عطية: "أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ، أي: من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء "مِنْ قبله"، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ".
وقال الزمخشري: "ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك". وهو كلامٌ حسنٌ.
(11/389)
---(1/4646)
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال: "ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط". انتهى. ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب: "وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر. ودلَّ على ذلك قولُه "فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً" يعني الزرعَ؛ قال الشيخ: "وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ} متعلِّقٌ بـ "مُبْلِسِيْن" ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني".
وقال المبردُ: "الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ" انتهى. يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب. ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين بـ "مُبْلِسين". وقال الرمَّاني: "من قبلِ الإِرسال". والكرماني: "من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار". ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً: بعضُهم يَقيسُه، وبعضُهم لا يقيسه. هذا كلُّهُ في المفردات. أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه.
* { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(11/390)
---(1/4647)
قوله: {إِلَى آثَارِ}: قرأ ابن عامر والأخَوان وحفص بالجمع، والباقون بالإِفراد. وسلام بكسرِ الهمزة وسكون الثاء، وهي لغةٌ فيه.
وقرأ العامَّةُ "كيف يُحْيي" بياء الغَيْبة أي: أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإِفراد، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى، وهو مُحْتَمَلٌ في الإِفراد أيضاً. والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع "تُحْيي" بتاء التأنيث. وفيها تخريجان، أظهرهما: أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة. والثاني قاله أبو الفضل: عائدٌ على أثر، وأنَّثَ "أثر" لاكتسابه بالإِضافةِ التأنيثَ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ. ورُدَّ عليه: بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضافِ بمعنى المضاف إليه، أو مِنْ سببِه لا أجنبياً، وهذا أجنبيٌّ. و"كيف يُحْيي" مُعَلِّقٌ لـ "انظرْ" فهو في محلِّ نصب على/ إسقاطِ الخافضِ. وقال أبو الفتح: "الجملةُ مِنْ "كيف يُحْيي" في موضعِ نصبٍ على الحال حَمْلاً على المعنى". انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالاً؟
* { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }
قوله: {فَرَأَوْهُ}: أي: فَرَأَوْا النباتَ، لدلالة السياق عليه، أو على الأثر؛ لأنَّ الرحمةَ هي الغيث، وأثرُها هو النبات. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ الإِفراد، وأمَّا على قراءة الجمع فيعودُ على المعنى. وقيل: الضمير للسَّحابِ. وقيل: للريح. وقرأ جناح بن حبيش "مُصْفارَّاً" بألفٍ. و"لَظَلُّوا" جوابُ القسمِ الموطَّأ له بـ "لَئِنْ"، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى كقولِه: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ
}. وتقدَّم الكلامُ على نحوِ {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ} إلى آخره في الأنبياء وفي النمل، وكذلك في قراءَتَيْ "ضعف" وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟
والضميرُ في "مِنْ بعدِه" يعودُ على الاصفرارِ المدلولِ عليه بالصفة كقولِه:
3653- إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه * .......................
أي: إلى السَّفَهِ لدلالة "السَّفيه" عليه.
(11/391)(1/4648)
---
* { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }
قوله: {مَا لَبِثُواْ}: جوابُ قولِه "يُقْسِم" وهو على المعنى، إذ لو حُكي قولُهم بعينِه لقيل: ما لَبِثْنا. و"كذلك" أي: مِثْلَ ذلك الإِفك كانوا يُؤْفَكون.
* { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بـ "لَبِثْتم" بمعنى فيما وَعَدَ به في كتابه من الحشرِ والبعث. وقال قتادة: على التقديم والتأخيِرِ، والتقدير: "وقال الذين أُوْتُوا العلم في كتابِ الله لقد لَبِثْتُمْ، و"في" بمعنى الباء أي: العلم بكتاب الله. وصدورُه عن قتادةَ بعيدٌ.
والعامَّةُ على سكون عَيْن "البعث". والحسنُ بفتحها. وقُرِئ بكسرِها. فالمكسورُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ.
قوله: "فهذا يومُ" في الفاءِ قولان، أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على "لَقَدْ لَبِثْتُمْ". وقال الزمخشري: "هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله:
3654- ....................... * .................. فقد جِئْنا خُراسانا
كأنه قيل: إنْ صَحَّ ما قُلتم: إنَّ خراسان أقصى ما يُراد بكم، وآن لنا أن نَخْلُصَ، وكذلك إنْ كنتم منكرينَ للبعث فهذا يومُ البعث" ويشير إلى البيت المشهور وهو:
قالوا: خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا * ثم القُفولُ فقد جِئْنا خُراسانا
قوله: "لا تَعْلَمُوْن" أي البعثَ أي: ما يرادُ بكم، أو لا ُيُقَدَّرُ له مفعولٌ أي: لم يكونوا مِنْ أولي العلم. وهو أبلَغُ.
* { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }
قوله: {فَيَوْمَئِذٍ}: أي: إذ يقعُ ذلك، ويقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة.
(11/392)
---(1/4649)
قوله: "لا يَنْفَعُ" هو الناصبُ لـ "يومئذٍ" قبله. وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياءِ مِنْ تحتُ. وافقهم نافع على ما في غافر، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ولأنه قد فُصِل أيضاً. والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةً لِلَّفْظِ.
قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال الزمخشري: "مِنْ قولك: اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي: استرضاني فَأَرْضَيْتُه، وكذلك إذا كنتَ جانياً عليه. وحقيقةُ أَعْتَبْتَه. أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله:
3655- غَضِبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ * يومَ النسارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غِضاباً؟ ثم قال: "فَأُعْتِبوا" أي: أُزيل غَضَبُهم. والغضب في معنى العَتْبِ. والمعنى: لا يُقال لهم: أرْضُوا ربَّكم بتوبة وطاعةٍ. ومثلُه قولُه تعالى: {فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} فإنْ قلتَ: كيف جُعِلوا غيرَ مُسْتَعْتِبين في بعضِ الآيات وغيرَ مُعْتَبين في بعضها، وهو قولُه: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ}. قلت: أمَّا كونُهم غيرَ مُسْتَعْتِبين فهذا معناه، وأمَّا كونُهم غيرَ مُعْتَبين فمعناه: أنهم غيرُ راضين بما هم فيه، فشُبِّهَتْ حالُهم بحالِ قومٍ جُني عليهم فهم عاتِبون على الجاني، غيرُ راضين عنه بما هم فيه. فإنْ يَسْتَعتبوا الله أي يَسْألوه إزالة ما هم فيه فما هم مِن المجابين" انتهى.
وقال ابن عطية: "ويَسْتَعْتِبون بمعنى يَعْتِبون كما تقول: يَمْلك ويَسْتملك. والبابُ في استفعل طلبُ الشيءِ، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه: ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى". قلت: وليس فاسداً لِما تقدَّم مِنْ قولِ أبي القاسم.
* { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ }
(11/393)
---(1/4650)
قوله: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ}: إنما وُحِّد هنا، وجُمع بعده في قوله: "أنتم" لنكتَةٍ: وهو أنه تعالى أخبر في موضعٍ آخرَ فقال: "ولَئِنْ جئتَهم بكل آية" أي جاءَتْ بها الرسلُ. فقال الكفار: ما أنتم أيها المدَّعون الرسالةَ كلُّكم إلاَّ كذا.
* { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ}: أي: مثلَ ذلك الطبعِ يطبعُ.
* { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }
قوله: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ}: العامَّةُ من الاستخفاف بخاء معجمة وفاء. ويعقوب وابن أبي إسحاق بحاءٍ مهملةٍ وقاف من الاستحقاق. وابن أبي عبلة ويعقوب بتخفيف نونِ التوكيد. والنهي من باب قولهم "لا أُرَيَنَّكَ ههنا".(1/4651)
سورة لقمان
* { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: قيل: فَعيل بمعنى مُفْعَل وهذا قليلٌ قالوا: أَعْقَدْتُ اللبنَ فهو عَقِيْدٌ أي مُعْقَد، أو بمعنى فاعِل، أو بمعنى ذي الحِكْمة، أو أصلُه: الحكيم قائلُه، ثم حُذِف/ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو الضميرُ المجرورُ، فانقلب مرفوعاً، فاستتر في الصفةِ. قاله الزمخشري وهو حَسَنُ الصناعةِ.
* { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ }
قوله: {هُدًى وَرَحْمَةً}: العامَّةُ على النصبِ على الحال مِنْ "آيات" والعاملُ ما في اسمِ الإشارةِ من معنى الفعل، أو المدح. وحمزة بالرفعِ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ. وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ "هدىً" منصوباً على الحال حالَ رَفْع "رحمة". قال: "ويكون رَفْعُها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: وهو رحمَةٌ". وفيه بُعْدٌ.
* { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
(11/394)
قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ}: صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ لِما قبلَه، أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على القطعِ. وعلى كل تقديرٍ فهو تفسير للإِحسان. وسُئِل الأصمعيُّ عن الألمعيِّ. فأنشد:
3656- الأَلْمَعِيُّ الذي يَظُنُّ بك الظْـ * ـظَنَّ كأنْ قد رَأَى وقد سمعا
يعني أنَّ الألمعيَّ هو الذي إذا ظَنَّ شيئاً كان كمَنْ رآه وسَمِعه.
كذلك المحسنون هم الذين يَفْعلون هذه الطاعاتِ. ومثلُه: وسُئِل بعضُهم عن الهَلُوع فلم يَزِدْ أَنْ تلا {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً }.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
قوله: {لَهْوَ الْحَدِيثِ}: من بابِ الإِضافةِ بمعنى "مِنْ" لأنَّ اللهو يكون حديثاً وغيره كبابِ ساجٍ وجُبَّةِ خَزٍّ. وقيل: هو على حذف مضاف أي: يشتري ذواتِ لَهْوِ الحديثِ؛ لأنها نزلتْ في مشتري المغنِّيات. والأولُ أبلغُ.
قوله: "لِيُضِلَّ" قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ "لِيَضِلَّ" بفتح حرفِ المضارعةِ. والباقون بضمِّه، مِنْ أضَلَّ غيرَه، فمفعولُه محذوفٌ. وهو مُسْتَلْزِمٌ للضلالِ؛ لأنَّ مَنْ أضَلَّ فقد ضَلَّ مِنْ غيرِ عكسٍ. وقد تقدَّمَ ذلك في سورة إبراهيم. قال الزمخشري هنا: "فإنْ قلت: القراءةُ بالرفعِ بَيِّنَةٌ؛ لأنَّ النَّضِرَ كان غرضُه باشتراءِ اللَّهْوِ أن يَصُدَّ النَاسَ عن الدخولِ في الإِسلام واستماعِ القرآن ويُضِلَّهم عنه فما معنى القراءةِ بالفتح؟ قلت: معنيان، أحدُهما: ليَثْبُتَ على ضلالِه الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ عنه، ويَزِيدَ فيه ويَمُدَّه؛ فإن المخذولَ كان شديدَ الشَّكيمةِ في عداوةِ الدين، وصَدِّ الناسِ عنه. الثاني: أَنْ يُوْضَعَ "لِيَضِلَّ" موضعَ ليُضِلَّ؛ مِنْ قِبَلِ أنَّ مَنْ أَضَلَّ كان ضالاًّ لا محالةَ فدَلَّ بالرَّديفِ على المَرْدُوف".(1/4652)
(11/395)
---
قوله: "بغير عِلْمٍ" حالٌ أي: يشتري بغيرِ علمٍ بأحوالِ التجارة حيث اشترى ما يَخْسَرُ فيه الدارَيْنِ.
قوله: وَيَتَّخِذَها" قرأ الأخوانَ وحفصٌ بالنصب عطفاً على "لِيُضِلَّ" فهو علةٌ كالذي قبلَه. والباقون بالرفع عطفاً على "يَشْتري" فهو صلةٌ. وقيل: الرفعُ على الاستئنافِ من غير عطفٍ على الصلةِ. والضميرُ المنصوبُ يعود على الآيات المتقدِّمةِ أو السبيلِ؛ لأنه يُؤَنَّثُ، أو الأحاديثِ الدال عليها "الحديث" لأنه اسمُ جنسٍ.
قوله: "أولئك لهم" حُمِلَ أولاً على لفظ "مَنْ" فَأُفْرِدَ، ثم على معناها فجُمِعَ، ثم على لفظِها فأُفْرِد في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ}. وله نظائرُ تقدَّمَ التنبيهُ عليها في المائدة، عند قولهِ تعالى: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}. وقال الشيخ: "ولا نعلم جاءَ في القرآن ما حُمِلَ على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غيرَ هاتين الآيتين". قلت: وُجِدَ غيرُهما كما قَدَّمْتُ التنبيهَ عليه في المائدة.
* { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيا أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}: حالٌ مِنْ فاعل "وَلَّى" أو مِنْ ضمير "مُسْتَكْبراً".
قوله: {كَأَنَّ فِيا أُذُنَيْهِ وَقْراً} حالٌ ثالثةٌ أو بدلٌ ممَّا قبلها، أو حالٌ مِنْ فاعل "يَسْمَعْها"، أو تبيينٌ لِما قبلها. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ جملتا التشبيهِ استئنافيتين.
* { خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(11/396)
---(1/4653)
قوله: {خَالِدِينَ}: هو حالٌ. وخبرُ "إنَّ" الجملةُ مِنْ قولِه: "لهم جَنَّاتُ". والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ "لهم" هو الخبرَ وحده، و"جناتُ" فاعلٌ به. وقرأ زيدُ بن علي "خالدون" بالواو فيجوزُ أَنْ يكون هو الخبرَ، والجملة - أو الجارُّ وحده - حالٌ. ويجوز أَنْ يكونَ "خالدون" خبراً ثانياً لـ إنَّ.
قوله: "وَعْدَ اللَّهِ" مصدرٌ مؤكِّدٌ لنفسِه لأنَّ قوله: "لهم جنات" في معنى: وَعَدَهم اللَّهُ ذلك. و"حَقَّاً" مصدرٌ مؤكِّدٌ لغيره، أي: لمضمونِ تلك الجملةِ الأولى، وعاملُهما مختلِفٌ: فتقديرُ الأولِ: وَعَدَ اللَّهُ ذلك وَعْداً، وتقديرُ الثاني: أحقُّ ذلك حقاً.
* { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }
قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}: تقدَّم في الرعد.
* { هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله: {مَاذَا خَلَقَ}: "ما" استفهامٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
ولقمان قيل: أعجميٌّ. وهو الظاهر. فمنعُه للتعريفِ والعُجْمةِ الشخصية. وقيل: عربيٌّ مشتقٌّ مِن اللَّقْمِ وهو حينئذٍ مرتجلٌ؛ لأنه لم يَسْبِقْ له وَضْعٌ في النكرات. ومَنْعُه حينئذٍ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنون.
* { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
(11/397)
---(1/4654)
والعاملُ في "إذ" مضمرٌ. "وهو يَعِظَهُ" جملةٌ حاليةٌ. "يا بُنيَّ" قد تقدَّم خلافُ القرَّاء فيه. وتقدَّم الكلامُ أيضاً على {وَصَّيْنَا الإِنْسَانَ} في العنكبوت.
* { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }
قوله: {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ}: يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مِنْ "أمُّه" أي: ضَعْفاً على ضَعْفٍ، أو مِنْ مفعولِ "حَمَلَتْه" أي: عَلَقَةً ثم نطفة ثم مُضغة. وكلاهما جاء في التفسير. وقيل: منصوبٌ على إسقاطِ الخافض أي: في وَهْنٍ. قاله أبو البقاء. و"على وَهْن" صفةٌ لـ "وَهْناً".
وقرأ الثقفي وأبو عمروٍ في روايةٍ {وَهَناً عَلَى وَهْنٍ} بفتحِ الهاءِ فيهما. فاحتمل أَنْ يكونا لغتين كالشَّعْر والشَّعَر، واحتمل أنْ يكونَ المفتوحَ مصدرَ وَهِنَ بالكسر يَوْهَنُ وَهَناً. وقرأ الجحدريُّ وقتادةُ وأبو رَجاءٍ/ "وفَصْلُه" دونَ ألفٍ أي: وفِطامُه.
قوله: "أن اشْكُرْ" في "أنْ" وجهان، أحدهما: أنها مفسرة. والثاني: أنها مصدريةٌ في محلِّ نصبٍ بـ "وَصَّيْنا". وهو قولُ الزجَّاج.
* { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله: {مَعْرُوفاً}: صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: صِحاباً معروفاً وقيل: الأصلُ: بمعروفٍ.
قوله: "إليَّ" متعلِّقٌ بـ أنابَ. "ثم إليَّ" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه خبرُ "مَرْجِعُكم".
* { يابُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
(11/398)
---(1/4655)
قوله: {إِنَّهَآ إِن تَكُ}: ضميرُ القصةِ. والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ. وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ "مثْقال" بالرفع على أنَّ "كان" تامةٌ وهو فاعلُها. وعلى هذا فيُقال: لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل: لإِضافته إلى مؤنث، ولأنه بمعنى: زِنَةُ حَبَّة. وجَوَّز الزمخشري في ضمير "إنها" أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب "مِثْقال". وقيل: الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي: إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ. وفي التفسير: أنه سأل أباه: أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر: أيعلُمها اللَّه؟
وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ "فَتَكِنَّ" بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي: فتستقرَّ. وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي "فَتُكَنَّ" كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعول. وقتادة "فَتَكِنُ" بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ "وَكَنَ" أي: استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه.
* { يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }
قوله: {مِنْ عَزْمِ}: عَزْم مصدرٌ. يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مفعول أي: مِنْ معزوماتِ الأمورِ أو بمعنى عازِم كقولِه: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} وهو مجازٌ بليغٌ. وزعَم المبرد أنَّ العينَ تُبْدَلُ حاءً فقال: حَزْمٌ وعَزْمٌ. والصحيحُ أنهما مادَّتان مختلفتان اتَّفَقتا في المعنى.
* { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
قوله: {وَلاَ تُصَعِّرْ}: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان "تَصاعَرَ" بألفٍ وتخفيفِ العينِ. والباقون دون ألفٍ وتشديد العين، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ. وهما لغتان: لغةُ الحجازِ التخفيفُ، وتميمٌ التثقيلُ. فمِن التثقيلِ قوله:
(11/399)
---(1/4656)
3657- وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه * أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً: تَصَعَّر. قال:
3658- ....................... * أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ
وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه {ثَانِيَ عِطْفِهِ}. قال أبو عبيدة: "أصلُه من الصَّعَر، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي". وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا.
* { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
قوله: {وَاقْصِدْ}: هذا قاصِرٌ بمعنى اقتصِدْ واسْلُكْ الطريقةَ الوُسْطى بين ذلك قَواما. وقُرِئ "وأَقْصِدْ" بهمزةِ قطعٍ، مِنْ أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمَه للرَّمْيَةِ.
قوله: "مِنْ صَوْتِك" تبعيضيَّةٌ. وعند الأخفش يجوزُ أَنْ تكونَ مزيدةً. ويؤيِّدُه {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} وقيل: "مِنْ صوتِك" صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: شيئاً مِنْ صوتِك وكانت الجاهليةُ يتمدَّحون برفعِ الصوتِ قال:
3659- جَهيرُ الكلامِ جَهيرُ العُطاس * جَهيرُ الرُّواءِ جَهيرُ النِّعَمْ
قوله: "إنَّ أَنْكَرَ" مبنيٌّ للمفعولِ نحو: "أَشْغَلُ مِنْ ذاتِ النَّحْيَيْن". وهو مختلَفٌ فيه. ووُحِّد "صوت" لأنه يُرادُ به الجنسُ ولإِضافتِه لجمع.
* { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }
(11/400)
---(1/4657)
قوله: {نِعَمَهُ}: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص "نِعَمَه" جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير، فـ "ظاهرةً" حالٌ منها. والباقون "نِعْمةً" بسكون العين، وتنوينِ تاء التأنيث، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ فـ "ظاهرة" نعتٌ لها. وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة "وأَصْبَغَ" بإبدال السينِ صاداً. وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف. وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة، والكلامُ على "أَوَلَوْ" ونحوِه.
* { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ }
وقرأه عليٌّ والسمليُّ "يُسَلِّم" بالتشديد.
* { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قوله: {وَالْبَحْرُ}: قرأ أبو عمرو بالنصب، والباقون بالرفع. فالنصبُ من وجهين، أحدُهما: العطفُ على اسمِ "أنَّ". أي: ولو أنَّ البحرَ، و"يَمُدُّه" الخبرُ. والثاني: النصبُ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره "يمدُّه" والواوُ حينئذٍ للحال. والجملةُ حاليةٌ، ولم يُحْتَجْ إلى ضميرٍ رابطٍ بين الحالِ وصاحبِها، للاستغناءِ عنه بالواوِ. والتقديرُ: ولو أنَّ الذي في الأرضِ حَالَ كونِ البحرِ ممدوداً بكذا.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهين، أحدُهما: العطفُ على أنَّ وما في حَيِّزها. وقد تقدَّم لك في "أنَّ" الواقعةِ/ بعد "لو" مذهبان: مذهبُ سيبويهِ الرفعُ على الابتداء، ومذهبُ المبردِ على الفاعليةِ بفعلٍ مقدر، وهما عائدان هنا. فعلى مذهبِ سيبويه يكون تقديرُ العطفِ: ولو البحر. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: إنه لا يلي "لو" المبتدأُ اسماً صريحاً إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله:
3660- لو بغير الماءِ حَلْقي شَرِقٌ * .........................
(11/401)
---(1/4658)