والأصل: مشهود فيه، وشَهِدْنا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وَصَل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به. قال الزمخشري: "فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فِعْله؟ قلت: لِما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّه لابد أن يكونَ ميعاداً مضروباً لجمع الناس له، وأنه هو الموصوفُ بذلك صفةً لازمة".
* { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ }
والضمير في "نُؤَخِّره" يعودُ على "يوم". وقال الحوفي: "على الجزاء". وقرأ الأعمش: "وما يُؤَخِّره"، أي اللَّه تعالى.
* { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }
وقرأ أبو عمرو والكسائي ونافع "يأتي" بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، وباقي السبعة قرؤوا بحذفها وصلاً ووقفاً. وقد وَرَدَت المصاحف بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أُبَي إثباتُها، وفي مصحف عثمان حَذْفُها، وإثباتُها هو الوجه لأنها لام الكلمة وإنما حذفوها في القوافي والفواصل لأنها محلُّ وقوف وقالوا: لا أَدْرِ، ولا أبالِ. وقال الزمخشري: "والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغة هُذَيْل" وأنشد ابن جرير في ذلك:
2708 - كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهماً * جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما
والناصبُ لهذا الظرف فيه أوجه، أحدها: أنه "لا تَكَلَّمُ" والتقدير: لا تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجةَ إلى غيره. والثاني: أن ينتصب بـ"واذكر" مقدراً. والثالث: أن ينتصبَ بالانتهاءِ المحذوفِ في قوله: "إلا لأجل"، أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنه منصوبٌ بـ"لا تَكَلَّم" مقدَّراً، ولا حاجةَ إليه.
(8/344)
---(1/3384)
والجملةُ من قوله: "لا تَكَلَّمُ" في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم المتقدم في "مشهود"، أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه إلا بإذنه، قاله الحوفي وقال ابن عطية: "لا تكلَّم نفسٌ" يَصِحُّ أن تكون جملةً في موضع الحال من الضمير الذي في "يأتي" وهو العائد على قوله "ذلك يومٌ"، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه، ويصح أن يكون قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفةً لقوله: "يوم يأتي".
وفاعلُ "يأتي" فيه وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ "يوم" المتقدِّم. والثاني: أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}. والضميرُ في قوله: "فمنهم" الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ}. وجعله الزمشخري عائداً على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا، قال: "لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} يدلُّ عليه"، وكذا قال ابنُ عطية.
قوله: {وَسَعِيدٌ} خبره محذوف: أي: ومنه سعيدٌ، كقوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ}
* { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }
قوله تعالى: {شَقُواْ}: الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر. وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدياً، فيقال: شَقاه اللَّه، كما يقال أشقاه اللَّه.
وقرأ الأخوان وحفص "سُعِدُوا" بضم السين، والباقونَ بفتحها.
(8/345)
---(1/3385)
الأُولى مِنْ قولهم "سَعَدَه اللَّه"، أي: أسعده، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول: سَعَده اللَّه بمعنى أَسْعد. وقال الجوهري: "سَعِيد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم، وسُعِد فهو مسعود". وقال ابن القشيري: "وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود، وأسعد فهو مُسْعَد". وقيل: يُقال: سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود، استَغْنوا باسم مفعول الثلاثي. وحُكي عن الكسائي أنه قال: "هما لغتان بمعنىً"، يعني فَعَل وأَفْعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: "يُقال: سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ". وقيل: سَعِده لغة.
وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين، قال المهدوي: مَنْ قرأ "سُعِدوا" فهو محمولٌ على مَسْعود، وهو شاذ قليل، لأنه لا يُقال: سَعَده اللَّه، إنما يقال: أسعده اللَّه. وقال بعضُهم: احتجَّ الكسائي بقولهم: "مسعود". قيل: ولا حُجَّةَ فيه، لأنه يُقال: مكان مسعود فيه ثم حُذِف "فيه" وسُمِّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي: / "سُعِدوا" مع علمه بالعربية، والعجبُ مِنْ تعجُّبه. وقال مكي: "قراءةُ حمزةَ والكسائي "سُعِدوا" بضم السين حملاً على قولهم: "مسعود" وهي لغةٌ قليلة شاذة، وقولهم: "مَسْعود" إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه، ولا يُقال: سَعَدَه اللَّه، وهو مثل قولهم: أجنَّة اللَّه فهو مجنون، أتى على جَنَّة اللَّه، وإنْ كان لا يُقال ذلك، كما لا يقال: سَعَده اللَّه".
وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء: "وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ".
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}: هذه الجملةُ فيها احتمالان، أحدهما: أنها مستأنفة، كأن سائلاً سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. الثاني: أنها منصوبةٌ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في الجارِّ والمجرور وهي "ففي النار". والثاني: أنها حالٌ من "النار".
(8/346)
---(1/3386)
والزَّفير: أولُ صوت الحمار، والشَّهيق: آخره، قال رؤبة:
2709 - حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ * حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس: "الشَّهيق ضد الزفير؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ، والزَّفير: إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر، لشدته. وقال الزمخشري نحوه، وأنشد للشماخ:
2710 - بعيدٌ مَدَى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه * زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج
وقيل: الشَّهيق: النَّفَس الممتدُّ، مأخوذ مِنْ قولهم "جبل شاهق أي عالٍ. وقال الليث: "الزَّفير: أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من النفسَ ويُخْرِجُه، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم: "تنفَّس الصعداء". وقال أبو العالية والربيع بن أنس: "الزفير في الحَلْق والشَّهيقُ في الصدر". وقيل: الزفير للحمار والشهيق للبَغْل.
* { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ}: منصوبٌ على الحال المقدرة. قلت: ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول، بخلافِ هنا.
قوله: {مَا دَامَتِ} "ما" مصدرية وقتية، أي: مدة دوامهما. و "دام" هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.
(8/347)
---(1/3387)
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فيه أقوال كثيرة منتشرة لخًّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً، أحدها: - وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: "فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، والدليل عليه قوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وفي مقابله {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، أي: يَفْعل بهم ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له". قال الشيخ: "ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء". قلت: الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً.
الثاني: انه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: "خالدين فيها ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ" والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.
(8/348)
---(1/3388)
الثالث: أنه مِنْ قوله: "ففي النار" و "ففي الجنة"، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.
قال الشيخ: يمكن ذلك / باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة".
الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله: "ففي النار" و "ففي الجنة"؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.
(8/349)
---(1/3389)
الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو "خالدين"، وعلى هذين القولين تكون "ما" واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} والمراد بـ"ما" حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.
السادس: قال ابن عطية: "قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع".
السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}. وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ام نُقِل عن ابن مسعود.
الثامن: أن "إلا" حرفُ عطفٍ بمعنى الواون فمعنى الآية: وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك.
التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر بـ"لكن" أو بـ"سوى"، ونَظَّروه بقولك: "لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك" بمعنى سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك. وقيل:سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.
العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السموات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.
الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.
(8/350)
---(1/3390)
الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.
الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله: "ففي النار" كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن لك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أب سعيد الخدري وجابر.
الرابع عشر: أنَّ "إلا ما شاء" بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، أي: كما قَدْ سَلَفَ.
* { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }
قوله تعالى: {عَطَآءً} نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملةِ قبله؛ لأن قوله: "ففي الجنة خالدين" يقتضي إعضاء وإنعاماً فكأنه قيل: يُعْطيهم عَطاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة الإِعطاء على الإِفعال، أو يكونُ مصدراً على حذف الزائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}، أو هو منصوب بمقدَّرٍ موافِقٍ له، أي: فَنَبَتُّم نباتاً، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتُ بمعنى تناولْت.
و "غيرَ مَجْذوذ" نَعْتُه. والمجذوذ: المقطوع، ويقال لِفُتات الذهب والفضة والحجارة: "جُذاذ" من ذلك، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى، إلا أن الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية، ومنه "جَدَّ في سيره يَجِدُّ جَدَّاً"، ثم قال: "وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ [الأرضَ] القَطْعُ المجردُ فقيل: جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه". والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو: عَتَا وعَثا وكثب وكتب.
* { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلااءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ }(1/3391)
(8/351)
---
قوله تعالى: {مِّمَّا يَعْبُدُ}: "ما" / في "ممَّا يعبد" وفي "كما يَعبْدُ" مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الأولى اسميةً دونَ الثانية.
قوله: {لَمُوَفُّوهُمْ} قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشدداً، وقرأ ابن محيصن "لَمُوْفُوْهم" بالتخفيف مِنْ أَوْفَى، كقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيا}، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات.
قوله: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مِنْ "نصيبهم"، وفي ذلك احتمالان، أحدهما: أن تكونَ حالاً مؤكدة، لأنَّ لفظ التوفية يُشْعر بعدم النقص، فقد استفيد معناها مِنْ عاملها وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكونَ حالاً مُبَيِّنة. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف نُصِبَ "غيرَ منقوص" حالاً عن النصيب المُوَفَّى؟ قلت: يجوز أن يُوَفَّى وهو ناقصٌ ويوفَّى وهو كاملٌ، ألا تَراك تقول: "وَفَّيْتُه شطرَ حَقِّه، وثلثَ حقِّه، وحقَّه كاملاً وناقصاً"، فظاهر هذه العبارة أنها مبيِّنة؛ إذ عاملُها محتملٌ لمعناها ولغيره. إلا أن الشيخ قال بعد كلامه هذا: "وهذه مَغْلَطَة، إذا قال: "وفَّيته شطرَ حَقِّه" فالتوفيهُ وَقَعَتْ في الشطر، وكذا في الثلث، والمعنى: أعطيته الشطرَ والثلثَ كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأمَّا قوله: "وحقَّه كاملاً وناقصاً" أمَّا كاملاً فصحيح، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأن التوفيةَ تقتضي الإِكمالَ، وأمَّا "وناقصاً" فلا يقال لمنافاته التوفيه". وفي مَنْع الشيخ أَنْ يُقال: "وَفَّيْتُه حقَّه ناقصاً" نظر، إذ هو شائعٌ في تركيبات الناسِ المعتبرِ قولهم؛ لأن المرادَ بالتوفية مطلقُ التَّأْدية".
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }
(8/352)
---(1/3392)
قوله تعالى: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ}: أي في الكتاب، و "في" على بابها من الظرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}، أي: يُكَثِّركم بسببه. وقيل: هي بمعنى على، ويكون الضمير لموسى عليه السلام، أي: فاخْتُلِف عليه.
و "مُرِيْب" مِنْ أراب إذا حَصَلَ الرَّيْب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدم.
* { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ}: هذه الآيةُ الكريمة مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثا، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً، وقد سَهَّل اللَّه تعالى، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها.
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: "وإنْ" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا "لمَّا" فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة {وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ}، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروَى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: "وإنْ" و "لَمَا" مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ "أنَّ" وثَقَّل "لمَّا"، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا "إنَّ" و "لمَّا" معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا "إنَّ" وخَفَّفا "لَمَّا". فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.
(8/353)
---(1/3393)
هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب "وإنْ كل" بتخفيفها، ورفع "كل"، "لَمَّا" بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: "لمَّاً" مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف "إنَّ" ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: "وإنْ كلٌّ إلا": بتخفيفِ "إنْ" ورفع "كل". الرابعة. قال أبو حاتم: "الذي في مُصْحف أبي {وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم}.
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة: "وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: "حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول: "إنْ عمراً لمنطلقٌ" كما قالوا:
2711 - ....................... * كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
(8/354)
---(1/3394)
قال: "ووجهُه مِن القياس أنَّ "إنْ" مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: "لم يكُ زيد منطلقاً" {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} وكذلك لا أَدْرِ". قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ كـ"إنْ"، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [مُحْضَرُونَ]}، وبعضُها يجب إعمالُه كـ"أنْ" بالفتح و "كأنْ"، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور كـ"لكن". وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في "إنْ" المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه:
2712 - ......................... * كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ
قال الفراء: "لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله:
2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني * طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال: "لأنَّ المُكْنَى لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع". قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر:
2714 - ......................... * كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
و [قوله]:
2715 - كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ
(8/355)
---(1/3395)
هذا ما يتعلق بـ"إنْ". وأمَّا "لَمَا" في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ "إنْ" الداخلةُ في الخبر. و "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} فأوقع "ما" على العاقل. واللام في "ليوفِّيَنَّهم" جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ لـ"ما" والتقدير: وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ لـ"إنْ".
وقال بعضُهم: اللامُ هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما بـ"ما" كما فُصِل بالألف بين النونين في "يَضْرِبْنانِّ"، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ "ما" هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ "إنْ" فقال: "العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدءخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام".
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال: "واللامُ في "لَمَا" موطِّئةٌ للقسم و "ما" مزيدةٌ" ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام "إنْ". وقال أبو شامة: "واللامُ في "لَمَا" هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية" وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يُؤْتَى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو: "إنْ زيدٌ لقائم" وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة.
(8/356)
---(1/3396)
فتلخَّص في كلٍ من اللام و "ما" ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر "إنْ". الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً. وأحدها في "ما": أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين.
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه / ، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على "ما" الموصولة" أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم "ما" وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى "لمَّا". قال نصر ابن علي الشيرازي. و "وَصَلَ "مِنْ" الجارة بـ"ما" فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي "لمَّا" بالتشديد". قال: و "ما" هنا بمعنى "مَنْ" وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم".
وقد عَيّضن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: "حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم".
(8/357)
---(1/3397)
الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم "مَنْ" على أنها موصولة أو موصوفة، و "ما" بعدها مزيدٌ فقال: "فقلبت النونُ ميماً، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل "لَمَّا". قال مكي: "والتقدير: وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم"، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: "زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى" قال: "وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ "مَنْ" لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين".
وقال النحاس: "قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ "مَنْ" فيبقى حرفٌ واحد". وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال: "إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو "قدم مالك" فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ" قال: "على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في "لَمَنْ ما" ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى: {وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ}، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ". قلت: اجتمع في "أمم ممَّن مَعَك" ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن "أمماً" فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم "مِنْ" ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم "معك"، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل "لَمَّا" "لمِنْ ما" بقول الشاعر:
2716 - وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً * على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم
وبقول الآخر:
(8/358)
---(1/3398)
2717 - وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه * إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ
قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم} بتشديد "لمَّا" أن الأصل: "لمن ما" فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه.
وقال أبو شامة: "وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: {لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي} إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: "أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا: المعنى لأنْ كنتَ منطلقاً". قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْلإٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان يما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة: "وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت" يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي / التخفيف والتشديدِ مِنْ "لمَّا" في معنى واحد فقال: "ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء {وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي:
2718 - وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا * لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا
فحذف ياءَه لاجتماع الياءات". قلت: الأَوْلى أن يُقال: حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ "لديّ" فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في "لدى" وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ {يابُنَيَّ} بالإِسكان على ما سَبَق، وأمَّا الياء مِنْ "يتباشرون" فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفراء: "ومثلُه:
2719 - كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ
(8/359)
---(1/3399)
يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام". قلت: توجيهُ قولهم: "من آخرها إلقادم" أن ألف "إلى" حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف "إلى" ساكنة ولام التعريف من "القادم" ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ "إلى" ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف "إلى" غير الهمزة فاتصلت بلام "القادم" فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: "ءِ القادم" بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.
قال أبو شامة: "وهذا قريبٌ مِنْ قولهم "مِلْكذب" و "عَلْماءِ بنو فلان" و "بَلْعنبر" يريدون: من الكذب، وعلى الماء بنو فلان، وبنو العنبر". قلت: يريد قوله:
2720 - أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً * غيرُ الذي [قد] يُقال مِلْكذب
وقول الآخر:
2721 - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ * ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ
وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ "مِنْ" لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ.
قالاثل: أنَّ أصلَها "لَما" بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: "وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو: "رُبَ" في "رُبَّ". وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله:
2722 - * مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا
يريد: القصبَ، فلمَّا أِبع الفتحة تولَّد منها ألف، وضعَّف الحرف، وكذلك قوله:
2723 - ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي
(8/360)
---(1/3400)
شدَّد اللام مع كونِها حَشْواٍ بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألأف "لما" فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.
الرابع: أن أصلَها "لَمَّاً" بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في "تَتْرى" بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم، ويكون "جميعاً" فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن "جميعاً" يفيد معنى زائداً على "كل" عند بعضهم. قال: "ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ "لمَّاً" بالتنوين".
الخامس: أن الأًل "لَمَّاً" بالتنوين أيضاً، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال: "لأن ذلك إنما يجوز في الشعر" يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ "لَمَّاً" بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب: "استعمالُ "لَمَّا" في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى "لمَّاً" المنصرف فهو أبعدُ، إذ لا يُعرف "لمَّا" فَعْلَى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال، وهو خلافُ الإِجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بمستقيم".
السادس: أنَّ "لَمَّا" زائدة كما تزاد "إلا" قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً، وهو أنَّ "إلا" تأتي زائدةً.
(8/361)
---(1/3401)
السابع: أنَّ "إنْ" نافيةٌ بمنزلة "ما"، و "لمَّا" بمعنى "إلا" فهي كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا} أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} أي: ما كل ذلك إلا متاع /. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ "إنْ" النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وجاب بعضهم عن ذلك بأن "كلاً" منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: "ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله:
2724 - ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً * يَدُلُّ على مُحَصَّلةٍ تَبيتُ
(8/362)
---(1/3402)
هل هو ممنصوب بفعلٍ مقدَّر أونُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ، واختار يونس التنوين للضرورة"، وقدَّره بعضهم بعد "لمَّا" مِنْ لفظ "ليُوَفِّينَّهم" والتقدير: وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد "إلا" لا يعمل فيما قبلها. واستدلَّ أصحابُ هذا القول - أعني مجيء "لَمَّا" بمعنى "إلا" - بنص الخليل وسيبويه على ذلك، ونصره الزجاج، قال بعضهم: "وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي: إلا فعلت". وقد أنكر الفراء وأبو عبيدة ورودَ "لمَّا" بمعنى إلا، قال: أبو عبيدة: "أمَّا مَنْ شدَّد "لمَّا" بتأويل "إلا" فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ: "قام القوم لمَّا أخاك" يريد: إلا أخاك، وهذا غيرُ موجودٍ". وقال الفراء: "وأمَّا مَنْ جَعَلَ "لَمَّا" بمنزلة "إلا" فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن: "باللَّه لمَّا قمت عنا"، و "إلا قمت عنا"، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيداً".
(8/363)
---(1/3403)
فأبو عبيد أنكر مجيء "لمَّا" بمعنى "إلا" مطلقاً، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد "لمَّا" في هذه الآية: "لا يصلح أن تكون بمعنى "إلا"؛ لأن "لَمَّا" هذه لا تفارق القسم" وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: "نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت" و "أسلك باللَّه لمَّا فعلت". وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد "لمَّا" في هذه السورة على تقدير أن "لمَّا" بمعنى "إلا" لا تختص بالقسم ما معناه: أن تشديد "لمَّا" ضعيف سواء شددت "إن" أم خَفَّفْت، قال: "لأنه قد نُصِب بها "كلاً"، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة، وكما لا يَحْسُن: "إنَّ زيداً إلا منطلق"، لأن الإِيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد، فلذا لا يَحْسُن: إن زيداً لَمَّا مُنْطلق" لأنه بمعناه، وإنما ساغ: "نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت" لأنَّ معناه الطلب، فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فِعْلك، فحرفُ النفي مرادٌ مثل: {تَالله تَفْتَؤُاْ}، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم: "شَرٌ أهرُّ ذاناب" أي: ما أهرَّه إلا شرٌّ، قال: "وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ. وقال الكسائي: "لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا". قال الفارسي: "ولم يُبْعِدْ فيما قال". ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال: "اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرف لها وجهاً".
(8/364)
---(1/3404)
الثامن: قال الزجاج: "قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه: "إنَّ "لمَّا" في معنى إلا، مثل {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى "إنْ زيدٌ لمنطلق": ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنى نفيٌ بـ"إنْ" وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا". قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ "إلا" في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز "لمَّا" التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها "إنَّ" المشددةَ على حالها، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها،وأمَّا "لمَّا" فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ "لَمِنْ ما" بالكسر أو "لَمَنْ ما" بالفتح، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا. والقولُ بكونها بمعنى "إلا" مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.
الثاني: قال المازنيٌّ: "إنَّ" هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنى "ما" كما خُفِّفَتْ "إنَّ" ومعناها المثقلة و "لَمَّا" بمعنى "إلا". وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدَ تثقيلُ "إنْ" النافية، وأيضاً فـ"كلاً" بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا / تَنْصِبُ.
(8/365)
---(1/3405)
الوجه الثالث: أنَّ "لَمَّا" هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: "لمَّا" هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: "خَرَجْتُ ولمَّا" و "سافرتُ ولمَّا" و هو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى: وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْركوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}، قال: "وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن"، قال: "والتحقيقُ يأبى استعبادَه". قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن "لمَّا" يُحذف مجزومُها باطِّراد، قالوا: لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله:
2725 - أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا * لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قِدِ
أي: وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب "معاني الشعر" له قولَ الشاعر:
2726 - فجئْتُ قبورَُمْ بَدْءاً ولمَّا * فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
قال: "قوله "بدءاً"، أي: سيداً، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرٌ أَنْصِبائها، قال: "وقول "ولما"، أي: ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر:
2727 - خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ * ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ
قال: "ونظيرُ السكوتِ على "لمَّا" دونَ فعلها السكوت على "قد" دونَ فعلِها في قول النابغة: أَفِدَ الترحُّل: البيت". قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد "لمَّا" سواءً شدَّد "إن" أو خفَّفها.
(8/366)
---(1/3406)
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً، فإنها "إنَّ" المشددة عَمِلَتْ عملها، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر "إنَّ"، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّنَّهم، وقد تقدَّم وقوعُ "ما" على العقلاء مقرَّراً، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} غير أنَّ اللامَ في "لمَنْ" داخلة على الاسم، وفي "لمَّا" داخلة على الخبر. وقال بعضهم: "ما" هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في "لَمَا" موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: "جَعَل "ما" اسماً للناس كما جاز {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ}، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في "ليوفِّيَنَّهم" لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين "ما" وصلتِها كما تقول: "هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ"، و "عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه" ومثلُه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال: "إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن، ومثله:
2728 - ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً * لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا
قال: "أَدْخَلها في "بَعْد"، وليس بموضعِها، وسمعت أبا الجراح يقول: "إني لبحمد اللَّه لصالحٌ".
(8/367)
---(1/3407)
وقال الفارسي في تويجيهِ هذه القراءة: "وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب "كلاً" بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين "إنَّ" واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: "إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ".
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: - وهي جرأةٌ لَمَّا خارج". وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: "وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو: "إنَّ زيداً لَمَّا خارج"، هذا المثالُ لحنٌ" /.
قلت: إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت "لمَّا" المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفر: "القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال: "إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: "إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه"، ولا "لَمَّا لأضربنَّه". قال: "وقال الكسائي: اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً" وقد تقدَّم ذلك، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال: "كما لا يحسن: "إنَّ زيداً إلا لمنطلق"؛ لأنَّ "إلا" إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن "إنَّ زيداً لما منطلق"، لأنه بمعناه، وإنما ساغ "نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت" إلى آخر ما ذكرته عنه. وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.
(8/368)
---(1/3408)
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} بتخفيف "إنْ" ورفع "كل" على أنها إنْ النافية و "كلٌّ" مبتدأ، و "لمَّا" مشددة بمعنى إلاَّ، و "لَيُوَفِّيَنَّهم" جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} ومثلُه: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ}، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ "لمَّا" بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم "لَمَّاً" بالتشديد منونةً فـ"لمَّاً" فيها مصدرٌ مِنْ قولهم: "لَمَمْتُه - أي جمعته - لمَّاً"، ومنه قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله: "ليوفينَّهم" على حَدِّ قولِهم: "قياماً لأقومَنَّن، وقعوداً لأقعدَنَّ" والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.
والثاني: ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو: أن يكونَ وصفاً لـ"كل" وصفاً بالمصدر مبالغةً، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه "كل" نكرةً ليصحَّ وَصْفُ "كل" بالنكرة، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ "كل"، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً}، فوقع "لمَّا" نعتاً لـ"أكلاً" وهو نكرة.
قال أبو عليّ: "ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال".
(8/369)
---(1/3409)
[وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ لـ"كلاً" كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت لـ"كلاً"] فإنه قال: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} كقوله "أكلاً لمَّاً" ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلاً جميعاً، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلاائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} انتهى. لا يريد بذلك انه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ لـ"كلاً"، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات "لَمَّا" بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبرُ "إنْ" على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقله أبو حاتم فإنْ فيها نافية، و "مِنْ" زائدةٌ" في النفي، و "كل" مبتدأ، و "ليوفِّينَّهم" مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون "مِنْ": {وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم}.
والتنوين في "كلاً" عوضَ من المضافِ إليه. قال الزمخشري: "يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه". وقد تقدَّم أنه على قراءةِ "لَمَّاً" بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه "كل" إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد بـ"إنَّ" و بـ"كل" وبلام الابتداء الداخلة على خبر "إنَّ" وزيادةِ "ما" على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.
(8/370)
---(1/3410)
وقرأ / العامَّةُ "يعملون" بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز "بما تعملون" بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
* { فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله تعالى: {كَمَآ أُمِرْتَ}: الكافُ في محل النصب: إمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين. قال الزمخشري: "أي: استقمْ استقامةً مثل الاستقامة التي أُمِرْتَ بها على جادَّة الحقِّ غيرَ عادلٍ عنها"، وإمَّا على الحال من ضمير ذلك المصدر واستَفْعَل هنا للطلب كأنه قيل: اطلبْ الإِقامةَ على الدين، قال: "كما تقول: استغفر، أي: اطلب الغفران".
قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في "مَنْ" وجهان أحدهُما: أنَّه منصوبٌ على المفعول معه، كذا ذكره أبو البقاء، ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمَنْ تاب مصاحباً لك، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ. الثاني: أنه مرفوعٌ، فإنه نسق على المستتر في "استقم"، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحةِ العطف، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّره الزمخشري: "فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب" فقدَّر الرفعَ له فعلاً لائقاً برفعِه الظاهرَ.
وقرأ العامَّةُ {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بالتاء جرياً على الخطاب المتقدم.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي باليء للغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكسَ ما تقدم في {بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
* { وَلاَ تَرْكَنُوااْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }
(8/371)
---(1/3411)
قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوااْ}: قرأ العامَّةُ بفتح التاء والكاف، والماضي من هذا ركِن بكسر العين كعَلِمَ، وهذه هي الفصحى، كذا قال الأزهري. قال غيره: "وهي لغةُ قريش". وقرأ أبو عمرو في روايةٍ "تِرْكَنوا"، وقد تقدَّم تقانُ ذلك أوَ هذا الموضع.
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة - ورُوِيَتْ عن أبي عمرو - "تَرْكُنوا" بضم العين، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل. وقال بعضهم: "هو من التداخل" يعني أنَّ مَنْ نطلق بـ"رَكِنَ" بكسر العين قال: "يَرْكُن" بضمها، وكان مِنْ حقه أَنْ يفتح، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن يَرْكُن، بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضاعر". وشَذَّ أيضاً قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل، فتحصَّل مِنْ هذا أن يُقَالَ: رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ كما تقدَّم، ورَكَن بفتحها وهي لغةُ قيسٍ وتميم، زاد الكسائي "ونَجْد"، وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
وقرأ ابنُ أبنُ أبي عبلة "تُرْكَنوا" مبنياً للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله، فهو من باب "لا أُرَيَنَّك ههنا" و {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} وقد تقدَّم.
والرُّكُون: المَيْل، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه.
قوله: {فَتَمَسَّكُمُ} هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي. وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش في آخرين "فتمَسَّكم" بكسرِ التاء وقد تقدَّم.
(8/372)
---(1/3412)
قوله: {وَمَا لَكُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: تَمَسَّكم حالَ انتفاءِ ناصركم. ويجوز أن تكون مستأنفة. و "مِنْ أولياء": "مِنْ" فيه زائدةٌ: إمَّا في الفاعل، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ - أحدُها النفي - رفع الفاعل.
قوله: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. وقرأ زيد بن علي - رضي اللَّه عنهما - بحذفِ نون الرفع، عطفه على "تمسَّكم"، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً. وأتى بـ"ثمَّ" تنبيهاً على تباعد الرتبة.
* { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: {طَرَفَيِ النَّهَارِ}: ظرفٌ لـ"أَقِمْ". ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي: أقم الصلاة الواقعة في هذين الوقتين، والطَرَف وإن يكن ظرفاً، ولكنه لمَّا أضيف إلى الظرف أُعْرب بإعرابه، وهو كقولك: "أتيته / أولَ النهار وآخرَه ونصفَ الليل" بنصبِ هذه كلِّها على الظرفِ لمَّا أضيفَتْ إليه، وإن كانت ليسَتْ موضوعةً للظرفية.
وقرأ العامَّةُ "زُلَفاً" بضم الزاي وفتح اللام، وهي جمعُ "زُلْفة" بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرْفة، وظُلَم في جمعِ ظُلْمة. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أاحدها: أنه جمع زُلْفة أيضاً، والضمُّ للإِتباع، كما قالوا بُسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمة الباء. والثاني: أنه اسمٌ مفرد على هذه الزِّنة كعُنُق ونحوه: الثالث: انه جمع زَلِيف، قال أبو البقاء: "وقد نُطِق به"، يعني أنهم قالوا: زَليف، وفَعيل يُجمع على فُعُل نحو: رَغِيف ورُغُف، وقَضِيب وقُضُب.
(8/373)
---(1/3413)
وقرأ مجاد وابن محيصن بإسكان اللام. وفيها وجهان، أحدهما: أنه يُحتمل أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مخففةً مِنْ ضم العين فيكون فيها ما تقدَّم. والثاني: أنه سكونُ أصلٍ من باب اسمِ الجنس نحو: بُسْرة وبُسْرة مِنْ غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضاً في روايةٍ "وزُلْفَى" بزنة "حُبْلَى"، جَعَلُوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى، لأنَّ المعنى على المنزلة الزلفى، أو الساعة الزُّلْفى، أي: القيبة. وقد قيل: إنه يجوز أن يكونَ أَبْدلا التنوين ألفاً ثم أَجْرَيا الوصل مُجءرى الوقف، فإنهام يقرآن بسكون اللام وهو محتمَلٌ. وقال الزمخشري: "والزُّلْفى بمعنى الزُّلْفَة، كما أن القُرْبى بمعنى القُرْبة"، يعني أنه مما تَعَاقَبَ فيه تاءُ التأنيث وألفه.
وفي انتصاب "زُلَفاً" وجهان، أظهرهما: أنه نسقٌ على "طرفي" فينتصب الظرف، إذ المرادُ بها ساعات الليل القريبة. والثاني: أن ينتصبَ انتصابَ المفعول به نسقاً على الصلاة. قال الزمخشري: - بعد أن ذكر القراءاتِ المتقدمة - "وهو ما يقرب مِنْ آخر النهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحَقّثها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم زُلَفاً من الليل، على معنى: صلوات تتقرَّب بها إلى اللَّه عز وجل في بعض الليل".
والزُّلْفَةُ: أولُ ساعات الليل، قاله ثعلب. وقال الأخفش وابن قتيبة: "الزُّلَف: ساعاتُ الليل وآناؤه، وكل ساعةٍ منه زُلْفَة" فلم يُخَصِّصاه بأول الليل. وقال العجَّاج:
2729 - ناجٍ طواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا * طَيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفا
سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفا
(8/374)
---(1/3414)
وأصلُ الكلمة مِنْ "الزُّلْفَى" وهو القُرْب، يقال: أَزْلَفه فازْدَلَفَ، أي: قَرَّبه فاقتربَ. قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} وفي الحديث: "ازْدَلِفوا إلى اللَّه بركعتين". وقال الراغب: "والزُّلْفَةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوَة، وقد اسْتُعْمِلت الزُّلْفَة في معنى العذاب كاستعمال البِشارة ونحوها، والمزالِفُ، المَراقي، وسُمِّيَتْ ليلةَ المزدلفة لقُرْبهم مشنْ مِنى بعد الإِفاضة".
وقوله: {مِّنَ الْلَّيْلِ} صفةٌ لـ"زُلَفاً".
* { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ}: "لولا" تحضيضيةٌ دخلا معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى: {ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}. وما يُرْوَى عن الخليل أنه قال: "كلُّ "لولا" في القرآن فمعناها "هَلاَّ" إلا التي في الصافَّات: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} الآية، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} و "مِن القُرون": يجوزُ أن يتعلق بـ"كان" لأنها هنا تامة، إذ المعنى: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "أُولو بَقِيَّة" لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له. و "مِنْ قبلكم" حال من "القرون" و "يَنْهَوْن" حالٌ من "أولو بقية" لتخصُّه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتاً لـ"أُولوا بقية" وهو أَوْلى.
ويَضْعُفُ أن تكونَ "كان" هذه ناقصةً لبُعد المعنى مِنْ ذلك، وعلى تقديره يتعيَّن "من القرون" بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ "كان" الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون "يَنْهَوْن" في محل نصب خبراً لـ"كان".(1/3415)
(8/375)
---
وقرأ العامَّة: "بَقِيَّة" بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره "بقيَّة" في قولهم: "فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة:
2730 - إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم * .........................
وفي المثل "في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا".
والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البَقْوى. قال الزمخشري: "ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البَقْوى، كالتقيَّة بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه".
وقرأ فرقةٌ / "بَقِيَة" بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة "بُقْية" بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء "بَقْيَة" على المَرَّة من المصدر. و "في الأرض" متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الفساد".
(8/376)
---(1/3416)
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنى. قال الزمشخري: "معناه: ولكن قليلاً ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي". ثم قال. "فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن". قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ.
والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أَوْلى. قال الزمخشري: "فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل" قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي "إلا قليلٌ" بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}. وقال الفراء: "المعنى: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْد" سَمَّى التحضيض استفهاماً. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيّثنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ.
(8/377)
---(1/3417)
و "مِن" في "مِمَّنْ أَنْجَيْنا" للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ للتبعيض، بل للبيان فقال: "حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله عز وجل: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُواءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}. قلت: فعلى الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ"قليلاًط، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: {وَاتَّبَعَ} العامَّةُ على "أتَّبع" بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: ان الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري: "فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قلت: إنْ كان معناه: "واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنى: إلا قليلاً مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على "نُهوا" وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الأإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم".
قلت: فجوَّز في قولِه: "ما أُتْرفوا" وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و "ما" واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في "واتَّبع" كما عرفت.
والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.
(8/378)
---(1/3418)
وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر "وأُتبع" بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنياً للمفعول، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه. و "ما" يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو الظاهرُ لعَوْد الضمير في "فيه" عليه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: جزاءَ إترافهم.
قوله: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفاً على "أُتْرِفُوا" إذا جعلنا "ما" مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على "اتَّبع"، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ / تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: "ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ".
* { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }
قوله تعالى: {لِيُهْلِكَ}: فيه الوجهان المشهوران، وهما زيادةُ اللامِ في خبر كان دلالةً على التأكيد - كما هو رأي الكوفيين - أو كونُه متعلقةً بخبر كان المحذوف، وهو مذهبُ البصريين. و "بظلمٍ" متعلق بـ"يُهْلك" والباءُ سببيةٌ. وجوَّز الزمخشري أن تكونَ حالاً من فاعل "ليُهْلِكَ". وقوله: "وأهلُهما مُصْلحون" جملة حالية.
* { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ}: ظاهرُه أنه متصلُ وهو استثناءٌ مِنْ فاعل "يَزالون" أو من الضمير في "مختلفين". وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن مَنْ رَحِمَ لم يختلفوا، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. و "لذلك" في المشار إليه أقوال كثيرة أظهرها: أنه الاختلافُ المدلولُ عليه بمختلفين كقوله:
(8/379)
---(1/3419)
2731 - إذا نُهي السَّفيهُ جَرَى إليه * وخالفَ، والسَّفيهُ إلى خلافِ
رَجَعَ الضميرُ من "إليه" على السَّفَه المدلولِ عليه بلفظ "السَّفيه"، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خَلَقَهم. واللامُ في الحقيقة للصيرورة، أي: خَلَقَهم ليصير أكثرهم إلى الاختلاف. وقيل: المراد به الرحمة المدلول عليها بقوله: "رحم" وإنما ذُكِّر ذهاباً بها إلى الخير. وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ }. وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: "وتَمَّت كلَّمة ربك، ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قول مرجوح؛ لأن الأًلَ عدمُ ذلك. وقوله: "أجمعين" تأكيد، والأكثر أن تُسْبَقَ بـ"كل" وقد جاء هنا دونَها.
والجِنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاءُ فيه للمبالغة. وقيل: الجنَّة جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد.
* { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ}: في نصبه أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ به والمضاف إليه محذوفٌ، عُوِّض منه التنوين، تقديره: وكل نبأ نَقُصُّ عليك. و "مِنْ أنباء" بيانٌ له أو صفة إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة. وقوله: "ما نُثَبِّتُ" يجوز أن يكونَ بدلاً من "كلاً"، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو ما نثبِّت، أو منصوبٌ بإضمار أعني.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: كلَّ اقتصاصٍ نَقُصُّ، و "مِنْ أنباء" صفةٌ أو بيان، و "ما نُثَبِّت" هو مفعول "نَقُصُّ".
(8/380)
---(1/3420)
الثالث: كما تقدَّم، إلا أنه بجَعْل "ما" صلةً، والتقدير: "وكلاً نَقُصُّ من أنباء الرسل نُثَبِّت به فؤادك، كذا أعربه الشيخ وقال: كهي في قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} الرابع: أن يكون "كلاً" نصباً على الحال من "ما نُثَبِّت" وهي في معنى جميعاً. وقيل: بل هي حال من الضمير في "به". وقيل: بل هي حال من "أنباء"، وهذان الوجهان إنما يجوزان عند ا لأخفش، فإنه يُجيز تقديم حالِ المجرورةِ بالحرف عليه، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} في قراءةِ مَنْ نصب "مَطْويات" وقول الآخر:
2732 - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقبي أَدْراعهم * فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وإعراب باقي السورة واضح ممَّا تقدم.
* { وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
وقرأ نافع وحفص "يُرجع" مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل. ونافع وابن عامر وحفص على "تَعْملون" بالخطاب لأنَّ قبله "اعملوا" والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: {لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.(1/3421)
سورة يوسف
* { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ }
قد تَقَدَّم الكلامُ على نحوِ قولِه "تلك آياتُ" في أول يونس.
* { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {قُرْآناً}: يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من ضمير "أَنْزَلْناه"، أو حالاً مُوَطِّئةً منه، والضميرُ في "أَنْزَلْناه" على هذين القولين يعودُ على "الكتاب". وقيل: "قُرْآناً" مفعولاً به والضميرُ في "أَنْزلْناه" ضميرُ المصدر.
و "عربيَّاً" نعتٌ للقرآن. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في "قُرْآناً" إذا تحمَّل ضميراً، يعني إذا جَعَلْناه حالاً مُؤَوَّلاً بمشتق، أي: أَنْزَلْناه مُجْتَمِعاً في حال كونِ عربيَّاً. والعربيُّ منسوب للعرب لأنه نَزلَ بغلتِهم. وواحدُ العَرَبِ عربيٌ، كما أن واحدَ الرومِ روميٌّ. وعَرَبةُ - بفتح الراء - ناحيةُ دارِ إسماعيلَ النبيِّ عيله السلام. قال الشاعر:
2377 - وعَرْبَةُ أرضٌ ما يُحِلُّ حرامَها * مِنَ الناسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكَّن راءَها ضرورةً، فيجوز أن يكونَ العربيُّ منسوباً إلى هذه البقعة.
* { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }
قوله تعالى: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: في انتصاب "أحسنَ" وجهان، [أحدهما]: أن يكونَ / منصوباً على المفعول به، ولكنْ إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ كالخَلْق بمعنى المَخْلوق، أو جعَلْتَه فَعَلاً بمعنى مفعول كالقَبَضِ والنَّقَص بمعنى المَنْقُوص والمقبوض، أي: نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الأشياءِ المقتصَّة. والثاني: أن يكونَ منصوباً على المصدرِ المُبَيِّنِ، إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً غيرَ مرادٍ به المفعولُ، ويكون المقصوصُ على هذا محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك أحسنَ الاقتصاص. و "أَحْسَنَ" يجوز أن تكونَ أفْعَل تفضيلٍ على بابها، وأن تكونَ لمجرَّدِ الوصفِ بالحُسْن، وتكون من بابِ إضافة الصفةِ لموصوفِها، أي: القصص الحسن.
قوله: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ} الباءُ سببيةٌ، وهي متعلقةٌ بـ"نَقُصُّ" و "ما" مصدريةٌ، أي: بسبب إيحائنا.
(8/382)
---(1/3422)
قوله: {هَاذَا الْقُرْآنَ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: - وهو الظاهرُ - أن ينتصبَ على المفعولِ به بـ"أَوْحَيْنا". والثاني: أن تكون المسألةُ من بابِ التنازع، أعني بين "نَقُصُّ" وبين "أَوْحَيْنا" فإنَّ كلاًّ منهما يطلبُ "هذا القرآن"، وتكونُ المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جَعْلِينا "أَحْسَنَ" منصوباً على المصدرِ، ولم نُقَدِّرْ لـ"نَقُصُّ" مفعولاً محذوفاً.
قوله: {وَإِن كُنتَ} إلى آخره تقدَّمه نظيرُه.
* { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ}: في العاملِ فيه أوجهٌ، أظهرها: أنه منصوبٌ بـ{لَ يابُنَيَّ}، أي: قال يعقوب: يا بُنَيَّ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت وكيت، وهذا أسهلُ الوجوهِ، إذ فيه إبقاءُ "إذ" على كونِه ظرفاً ماضياً. وقيل: الناسبُ له "الغافلين" قاله مكي. وقيل: هو منصوبٌ بـ"نَقُصُّ"، أي: نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت، وهذا فيه إخراجُ "إذ" عن المضيِّ وعن الظرفية، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولشه، لزم إخراجها عن المُضِيّ. وقيل: هو منصوبٌ بمضمر، أي: اذكر. وقيل: هو منصوب على أنه بدلٌ مِنْ "أَحْسَنَ القصص" بدلُ استمال. قال الزمخشري: "لأنَّ الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص".
قوله: {ياأَبتِ} قرأ ابن عامر بفتح التاء، والباقون بكسرِها. وهذه التاءُ عوضٌ من ياء المتكلم، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً، وهذا يختصُّ بلفظتين. يا أبت، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت: "يا صاحِبَتِ" لم يَجُز البتة، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو "با بن أُمّ". ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً كقوله:
2734 - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا
وقول الآخر:
(8/383)
---(1/3423)
2735 - أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا * فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ
وقول الآخر:
2736 - أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما * لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا *
وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال: "فإن قلت: فما هذه الكسرةُ؟ قلت: هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك "يا أبي" فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً. فإن قُلْتَ: فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ، وتبقى التاءُ ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ، والأسماءُ حقّثها التحريكُ لأصالتِها في الإِعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً لأنها حرف لين، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير، فلزم تحريكُها. فإنْ قلت: يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ: يا غلامِ، فكما لا يجوزُ "يا أبتي" لا يجوز "يا أبتِ". قلت: الياء والكسرةُ قبلها شيئان، والتاءُ عوضٌ من أحد الشيئين وهو الياءُ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها، فلا يُجْمَعُ بين العِوَض والمُعَوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير. ألا ترى إلى قولهم: "يا أبتا" مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها وبين التاء، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك. فإن قلتَ: قد دَلَّتِ الكسرةُ في "يا غلامِ" على الإِضافة لأنها قرينةُ الياءِ ولصيقتُها، فإن دَلَّت على مِثْلِ ذلك في "يا أبت" فالتاء المعوَّضَةُ لَغْوٌ، وجودُها كعَدَمشها. قلت: بل حالُها مع التاءِ كالِحها مع الياءِ إذا قلت: يا أبي".
وكذا عبارة الشيخ فإنه قال: "وهذه التاءُ عوضٌ من ياء الإِضافة فلا تجتمعان، وتجامعُ الألفَ التي هي بدلٌ من الياء قال:
(8/384)
---(1/3424)
2737 - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَسَاكا
/ وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الألفَ كالياءِ لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يُجْمَعَ بينهما.
وهذ التاءُ أصلُها للتأنيث قال الزمخشري: "فإن قلت: ما هذه التاءُ؟ قلت: تاءُ تأنيثٍ وقعت عوضاً من ياء الإِضافة، والدليلُ على أنَّها تاءُ تأنيثٍ قَلْبُها هاءً في الوقف". قلت: وما ذَكَرَه مِنْ كونها تُقْلَبُ هاءً في الوقف قرأ به ابنُ كثير وابنُ عامر، والباقون وقفوا عليها بالتاء، كأنهم أَجْرَوْها مُجْرى تاء الإِلحاق في بنت وأخت، ومِمَّنْ نَصَّ على كونِها للتأنيث سيبويه فإنه قا: "سألتُ الخليل عن التاء في "يا أبت" فقال: "هي بمنزلة التاء في تاء خالة وعمَّة" يعني أنها للتأنيث، ويدلُّ على كونِها للتأنيث أيضاً كَتْبُهم إياها هاءً، وقياس مَنْ وَقَفَ بالتاءِ أن يكتَبها تاءً كبنت وأخت.
ثم قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذَكَر وشاةٌ ذَكَر ورجلٌ رَبءعَة وغلام يَفَعَة". قلت: يعني أنها جِيْءَ بها لمجردِ تأنيث اللفظ كما في الألفاظِ المستشهد بها. ثم قال الزمخشري: "فإن قلتَ: فلِمَ ساغ تعويضُ تاءِ التأنيث من ياءِ الإِضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيثَ والإِضافةَ يتناسبان في أنَّ كلِّ واحدٍ منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره". قلت: وهذا قياسٌ بعيد لا يُعمل به عند الحُذَّاق، فإنه يُسَمَّى الشَّبَه الطردي، يني أنه شَبَهٌ في الصورة.
وقال الزمخشري: "إنه قُرىء "يا أَبَت" بالحركات الثلاثة". فأمَّا الفتحُ والكسر فقد عَزَيْتُهما لقارئهما، وأمَّا الضمُّ فغريبٌ جداً، وهو يُشْبِهُ مَنْ بَيْني المنادي المضافَ لياء المتكلم على الضم كقراءةِ مَنْ قرأ - وستأتي إن شاء اللَّه - {قَالَ رَبِّ احْكُم} بضم الباء، ويأتي توجيهها هناك، ولِمَ قُلْنا إنه مضافٌ للياء ولم نجعلْه مقدراً من غير إضافة؟
(8/385)
---(1/3425)
وقد تقدَّم توجيهُ كَسْرِ هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونِها هي الكسرةَ التي قبل الياء زُحْلِقَتْ إلى التاء. وهذا أحد المَذْهَبَيْنِ، والمذهب الآخر: أنها كسرةٌ أجنبية جيء بها لتدلَّ على الياء المعوَّض منها، وليس بخلافٍ طائل.
وأمَّا الفتحُ ففيه أربعةُ أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين، أحدهما: أنه اجْتَزَأَ بالفتحة عن الألف، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله:
2738 - ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ منِّي * بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتُرىء بها عنها في يا بن أمَّن، ويا بنَ عمَّ كما تقدم. والثاني: أنَّه رُخِّم بحذف التاء، ثم أقحمت التاء مفتوحة، وهذا كما قال النابغة:
2739 - كِليْني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ * وليلٍ أقاسِيه بطيءِ الكواكبِ
بفتح تاء "أُمَيْمة" على ما ذَكَرْت لك.
الثالث: ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أنَّ الألفَ في "با أبتا" للندبة، ثم حَذَفها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة. وهذا قد يَنْفَعُ في الجواب عن الجمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهبَ بأنَّ الموضع ليس موضعَ ندبة.
الرابع: أنَّ الأصلَ: يا أبةً بالتنوين، فحذف التنوين لأنَّ النداءَ بابُ حَذْفٍ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني. وقد رُدَّ هذا عليه بأن التنوينَ لا يُحْذَفُ من المنادى المنصوب نحو: "يا ضارباً رجلاً".
وقرأ أبو جعفر "يا أبي" بالياء، ولم يُعَوِّض منها التاء.
وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان: "أحدَ عْشر" بسكون العين، كأنهم قصدوا التنبيه بهذا التخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
(8/386)
---(1/3426)
وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ الواوُ عاطفةً، وحينئذٍ يحتمل أن يكون ذلك من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً؛ لأن الشمسُ والقمر دخلا في قوله {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فهو كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بعد قوله: "وملائكتِه"، ويُحْتمل أن لا يكون كذلك، وتكون الواوُ لعطفِ المُغَاير، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادةً على الأحدَ عشرَ بخلاف الأول، فإنه يكون رأى الأحدَ عشرَ، ومِنْ جملتها الشمس والقمر، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير، وممَّنْ نَقَلهما الزمخشري.
والوجه الثاني: أن تكونَ الواوُ بمعنى مع، إلا أنه مرجوحٌ، لأنه متى أمكن العطفُ من غير ضعفٍ ولا إخلالِ معنىً رَجَح على المعيَّة، وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمسَ والقمرَ زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
وقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين، أحدهما: أنها جملةُ كُرِّرَتْ للتوكيد لمَّا طال الفصلُ بالمفاعيل كُرِّرَتْ كما كُررت "أنكم" في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ / إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} كذا قاله الشيخ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه تعالى. والثاني: أنه ليس بتأكيدٍ، وإليه نحا الزمخشري: فإنه قال: "فإن قُلْتَ: ما معنى تكرارِ "رأيتُهم"؟ قلت: ليس بتكرارٍ، إنما هو كلامٌ مستأنفٌ على تقديرِ سؤالٍ وقع جواباً له، كأنَّ يعقوبَ عليه السلام قال له عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: رأيتهم لي ساجدين". قلت: وهذا أظهرُ لأنه متى دار الكلامُ بين الحَمْل على التأكيد أو التأسيس فَحَمْلُه على الثاني أَوْلَى.
(8/387)
---(1/3427)
و "ساجدين" صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاء. فقيل: لأنه لمَّا عامَلَهم معاملةَ العقلاء في إسنادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم، والشيءُ قد يُعامَلُ معاملةَ شيءٍ آخرَ إذا شاركه في صفةٍ ما.
والرؤيةُ هنا منامِيَّةٌ، وقد تقدَّم أنها تنصب مفعولين كالعِلْمية، وعلى هذا يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ولكنَّ حِذْفَه اقتصاراً ممتنعٌ، فلم يَبْقَ إلا اختصاراً، وهو قليل أو ممتنع عند بعضهم.
* { قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {لاَ تَقْصُصْ}: قرأ العامَّة بفكِّ الصادّيْن وهي لغةُ الحجاز. وقرأ زيد بن علي بصادٍ واحدة مشدَّدة، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند قوله {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} والرؤيا مصدرٌ كالبُقْيا. وقال الزمشخري: "الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصةٌ بما كان في النوم دون اليقظة، فرَّق بينهما بحَرْفَي التأنيث كما قيل القُرْبَةُ والقُرْبَى".
(8/388)
---(1/3428)
وقرأ العامَّة "الرُّؤْيا" بهمزٍ مِنْ غير إمالة، وقرأها الكسائي في رواية الدَّوري عنه بالإِمالة. وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما الكسائي من غير خلافٍ في المشهور، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واواً في طريق السوسي. وقال الزمخشري: "وسمع الكسائي "رُيَّاك" و "رِيَّاك" بالإِدغم وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفةٌ لأنَّ الواو في تقدير الهمزة فلم يَقْوَ إدغامها كما لم يَقْوَ إدغام "اتَّزر" من الإِزار واتَّجَرَ من الأَجْر" يعني أنَّ العارض لا يُعْتَدُّ به، وهذا هو الغالب. وقد اعتدَّ القُرّاءُ بالعارض في مواضع ستقف بها على أشياءَ إن شاء اللَّهُ نحو "رِيَّ" في قوله {أَثَاثاً وَرِءْياً} عند حمزة، و {عَاداً الأُولَى} وأمَّا كسرُ "رِيَّاك" فلئلاَّ يؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمة، وأمَّا الضمُّ فهو الأصل، والياءُ صد اسْتُهْلِكَتْ بالإِدغام.
قوله: {فَيَكِيدُواْ} منصوبٌ في جواب النهي وهو في تقدير شرط وجزاء، ولذلك قدَّره الزمخشري بقوله: "إنْ قصصتها عليهم كادوك". و"كَيْداً" فيه وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنه مصدرٌ مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله "لك" خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون "يكيد" ضُمِّن" معنى ما يتعدَّى باللام؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد. قال الزمخشري مقرراً لهذا الوجه: "فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل: فيكيدوك كما قيل فيكيدوني. قلت: ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدَّى باللام ليفيدَ معنى فعلِ الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمَّن فيكون آكدَ وأَبْلَغَ في التخويف وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر".
(8/389)
---(1/3429)
الوجه الثاني من أوجهِ اللام: أن تكونَ مُعَدِّيةً، ويكون هذا الفعلُ ممَّا يتعدَّى بحرفِ الجر تارةً، وبنفسهِ أخرى كنصح وشكر، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، لأنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاس إنما يُقْتصر فيه على ما ذكره النحاةُ ولم يَذْكروا منه "كاد".
الثالث: أن اللامَ زائدةٌ في المفعول به كزيادتها في قوله {رَدِفَ لَكُم} قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأنَّ اللامَ لا تُزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمولِ أو كونِ العاملِ فرعاً.
الرابع: أن تكونَ اللامُ للعلة، أي: فيكيدوا من أجلك، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً أو اختصاراً. /
الخامس: أن تتعلَّق بمحذوفٍ، لأنها حالٌ مِنْ : "كَيْداً" إذ هي في الأصلِ يجوزُ أن تكونَ صفةً لو تأخَّرَتْ".
الوجه الثاني مِنْ وَجْهَيْ "كَيْداً" أن يكونَ مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدونَك به، وهو مصدرٌ في موضع الاسمِ ومنه {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ}، أي: ما تكيدون به، ذكره أبو البقاء وليس بالبيِّن، وعلى هذا ففي اللامِ في "لك" وجهان فقط: كونُها صفةً في الأصل ثم صارَتْ حالاً، أو هي للعلة، وأمَّا الثلاثةُ الباقيةُ فلا تتأتَّى وامتناعُها واضح.
* { وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ} الكاف في موضع نصبٍ أو رفعٍ، فالنصبُ: إمَّا على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأيُ سيبويه، وإمَّا علىلنعتِ لمصدرٍ محذوف والمعنى: مثلَ ذلك الاجتباء العظيم يَجْتبيك. والرفعُ على خبر ابتداء مضمر أي:الأمرُ كذلك. وقد تقدَّم له نظائر.
(8/390)
---(1/3430)
قوله: {وَيُعَلِّمُكَ} مستأنفٌ ليس داخلاً في حَيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يُعَلِّمك. والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحدٍ ملفوظٍ به وهو "حديث" ولكنه شَذَّ جمعُه على أحاديث، وله أخواتٌ في الشذوذ كأباطيل وأقاطيع وأعاريض في باطل وقطيع وعَرُوض. وزعم أبو زيد أن لها واحداً مقدراً وهو أُحْدُوثة ونحوه، وليس باسم جمعٍ؛ لأنَّ هذه الصيغةَ مختصة بالتكسير.
وإذا كانوا قد التزموا ذلك فيما لم يُصَرَّح له بمفردٍ مِنْ لفظه نحو: عباديد وشماطيط وأبابيل ففي "أحاديث" أَوْلى، ولهذا رُدَّ على الزمخشري قولُه: "وهي اسم جمعٍ للحديث وليس بجمعِ أُحْدوثة" بما ذكرته، ولكنَّ قولَه "ليس بجمعِ أُحْدوثة" صحيحٌ؛ لأن مذهبَ الجمهور خلافُه، على أنَّ كلامَه قد يريد به غيرَ ظاهرِه مِنْ قوله اسم جمع.
وقوله: {عَلَيْكَ} يجوز أَنْ يتعلَّق بـ"يُتِمَّ"، وأن يتعلَّقَ بـ"نعمته". وكرَّر "على" في قوله: "وعلى آل" ليمكنَ العطفُ على الضمير المجرور. هذا مذهبُ البصريين، وتقدَّم بيانه. وقوله: "مِنْ قبلُ" أي مِنْ قبلك.
قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} يجوز أن كونَ بدلاً من "أبويك" أو عطف بيان، أو على إضمارِ أَعْني.
* { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ }
وقرأ ابن كثير "آية" بالإِفراد، والمرادُ بها الجنسُ، والباقون بالجمع تصريحاً بالمرادِ لأنها كانت علاماتٍ كثيرة. وزعم بعضُهم أنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: للسائلين ولغيرهم، ولا حاجةَ إليه. و "للسائلين" متعلقٌ بمحذوف نعتاً لآيات.
* { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
(8/391)
---(1/3431)
قوله تعالى: أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا}: "أحبُّ" أفعل تفضيل، وهو مبنيٌّ مِنْ "حُبَّ" المبني للمفعول وهو شاذ. وإذا بَنَيْتَ أفعل التفضيل مِنْ مادة الحب والبغض تعدَّى إلى الفاعل المعنوي بـ"إلى"، وإلى المفعولِ المعنويّ باللام أو بـ"في"، فإذا قلت: "زيدٌ أحبُ إليَّ مِنْ بكر" يعني أنك تحب زيداً أكثر من بكر فالمتكلم هو الفاعلُ، وكذلك: "هو أبغض إليَّ منه" أنت المُبْغِض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ لي مِنْ عَمْروٍ، أو أَحَبُّ فيَّ منه، أي: إنَّ زيداً يحبُّني أكثر من عمرو. وقال المرؤ القيس:
2740 - لَعَمْري لَسَعْدٌ حيث حُلَّت ديارُه * أحبُّ إلينا منكَ فافرسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءَتِ الآيةُ الكريمة، فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبَّة. واللام في "ليوسف" لامُ الابتداء أفادَتْ توكيداً لمضمون الجملة، وقوله: "أحبُّ" خبر المثنى، وإنما لم يطابِقْ لِما عَرَفْتَ مِنْ حكم أفعلَ التفضيل.
والواو في "ونحن عصبةٌ" للحال، فالجملةُ بعدها في محل نصب على الحال. والعامَّةُ على رفع "عُصْبة" خبراً لـ"نحن". وقرأ أمير المؤمنين بنصبها على أن الخبر محذوف، والتقدير: نحن نُرى أو نجتمع فيكون "عصبة" حالاً، إلا أنه قليلٌ جداً، وذلك لأن الحال لا تَسُدُّ مَسَدَّ الخبر إلا بشروطٍ ذكرها النحاة نحو "ضَرْبي زيداً قائماً"، و "أكثر شُرْبي السَّوِيْقَ ملتوتاً". قال ابن الأنباري: "هذا كما تقول العرب: "إنما العامريُّ عِمَّتَه" أي: يتعمَّم عِمَّته".
(8/392)
---(1/3432)
قال الشيخ: "وليس مثلَه لأنَّ "عصبة" ليس بمصدرٍ ولا هيئةٍ، فالأجودُ أن يكونَ من باب "حُكْمُك مُسَمَّطاً". قلت: ليس مرادُ ابنِ الأنباري إلا التشبيهَ من حيث إنه حَذَف الخبر وسَدَّ شيءٌ آخرُ مَسَدَّه في غير المواضع المنقاسِ فيها ذلك، ولا نَظَر لكونِ المنصوب مصدراً أو غيرَه. وقال المبرد: "هو من باب "حُكْمُك مُسَمَّطاً" أي: / لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال الفرزدق: "يا لَهْذَمُ حُكمك مُسَمَّطاً" أراد: لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال: "واسْتُعْمل هذا فَكَثُرَ حتى حُذِف استخفافاً لعلم ما يريد القائل كقولك: "الهلالُ واللَّهِ" أي: هذا الهلال". والمُسَمَّط: المُرْسَلُ غير المردودِ. وقدَّره غيرُ المبرد: حُكْمُك ثَبَتَ مُسَمَّطاً. وفي هذا المثالِ نظرٌ؛ لأنَّ النحويين يجعلون مِنْ شَرْط سَدِّ الحالِ مَسَدَّ الخبرِ أن لا يَصْلُحَ جَعْلُ الحال خبراً لذلك المبتدأ نحو: "ضربي زيداً قائماً" بخلاف: "ضربي زيداً شديدٌ"، فإنها تُرْفع على الخبرية، و تَخْرج المسألة من ذلك، وهذه الحال أعني مُسَمَّطاً يَصْلُحُ جَعْلُها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حُكْمُكَ مُرْسَلٌ لا مَرْدُود، فيكون هذا المَثَلُ على ما قَرَّرْتُه مِنْ كلامهم شاذاً.
والعُصْبة: ما زاد على عشرة، عن ابن عباس، وعنه: ما بين عشرةٍ إلى أربعين. وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زاد على ذلك إلى تسعة فهم رَهْط، فإذا بلغوا العشرة فصاعداً فعُصْبة. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر. وقيل: ستة. وقيل: سبعة. والمادة تدلُّ على الإِحاطة من العِصابة لإِحاطتها بالرأس.
* { اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ }
قوله تعالى: {أَرْضاً}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً أي: في أرضٍ كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ}، وقوله:
(8/393)
---(1/3433)
2741 - ................. * . . . كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وإليه ذهب الحوفيُّ وابن عطية. والثاني: النصب على الظرفية. قال الزمخشري: "أرضاً منكورةً مجهولةً بعيدةً من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائِها من الناس، ولإِبهامِها من هذا الوجه نُصِبَتْ نَصْبَ الظروفِ المبهمة". وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه فقال: "وذلك خطأ؛ لأنَّ الظرفَ ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك بل هي أرضٌ مقيَّدة بأنها بعيدة أو قاصِيَةٌ أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُها ومعلومٌ أنَّ يوسفَ لم يَخْلُ مِن الكون في أرضٍ، فتبيَّن أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غيرَ التي هو فيها قريبٌ مِنْ أبيه".
واستحسن الشيخ هذا الردَ وقال: "وهذا الردُّ صحيح لو قلت: جلست داراً بعيدة وأو مكاناً بعيداً لم يصحَّ إلا بواسطة "في"، ولا يجوز حَذْفُها إلا في ضرورةِ شعرٍ، على الخلاف في "دَخَلْت" أهي لازمةٌ أم متعديةٌ؟".
قلت: وفي الكلامَيْن نظرٌ؛ إذ الظرفُ المبهم عبارة عَمَّا ليس له حدودٌ تَحْصُره ولا أقطارٌ تحويه، و "أرضاً" في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ، وذلك إنْ تَضَمَّن "اطرحوه" أَنْزِلوه، وأَنْزِلوه يتعدَّى لاثنين قال تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً}. وقتول: أَنْزَلْت زيداً الدار.
والطَّرْح: الرَّمْي، ويُعَبَّر به عن الاقتحام في المخاوف. قال عُرْوة ابن الورد:
2742 - ومَنْ يَكُ مثلي ذا عيالٍ ومُقْتِراً * من المال يَطْرَحْ نفسَه كلَّ مَطْرَحِ
و "يَخْلُ لكم" جوابُ الأمر، وفيه الإِدغام والإِظهار، وقد تقدَّم تحقيقُهما عند قوله: {يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ}
* { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }
(8/394)
---(1/3434)
قوله تعالى: {فِي غَيَابَةِ}: قرأ نافع "غَيابات بالجمع في الحرفين مِنْ هذه السورة، جُعِل ذلك المكانُ أجزاءً، وسُمِّي كلُّ جزء غَيَابَة، والباقون بالإِفراد وهو واضحٌ. وابن هرمز. كنافع إلا أنه شَدَّد الياءَ. والأظهرُ في هذه القراءة أن يكون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة فهو وصفٌ في الأًل. وألحقه الفارسيُّ بالاسم الجائي على فَعَّال نحو ما ذكر سيبويه من "الفَيَّاد". قال ابن جني: "ووجَدْت من ذلك "الفَخَّار": الخَزَف". وقال صاحب "اللوامح: "يجوز أن يكون على فَعَّالات كحَمَّامات، ويجوز أن يكونَ على فَيْعالات كشيطانات جمع شَيْطانة، وكلٌّ للمبالغة".
وقرأ الحسن: "غَيَبَة" بفتح الياء، وفيها احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ في الأصل مصدراً كالغَلَبة. والثاني: أن يكونَ جمع غائب نحو: صانع وصَنَعة. قال الشيخ: "وفي حرف أُبَيّ "غَيْبة" بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكِيَّة". قلت: والضبطُ أمرٌ حادثٌ فكيف يُعرف ذلك في المصحف؟ وقد تقدَّم نحوٌ من ذلك فيما تقدم.
والغَيَابة: قال الهرويٌّ: "شِبْهُ لَجَفٍ أو طاقٍ في البئر فُوَيْق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: "الغَيَابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لانَّ أسفله واسعٌ ورأسَه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه". وقال الزمخشري: "هي غَوْرُه وما غابَ منه عن عَيْن الناظر وأظلمُ مِنْ أسفلِه، قال المنخل: /
2743 - فإنْ أنا يَوْماً غَيَّبَتْني غَيابتي * فسِيْروا بسَيْري في العَشيرة والأهلِ
أراد: غَيابةَ حُفْرته التي يُدْفن فيها. والجُبُّ: البئر التي لم تُطْوَ، وتَسْمِيتُه بذلك: إمَّا لكونه محفوراً في جَبُوب الأرض أي: ما غَلُظ منها، وإمَّا لأنه قُطِعُ في الأرض، ومنه الجَبُّ في الذَّكَر.
وقال الأعشى:
2744 - لَئِنْ كنت في جُبٍّ ثمانين قامَةً * ورُمِّيْتَ أَسْبابَ السماء بسُلَّمِ
ويُجْمع على جِبَبَة وجِباب وأَجْباب.
(8/395)
---(1/3435)
قوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ [السَّيَّارَةِ]} قرأ العامَّة "يَلْتَقِطُه" بالياء من تحت وهو الأصل. وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقادة بالتاء مِنْ فوق لتأنيث المعنى، ولإِضافته إلى مؤنث، وقالوا: "قُطِعت بعض أصابعه"، وقال الشاعر:
2745 - إذا بعضُ السنينَ تَعَرَّقَتْنا * كفى الأيتامَ فَقْدَ أبي اليتيمِ
وقد تقدَّمَ الكلامُ بأوسعَ مِنْ هذا في الأنعام والأعراف. ومفعول "فاعلين" محذوفٌ أي: فاعلين ما يُحَصِّل غَرَضَكم.
والسَّيَّارة، جمع "سَيَّار"، وهو مثالُ مبالغة.
والالتقاط: تَنَاوُلُ الشيءِ المطروحِ، ومنه: "اللُّقَطة" واللَّقِيط. وقال الشاعر:
2746 - ومَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ التِقاطا
* { قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }
قوله تعالى: {لاَ تَأْمَنَّا}: حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة "تأمَنَّا" بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً. قال الداني: "وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس".
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى لاضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو: "قيل" و "غِيْض" وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في {الصّرَاطَ}: {وَمَنْ أَصْدَقُ} وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى.
(8/396)
---(1/3436)
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز "لا تَأْمُنَّا" بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلأْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها.
وقرأ أبو رزين وابن وثاب "لا تِيْمَنَّا" بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: "ومجيئُه بعد "مالك" والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم "ما أَحْسَنَنا" في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ بالنفي". قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله "لالتبس بالنفي" صحيح.
* { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}: فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير "نَرْتَع ونلعب" بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر "نرتَعْ ونلعبْ" بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: "يرتعْ ويلعبْ" بالياء من تحت وسكون العين والباء.
(8/397)
---(1/3437)
وقرأ جعفر بن محمد "نرتع" بالنون "ويلعب" بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة "يَرْتَع ويلعبُ" بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن "نُرْتَعْ" بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب "نرتع" بالنون و "يلعب" بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل.
وقرأ زيد بن علي "يُرْتَع ويُلْعَب" بالياء مِنْ تحت مبنيِّين للمفعول. وقرىء "نرتعي ونلعبُ" بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة "نَرْعي ونلعب" فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ.
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذاً [مِنْ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال:
2747 - ................. * وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ
ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في "يلعب" دون "نرتع" فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: "نُرْتِع" رباعياً جعل مفعوله محذوفاً، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر / المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله:
2748 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً * ....................
(8/398)
---(1/3438)
ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالاً مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في "نَرْتعي" مع جزم "نلعب" وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: "هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر" وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد:
2749 - ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي * .................
وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً.
و "نَرْتع" يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال:
2750 - تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا * رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: "القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة" وقال الشاعر:
2751 - أكفراً بعد رَدِّ الموت عني * وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا
قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة حالية، والعامل فيها أحدُ شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المسألةُ من الإِعمال لأنَّ كلاً من العاملين يصحُّ تَسَلُّطُه على الحال؟ فالجواب: ذلك لا يجوز، لأن الإِعمالَ يَسْتَلْزم الإِضمار، والحال لا تُضْمر؛ لأنها لا تكون إلا نكرةً أو مؤولةً بها.
* { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيا أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }
(8/399)
---(1/3439)
قوله تعالى: {أَن تَذْهَبُواْ}: فاعل "يَحْزُنني"، أي: يَحْزنني ذهابُكم. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ المضارعَ المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنحاةُ جَعَلوها مِن القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة أنَّ "أَنْ تَذْهبوا" مستقبلٌ لاقترانه بحرفِ الاستقبال وهي "أنْ"، وما في حيزها فاعلٌ، فلو جَعَلْنا "لَيَحْزُنني" حالاً لزم سَبْقُ الفعل لفاعله وهو محالٌ. وأجيب عن ذلك بأنَّ الفاعلَ في الحقيقة مقدرٌ حُذِف هو وقام المضافُ إليه مَقامه، والتقدير: ليحزنني تَوَقُّعُ ذهابِكم.
وقرأ زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن: "لَيَحْزُنِّي" بالإِدغام. وقرأ زيد بن علي وحده "تُذْهبوا" بضم التاء مِنْ أذهب، وهو كقوله: {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} في قراءة مَنْ ضم التاء فتكون الباءُ زائدةً أو حالية.
و "الذئب" يُهْمَز ولا يُهْمز، وبعدم الهمزة قرأ السوسي والكسائي وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا: وهو مشتقٌّ مِنْ "تذاءَبَتِ الرِّيح": إذا هَبَّتْ مِنْ كل جهة لأنه يأتي كذلك، ويُجْمع على ذِئاب وذُؤبان وأَذْئُب قال:
2752 - وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ * تَعاوَى به ذُؤْبانه وثعالِبُهْ
وأرضٌ مَذْأَبة: كثيرة الذئاب، وذُؤابة الشعر لتحرُّكِها وتَقَلُّبها، مِنْ ذلك.
وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} جملة حالية العامل فيها "يأكله".
* { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ }
قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}: جملةٌ حالية أو معترضة، و {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم وحُذِف جوابُ الشرط. و "إذن" حرفُ جوابٍ، وقد تَقَدَّم القولُ في ذلك مُشْبعاً، ونقل أبو البقاء أنه قُرىء "عُصْبَةً" بالنصب، وقدَّر ما قدَّمْتُه في الآية الأولى.
(8/400)
---(1/3440)
* { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوااْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ}: يجوز في جوابها أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ، أي: عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة. وقدَّره الزمخشري: "فَعَلُوا به ما فَعَلوا مِن الأذى" وذكر حكايةً طويلة. وقدَّره غيرُه: عَظُمَتْ فِتْنَتُهم. وآخرون "جَعَلوه فيها". وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أنَّ الجوابُ مثبتٌ، وهو قولُه {قَالُواْ يَاأَبَانَآ}، أي: لمَّا كان كيت وكيت قالوا. وهذا فيه بَعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه.
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه "وأَوْحَيْنا" والواو فيه زائدةٌ، أي: فلمَّا ذهبوا به أَوْحَينا، وهو رأيُ الكوفيين، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ}، أي: تَلَّه. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ} وقولَ امرئ القيس:
2753 - فلمَّا أَجَرْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى * بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنْقِلِ
أي: فلمَّا أَجَزْنَا انتحى. وهو كثيرٌ عندهم بعدَ "لَمَّا".
وقوله: {أَن يَجْعَلُوهُ} مفعول "أَجْمعوا"، أي: عَزَموا على أن يَجْعلوه، أو عَزَموا أنْ يجعلوه، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى، فـ"أنْ" يُحْتمل أن تكونَ على حذف الحرف، وأن لا تكون، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ، وعلى الثاني يتعيَّن النصبُ.
والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء، وأن يكونَ بمعنى التصيير، فعلى الأولِ يتعلَّق "في غيابة" بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني بمحذوفٍ. والفعلُ مِنْ قوله: "وأَجْمعوا" يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على ما قبله، وأن يكون حالاً، و "قد" معه مضمرةٌ عند بعضهم. والضمير في "إليه" الظاهر عَوْدُه على يوسف. وقيل: يعود على يعقوب.
(8/401)
---(1/3441)
وقرأ العامَّةُ: "لَتُنَبِّئنَّهُمْ" بتاء الخطاب. وقرأ ابن عمر بياء الغيبة، أي: اللَّه تعالى. قال الشيخ: "وكذا في بعض مصاحف البصرة" وقد تقدَّم أن النَّقْطَ حادثٌ، فإن قال: مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سَلاَّم: "لنُنَبِّئَنَّهم" بالنون. و "هذا" صفةٌ لأَمْرهم. وقيل: بدلٌ. وقيل: بيان.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حالية، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها "أَوْحَيْنا" /، أي: أوحينا إليه من غير شعور بالوحي، وأن يكونَ العاملُ فيها "لَنُنَبِّئَنَّهم"، أي: تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ الأحوال.
* { وَجَآءُواا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ }
قوله تعالى: {عِشَآءً}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: - وهو الذي لا ينبغي أن يُقال غيرُه - أنه ظرف زمان، أي: جاؤوه في هذا الوقت و "يبكون" جملة حالية، أي: جاؤوه باكين. والثاني: أن يكون "عشاء" جمع عاشٍ كقائم وقيام. قال أبو البقاء: "ويُقرأ بضم العين، والأصل: عُشاة مثل غازٍ فَحُذِفَتْ الهاءُ وزِيْدت الألف عوضاً منها، ثم قُلبت الألفُ همزةً، وفيه كلامٌ قد ذُكر في آل عمران عند قوله: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى}، ويجوز أن يكون جمعَ فاعِل على فُعال، كما جُمع فعيل على فُعال لقُرْب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنُؤام ورُباب وهو شاذٌّ". قلت: وهذه القراءة قراءةُ الحسن البصري، وهي من العِشْوة والعُشُوَة وهي الظلام.
وقرأ الحسن أيضاً: "عُشَا" على وزن دُجَى نحو: غازٍ وغُزاة، ثم حُذف منه تاءُ التأنيث، وهذا كما حذفوا تاء التأنيث مِنْ "مِأْلُكة"، فقالوا: مَأْلُك، وعلى هذه الأوجهِ يكون منصوباً على الحال، وقرأ الحسن أيضاً "عُشِيَّاً" مصغَّراً".
* { قَالُواْ يَاأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }
(8/402)
---(1/3442)
وقوله تعالى: {نَسْتَبِقُ}: نَتَسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضَلُ، ونَرْتمي ونترامى. و "نَسْتبق" في محل نصب على الحال. و "تَرَكْنا" حال مِنْ "نَسْتبق" و "قد" معه مضمرةٌ عند بعضهم.
قوله: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} جملة حالية، أي: ما أنت مصدقاً لنا في كل حال حتى في حال صِدْقِنا لِما غَلَبَ على ظنِّك في تُهْمتنا ببغضِ يوسفَ وكراهتنا له.
* { وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
قوله تعالى: {عَلَى قَمِيصِهِ}: في محل نصبٍ على الحال من "الدم". قال أبو البقاء: "لأنَّ التقدير: جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه"، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً للنكرة. وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال: "فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه". وهذا الذي رَدَّ به الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا:
2754 - ................... * فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبال
وقولَ الآخر:
2755 - لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِياً * إليَّ حبيباً إنَّها لحبيبُ
وقول الآخر:
2756 - غافلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ * ءِ فيُدْعَى ولاتَ حينَ إباءُ
وقال الحوفي: "إنَّ "على قميصه" متعلقٌ بـ"جاؤوا"، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم لا يصحُّ أن يكونَ على القميص.
(8/403)
---(1/3443)
وقال الزمخشري: "فإن قلتَ "على قميصه" ما محلُّه؟ قلت: محلُّه النصبُ على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم، كما تقول: جاء على جِماله بأَحْمال". قال الشيخ: "ولا يساعد المعنى على نصب "على" على الظرف بمعنى فوق، لأنَّ العامل فيه إذ ذاك "جاؤوا"، وليس الفوقُ ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكونَ ظرفاً لهم". وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ "على" متعلقةٌ بـ"جاؤوا". ثم قال الشيخ: "وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو "جاء على جِماله بأَحْمال" فيمكن أن يكونَ ظرفاً للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه مِنْ جملٍ إلى جمل، وتكون "بأَحْمال" في موضع الحال، أي: مضوماً بأحمال".
وقرأ العامَّةُ: "كَذِب" بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي "كَذِباً" فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة.
وقرأ عائشة والحسن: "كَدِب" بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح: "معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويُسَمَّى ذلك البياضُ "الفُوْف" فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير". وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس.
قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره: لم يأكلْه الذئب، بل سَوَّلَتْ. وسوَّلت، أي: زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ.
(8/404)
---(1/3444)
قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل. وهل يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر / أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدراً في الأصل بدلاً مِن اللفظ بفعله، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ، وعبارة آخرين الجواز. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ. ولكنه في ضرورة شعر قولُه:
2757 - فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ * وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم أُعَوَّدِ
وقولُ الشاعر:
2758 - يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى * صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبراً كما تقدَّم.
وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر: "فصبراً جميلاً" [نصباً، ورُويت عن الكسائي، وكذلك هي في] مصحف أنس بن مالك، وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبرُ أنا صبراً، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ، لأن سيبويه لا ينقاس ذلك عنده إلا في الطلب، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير: إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه فكأنه قال: اصبري يا نفسُ صبراً. ورُوري البيتُ أيضاً بالرفع والنصب على ما تقدَّم، والأمر فيه ظاهر.
* { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ}: يُقال: أَدْلَى دَلْوَه، أي: أرسلها في البئر. و "دَلاها" إذا أَخْرجها مَلأى، قال:
2759 - لا تَقْلَوها وادْلُواها دَلْوا * إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوا
والدَّلْوُ مؤنثةٌ فتصغَّر على دُلِيَّة، وتُجمع على دِلاء وأَدْلٍ والأصل: دِلاو فقُلبت الواوُ همزةً نحو كساء، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍِ، ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو: عِصِيّ.
(8/405)
---(1/3445)
قوله: {يابُشْرَى} قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة، وأمال ألفَ فُعْلى الأخوان، وأمالها ورش بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات. وقرأ الباقون "يا بشراي" مضافة ليا ءالمتكلم، ونداء البشرى على حدِّ قولِه: {ياحَسْرَتَا عَلَى} {ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} كأنه يقول: يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زعم أنَّ "بشرى" اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ.
وقرأ ورش عن نافع "يا بُشْراْيْ" بسكون الياء، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل، وهذا كما تقدم في "مَحْياي"، فعليك بالالتفات إليه. وقال الزمخشري: "وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف".
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن: "يا بُشْرَيَّ" بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ}. وقال الزمخشري: "وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان اللف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومَوْلَيَّ".
قوله: {وَأَسَرُّوهُ} الضمير المرفوع الظاهر أنه يعود على "السَّيَّارة". وقيل: هو ضميرُ إخوتِه. و "بضاعةً" نصب على الحال، أو مفعول ثانٍ على أن يُضَمَّن "أَسَرُّوه" معنى صَيَّروه بالسرِّ. والبضاعة قطعةٌ من المال تُعَدُّ للتجارة مِنْ "بَضَعْت"، أي: قَطَعْتُ، ومنه المِبْضع لِما يُقْطَعُ به.
* { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }
قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ}: شَرَى بمعنى اشترى، ومنه قول الشاعر:
2760 - ولو أنَّ هذا الموتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً * شَرَيْتُ أبا زيدٍ بما مَلَكَتْ يَدي
وبمعنى باع ومنه قولُ الشاعر:
(8/406)
---(1/3446)
2761 - وشَرَيْتُ بُرْداً ليتني * مِنْ بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فإن جَعَلْنا الضمير في "شَرَوْه" عائداً على إخوة يوسف كان "شرى" بمعنى باع، وإن جَعَلْنا عائداً على السيارة كانت بمعنى اشتروا.
والبَخْسُ: النَّاقصُ، وهو يف الأصل مصدرٌ وُصِف به مبالغةً. وقيل: هو بمعنى مفعول. و "دراهم" بدل مِنْ "بثمن" و "فيه" متعلقٌ بما بعده، واغْتُفِر ذلك للاتساع في الظروف والجار، أبو بمحذوفٍ وتقدَّم مثلُه.
* { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {مِن مِّصْرَ}: يجوز فيه أوجه، أحدها: أن يتعلق بنفسِ الفعل قبله،أي: اشتراه مِنْ مصر كقولك: اشتريت الثوب مِنْ بغداد فهي لابتداء الغاية، وقولُ أبي البقاء: "أي: فيها، أو بها" لا حاجةَ إليه. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من "الذي". والثالث: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في "اشتراه" فيتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً. وفي هذين نظر إذ لا طائل في هذا المعنى. و "لأمرأتِه" متعلقٌ بـ"قال" فهي للتبليغ، وليست متعلقةً بـ"اشتراه".
قوله: {وَكَذالِكَ} الكاف كما تقدم في نظائره حال من ضميرٍ المصدر أو نعتٌ له، أي: ومثلَ ذلك الإِنجاء والعطف مكَّنَّا له، أي: كما أَنْجَيْناه وعَطَفْنا عليه العزيز مكَّنَّا له في أرض مصر.
(8/407)
---(1/3447)
قوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ} فيه أوجه، أحدُها، أن يتعلق بمحذوف قبله، أي: وفَعَلْنا ذلك لنعلِّمه. والثاني: أن يتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلِّمه فَعَلْنا كيت وكيت. الثالث: أن يتعلقَ بـ"مكَّنَّا" على زيادة الواو والهاء في "أمره" يجوز أن تعود على الجلالة، وأن تعودَ على يوسف، فالمعنى على الأول: لا نُمْنَعُ عمَّا نشاء، ولا نُنازَعُ عَمَّا نريد، وعلى الثاني: نُدَبِّره ولا نَكِلُه إلى غيره فقد كاردوه إخواتُه فلم يَضُرُّوه بشيء.
* { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {أَشُدَّهُ}: فيه ثلاثة أقوال، أحدها: - وهو قول سيبويه - أنه جمعٌ مفردُه "شِدَّة" نحو: نِعْمة وأنْعُم. الثاني: قول الكسائي: أن مفردَه "شَدّ" بزنةِ فَعْل نحو صَكّ وأصُكّ، ويؤيِّده قولُ الشاعر:
2762 - عَهْدي به شَدَّ النهارِ كأنما * خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
/ الثالث: أنه جمعٌ لا واحدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخالفه الناسُ في ذلك، إذ قد سمع "شدَّة" و "شَدَ" وهما صالحان له وهو مِن الشَّدِّ وهو الربطُ على الشيء والعقدُ عليه. قال الراغب: "وقولُه تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} فيه تنبيهُ أن الإِنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوَّى خُلُقُه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله، وما أحسنَ ما تنبَّه له الشاعرُ حيث يقول:
2763 - إذا المَرْءُ وافى الأربعينَ ولم يكنْ * له دونَ ما يَهْوى حَياءٌ ولا سِتْرُ
فَدَعْه ولا تَنْفِسْ عليه الذي مضى وإنْ جَرَّ أسبابَ الحياةِ له العُمْرُ
وقوله: {وَكَذَلِكَ} إمَّا نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر وتقدَّم نظائره.
* { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيا أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
(8/408)
---(1/3448)
قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ}: أي: طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ، والمُراوَدَةُ المصدر، والرِّيادة: طَلَبُ النِّكاح، ومَشَى رُوَيْداً، أي: ترفَّق في مِشْيتِه، والرَّوْدُ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرد إذا سعى في طلب حاجة، وقد تقدَّم ذلك في البقرة، وتعدَّى هنا بـ"عن" لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ، أي: خادَعَتْه عن نفسه، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو: داوَيْتُ المريض، ويحتمل أن تكون على بابها، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ. والتشديد في "غَلَّفَتْ" للتكثير لتعدُّد المجال.
قوله: {هَيْتَ لَكَ} اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ، فقيل: معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك، قاله السدي. وقيل: من السريانية، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ، أي: تعالَه فأعربه القرآن، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل: هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنها عربية، قال مجاهد: "هي كلمة حَثٍّ وإقبال، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها، وفي بعضها اسميتُها، وفي بعضها يجوز الأمران، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها:
فقرأ نافع وابن ذكوان "هِيْتَ" بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة. وقرأ "هَيْتُ" بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضومة ابنُ كثير. وقرأ "هِئْتَ" بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحة أو مضمومةٍ هشامٌ. وقرأ "هَيْتَ" بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون، فهذه خمس قراءات في السبع.
(8/409)
---(1/3449)
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس أيضاً "هُيِيْتُ" بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ. وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة. فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات. فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس "هُيِيْتُ" بزنة حُيِيْتُ. وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز: فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتها تخفيفاً نحو: أيْنَ وكَيْفَ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً بـ"حيث"، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان.
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس "هُيِيْتُ" بزنة "حُيِيْت" فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان، أحدهما: أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً. والثاني: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ، يُقال: هِئْتُ، أي: حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ. وجوَّز أبو البقاء أن تكون "هِئْتُ" هذه مِنْ: هاءَ يَهاء، كشاء يشاء.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمزة وفتح التاء، فقال الفارسي: "يشبه أن [يكون] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله: "وراوَدَتْه" و {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب:
(8/410)
---(1/3450)
يجب أن يكون اللفظُ "هِئْتِ لي" ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ" وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ / يَفِرُّ منها ويتباعد عنها، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟
وقد أجاب بعضهُهم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى: تهيَّأ لي أمرُك، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هيئتك.
و "لك" متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت: القول لك أو الخطاب لك، كهي في "سقياً لك ورعياً لك". قلت: واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ.
وقال أبو البقاء: "والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له. والثاني: أنه قال لك، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي". قلت: قد تقدَّم جوابُه. وقوله: "إن الهمزة بدلٌ من الياء" هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة بدلٌ من الياء" هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو: بير وذيب، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو: مِيل ودِيك، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء - كقراءة نافع وابن ذكوان - محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة، قالوا: فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام. واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح "حِرْز الأماني".
قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} منصوبٌ على المصدر بفعلٍ محذوف، أي: أعوذُ باللَّه مَعاذاً: يُقال: عاذ يَعُوذ عِياذاً وعِياذة ومَعاذاً وعَوْذاً، قال:(1/3451)
(8/411)
---
2764 - معاذَ الإِله أن تكونَ كظَبْيَةٍ * ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةِ رَبْرَبِ
قوله: {إِنَّهُ} يجوز أن تكونَ الهاءُ ضميرُ الشأن وما بعده جملةٌ خبريةٌ له، ومرادُه بربه سيِّدُه، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى. و "ربِّي" يحتمل أن يكونَ خبرَها، و "أَحْسَنَ" جملةٌ حاليةٌ لازمة، وأن تكون مبتدأً، و "أحسن" جملة خبرية له، والجملةُ خبرٌ لـ"إنَّ". وقد أنكر جماعةٌ الأولَ، قال مجاهد والسدي وابن إسحاق. يبعد جداً أن يُطْلِق نبيٌّ كريمٌ على مخلوقٍ أنه ربه، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة.
وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي "مَثْوَيَّ" بقَلْبِ الألف ياءُ وإدغامها كبُشْرَيّ وهُدَيّ.
و {لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} هذه الهاءُ ضمير الشأن ليس إلا.
* { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى: {لَوْلاا أَن رَّأَى}: جوابُ لولا: إمَّا متقدَّمٌ عليها وهو قوله: "وَهَمَّ بها" عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها، وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يَرَى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا غليه غيرَ مرة كقولهم: "أنت ظالمٌ إن فعلْتَ"، أي: إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إنَّ "أنت ظالمٌ" هو الجوابُ بل دالٌّ عليه، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله: "برهان ربه" والمعنى: لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ البتة كقوله: "لولا زيدٌ لأكرمتك" فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو: كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟.
(8/412)
---(1/3452)
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله "وهمَّ بها" داخلٌ القَسَم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ} أم خارجٌ عنه؟ قلت: الأمران جائزان، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدىء قولَه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن. فإن قُلْتَ: لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ "لولا" محذوفاً يدلُّ عليه "وهَمَّ بها" وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً. قلت. لأنَّ "لولا" لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط، وللشرط صدرُ الكلام وهو [مع] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز".
قلت: قوله "وأمَّا حَذْفُ بعضها" إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو: فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ. فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك. وهو كما قال.
ثم قال: "فإن قلت: لِمَ جَعَلْتَ "لولا" متعلقةً بـ"هَمَّ بها" وحدَه، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً، فكأنه قيل: / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما. قلت: نِعْم ما قلت، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}.
(8/413)
---(1/3453)
قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: "لولا" متعلقةً بـ"همَّ بها" فإنه قال: "ولو كان الكلامُ "ولهمَّ بها" لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام"؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ "وهمَّ بها" جواباً لـ"لولا"؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها. وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: "ولو كان الكلام "ولهمَّ بها" فغيرُ لازمٍ"؛ لأنه متى كان جوابُ "لو" و "لولا" مثبتاً جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر.
وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال: "قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ} وإنَّ جوابَ "لولا" في قوله: "وهمَّ بها"، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام" قال: " وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف" أمَّا قولُه: "يردُّه لسان العرب" فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما عيني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد.
قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ} في هذه الكافِ أوجهٌ أحدُها: أنَّها في محلِّ نصب، فقدَّره الزمخشري: "مثل ذلك التثبيت ثَبَّتناه". وقَدَّره الحوفي: "أَرَيْنا البراهين بذلك" وقَدَّره ابن عطية: "جَرَتْ أفعالُنا وأقدارُنا كذلك لِنَصْرِفَ"، وقدَّره أبو البقاء "نُراعيهِ كذلك".(1/3454)
(8/414)
---
الثاني: أن الكاف في محلِّ رفعٍ، فقدَّره الزمخشري وأبو البقاء: "الأمر مثل ذلك". وقدَّره ابن عطية "عِصْمَتُه كذلك". وقال الحوفي: "أَمْرُ البراهين كذلك"، ثم قال: "والنصبُ أجودُ لمطالبة حروف الجرِّ للأفعال أو معانيها".
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: هَمَّتْ به وهمَّ بها كذلك، ثم قال: "لولا أن رأى برهان ربه لنصرِفَ عنه ما همَّ بها" هذا نصٌّ ابن عطية. وليس بشيءٍ، إذ مع تسليمِ جواز التقديم والتأخير لا معنى لِما ذكره.
وقال الشيخ: "وأقولُ إن التقدير: مثلَ تلك الرؤية أو مثل ذلك الرأي نُرِي براهينَنا لِنَصْرِفَ عنه، فتجعل الإِشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصبُ للكاف ممَّا دَلْ عليه قولُه: {لَوْلاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ولِنَصْرِفَ متعلِّقٌ بذلك الفعلِ الناصب للكاف. ومصدرُ "رأى" رُؤْية ورَأْي. قال:
2765 - ورأْيُ عَيْنَيَّ الفتى أباكا * يُعطي الجزيلَ فعليك ذاكاً"
وقرأ الأعمش "ليَصْرِفَ" بياء الغَيبة، والفاعلُ هو اللَّه تعالى.
قوله: {الْمُخْلَصِينَ} قرأ هذه اللفظةَ حيث وَرَدَتْ إذا كانت معرَّفةً بـ أل مكسورةَ اللامِ ابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون بفتحها، فالكسرُ على اسم الفاعل، والمفعولُ محذوف تقديره: المخلِصين أنفسَهم أو دينَهم، والفتح على أنه اسم مفعول مِنْ أَخْلصهم اللَّه، أي: اجتباهم واختارهم، أو أَخْلصهم مِنْ كل سوء.
وقرأ الكوفيون في مريم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} بفتح اللام بالمعنى المتقدم، والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
* { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُواءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(8/415)
---(1/3455)
قوله تعالى: {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ}: منصوب: إمَّا على إسقاط الخافض اتِّساعاً، إذ أصلُ "استبق" أن تتعدَّى بـ إلى، وإمَّا على تضمين "استبقا" معنى "ابتدرا" فتنصب مفعولاً به.
قوله: {وَقَدَّتْ} يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على "استبقا"، أي: اسْتَبَقَا وقَدَّتْ، ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قَدَّتْ. والقَدُّ: الشَّقُّ مطلقاً. وقال بعضهم: "القَدُّ فيما كان يُشَقُّ طولاً، والقَطُّ فيما كان يُشَقُّ عَرْضاً".
* { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }
وقال ابن عطية: "وقرأت فرقة "قُطَّ". قال أبو الفضل ابن حرب: "رأيت في مصحفٍ "قُطَّ مِنْ دُبُر"، أي: شُقَّ". قال يعقوب: "القَطُّ في الجلدِ الصحيح والثوبِ الصحيح". وقال الشاعر:
2766 - تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ * وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ
/ قوله: {مَا جَزَآءُ} يجوز في "ما" هذه أن تكونَ نافيةً، وأن تكونَ استفهاميةً، و "مَنْ" يجوز أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وقوله: {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} خبرُ المبتدأ، ولمَّا كان "أَن يُسجن" في قوة المصدر عَطَف عليه المصدر وهو قوله: {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. و "أو" تُحْمل معانيها، وأظهرُها التنويع.
(8/416)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 9 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
وقرأ زيد بن علي: {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالنصب. وخرجَّه الكسائي على إضمار فعلٍ، أي: أو أَنْ يُعَذَّبَ عذاباً أليماً.
قوله: {هِيَ} ولم يَقُل "هذه" ولا "تلك" لفرط استحيائه وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور. و "مِنْ أهلها" صفة لـ"شاهد"، وهو المُسَوِّغ لمجيءِ الفاعل من لفظِ الفعل إذ لا يجوزُ، قام القائم، ولا قعد القاعد لعدم الفائدة.(1/3456)
قوله: {إِن كَانَ} هذه الجملةُ الشرطيةُ: إمَّا معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديرثه: فقال: إن كان، عند البصريين، وإمَّا معمولة لـ"شِهِد" لأنه بمعنى القول عند الكوفيين.
* { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ }
قوله تعالى: {مِن دُبُرٍ} و {مِن قُبُلٍ}: قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين والجرِّ والتنوين، بمعنى مِنْ خلف ومن قُدَّام أي: مِنْ خلف القميص وقدَّامه، أو يوسف. وقرأ الحسن وأبو عمرو في روايةٍ بتسكين العين تخفيفاً وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، ورُوي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر وأيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم، ووجه ضمِّهما أنهم جعلوهما كقبل وبعد في بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإِضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية أن يُجعل المضافُ غايةَ نفسِه بعدما كان المضافُ إليه غايتَه، والأصلُ إعرابُهما لأنهما اسمان متمكنان وليسا بظرفَيْن. قال أبو حاتم: "وهذا رديءٌ في العربية وإنما يقع هذا البناءُ في الظروف".
(9/1)
---
وقال الزمخشري: "والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومِنْ دُبُره، وأمَّا التنكير فمعناه مِنْ جهةٍ يُقال لها قُبُل ومِنْ جهة يُقال لها دُبُر، وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ "مِنْ قبلَ ومِنْ دبرَ" بالفتح كأنه جعلهما عَلَميْن للجهتين، فَمَنْعُما الصرفَ للعلمية والتأنيث". وقد تقدَّم الخلافُ في "كان" الواقعة في حَيَّز الشرط: هل تبقى على معناها مِن المُضيّ وإليه ذهب المبرد، أو تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعال، وأن المعنى على التبيين؟
وقوله: {فَكَذَبَتْ} و "فَصَدَقتْ" على إضمار "قد" لأنها تُقَرِّب الماضي من الحالة، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً، أما إذا كان جامداً فلا يحتاج إلى "قد" لا لفظاً ولا تقديراً.
* { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }(1/3457)
قوله تعالى: {يُوسُفُ} منادى محذوفٌ منه حرفُ النداء. قال الزمخشري: "لأنه منادَى قريبٌ مُفاطِن للحديث، وفيه تقريبٌ له وتلطيف بمحلِّه" انتهى. وكلُّ منادى يجوز حَذْفُ حرفِ النداء منه إلا الجلالةَ المعظمة واسمَ الجنس غالباً والمستغاثَ والمندوبَ واسمَ الإِشارة عند البصريين والمضمَر إذا نُودي.
والجمهور على ضمِّ فاء "يوسف" لكونه مفرداً معرفة. و قرأ الأعمش بفتحها. وقيل: لم تَثْبُتْ هذه القراءةُ عنه، وعلى تقدير ثبوتها فقال أبو البقاء فيها وجهين، أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر:
2767 - ................. * يا عَدِيَّاً لقد وَقَتْكَ الأوَاقي
(9/2)
---
يريد بأصل المنادى أنه مفعولٌ به فَحَقُّه النصبُ كالبيت لاذي أنشده، واتفق أن يوسُفَ لا يَنْصرف فَفَتْحَتُه فتحةُ إعراب. والثاني - وجعله الأَشْبَه - أن يكونَ وقف على الكلمة ثم وَصَل وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، فألقى حركة الهمزة على الفاء وحَذَفَها فصار اللفظ بها "يوسُفَ اعْرض" وهذا كما حُكِي "اللَّهَ اكبرَ اشْهدَ الاَّ" بالوصل والفتح. قلت: يعني بالفتح في الجلالة، وفي أكبر، وفي أشهد، وذلك أنه قدَّر الوقفَ على كل كلمة مِنْ هذه الكلم، وألقى حركة الهمزة من كلٍ من الكلمِ الثلاثِ على الساكن قبله، وأجرى الوصلَ مُجرى الوقف في ذلك، والذي حَكَوه الناس إنما هو في "أكبر" خاصة لأنها مَظِنَّةُ الوقف، وقد تقدَّم ذلك في أول آل عمران.
وقرىء "يوصُفُ أَعْرَضَ" بضم الفاء و "أعرض" فعلاً ماضياً، وتخريجُها أن يكون "يوسف" مبتدأً، و "أَعْرض" جملة مِنْ فعل وفاعل خبره. قال أبو البقاء: "وفيه ضعف لقوله "واستغفِري"، وكان الأشبهُ أن يكون بالفاء: فاستغفري".(1/3458)
* { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَراً إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }
(9/3)
---
قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} النسوةُ فيها أقوالُ، المشهور أنها جمعُ تكسير للقلة على فِعْله كالصِّبْيَة والغِلْمَة. ونصَّ بعضُهم على عَدَمِ اطِّرادها وليس له واحدٌ مِنْ لفظها. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة، قاله الزمخشري. والثالث: أنها اسمُ جمعٍ / قاله أبو بكر بن السراج وكذلك أخواتها كالصِّيْبَة والفِتْية. وعلى كل قولٍ فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة، ولذلك لم يلحق فعلَها تاءُ التأنيث، والمشهورُ كسرُ نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها بو البقاء قرباءةً ولم أَحْفَظْه، وإذا ضُمَّتْ نونُه كان اسمَ جمع بلا خلاف، ويُكسَّر في الكثرة على نِسْوان، والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحدَ له من لفظه، كذا قال الشيخ، ومقتضى ذلك أن لا يكونَ النساءُ جمعاً لنسوة لقوله: "لا واحد له من لفظه".
و "في المدينة" يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ صفةً لسنوة وهو الظاهر، و بـ"قال" وليس بظاهر.
قوله: {تُرَاوِدُ} خبر "امرأة العزيز"، وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن المراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَناً، دون الماضي، فلم يَقُلن "راوَدَتْ". ولام "الفتى" ياء لقولهم الفتيان وفُتَيّ، وعلى هذا فقولُهم "الفتوَّة" في المصدر شاذ.
(9/4)
---(1/3459)
قوله: {قَدْ شَغَفَهَا} هذه الجملةُ يجوز أن [تكون] خبراً ثانياً، وأن تكونَ مستأنفة، وأن تكونَ حالاً: إمَّا من فاعل "تُراوِدُ" وإمَّا مِنْ مفعوله. و "حبَّاً" تمييزٌ، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: قد شَغَفها حبُّه. والعامَّة على "شَغَفها" بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى حَرَقَ شِغاف قلبها، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف: حجاب القلب جُليْدَة رقيقة. وقيل: سويداء القلب. وقيل: داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل: جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به، ومعنى شَغَفَ قلبَه، أي: خرف حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه. والمَشْغوف: مَنْ وصل الحبُّ لقلبه، قال الأعشى:
2768 - تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً * مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا
وقال النابغة الذبياني:
2769 - وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ * مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ
وقرأ ثابت البناني بكسر الغين. قيل: وهي لغة تميم.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد:
2770 - ........................ * كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يُرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، "كما شَغَفَ"، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة.
(9/5)
---(1/3460)
وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: "مِنْ قولك: فلان مَشْغوفٌ بكذا، أي: مُغْرى به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد: "الشَّغَف - يعني بالمعجمة - في الحب، والشَّعَفُ في البغض". وقال الشعبي: "الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون".
قوله: {مُتَّكَئاً} العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمزة، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ، أي: هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ. والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل: طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد. قال القتبيُّ: "يُقال: اتَّكَأْنا عند فلانٍ، أي: أَكَلْنا".
قال الزمخشري: "مِنْ قولك: اتَّكَأْنا عند فلان: طَعِمنا، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ "دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك": اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها. قال جميل:
2771 - فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا * وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ"
انتهى. قلت: فقوله: "وشَرِبْنا" مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا.
وقرأ أبو جعفر والزهري "مُتَّكَا" مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ، فصار بزنة مُتَّقَى. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه: إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح.
وقرأ الحسن وابن هرمز "مُتَّكاءً" بالتشديد والمدِّ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله:
2772 - ........................ * ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ
وقوله:
2773 - يَنْباع مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ * .........................
وقوله:
(9/6)
---(1/3461)
2774 - أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي: بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة.
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة / والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب "مُتْكَاً" بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ، إلا انهما فتحا الميم. والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان، وأنشدوا:
2775 - فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها * تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
وقيل: بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه، ونشدوا:
2776 - نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً * وترى المُتْمكَ بيننا مُسْتعارا
قيل: وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه. وقيل: بالضم العسلُ الخالصة عند الخليل، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي. ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال: وهو الشرابُ الخالص. وقال المفضل: هو بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كِنْدة.
وقوله: {لَهُنَّ مُتَّكَئاً}: إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً، ويَدُلُّ له قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}، وإمَّا أن يريدَ الجنس.
والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، قاله الكسائي والفراء، وأنكر الأصمعي تأنيثه. والسَّكِينة فَعِيلة من السكون. وقال الراغب: "سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ المذبوح".
(9/7)
---(1/3462)
قوله: {أَكْبَرْنَهُ} الظاهر أن الهاء ضمير يوسف. ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه ودُهِشْن مِنْ حُسْنه. وقيل: هي هاء السكت. قال الزمخشري: "وقيل: أَكْبَرْنَ بمعنى "حِضْنَ" والهاء للسكت، يقال: أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ، وحقيقتُه: دَخَلَتْ في الكِبَر؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ، وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه:
2777 - خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ *فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ
انتهى. وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال: إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها. قال الشيخ: "وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء". قلت: وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً:
2778 - واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ * ........................
فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في "قلبها" وجعلوها هاءَ سكتٍ. ويمكن أن يكون "أَكْبَرْنَ" بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي: أَكْبَرْنَ الإِكبار، وأنشدوا على أن الأإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه:
2779 - يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا * يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا
قال الطبري: "البيت مصنوعٌ".
قوله: {حَاشَ للَّهِ} "حاشى" عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب "غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ ابنَ الأصبع" بالنصب، وأنشدوا:
(9/8)(1/3463)
---
2780 - حَشَى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ * بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب "رَهْط". و "حَشَى" لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري: "حاشَى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال:
2781 - حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ * ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشَى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود". قال الشيخ: "وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: "قام القومُ إلا زيداً" و "قام القوم حاشى زيدٍ"، ولَمَّا مَثَّل بقوله:
"أساء القومُ حاشى زيدٍ" وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين، وهما: /
2782 - حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا * ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به * ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت: قوله "إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء "ليس" و "لا يكون" و "غير" لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها لـ"إلا" في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات.
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله:
2783 - ......................... * ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ
وقول الآخر:
2784 - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به * ..........................
(9/9)
---(1/3464)
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و "للَّه" جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يُرمَى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهاً للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا "عن" اسماً ولم يُعْربوه، وقالوا "مِنْ عليه" فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا "عن" على بنائه، وقلبوا ألف "على" مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر.
أمَّا قوله: "مراعاة لأصله" فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه بـ"عن" و "على" فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ "عن" حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا نها باقيةٌ على بنائها. وأمَّا قَلْبُ ألفِ "على" مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كـ"لدى".
والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال "حاشاً للَّه" منصوباً، ولكنهم أَبْدلوا *التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلكفي مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها.
(9/10)
---(1/3465)
وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت "حاشا" في حال اسميتها لشبهها بـ"حاشا" في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى، كما بُنِيَتْ "عن" و "على" لما ذكرنا.
وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ. والسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني:
2785 - ولا أَرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ * ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ
قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كام قاوال: "سَوَّفْتُ بزيد" و "لَوْلَيْت له"، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل.
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: "لا تَخْلو "حاش" في قوله: "حاش للَّه" من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلاً على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حِشاً، أي في ناحية، وفاعل "حاش" "يوسف" والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه".
قوله: "حرفُ الجر لا يدخل على مثله" مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: "لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً" ممنوع، ويدلُّ له قولهم "مُنْ" في " منذ" إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها "منذ" بالنون تصغيرُها على "مُنَيْذ" وهذا مقرَّر في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده "حاشى" بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّهه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً.
(9/11)
---(1/3466)
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي. قال الفارسي: "وأمَّا حذفُ الألف فعلى "لم يَكُ" و "لا أَدْرِ" و "أصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة"، و [قوله]:
2786 - وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني /
في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أردي، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد: "رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: "حاش للَّه" بغير ألف، والأخرى "مثلُها". وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبداللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: "ومِنْ العرب من يقول: "حَشَى زيد" أراد حشى لزيد". فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم.
وقرأ الأعمش في طائفة "حَشَى للَّه" بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله:
2787 - حَشَى رَهْطِ النبيِّ ..... * ...........................
البيت. وقرأ أُبَي وعبداللَّه "حاشى اللَّهِ" بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [نحو: "سبحان اللَّه" وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي،] وفي جَعْلِهِ "حاشى" حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يُستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ "قام القومُ حاشى زيد".
(9/12)
---(1/3467)
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة "عدا"، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في "على" فقالوا: يكون حرف جر في "عليك"، واسماً في قوله: "مِنْ عليه"، وفعلاً في قوله:
2788 - عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا ..... * ..........................
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن "على" حالَ كونها فعلاً غير "على" حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت "حاشى" في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها.
وقرأ الحسن "حاشْ" بسكون الشيئن وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرَى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: "حاشى الإِله" قال: "محذوفاً مِنْ حاشى" يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب "اللوامح" فإنه قال: "بحذف الألف" ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما "الإِله" فإنه فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من "حاشى" للتخفيف"
(9/13)
---(1/3468)
قال الشيخ: "وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ "اللوامح" من أنَّ الألف في "حاشى" في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بيكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: "حاشى الإِله" ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في "يَخْشى الإِله"، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف".
قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب "اللوامح": "وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده" لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره.
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان، كهي في "سقياً لك ورعياً لزيد" عند الجمهور، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس "حاشى" لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما، وقد تقدم أن بعضَهم ادَّعى زيادتَها.
قوله: {مَا هَاذَا بَشَراً} العامَّة على إعمال "ما" على اللغة الحجازية، وهي اللغة الفصحى، ولغةُ تميم الإِهمالُ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله:
2789 - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ * ..........................
البيتين: ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز. وقال الزمخشري: "ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ "بشرٌ" بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود". قلت: فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم.
(9/14)
---(1/3469)
وقرأ العامَّة "بَشَراً" بفتح الباء على أنها كلمة واحدة. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي "بِشِرى" بكسر الباء، وهي باء الجر دخلت على "شِرى" فهما كلمتان جار ومجرور، وفيها تأويلات، أحدُهما: ما هذا بمشترى، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير. الثاني: ما هذا بمُباعٍ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف. الثالث: ما هذا بثمن، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يُجْرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء.
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه "إلا مَلِك" بكسر اللام واحد الملوك، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك / وأثبتوا له عِزَّ الملوك.
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث. وقال أبو البقاء: "وعلى هذا قُرىء "مَلِك" بكسر اللام" كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال: "وقرىء، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم، إنْ هذا إلا مَلَك كريم، تقول: "هذا بشرى" أي: حاصلٌ بشِرى بمعنى يُشْتَرَى، وتقول: هذا لك بِشِرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة "بشر" لـ"ملك".
قوله: "لموافقتها المصحفَ" يعني أنَّ الرسم "بشراً" بالألف لا بالياء، ولو كان المعنى على "بِشِرى" لَرُسِمَ بالياء. وقوله: "ومطابقة" دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء.
* { قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصَّاغِرِينَ }
قوله تعالى: {فَذالِكُنَّ}: مبتدأ والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد وإن كان حاضراً تعظيماً له ورفعاً منه لتُظِهِرَ عُذْرَها في شَغَفها.
(9/15)
---(1/3470)
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكونَ "ذلك" [إشارةً إلى] حُبِّ يوسف، والضميرُ في "فيه" عائدٌ على الحبِّ فيكون "ذلك" إشارة إلى غاسب على بابه.
قلت: يعني بالغائب البعيدَ، وإلا فالإِشارةُ لا تكون إلا لحاضر مطلقاً.
قوله: {مَآ آمُرُهُ} في "ما" وجهان، أحدُهما: أنها مصدرية. والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله: "يفعلْ" والهاءُ في "آمُرُه" تحتمل وجهين، أحدُهما: العَوْد على "ما" الموصولة إذا جعلناها بمعنى الذي. والثاني: العَوْد على يوسف. ولم يُجَوِّزْ الزمخشري عَوْدَها على يوسف إلا إذا جُعِلت "ما" مصدرية" فإنه قال: "فإن قلت: الضمير في "آمُره" راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول والمعنى: ما أمُرُ به فحذف الجارَّ كما في قوله:
2790 - أَمَرْتُكَ الخيرَ ........ *....................
ويجوز أن تُجْعَلَ "ما" مصدريةً فيعود على يوسف، ومعناه: ولَئِنْ لم يفعلْ أمري إياه، أي: مُوْجِبَ أمري ومقتضاه". قلت: وعلى هذا فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ تقديره: ما آمُره به وهو ضميرُ يوسف.
والسين في "استعصم" [فيها وجهان، أحدهما: أنها] ليست على بابها مِن الطلب، بل استفعل هنا بمعنى افتعل، فاستعصم واعتصم واحد. وقال الزمخشري: "الاستعصامُ بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الامتناع البليغ والتحفُّظِ الشديدِ، كأنه في عِصْمةٍ وهو يجتهدُ في الاستزادةِ منها، ونحو: استمسك واستوسع الفَتْقُ، استجمع الرأيَ، واستفحل الخطبُ"، فردَّ السين إلى بابها من الطلب وهو معنىً حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية: "طلب العِصْمة واستمسك بها وعصاني".
(9/16)
---(1/3471)
قال الشيخ: "والذي ذكره التصريفيون في "استعصم" أنه موافقٌ لـ"اعتصم" فاستفعل فيه موافقٌ لـ"افتعل"، وهذا أجودُ مِنْ جَعْلِ الستفعل فيه للطلب لأنَّ "اعتصم" يدلُّ على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدلُّ على حصولها، وأمَّا أنه بناءُ مبالغةٍ يَدُلُّ على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لـ"استفعل"، وأمَّا استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه لموافقة افْتَعَل، والمعنى: امتسك واتَّسع واجتمع، وأمَّا "استفحل الخطبُ" فاستفعل فيه موافِقَةٌ لتفعَّل، أي: تَفَحَّل الخطب، نحو استكبر وتكبَّرَ".
وقرأ العامَّةُ بتخفيف نون "وليَكونَنْ"، ويَقِفون عليها بالألف إجراءً لها مُجْرى التنوين، ولذلك يَحْذفونها بعد ضمةٍ أو كسرةٍ نحو: "هل تقومون" و "هل تقومين" في: "هل تَقُومُن" و "هل تقومِن"، والنونُ الموجودةُ في الوقف نونُ الرفعِ رَجَعوا بها عند عدمِ ما يقتضي حَذْفَها، وقد قَرَّرْتُ ذلك فيما تقدم.
وقرأ فرقةٌ بتشديدها، وفيها مخالفةٌ لسواد المصحف لكَتْبِها فيه ألفاً، لأنَّ الوقفَ عليها كذلك كقوله:
2791 - وإياكَ والمَيْتاتِ لا تَقْرَبَنَّها * ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبدا
أي: فاعبدَنْ فَأَبْدَلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوال في قول امرىء القيس:
2792 - قِفا نَبْكِ .................. * ......................
وأجرى الوَصْل مُجْرى الوقفِ.
* { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيا إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }
قوله تعالى: {رَبِّ السِّجْنُ}: العامَّة على كسر الباء لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ وهي الفصحى. و "السجن" بكسر السين ورفعِ النون على أنه مبتدأ، والخبر "أحبُّ". والسِّجْن الحبس، والمعنى: دخول السجن.
(9/17)
---(1/3472)
وقرأ بعضهم: "رَبُّ" بضمِّ الباء وجَرِّ النون على أنَّ "ربُّ" مبتدأ و "السجنِ" خفض بالإِضافة، و "أحبُّ" خبرُه، والمعنى: ملاقاةُ صاحبِ السجن ومقاساتُه أحبُّ إليّ.
وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب بفتح السين، وفي الباقي كالعامَّة. والسَّجْن مصدر، أي: الحَبْس أحبُّ إلي، و "إليَّ" متعلقٌ بـ"أحبُّ" وقد تقدَّم أن الفاعل هنا يُجَرُّ بـ"إلى" والمفعول باللام، / وفي الحقيقة ليست هنا أَفْعَل على بابها من التفضيل لأنه لم يُحبَّ ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شَرَّان فآثر أحدَ الشَّرين على الآخر.
قوله: {أَصْبُ} قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبوا أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه "الصَّبا" لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يُصْبَى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.
وقرأت فرقة "أَصَبُّ" بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رَقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء.
* { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }
قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا}: في فاعله أربعة أوجه، أحسنها: أنه ضمير يعود على السَّجن بفتح السين أي: ظهر لهم حَبْسُه، ويدل على ذلك لفظة "السِّجن" في قراءة العامة، وهو بطريق اللازم، ولفظُ "ألسَّجن" في قراءة مَنْ فتحالسين. والثاني: أن الفاعل ضمير المصدر المفهوم مِنْ الفعل وهو "بدا" أي: بَدا لهم بداءٌ، وقد صَرَّح الشاعرُ به في قوله:
2793 - ................ * بَدا لك في تلك القَلوص بداءُ
والثالث: أن الفاعلَ مضمرٌ يدلُّ عليه السياق، أي: بدا لهم رأيٌ. الرابع: أنَّ نفسَ الجملة مِنْ "لَيَسْجُنُنَّه" هي الفاعل، وهذا من صول الكوفيين.
(9/18)
---(1/3473)
و "حتى" غايةٌ لما قبله. وقوله: "لَيَسْجُنُنَّه" على قول الجمهور جوابٌ لقسم محذوف، وذلك القسمُ وجوابه معمول لقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمر في محلِّ نصب على الحال، أي: ظهر لهم كذا قائلين: واللَّه لَيَسْجُنُنَّه حتى حين.
وقرأ الحسن "لَتَسْجُنُنَّه" بتاء الخطاب، وفيه تأويلان، أحدهما: أن يكونَ خاطب بعضُهم بعضاً بذلك. والثاني: أن يكونَ خوطب به العزيز تعظيماً له.
وقرأ ابن مسعود "عَتَّى" بإبدال حاء "حتى" عيناً وأقرأ بها غيرَه فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فكتب إليه: "إن هذا القرآن نزل بلغة قريش، فَأَقْرِىء الناسَ بلغتهم". قلت: وإبدال الحاء عيناً لغة هُذَليَّة.
* { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيا أَرَانِيا أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِيا أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَآ}: مستأنف لا محل له، ولا يجوز أن يكونَ حالاً؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدخول. ولا جائز أن تكونَ مقدرةً؛ لأن الدخول لا يَؤُول إلى الرؤيا. و "إني" وما في حَيِّزه في محلِّ نصب بالقول.
و "أراني" هنا متعديةٌ لمفعولين عند بعضِهم إجراءً للحُلُميَّة مُجْرَى العِلْمِيَّة، فتكون الجملة مِنْ قوله: "أَعْصِرُ" في محلِّ المفعول الثاني، ومَنْ منع كانت عنده في محل الحال. وجرت الحُلُمية مَجْرى العِلْمية أيضاً في اتِّحاد فاعلها ومفعولِها ضميرين متصلين، ومنه الآيةُ الكريمة؛ فإن الفاعلَ والمفعولَ متحدان في المعنى؛ إذ هما للمتكلم، وهما ضميران متصلان. ومثلُه: "رَأَيْتُك في المنام قائماً" و "زيدٌ رآه قائماً"، ولا يجوز ذلك في غير ما ذُكر، لا تقول: أَكْرَمْتُني، ولا أكرمْتُك، ولا زيد أكرمه، فإن أردت ذلك قل: أكرمتُ نفسي، أو إياي ونفسك، أو إياك ونفسَه، أو إياه، وقد تقدَّم تحقيق هذا.(1/3474)
(9/19)
---
وإذا دَخَلَتْ همزةُ النقل على هذه الحُلُمِيَّة تعدَّت لثالث، وقد تقدَّم هذا في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}، ولو أراكهم كثيراً.
والخَمْر: العِنَب أُطلق عليه ذلك مجازاً، لأنه آيل إليه كما يُطْلق الشيءُ على الشيء باعتبار ما كان عليه كقوله: {وَآتُواْ الْيَتَامَى} ومجازُ هذا أقربُ: وقيل: بل الخمر: العنب حقيقة في لغة غسان وأزد عمان. وعن المعتمر: "لقيت أعرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ فقلت: ما تحمل؟ فقال: خمراً.
وقراءة أُبَيّ وعبداللَّه "أَعْصِر عنباً" لا تدل على الترادف لإِراتدها التفسيرَ لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبداللَّه "فوق رأسي ثريداً" فإنه أراد التفسير فقط.
و "تأكل الطير" صفةٌ لخبزاً. و "فوق" يجوز أن يكون ظرفاً للحمل، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من "خبزاً" لأنه في الأصل صفةٌ له. والضمير في قوله: "نَبِّئْنا بتأويله" قال الشيخ: "عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أُجري مُجْرى اسم الإِشارة كأنه قيل بتأويل ذلك" وهذا قد سبقه إليه الزمخشري، وجعله سؤالاً وجواباً. وقال غيره: "إنما وَحَّد الضمير لأنَّ كل واحد سأل عن رؤياه، فكأن كل واحد منهما قال: نَبِّئْنا بتأويل ما رأيت.
* { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }
(9/20)
---(1/3475)
و "تُرْزَاقانه" صفة لـ"طعام". وقوله: إلا نَبَّأْتُكما" استثناءُ مفرَّغ. وفي موضع الجملة بعده وجهان أحدُهما: أنها في محل نصبٍ على الحال، وساغ ذلك من النكرة لتخصُّصها بالوصف. / والثاني: أن تكونَ في محل رفع نعتاً ثانياً لـ"عام"، والتقدير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه منبِّئاً بتأويلهِ أو مُنَبَّأً بتأويله. و "قبل" الظاهرُ أنها ظرفٌ لـ"نَبَّأْتكما"، ويجوز أن يتعلق بـ"تأويله"، أي: نَبَّأْتكما بتأويله الواقع قبل إتيانِه.
قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ} يجوز أن تكونَ هذه مستأنفةً أخبر بذلك عن نفسه. ويجوز أن تكونَ تعليلاً لقوله {ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيا}، أي: تَرْكي عبادةَ غيرِ اللَّه سببٌ لتعليمه إياي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإِعراب. و "لا يؤمنون" صفة لـ"قوم". وكرَّر "هم" في قوله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} قال الزمخشري: "للدلالةِ على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرَهم مؤمنون بها". قال الشيخ: "وليست "هم" عندنا تدل على الخصوص". قلت: لم يَقُل الزمخشري إن "هم تدل على الخصوص. وإنما قال "تكرير "هم" للدلالة، فالتكرير هو الذي أفاد الخصوصَ، وهو معنىً حَسَنٌ فهمه أهلُ البيان.
* { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِيا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }
وسَكَّن الكوفيون الياء من "آبائي"، ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ أيضاً. و "إبراهيم" وما بعده بدلٌ أو عطفُ بيان، أو منصوب على المدح.
* { ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
(9/21)
---(1/3476)
قوله تعالى: {ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ}: يجوز أن يكون من باب الإِضافة للظرف، إذ الأصل يا صاحبي في السجن. ويجوز أن تكون من باب الإِضافة إلى المشبه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} قوله {مِن شَيْءٍ} يجوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإِشراك. ويجوز أن يكون واقعاً على المُشْرَك، أي: ما كان لنا أَنْ نُشْرك شيئاً غيرَه مِنْ مَلَك وإنْسِيّ وجني فكيف بصنم؟ و "مِنْ" مزيدة على التقديرين لوجودِ الشرطين.
قوله: {أَمِ اللَّهُ} هنا متصلةٌ عطفت الجلالة على "أرباب".
* { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَسْمَآءً}: إمَّا أن يُراد بها المُسَمَّياتُ أو على حذف مضاف، أي: ذوات لمُسَمَّيات. و "سَمَّيْتموها" صفةٌ، وهي متعدية لاثنين حُذِف ثانيهما، أي: سمَّيْتموها آلهة و "ما أنزل" صفةٌ لـ"أسماء" و "مِنْ" زائدة في "منْ سلطان"، أي: حُجَّة. و "إنِ الحكم": "إنْ" نافية. ولا يجوز الإِتباعُ لضمة الحاء كقوله: قالتُ اخْرُجْ" ونحوه، لأنَّ الألف واللامَ كلمةٌ مستقلة فهي فاصلةٌ بينهما.
قوله: {أَمَرَ أَلاَّ} يجوز في "أَمَر" أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً و "قد" معه مرادةٌ عند بعضهم. قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه" قلت: يعني بالعامل ما تضمَّنه الجارُّ في قولِه: "إلا للَّه" من الاستقرار.
* { ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
(9/22)
---(1/3477)
قوله تعالى: {فَيَسْقِي}:العامَّةُ على فتح الياء، مِنْ سقاه يَسْقيه. وقرأ عكرمة في رواية "فَيُسْقي" بضم حرف المضارعة مِنْ أسقى وهما لغتان، يقال: سَقَاه وأَسْقاه، وسيأتي أنهما قراءتان في السبعة: "نَسْقيكم - ونُسْقيكم - مما [في] بطونه". وهل هما بمعنىً أم بينهما فرق؟ ونقل ابن عطية عن عكرمة والجحدري أنهما قرآ "فَيُسقَى ربُّه" مبنياً للمفعول ورفع "ربُّه". ونسبه الزمخشري لعكرمة فقط.
قوله: {قُضِيَ الأَمْرُ} قال الزمخشري: "ما اسْتَفْتَيَا في أمرٍ واحد. بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتُّهما به من سَمِّ المَلِك وما سُجِنا من أجله".
* { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }
قوله تعالى: {لِلَّذِي ظَنَّ}: فاعلُ "ظنَّ" يجوز أن يكون يوسف عليه السلام إن كان تأويلُه بطريقة الاجتهاد، وأن يكون الشرَّابيُّ إن كان تأويله بطريق الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين، قاله الزمخشري.
قلت: يعني أنه إنْ كان الظنُّ على بابه فلا يستقيم إسناده إلى يوسفَ إلى أن يكون تأويلُه بطريق الاجتهاد؛ لأنه متى كان بطريق الوحي كان يقيناً فيُنْسَب الظن حينئذ للشَّرابي لا له عليه السلام، وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقين فتصِحُّ نسبتُه إلى يوسف وإن كان تأويله بطريق الوحي، وهو حَسَنٌ وإلى كونِ الظنِّ على بابه - وهو مسندٌ ليوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد - ذهب قتادة، فإنه قال: "الظنُّ هنا على بابه لأنَّ عبارة الرؤيا ظنٌّ".
(9/23)
---(1/3478)
قوله: {مِّنْهُمَا} يجوز أن يكونَ صفةً لـ"ناج"، وأن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الموصول. قال أبو البقاء: "ولا يكون متعلقاً بـ"ناجٍ" لأنه ليس المعنى عليه" قلت: لو تعلَّق بـ"ناجٍ" لأَفْهَمَ أنَّ غيرَهما نجا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو الناجي، وهذا المعنى الذي نبَّه عليه بعيدٌ تَوَهُّمُه. والضمير في "فَأَنْساه" يعود على الشرَّابي. وقيل: على يوسف، وهو ضعيفٌ.
قوله: {بِضْعَ سِنِينَ} منصوبٌ على الظرف الزماني وفيه خلافٌ: فقال قتادة: "هو بين الثلاث إلى التسع". وقال أبو عبيد: "البِضْعُ لا يَبلُغُ العِقْدَ ولا نصفَ العقدِ، وإنما هو من الواحد إلى الشعر". وقال مجاهد: "هو من الثلاثة إلى السبعة". وقال الفراء: "لا يُذكر البِضْعُ إلا مع العشرات ولا يُذكر مع مِئَة ولا ألف". وقال الراغب: / "البِضْع: بالكسر المُقَتَطَعُ من العشرة، ويقال ذلك لِما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل: بل هو فوق الخمسة ودون العشرة". قلت: فَجَعَلَه مشتقاً مِنْ مادة البَضْع وهي القَطْع، ومنه: بَضَعْتُ اللحمَ، أي: قَطَعْتُه، والبِضاعة: قطعةُ مالٍ للتجارة، والمِبْضَعُ: ما يُبْضَعُ به، والبَعْض قد تقدَّم أنه من هذا المعنى عند ذكر "البعوضة".
* { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّيا أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }
قوله تعالى: {سِمَانٍ}: صفة لبقرات وهو جمع سمينة، ويُجْمع سمين أيضاً يقال: رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام. و "السِّمَنُ" مصدرُ سَمِن يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم [الفاعل] جاءا على غير قياس، إذ قياسُهما "سَمَن" بفتح الميم، فهو سَمِن بكسرها، نحو فَرِح فَرَحاً فهو فَرِح.
(9/24)
---(1/3479)
قال الزمخشري: "هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع "سمان" صفة للمميِّز وهو "بقراتٍ" دون المُمَيَّز وهو "سبعَ"، وأن يقال: سبعَ بقراتٍ سِماناً؟ قلت: إذا أوقَعْتَها صفةً لـ"بقرات" فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منهان ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميِّز بالجنس بالسِّمَنِ. فإن قلت: هَلاَّ قيل "سبعَ عجافٍ" على الإِضافة. قلت: التمييزُ موضوعٌ لبيان الجنس، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه. فإن قلت فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها. ألا تراك لا تقول: عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ. فإن قلت: ذاك مِمَّا يُشْكِلُ وما تحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ "وبقرات سبعَ عجافٍ" لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات. قلت: تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ، وقد وقع الاستغناء عن قولك "سبع عجافٍ" عمَّا تقترحه من التمييز بالوصف".
قلت: وهي أسئلة وأجوبة حسنة. وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزم مِنْ وَصْفِ التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز بذلك الشيءِ، بيانُه أنك إذا قلت: "عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ" بالجرِّ كان معناه: أربعة من الرجال الحسان، فيلزم حُسْنُ الأربعة؛ لأنهم بعض الرجال الحسان، وإذا قلت: "عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ" برفع "حسان" كان معناه: أربعة من الرجال حِسان، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن.
(9/25)
---(1/3480)
وتحقيقُ الثاني وجوابه: أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة، وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال: "عندي ثلاثة قرشيون" ولا يُقال: ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر. ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مَجْرى الأسماء.
وتحقيق الثالث: أنه إنما امتنع "ثلاثةُ ضِخام" ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه. بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به. وأجاب عن ذلك بأن الأًلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع الاستغناءِ بالفرع، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها، ولم يذكر الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله.
وجَمْعُ عَجْفاء على عِجاف. والقياس: عُجُف نحو: حمراء وحُمُر، حَمْلاً له على "سِمان" لأنه نقيضُه، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض، قاله الزمخشري: "والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال:
2794 - عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ
وقال الراغب: "هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ، أي: دقيق، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما، وأَعْجف الرجلُ، أي: صادف ماشِيَتَه عِجافاً".
قوله: {وَأُخَرَ} "أُخَرَ" نسقٌ على "سبعَ" لا على "سنبلات"، ويكون قد حَذَف اسمَ العددِ من قوله "وأُخَر يابسات" والتقدير: وسبعاً أُخَرَ، وإنما حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات.
(9/26)
---(1/3481)
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع، ويكون قوله "وأُخَرَ يابسات" بمعنى وسبعاً أُخَرَ" انتهى. وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ "أُخر" على التمييز وهو "سنبلات" فيكون / "أُخَر" مجروراً لا منصوباً؛ لأنه من حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز "سبعَ"، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون مبايناً لـ"سبع" فتدافعا، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة: "سبع سنبلاتٍ خضرٍ ويابسات" لصَحَّ العطفُ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرارَ واليُبْس.
وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال: "فإن قلتَ: هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه "وأُخَرَ يابساتٍ" على "سنبلاتٍ خَضْرٍ" فيكون مجرورَ المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافُعٍ، وهو أنَّ عَطْفَها على "سنبلات خضر" يقتضي أن يكونَ داخلاً في حكمها، فتكون معها مميِّزاً للسبع المذكور، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع. بيانُه أنك تقول: "عند سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ، فلو قلت: "عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود" تدافعَ ففسد".
قوله {لِلرُّؤْيَا}: فيه أربعة أوجه، أحدها: أن اللام فيه مزيدةٌ فلا تَعَلٌّق لها بشيء، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل، كما زِيْدَتْ فيه إذا كان العامل فرعاً كقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، ولا تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله:
2795 - فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلاً * أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا
(9/27)
---(1/3482)
يريد: أنخنا الكلاكل، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة، وبعضُهم يقول: الأكثر ألاَّ تُزادَ، ويتُحَرَرَّزُ مِنْ قوله تعالى {رَدِفَ لَكُم} فإن الأصلَ: رَدِفَكم فزيدت فيه اللام، ولا تَقَدُّم ولا فرعية، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين، وسيأتي في مكانِه، وقد تقدَّم لك من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف.
الثاني: أن يُضَمَّن "تَعْبُرون" معنى ما يتعدَّى باللام، تقديره: إن كنتم تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا.
الثالث: أن يكونَ "للرُّؤْيا" هو خبر "كنتم" كما تقول: "كان فلان لهذا الأمر" إذا كان مستقلاًّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في "تعبرُون" وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ لـ"كنتم" والثاني: أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبراً.
الرابع: أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} تقديرُه: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديرُه: أعني للرؤيا، وعلى هذا فيكون مفعول "تعبُرون" محذوفاً تقديرُه: تعْبُرونها.
وقرأ أبو جعفر "الرُّؤْيا" وبابَها "الرُّيَّا" بالإِدغام، وذلك أنه قَلَبَ الهمزةَ واواً لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو، وسَبَقَتْ غحداهما بالسكون فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء. وهذه القراءةُ عندهم ضعيفةٌ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظراً إلى الهمزة.
وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف - قال الزمخشري: "هو الذي اعتمده الأثباتُ، ورَأَيْتُهم يُنْكرون "عَبَّرت" بالتشديد والتعبير والمعبِّر" قال: "وقد عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب "الكامل" لبعض الأعراب:
2796 - رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها * وكنتُ للأحلام عَبَّارا
قال: "وحقيقةُ عبرت الرؤيا: ذكرتَ عاقَبتها وآخر أمرها كما تقول: عَبَرْتُ النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه".
(9/28)
---(1/3483)
* { قَالُوااْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ }
قوله تعالى: {أَضْغَاثُ}: "أَضْغاث" خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أضغاث، يَعْنُون ما قَصَصْته علينا، والجملةُ منصوبةٌ بالقول.
والأضغاث جمع "ضغْث" بكسر الضاد، وهو ما جمِع من النبات سواء كان جنساً واحداً أو أجناساً وهو أصغرُ مِن الحُزْمة وأكبر من القَبْضة، فمِنْ مجيئه من جنسٍ واحد قولُه تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} رُوِي في التفسر أنه أخذ عِثْكالاً مِنْ نخلة. وفي الحديث: "أنه أُتي بمريض وَجَبَ عليه حَدٌّ ففُعِل به ذلك. وقال ابن مقبل:
2797 - خَوْدٌ كأن فِراشَها وُضِعَتْ به * أضغاثُ رَيْحانٍ غَداةَ ضَمَالٍ
/ ومِنْ مجيئه مِنْ أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: "ضِغْثٌ على إبَّالة"، وقد خَصَّه الزمخشري بما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، فقال: "وأصلُ الأَضْغاث ما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، وحِزَم الواحِ ضِغْثٌ". وقال الراغب: "الضِّغْث قَبْضَةُ رَيْحانٍ أو حَشيش أو قُضْبان". قلت: وقد تقدَّم أنه أكثرُ من القَبْضة، واستعمالُ الأَضْغاث هنا من باب الاستعارة. والإِضافة في "أَضْغاث أحلام" إضافةٌ بمعنى "مِنْ" إذ التقديرُ: أضغاثٌ من أحلامٌ.
والأَحْلام جمع حُلُم. والباء في "بتأويل" متعلقةٌ بـ"عالمين"، وفي "بعالمين" لا تعلُّقَ لها لأنها زائدةٌ: إمَّا في خبرِ الحجازيَّة أو التميمية.
(9/29)
---(1/3484)
وقولهم ذلك يُحتمل أن يكونَ نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكونَ نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصةً دونَ المنام الصحيح. وقال أبو البقاء: "بتويل أضغاث الأحلام لا بد من ذلك [لأنهم لم يَدَّعوا الجهلَ بعبارة الرؤيا" انتهى. وقوله "الأحلام" وإنما كان واحداً، قال الزمخشري كما تقول: "فلان يركب الخيل ويلبس عَمائم الخَزِّ، لمَنْ لا يركب إلا فرساً واحداً ولا يتعمَّم إلا بعمامة واحدة] تَزَيُّداً في الوصف"، ويجوز أن يكونَ قَصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها.
* { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ }
قوله تعالى: {وَادَّكَرَ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنها جملةٌ حاليةٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل "نجا". والثاني: أنها عطفٌ على "نجا" فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له.
والعامَّةُ على "ادَّكَرَ" بدالٍ مهملة مشددة وأصلها: اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم. وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم، وكذا الحكم في {مُّدَّكِرٍ} كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى.
والعامَّةُ على "أُمَّة" بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ:
2798 - ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْـ * ـــمَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره:
2799 - ألا لا أرَى إمَّةٍ أصبحَتْ به * فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
(9/30)
---(1/3485)
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء "أَمَةٍ" بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً ومْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ.
وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة: "بعد أَمْهٍ" بسكون الميم، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس. قال الزمخشري: "ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّىء". قال الشيخ: "وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء" قلت: لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارىء فإنه قال: "خُطَّىء" بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يقل فقد أخطأ، على أنه ذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه البتةَ. و "بعد" منصوب بـ"ادَّكر".
قوله: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ} هذه الجملةُ هي المحكية بالقول. وقرأ العامَّةُ من الإِنباء. والحسن "أنا آتيكم" مضارع تى من الإِتيان، وهو قريبٌ من معنى الأول.
* { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيا أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ }
والصِّدِّيق بناء مبالغة كالشِّرِّيب.
* { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ }
(9/31)
---(1/3486)
قوله تعالى: {تَزْرَعُونَ}: ظاهرُه أن هذا إخبارٌ من يوسف عليه السلام بذلك. وقال الزمخشري: "تَزْرعون" خبر في معنى الأمر كقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب المأمورِ المأمورَ به، فَيُجعل كأنه وُجِد فهو يُخْبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} قال الشيخ: "ولا يدلُّ الأمرُ بتَرْكِه في سنبلِه على أنَّ "تزرعون" في معنى ازرعوا، بل تَزْرعون إخبار غيبٍ، وأمَّا "فَذَرُوه" فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أنْ يَفْعلوه". قلت: هذا هو الظاهرُ، ولا مَدْخَلَ لأمره لهم بالزِّراعة؛ لأنهم يَزْرعون على عادتهم، أَمَرَهم أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإِناسن أن يفعلَه كتَرْكِه في سُنْبله.
قوله: {دَأَباً} قرأ حفص بفتح الهمزة، والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَب يَدْأَبُ، أي: داوَمَ على الشيء ولازَمَه. وهذا كما قالوا: ضَأْن وضَأَن، ومَعْز ومَعَز بفتح العين وسكونها. وفي انتصابه أوجهٌ، أحدها وهو قول سيبويه: أنه منصوبٌ بفعل مقدر تقديره تَدْأَبون. والثاني وهو قول أبي العباس: أنه منصوب بتزرعون لأنه من معناه، فهو من باب "قَعَدْتُ القُرْفُصاء". وفيه نظر لأنه ليس نوعاً خاصاً به بخلاف القرفصاء من القعود. / والثالث: أنه واقعٌ موقع الحال فيكون فيه الأوجه المعروفة: إمَّا المبالغةُ، وإمَّا وقوعُه موقعَ الصفة، وإمَّا على حذف مضاف، أي: دائِبين أو ذوي دأب، أو جَعَلهم نفسَ الدَأَب مبالغة، وقد تقدَّم الكلامُ على "الدأب" في آل عمران عند قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ} "ما" يجوز أن تكونَ شرطيةً أو موصولةً. وقرأ أبو عبد الرحمن "يأكلون" بالغَيْبة، أي: الناس، ويجوز أن يكونَ التفاتاً.
(9/32)
---(1/3487)
* { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ }
وقوله تعالى: {سَبْعٌ شِدَادٌ}: حُذِف المميِّز وهو الموصوف لدلالة ما تقدَّم عليه. ونَسَبَ الأكلَ إليهنَّ مجازاً كقوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} لمَّا كان الأكلُ والإِبصارُ فيهما جُعِلا كأنهما واقعان فيهما.
* { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }
قوله تعالى: {يُغَاثُ النَّاسُ}: يجوز أن تكون الألف عن واو، وأن تكون عن ياء: إمَّا مِن الغَوْث وهو الفَرَج، وفعلُه رباعيٌّ يُقال: أغاثَنا اللَّه، مِن الغَوْث، وإمَّا مِن الغَيْث وهو المطرُ يُقال: "غِيْثَتِ البلاد"، أي: مُطِرَتْ، وفعلُه ثلاثي يقال: غاثنا اللَّه مِن الغَيْث. وقالت أعرابية: "غِثْنا ما شِئْنا"، أي: مُطِرْنا ما أَرَدْنا".
قوله: {يَعْصِرُونَ} قرأ الأخوان "تَعْصِرون" بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و "يَعْصِرون" يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه:
2800 - صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ * ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه.
(9/33)
---(1/3488)
وقرأ جعفر بن محمد والأعرج: "يُعْصَرون" بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري: "وهو مطابِقٌ للإِغاثة". والثاني: - قاله قطرب - أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ}. قال الزمخشري: "وقرىء "يُعْصَرون": يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين"].
وقرأ زيد بن علي: "تِعِصِّرون" بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريريه في {أَمَّن لاَّ يَهِدِّيا} ونقل النقاش قراءةَ "يُعَصِّرون" بضم الياء وفتح العين وكسر الصاد مشددَّة مِنْ "عَصَّر" للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المقتدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر:
2801 - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ * كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي: نجاتي.
* { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ}: العامَّةُ على كسر نون النسوة، وضَمَّها عاصم في روايةِ أبي بكرٍ عنه، وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة. وقُرِىء "اللائي" وكلاهما جمعٌ لـ"التي".
(9/34)
---(1/3489)
* { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }
والخَطْبُ: الأمر والشأن الذي فيه خطرٌ. قال امرؤ القيس:
2802 - وما المَرْءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نفسِه * بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخُطوبِ ولا آلِ
وهو في الأصلِ مصدرُ خَطَب يَخْطُبث، وإنما يُخْطب في الأمور العظام.
قوله: {إِذْ رَاوَدتُنَّ} هذا الظرفُ منصوبٌ بقوله "خَطْبُكُنَّ" لأنه في معنى الفعل؛ إذ المعنى: ما فعلتنَّ وما أَرَدْتُنَّ به في ذلك الوقتِ؟
قوله: {الآنَ حَصْحَصَ} "الآن" منصوبٌ بما بعدَه، وحَصْحَصَ معناه تَبيَّنَ وظهر بعدَ خَفَاءٍ، قاله الخليل. قال بعضهم: هو مأخوذٌ مِن الحِصَّة والمعنى: بانَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الباطل كما تتميَّز حِصَصُ الأراضي وغيرِها. وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ. وقال الراغب: "حَصْحَصَ الحقُّ، وذلك بانكشافِ ما يَغْمُره، وحَصَّ وحَصْحَصَ نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحَصَّه: قَطَعه: إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكم، فمِنَ الأول قولُ / الشاعر:
2803 - قد حَصَّتِ البيضة رأسي...... * ...................
ومنه رَجُلٌ أَحَصُّ: انقطع بعضُ شَعْره، وامرأة حَصَّاءُ، والحِصَّة القطعةُ من الجملة ويُسْتعمل استعمالَ النصيب. وقيل: هو مِنْ "حَصْحَصَ البعير" إذا أَلْقَى ثَفِناتِه للإِناخِةِ، قال الشاعر:
2804 - فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفِناتِه * وناءَ بسَلْمَى نَوُءَةً ثم صَمَّما
* { ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }
(9/35)
---(1/3490)
قوله تعالى: {ذالِكَ}: خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر ذلك. و "ليعلم" متعلقٌ بمضمرٍ، أي: أظهر اللَّه ذلك ليعلم، أو مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صَرَّحْتُ به عن براءته أمرٌ من اللَّه لا بدَّ منه، و "لِيَعْلمَ" متعلقٌ بذلك الخبرِ، أو يكون "ذلك" مفعولاً لفعلٍ مقدر يتعلَّقُ به هذا الجارُّ أيضاً، أي: فَعَلَ اللَّه ذلك، أو فَعَلْتُه أنا بتيسير اللَّه ليعلمَ.
قوله: {بِالْغَيْبِ} يجوز أن تكونَ الباءُ ظرفيةً. قال الزمخشري: "أي": بمكان الغَيْب وهو الخَفَاءُ والاستتار وراءَ الأبوابِ السبعة المُغَلَّقة". ويجوز أن تكون الباء للحال: إمَّا مِنَ الفاعل على معنى: وأنا غائب عنه خفيٌّ عن عينه، وإمَّا من المفعول على معنى: وهو غائب عني خفيٌّ عن عيني، وهذا مِنْ كلامِ يوسُفَ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له. وقال غيرُه: إنه مِنْ كلامِ امرأة العزيز وهو الظاهر. وقوله: "وأنَّ اللَّه" نَسَقٌ على "ني" أي ليَعلمَ الأمرين.
* { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيا إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّواءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيا إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَا رَحِمَ}: فيه أوجه: أحدُها: أنه مستثنى من الضمير المستكنَّ في "أمَّارَةٌ" كأنه قيل: إن النفس لأمَّارة بالسوءِ إلا نَفْساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنسَ، فلذلك ساغ الاستثناء منها كقولِه تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}، وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال: "إلا لبعضَ الذي رحمه ربي بالعِصْمة كالملائكة" وفيه نظرٌ مِنْ حيث إيقاعُ "ما" على مَنْ يَعْقِلُ والمشهورُ خِلافُه.
(9/36)
---(1/3491)
والثاني: أنَّ "ما" في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمن العام المقدَّر. والمعنى: إنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء في كلِّ وقتٍ وأوانٍ إلا وقتَ رحمةِ ربي إياها بالعِصْمة. ونظرَّره أبو البقاء بقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}. وقد تقدَّم أن الجمهورَ لا يُجيزون أن تكون "أنْ" واقعةً موقعَ ظرفِ الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من مفعول "أمَّارة"، أي: لأمَّارةٌ صاحبَها بالسوءِ إلا الذي رَحِمه اللَّه. وفيه إيقاعُ "ما" على العاقل.
والرابع: أنه استثناءٌ منقطعٌ. قال ابن عطية: "وهو قولُ الجمهور". وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكونَ استثناءً منقطعاً، أي: ولكنْ رحمةُ ربي هي التي تَصْرِف الإِساءةَ كقوله: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا}
* { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ }
قوله تعالى: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}: يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ المَلِك، والمفعول ضميرَ يوسفَ عليه السلام وهو الظاهر، ويجوز العكس.
* { وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {لِيُوسُفَ}: يجوز في هذه اللامِ أنْ تكونَ متعلقةً بـ"مَكَّنَّا" على أن يكون مفعولُ "مَكَّنَّا" محذوفاً تقديره: مَكَّنَّا لِيوسفَ الأمورَ، أو على أن يكونَ المفعولُ به "حيث" كما سيأتي. ويجوز أن تكونَ زائدةً عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم أنَّ الجمهورَ يَأْبَوْن ذلك إلا في موضعين.
قوله: {يَتَبَوَّأُ} جملةٌ حاليةٌ من "يوسف". و "منها" يجوز أنْ تتعلَّق بـ"يَتَبوَّأ". وأجاز أبو البقاء أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ "حيث".
(9/37)
---(1/3492)
و "حيث" يجوزُ أن يكونَ ظرفاً لـ"يَتَبَوَّأ"، ويجوز أنْ يكونَ مفعولاً به وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام.
وقرأ ابن كثير "نَشَاء" بالنون على أنها نونُ العظمةِ للَّه تعالى. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ يوسف قال: "لأنَّ مشيئته مِنْ مشيئة اللَّه" وفيه نظرٌ لأنَّ نَظْم الكلامِ يَأْباه. والباقون بالياء على أنه ضمير يوسف. ولا خلاف في قول {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ} أنها بالنون. وجَوَّز الشيخ أن يكونَ الفاعلُ في قراءة الياء ضميرَ اللَّهِ، ويكون التفاتاً.
* { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّيا أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ }
قوله تعالى: {بِجَهَازِهِمْ}: العامَّةُ على فتح الجيم، وقُرىء بكسرِها، وهما لغتان فيما يحتاجه الإِنسانُ مِنْ زاد ومتاعٍ ومنه "جهز العروس" و "جهاز البيت".
وقوله: {بِأَخٍ لَّكُمْ} ولم يَقُلْ بأخيكم بالإِضافة؛ مبالغةً في عَدَم تَعَرُّفِه بهم؛ ولذلك فَرَّقوا بين "مررت بغلامك" و "بغلامٍ لك" فإنَّ الأولَ يَقْتضي عِرْفانك بالغلام، وأن بينك وبين مخاطِبك نوعَ عَهْدٍ، والثاني لا يَقْتَضي ذلك، وقد تُخْبر عن المعرفة إخبارَ النكرة فتقول: "قال رجل كذا" وأنت تعرفه لصِدْق إطلاقِ النكرةِ على المعرفة.
* { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُونِ}: يُحْتمل أنْ تكونَ "لا" ناهيةً فيكونَ "تَقْربون" مجزوماً، ويُحْتمل أن تكونَ "لا" نافيةً وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ داخلاً في حَيَّز الجزاء معطوفاً عليه، فيكونَ أيضاً مجزوماً على ما تقدم. والثاني: أنه نفيٌّ مستقلٌّ غيرُ معطوف على جزاءِ الشرط، وهو خبر في معنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ}
(9/38)
---(1/3493)
* { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوااْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
قوله تعالى: {لِفِتْيَانِهِ}: قرأ الأخوان وحفص: "لفتيانه"، والباقون: "لفِتْيَتِه"، والفِتْيان جمع كثرة، والفِتْية جمعُ قلَّة، فالتكثير بالنسبة إلى المأمورين، والقلَّة بالنسبة إلى المتناولين. و "فتى" يُجْمع على فِتْيان وفِتْيَة وقد تقدَّم. هل فِعْلَة في الجموع اسمُ جمعٍ أو جمعُ تكسير، ومثله "أخ" فإنه جُمِع على إخْوَة وإخوان.
و "يَرْجِعون" يحتمل أن يكونَ متعدِّياً وحُذِف مفعوله، أي: يَرْجعون البضاعةَ لأنه عَرَف من دينهم ذلك، وأن يكونَ قاصراً بمعنى يرجعون إلينا.
* { فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
وقرأ الأخوان "يَكْتَلْ" بالياء من تحت، أي: يكتل أخونا، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن، وهو مجزومٌ على جواب الأمر.
(9/39)
---(1/3494)
ويُحكى أنه جَرَى بحضرةٍ المتوكلِ أو وزيرِه ابن الزياتِ بين المازني وابن السكيت مسألةٌ: وهي ما وزنُ "نَكْتَلْ"؟ فقال يعقوب: نَفْتَل، فَسَخِر به المازني وقال: إنما وزنُها نَفْتَعِل، هكذا رأيتُ في بعض الكتب، وهذا ليس بخطأ؛ لأنَّ التصريفيين نَصُّوا على أنه إذا كان في الكلمة حَذْفٌ أو قَلْبٌ حُذِفَتْ في الزِّنَة وقُلِبَتْ فنقول: وزن بِعْتُ وقُمْتُ: فِعْتُ وفُعْتُ، ووزنُ عِد، عِل، ووزنُ ناءَ: فَلَعَ، وإن شِئْتَ أَتَيْتَ بالأصل، فعلى هذا لا خطأَ في قوله: وزن نَكْتَلْ نَفْتَلْ، لأنه اعتُبر اللفظُ لا الأصلُ. ورأيت في بعض الكتب أنه قال: نَفْعَل بالعين وهذا خطأ مَحْضٌ، على أن الظاهر من أمرِ يعقوب أنه لم يُتْقِنْ هذا، ولو أَتْقَنَه لقال: وزنُه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أَنْحَى عليه المازني فلم يَرُدُّ عليه بشيء.
* { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ}: منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ محذوف أو على الحال منه، أي: ائتماناً كائتِماني لكم على أخيه، شبَّه ائتِمانَه لهم على هذا بائتمانِه على ذلك. و "من قبلُ" متعلق بـ"أمِنْتُكم".
قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} قرأ الأخَوان وحفص "حافظاً" وفيه وجهان، أظهرهما: انه تمييز، قال أبو البقاء: "ومثل هذا يجوز إضافته". قلت: قد قرأ بذلك الأعمش: {فاللَّه خيرُ حافظٍ}، واللَّه تعالى متَّصِفٌ بأنَّ حِفْظَه يزيد على حِفْظِ غيرِه كقولك: هو أفضل عالم. الثاني: أنه حال، ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ - وقد نقله عن الزمخشري وحده -: "وليس بجيد؛ لأنَّ فيه تقييدَ "خير" بهذه الحال". قلت: ولا محذورَ فإن هذه الحالَ لازمةٌ لأنها مؤكدةٌ لا مبيِّنَة، وليس هذا بأولِ حالٍ وَرَدَتْ لازمةً.
(9/40)
---(1/3495)
وقرأ الباقون "حِفْظاً"، ولم يُجيزوا فيها غير التمييز؛ لأنهم لو جعلوها حالاً لكانت مِنْ صفةِ ما يَصْدُق عليه "خير"، ولا يَصْدُق ذلك على ما يَصْدُق عليه "خير"؛ لأن الحِفْظ معنى من المعاني، ومَنْ يَتَأَوَّلْ "زيدٌ عَدْلٌ" على المبالغة، أو على حذف المضاف، أو على وقوعِ المصدرِ موقعَ الوصفِ يُجِزْ في "حِفْظاً" أيضاً الحالية بالتأويلات المذكورة، وفيه تَعِسُّف.
* { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِي هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ }
قوله تعالى: {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}: قرأ علقمة ويحيى والأعمش "رِدَّتْ" بكسر الراء على نَقْلِ حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء بعد تَوَهُّم خُلُوِّها مِنْ حركتها، وهي لغةُ بني ضَبَّة، على أن قطرباً حكى عن العرب نَقْلَ حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح فيقولون: "ضِرْب زيدٌ" بمعنى ضُرِب زيد، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} في الأنعام.
قوله: {مَا نَبْغِي} في "ما" هذه وجهان، أظهرهما: أنها استفهاميةٌ فهي مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأن لها صدرَ الكلام، أي: أيَّ شيءٍ نبغي. والثاني: أَنْ تكونَ نافيةً ولها معنيان، أحدهما: ما بقي لنا ما نطلب، قاله الزجاج. والثاني: ما نبغي، من البغي، أي: ما افْتَرَيْناه ولا كَذَبْنا على هذا المَلِكِ في إكرامه وإحسانه. قال الزمخشري: "ما نبغي في القول وما نتزيَّد فيما وَصَفْنا لك من إحسان المَلِك".
(9/41)
---(1/3496)
وأَثْبَتَ القرَّاءُ هذه الياءَ في "نبغي" وَصْلاً ووقفاً ولم يَجْعلوها من الزوائد بخلاف التي في الكهف كما سيأتي: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}. والفرق أنَّ "ما" هناك موصولةٌ فحُذِفَ عائدُها، والحذفُ يُؤْنِسُ بالحذف، وهذه عبارة مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعةِ يقولون: التغيير يُؤْنس بالتغيير بخلافها هنا فإنها: إمَّا استفهاميةٌ، وإمَّا نافيةٌ، ولا حَذْفَ على القولين حتى يُؤْنَسَ بالحذف.
وقرأ عبد اللَّه وأبو حيوة ورَوَتْها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما تبغي" بالخطاب. و "ما" تحتمل الوجهين أيضاً في هذه القراءة.
والجملةُ مِنْ قوله: {هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا} تحتمل أنْ تكونَ مفسِّرةً لقولهم "ما نبغي"، وأن تكونَ مستأنفةً.
قوله: {وَنَمِيرُ} معطوفٌ على الجملة الاسمية قبلها، وإذا كانت "ما" نافيةً جاز أن تُعْطَفَ على "نَبْغي"، فيكونَ عَطْفَ جملةٍ فعلية على مثلِها. وقرأ عائشة وأبو عبد الرحمن: "ونُمير" مِنْ "أماره" إذا جَعَلَ له المِيرة يُقال: ماره يَميره، وأماره يُمِيْره. والمِيرة: جَلْبُ الخير قال:
2805 - بَعَثْتُكَ مائِراً فمكُثْت حَوْلاً * متى يأتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيْثُ
والبعيرُ لغةً يقع على الذَّكَر خاصةً، وأطلقه بعضُهم على الناقة أيضاً، وجعله نظيرَ "إنسان"، ويجوز كَسْرُ بائه إتباعاً لعينه، ويُجمع في القلة على أبْعِرَة، وفي الكثرة على بُعْران.
* { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ}: هذا جوابٌ للقسم المضمرِ في قوله: "مَوْثِقاً" لأنه في معنى: حتى تحلفوا لي لتأتُنَّني به.
(9/42)
---(1/3497)
قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} في هذا الاستثناء أوجه أحدُها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء، يعني فيكون / تقديرُ الكلام: لكن إذا أحيط بكم حَرَجْتُمْ مِنْ عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم.
الثاني: أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ. قال الزمخشري: "فإن قلت أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال. قلت: {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} مفعولٌ له، والكلامُ المثبت الذيهو قولُه "لَتأْتُنَّني به" في معنى النفي معناه: لا تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم. استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد مِنْ تأويله بالنفي، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم: "أقسمتُ باللَّه لمَّا فعلتَ وإلا فعلت"، تريد: ما أطلبُ منك إلا الفعلَ" ولوضوح هذا الوجهِ لم يذكر غيره.
والثالث: أن مستثنى مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال. قال أبو البقاء: "تقديره: لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم". قلت: قد نَصُّوا على أنَّ "أنْ" الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن تقع موقع الحال، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في الصريح فيجيزون: جئتُك رَكْضاً، ولا يُجيزون: جئتك أن أركضَ، وإن كان في تأويله.
الرابع: أنه مستثنى من أعم العام في الأزمان والتقدير: لَتَأْتُنَّني به في كلِّ وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم. وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ، وأن أبا الفتح أجاز لك، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح، فكما تقول: "أتيتُكَ صِياحَ الدِّيك" يُجيز "أنْ يَصيح الديك" وجعل من ذلك قول تأبط شراً:
2806 - وقالوا لا تَنْكحِيهِ فإنَّه * لأَوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا
وقولَ أبي ذؤيب الهذلي:
2807 - وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ * بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها
(9/43)
---(1/3498)
قال: "تقديره: وقتَ ملاقاتِه الجمعَ، ووقت إهانةِ صغيرها". قال الشيخ: "فعلَى ما قاله يجوز تخريجُ الآية، ويبقى "لتأتُنَّني به" على ظاهره من الإِثبات". قلت: الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ، ومتى كان مفرَّغاً وَجَبَ تأويلُه بالنفي.
ومنع ابن الأنباري مِنْ ذلك في "أنْ" وفي "ما" أيضاً قال: "فيجوز أن تقولَ: خروجُنا صياح الديك، ولا يجوز خروجُنا أن يصيحَ، أو: ما يصيح الديك: فاغتُفِر في الصريح ما لم يُغْتفر في المؤول". وهذا قياس ما قدَّمْتُه في مَنْع وقوع "أنْ" وما في حَيِّزها موقعَ الحال، ولك أَنْ تُفَرِّق ما بينهما بأن الحال تلزمُ التنكيرَ، وأنْ وما في حَيِّزها نَصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ "أَنْ" وما في حيزها موقعَه.
* { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ}: في جواب "لمَّا" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه الجملةُ المنفية من قوله: {مَّا كَانَ يُغْنِي}. وفيه حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ "لمَّا" حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابُها، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه، لكن ما بعد "ما" النافية لا يَعْمل فيما قبلها، لا يجوز: "حين قام أخوك ما قام أبوك"، مع جواز "لمَّا قام أخوك ما قام أبوك".
والثاني: أنَّ جوابَها محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: "امتثلوا وقَضَوا حاجةَ أبيهم"، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه.
(9/44)
---(1/3499)
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: "آوى" قال أبو البقاء: "وهو جوابُ "لمَّا" الأولى والثانية كقولك: "لمَّا جِئْتني، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني"، وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب" يعني أنَّ "آوى" جوابُ الأولى والثانية، وهو واضح.
قوله: {إِلاَّ حَاجَةً} فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان يُغْني عنهم لشي من الأشياء إلا لأجلِ حاجةٍ كانت في نفس يعقوب. وفاعل "يُغْني" ضميرُ التفرقِ المدلولِ عليه من الكلام المتقدم. وفيما أجازه أبو البقاء نظرٌ من حيث المعنى لا يَخْفَى على متأمِّله. و "قضاها" صفةٌ لـ"حاجةً".
* { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }
قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ}: العامَّة على "جَعَل" دون زيادة واو قبلها. وقرأ عبداللَّه "وجَعَلَ"، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ الجوابَ محذوفٌ. والثاني: أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك، وهم الكوفيون والأخفش. / وقال الشيخك "وقرأ عبداللَّه - فيما نقل الزمخشري - "وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه: أمهلهم حتى انطلقوا أذَّن مؤذِّن"، وفي نَقْل ابن عطية "وجعل" بزيادة واوٍ في "جَعَل"، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ}، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكونَ جوابُ "لمَّا" محذوفاً تقديره: فَقَدها حافظُها، كما قيل: إنما أوحيَ لى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحه الطبري. وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول".
(9/45)
---(1/3500)
قلت: لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبداللَّه، إنما جعل الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله: "رَحْل أخيه" تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده، وهذا نصُّه: قال الزمخشري: "وقرأ ابن مسعود "وجَعَل السِّقاية" على حَذْفِ جواب "لمَّا" كأنه قيل: فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن" فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة عن عبداللَّه، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة.
والسِّقاية: إناءٌ مستطيل يُسْقَى به وهو الصُّواع، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل.
قوله: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} منادَى حُذِلإَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث، ولذلك أتَتْ "أيّ" المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه. والعِيْر فيها قولان، أحدهما: أنها في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر، أي: تَذْهَبُ وتجيء به. والثاني: أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر، والعَيْر: والعَيْر: الحمار. قال:
2808 - ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به * إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ والوَتِدُ
(9/46)
---(1/3501)
والأصل: عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل بـ"بِيض"، والأصل: بُيْض بضم الأول، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميراً كنَّ أو غيرَها، وعلى كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها. ونَظَّره الزمخشري بقوله: "يا خيلَ اللَّهِ اركبي"، إلا أنه في هذه الآية التفت إلى المضاف المحذوف في قوله: "إنكم لسارقون" ولم يَلْتفت إليه في "يا خيل اللَّه اركبي"، ولو التفت لقال: اركبوا. ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف، بل من مجازِ العَلاقة. وتجمعه العرب قاطبةً، على عَيَرات بفتح الياء، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه؛ لأن فِعْلَة المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو: قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن تُسَكَّن عينُه. وقال امرؤ القيس:
2809 - غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ * فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
وقال الأعلم الشنتمري: "العِيَرات هنا: مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر" قلت: وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على "أعْيار" أيضاً جمعَ تكسير، وقد نَصُّوا على ذلك. قيل: ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:
2810 - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ * ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ
قالوا: فجمع بوقاً على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق.
* { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ }
قوله تعالى: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ}: هذه الجملة حالية من فاعل "قالوا"، أي: قالوا وقد أقبلوا، يعني في حال إقبالهم عليهم.
(9/47)
---(1/3502)
قوله: {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ أولَ هذا الموضوع. وقرأ العامَّةُ "تَفْقِدون" بفتح حرف المضارعة؛ لأنَّ المستعملَ منه "فَقَد" ثلاثياً. وقرأ السُّلَمي بضمِّه مِنْ أَفْقَدْتُه إذا وجدتَه مفقوداً كَأَحْمَدْته وأَبْخَلْتُه، أي: وَجَدْتُه محموداً بخيلاً. وضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ووَجْهُها ما ذَكَرْتُه.
* { قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }
قوله تعالى: {صُوَاعَ}: هو المِكْيال وهو السِّقاية المتقدمة سَمَّاه تارةً كذا وتارةً كذا، وإنما اتُّخِذ هذا الإِناء مكيالاً لعِزَّة ما يُكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءاتُ كثيرةٌ كلُّها لغاتٌ في هذا الحرفِ، ويذكَّر ويؤنَّث:
فالعامَّةُ "صُواع" بزنة غُراب، والعين مهملة. وقرأ ابن جبير والحسن كذلك إلا أنه بالغين معجمةً. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه حَذَفَ الألف وسكَّن الواو، وقرأ زيد / بن علي "صَوْغ" كذلك، إلا أنه فتح الصاد جعله مصدراً لصاغ يَصُوغ، والقراءتان قبله مشتقتان منه، وهو واقع موقعَ مفعولٍ، أي: مَصُوغ المَلِك. وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن في روايةٍ عنهما "صِواع" كالعامَّة لا أنهم كسروا الفاء.
وقرأ أبو هريرة ومجاهد "صَاعَ" بزنة باب، وألفه كألفه في كونِها منقلبةً عن واوٍ مفتوحة. وقرأ أبو رجاء "صَوْعَ" بزنة "قَوْسٍ". وقرأ عبداللَّه بن عون كذلك إلا أنه ضمَّ الفاءَ فهذه ثمانِ قراءات متواتِرُها واحدةٌ.
* { قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }
(9/48)
---(1/3503)
قوله تعالى: {تَاللَّهِ}: التاءُ حرفُ قسمٍ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم، ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قولٍ ضعيف. ولو قلت: تالرحيم لم يَجُزْ. وهي فرع الفرع. هذا مذهبُ الجمهور، وزعم السهيلي أنها أصل بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالباً كقوله تعالى: {تَالله تَفْتَؤُاْ} وقال ابن عطية: "والتاء في "تاللَّه" بدلٌ من واو، كما أُبْدِلت في "تُراث" وفي "التوراة" وفي "التُّخَمَة"، ولا تدخل التاء في القسم، إلا في المكتوبة من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك، لا تقول: تالرحمن، وتالرحيم". وقد عرفْتَ أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلاً من واو. وأمَّا قولُه: "وفي التوراة" يريد عند البصريين. وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة. وأمَّا قوله: "إلا في المكتوبة" هذا هو المشهور. وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك.
قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يُحْتمل أن يكونَ جواباً للقسم، فيكونون قد أَقْسموا على شيئين: نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة.
وقوله: {مَّا جِئْنَا} يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقاً للعلم، ويجوز أن يُضَمَّنَ العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم. وقيل: هذان الوجهان في قولِ الشاعر:
2811 - ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي * إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها
* { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ }
قوله تعالى: {فَمَا جَزَآؤُهُ}: الهاء تعودُ على الصُّواع، ولا بد من حَذْفِ مضاف أي: فما جزاءُ سَرِقته. و "إنْ كنتم" يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفاً أو متقدِّماً.
* { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
(9/49)
---(1/3504)
قوله تعالى: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ}: أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ "جزاؤه" مبتدأً والضميرُ للسارق، و "مَنْ" شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و "مَنْ" وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول، قاله ابن عطية، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه. وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه. "ويجوز أن يكونَ "جزاؤه" مبتدأً، والجملةُ الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر. والأصل: جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضِعَ "هو" كما تقول لصاحبك: مضنْ أخو زيد؟ فيقول لك: "أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه، فهو هو" يرجع الضمير الأول إلى "مَنْ" والثاني [إلى] الأخر، ثم تقول: فيهو أخوه، مقيماً للمظهر مقام المضمر".
والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية. ثم قال: "ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو: زيدٌ قام زيد، ويُنَزَّه عنه القرآنُ، قال سيبويه: "لو قلت: "كان زيدٌ منطلقاً زيد" لم يكن حَدَّ الكلام، وكان ههنا ضعيفاً ولم يكنْ كقولِك: ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغَنَيْتَ عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه". قلت: ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بَنَى الزمخشري.
(9/50)
---(1/3505)
وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال: "والوجه الثالث: أن يكونَ "جزاؤه" مبتدأً، و "مَنْ وُجد" مبتدأ ثان، و "فهو" مبتدأٌ ثالث، و "جزاؤه" خبر الثالث، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة، وعلى الثاني "هو" انتهى. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ، إذ يصير التقديرُ: فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل "هو" عبارةً عن المبتدأ الثاني، وهو {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ}، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في "جزاؤه" الأخير عائدةً على "جزاؤه" الأولِ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون "جزاؤه" مبتدأً، والهاءُ تعود على المسروق، و {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و "مَنْ" بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله، كذلك كانت شريعتُهم: يُسْتَرَقُّ السارق، فلذلك اسُْفْتوا في جزائه. وقوله "فهو جزاؤه" تقرير للحكم أي: فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك: حَقُّ زيدٍ أن يثكسَى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه، فذلك حَقُّه" أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ / ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه، قاله الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال: "والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله، وقوله: "فهو جزاؤه" مبتدأ وخبر، مؤكِّد لمعنى الأول".
(9/51)
---(1/3506)
ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال: "وقال معناه ابن عطية، إلا أنه جعل القول الواحد قولين، قال: "ويَصِحُّ أن يكونَ "مَنْ" خبراً على أن المعنى: جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله، - عائد على "مَنْ" - ويكون قوله: "فهو جزاؤه" زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ"، ثم قال: "ويُحتمل أن يكونَ التقدير: جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله: جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب" قلت: وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين.
الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة: أن يكون "جزاؤه" خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: المسؤول عنه جزاؤه، ثم أَفْتَوا بقولهم: "مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه" كما يقول مَنْ يَسْتَفتي في جزاء صيد المُحْرِم: جزاءُ صيد المُحْرِم، ثم يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله: "المسؤول عنه جزاؤه" على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله: "فما جزاؤه" أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي".
قلت: قوله: "ليس فيه كبيرُ فائدة" ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثالُ ذلك.
(9/52)
---(1/3507)
الوجه الرابع: أن يكونَ "جزاؤه" مبتدأ، وخبرُه محذوف تقديره: جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما، ويكون قولُه: "مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله، وبهذا لوجه بدأ أبو البقاء، ولم يذكرْه الشيخ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ، وتقدَّم الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً، ولكن لا تحقيقَ لذلك، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك.
قوله: {كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} محل الكاف نصب: إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر محذوف، وإمَّا حالٌ من ضميره، أي: مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين.
* { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }
وقرأ العامَّة: "وِعاء" بكسر الواو، وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نُقِلَتْ عن نافع أيضاً. وقرأ سعيد بن جبير "مِنْ إعاء" بإبدالِ الواوِ همزةً، وهي لغة هُذَيْلية: يُبْدلون من الواو المكسورة أولَ الكلمة همزة فيقولون: إشاح وإسادة وإعاء في: وشاحٍ ووِسادة ووِعاء. وقد تقدَّم ذلك في الجلالةِ المعظمة أولَ هذا الموضع.
(9/53)
---(1/3508)
قوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} في الضمير المنصوب قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على الصُّواع، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم. وقيل: بل لأنه حَمِل على معنى السقاية. وقال أبو عبيد: "يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى "سقاية"، ويُذكَّر من حيث هو صُواع". قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع التأنيثَ. وقال الزمخشري: "قالوا: رَجَع بالتأنيث على السِّقاية" ثم قال: "ولعل يوسف كان يُسَمِّيه "سِقاية" وعبيدَ "صُواعاً" فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم صواع". قلت: هذا الأخيرُ حَسَنٌ.
الثاني: أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة. وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج، إلا بمجازٍ.
قوله: {كَذالِكَ كِدْنَا} الكلامُ في الكاف كالكلام فيما قبلها أي: مثلَ ذلك الكَيْدِ العظيم كِدْنا ليوسُفَ أي: عَلَّمْناه إياه. وقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ} تفسيرُ للكيد وبيان له، وذلك أنه كان في دينِ مَلِك مِصْرَ أن يُغَرَّمَ السارقُ مِثْلَيْ ما أَخَذَ، لا أنه يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ تقديرُه: ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك، وهو دينُ آلِ / يعقوب: أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق. الثاني: أنه مفرغٌ من الأحوال العامة، والتقدير: ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك.
وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال: "والاستثناء حكاية حال، التقدير: إلا أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة".
(9/54)
---(1/3509)
وتقدَّم القراءتان في {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ}. وقرأ يعقوب بالياء مِنْ تحت في "يرفع" و "يشاء"، والفاعل اللَّه تعالى: وقرأ عيسى البصرة "نَرْفع" بالنون "درجات" منونة، "يشاء" بالياء. قال صاحب "اللوامح": "وهذه قراءةٌ مرغوبٌ عنها تلاوةً وجملة، وإن لم يمكنْ إنكارُها" قلت: وتوجيهُها: أنه التفتَ في قولِه "يشاء" من التكلم إلى الغَيْبة، والمرادُ واحد.
قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قرأ عبداللَّه بن مسعود "وفوق كل ذي عالم" وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن يكون "عالم" هنا مصدراً، قالوا: مثل "الباطل، فإنه مصدرٌ فهي كالقراءة المشهورة. الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافاً محذوفاً تقديرُه: وفوقَ كلِّ ذي مُسَمَّى عالم، كقول لبيد:
2812 - إلى الحَوْلِ ثم اسمِ السَّلامِ عليكما * ...................
أي: مُسَمَّى السلام. الثالث: أنَّ "ذو" زائدة، كقول الكميت:
2813 - إليكم ذوي آلِ النبيِّ ...... * .................
البيت.
* { قَالُوااْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ }
قوله تعالى: {فَقَدْ سَرَقَ}: الجمهور على "سَرَق" مخففاً مبيناً للفاعل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين "سُرِّق" مشدداً مبنياً للمفعول أي: نُسِب إلى السَّرِقة. وفي التفسير: أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتِّشوا فوجدوها تحت ثيابه. فقال: هو لي فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم، وهذه القراءةُ منطقية على هذا.
قوله: {فَأَسَرَّهَا} الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي: فَأَسَرَّ الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} كقول الشاعر:
(9/55)
---(1/3510)
2814 - أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى * إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
والضمير في "حَشْرَجَتْ" يعود على النفس، كذا ذكره الشيخ، وقد جعل البيتَ مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضميرن فلا يكون مما فُسِّر فيه بالسياق. ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ.
وقال الزمخشري: "إضمارٌ على شريطة التفسير، تفسيره {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً}، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه "شَرٌ مكاناً" جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً}، لأنَّ قولَه: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} بدلٌ مِنْ أَسَرَّها". قلت: وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير المرفوع نحو: ضربته زيداً، والصحيح وقوعه، كقوله:
2815 - فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا
وقرأ عبداللَّه وابن أبي عبلة: "فَأَسَرَّه" بالتذكير. قال الزمخشري: "يريد القول أو الكلام". وقال أبو البقاء: "المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة ، وقد دَلَّ عليه الكلامُ، وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ: قال في نفسه: أنتم شرٌّ مكاناً، وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ". قلت: ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال: فإنَّ القرآنَ يُنَزَّهُ عنه.
قوله: {مَّكَاناً} تمييزٌ أي: منزلةً من غيركم.
* { قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {مَكَانَهُ}: فيه وجهان أحدهما: - وهو الظاهر - أنَّ "مكانَه" نصب على الظرفِ، والعامل فيه "خُذْ". والثاني: أنه ضَمَّن "خُذْ" معنى "اجْعَلْ" فيكونُ "مكانَه" في محل المفعول الثاني. وقال الزمخشري: "فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد".
(9/56)
---(1/3511)
* { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ}: هذه حرفُ جوابٍ وجزاء، وتقدم الكلامُ على أحكامِها.
* { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوااْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِيا أَبِيا أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
قوله تعالى: {اسْتَيْأَسُواْ}: استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال: يَئِس واستيئس بمعنىً، نحو عَجِب واستعجب، وسَخِر واستخسر. وقال الزمخشري: "وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في "استعصم".
وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه "اسْتَاْيَسوا" بألفٍ بعد التاء ثم ياء، وكذلك في هذه السورة: "لا تايَسوا"، إنه لا يايَس {إذا اسْتايَسَ الرسلُ}، وفي الرعد: {أفلم يايَسِ الذين} الخلافُ واحد. فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال: يَئِس، فالفاء ياء، والعين همزة، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال: أَيِس، ويدلُّ على ذلك شيئان، أحدُهما: المصدرُ الذي هو اليَأْس. والثاني: أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه، وقراءةُ ابن كثير من هذا، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس، / وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة، وهذا كما تقدم أنه يقرأ "القرآن" بالألف، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ.
(9/57)
---(1/3512)
وقال أبو شامة - بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ - : "وكذلك رُسِمَتْ في المصحف" يعني كما قرأها البزي، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة. وقال أبو عبداللَّه: "واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ "يابَس" "ولا تايَسُوا" بالألف، ورُسِم الباقي بغير ألف" قلت: وهذا هو الصوابُ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه.
قوله: {نَجِيّاً} حال مِنْ فاعل "خلَصوا" أي: اعتزلوا في هذه الحالِ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ: إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر، كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي: مُناجِياً، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً، يقال: هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوى بمعناه، قال تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورُ في "رجل عَدْل" وبابه، ويُجمع على "أَنْجيَه" وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء. ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر:
2816 - إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ
وقول الآخر - وهو لبيد -:
2817 - وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً * كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ
وجَمْعُه كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة.
قوله: {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة، أحدها: - وهو الأظهر - أنَّ "ما" مزيدةٌ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها، والتقدير: ومِنْ قبلِ هذا فَرَّطْتم، أي: قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه، وزيادةُ "ما" كثرةٌ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه.
(9/58)
---(1/3513)
الثاني: أن تكونَ "ما" مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ الظرف المتقدم. قال الزمخشري: "على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء، والخبرُ الظرفُ، وهو "مِنْ قبل"، والمعنى: وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف، وإلى هذا نحا ابنُ عطية أيضاً فإنه قال: "ولا يجوز أن يكونَ قوله "مِنْ قَبلُ" متعلقاً بـ"ما فَرَّطْتُمْ"، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً، والتقدير: مِنْ قبلُ تفريطُكم في يوسف واقعٌ أو مستقرٌ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه "مِنْ قبل". قال الشيخ: "وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنى واحد وهو أنَّ "ما فَرَّطْتُمْ" يُقَّدرُ بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء، و "مِنْ قبل" في موضعِ الخبرِ، وذَهِلا عن قاعدةٍ عربية - وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا - وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول: "يومُ السبت مباركٌ، والسفر بعده"، ولا تقول: "والسفر بعدُ، وعمرو وزيد خلفَه"، ولا يجوز: "زيد وعمرو خلفُ" وعلى ما ذكراه يكون "تفريطكم" مبتدأً، و "من قبل" خبر [وهو مبني] وذلك لا يجوز، وهو مقرر في علم العربية".
(9/59)
---(1/3514)
قلت: قوله "وحُق لهما أن يَذْهلا" تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما من العلم. وأمَّا قولُه "إنَّ الظرف المقطوعَ لا يعق خبراً فمُسَلَّمٌ، قالوا لأنه لا يفيد، وما لا يفيد فلا يقع خبراً، ولذا لا يقع. صلةً ولا صفةً ولا حالاً، لو قلت: "جاء الذي قبلُ"، أو "مررت برجل قبلُ" لم يجز لِما ذكرت. ولقائلٍ أن يقولَ: إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف إليه المحذوف، فينبغي - إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه - أن يقع ذلك الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره. ثم هذا الردُّ الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال: "وهذا ضعيفٌ؛ أنَّ "قبل" إذا وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقى ناقصة".
الثالث: أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر هو قولُه: "في يوسف"، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، كأنه اسْتَشْعر أن الظرفَ المقطوعَ / لا يقع خبراً فعدل إلى هذا، وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى يجريان إلى تعلُّق "في يوسف" بـ"فَرَّطْتُم" فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه.
الرابع: أنها مصدريةٌ أيضاً، ولكن محلَّها النصبُ على أنها مسنوقةٌ على {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ}، أي: ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في يوسف. قال الزمخشري: "كأنه قيل: ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف". وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً.
(9/60)
---(1/3515)
قال الشيخ: "وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف، فصار نظير: "ضربتُ زيداً وبسيفٍ عمراً"، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر". قلت: "هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال: "وقيل: هو ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء.
ثم قال الشيخ: "وأمَّا تقديرُ الزمخشري "وتفريطم من قبل في يوسف" فلا يجوزُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز". قلت: ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر كما ترى، وكذا هو في سار النسخ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً واضحاً، فإنَّ "من قبلُ" متعلقٌ بفَرَّطْتُم، وقد تقدم على "ما" المصدرية، وفيه خلافٌ مشهور.
الخامس: أن تكون مصدريةً أيضاً، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم "أنَّ"، أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر "أنَّ" هذه المقدرة وجهان، أحدهما و "من قبلُ"، والثاني هو "في يوسف"، واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما. ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه.
(9/61)
---(1/3516)
السادس: أن تكونَ موصولةً اسميةً، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في المصدرية، قال الزمخشري: "بمعنى: ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه، أي: قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين". قلت: يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها "من قبل"، ونصبَها عطفاً على مفعول "ألم تعلموا"، فإنه لم يَذْكِر في المصدرية غيرَهما. وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به عليهما وما قيل في جوابه. فتحصلَّ في "ما" ثلاثة أوجه: الزيادةُ، وكونُها مصدريةً، أو بمعنى الذي، وأنَّ في محلِّها وجهين: الرفعَ أو النصبَ، وقد تقدم تفصيلُ ذلك كلِّه.
قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} "بَرِحَ" هنا تامة ضُمِّنت معنى "أفارق" فـ"الأرض" مفعولٌ به، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين، لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب، ومنه "بَرِح الخَفاء"، أي: ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة "في" تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز: ذهبت الأرض، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ ظرفاً". قلت: ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ "لا"، وكان: "ولا يجوز أن تكون ظرفاً".
واعلمْ أنه لا يجوز في "أبرح" هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير الذي فيها ومن "الأرض" مبتدأ أو خبر، ألا ترى أنك لو قلت: "أنا الأرض" لم يَجُزْ من غير "في"؛ بخلاف "أنا في الأرض" و "زيد في الأرض".
(9/62)
---(1/3517)
قوله: {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ} في نصبه وجهان، أحدهما: - وهو / الظاهر - عَطْفُه على "يَأْذَن". والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار "أنْ" في جواب النفي وهو قوله "فلن أبرح"، أي: لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقوله: "لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيني حقي"، أي: إلا أن تقضيني. قال الشيخ: "ومعناه ومعنى الغاية متقاربان". قلت: وليس المعنى على الثاني، بل سياقُ المعنى على عطفِه على "يَأْذن" فإنه غَيَّى الأمرَ بغايتين، أحدهما خاصة، وهي إِذْن اللَّه، والثانية عامة؛ لأن إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه.
* { ارْجِعُوااْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ }
وقرأ العامَّةُ "سَرَقَ" مبنياً للفاعل مخففاً، وابن عباس وأبو رزين والكسائي - في ورايةٍ - "سُرِّق" مبنياً للمفعول مشدداً، وقد تقدَّم توجيههُما.
وقرأ الضحاك "سارِق" جعله اسم فاعل.
* { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِيا أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }
قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}: يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: - وهو المشهور - أنه على حَذْفِ مضاف تقديره: واسأل أهلَ القرية وأهلَ والعير، وهو مجازٌ شائع. قاله ابن عطية وغيره. قلت: وهذا على خلفاٍ في المسألة: هل الإِضمارُ من باب المجاز أو غيرِه؟ المشهورثُأنه قسم منه وعليه أكثر الناس. قال أبو المعالي: "قال بعض المتكلمين: "هذا من الحذفِ وليس من المجاز، [وإنما المجاز]: لفظةٌ استُعِيرَتْ لغير ما هي له" قال: "وحَذْفُ المضاف هو عينُ المجازِ وعُظْمُه، هذا مذهب سيبويه وغيره"، وحَكَى أنه قولُ الجمهور. وقال فخر الدين الرازي: "إنَّ المجازَ والإِضمارَ قسما لا قسيمان، فهما متباينان".
الثاني: أنه مجازٌ، ولكنه من باب إطلاق اسمِ المحلِّ على الحالِّ للمجاورة كالزاوية.(1/3518)
(9/63)
---
الثالث: أنه حقيقةٌ لا مجاز فيه، وذلك أنه يجوز أن يسألَ القريةَ نفسَها والإِبل فتجيبه، لأنه نبيٌّ يجوز أن يطلق له الجماد والبهائم.
* { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ}: هذا الإِضراب لا بد له من كلامٍ قبلَه متقدَّمٍ عليه يُضْرِب هذا عليه، والتقدير: ليس الأمر كما ذكرتُمْ حقيقةً بل سَوَّلَتْ. وتقدَّم تفسيرُ مثلِ هذا وما بعده.
* { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ }
قوله تعالى: {يَاأَسَفَى}: الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفاً؛ لأن الصوتَ معها أَتَمُّ، ونداؤه على سبيل المجاز، كأنه قال: هذا أوانكَ فاحضر نحو {ياحَسْرَتَا}: وقيل: هذه ألفُ الندبة، وحُذِفَتْ هاءُ السكت وصلاً. قال الزمخشري: "والتجانس بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعاً غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع، ونحوه: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ} {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}{يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ}. قلت: ويُسَمَّى هذا النوع "تجنيس التصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى، وقد تقدَّم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد "مِن الحَزَن" بفتحتين، وقتادة بضمتين، والعامَّةُ بضمة وسكون، فالحُزْن والجَزَن كالعُدْم والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ.
و "كظيم": يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه: {وَهُوَ مَكْظُومٌ}وبه فسَّره الزمخشري.
* { قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ }
(9/64)
---(1/3519)
قوله تعالى: {تَفْتَؤُاْ}: هذا جوابُ القسم في قوله: "تاللَّهِ" وهو على حذفِ "لا"، أي: لا تَفْتَأ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلامِ الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول: "واللَّهِ أحبُّك" تريد: لا أحبكن وهو من التورية فإن كثيراً من الناسِ مبادِرٌ ذهنَه إلى إثبات المحبة. و "تَفْتأ" هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو الضمير، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله "تَذْكُرُ"، أي: لا تزال ذاكراً له، يقال: ما فتىء زيدٌ ذاهباً. قال أوس بن حجر:
2818 - فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها * سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً:
2819 - فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي * ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ
وعن مجاهد: "لا تَفْتُر"، قال الزمخشري: "كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين".
وفيها لغتان: فَتَأَ على وزن ضَرَب، وأَفْتَأَ على وزن أكرم، وتكون تامةً بمعنى سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه، وإنما هي هي "فَثَأ" بالثاء المثلثة. ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ "تفتؤ" / بالواو والقياس "تفتأ" بالألف، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخط الكريم أو القياس.
قوله: {حَرَضاً} الحَرَضُ: الإِشفاء على الموت يُقال منه: حَرَضَ الرجلُ يَحْرُض حَرَضاً بفتح الراء، فهو حَرِض بكسرها، فالحَرَضُ مصدر، فيجيء في الآية الأوجهُ في "رجل عَدْل" وقد تقدَّم مراراً، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على الجُثَث إطلاقاً شائعاً، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث تقول: هو حَرَضٌ، وهما حَرَض، وهم حَرَض، وهنَّ حَرَض، وهي حَرَض، ويقال: رجل حُرُض بضمتين نحو: جُنُب وشُلُل ويقال: أَحْرضه كذا، أي: أهلكه. قال الشاعر:
2820 - إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني * حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ
فهو مُحْرَض قال:
(9/65)
---(1/3520)
2821 - أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضاً * كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ
وقرأ بعضهم: "حَرِضاً" بكسر الراء. قال الزمخشري: "وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعاً". يعني بفتح الراء وكَسْرِها" وقرأ الحسن بضمتين، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل، وزاد الزمخشري "وغُرُب" قال الراغب: "الحَرَض: ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ فيه، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك حَرِض، قال تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} وقد أحرضه كذا، قال الشاعر: "أني امرؤ لجَّ" البيت. والحُرْضَةُ: مَنْ لا يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه، والتحريض: الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو: "قَدَّيْتُه"، أي: أَزَلْتُ عنه القَذَى، وأَحْرَضْتُه: أَفْسَدْتُه نحو: أَفْذَيْتُه، أي: جَعَلْتَ فيه القذى" انتهى.
والحُرُض: الأُشْنان لإِزالته الفسادَ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه، وشُذِوذُها كشذوذ مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة.
* { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
والبَثُّ أشدُّ الحزن كأنه لوقته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان، أي: يُفَرِّقُه ويُذيعه، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادة الدلالةُ على الانتشار. وجَوَّز فيه الراغب هنا وجهين، أحدهما: أنه مصدرٌ في معنى المفعول، قال: "أي غَمِّي الذي بَثَثْته عن كتمان، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري فيكون في معنى الفاعل.
وقرأ الحسن وعيسى "وحَزَني" بفتحتين، وقتادة بضمتين وقد تقدم.
* { يابَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
(9/66)
---(1/3521)
قوله تعالى: {فَتَحَسَّسُواْ}: أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، ويكون في الخير والشر. وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشر، ولذلك قال هنا "فتحسَّسُوا"، وفي الحجرات: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ}، وليس كذلك، فإنه قد قرىء بالجيم هنا. وتقدَّم الخلاف في قوله {وَلاَ تَيْأَسُواْ}. وقرأ الأعرج: "تَيْئَسوا".
والعامَّةُ على "رَوْح اللَّه" بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة بضم الراء. قال الزمخشري، "أي: مِنْ رحمتِه التي يحيا بها العباد". وقال ابن عطية: "وكأن معنى هذه القراءة: لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ معه رُوح اللَّه الذي وهبه، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى، ومِنْ هذا قول الشاعر:
2822 - وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ * .....................
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
2823 - وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ * وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه: {مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} و {عِنْدِ اللَّهِ} {مِن فَضْلِ اللَّهِ} تفسيرُ لا تلاوة.
وقال أبو البقاء: "الجمهورُ على فتح الراء، وهو مصدر في معنى الرحمة، إلا أنَّ استعمالَ الفعل منه قليل، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح، ويُقرأ بضم الراء وهي لغةٌ فيه. وقيل: هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب".
* { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }
قوله تعالى: {مُّزْجَاةٍ}: أي: مَدْفُوعة يَدْفَعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً}، أي: يَسُوقها بالريح، وقال حاتم الطائي:
2824 - لِيَبْكِ على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ * وأَرمَلَةٌ تُزْجي مع الليل أَرْمَلا
(9/67)
---(1/3522)
ويقال: أَزْجَيءتُ رديءَ الدرهم فَزُجِيَ، ومنه استعير "زَجَا الخراج يَزْجُو زَجَاءً"، وخَراجٌ زاجٍ، وقولُ الشاعر:
2825 - ................... * وحاجةٍ غيرِ مُزْجاةٍ من الحاجِ
أي: غير يسيرةً يمكن دَفْعُها وصَرْفها لقلة الاعتداد بها / فألف "مُزْجاةٌ" منقلبة عن واو.
وقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} يجوز أن يُراد به حقيقته من الآلة، وأن يُرادَ به المَكِيل فيكونَ مصدراً.
* { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ }
وقوله تعالى: {هَلْ عَلِمْتُمْ}: يجوزُ أن يكونَ استفهاماً للتوبيخ وهو الأظهرُ. وقيل: هو خبر، و "هل" بمعنى قد.
* { قَالُوااْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {أَإِنَّكَ}: قرأ ابن كثير، إنَّك" بهمزة واحدة والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد عَرَفْتَ قراءاتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً وتسهيلاً وغيرَ ذلك. فأمَّا قراءة ابن كثير فيحتمل أن تكون خبراً محضاً، واسُبْعِد هذا مِنْ حيث تخالُفُ القراءتين مع أن القائلَ واحد، وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضَهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن تكونَ استفهاماً حُذِفَت منه الأداة لدلالة السياق، والقراءةُ الأخرى عليه. وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في الأعراف. و "لأَنْتَ" يجوز أن تكونَ "أنت" مبتدأً و "يوسف" خبرُه، والجملة خبر "إنَّ" دَخَلَتْ عليها لامُ الابتداء. ويجوز أن يكونَ فصلاً، ولا يجوز أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ؛ لأنَّ هذه اللامَ لا تَدْخُل على التوكيد.
(9/68)
---(1/3523)
وقرأ أُبَيّ: "أإنك أو أنت يوسف"، وفيها وجهان، أحدهما ما قاله أبو الفتح: من أن الأصل أإنك لغيرُ يوسف أو أنت يوسفُ، فحذف خبر "إن" لدلالة المعنى عليه. الثاني ما قاله الزمخشري: وهو إنك يوسفُ أو أنت يوسف "فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كلامُ متعجبٍ مُسْتَغْرِبٍ لِما يَسْمع فهو يكرِّر الاستثباتَ".
قوله: {يَتَّقِ} قرأ قنبل "يَتَّقي" بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما. وأمَّا قراءةُ الجماعة فواضحة لأنه مجزوم. وأما قراءةُ قنبل فاخْتَلَفَ فيها الناسُ على قولين، أجودهما: أنَّ إثباتَ حرفِ العلة في الحركة لغةٌ لبعض العرب، وأنشدوا على ذلك قولَ قيس ابن زهير:
2826 - ألم يأتيك والأنباء تَنْمي * بما لاقَتْ لَبونُ بني زياد
وقول الآخر:
2827 - هَجَوْت زَبَّانَ ثم جِئْتَ مُعْتَذِراً * مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقول الآخر:
2828 - إذا العجوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ * ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
ومذهبُ سيبويه أنَّ الجزمَ بحذف الحركة المقدرة، وإنما تبعها حرفُ العلة في الحذف تَفْرِقةً بين المرفوع والجزوم. واعتُرض عليه بأنَّ الجازم يُبَيِّن أنه مجزوم، وعَدَمَه يبيَّن أنه غير مجزو/. وأجيب بأنه في بعض الصور يُلْبِس فاطَّرَدَ الحَذْفُ، بيانُه أنك إذا قلت: "زُرْني أعطيك" بثبوت الياء احتمل أن يكون "أعطيك" جزاءً لزيارته، وأن يكونَ خبرا مستأنفاً، فإذا قلت: "أُعْطك" بحذفها تعيَّن أن يكونَ جزاءً له، فقد وقَع اللَّبْسَ بثبوت حرف العلة وفُقِد بحَذْفِه، فيقال: حرفُ العلةُ يُحذف عند الجازم لا به. ومذهب ابن السَّراج أن الجازم أَثرَّ في نفسِ الحرف فحذفه، وفيه البحث المتقدم.
(9/69)
---(1/3524)
الثاني: أنه مرفوعٌ غير مجزومٍ، و "مَنْ" موصولةٌ والفعل صلتُها، وفلذلك لم يَحْف لامَه. واعْتُرِض على هذا بأنه قد عُطِف عليه مجزومٌ وهو قولُه "ويَصْبِرْ" فإنَّ قنبلاً لم يَقْرأه إلا ساكنَ الراء. وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات. وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} {يَأْمُرُكُمْ}. وأُجيب أيضاً بأنه جُزِم على التوهُّم، يعني لَمَّا كانت "مَنْ" الموصولةُ تُشْبه "مَنْ" الشرطية. وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال: فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي، ولا يقال للتوهُّم. وأجيب أيضاً بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مُجْرى الوقفِ. وأُجيب أيضاً بأنه إنما جُزم حملاً لـ"مَنْ" الموصولة على "مَنْ" الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاء في خبرها.
قلت: وقد يُقال على هذا: يجوز أن تكونَ "مَنْ" شرطيةً، وإنما ثَبَتَت الياءُ، ولم تَجْزِمْ "مَنْ" لشببها بـ"مَنْ" الموصولة، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله "ويَصْبر" فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه. وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ} الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها.
أمَّا العموم:ُ في "المحسنين"، وإمَّا الضميرُ المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل: مُحْسِنيهم، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير.
* { قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ }
(9/70)
---(1/3525)
قوله تعالى: {آثَرَكَ}: أي: "تَفَضَّل عليك، والإِيثار: التفضيلُ / بجميع أنواع العطايا، آثَره يُؤْثِره إيثاراً، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم، وفي الحديث "ستكون بعدي أثَرة"، أي: يَسْتأثر بعضكُم على بعض، ويقال: استأثر بكذا، أي: اختصَّ به، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه، قال الشاعر:
2829 - واللَّه أَسْماك سُماً مبارَكا * آثرك اللَّه به إيثارَكا
* { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قوله تعالى: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}: "عليكم" يجوز أن يكون خبراً لـ"لا"، و "اليومَ": يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر، أي: لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ. ويجوز أن يكون "عليكم" صفةً لاسم "لا"، و "اليوم" خبرُها أيضاً، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ بـ"تَثْريب" لأنه يصير مُطَولاً شبيهاً بالمضاف، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو: "لا خيراً مِنْ زيد عندك"، ويزيدُ عليه الظرفُ: بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصول ومعموله بأجنبي وهو "عليكم" لأنه: إمَّا خبر وإمَّا صفة.
وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقاً بـ"تَثْريب" فقال: "فإنْ قلت: بِمَ يتعلَّق "اليوم"؟ قلت: بالتثريب أو بالمقدَّر في "عليكم" من معنى الاستقرار، أو "يَغْفر". قلت: فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ بـ"تَثْريب" فيه ما تقدم. وقد أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون، وجعل الفارسي من ذلك قوله:
2830 - أراني ولا كُفْرانَ للَّه أيَّةً * لنفسي، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ
(9/71)
---(1/3526)
قال: "فأيَّةً منصوب بكُفْران، أي: لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي. ولا يجوزُ أن تُنْصب "أيَّةً" بأَوَيْت مضمراً؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي "أرى" بجملتين: أي بـ"لا" وما في حَيَّزها، و بـ"أَوَيْت" المقدرة. ومعنى أَوَيْت رَقَقْت. وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث "لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل" برفع "يومٌ" على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا.
وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه، وابتدأ بـ{يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}، وأمَّا تعليقُه بـ"يَغْفر" فواضِحٌ أيضاً ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على "عليكم" وابتدأ {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}، وجوَّزوا أن يكونَ "عليكم" بياناً كـ"لك" محذوفاً، و "عليكم" و "اليوم" كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه "تثريب"، والتقدير: لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ، كما قَدَّروا في {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ. قال الشيخ: "لو قيل به لكان قوياً".
وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر، وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازاً كقولهم: "شعرٌ شاعر" بخلاف "عاصم يَعْصِم" فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز.
(9/72)
---(1/3527)
والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به، وفي الحديث: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ"، أي: لا يُعَيِّر، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد، فإذا قلت: "ثَرّبْتُ فلاناً" فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت فضُرِب مَثَلأاً في تمزيق الأعراض.
وقال الراغب: "ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم "الثَّرْب" وهو شَحْمة رقيقة، وقولُه تعالى: {ياأَهْلَ يَثْرِبَ} يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة".
* { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ }
قوله تعالى: {بِقَمِيصِي}: يجوز أن يتعلق بما قبله على أنَّ الباءَ مُعَدِّيَةٌ / كهي في "ذهبْتُ به"، وأن تكون للحال فتتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: اذهبوا معكم قميصي. و "هذا" نعت له أو بيان أو بدل، و "بصيراً" حال. و "أجمعين" تأكيدٌ، وقد أُكِّد بها دون "كل"، ويجوز أن تكونَ حالاً.
* { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }
قوله تعالى: {تُفَنِّدُونِ}: التَّفْنيد: الإِفساد، يقال: فَنَّدت فلاناً، أي: أَفْسَدْت رأيَه ورَدَدْته، قال:
2831 - يا صاحِبيَّ دَعَا لَوْمي وتَفْنيدي * فليسَ ما قُلْتُ من أمرٍ بمَرْدُودِ
ومنه "أَفْنَدَ الدهرُ فلاناً" قال:
2832 - دَعِ الدهرَ يَفْعَلُ ما أرادَ فإنه * إذا كُلِّفَ الإِفنادَ بالناسِ أفندا
والفَنَدُ: الفساد، قال النابغة:
2833 - إلاَّ سليمانَ إذ قال الإِلهُ له * قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد
(9/73)
---(1/3528)
والفِنْد: شِمْراخ الجبل وبه سُمِّي الرجل فِنْداً، والفِنْدُ الزمانيُّ أحدُ شعراء الحماسة من ذلك. وقال الزمخشري: "يقال: شيخ مُفَنَّد ولا يقال: عجوز مُفَنَّدة لأنهما لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنَّد في كبرها" وهو غريبٌ. و جوابُ "لولا" الامتناعية محذوفٌ تقديرُه لَصَدَّقْتُموني. ويجوز أن يكونَ تقديرُه: لأَخْبَرْكم.
* { فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله تعالى: {أَلْقَاهُ}: الظاهر أنَّ الفاعلَ هو ضمير البشير. وقيل: هو ضميرُ يعقوب. وفي "بصيراً" وجهان، أحدهما: أنه حال أي: رَجَع في هذه الحال. والثاني: أنه خبرها لأنها بمعنى صار عند بعضهم. وبَصير مِنْ بَصُر بالشيء، كظريف مِنْ ظَرُف. وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ كعليم. وفيه دلالةٌ على أنه لم يذهب بَصَرُه بالكليَّة.
* { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيا إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيا إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
وقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ}: من باب التغليب، يريد أباه وأمَّه - أو خالتَه -. و "سُجَّداً" حال. قال أبو البقاء: "حالٌ مقدرة؛ لأنَّ السجود يكون بعد الخُرور" وفيه نظرٌ لأنه متصلٌ به غيرُ متراخٍ عنه.
(9/74)
---(1/3529)
قوله: {مِن قَبْلُ} يجوز أنْ يتعلق بـ"رُؤْياي"، أي: تأويل رُؤْياي في ذلك الوقت. ويجوز أنْ يكونَ العاملُ فيه "تَأْويل" لأنَّ التأويلَ كان مِنْ حينِ وقوعِها هكذا، والآن ظهرَ له، ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ "رُؤْياي" قاله أبو البقاء، وقد تقدم أنَّ المقطوعَ عن الإِضافةِ لا يقع حالاً.
قوله: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي} حالٌ من "رؤياي" ويجوز أن تكون مستأنفة. وفي "حقاً" وجوه أحدُها: أنه حال. والثاني: أنه مفعولٌ ثان. والثالث: أنه مقدرٌ مؤكد للفعل من حيث المعنى، أي: حَقَّقها ربي حَقَّاً بجَعْلِه.
قوله: {أَحْسَنَ بَيا} "أَحْسَنَ" أصله أن يتعدَّى بـ"إلى". قال: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فقيل: ضُمِّن معنى لَطُف فتعدَّى بالباء كقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقولِ كثيرِّ عَزَّة:
2834 - أَسِيْئِي بنا أو أَحْسِني لا مَلُوْمَةً * لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ
وقيل: بل يَتَعَدَّى بها أيضاً. وقيل: هي بمعنى "إلى". وقيل: المفعولُ محذوفٌ: "أَحْسَنَ صُنْعَه بي"، فـ"بي" يتعلَّق بذلك المحذوفِ، وهو تقدير أبي البقاء. وفيه نظر؛ من حيث حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله، وهو ممنوعٌ عند البصريين. و "إذ" منصوبٌ بـ"أَحْسَنَ" أو المصدرِ المحذوف قاله أبو البقاء، وفيه النظر المتقدم.
والبَدْوُ: ضد الحضارة وهو مِن الظهور، بدا يبدوا: إذا سكن البادية، "إذا بَدَوْنا جَفَوْنا" يُرْوَى عن عمر، أي: تخلَّقْنا بأخلاقِ البدويين.
قوله: {لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} لَطُفَ أصلُه أن يتعدَّى بالباء، وإنما تَعَدَّى باللام لتضمُّنِه معنى مُدَبِّر، أي: أنت مُدَبِّر بلطفك لِما تَشاءِ.
* { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }
(9/75)
---(1/3530)
وقرأ عبداللَّه: "آتَيْتَنِ" و "عَلَّمْتَنِ" بغير ياءٍ فيهما، وحكى ابن عطية: أنَّ أبا ذر قرأ: "أتيتني" بغير ألفٍ بعد الهمزة و "مِنْ" في "مِن المُلْك" وفي "مِنْ تأويل" للتبعيض، والمفعولُ محذوفٌ، أي: عظيماً من الملك فهي صفة لذلك المحذوفِ وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان.
و "فاطر" يجوز أن يكونَ نعتاً لربّ، ويجوز أنْ يكون بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمار أَعْني أو نداءً ثانياً.
* { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوااْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }
قوله تعالى: {ذَلِكَ}: مبتدأ، و {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ} خبره، و "نُوحيه" حال. ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر. وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ موصولاً بمعنى الذي. وقد تقدَّم نظيرُه. و "هم يَمْكُرون" حال.
* { وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }
[قوله:] {وَلَوْ حَرَصْتَ}: معترضٌ بين "ما" وخبرها. وجوابُ "لو" محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه.
* { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }
و [قوله]: {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}: حال.
* { أَفَأَمِنُوااْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
وقوله تعالى: {مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ}: صفةٌ لـ"غاشية"، و "بَغْتة" حال وهو في الأصلِ مصدر، وتقدَّم نظيره.
(9/76)
---(1/3531)
والجمهور على جَرِّ "الأرض" عطفاً على "السموات" والضمير في "عليها" للآية فيكون "يمرُّون" صفة للآية أو حالاً لتخصُّصها بالوصفِ بالجار، وقيل: يعود الضمير في "عليها" على الأرض فيكون "يمرون" حالاً منها. وقال أبو البقاء: "وقيل منها ومن السموات"، أي: تكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز إذ كان يجب أن يقال "عليهما"، وأيضاً فإنهم لا يَمُرُّون في السموات، / إلا أن يُراد: يمرُّون على آياتهما، فيعودُ المعنى إلى عَوْد الضمير للآية. وقد يُجاب عن الأول بأنه مِنْ باب الحذف كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقرأ السدِّي "والأرضَ" بالنصب، ووجهُه أنه من باب الاشتغال، ويُفَسَّر الفعلُ بما يوافقه معنى أي: يطؤون الأرض، أو يسلكون الأرضَ يمرون عليها كقولك: "زيداً مررت به".
وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد: "والأرضُ" بالرفع على الابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعودُ على الأرض فقط.
وقرأ أبو حفص ومبشر بن عبيد: أو "يَأْتيهم الساعة" بالياء من تحت لأنه مؤنث مجازيٌّ وللفصلِ أيضاً.
* { قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِيا أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}: يجوز أن يكونَ مستأنفاً وهو الظاهر، وأن يكونَ حالاً من الياء. و "على بصيرة" حال من فاعل "أدعو" أي: أَدْعو كائناً على بصيرة.
قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطفٌ على فاعل "أدعو" ولذلك أكَّد بالضميرِ المنفصل في قوله "أنا"، ويجوز أن يكون مبتدأً والخبرُ محذوف، أي: ومَنِ اتَّبعني يَدْعو أيضاً. ويجوز أن يكون "على بصيرة" خبراً مقدماً، و "أنا" مبتدأ مؤخرٌ، و "ومَن اتَّبعني" عطفٌ عليه أيضاً. ومفعول "أدعو" يجوز أنْ لا يُراد، أي: أنا مِنْ أهل الدعاء إلى اللَّه، ويجوز أن يُقَدَّر: أنْ أدعوَ الناس.
(9/77)
---(1/3532)
وقرأ عبداللَّه "هذا سبيلي" بالتذكير وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنَّث.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيا إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {نُّوحِيا}: العامَّةُ على "يُوحَى" بالياء من تحت مبنياً للمفعول. وقرأ حفص "نوحي" بالنون مبنياً للفاعل اعتباراً بقوله "وما أَرْسَلْنا" وكذلك قرأ ما في النحل وما في أول الأنبياء، ووافقه الأخَوان على قوله: "نوحي إليه" في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. والجملة صفةٌ لـ"رجالاً". و {مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} صفة ثانية، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ استعمالاً؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة.
قوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} وما بعده قد تقدَّم في الأنعام.
* { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {حَتَّى}: ليس في الكلامِ شيءٌ تكون "حتى" غايةً له، فمِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه بـ"حتى"، فقدَّره الزمخشري: "وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى". بالعقاب حتى إذا". وقدَّره ابن الجوزي: "وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا". وأَحْسَنَهُا ما قدَّمْتُه.
(9/78)
---(1/3533)
وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله: "أفلم يسيروا" فقال: "ويتضمَّن قولُه "أفلم يسيروا" إلى "مِنْ قبلِهم" أنَّ الرسلَ الذين بعضهم اللَّه من أهل القرى دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيَّز مَنْ يُعْتبر بعاقبته، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل "حتى" في قوله: "حتى إذا". قال الشيخ: "ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد "حتى" غايةً له، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله: "أفلم يَسيروا". الآية". قلت: دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المُغَيَّى.
قوله: {كُذِبُواْ} قرأ الكوفيون "كُذِبوا" بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت: "معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها" وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.
وقد وَجَّها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في "وظنُّوا" عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، ولأن الرسلَ تَسْتدي مُرْسَلاً إليه. والضمير في "أنهم" و "كُذِبوا" عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.
(9/79)
---(1/3534)
الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه "حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا" انتهى / فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.
الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.
قال الزمخشري: "إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذي هم أعرفُ بربهم؟". قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.
(9/80)
---(1/3535)
وقال افارسي أيضا: "إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثله] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته". وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: "معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادّضعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم" فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: "لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً".
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: "أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك". قلت: وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم.
(9/81)
---(1/3536)
وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد "كَذَبوا" بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في "ظنُّوا" عائد على الأمم وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في "ظنُّوا" على الرسل وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} على المُرْسَل [إليهم]، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: - بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل - "ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم" فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: "وقرأ مجاهد "كَذَبوا" بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا".
قوله: {جَآءَهُمْ} جوابُ الشرط وتقدَّم الكلامُ في "حتى" هذه: ما هي؟
(9/82)
---(1/3537)
قوله: {فَنُجِّيَ} قرأ ابن عامر وعاصم / بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و "مَنْ" قائمة مقام الفاعل. والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ، والجيم خفيفة، والياء ساكنة على أنه مضارع أَنْجَى و "مَنْ" مفعولةٌ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه. وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنهم سَكَّنوا الياء. والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله:
2835 - .................... * قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه. وقيل: الأصل: ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم. على أنه قد قيل بذلك في قوله {نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} كما سيأتي بيانه.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: "رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلطٌ من ابن هبيرة" قلت: توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فنكر فتحَ لامِه وغلَّط روايَها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها: نصبُه بإضمار "أنْ" بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ} إلى أنْ قال: "فيغفر" قرىء بنصبه، وتقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً "فَنُنَجِّي" بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة، مضارع نجَّى مشدداً للتكثير. وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة "فنجا" فعلاً ماضياً مخففاً و "مَنْ" فاعله.
(9/83)
---(1/3538)
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر، و "مَنْ" مفعوله، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها "فنجي" بنونٍ واحدة نقله الداني. وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول.
وقرأ أبو حيوة "يشاء" بالياء، وقد تقدَّم أنه يقرأ "فنجا" أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته.
وقرأ الحسن "بأسَه"، والضمير للَّه، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد.
* { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي "قِصصهم" بكسر القاف وهو جمع قِصة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في "قصصهم" في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته. وحكى غيُه أنه يجوز أن يعوذ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً. قال الشيخ: "ولا تَنْصُره - يعني هذه القراءة - إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة وأنباء مختلفة".
(9/84)
---(1/3539)
قوله: {مَا كَانَ حَدِيثاً} في "كان" ضميرٌ عائد على القرآن، أي: ما كان القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً، وقيل: بل هو عائد على القصص أي: ما كان القصص المذكور في قوله "لقد كان في قَصَصِهم". وقال الزمخشري: "فإن قلت: فالإمَ يَرْجِع الضمير في {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} فينم قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً". قلت: لأنه لو عاد على "قِصصهم" بكسر القاف لوجب أن يكون "كانت" بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث، وإن كان مجازياً.
قوله: {وَلَاكِن تَصْدِيقَ} العامَّةُ على نصب "تصديق"، والثلاثة بعده على أنها منسوقةٌ على خبر كان أي: ولكن كان تَصْدِيْقَ. وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفي وعيسى الثقفي برفع "تصديق" وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديقٍ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع، قال ذو الرمة:
2836 - وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه * ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ
وعيسى الثقفي برفع "تصديق" وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديقٍ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع، قال ذو الرمة:
2836 - وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه * ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ
ولكنْ عطاءَ اللَّه من كل رحلةٍ * إلى كل محجوبِ السُّرادِقِ خِضْرَمِ
وقال لوط بن عبيد:
2837 - وإني بحمد اللَّه لا مالَ مسلمٍ * أخذْتُ ولا مُعْطي اليمينِ مُحالِفِ
ولكنْ عطاء اللِّهِ مْنِ مالِ فاجرٍ * قَصِيِّ المحلِّ مُعْوِرٍ للمَقارفِ
يُرْوى "عطاء اللَّه" في البَيتين منصوباً على "ولكن كان عطاء" ومرفوعاً على: ولكن هو عطاء اللَّه. وتقدَّم نظيرُ ما بقي من السورة فأغنى عن إعادته.(1/3540)
سورة الرعد
(9/85)
* { المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ}: يجوز في "تلك" أن تكونَ مبتدأً والخبرُ {آيَاتُ الْكِتَابِ}، والمشارُ إليه آياتُ السورة. والمرادُ بالكتابِ السورةُ. وقيل: إشارةٌ إلى ما قَصَّ عليه مِنْ أنباء الرسل.
وهذه الجملةُ لا محلَّ لها إن قيل: إنَّ "المر" كلامٌ مستقلٌ، أو قُصِد به مُجَرَّدُ التنبيهِ، وفي محلِّ رفعٍ على الخبرِ إنْ قيل: إنَّ "المر" مبتدأٌ، ويجوز أن تكونَ "تلك" خبراً لـ "المر"، و {آيَاتُ الْكِتَابِ} بدلٌ أو بيانٌ. وقد تقدَّم تقريرُ هذا بإيضاحٍ أولَ الكتاب، وأَعَدْتُه... .
قوله: {وَالَّذِيا أُنزِلَ} يجوز فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأً، و "الحقُّ" خبرُه. الثاني: أن يكون مبتدأً، و {مِن رَّبِّكَ} خبرُه، وعلى هذا فـ "الحقُّ" خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو الحق. الثالث: أنَّ "الحقُّ" خبرٌ بعد خبر. الرابع: أن يكونَ {مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} كلاهما خبرٌ واحدٌ. قاله أبو البقاءُ والحوفيُّ. [وفيه بُعْدٌ]؛ إذ ليس هو مثلَ "هذا حلوٌ حامِضٌ".
الخامس: أن يكون "الذي" صفةً لـ "الكتاب". قاله أبو البقاء: "وأُدْخِلَت الواوُ [في لفظه، كما أُدْخِلت] في "النازلين" و "الطيبين". قلت: يعني أن الواوَ تكونُ داخلةً على الوصف. وفي المسألة كلامٌ يحتاج إلى تحقيقٍ، والزمخشريُّ [يُجيز مثلَ ذلك، ويجعلُ أنَّ] في ذلك تأكيداً، وسيأتي هذا أيضاً إن شاء اللهُ تعالى في الحجر، في قوله {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} وقوله: "في النازلين" و "الطيبين" يشير إلى بيت الخِرْنِقِ بنت هَفَّان في قولها حين مَدَحَتْ قومَها:
2838- لا يَبْعَدَنْ قوميْ الذين هُمُ * سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ * والطيِّبين مَعاقِدَ الأُزْرِ
(9/86)
---(1/3541)
فعطَفَ "الطيبين" على "النازِلين"، وهما صفتان لقومٍ معنيين، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين الآيةِ والبيتِ واضحٌ: من حيث إن البيتَ فيه عطفُ صفةٍ على مثلِها، والآيةُ ليست كذلك.
وقال الشيخ شيئاً يقتضي أن تكونَ ممَّا عُطِفَ فيها وَصْفٌ على مثلِه فقال: "وأجاز الحوفي أيضاً أن يكونَ "والذي" في موضعِ رفعٍ عطفاً على "آيات"، وأجاز هو وابنُ عطية أن يكونَ "والذي" في موضعِ خفضٍ، وعلى هذين الإعرابين يكون "الحقُّ" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو الحق، ويكون "والذي" ممَّا عُطِفَ فيه الوصفُ على الوصفِ وهما لشيءٍ واحد، كما تقول "جاءني الظريفُ والعاقلُ" وأنت تريد شخصاً واحداً، ومن ذلك قولُ الشاعر:
2839- إلى المِلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ * وليثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قلت: وأين الوصفُ المعطوفُ عليه عليه حتى يجعلَه مثلَ البيتِ الذي أنشده؟
السادس: أن يكونَ "الذي" مرفوعاً نسقاً على "آيات" كما تقدَّمَتْ حكايتُه عن الحوفي. وجَوَّز الحوفيُّ أيضاً أن يكونَ "الحقُّ" نعتاً لـ "الذي" حالَ عطفِه على {آيَاتُ الْكِتَابِ}.
وتَلَخَّص في "الحقِّ" حمسةُ أوجه، أحدها: أنه خبرٌ أولُ أو ثانٍ أو هو مع ما قبله، أو خبرٌ لمبتدأ مضمر، أو صفةٌ لـ "الذي" إذا جَعَلْناه معطوفاً على "آيات".
* { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }
(9/87)
---(1/3542)
قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من "السموات"، أي: رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد. ثم في هذا الكلامِ وجهان، أحدُهما: انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً، أي: لا عَمَدَ فلا رؤيةَ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى. وإليه ذهب الجمهورُ. والثاني: أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ. وعن ابنِ عباس: "ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى"؟، وإليه ذهي مجاهدٌ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم: ما رأيت رجلاً صالحاً، ونحوُه: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [وقوله:].
2840- على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه *................................
وقد تقدَّم. هذا إذا قُلْنَا: إنَّ "تَرَوْنها" صفةٌ، أمَّا إذا قلنا: إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ.
والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ، وعبارةُ بعضَهم "إنه جمعٌ"، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان، أحدهما: أنه عِماد، ونظيرُه إهاب وأَهَب. والثاني: أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم، كذا قال الشيخ: وقال أبو البقاء: "جمع عِماد، أو عَمود مثل: أَدِيمْ وأَدَم، وأَفِيْق وأَفَق، وإهاب وأَهَب، ولا خامسَ لها". قلت: فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك، وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل.
ثم قول أبي البقاء "ولا خامسَ لها" يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه الخمسةُ: عِماد، وعَمُود، وأَدِيم، وأَفِيْق، وإِهاب، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نجو: قَضِيم وقَضَم. ويُجْمعان في القِلَّة على "أَعْمِدة".
(9/88)
---(1/3543)
وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب "عُمُد" بضمتين، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب، وِتاب وكُتُب، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل، وقد قرِئ في السبع: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} بالوجهين. وقال ابن عطية في عَمَد: "اسم جمعِ عَمُود، والبابُ في جمعه "عُمُد" بضم الحروفش الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل".
قال الشيخ: "وهذا وهمٌ، وصوابُه بضم الحرفين؛ لأن الثالث هو حرفُ الإعراب، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع".
والعِماد والعَمود: ما يُعَمَّد به، أي: يُسْنَدُ، يقال: عَمَدْتُ الحائطَ أَعْمِدُه عَمْداً، أي: أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد. والعَمَدُ: الأساطينُ. قال النابغة:
2841- وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ * يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
والعَمْدُ: هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه، فهو ضِدُّ السهو، وعمودُ الصبح: ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة،والعُمْدَةُ: ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ، والعَميد: السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ، أي: يَقْصِدُونه.
قوله: {تَرَوْنَهَا} في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أحدهما: أنه عائدٌ على "عَمَد" وهو أقربُ مذكورٍ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً لـ "عَمَد"، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان: من كونِ العَمَد موجودةً، لكنها لا تُرى، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ. والثاني: أن الضميرَ عائدٌ على "السموات". ثم في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها كذلك، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن "السموات"، وتكونُ حالاً مقدرة؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ، والتقدير: رَفَعَها مَرْئيةً لكم.
وقرأ اُبَيٌّ "تَرَوْنَه" مراعاةً للفظ "عَمَدَ" إذ هو اسمُ جمعٍ. وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً لـ "عَمَد".
(9/89)
---(1/3544)
وزعم بعضُهم أنَّ "تَرَوْنَها" خبرٌ لفظاً، ومعناه الأمر، أي: رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها. وهو بعيدٌ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً.
و "ثم" في "ثم استوى" لمجردِ العطفِ لا للترتيبِ؛ لأنًّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السموات.
قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ} قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى، وفيهما وجهان، أحدُهما -وهو الظاهر-: أنهما مستأنفان للإخبارِ بذلك. والثاني: أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ "سَخَّر"، والثاني حالٌ مِنْ فاعل "يُدَبِّر".
وقرأ النخعي وأبان بن تغلب: "نُدَبِّرُ الأمرَ، نُفَصِّل" بالنون فيهما، والحسنُ والأعمشُ "نُفَصِّل" بالنون، "يُدَبِّر" بالياء. قال المهدوي: "لم يُخْتَلَفْ في "يُدَبِّر"، يعني أنه بالياء، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب.
* { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
والرَّواسِي: الثوابت وهي الجبال، وفَواعِل الوصفُ لا يَطَّرِدُ إلاَّ في الإناثِ، إلاَّ أن المكسَّر ممَّا لا يَعْقِلُ يجري مَجْرى جمعِ الإناث، وأيضاً فقد كَثُرَ استعمالُه كالجوامِد فجُمِعَ كحائط وحوائط وكاهِل وكواهل. وقيل: هو جمعُ راسِيَة، والهاء للمبالغة، والرُّسُوُّ: الثبوت قال:
2842- بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ * وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ بالفِهْرِ
(9/90)
---(1/3545)
قوله: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يجوز فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ بـ "جَعَل" بعده، أي: وجعل فيها زوجين اثنين مِنْ "اثنين"؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له. والثالث: أن يَتِمَّ الكلامُ على قوله {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فيتعلَّقَ بـ "جَعَلَ" الأولى على أنه من عطفِ المفردات، يعني عَطَفَ على معمول "جعل" الأولى، تقديرُه: أنه جَعَل في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات. قال أبو البقاء: "ويكون جَعَلَ الثاني مستأنفاً".
و {يُغْشِي الْلَّيْلَ} تقدَّم الكلامُ فيه وهو: إمَّا مستأنفٌ وإمَّا حالٌ مِنْ فاعلِ الافعالِ قبله.
* { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ}: العامَّة على رفع "قِطَعٌ" و "جنات": إمَّا على الابتداء، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله. وقرئ {قِطَعاً مُّتَجَاوِرَاتٌ} بالنصب، وكذلك في بعض المصاحف، على إضمار "جَعَلَ".
وقرأ الحسن "وجناتٍ" بكسر التاء وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنه جرٌ عطفاً على {كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. الثاني: أنه نصبٌ نَسَقاً على {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قاله الزمخشري. الثالث: نَصْبُه نسقاً على "رواسي". الرابع: نَصْبُه بإضمار "جَعَلَ" وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله. قال أبو البقاء: "ولم يَقْرَأ أحدٌ منهم "وزرعاً" بالنصب".
قوله: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض. فالرفعُ في {زَرْعٌ وَنَخِيلٌ} للنسقِ على "قِطَعٌ" وفي "صِنْوان" لكونِهِ تابعاً لـ "نخيل"، و "غيرُ" لعطفِهِ عليه.
(9/91)
---(1/3546)
وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه "عطفاً على "قطع" قال: "وليسَتْ عبارةً مجررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان" قلت: ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه عطفٌ محققٌ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة.
والخفضُ مراعاةُ لـ "أعناب". وقال ابن عطية: "عطفاً على أعناب"، وعابَها الشيخ بما تقدَّم، وجوابُه ما تقدَّم.
وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا: ليس الزرعُ من الجنات، رُوِيَ ذلك عن أبي عمروٍ. وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ كقوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} وقال أبو البقاء: "وقيل: المعنى: ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى". قلت: ولا أدري ما هذا الجوابُ؟ لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتش الزرع، وأيُّ فرق؟
والصَّنْوانُ: جَمْع صِنْوٍ كقِنْوان جمع قِنْو، وقد تقدم تحقيق هذه البنية في الأنعام. والصِّنْوُ: الفَرْعُ، يَجْمعه وفرعاً آخر أصلٌ واحدٌ، وأصله المِثْلُ، وفي الحديث: "عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه"، أي: مثلُه، أو لأنهما يجمعهما أصلٌ واحد.
والعامَّة على كسرِ الصاد. وقرأ السلمي وابن مصرِّف وزيدُ بن علي بضمِّها، وهي لغةُ قيسٍ وتميم، كذِئْب وذُؤْبان. وقرأ الحسنُ وقتادةُ بفتحها، وهو اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أبنيتِه فَعْلان، ونظيرُ "صَنْوان" بالفتح "السَّعْدان". وهذا جمعُه في الكثرةِ، وأمَّا في القِلَّة فيُجْمَع على أَصْنَاءٍ كحِمْل وأَحْمال.
قوله: "يُسْقَى" قرأه بالياء مِنْ تحتُ ابنُ عامر وعاصمٌ، أي: يُسقى ما ذُكِرَ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ مراعاةً للفظِ ما تقدم، وللتأنيث في قولِه "بعضَها".
(9/92)
---(1/3547)
قوله: "ونُفَضِّل" قرأه بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعل الأخَوان، والباقون بنونِ العظمة. ويحيى بن يعمر وأبو حيوة "يُفَضَّل" بالياء مبنياً للمفعول، "بعضُها" رفعاً. قال أبو حاتم: "وَجَدْتُه كذلك في مصحف يحيى بن يعمر" وهو أولُ مَنْ نَقَّط المصاحفَ. وتقدَّم في "الأُكُل" في البقرة.
و {فِي الأُكُلِ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه ظرفٌ للتفضيل. والثاني: أنه حال من "بعضها"، أي: نُفضِّل بعضَها مأكولاً، أي: وفيه الأكلُ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ مِنْ جهة المعنى والصناعة.
* { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِيا أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ }
قوله تعالى: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}: يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ مقدمٌ، و "قولُهم" مبتدأ مؤخرٌ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ، أي: فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ، أو غريب ونحوه. والثاني: أنه مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ، معرفةً، وهذا كما اَعْرب سيبويهِ "كم" مِنْ "كم مالُك" و "خيرٌ" مِنْ "اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه" مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما، وخبرُهما معرفةً. قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ.
على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا: وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ "كم" و "خير" ما هو مبتدأ، فلذلك حَكَمَ عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه.
(9/93)
---(1/3548)
الثالث: أنَّ "عجبٌ" مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب، و "قولُهم" فاعلٌ به، قاله أبو البقاء، ورَدَّ عليه الشيخُ: بانهم نَصُوا على أن "فَعَلاً" و "فثعْلَة" و "فِعْلاً" يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه، فلا تقول: مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كبشُه، ولا غُرْفةٍ ماؤه، ولا قَبَضٍ مالُه". قلت: وأيضاً فإن الصفاتِ لا تعملُ إلاَّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ، وليس منها هنا شيءٌ.
قوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يجوز في هذه الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان، أحدُهما: -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ لحكايتها بالقولِ. والثاني: أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ قولُهم"، وبه بدأ الزمخشري، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم. و "إذا" هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشرطِ، والعاملُ فيها مقدرٌ يُفَسِّره {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديرُه: أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو نُحْشَر، ولا يَعْمل فيها {خَلْقٍ جَدِيدٍ} لأنَّ ما بعد "إذا" لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضاً "كُنَّا" لإضافتها إليها.
واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً، وهو في أحدِ عشرَ موضعاً من القرآن، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها، فإنَّ في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى:
(9/94)
---(1/3549)
أمَّا المواضعُ المذكورةُ، فأوَّلُها ما في هذه السورة. الثاني والثالث كلاهما في "الإسراء" وهما: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} موضعان الرابع: في "المؤمنون" {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وفي "النمل": {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وفي "العنكبوت": {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} وفي "ألم، السجدة" {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وفي "الصافات" موضعان، وفي الواقعة موضعٌ: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وفي "النازعات": {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً
}. هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء ففيه طريقان، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء، والثاني: بالنسبة إلى ذِكْر السُّوَر وهذا الثاني أقربُ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول: هذه المواضعُ تنقسم قسمين: قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ، لكلٍ منها حكمٌ على حِدَته.
أمَّا القسم الأول: فمنه في هذه السورة، والثاني والثالث في سبحان، والرابع في المؤمنين، والخامس في ألم السجدة، والسادس والسابع في الصَّافات، وقد عَرَفْتَ أعيانَها ممَّا تقدَّمَ.
أمَّا حكمُها: فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني، وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول، ويستفهم في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون في الأول والثاني.
(9/95)
---(1/3550)
وأمَّا القسمُ الثاني: فأوَّله [ما في سورة النمل]، وحكمُه: أنَّ نافعاً يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه، أي: يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما. الثاني: ما في سورة العنكبوت، وحكمُه: أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمُه: أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول، ويُخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الرابع ما في سورة النازعات، وحكمه: أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني، وأنَّ الباقين يستفهمون فيهما.
وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول: إن القراء فيها على أربعِ مراتبَ، والأولى: ان نافعاً -رحمه الله- قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس. المرتبة الثانية: أن ابن كثير وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر. المرتبة الثالثة: أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، إلا في النمل والواقعة والنازعات، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما. المرتبة الرابعة: الباقون -وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم أصلَه، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب القراءات.
(9/96)
---(1/3551)
ثم الوجهُ في قراءةِ مَ، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإنكار، فاتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، والوجهُ في قراءةِ منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإنكار في الأخرى، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلتِّباعِ الأثَر.
* { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن "السَّيِّئة" قاله أبو البقاء.
قوله: {وَقَدْ خَلَتْ} يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً. والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة "مَثُلَة" كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس: :العقوبات المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما"، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها.
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في "مَثْلة"./ وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما.
فأمَّا الضمُّ والإسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه.
(9/97)
---(1/3552)
قوله: {عَلَى ظُلْمِهِمْ} حال من "للناس". والعامل فيها قال أبو البقاء: "مغفرة" يعني أنه هو العامل في صاحبها.
* { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن هذا كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر. الثاني: أنَّ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} متعلقٌ بهادٍ، و "هادٍ" نَسَقٌ على مقدَّر، أي: إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم. وفي هذا الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ، وفيه خلافٌ تقدَّم. ولمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإشكالَ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادّاً به على الزمخشري. الثالث: أنَّ هادياً خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: [إنما أنت منذرٌ]، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ، فـ "لكلِّ" متعلقٌ به أيضاً.
ووقف ابن كثير على "هادٍ" و {وَاقٍ} حيث وقعا، وعلى {وَالٍ} هنا [وباقٍ في التخل بإثبات] الياء، وحَذَفها الباقون. ونقل ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف [بين الياءِ وحَذْفِها، والباب] هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ.
* { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }
قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ}: يجوز في الجلالة وجهان، أحدُهما: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمر، [أي: هو الله، وهذا] على قول مَنْ فَسَّر هادياً بأنه هو الله تعالى، فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله: "وأن يكونَ المعنى: هو الله تفسيراً لهادٍ على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: "يَعْلَم". والثاني: أن الجلالةَ مبتدأ و "يَعْلَمُ" خبرُها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
(9/98)
---(1/3553)
قال الشيخ: "ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ، إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات". قلت: وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً، وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى، وحَقَّقْتُه فيما تقدَّم، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال.
قوله: {مَا تَحْمِلُ}: "ما" تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن تكون موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوف، أي: ما تحماه. والثاني: أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ. والثالث: أن تكونَ استفهاميةً، وفي محلها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "تحملُ" خبرُه، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بـ "تَحْمل" قاله أبو البقاء، وهو أوْلى، لأنه لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ عائدٍ، ولا سيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون "زيدُ ضربْت"، ولم يذكرِ الشخُ غيرَ هذا، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ.
و "ما" في قوله {وَمَا تَغِيضُ... وَمَا تَزْدَادُ} محتملةٌ للأوجهِ المتقدمة. وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما.
قوله: "عندَه" يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ، أو مرفوعَه صفةً لـ "كل"، أو منصوبهَ لقوله "بمقدار" أو ظرفاً للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ لوقوعِه خبراً.
* { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }
قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: يجوز أن يكونَ مبتجأً وخبرُه {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}، وأن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عالِمٌ. وقرأ زيد بن عليّ "عالِمَ" نصباً على المدح. ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء "المتعال" وصلاً ووقفاً،وهذا هو الأشهرُ في لسانهم، وحَذَفَها الباقون وصلاً ووقفاً لحَذْفِها في الرسم. واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن "أل" تعاقِبُ التنوين، فَحُذِفَتْ معها لها مُجْراها.
(9/99)
---(1/3554)
* { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }
قوله تعالى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ}: في "سواءٌ" وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و {مَّنْ أَسَرَّ} و {وَمَنْ جَهَرَ} هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْاَوٍ، وقد تقدَّم الاكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و "منكم" على هذا حالٌ من الضمير المستتر في "سواءٌ" لأنه بمعنى "مُسْتَوٍ". قال أبو البقاء: "ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في "أَسَرَّ" أو "جَهَرَ" لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبِ على "منكم"، وحقُّه أن يقعَ بعده". قلت: [قوله] "وحقُّه أن يقع بعده" يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له.
والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله "مِنْكم" وأَعْرَبَ سيبويه "سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ" كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنركة، غَلَطٌ عليه.
(9/100)
---(1/3555)
قوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على "مُسْتَخْفٍ"، ويُرادُ بـ "مَنْ" حينئذٍ اثنان، وحضمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ "هو" على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفاً على "{مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قال رحمه الله: "فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: "ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قولَه "وساربٌ" عطفٌ على {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على "مُسْتَخْفٍ". والثاني: أنه عَطْفٌ على "مُسْتَخْفٍ"، إلا أنَّ "مَنْ" في معنى الاثنين، كقوله:
2843- ...................... * نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ
كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: {مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار}. وقلت: وفي عبارتِه بقوله "كان حقُّ العبارةِ أدب. وقوله: كقولِه "نضكُنْ مثلَ مَنْ" يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني * نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان
وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله: "وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ" لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ.
الثالث: أن يكونَ على حذف "مَنْ" الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك.
والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال:
(9/101)
---(1/3556)
2844- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبٍ * وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
وقال آخر:
2845- وكلُّ أُناسٍ قاربوا فَحْلِهِمْ * ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ
أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مضرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.
* { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُواءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }
قوله تعالى: {لَهُ} الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه عائدٌ على "مَنْ" المكررة، أي: لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب مُعَقِّبات، أي: جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضاً. الثاني: أنه يعود على "مَنْ" الأخيرةِ، وهو قولُ ابن عباس. قال ابنُ عطية: "والمُعَقِّبات على هذا: حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه. قالوا: والآيةُ على هذا في الرؤساء الكفارِ، واختاره الطبري في آخرين"، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ أنَّ الكلامَ نفيٌ، والتقدير: لا يحفطونه. وهذا ينبغي أن [لا] يُسْمَعَ البتة، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ "لا" إنما يجوز إذا كان المنفيُّ مضارعاً في جوابِ قسمٍ نحو: {تَالله تَفْتَؤُاْ} وقد تقدَّم تحريرُه، وإنما معنى الكلام -كما قال المهدوي -يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في ظنِّه وزعمه.
الثالث: أنَّ الضميرَ في "له" يعود على الله تعالى ذِكْرُه، وفي "يَحْفظونه" للعبد، أي: لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات، ويحفطون عليه أعمالَه، قاله الحسن.
الرابع: عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله: {لَوْلاا أُنزِلَ عَلَيْهِ
(9/102)
---(1/3557)
}. ومعَقِّبات: جمع "مُعَقِّب" بزنة مُفَعِّل، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضاً، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به. وقال الزمخشري: "والأصلُ معْتَقِبات، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله: {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} أي: :المُعْتَذِرُون"، ويَجوز "مُعَقِّبات" بكسر العين ولم يقرأ به. وقال الشيخ: "وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم التاءُ في القاف، ولا القاف في التاء، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين، وقد نصَّ التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يُدْغم غيرهما فيهما. وأمَّا تشبيهُه بقوله: {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه "المُعْتَذِرون" وقد تقدَّم توجيهُه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه. وأمَّا قوله "ويجوز "مُعَقِّبات" بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أنَّ أصلَه "مُتَعَقِّبات" فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ"/.
(9/103)
---(1/3558)
وفي "مُعَقِّبات" احتمالان، أحدهما: أن يكون "مُعَقِّبة" بمعنى مُعَقِّب والتاء للمبالغة كعلاَّمَة ونسَّابة، أي: مَلَكٌ مُعَقِّبٌ، ثم جُمِع كعلاَّامات ونسَّابات. والثاني: أن يكون "مُعَقِّبةِ" صفةً لجماعة، ثم جُمِع هذا الوصفُ. وذكر ابن جرير أنَّ "مُعَقِّبة" صفةً لجماعة، ثم جُمِع هذا الوصفُ. وذكر ابن جرير أنَّ "مُعَقِّبة: جمعُ مُعَقِّب، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات. قال الشيخ: "وليس كما ذَكَر، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال وجِمالات، ومُعَقِّبة ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات. ويمكن أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب، وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث "مُعَقِّب"، فصار مثلَ "الوارِدَة" للجماعة الذين يَرِدُون، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإخبار وعَوْدِ الضمير، ومه قولهم "الرجال وأعضادُها"، [والعلماء ذاهبة إلى كذا" وتشبيهه] ذلك برجل ورجال ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ".
وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد "له مَعاقيبُ". قال الزمخشري: [جمع مُعْقِب أو] مُعْقِبة، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير". قلت: ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال: "معاقيب تكسير [مُعْقِب بسكونِ العين] وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم، ومُقْدِم ومَقاديم، فكأنَّ مُعْقِباً جُمِع على مَعاقِبَة، ثم جُعِلَتِ الياء في "مَعاقيب" عوضاً من الهاء المحذوفة في مَعاقبة".
(9/104)
---(1/3559)
قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "مُعَقِّبات" ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات، و "مِنْ" لابتداء الغاية، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير الذي هو في الظرف الوقاع خبراً. والكلامُ على هذه الأوجهِ تامٌّ عند قوله {وَمِنْ خَلْفِهِ}. وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها، وهي قولُه: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يكونَ صفةً لمعَقِّبات، وأن يكون ظرفاً، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضميرِ الذي فيه، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده". انتهى.
ويجوز أَنْ يتعلَّق بـ "يحفظونه"، أي: يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه. [فإن قلت: كيف يتعلَّق حرفان] متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحد: وهما "مِنْ" الداخلةُ على "بين" و "مِنْ" الداخلة على "أمْرِ الله"؟ فالجواب أنَّ "مِنْ" الثانيةَ مغايرةٌ في المعنى كما ستعرفه.
قوله {يَحْفَظُونَهُ} يجوز أن يكونَ لـ "مُعَقِّبات"، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً. و {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} متعلقٌ به، و "مِنْ": إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، -ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة "بأَمْرِ الله". وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء: "مِنْ أَْمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإنس، فتكون "مِنْ" على بابها". يعني اَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإنس والجنِّ، فتكون "مِنْ" لابتداء الغاية. وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى "عن"، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة.
(9/105)
---(1/3560)
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديده، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه.
قوله: {وَإِذَا أَرَادَ} العاملُ في "إذا" محذوفٌ لدلالةِ جوابِها عليه تقديرُه: لم يُرَدَّ، أو وقع، ونحوُهما، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.
* { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ }
قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً}: يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوفٌ، أي: خافون خَوْفاً ويطمعون طَمَعاً. ويجوز أن يكونا مصدرين في موضعِ نصبٍ على الحال، وفي صاحبِ الحال حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه مفعولُ "يُرِيْكم" الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقَه، وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي:
2846- فتىً كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجى * يُرَجَّى الحَيا منها وتُخْشى الصَّواعِقُ
والثاني: أنه البرقُ، أي: يريكموه حالَ كونَه ذا خوفٍ وطمع، أو هو في نفسه خوفٌ وطمعٌ على المبالغة، والمعنى كما تقدَّم. ويجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشري بعدمِ اتحاد الفاعلِ، يعني أنَّ فاعلَ الإرادةِ وهو الله تعالى غيرُ فاعلِ الخوف والطمع وهو ضميرُ المخاطبين، فاختلف فاعلُ الفعل المُعَلَّل وفاعلُ العلَّة. وهذا يمكن أن يجابَ عنه: بأنَّ المفعولَ في قوة الفاعل، فإنَّ معنى "يُريكم" يجعلكم رائين، فتخافون وتطمعون، ومثلُه في المعنى قول/ النابغة الذبياني:
2847- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍِ مُمَنِّعٍ * تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
(9/106)
---(1/3561)
حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي * ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا
فـ "حِذاراً" مفعولٌ من أجله، وفاعلُه هو المتكلم، والفعل المُعَلِّل الذي هو "حَلَّتْ" فاعلُه "بيوتي"، فقد اختلف الفاعل. قالوا: لكن لمَّا كان التقدير: وأَحْلَلْتُ بيوتي حِذاراً صَحَّ ذلك.
وقد جوَّز الزمخشري: ذلك أيضاً على حَذْفِ مضاف فقال: "إلاَّ على تقدير حَذْفِ المضاف، أي: إرادةَ خوفٍ وطَمَع". وجوَّزه أيضاً على أنَّ بعضَ المصادر ناب عن بعض، يعني: ان الأصلَ: يُريكم البرقَ إخافةً وإطماعاً؛ فإنَّ المُرْئِيَّ والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هو اللهُ تعالى، وناب "خوف" عن إخافة، و "طمع" عن إطماع نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} على أنه قد ذهب جماعةٌ منهم ابنُ خروفٍ إلى أنَّ اتحادَ الفاعل ليس بشرطٍ.
* { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }
قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ}: يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً أخبر عنهم بذلك، ويجوز أن تكونَ حالاً. وظاهر كلام الزمخشري أنها حالٌ مِنْ مفعول "يَصيب"، فإنه قال: "وقيل: الواوُ للحال، [أي: فيصيب بها مِنْ يشاء في حالِ جِدالِهم"]، وجعلها غيرُه حالاً من مفعول "يشاء".
قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [هذه الجملة حالٌ من الجلالة] الكريمة، ويَضْعُفُ استئنافُها. وقرأ العامَّةُ بكسر الميم، وهو القوة والإهلاك، قال عبد المطلب:
2848- لا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ * ومِحالُهم عَدْواً مِحالَكْ
وقال الأعشى:
2849- فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصًنِ المَجْـ * ـدِ عظيمُ النَّدَى شديد المِحالِ
(9/107)
---(1/3562)
والمِحال أيضاً: أشدُّ المكايدة والمماكرة، يقال: ماحَلَه مُمَاحَلةً، ومنه: تَمَحَّلَ فلانٌ لكذا، أي: تكلَّف له استعمالَ الحيلة. وقال أبو زيد: "هو النِّقْمة". وقال ابن عرفةَ، "هو الجِدال" [وفيه على هذا] مقابلةٌ معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله وهو شديدُ الجِدال.
[واختلفوا في ميمه]: فالجمهور على أنها أصليةٌ من المَحْلِ وهو المَكْرُ والكيد، ووزنُه فِعال كمِهاد. وقال القتبي: إنه مِنَ الحيلة، وميمُه مزيدةٌ، كمكان من الكون، ثم يقال: تمكَّنْتُ. وقد غلَّطه الأزهري وقال: لو كان مِفْعَلاً مِنَ الحيلة لظهرت مثل: مِزْوَد ومِحْوَل ومِحْوَر".
وقرأ الأعرج والضحاك بفتحِها، والظاهر أنه لغةٌ في المكسورِها، وهو مذنبُ ابن عباس، فإنه فسَّره بالحَوْل وفسَّره غيرُه بالحيلة. وقال الزمخشري: "وقرأ الأعرج بفتح الميمِ على أنه مَفْعَل مِنْ حال يحولُ مَحالاً، إذا احتال، ومنه "اَحْوَلُ مِنْ ذئب"، أي: أشدُّ حِيْلة، ويجوز أن يكونَ المعنى: شديد الفَقار، ويكون مَثَلاً في القوَّة والقدرة، كما جاء "فساعِدُ اللهِ أشدُّ، ومُوْساه أَحَدٌ"، لأنَّ الحيوانَ إذا اشتدَّ مَحالُه كان منعوتاً بشدةِ القوةِ والاضطلاع بما يَعْجُزُ غيرُه، ألا ترى إلى قولهم: "فَقَرَتْه الفاقِرة" وذلك أنَّ الفَقارَ عمودُ الظهرِ وقِوامُه".
* { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }
(9/108)
---(1/3563)
وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}: من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والأصل: له الدعوةُ الحقُّ كقوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} على أحدِ الوجهين. وقال الزمخشري: "فيه وجهان، أحدُهما: أن تُضافَ الدعوةُ إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تُضاف الكلمةث إليه في قوله "كلمة الحق". والثاني: أن تُضافَ إلى الحق الذي هو اللهُ على معنى دعوةِ المَدْعُوِّ الحق الذي يسمع فيجيب". قال الشيخ: "وهذا الوجهُ الثاني لا يظهر؛ لأنَّ مآلَه إلى تقدير: لله دعوةُ الله كما تقول: لزيدٍ دعوةُ زيد، وهذا التركيبُ لا يَصِحُّ". قلت: وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يَرَدَّ عليه به؟
قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} يجوز أن يُرَاد بالذين المشركون، فالواوُ في "يَدْعون" عائده، ومفعولُه محذوفٌ وهو الصنام، والواوُ في {لاَ يَسْتَجِيبُونَ} عائدٌ على مفعول "يَدْعون" المحذوف،ِ وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتِهم إياه معاملَتهم. والتقدير: والمشركون الذين يَدْعُون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنامُ إلا استجابةً كاستجابةِ باسطِ كَفَّيْه، أي: كاستجابة الماءِ مَنْ بَسَطَ كَفَّيْه إليه، يطلب منه أن يَبْلُغَ فاه، والماءُ جمادٌ لا يَشْعُر ببَسْط كَفَّيْه ولا بعطشِه، ولا يَقْدِرُ أن يُجيبَه ويَبْلُغَ فاه، قال معناه الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء قريباً من ذلك وقدَّر التقديرَ المذكور قال: "والمصدرُ في هذا التقدير مضافٌ إلى المفعول كقوله: {لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} وفاعلُ هذا المصدرِ مضمرٌ هو ضميرُ الماءِ، أي: لا يُجيبونهم إلا كما يُجيب الماءُ باسطَ كفِّه إليه، والإجابةُ هنا كنايةٌ عن الانقياد"./
(9/109)
---(1/3564)
ويجوز أن يُرادَ بالذين الأصنامُ، أي: والآلهو الذين يَدْعونهم مِنْ دونِ الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابةً، والتقديرُ كما تقدَّم في الوجهِ قبلَه. وإنما جَمَعَهم جَمْعَ العقلاء: إمَّا للاختلاطِ؛ لأنَّ الآلهةَ عقلاءُ وجمادٌ، وإمَّا لمعاملتِهم إياها معاملةَ العقلاءِ في زعمهم، فالواوُ في "بَدْعُون" للمشركين، والعائدُ المحذوفُ للأصنام، وكذا واوُ "يستجيبون".
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمروٍ "تَدْعُونَ" بالخطاب وهو مُقَوِّيَةٌ للوجهِ الثاني: ولم يذكرِ الزمخشريُّ غيرَه.
قوله: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في "هو" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ الماء. والهاء في "ببالغِه" للفم، أي: وما الماء ببالغِ فيه. الثاني: أنه ضميرُ الفم، والهاء فيي "ببالِغه" للماء، أي: وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُالآخرَ على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ وعدمُها صحيحتان. الثالث: أن يكون ضميرَ الباسط، والهاء في "ببالغه" للماء، أي: وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ. ولا يجوز أن يكون "هو" ضميرَ الباسط، وفاعلُ "ببالغِه" مضمراً والهاء في "ببالِغه" للماء، لأنه حينئذٍ يكونُ من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي] له، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا: وما هو ببالغِه الماءُ، فإن جَعَلْتَ الهاءَ في "ببالغِه" للماءِ جاز أن يكونَ "هو" ضميرَ الباسط كما تقدَّم تقريره.
والكافُ في "كباسِط": إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوف، وإمَّا حاللإ من ذلك المصدرِ كما تقدَّم تقريرُ غيرَ مرة.
وقال أبو البقاء: "والكاف في "كباسط" إنْ جعلتَها حرفاً كان فيها ضميرٌ يعود على الموصوفِ المحذوفِ، وإنْ جعلْتَها اسماً لم يكن فيها ضميرٌ". قلت: وكونُ الكافِ اسماً في الكلام لم يَقُلْ به الجمهورُ، بل الأخفشُ، ويعني بالموصوفِ ذلك المصدرَ الذي قدَّره فيما تقدَّم.
(9/110)
---(1/3565)
* { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }
قوله تعالى: {طَوْعاً وَكَرْهاً}: إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله، وإمَّا حال، أي: طائعِين وكارهين، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر. وقرأ ألو مِجْلَز: "والإيصال" بالياء قبل الصاد. وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ "آصَلَ" كضارَبَ، أي: دَخل في الأصيل، كأصْبَح، أي: دخل في الصباح.
و "ظلالُهم" عطف على "مَنْ". و "بالغُدُوِّ" متعلِّقٌ بيَسْجُد، والباء بمعنى في، أي: في هذين الوقتين.
* { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
وقرأ الأخَوان وأبو بكر عن عاصم "يَسْتوي" بالياء من تحتُ، والباقون بالتاء من فوق، والوجهانن واضحان باعتبار أنَّ الفاعلَ مجازيٌّ التأنيث، فيجوز في فِعْله التذكيرُ والتأنيثُ، كنظائرَ له مرَّتْ.
وقوله: "أَمْ هَلْ" هذه "أم" المنقطعةُ، فتتقدَّر بـ "بل" والهمزةِ عند الجمهور، و بـ "بل" وحدَها عن بعضهم، وقد تقدَّم ذلك محرِّراً، وقد يَتَقَوَّى بهذه الآيةِ مَنْ يرى تقديرَها بـ "بل" فقط بوقوع "هَل" بعدها، فلو قَدَّرْناها بـ "بل" والهمزةِ لزم اجتماعُ حرفَيْ معنى، فَتُقَدِّرها بـ "بل" وحدها ولا تقويةَ له، فإنَّ الهمزةَ قد جامَعَتْ "هل" في اللفظ كقول الشاعر:
2850- ........................ * أهلْ رَأَوْنا بوادِي القُفِّ ذي الأَكَمِ
(9/111)
---(1/3566)
فَأوْلَى أن يجامِعَها تقديراً. ولقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ أنَّ "هل" هذه استفهاميةٌ بل بمعنى "قد"، وإليه ذهب جماعةٌ، وإن لم يجامِعْها همزةٌ كقولِه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ} أي: قد أتى، فهنا أَوْلى، والسماعُ قد رَوَدَ بوقوع "هل" بعد "أم" وبعدمِه. فمِنَ الأوَّلِ هذه الآيةُ، ومن الثاني وما بعدها مِنْ قولِه: "اَمْ جَعَلوا"، وقد جمع الشاعرُ أيضاً بين الاستعمالين في قوله:
2851- هل ما عَلِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ * أم حَبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ مَصْرومُ
أَمْ هَلْ كبيرٌ بكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه * إثرَ الأحبَّةِ يومَ البَيْنَ مَشْكُومُ
/ والجملةُ من قوله: خَلَقوا" صفةٌ لشركاء.
* { أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }
قوله تعالى: {أَوْدِيَةٌ}: هو جمعُ وادٍ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة، قال أبو البقاء: "شاذٌّ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف، ووجهُه: أنَّ فاعِلاً قد جاء بمعنى فَعِيل، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة آخرين، أحدُهما: قولهم: جائز وأجْوِزَة، والثاني: ناحِية وأَنْحِية.
قوله: "بقَدَرها" فيه وجهان، أحدُهما" أنه متعلِّقٌ بـ "سالَتْ"، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ "أَوْدية". وقرأ العامَّةُ بفتح الدال، وزيد بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها، وقد تقدَّم ذلك في سورة البقرة.
(9/112)
---(1/3567)
و "احتمل" بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو "فسالَتْ" وهو لو ذُكِرَ لكان نكرةً، فلمَّا اُعيد اُعيدَ بلفظِ التعريفِ نحو: "رايت رجلاً فأكرمت الرجلَ" [والزَّبَد: وَضَرَّ الغَلَيان وخَبَثُه] قال النابغة:
2852- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له * تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
وقيل: هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه، وما يرمي به [على] ضفَّته من الحَباب. وقيل: هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه، وارتفعت أمواجثه. وهي عباراتٌ متقاربة. والزُّبَد: المستخرجُ من اللبن. قيل: مشتقٌّ مِنْ هذا لمشابَهَتِه إياه في الكثرةِ، وفي الحديث: "غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ زَبَد البحر
". قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} هذا الجارُّ [خبر مقدَّمٌ، ومبتدَؤه "زَبَدٌ"]. و "مثلُه" صفةُ المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب والفضة زَبَدٌ، أي: خَبَثٌ مثلُه، أي: مثلُ زَبَدِ الماء، ووجهُ المماثلةِ: أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار.
وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ "يُوقِدُوْن" بالياء من تحت، أي: الناسُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب.
(9/113)
---(1/3568)
و "عليه" متعلقٌ بـ "يوقدون". وأمَّا "في النار" ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ يوقِدون، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً أو ثابتاً، قاله مكي وغيره. ومنعوا تعلُّقه بـ "يُوقِدُون" لأنهم زعموا أنه لا يُوقَد على شيء إلا وهو في النار، وتعليقُ حرفِ الجر بـ "يُوْقِدون" يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى. وهذا غيرُ لازمٍ. قال أبو علي: "قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ، كقولِه تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} والطِّين لم يكن فيها، وإنما يُصيبُه لَهَبُها، وأيضاً فقد يكونُ ذلك على سبيلِ التوكيدِ كقوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
}. قوله: "ابتغاءَ" فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ مِنْ اجله. والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: مُبْتَغِين حِلْية، و "حِلْيةٍ" مفعولٌ معنىً. "أو متاعٍ" نَسَقٌ على "حِلْيةٍ"، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به، والمَتَاع: مَا يَقْضُون به حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها. و "مِنْ" في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ لابتداءِ الغاية، أي: ومنه ينشأ زَبَدٌ مثلُ زَبَدِ الماء. والثاني: أنها للتبعيضَ، بمعنى: وبَعْضُه زَبَدٌ.
(9/114)
---(1/3569)
قوله: "جُفاءً" حال. والجُفَاءُ: قال ابن الأنباري: "المتفرِّقُ". يقال: جَفَأَتِ الريحُ السحابَ، أي: قَطَعَتْه وفَرَّقته. وقيل: الجُفاء: ما يَرْمِي به السَّيْلُ. يُقال: جَفَأَتِ القِدْرُ بزَبَدِها تَجْفَأُ، وجَفَأَ السَّيْلُ بزَبَدِه وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ، وباللامِ قرأ رُؤبة بن العجاج. قال أبو حاتم: "لا يُقرأ بقراءةِ رؤبة، لأنه كان يأكلُ الفارَ" يعني أنه أعرابيٌّ جافٍ. قلت: قد تقدَّم ثناءُ الزمخشري عيله أولَ البقرة، وذِكْرُ فصاحتِه. وقد وجَّهوا قراءَتَه بأنها مِنْ أَجْفَلَتِ الريحُ الغنمَ، أي: فَرَّقَتْه قِطَعاً فهي في المعنى كقراءةِ العامَّة بالهمزة.
وفي همزة "جُفاء" وجهان، أظهرهُما: أنها أصلٌ لثبوتِها في تصاريف هذه المادةِ كما رأيتَ. والثاني: بدلٌ من واو، وكأنه مختارُ أبي البقاء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مادة
جفا يَجْفو لا يليق معناها هنا، والأصلُ عدمُ الاشتراكِ.
قوله: "كذلك يَضْرِب"/ الكافُ في محلِّ نصبٍ، أي: مثلَ ذلك الضَّرْبِ يَضْرِب.
* { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُواءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ "يَضْرِب" وبه بدأ الزمخشريُّ. قال: "أي: كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا". والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ "استجابوا"، اي: استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى. وقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ} كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين". قال الشيخ: "والتفسيرُ الأولُ أَوْلى" يعني به أنَّ "للذين" خبرٌ مقدَّم، و "الحسنى" مبتدأ مؤخر كما سيأتي إيضاحُه.
(9/115)
---(1/3570)
قال: "لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين، بخلاف قولِ الزمخشريِّ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين من الثَّواب، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابة، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابة الحسنى، واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً، إنما مقابلها نفيُ الاستجابةِ الحسنى، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ} مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ؛ إذ يصير المعنى: كذلك يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيبُ بحرفٍ رابطٍ "لو" بما قبلَها زال التفلُّت، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ في الضمير، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً".
قلت: قوله "لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ" ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التقييدَ. وقوله: "ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين" إلى آخره، ما ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم. وقوله "واللهُ تعالى نفى الاستجابة مطلقاً" ممنوعٌ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى، لا يُقال: فَثَبَتَتْ استجابةٌ غيرُ حسنى؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ لله لا تكون إلا حُسْنى. وقوله: "يصيرُ مُفْلَتاً" كيف يكون مُفْلَتاً مع قول الزمخشري: [كلامٌ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم؟ وقوله: "وأيضاً فيوهِمُ الاشتراك" كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله "وإنْ كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً" فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم؟
(9/116)
---(1/3571)
والوجه الثاني: أن يكونَ "للذين" خبراً مقدَّماً، والمبتدأ "الحُسْنَى"، و {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده. ويجوز على الوجه الأول أن يكون {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأً، وخبره الجملةُ الامتناعية بعده، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا، لانتفاعِهم دونَ غيرِهم.
* { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ} كقولِه: "أَفَلَمْ" وقد تقدَّم تقريرُ القولين فيه، ومذهب الزمخشري فيه بُعْدٌ هنا.
* { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لأولِي أو بدلاً منه أو بياناً له، أو مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أو منصوباً على إضمار فِعْلٍ، كلاهما على المدح، أو هو مرفوعٌ بالابتداء، وما بعده عطفٌ عليه. و {أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} خبره.
* { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ }
قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ} يجوز أن يكونَ مفعولاً له وهو الظاهرُ، وأن يكونَ حالاً، أي: مُبْتَغِين، والمصدرُ مضافٌ لمفعوله.
قوله: {عُقْبَى الدَّارِ} يجوز أن يكونَ مبتدأً، خبرُه الجارُّ قبله، والجملةُ خبرُ "أولئك"، ويجوز أنْ يكونَ "لهم" خبرَ "أولئك" و "عُقْبى" فاعلٌ بالاستقرار.
* { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ }
(9/117)
---(1/3572)
قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: يجوز أن يكون بدلاً مِنْ "عقبى"، وأن يكونَ بياناً، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون مبتدأً خبرُه "يَدْخُلونها" وقرأ النخعيُّ "جنةُ" بالإفراد. وتقدَّم الخلافُ في "يَدْخُلونها".
والجملةُ مِنْ "يَدْخُلونها" تحتمل الاستئنافَ او الحاليةَ المقدرةَ.
قوله: {وَمَنْ صَلَحَ} يجوز أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصلُ بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكونَ منصوباً على المفعولِ معه، وهو مرجوحٌ.
وقرأ ابن أبي عبلة "صَلُحَ" بضم اللام، وهي لغةٌ مَرْجوحة.
قوله: {مِنْ آبَائِهِمْ} في محلِّ الحال مِنْ {وَمَنْ صَلَحَ} و "مِنْ" لبيان الجنس. وقرأ عيسى الثقفي "وذُريَّتِهم" بالتوحيد.
قوله: "سلامٌ" الجملةُ محكيَّةٌ بقولٍ مضمر، والقولُ المضمرُ حالٌ مِنْ فاعلِ "يَدْخُلون"، أي: يَدْخُلون قائلين.
/ قوله: "بما صَبَرتم" متعلِّقٌ بما تعلَّق به "عليكم"، و "ما" مصدريَّةٌ، أي: بسبب صَبْركم. ولا يتعلَّقُ بـ "سلامٌ" لأنه لا يُفْصَل بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
قاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: "ويجوز أن يتعلَّق بـ "سلام"، أي: نُسَلِّم عليكم ونُكْرمكم بصبركم"، ولمَّا نقله عنه الشيخ لم يَعْترض عليه بشيء. والظاهرُ أنه لا يُعْترَض عليه بما تقدَّم؛ لأنَّ ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري، وفعل، وهذا المصدرُ ليس من ذلك. والباءُ: إمَّا سببيَّةٌ كما تقدَّم، وإمَّا بمعنى بَدَل، أي: بَدَلَ صبركم، أي: بما احتملتم مَشاقَّ الصبر. وقيل: "بما صَبَرْتُم" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا الثوابُ الجزيل بما صبرتم.
وقرأ الجمهور "فنِعْمَ" بكسرِ النونِ وسكونِ العين، وابن يعمر بالفتحِ والكسر، وقد تقدَّم أنها الأصلُ كقوله:
2538- ....................... * نَعِمَ السَّاعُون في القومِ الشُّطُرْ
(9/118)
---(1/3573)
وابنُ وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيفُ الأصلِ، ولغةُ تميم تسكينُ عينِ فَعِل مطلقاً. والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي: الجنة.
* { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ}: مبتدأ، والجملة مِنْ قوله: {أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} خبرُه. والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
* { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }
وقرأ زيدُ بنُ عليّ "ويَقْدُر" بضم العين.
قوله "وفَرِحوا" هذا استئنافُ إخبار. وقيل: بل [هو عطفٌ على صلةِ "الذين"] قبله. وفيه نظرٌ: من حيث الفصلُ بين أبعاضِ الصلةِ بالخبر، وأيضاً فإنَّ هذا ماضٍ وما قبله مستقبلٌ، ولا بد من التوافق في الزمان، إلا أن يُقال: المقصودُ استمرارُهم بذلك، وإنَّ الماضي متى وقع صلةً صَلَحَ للمُضِيِّ والاستقبال.
قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ}، أي: في جنب الآخرة. وهذا الجارُّ في موضع الحال تقديرُه: وما الحياةُ القريبةُ كائنةً في جنب الآخرة إلا متاعٌ، ولا يجوز تعلُّقُه بالحياة ولا بالدنيا لنهما لا يقعان في الآخرة.
* { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيا إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }
والضميرُ في "عليه" عائدٌ على الله تعالى، أي: إلى دينِه وشَرْعه. وقيل: على الرسول. وقيل: على القرآن.
* { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }
(9/119)
---(1/3574)
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ} يجوز فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون مبتدأً خبرُه الموصولُ الثاني، وما بينهما اعتراضٌ. [الثاني: أنه بدلٌ] مِنْ "مَنْ أناب". الثالث: أنه عطفُ بيانٍ له. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أنه منصوبٌ بإضمارِ فعل.
قوله: {بِذِكْرِ اللَّهِ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ "تطمئنُّ" فتكون الباءُ سببيةً، أي: بسبب ذِكْرِ الله. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ مفعولاً به، أي: الطمأنينةُ تَحْصُل بذكْر الله، الثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ "قلوبُهم" أي: تطمئنُّ وفيها ذِكْرُ اللهِ".
* { الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ}: فيه أوجه: أن يكونَ بدلاً من "القلوبُ" على حَذْفِ مضاف، أي: قلوب الذين آمنوا، وأن يكونَ بدلاً مِن "مَنْ أناب"، وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن "مَن أناب"، وإلا كان يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ. والجملةُ مِنْ "طُوبَى لهم" على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة، العاملُ فيها "آمَنُوا وعَمِلوا".
وواوُ "طُوبَى" منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة قبلها كمُوسِر ومُوقِن من اليُسْر واليقين. واختلفوا فيها: فقيل: هي اسمٌ مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى، مِنْ طاب بطيب. وقيل: بل هي جمعُ "طَيِّبة" كما قالوا: كُوْسَى في جمع كَيِّسَة، وضُوقَى في جمعِ ضَيِّقة. ويجوز أن يقال: "طِيْبى" بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى. وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة؟ خلافٌ مشهور.
(9/120)
---(1/3575)
وجاز الابتداءُ بـ "طُوبَى": إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه، وإمَّا لنها نكرةً في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له، كذا قال سيبويه. وقال ابن مالك: "إنه يُلزم رَفْعُها بالابتداء، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه". وهذا يَرُدُّ عليه: أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ، أي: وجَعَلَ لهم طُوبَى، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي "وحُسْنَ مآب" بنصب النون. قال: "إنه معطوفٌ على "طُوبَى"، وإنها في موضع نَصْبٍ". قال ثعلب: "وطُوبَى على هذا مصدرٌ كما قالوا: سُقْياً". وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ "اللوامح" على النداء كـ {يَاأَسَفَى} على الفَوْت، يعني أنَّ "طُوبَى" تضاف للضمير، واللام/ مقحمةٌ، كقوله:
2845- ..................... * يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
و [قوله]:
2855- يا بُوسَ للحَرْبِ التي * وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
ولذلك سقط التنوينُ مِنْ "بؤس" كأنه قيل: يا طِيْباهم، أي: ما أَطيبَهم وأحسنَ مآبَهم. قال الزمخشري: "ومعنى طُوبَى لك: أَصَبْتَ خيراً وطِيباً، ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك: طِيباً لك وطِيبٌ لك، وسلاماً لك، وسلامٌ لك، والقراءةُ في قوله: "وحُسن مآب" بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها، واللامُ في "لهم" للبيان، مثلها في "سَقْياً لك". فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ ولا تلزم الرفعَ بالابتداء.
وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي "طِيْبَى" بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو: بِيْض ومَعِيْشة.
وقُرِئ "وحُسْنَ مآبٌ" بفتح النون ورفع "مآب" على أنه فعلٌ ماضٍ، أصلُه "حَسُن" فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح، كقولهم:
2856- ....................... * ............. حُسْنَ ذا أَدَبا
و "مَآبٌُ" فاعلُه.
(9/121)
---(1/3576)
* { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيا أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيا أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ}: الكافُ في محلِّ نصبٍ كنظائرها. قال الزمخشري: "مثلَ ذلك الإرسالِ أَرْسلناك، يعني: ارسلناك إرسالاً له شأن". وقيل: الكافُ متعلِّقةٌ بالمعنى الذي في قوله {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيا} أي: "كما أنفذ اللهُ هذا كذلك ارسلناك". وقال ابن عطية: "الذي يظهر لي أن المعنى: كما أَجْرَيْنا العادةَ بأنَّ الله يُضِلُّ ويَهْدِيْ لا الآياتِ المقترحةَ، فكذلك أيضاً فَعَلنا في هذه الأمَّةِ: أرسَلْناك إليها بوحيٍ لا بآيات مقترحة".
وقال أبو البقاء: "كذلك" [التقديرُ:] الأمر كذلك فجعلها في موضعِ رفعٍ. وقال الحوفي: "الكافُ للتشبيه في موضع نصب، أي: كفِعْلِنا الهدايةَ والإضلال". والإشارةُ بـ "ذلك" إلى ما وَصَفَ به نفسَه مِنْ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنِ يشاء ويَهْدِي مَنِ يشاء.
قوله: {قَدْ خَلَتْ} جملةٌ [في محلِّ جرٍّ صفةً]. و "للتلوَ" متعلِّقٌ بـ "أَرْسَلْناك".
قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً وأن تكونَ حاليةً، والضميرُ في "وهم" عائدٌ على "أمة" من حيث المعنى، ولو عاد على لفظِها لكان التركيبُ "وهي تكفر". وقيل: الضميرُ عائدٌ على "أمَّة" وعلى "أُمَم". وقيل: على الذين قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ}.
(9/122)
---(1/3577)
* { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوااْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً}: جوابُها محذوفٌ، أي: لكان هذا القرآنُ، لأنه في غاية ما يكونُ من الصحة. وقيل: تقديرُه: لما آمنوا. ونُقِل عن الفراء أنَّ جوابًَ "لو" هي الجملة مِنْ قولِه {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، وما بينهما اعتراضٌ. وهذا في الحقيقة دالٌّ على الجوابِ. وإنما حُذِفَت التاءُ في قوله "وكُلِّم به المَوْتى" وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قبله لأنه من باب التغليب؛ لأنَّ "المَوْتى" يشمل المذكرَ والمؤنث.
قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ} أصلُ اليَأْسِ: قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه. واختلف الناسُ فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الايات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء: "أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم يَيْئسوا عِلْماً، يقول: أَيْئَسهم العِلْم مضمراً، كما تقول في الكلام: يَئِست منك أن لا تفلح، كأنه قال: عضلِمه علماً"، قال: فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت، وإنْ لم يكنْ قد سمع، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل".
(9/123)
---(1/3578)
وقال ابن عطية: "ويحتمل أن يكونَ "اليأسُ" في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه: أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً".
وقال الزمخشري: "ويجوز أن يتعلَّقَ {أَن لَّوْ يَشَآءُ} بآمَنوا على: أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم" وهذا قد سبقه إليه أبو العباس.
وقال الشيخ: "ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه: وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوااْ} وهو تقريرٌ، أي: قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ} جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ "أنْ" مع "لو"، كقولِ الشاعر:
2857- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً * وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر:
2858- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ * لكان يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ "أنْ" تأتي بعد القَسَم، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها.
وقال بعضُهم: "بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن. قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين: "هي لغة هوازن". وقال ابن الكلبي: "هي لغةُ حيّ من النَّخَع، ومنه قولُ رباح بن عدي:
2859- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ * وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم:
2860- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني * ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وقول الآخر:
2861- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا * غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
(9/124)
---(1/3579)
وردَّ الفراء هذا وقال: "لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ". ورُدَّ عليه: بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بم يزيد وعلي ابن بَذِيمة: "أو لم يتبيَّنْ"، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه. وقد افترى مَنْ قال: "إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ، وكان أصله "أفلم يتبيَّن" فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين".
قال الزمخشري: "وهذا ونحوُه ممَّا لا يًصَدَّقُ في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطلُ مِنْ [بينِ] يديه ولا مِنْ خلفِه، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإمام، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله، المهيمنين عليه، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ، والقاعدةُ التي عليها المبنى، هذه واللهِ فِرْيَةٌ، ما فيها مِرْيَةٌ". وقال الزمخشري أيضاً: "وقيل: إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك".
ويُحتمل في "أَنْ" قولان، أحدُهما: أنها المخففةُ من الثقيلة فاسمُها ضميرُ الشأنِ، والجملةُ الامتناعيةُ بعدها خبرُها، وقد وقع الفصلُ بـ "لو"، و "أنْ" وما في حيِّزها إن عَلَّقْناها بـ "آمنوا" في محلِّ نصبٍ أو جَرّ على الخلاف بين الخليلِ وسيبويه، إذ أصلُها الجرُّ بالحرفِ، أي: آمَنوا بأن لو يشاءُ الله، وإن عَلَّقْناها بـ "يَيْئَس" على أنه بمعنى "عَلِمَ" كانت في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ المفعولين.
والثاني: أنها رابطةٌ بين القًسَمِ والمُقْسِمِ عليه كما تقدم.
(9/125)
---(1/3580)
قوله: {أَوْ تَحُلُّ} يجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الخطاب [أي:] أو تَحُلُّ أنت يا محمدُ، وأن يكونَ ضميرَ القارعة، وهذا أَبْيَنُ، أي: تُصيبهم قارِعَةٌ، أو تَحُلُّ القارعة.
وقرأ ابن جبير ومجاهد "يَحُلُّ" بالياء مِنْ تحتُ، والفاعلُ على ما تقدم: إمَّا ضميرُ القارعة، وإنما ذكَّر الفعلَ لأنها بمعنى العذاب، أو لأن التاءَ للمبالغة، والمرادُ قارِع، وإمَّا ضميرُ الرسول، أتى به غائباً. وقرآ أيضاً "مِنْ ديارهم" وهي واضحة.
* { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ}: "منْ" موصولةٌ، صلتُها "هو قاءم" والموصولُ مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: كمَنْ ليس كذلك مِنْ شركائِهم التي لا تَضُرُّ ولا تنفع. ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوُه قولُه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} تقديره: كَمَنْ قَسا قلبُه، يَدُلُّ عليه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} وإنما حَسَّن حَذْفَه كونُ الخبرِ مقابلاً للمبتدأ. وقد جاء منفياً كقولِه {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى
(9/126)
---(1/3581)
}. قوله: {وَجَعَلُواْ} يجوز أن يكونَ استئنافاً وهو الظاهرُ، جيءَ به للدلالةِ على الخبرِ المحذوفِ كما تقدم تقريرُه. وقال الزمخشري: "ويجوز أَن يقدَّر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويُعْطَفَ عليه و"جعلُوا"، وتمثيلُه: أفَمَنْ هو بهذه الصفةِ لم يوحِّدوه،/ وجعلوا له وهو اللهُ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه شركاءَ. قال الشيخ: " وفي هذا التوجيهِ إقامةُ الظاهر مُقامَ المضمر في قوله "وجعلوا لله: أي له"، وفيبه حَذْفُ الخبرِ عن المقابل، وأكثرُ ما جاء هذا الخبرُ مقابلاً". وقيل: الواو للحال والتقدير: اَفَمَنْ هو قائمٌ على نفسٍ موجودٌ، والحالُ أنهم جعلوا له شركاءَ، فأقيمَ الظاهرُ -وهو الله- مُقامَ المضمرِ، تقريراً للإلهية وتصريحاً بها.
وقال ابن عطيَّة: "ويظهر أن القولَ مرتبطٌ بقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأن التقديرَ: أَفَمَنْ له القدرةُ والوحدانيةُ، ويُجْعَلُ له شريكٌ، أَهْلٌ أن ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا". وقيل: "وجعلوا" عطفٌ على "استُهزِئ" بمعنى: ولقدِ استهزَؤُوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء: "وهو معطوفٌ على "كَسَبَت"، أي: وبجَعْلِهم لله شركاءَ".
قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أم هذه منقطعةٌ مقدَّرةٌ بـ "بل" والهمزةِ، والاستفهامُ للتوبيخِ: بل أتُنَبِّئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض، ونحوُه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} فجعل الفاعلَ ضكيراً عائداً على الله، والعائدُ على "ما" محذوفٌ، تقديرُه: بما لا يعلمُهُ اللهُ، وقد تقدَّم في تلك الآيةِ أنَّ الفاعلَ يعودُ على "ما" وهو جائزٌ هنا أيضاً.
قوله: {أَم بِظَاهِرٍ} الظاهرُ أنها منقطعة. و "الظاهر" هنا قيل: الباطلُ. وأنشدوا:
2862- أَعَيَّرْتَنا ألبانَها ولحومَها * وذلك عارٌ يا ابنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ
أي باطِلٌ، وفَسَّره مجاهدٌ "بكذبٍ" وهو موافقٌ لهذا. وقيل: "أم" متصلةٌ، أي: اتنبئونه بظاهرٍ لا حقيقةَ له.(1/3582)
(9/127)
---
قوله: {وَصُدُّواْ} قرأ الكوفيون "وصُدُّوا" مبنياً للمفعول، وفي غافر {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} كذلك. وباقي السبعة مبنيِّين للفاعل. و "صَدَّ" جاء لازماً ومتعدياً فقراءةُ الكوفةِ من المتعدِّي فقط، وقراءةُ الباقين تتحمل أن يكونَ من المتعدِّي ومفعولُه محذوفٌ، أي: وصَدُّوا غيرَهم أو أنفسَهم، وأن يكونَ مِنَ اللازم، أي: أَعْرَضوا وتَوَلَّوا.
وقرأ ابنُ وثاب "وصَدُّوا" و {وصِدَّ عن السبيل} بكسرِ الصاد، وهو مبنيٌّ للمفعول، اجراه مُجْرى قِيْل وبِيْع، فهو كقراءة {رِدَّت إلينا}، [وقوله:]
2863- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلَمائِنا * .....................
وقد تقدم.
* { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ }
قوله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ}: مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ تقديره: فيما قَصَصْنا، أو فيما يُتْلَى عايكم مَثَلُ الجنَّة، وعلى هذا فقولُه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} تفسيرٌ لذلك المَثَلٍ. وقال أبو البقاء: "فعلى هذا "تَجري"" حالٌ من العائدِ المحذوف في "وُعِد"، أي: وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها". ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله "تجري". قال: "وهذا خطأٌ عند البصريين". قال: "لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه، وشُبْهَتُه: انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه "صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ"، ويجوز أن يكونَ "تجري" مستانَفاً".
(9/128)
---(1/3583)
قلت: وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ: ونَقَل غيرُه عن الفراء فيالآية تاويلين ىخرين، أحدُهما: على حذف لفظةِ "أنَّا" والأصلُ: صفةُ الجنَّة أنها تجري، وهذا منه تسيرُ معنىً لا إعرابٍ، وكيف يَحْذِفُ "أنها" من غير دليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ "مثل" زائدةٌ، والأصل: الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار، وزيادةُ "مَثَل" كثيرةٌ في لسانِهم. ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} وقد تقدَّم.
وقال الزمخشري: "وقال غيرُه: -أي سيبويه- الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} كما تقول: صفةُ زيدٍ أسمرُ". قال الشيخ: "وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ "تَجْري" خبراً عن الصفةِ، ولا "أسمر" خبراً عن الصفة، وإنما يُتَأَوَّل "تجري" على إسقاطِ "أنْ" ورفعِ الفعل، والتقدير: أَنْ تَجْري، أي: جَرَيانُها.
وقال الزجَّاج: "مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري، على حَذْفِ الموصوف تمثيرلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده". ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال: "لا يَصِحُّ ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِه تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة، وقال: معناه الشبه.
وقرأ عليٌّ وابن مسعود "أمثال الجنة"، أي: صفاتها.
و {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} كقوله "تَجْرِي" في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو الحالية. وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة".
* { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ }
(9/129)
---(1/3584)
قوله تعالى: [{وَلاا أُشْرِكَ}]: قرأ نافع في روايةٍ عنه برفع {وَلاا أُشْرِكُ} وهي تحتمل القطع، أي: وأنا لا أُشْرِك، وقيل: هي حالٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنفيَّ بـ "لا" كالمُثْبِتِ في عدمِ مباشرة واوِ الحال له.
* { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ }
و {حُكْماً} حال/ من مفعولِ "أنزلناه". والكاف في "كذلك" نصب، أي: وكما يَسَّرنا هؤلاء للفرحِ، وهؤلاء لإنكار البعضِ كذلك اَنْزَلْناه حُكْماً.
* { يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ: "ويُثْبتُ" مخففاً مِنْ اَثْبَتَ، والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ للتعدية. ولا يَصِحُّ ان يكونَ التضعيفُ للتكثير، إذ من شرطِه أن يكون متعدياً قبل ذلك. ومفعولُ "يُثْبِتُ" محذوفٌ، أي: ويُثْبِتُ ما يشاء.
* { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }
(9/130)
---(1/3585)
قوله تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}: جوابٌ للشرط قبله. قال الشيخ: "والذي تقدَّم شرطان؛ لأنَّ المعطوفَ على الشرط شرطٌ: فامَّا كونُه جواباً للشرط الأول فليس بظاهرٍ؛ لأنه لا يترتَّب عليه؛ إذ يصير المعنى: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ ما نَعِدُهم من العذاب فإنَّما عليك البلاغُ، وأمَّا كونُه جواباً للشرطِ الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك؛ لأنه يصير التقدير: إنْ ما نَتَوَفَّيَنَّك فإنما عليك البلاغُ، ولا يترتَّب جوابُ التبليغِ عليه -على وفاتِه عليه السلام- لأنَّ التكليفَ ينقطعُ عند الوفاة فيُحتاج إلى تأويل: وهو أنْ يُقَدَّرَ لكلِّ شرطٍ ما يناسبُ أَنْ يكون جزاءً مترتباً عليه، والتقدير: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذلك شافيك مِنْ أعدائك، أو: إنْ نَتَوَفَّيَنَّك قبل خَلْقِه لهم فلا لَوْمَ عليك ولا عَتَبَ".
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {نَنقُصُهَا}: حال: إمَّا مِنْ فاعل "نأتي" أو مِنْ مفعوله. وقرأ "نُنَقِّصُها" بالتضعيف الضحَّاك، عدَّاه بالتضعيف.
قوله: {لاَ مُعَقِّبَ} جملةٌ حالية، وهي لازمةٌ. والمُعَقِّبُ: الذي يكُرُّ على الشيء، فيُبْطله. قال لبيد.
2864- ........................... * طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ
* { وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ }
قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ} قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون "الكفَّار" جمعَ تكسير، والباقون "الكافر" بالإفراد، ذهاباً إلى الجنس. وقرأ عبد الله "الكافرون" جمعَ سلامةٍ.
(9/131)
---(1/3586)
* { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }
قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ}: العامَّة [على فتح ميم] "مَنْ"، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و {عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و "عِلْمُ" فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ لـ "مَنْ".
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: "ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على المصووف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ". واعترض الشيخُ عليه بأنَّ "مَنْ" لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات غلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضَها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
(9/132)
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} جعلوا "مِنْ" حرفَ جرّ، و "عندِه" مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و "عِلْم" مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يجعلون "مِنْ" جارَّةً، و "عُلِمَ" مبنياً للمفعول، و "الكتابُ" رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد "عُلِّم". والضمير في "عنده" على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً "وبمَن" بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة.(1/3587)
سورة إبراهيم
* { الار كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}: يجوزُ أَنْ يرتفعَ خبراً لـ "ألر" إن قلنا إنها مبتدأٌ، والجملةُ بعده صفةٌ، ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا كتابٌ، وأن يرتفعَ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنها موصوفةٌ تقديراً. تقديره: كتابٌ أيُّ كتابٍ، يعني عظيماً مِنْ بينِ الكتبِ السماوية.
قوله: "لِتُخْرِجَ" متعلقٌ بـ "أَنْزَلْنا" وقُرِئَ "ليَخْرج الناسُ" بفتح الياء وضمَِّ الراء مِنْ خَرَجَ يَخْرُجن "الناس" رفعاً على الفاعلية.
قوله: "بإذنِ" يجوز أن يتعلَّقَ بالإخراج، أي: بتسهيله وتيسيرِه، ويجوز أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ "تُخْرِجَ"، أي: مأذوناً لك.
قوله: {إِلَى صِرَاطِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قوله {إِلَى النُّورِ} بإعادة العاملن ولا يَضُرُّ الفصلُ بالجارِّ لأنه من معمولاتِ العاملِ في المُبْدَلِ منه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نور؟ إلى صراط.
(9/133)
---(1/3588)
* { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
قوله تعالى: {اللَّهِ الَّذِي}: قرأ نافعٌ وابن عامرٍ برفعِ الجلالةِ والباقون -ورواها الأصمعيُّ عن [نافع]- بالجرِّ.
فأمَّا الرفعُ فعلى وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه الموصولُ بعده، أو محذوفٌ تقديرُه: اللهُ الذي له ما في السمواتِ وما في الأرضِ العزيزُ الحميد، حُذِف لدلالة ما تقدَّم. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو اللهُ، وذلك على المدح.
وأمَِّا الجرُّ فعلى البدلِ عند أبي البقاء والحوفي وابنِ عطية، والبيان عند الزمخشري قال: "لأنه جَرَى مَجْرَى الأسماءِ الأعلامِ لغلبتِه على المعبودِ بحق كالنجم للثريا". قال الشيخ: "وهذا التعليلُ لا يتمُّ إلا أن يكونَ أصلُه الإله، ثم فُعِل فيه ما تقدَّم أولَ هذا الموضوع". وقال الأستاذ ابن عصفور: "ولا تُقََدِّمُ صفةٌ على مَوصوفٍ إلا حيث سُمِع، وهو قليلٌ، وللعربِ فيه وجهان، أحدُهما: أنْ تتقدَّمَ الصفةُ بحالها، وفيه إعرابان للنحويين، أحدُهما: أن تُعْرَبَ صفةً متقدمةً. والثاني: أن يُجعل/ الموصوفُ بدلاً من صفتِه. الثاني من الأولين: أن تُضيفَ الصفةَ إلى الموصوف. فعلى هذا يجوز أن يُعْرَبَ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} صفةً متقدمةً، ومِنْ مجيء تقديمِ الصفةِ قولُه:
2865- والمُؤْمِنِ العائذاتِ الطيرِ يَمْسَحُها * رُكْبانُ مكةَ بين الغِيل والسَّنَدِ
وقول الآخر:
2866- وبالطويل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً
يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل. قلت: وهذا فيما لم يكنِ الموصوفُ كرةً، أمَّا إذا كان نكرةً صار لنا عملٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ تلك الصفةُ على الحال.
(9/134)
---(1/3589)
قوله: {وَوَيْلٌ} جاز الابتداءُ به لأنه دعاء كـ "سلامٌ عليكم". و "للكافرين" خبره. و {مِنْ عَذَابٍ} متعلِّقٌ بالويل. ومنعه الشيخ. لأنه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وقد تقدَّم لك بحثٌ في ذلك: وهو أنَّ ذلك ممنوعٌ حيث يتقدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ، ولذلك جَوَّزوا تعلُّقَ {بِمَا صَبَرْتُمْ} بـ "سلام" ولم يَعْترضوا عليه بشيء، وقد تقدَّم ذلك في السورةِ قبلها، ولا فرقَ بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: ما وجهُ اتصالِ قولِه: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يُوَلْوِلون من عذاب شديد". قال الشيخ: "فظاهره يدلُّ على تقدير عاملٍ يتعلَّقُ به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. ويجوز أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للمبتدأ، وفيه سَلامةٌ من الاعتراضِ المتقدم، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر.
* { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَائِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأً خبرُه "أولئك" وما بعده، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم الذين، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ على المدح فيهما، وأن يكون مجروراً على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ، قاله الزمخشري وأبو البقاء والحوفيُّ وغيرُهم. وردَّه الشيخ بأنَّ فيه الفَصْلَ بأجنبي وهو قولُه {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال: "ونظيرُه إذا كان صفةً أن تقول: "الدارُ لزيدٍ الحسنةُ القُرَشِيِّ: وهذا لا يجوز، لأنك فَصَلْتَ بين زيد وصفتِه بأجنبيٍّ منهما وهو صفةُ الدار، وهولا يجوز، والتركيبُ الفصيحُ أن تقول: الدارُ الحسنةُ لزيدٍ القرشيِّ، أو: الدارُ لزيدٍ القرشيِّ الحسنةُ".
و "يَسْتَحِبُّون": استفعلَ فيه بمعنى أَفْعَل كاستجاب بمعنى أجاب، أو يكونُ على بابه، وضُمِّن معنى الإيثار، ولذلك تعدَّى بـ على.
(9/135)
---(1/3590)
وقرأ الحسن "ويُصِدُّون" مِنْ أَصَدَّ، وأَصَدَّ منقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِن والمقعولُ محذوفٌ، أي: غيرَهم، أو أنفسَهم.
و {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدَّم مثله.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}: يجوز أن يكونَ حالاً، أي: إلاَّ متكلِّماً بلغةِ قومِهِ. وقرا العامَّةُ "بلسان" بزِنَةِ "كِتاب"، أي: بلغةِ قومِه. وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال وأبو عمران الجوني :بِلِسْنِ" بكسر اللام وسكون السين. وفيه قولان، أحدُهما: أنهما بمعنى واحدٍ كالرِّيش والرِّياش. والثاني: أن اللسانَ يُطْلَقُ على العضوِ المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسْنُ فخاصٌّ باللغة، ذكره ابن عطية وصاحب "اللوامح".
وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدريُّ "بِلُسُن" بضمِّ اللام والسين وهو جمع "لِسان" ككِتاب وكُتُب. وقرئ بسكونِ السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءةِ قبلَه، نحو: رُسْل في رُسُل، وكُتْب في كُتُب.
والهاءُ في "قومه" الظاهرُ عَوْدُها على "رسول" المذكور. وعن الضحاك: أنها تعود لمحمد صلَّى الله عليه وسلم، وغَلَّطوه في ذلك؛ إذ يصير المعنى: أنَّ التوراةَ وغيرَها أُنْزِلَتْ بلسان العربِ، ليُبَيِّن لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم التوراة.
قوله: {فَيُضِلُّ} استئنافُ إخبارِ، ولا يجوز نصبُه عطفاً على ما قبله، لأنَّ المعطوفَ كالمعطوف عليه في المعنى، والرسلُ اُرْسِلَتْ للبيانِ لا للإضلالِ. قال الزجاج: لو قَرِئ بنصبِه على أنًّ اللامَ لامُ العاقبة جاز".
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
(9/136)
---(1/3591)
قوله تعالى: {أَنْ أَخْرِجْ}: يجوز أن تكونَ "أنْ" مصدريةً، أي: بأَنْ أخْرِجْ. والباءُ في "بآياتنا" للحال، وهذه للتعدية. ويجوز أن تكونه مفسرةً للرسالة. وقيل: بل هي زائدةٌ، وهو غلطٌ.
قوله: {وَذَكِّرْهُمْ} يجوز أن يكونَ منسوقاً على "أَخْرِجْ" فيكونَ من التفسير، وأن لا يكونَ منسوقاً، فيكونَ مستأنفاً. و "أيام الله" عبارةٌ عن نِعَمه، كقوله:
2867- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ * عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا
أو نَقَمه، كقوله:
2868- وأيامُنا مشهورةٌ في عَدُوِّنا * ......................
ووجهه: أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ/ إلى الزمان مجازاً، وتُضيفُه إليها كقولهم: نهارٌ صائمٌ، وليل قائمٌ، ومَكْرُ الليلِ.
* { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلااءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ }
قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ}: يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً بـ "نِعْمَةَ". الثاني: أن يكونَ بـ "عليكم" ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: "إذ أنْجاكم ظرفٌ للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصِبَ بـ "عليكم"؟ قلت: لا يَخْلو: إمَّا أن يكون صلةً للنعمة بمعنى الإنعام، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة، فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى: اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه. ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين: أنك إذا قلت: {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلاماً حتى تقول: فائضة أو نحوها، وإلاَّ كان كلاماً. والثالث: أنه بدلٌ من "نعمة"، أي: اذكروا وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال.
(9/137)
---(1/3592)
قوله: {وَيُذَبِّحُونَ} حالٌ أُخرى مِنْ {آلِ فِرْعَوْنَ}. وفي البقرة دون واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك.
* { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} يجوزُ أن يكونَ نِسَقاً على {إِذْ أَنجَاكُمْ}، وأن يكونَ منصوباً بـ "اذكروا" مفعولاً لا ظرفاً. وجَوَّز فيه الزمخشري أن يكون نَسَقاً على "نعمة" فهو مِنْ قولِ موسى، والتقدير: وإذ قال موسى: اذكروا نعمةَ الله واذكروا حين تَأَذَّن. وقد تقدَّم ذلك في الأعراف. وقرأ ابن محيصن "يَذْبَحون" مخففاً.
* { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوااْ أَيْدِيَهُمْ فِيا أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوااْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
قوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ}: بدلٌ أو عطفُ [بيانٍ].
قوله: {وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ، او على المبدل منه، وأن يكونَ مبتدأً، خبرُه {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ}، و "جاءَتْهُم" خبر آخر. وعلى ما تقدَّم يكون "لا يعلمهم" حالاً من "الذين"، أو من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ} لوقوعِه صلةً، وهذا عنى أبو البقاء بقوله: "حال من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ}، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ، لأنَّ مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ. وجَوَّز أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً.
(9/138)
---(1/3593)
وقال الزمخشري: "والجملةُ مِنْ قولِه {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} اعتراضٌ. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر، ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ "والذين" مبتدأً و "لا يَعْلمهم" خبره، قال: "والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ". واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين: بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ "جاءَتْهم" حالٌ مما تقدَّم، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها، وهذا كلامٌ صحيح.
قوله: {فَرَدُّوااْ أَيْدِيَهُمْ فِيا أَفْوَاهِهِمْ} يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ، أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ. و "في" على بابِها من الظرفية، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً. فـ "في" بمعنى على، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم: إنَّا كَفَرْنا، فهي بمعنى إلى. ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل، على أن يُراد بالأيدي النِّعَم، أي: رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل، لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل. [ويجوز أن يُراد هذا المعنى، والمرادُ بالأيدي الجوارح]. ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار، والأخيرُ للرسُل، أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل، أي: أطبِقُوا أفواهَكم، يشيرون إليهم بالسكوت، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ.
وقيل: "في" هنا بمعنى الباء. قال الفراء: "قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل "في" موضعَ الباء. يُقال: أَدْخَلَكَ بالجنَّة، وفي الجنَّة، وأنشَد:
2869- وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ * ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ
(9/139)
---(1/3594)
أي: أرغب بها. وقال أبو عبيدةَ: "هذا ضَرْبُ مَثَلٍ، تقول العرب: "رَدَّ يَدَه في فيه"، إذا أمسكَ عن الجوابِ"، وقاله الأخفش أيضاً. وقال القتيبي: "لم نسمعْ أحداً يقول: "رَدَّ يده في فيه" إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به". ورُدَّ عليه، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ.
وقرأ طلحة "تَدْعُونَّا" بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ، كما تُدْغَم في نونِ الوقاية.
* { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوااْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }
قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}: يجوز في "شَكٌّ" وجهان، أظهرُهما: أنه فاعل بالجارِّ قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام. والثاني: أنه مبتدأٌ وخبره الجارُّ، والأولُ أوْلَى، بل كان ينبغي أن يَتَعَيَّن لأنه يلزمُ مِنَ الثاني الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بأجنبيّ وهو المبتدأ، وهذا بخلاف الأول، فإنَّ الفاصلَ ليسَ أجنبياً؛ إذ هو فاعلٌ، والفاعلُ كالجزءِ من رافعه. ويدلُّ على ذلك تجويزُهم: "ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد" بنصب "أحسنَ" صفةً ورفع "الكحلُ" فاعلاً بأَفْعَلَ، ولم يَضُرَّ الفصلُ به بين أَفْعَل وبين "مِنْ" لكونه كالجزء مِنْ رافِعه، ولم يُجيزوا رَفْعَ "أحسن" خبراً مقدَّماً و "الكحلُ" مبتدأ مؤخر، لئلا يلزم الفصلُ بين أَفْعَل وبين "مِنْ" بأجنبي. ووجهُ الاستشهادِ من هذه المسألة: أنهم جعلوا المبتدأَ أجنبياً بخلاف الفاعل، ولهذه المسألةِ موضعٌ غيرُ هذا.
(9/140)
---(1/3595)
وقرأ العامَّةُ "فاطرِ" بالجرِّ. وفيه وجهان: النعتُ والبدليةُ، قاله أبو البقاء: وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الإبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ، ولو جعله عطفَ بيانٍ كان أسهلَ. قال الزمخشريُّ: "أُدْخِلَتْ همزةُ الإنكارِ على الظرف، لأنَّ الكلامَ ليس في الشَّكِّ، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشكَّ لظهورِ الأدلَّةِ وشهادتِها عليه/.
وقوله: "لِيَغْفِرَ" اللامُ متعلِّقةٌ بالدعاء، أي: لأجلِ غفران ربِّكم، كقوله:
2870- دَعَوْتُ لِما نابني مِسْورا * فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
ويجوز أن تكونَ اللامُ مُعَدِّيةً كقولِك: دَعَوْتُكَ لِزيدٍ، وقوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى [الإِيمَانِ]} والتقدير: يَدْعُوْكم إلى غفرانِ ذنوبِكم.
وقوله: {أَن تَصُدُّونَا} العامَّة على تخفيفِ النون. وقرأ طلحةُ بتشديدها كما شدَّد "تَدْعُونَّا". وفيها تخريجان، أحدُهما: ما تقدَّم في نظيرتها على أَنْ تكونَ "أَنْ" هي المخففةَ لا الناصبةَ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، وشذَّ عَدَمُ الفصلِ بينها وبين الجملة الفعلية. والثاني: أنها الناصبةُ، ولكن أُهْمِلَتْ حملاً على "ما" المصدريَّةِ، كقراءةِ "أَنْ يُتِمُّ" برفع "يُتِمُّ". وقد تقدَّمَ القولُ فيه.
و "مِنْ" في {مِّن ذُنُوبِكُمْ} قيل: مزيدةٌ. وقيل: تبعيضيةٌ. وقيل: بمعنى البدلِ, أي: بدلَ عقوبةِ ذنوبكم، كقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
}. قوله: "تُرِيْدون" يجوز أن يكونَ صفةً ثانيةً لـ "بَشَرٌ"، وحُمِل على معناه؛ لأنَّ بمنزلةِ القومِ والرَّهْط، كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وأَنْ يكونَ مُسْتَأنفاً.
* { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
(9/141)
---(1/3596)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ}: يجوز أن يكونَ خبرَ "كان": "لنا"، و {أَن نَّأْتِيَكُمْ} اسمَها، أي: وما كان لنا إتيانُكم بسلطانٍ. و {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} حالٌ. ويجوز أن يكونَ الخبرُ {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} و "لنا" تبيينٌ.
* { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ}: كقوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} وقد تقدَّم, و "لَنَصْبِرَنَّ" جوابُ قسمٍ. وقوله: "ما آذَيْتُمونا" يجوز أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً، وهو الأرجحُ لعدم الحاجةِ إلى رابطٍ ادُّعِيَ حَذْفُه على غير قياس والثاني أنها موصولةٌ اسميةٌ، والعائدُ محذوفٌ على التدريج، إذ الأصل: آذيتمونا به، ثم حُذِفَت الباءُ، فَوَصَلَ الفعلُ إليه بنفسِه.
وقرأ الحسن بكسرِ لامِ الأمرِ في "فَلْيَتَوَكَّلْ" وهو الأصلُ.
* { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }
و {لَنُخْرِجَنَّكُمْ}: جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ، كقوله: "ولَنَصْبِرَنَّ".
قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} في "أوْ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها على بابِها مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين. والثاني: أنها بمعنى "حتى". والثالث: أنها بمعنى "إلا"، كقولهم: "لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي". والقولان الأخيران مَرْدُودان؛ إذ لا يَصِحُّ تركيبُ "حتى" ولا تركيبُ "إلا" مع قولِه "لَتَعُودُونَّ" بخلافِ المثال المتقدم.
(9/142)
---(1/3597)
والعَوْدُ هنا: يُحتمل أن يكونَ على بابِه، أي: لَتَرْجِعُنَّ. و {فِي مِلَّتِنَا} متعلقٌ به، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. [قال:] "فإنْ قلتَ: كأنَّهم على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها. قلت: مَعاذَ اللهِ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى الصيرورة، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً، لا تكاد تسمعهم يستعملون "صار"، ولكن "عاد": ما عُدْتُ أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مالٌ، أو خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد". فقوله "أو خاطبوا" إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ، وهون تأويلٌ حسنٌ.
قوله: {لَنُهْلِكَنَّ} جوابُ قسمٍ مضمر، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على إضمارِ القول، أي: قال: لَنُهْلِكَنَّ. والثاني: أنه أجرى الإيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه.
وقرأ أبو حَيْوَةَ "لَيُهْلِكَنَّ"، و "لَيُسْكِنَنَّكم" بياءِ الغَيْبة مناسَبَةً لقوله "ربُّهم".
* { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }
قوله تعالى: {ذالِكَ}: مبتدأٌ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ. و "لِمَنْ خاف" الخبر. و "مَقامي" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ الأسماءُ لا تُقْحم. الثاني: أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل.
قال الفراء: "مَقامي: مصدرٌ [مضافٌ] لفاعِله، أي: قيامي عليه باالحِفْظ". الثالث: أنه اسمُ مكانٍ. قال الزجاج: "مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ، كقولِه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
}. قوله: "وَعِيْد" أثبت الياءَ هنا وفي (ق) في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وصلاً وحَذَفَها وَقْفاً ورشٌ عن نافع، وحذفها الباقون وَصْلاً ووقفاً.
(9/143)
---(1/3598)
* { وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ }
قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُواْ}: العامَّةُ على "استفتحوا" فعلاً ماضياً، وفي ضميرِه أقوالٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاحِ: الاستنصارُ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} وقيل: طَلَبُ الحكم من الفُتاحة. الثاني: أن يعودَ على الكفَّار، أي: استفتح أُمَمُ الرسلِ عليهم، كقولِه: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} وقيل: يعودُ على قريشٍ لأنهم في سني الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا، وهو على هذا مستأنفٌ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}.
وقرأ ابنُ/ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن "واسْتَفْتِحوا" على لفظِ الأمر، أمراً للرسل بطلبِ النُّصرة، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل. والتقدير: قال لهم: لنهلكنَّ وقال لهم: اسْتَفْتَحُوا.
قوله: "وخابَ" هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه: انتَصروا وظَفِرُوا وخاب. ويجوز أن يكونَ عطفاً على "اسْتَفْتحوا" على انَّ الضميرَ فيه للكفار. وفي غيرها على القولِ المحذوفش، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على الخبر وبالعكس.
* { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ }
و {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ}: جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً لـ "جبارٍ". ويجوز أَنْ تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ، و "جهنمُ" فاعلٌ به. وقوله: "ويُسْقََى" صفةٌ من الجارِّ وحدَه، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية. وقيل: عطفٌ على محذوفٍ، أي: يُلْقَى فيها ويُسْقَى.
و "وراء" هنا على بابها. وقيل: بمعنى "أمام" فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: "من بين يديه" وأنشد:
2871- عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه * يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ
وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير. وقال الآخَرُ في ذلك:
(9/144)
---(1/3599)
2872- أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي * وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا
أي: قُدَّامي. وقال آخر:
2873- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي * لُزومُ العَصَا عليها أَصابعُ
وقال ثعلب: "هو اسمٌ لِما توارَى عنك، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك". لـ" ماء" وفيه تأويلان، أحدهما: أنه على حَذْفِ أداة التشبيه، أي: ماءٍ مثلِ صديد، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديداً، بل مثلُه. والثاني: أنَّ الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ، وليس هو ماءً حقيقةً، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء. وهو قول ابن عطية. وإلى كونِه صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره. وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ، إلا على مَنْ فسَّره بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود، أخذه مِن الصَّدِّ، فكأنه لكراهيِته مَصْدودٌ عنه، أي: يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ.
الثاني: أنه عطفُ بيانٍ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في النكرات، إنما قال به الكوفيون، وتَبعهم الفارسيُّ أيضاً.
الثالث: أن يكونَ بدلاً. وأعري الفارسيُّ "زَيتونةٍ" مِنْ قولِه: "[بُوْقَدُ" مِنْ شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ" عطفَ بيان أيضاً.
والصَّديدُ: ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار. وقيل: ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ مِنَ القَيْحِ.
* { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ}: يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً لـ "ماءٍ"، وان تكونَ حالاً من الضمير في "يُسْقَى"، وأن تكونَ مستأنفةً. و "تَجَرَّع" تَفَعَّل وفيه احتمالاتٌ، أحدُها: أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو: عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ.
(9/145)
---(1/3600)
والثاني: أن يكونَ للتكلُّف نحو: تَحَلَّم، أي، يتكلَّفُ جَرْعَه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه: الثالث: أنه دالٌّ على المُهْلة نحو: فَهَّمته، أي: يتناوله شيئاً فشيئاً بالجَرْع، كما يَفْهَم شيئاً فشيئاً بالتفهيم. الرابع: أنه بمعنى جَرَع المجرد نحو: "عَدَوْت الشيئَ" و "تَعَدَّيْتُه".
{وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}، أي: لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله: "لَمْ يَكَدْ يَرَاها" وستأتي إن شاء الله.
قوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان، أظهرُهما: أنه عائدٌ على "كل جبار". والثاني: أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ.
* { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ }
قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}: فيه أوجه، أحدُها: - وهو مذهبُ سيبويه- أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفرواـ وتكون الجملة من قوله {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مَثَلُهم؟ فقيل: كيت وكيت. والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها غرابةٌ كقولِكََ، صفةُ زيدٍ، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مبذول.
(9/146)
---(1/3601)
الثاني: أن يكونَ "مَثَلَ" مبتدأ، و "أعمالُهم" مبتدأ ثانٍ، و "كرمادٍ" خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول. قال ابن عطية: "وهذا عندي أرجحُ الأقوالِ، وكأنك قلت: المتحصِّلُ في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملةُ المذكورةُ". وإليه نحا الحوفي. قال الشيخ: "وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني عن رابطٍ". قلت: بل الجملةُ نفسُ المبتدأ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلاًّ منها لا يفيد شيئاً، ولا يَبْقَى له أثرٌ، فهو نظيرُ قولك / "هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ".
الثالث: أنَّ "مَثَلَ" مزيدةٌ، قاله الكسائيُّ والفراء: أي: الذين كفروا أعمالُهم كرَمادٍ، فالذين مبتدأ "أعمالُهم" مبتدأٌ ثانٍ و "كرمادٍ" خبرُه. وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ.
الرابع: أن يكونَ "مَثَلَ" مبتدأ، و "أعماُهم" بدلٌ منه، على تقدير: مَثَلُ أعمالِهم، و "كرمادٍ" الخبرُ. قاله الزمخشريُّ:، وعلى هذا فهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم.
الخامس: أن يكونَ "مَثَل" مبتدأً، و "أعمالُهم" بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ، و "كرمادٍ" الخبر، كقول الزَّبَّاء:
2874- ما للجِمال مَشْيِها وئيدا * أجَنْدَلاً يَحْمِلْن أم حديدا
والسادس: أن يكونَ "مَثَل" مبتدأً، و "أعمالُهم" خبرَه، أي: مَثَلُ أعمالِهم، فحذف المضاف. و"كرماد" على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقال أبو البقاء حين ذكر وجهَ البدل: "ولو كان القرآن لجاز إبدالُ "أعمالهم" من "الذين" وهو بدلُ اشتمال"، يعني أنه كان يُقْرَأُ "أعمالِهم" مجرورةً، لكنه لم يُقرأً.
(9/147)
---(1/3602)
و "الرمادُ" معروفٌ" وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام، وجمعُه في الكثرة على رُمُد، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة، وجمعُه على "أَرْمِدَاء" شاذٌّ. والرِّماد: السَّنَةُ أيضاً، السَّنةُ: المَحْل، أَرْمَدَ الماءُ، أي: صار بلون الرماد، والأَرْمَدُ: ما كان على لونِ الرَّماد. وقيل للبعوض "رُمْد" لذلك، ويقال: رَمادٌ رِمْدِدٌ، صار هباءً.
قوله: {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد، و "في يوم" متعلِّقٌ بـ "اشْتَدَّت".
قوله: "عاصفٍ" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه على تقدير: عاصفٍ ريحُه، أو عاصفِ الريح، ثم حُذِفَ "الريح" وجُعلت الصفةُ لليوم مجازاً كقولهم: "يومٌ ماطر" و "ليلُ نائم". قال الهرويُّ: "فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا، كما قال:
2875- إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ * ...............................
أي: كاسِفُ الشمسِ.
الثاني: أنه على النَّسَبِ، أي: ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر.
الثالث: أنه خُفِض على الجِوار، أي: كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في الإعراب فيُقال: اشتدَّت به الريحُ العاصفُ في يوم، فلمَّا وقع بعد اليوم أُعْرِبَ بإعرابه، كقولهم: "جُحرُ ضَبّ خَربٍ". وفي جَعْلِ هذا من صفةُ لِما قُطع عن إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ لتخالفِهما تعريفا وتنكيراً في هذا التركيبِ الخاصِّ.
وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة "يوم" لـ "عاصِفٍ". وهي على حَذْفِ الموصوفِ، أي: في يومِ ريحٍ عاصِف، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك. ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو: بَقْلَةُ الحَمْقَاء.
ويقال: ريحٌ عاصِفٌ ومُعْصِفٌ، وأصلُه من العَصْفِ، وهو ما يُكْسَرُ مِن الزِّرْع فقيل ذلك للريحِ الشديدة لأنها تَعْصِفُ، أي: تكسِرُ ما تَمُرُّ عليه.
(9/148)
---(1/3603)
قوله: {لاَّ يَقْدِرُونَ} مستأنفٌ، ويَضْعُفُ أن يكونَ صفةً ليوم على حَذْفِ العائد، أي: لا يَقْدِرُون فيه، و "مِمَّا كَسَبُوا" متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنَّه حالٌ من "شيء" إذ لو تأخَّر لكانَ صفةً. والتقديرُ: على شيءٍ مِمَّا كسبوا.
* { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ}: قرأ أبو عبد الرحمن بسكونِ الراء وفيه وجهان، أحدُهما: أنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرى الوقف. والثاني: أنَّ العربَ حَذَفَتْ لامَ الكلمة عند عدمِ الجازمِ فقالوا: "ولو تَرَ ما الصبيانُ" فلما دخل الجازمُ تخيَّلوا أن الراءَ محلُّ الجزمِ، ونظيرُه: لم أُبَلْ فإنَّ أصلَه أبالي، ثم حذفوا لامَه رفعاً فلمَّا جزموه لم يَعْتَدُّوا بلامِه، وتوهَّموا الجزم في اللام.
والرؤية هنا قلبيةٌ فـ "أنَّ" في محلِّ المفعولَيْن أو أحدهما على الخلاف. وقرأ الأخَوان هنا {خالقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} "خالق" اسمُ فاعلٍ مضافاً لِما بعده، فلذلك خفضوا ما عُطِفَ عليه وهو الأرض. وفي النور: {خَالقُ كُلِّ دَآبَّةٍ} اسمُ فاعل مضافاً لما بعده. والباقون "خَلَقَ" فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا "الأرضَ" و {كُلِّ دَآبَّةٍ}، فكسرُه "السمواتِ" في قراءة الأخوين خفضٌ، وفي قراءةِ غيرِهما نصبٌ./ ولو قيل بأنه في قراءة الأخوين يجوزُ نَصْبُ "الأرضَّ" على أحدِ وجهين: إمَّا على المحلِّ، وإمَّا على حَذْفِ التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون "السمواتِ" منصوبةً لفظاً وموضعاً، لم يمتنعْ، ولكن لم يُقْرأْ به.
و "بالحقِّ: متعلِّقٌ بـ "خلق" على أن الباءَ سببيةٌ، وبمحذوفٍ على أنها حاليةٌ: إمّا من الفاعلِ، أي: مُحِقَّاً، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بالحق.
(9/149)
---(1/3604)
* { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوااْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }
قوله تعالى: {تَبَعًا}: يجوز أن يكونَ جمع "تابِع" كخادِم وخَدَم وغائِب وغَيَب، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً نحو: قومٌ عَدْلٌ، ففيه ثلاثةُ التأويلاتِ المشهورةِ.
قوله: {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} في "مِنْ" أوجهٌ: أحدُها: أنَّ :مِنْ" الأولى للتبيين، والثانيةَ للتبعيضِ، تقديرُه: مُغْنون عنا بعضَ الشيئِ الذي هو عذابُ الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ: "هذا يقتضي التقديمَ في قوله "مِن شَيْءٍ" على قوله {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ}؛ لأنه جَعَلَ {مِن شَيْءٍ} هو المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب، و "مِنْ" التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه ولا يتأخَّر". قلتُ: كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى، فإنَّ {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} لو تأخَّر عن "شيء" كان صفةً له ومُبَيِّناً، فلمَّا تقدَّم انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ.
الثاني: أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى: هل أنتم مُغْنُون عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ الله؟ أي: بعض عذاب الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وهذا يقتضي أن يكونَ بدلاً، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشيء مطلقةٌ، فلا يكون لها بعضٌ". قلت: لا نزاعَ أنه يقالُ: بعضُ البعض، وهي عبارةٌ متداولةٌ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه، وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه، جنسٌ لِما تحته.
(9/150)
---(1/3605)
الثالث: أنَّ "مِنْ" في {مِن شَيْءٍ} مزيدةٌ، و "مِنْ" في {مِنْ عَذَابِ} فيها وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء، فلمَّا تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال. والثاني: أنها تتعلَّق بنفس "مُغْنُونْ" على أن يكون "شيء" واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنى. ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء، قال: "ومِنْ زائدةٌ، أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ "شيء" واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنَى، فيكون {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} متعلقاً بـ "مُغْنُوْن". وقال الحوفيُّ أيضاً: {ومِنْ عَذَابِ اللَّهِ} متعلٌ بـ "مُغْنُون"، و "مِنْ" في {مِن شَيْءٍ} لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد".
قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} إلى آخرِه، فيه قولان، أحدُهما: أنه مِنْ كلام المستكبرين. والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاءِ معاً. وجاءَتْ كلٌّ جملةٍ مستقلةٍ من غيرِ عاطف دلالةً على أنَّ كلاًّ من المعاني مستقلٌّ بنفسه كافٍ في الإخبار. وقد تقدَّم الكلامُ في التسويةِ والهمزةِ بعده في أول البقرة.
والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ. قال امرؤ القيس:
2876- جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعاً * وعَزَّيْتَ قلباً بالكواعب مُولعاً
وقال الراغب: "أصل الجَزَعِ: قَطْعُ الحَبْل مِنْ نصفه يقال: جَزَعْتُه فانْجَزَعْ، ولتصَوُّرِ الانقطاع فيه قيل: جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِه، ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره. قيل للخرزِ المتلوِّن: جَزْعٌ، واللحمُ المُجَزَّع ما كان ذا لونين، والبُسْرَة تلْقى علهيا رؤوس الخشب من الجانبين، وكأنه سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإنسان عمَّا هو بصددِه.
والمَحيصُ: يكون مصدراً ويكون مكاناً. ويقال: جاض بالضاد المعجمة وجَيْضاً، بها وبالجيم.
(9/151)
---(1/3606)
* { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوااْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {وَعْدَ الْحَقِّ}: يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، أي: الوعد الحق، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى، أي: وَعَدَكم الله وَعْدَه، وأن يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإجمال، فتكونَ إضافةً صريحةً.
قوله: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ. والثاني: أنه متصلٌ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ.
وقُرِئَ "فلا يَلُوْموني" بالياء من تحتُ على الالتفاتِ، كقولِه: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم
}. قوله: {بِمُصْرِخِيَّ} العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ. وقرأ حمزةُ بكسرِها، وهي لغةُ بني يَرْبوع. وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً: فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ، ومِنْ مجوِّزْ لها بضعفٍ.
(9/152)
---(1/3607)
قال حسين الجعفي: "سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه". وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة، منها ما تقدَّم، ومنها: "سألت أبا عمروٍ وقلت: إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال: هي جائزة أيضاً، إنما أراد تحريك الياء، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ". وعنه: مَنْ شاء فتحَ، ومَنْ شاء كسر، ومنها أنه قال: إنها بالخفضِ حسنةٌ. وعنه قال: قَدْم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً، فسألتُه عن شيء [مِنْ] قراءة الأعمش واستشعرتُه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بالجرِّ فقال: هي جائزةٌ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [مَنْ فوقَ السجستاني]:
2877- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ * لم يستطعْ صَوْلَةَ ابُزْلِ القناعيسِ
ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات: منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين، وذلك أنَّ/ ياءَ الإعرابِ ساكنةٌ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتفاء الساكنين. الثاني: أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً، وبياءٍ إذا كانت مكسورة، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في "عليْهِ"، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ، كما يَصِل ابن كثير نحو: "عليهي" بياء، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها. وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع، قال: يزيدون على ياء الإضافة ياءً، وأنشد:
2878- ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ * قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ
(9/153)
---(1/3608)
أنشده الفراء وقال: "فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين". وقال أبو عليّ: "قال الفراء في كتاب "التصريف" له: زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ، وكان ثقةً بصيراً".
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال: "هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُولَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ". وقال أبو جعفر: "صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ". وقال الزمخشري: "هي ضعيفةٌ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول:
2879- قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ * قالت له: ما أنت بالمَرْضِيِّ
وكأنه قدَّر ياء الإضافة ساكنةً، وقبلها ياءٌ ساكنة، فحرَّكها بالكسر لِما علهي أصلُ التقاءِ الساكنين، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو: "عصايَ" فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ: جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ساكنةً" بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل. قلت: هذا قياسٌ حسنٌ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ".
قال الشيخ: "أمَّا قولُه "واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون: "ما فِيَّ أفعلُ" بكسر البياء". قلت: الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ، قال: "ورأيتُه أنا في أول ديوانِه، وأولُ هذا الرجز:
2880- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ * عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ
(9/154)
---(1/3609)
ثم قال الشيخ: "وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج. وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِهِ "حيث قلبها ألفٌ" فلا أعلم "حيث" تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو: "قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر" فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ" قلت: إطلاقُ النحاةِ قولَهم: إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا، ولا يُحتاج [إلى] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية.
ثم قال: وأمَّا قولُه "ياء الإضافةِ إلا آخره" قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو "محياْيْ". قلت: مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ. وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ، وهو قوله:
2881- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ * لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب "المعاني" له: "وقد خَفَضَ الياء مِنْ "بمُصْرِخِيَّ" الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في "بمُضْرِخِيَّ" خافضةٌ للفظِ كلِّه، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك". قال: "ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله: {نُوَلِّهْ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ} بالجزم في الهاء". ثم ذكر غيرَ ذلك.
وقال أبو عبيد: "أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها".
قال الأخفش: "ما سَمِعْتُ بهاذ مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين". قال النحاس: "فصار هذا إجماعاً".
(9/155)
---(1/3610)
قلت: ولا إجماعَ. فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ. وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ، قال في "حُجَّته". "وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما، وكالكاف في "أكرمتُك" و "هذا لك"، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا: لهُوْ، وضَرَبَهُوْ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال "أَعْطَيْتُكاه" و "أَعْطَيْتُكِيْه" فيما حكاع سيبويه، وهما أختا الياء، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر:
2882- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ * وما أَخْطَأْتِ [في] الرَّمْيَهْ
كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا: "فِيَّ"، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال:
2883- ......................... * ............. لَهْ أَرِقانِد
وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ".
قلت: مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه: "لَهْ أَرِقان" حَذْفُ الصلةِ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ، ولو مَثَّل بنحو "عليهِ" و "فيهِ" لكن أولى.
ثم قال الفارسيُّ: "كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل: أعطيتكِهُ وأَعْطَيْتُكِهِ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ". قال: "فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ، وما كان كذلك لا يكون لحناً".
(9/156)
---(1/3611)
قلت: وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه. وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً، قال الزجاج: "أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ". قال الفراء: "ألا ترى أنهم يقولون: مُذُ اليومِ، ومُذِ اليوم، والرفعُ في الذال هو الوجهُ، لأنه أصلُ حركةِ "منذ"، والخفضُ جائزٌ، فكذلك الياءُ من "مُصْرِخيَّ" خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب".
قلت: تشبيهُ الفراءِ المسألةَ بـ "مذ اليوم" فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيهـ وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه: فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيحٍ". وقد اضطري النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ" مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً، والتصويبَ أخرى، ولعل الأمرَ كذلك، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ.
التوجيهُ الثالث: أنَّ الكسرَ للإتباعِ لِما بعدها، وهو كسرُ الهمزِ من "إنِّي" كقراءةِ "الحمد لله"، وقولهم" بِعِير وشِعِير وشِهيد، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها، وهو ضعيفٌ جداً.
التوجيه الرابع: أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلَها قَوِيَتْ بالإدغام، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركاتِ الإعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح.
والمُصْرِخُ: المُغِيْث يُقال: اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني، أي: أعانني، وكأنَّ همزَتَه للسَّلْب، أي: أزال صُراخي. والصَّارخ هو المستغيثُ. قال الشاعر:
2884- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ * وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ
ويُقال: صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة. قال:
(9/157)
---(1/3612)
2885- كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ * كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ
يريد: كان بدل الإصراخ، فحذف المضافَ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً
}. والصَّريْخُ: القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال:
2886- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ * ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ
والصَّريخُ أيضاً: المُغِيثون فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط، وأن يكونَ مصدراً في الأصل. وقال: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر، وتَصَرَّخ: تكلَّف الصُّراخ.
قوله: {بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} يجوزُ في "ما" وجهان: أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى الذي. ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه الأصنامُ، تقديرُه: بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه، كذا قال أبو البقاء، والعائدُ محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حُذِفَ، يعني بعد حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباءِ؛ لأن هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو: شَرَكْتُ زيداً، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسَبته ثانياً هو العائد، تقول: أَشْرَكْتُ زيداً عمراً، دعلتثه شريكاً له. الثاني: أنه الباري تعالى، أي: بما أشركتموني، أي: بالله تعالى، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، إلا أنَّ فيه إيقاعَ "ما" على مَنْ يَعْلَمُ، والمشهورُ فيها أنها لغير العاقل.
(9/158)
---(1/3613)
قال الزمخشريُّ: "ونحو: "ما" هذه "ما" في قولهم" سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ"، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ عبادةِ الأوثانِ". قال الشيخ: "ومن مَنَع ذلك جَعَل "سبحان" عَلَماً للتسبيح كما جعل "بَرَّة" عَلَماً للمَبَرَّة، و "ما" مصدرية ظرفية"، أي: فيكون على حذفِ مضافٍ، أي: سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ بالله.
الثاني من الوجهين الأولين: أنها مصدريةٌ، أي: بإشراككم إياي.
قوله: {مِن قَبْلُ} متعلِّقٌ بـ "كَفَرْتُ" على القولِ الأول، كفرتُ مِنْ قبلُ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى، و بـ "أشركْتُ" على الثاني، أي: كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم، أي في الدنيا، كقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} هذا قولُ الزمخشريُّ. وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ وبأشركتموني، من غير ترتيبٍ على كون "ما" مصدريةً أو موصولية فقال: "ومِنْ قبلُ: متعلِّقٌ بأشركتموني، أي: كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل. وقيل: وهي متعلِّقةٌ بـ "كفرتُ" أي: كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً".
وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في "أشركتموني" وصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً.
وهنا تمَّ كلامُ الشيطان. وقوله: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} مِنْ كلامِ الله تعالى، ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان. و "عذاب" يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على أنه الخبر، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ.
* { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ }
(9/159)
---(1/3614)
قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ} قرأ العامَّةُ "أُدْخِلَ" ماضياً مبنياً للمفعولِ، والفاعلُ اللهُ أو الملائكة. والحسن وعمرو بن عبيد "وأُدْخِلُ" مضارعاً مسنداً للمتكلم وهو الله تعالى، فمحَلُّ الموصولِ على الأول رفعٌ، وعلى الثانية نصبٌ.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} في "[قراءةِ] العامَّةِ يتعلق بأُدْخِلَ، أي: أُدْخِلوا بأمرهِ وتيسيرِه. ويجوز تعلُّقه بمحذوف على أنه حالٌ، أي: ملتبسين بأمرِ ربهم، وجوَّز أبو البقاء أن يكون من تمام "خالدين" يعني أنه متعلِّقٌ به، وليس بممتنعٍ. وأمَّا على قراءة الشيخين فقال الزمخشري: "فيم تتعلَّق في القراءة الأخرى، وقولُك "وأُدْخِلُ أنا بإذنِ ربِّهم" كلامٌ غير مُلتئمٍ؟ قلت: الوجهُ في هذه القراء أَنْ يتعلق بما بعده، أي: تحيتُهم فيها سلامٌ بإذن ربهم". ورَدَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يتقدَّم معمولُ المصدر عليه.
وقد عَلَّقه غيرُ الزمخشري بأُدْخِلُ، ولا تنافَرَ في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلم أن المتكلم -في قوله: وأُدْخِلُ أنا -هو الربُّ تعالى. وأحسنُ من هذين أن تتعلَّقَ في هذه القراءة بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم تقريرُه. و "تحيتُهم" مصدرٌ مضاف لفاعله، أي: يُحَيِّي بعضُهم بعضاً. ويعضد الأولَ: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} و "فيها" متعلقٌ به.
* { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ }
(9/160)
---(1/3615)
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ "ضَرَبَ" متعديةٌ لواحدٍ، بمعنى: اعتمد مثلاً، ووضَعَه، و "كلمةً" على هذا منصوبةٌ بمضمرٍ، أي: جعل كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة، وهو تفسيرٌ لقولِه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} كقولك: "شرَّفَ الأميرُ زيداً ساه حُلَّة، وحمله على فرس"، وبه بدأ الزمخشري. قال الشيخ: "وفيه تكلُّفُ إضمار لا ضرورةَ تدعو إليه". قلت: بل معناه إليه فيُضطرُّ إلى تقديرِهِ محافظةً على لَمْح هذا المعنى الخاصِّ.
الثاني: أنَّ "ضَرَب" متعديةٌ لاثنين لأنها بمعنى "صَيَّر"، لكنْ مع لفظ "المَثَل" خاصة، وقد تقدَّم تقريرُ هذا أولَ هذا الموضوعِ، فتكون "كلمةً" مفعولاً أولَ، و "مَثَلاً" هو الثاني، فيما تقدَّم.
الثالث: أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو "مَثَلاً" و "كلمةً" بدلٌ منه، و "كشجرةٍ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي كشجرةٍ طيبةٍ، وعلى الوجهين قبل تكون "كشجرةٍ" نعتاً لـ "كلمة".
وقُرِئ "كلمةٌ" بالرفع، وفيها وجهان. أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المَثَلُ كلمةٌ طيبةٌ، "كشجرةٍ" على هذا نعتاً لكلمة. والثاني: أنها مرفوعةٌ للابتداء، و "كشجرةٍ" خبره.
وقرأ ابن أنس بن مالك "ثابتٍ أصلُها". قال الزمخشري: "فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين القراءتين؟ قلت: قراءةُ الجماعةِ أقوى معنىً؛ لأنَّ قراءةَ أنسٍ أُجْرِيَتِ الصفةُ على "الشجرة"/ وإذا قلت: "مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ" فهو أقوى مِنْ "برجل قائمٍ أبوه" لأنَّ المُخْبَرَ عنه إنما هو الأبُ لا رجل".
والجملةُ مِنْ قولِه "أصلُها ثابتٌ" في محلِّ جرّ نعتاً لشجرة.
* { تُؤْتِيا أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
* {تُؤْتِيا أُكُلَهَا}
(9/161)
---(1/3616)
: ويجوز فيهما أَنْ تكونا مستأنفتين. وجوَّز أبو البقاء في "تُؤْتي" أن تكونَ حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مُؤْتِيَةً. وتقدَّم الخلاف في "أُكُلَها" بالنسبة إلى القرَّاء.
* { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }
وقُرِئ "ومَثَلَ" بنصب "مثلَ" عطفاً على "مثلَ" الأول، "واجْتُثَّتْ" صفةٌ لشجرة. ومعنى "اجْتُثَّتْ": بَلَغَتْ جُثَّتَها، أي: شخصَها، والجُثَّةُ: شَخْصُ الإنسانِ قاعداً ونائماً يقال: اجْتَثَثْتُ الشيءَ، أي: اقتَلَعْتُ، فهو افتِعال من لفظ الجُثَّة، وجَثَثْتُ الشيءَ: قَلَعْتُهُ. قال لقيط الإيادي:
2887- هو الجَلاءُ الذي يَجْتَثُّ أصلَكُمُ * فَمَنْ رَأَى مثلَ ذا يوماً ومَنْ سَمِعا
وقال الراغب: "جُثَّة الشيءِ شَخْصُه الناتِئُ، والمَجَثَّةُ: ما يُجَثُّ به، والجَثِيْثَة: لِما جُثَّته بعد طَحْنه، والجَثْجاث نَبْتٌ".
و "مِنْ قَرار" يجوز أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي، وأن يكونَ مبتدأً. والجملةُ المنفيَّةُ: إمَّا نعتٌ لشجرة وإما حالٌ مِنْ ضميرِ "اجْتُثَّتْ".
* { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ }
قوله تعالى: {بِالْقَوْلِ}: فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقُه بـ "يُثَبَّتُ". والثاني" أنه متعلقٌ بـ "آمنوا".
قوله: "في الحياةِ" متعلِّقٌ بـ "يُثَبَّتُ"، ويجوز أن يتعلَّقَ بالثابِتِ.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ }
قوله تعالى: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} فيه أوجهٌ:
(9/162)
---(1/3617)
أحدُها: أنَّ الأصلَ بَدَّلوا شكرَ نعمةِ [الله] كفراً، كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [أي]: شُكر رزقكم، وَجَبَ عليهم الشكرُ فوضَعُوا موضعَه الكفرَ.
الثاني: أنهم بدَّلوا نفسَ النعمةِ كفراً، على أنهم لمَّا كَفَروها سُلِبوها، فبَقُوا مَسْلوبِي النعمةِ موصوفين بالكفر حاصلاً لهم. قالهما الزمخشري. قلت: وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف على هذا، وقد تقدَّم أن "بَدَّلَ" يتعدَّى لاثنين، أَوَّلُهما من غير حرف، والثاني بالباء، وأن المجرورَ هو المتروكُ، والمنصوبُ هو الحاصلُ، ويجوز حَذْفُ الحرفِ، فيكونُ المجرورُ بالباءِ هنا هو "نعمة" لأنها المتروكةُ. وإذا عَرَفْتَ هذا عَرَفْتَ أنَّ قولَ الحوفيِّ وأبي البقاء أنَّ "كفراً" هو المفعولُ الثاني ليس بجيدٍ؛ لأنه هو الذي يَصِل إليه الفعل بنفسِه لا بحرف الجر، وما كان كذا فهو المفعولُ الأول.
* { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }
قوله تعالى: {جَهَنَّمَ}: فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ من "دارَ". الثاني: أنه عطفُ بيانٍ لها. وعلى هذين الوجهين فالإحلالُ يقع في الآخرة. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على الاشتغال بفعلٍ مقدَّر، وعلى هذا فالإحلالُ يقع في الدنيا، لأنَّ قولَه {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} واقعٌ في الآخرة.
(9/163)
---(1/3618)
ويؤيِّد هذا التأويلَ قراءةُ ابن أبي عبلة "جهنمُ" بالرفع، على أنها مبتدأٌ، والجملةُ بعدها الخبرُ. وتحتمل قراءةُ ابن أبي عبلة وجهاً أخرَ: وهو أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمر، و "يَصْلَوْنها" حالٌ: إمَّا مِنْ "قومَهم"، وإمَّا مِنْ "دارَ"، وإمَّا مِنْ "جهنمَ". وهاذ التوجيهُ أَوْلى من حيث إنه لم يتقدَّمْ ما يرجِّح النصبَ، ولا ما يَجْعلُه مساوياً، والقرَّاء الجماهيرُ على النصبِ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحَ، إلاَّ لأن المسألة لَيستْ الجماهيرُ على النصبِ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحِ إلاَّ لأن المسألة لَيستْ من الاشتغالِ في شيءٍ. وهذا الذي ذكرتُه أيضاً مُرَجِّح لنصبهِ على البدليَّة أو البيانِ على انتصابِه على الاشتغال.
والبَوارُ: الهَلاكث، قال الشاعر:
2888- فلم أرَ مثلَهُم أبطالَ حربٍ * غداةَ الرَّوْعِ إذ خِيْفَ البوارُ
وأصلُه من الكَسادِ، كما قيل: كَسَد حتى فَسَد، ولَمَّا كان الكسادُ يؤدي إلى الفسادِ والهلاكِ أُطْلِقَ عليه البَوار. ويقال: بار يَبُورُ بَواراً وبُوراً، ورجل حائرٌ بائرٌ، وقوله تعالى: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} يحتمل أن يكونَ مصدراً وُصِفَ به الجمعُ، وأن يكونَ جمع بائر في المعنى. ومِنْ وقوعِ "بُور" على الواحد قوله:
2889- يا رسولَ المَليكِ إنَّ لساني * راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
أي: هالِكٌ.
* { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }
(9/164)
---(1/3619)
قوله تعالى: {لِّيُضِلُّواْ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيَضِلُّواْ} بفتح الياء، والباقون بضمِّها، مِنْ "أَضَلَّه". واللامُ هي لامُ الجرِّ مضمرةً "أنْ" بعدها، وهي لامُ العاقبةِ لمَّا كان مآلُهم إلى كذلك. ويجوز أن تكونَ للتعليل. وقيل: هي مع فتحِ الياءِ للعاقبةِ فقط، ومع ضمِّها محتملةٌ للوجهين، كأنَّ هذا القائلَ تَوَهَّم أنهم لم يجعلوا الأندادَ لضلالِهم، وليس كما زَعَم؛ لأنَّ منهم مَنْ كفر عناداً، واتخذ الآلهةَ ليضلَّ بنفسِه.
قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} "إلى النارِ" خبرُ "إنَّ". و "المصير" مصدرٌ لـ صار التامة، أي: فإنَّ مرجعَكم كائن إلى النار. وأجاز الحوفيُّ أَنْ يتعلقَ "إلى النار" بـ "مصيرَكم". وقد ردَّ هذا بعضُهم بأنه لو جعلناه مصدراً صار بمعنى انتقل، و "إلى النار" متعلقٌ به، بقيَتْ "إنَّ" بلا خبر، لا يقال: خبرُها حينئذ محذوفٌ؛ لأنَّ حَذْفَه في مثل هذا سَقِلُّ، وإنما يكثرُ حَذْفُه إذا كان الاسمُ نكرةً: والخبرُ ظرفاً أو جارَّاً كقوله:
2890- إنَّ مَحَلاًّ وإنْ مُرْتَحَلا * وإنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
* { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }
قوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ "يقيموا" مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقيموا، فحُذِفَتْ وبقي عملُها، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه، كقولِه:
2891- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ * إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا
(9/165)
---(1/3620)
يريد: لِتَفْدِ. أنشده سيبويه، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر. قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يكونَ "يُقيموا" و "يُنْفِقوا" بمعنى: لِيُقيموا ولِيُنْفقوا، ويكون هذا هو المَقُولَ. قالوا: وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو "قُلْ" عِوَضٌ منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ". قلت: وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذفَ هذه اللامِ على أضربٍ: قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ. فالكثيرُ: أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ، والقليلُ: أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله: "محمدُ تَفْدِ" البيت، والمتوسط: أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله:
2892- قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها * تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها
الثاني: أنَّ "يُقيوا" مجزوم على جوابِ "قُلْ"، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم: أقيموا" أَنْ يَفْعلوا، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا.
الثالث: أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره: قل لعبادي: أقيموا وأَنْفِقُوا، يُقيموا وينفقوا. قال أبو البقاء: وعزاه للمبرد- "كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإفسادِه. وهو فاسد لوجهين، أحدُهما: أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ: إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهماـ فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك: قم تقمْ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه: إنْ يُقيموا يُقيموا. والوجه الثاني: أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة، و "يُقيموا" على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ، إذا كان الفاعل واحداً". قلت: أمَّا الإفسادُ الأولُ فقريبٌ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول: قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال.(1/3621)
(9/166)
---
الرابع: أنَّ التقديرَ: إن تَقُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية. قلت: وهذا هو القولُ الثاني.
الخامس: قال ابن عطية: "ويحتمل أن يكونَ "يُقيموا" جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه "قُلْ"؛ وذلك أن تجعلَ "قُلْ" في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعة يُقيموا".
السادس: قال الفراء: "الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول: "أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ". والفرقُ بين هذا وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ.
السابع: قال الفارسيُّ: "إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه: أقيموا". وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه. وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني، كما بُني المنادى في نحو: "يا زيدُ" لوقوعِه موقعَ الضمير، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ حَذْفها في قولِه: "لا تَدْخُلوا الجنَّة ختى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا".
وفي معمول "قُلْ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: الأمرُ المقدَّرُ، أي: قُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، الثاني: أنه نفسُ "يُقيموا" على ما قاله ابنُ عطية. وفيه تفكيكٌ للنَّظْم، وجَعْلُ الجملةِ "يُقيموا الصلاة" إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعموله، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإنفاقُ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً.
قوله: "سرَّاً وعلانِيَةً" في نصبِهشما ثلاثةُ أوجهٍ، أنهما حالان ممَّا تقدَّم، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في "زيد عَدْل"، أي: ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً. الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية. الثالث: أنهما/ منصوبان على المصدرِ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية.(1/3622)
(9/167)
---
قوله: "مِنْ قبل" متعلِّقٌ بـ "يُقيموا" و "يُنْفِقوا"، أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}. والخِلال: المُخالَّة وي المصاحبةُ. يقال: خالَلْتُه خِلالاً ومُخَالَّةً. قال طرفة:
2893- كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه * لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ
وقال امرؤ القيس:
2894- صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى * ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ
وقال الأخفش: "خَلال جمعاً لخُلَّة، نحو: بُرْمَة وبِرام".
* { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ }
قوله تعالى: {مِنَ السَّمَآءِ} يجوز أن يتعلَّق بأًنْزَل، و "مِنْ" لابتداءِ الغاية، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "ما" لأنه صفةٌ، في الأصل، وكذلك "مِن الثمرات" في الوجهين.
وجَوَّز الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ أن تكونَ "مِنْ" لبيان الجنسِ، أي: رِزْقاً هو الثمرات. ويُرَدُّ عليهما: بأنَّ التي للبيان إنما تجيء بعد المبهم. وقد يُجاب عنهما: بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب. وقد تثدَّم الكلامُ في ذلك في البقرة.
و "بأَمْرِهِ" يجوز ان يكونَ متعلِّقاً بـ "تَجْرِي"، أي: بسببِه، أو بمحذوفٍ على أنهما للحالِ، أي: ملتبسةً به.
* { وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ }
قوله تعالى: و {دَآئِبَينَ}: حالٌ مِنَ الشمسِ والقمرِ، وتقدَّم اشتقاقُ الدَّأْبِ.
* { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
(9/168)
---(1/3623)
قوله تعالى: {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}: العامَّةُ على إذافةِ "كُلّ" إلى " ما" وفي "مِنْ" كُلِّ ما سألمتموه، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الأخفش. والثاني: أن تكونَ تبعيضيَّةً، أي: آتاكم بعضَ جميعِ ما سالتموه نظراً لكم ولمصصالحكم، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه، وآتاكم شيئاً مِنْ كُلِّ ما سألتموه، وهو رأيُ سيبويه.
و "ما" يجوز فيها أن تكونَ موصولةً اسمية أو حرفية أو نكرةً موصوفةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ، أي: مَسْؤولكم. فإن كانت مصدريَّةً فالضميرُ في "سَأَلْتموه" عائدٌ على الله تعالى، وإن كانتْ موصولةً أو موصوفةً كان عائداً على اللهِ تعالى، وعائدُ الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ؛ لأنه: إمَّا أن يُقَدَّر متصلاً: سألتموهوه أو منفصلاً: سألتموه إياه، وكلاهما لا يجوز فيه الحَذْفُ لِما قدَّمْتُ لك أولَ البقرةِ في قولِه {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وقرأ ابنُ عباس ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن والضحّاك وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في روايةٍ، {مِّن كُلِّ} منونةً. وفي "ما" على هذه القراءة وجهان، أحدُهما: أنها نافية، وبه بدأ الزمخشري فقال: "وما سأَلْتُموه نفيٌ، ومحلُّه النصبُ على الحال، أي: آتاكم من جميعِ ذلك غيرَ سائِلية". قلت: ويكون المفعولُ الثاني هو الجارِّ مِنْ قوله "مِنْ كُلٍ"، كقوله: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ
}. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، هي المفعول الثاني لآتاكم. وهذا التخريجُ الثاني أَوْلَى، لأنَّ في الأول منافاةً في الظاهر لقراءةِ العامَّة. قال الشيخ: "ولما أحسَّ الزمخشريُّ بظهورِ التنافي بين هذه القراءةِ وبين تلك قال: "ويجوز أن تكونَ "ما" موصولةً على: وآتاكم مِنْ كُلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلُحْ أحوالُكُم ولا معائِشُكم إلا به، فكأنكم طلبتموه أو سألتموه بلسانِ الحال، فتأوَّل "سَأَلْتموه" بمعنى ما احتجتم إليه".
(9/169)
---(1/3624)
قول: "نعمةَ" في معنى المُنْعِمِ به، وخُتِمَتْ هذه بـ {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ}، ونظيرتُها في النحل بـ {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأنَّ في هذه تقدَّمَ قولُه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} وبعده {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} فجاء قولُه {إِنَّ الإنْسَانَ} شاهداً بقُبْحِ مَنْ فَعَلَ ذلك، فناسَبَ خَتْمَها بذلك، والتي في النحل ذكر فيها عدةَ تفصيلاتٍ وبالَغَ فيها، وذكر قولَه {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} أي: مَنْ أوجَدَ هذه النِّعَمَ السابقَ ذكرُها كَمَنْ لم يَقْدِرْ منها على شيءٍ، فَذَكَرَ أيضاً أنَّ مِنْ جملة تَفَضُّلاتِه اتصافَه بهاتين الصفتين.
* { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ }
قوله تعالى: {هَاذَا الْبَلَدَ آمِناً}: مفعولا الجَعْلِ التصييري، وقد تقدَّم تحريرُه في البقرة. قال الزممخشري: "فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين قولِه {اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً} وبين قولِه {هَاذَا الْبَلَدَ آمِناً}؟ قلت: قد سأل في الأول أن يجعلَه مِنْ جملة البلادِ التي يأْمَنُ أهلُها ولا يخافون، وفي الثاني أن يُخْرجَه مِنْ صفةٍ كان عليها من الخوفِ إلى ضدِّها من الأمنِ، كأنه قال: هو بلدٌ مَخُوفٌ فاجْعَلْه آمِناً".
قوله: {وَاجْنُبْنِي} يُقال: جَنَبَه شرَّاً،/ وأَجْنَبَه إياه، ثلاثياً، ورباعياً، وهي لغةُ نجدٍ، وجَنِّبه إياه مشدداً، وهي لغةُ الحجازِ، وهو المَنْعُ، وأصلُه مِنَ الجانب. وقال الراغب: "وقولُه تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} مِنْ جَنَبْتُه عن كذا، أي: أَبْعَدْتُه منه. وقيل: مِنْ جَنَبْتُ الفَرَسَ كأنما أن يقودَه عن جانبِ الشِّرْك بألطافٍ منه وأسبابٍ خفيَّةٍ".
(9/170)
---(1/3625)
و {أَن نَّعْبُدَ} على حَذْفِ الحرف، أي: عن أن. وقرأ الجحدريُّ وعيسى الثقفي "وأَجْنِبْني" بقطعِ الهمزة مِنْ أَجْنَبَ.
* { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
والضميرُ في "إنَّهُنَّ" و "أَضْلَلْنَ" عائدٌ على الأصنامِ لأنها جمعُ تكسيرٍ غيرُ عاقلٍ. وقوله "مني"، أي: من أشياعي.
قوله: {وَمَنْ عَصَانِي} شرطٌ، ومحلُّ "مَنْ" الرفعُ بالابتداءِ، والجوابُ {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائدُ محذوفٌ، اي: له.
* { رَّبَّنَآ إِنَّيا أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِيا إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {مِن ذُرِّيَّتِي}: يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً، وهذا الجارُّ صفتُه، أي: أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" مزيدةً عند الأخفش.
قوله: "بوادٍ"، أي: في وادٍ، نحو: هو بمكة.
قوله: {عِندَ بَيْتِكَ } يجوز أن يكونَ صفةً لـ "وادٍ". وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ بدلاً منه"، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت. وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ "عند" لا تتصرَّف.
قوله: "ليقيموا" يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ، وأن تكونَ لامَ علَّة. وفي متعلقهما حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ، ويكون النداءُ معترضاً. الثاني: أنها متعلقةٌ باجْنُبْني، أي: اجْنُبْهُم الأصْنامَ ليُقِيموا، وفيه بُعْدٌ.
قوله: {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ} العامَّةُ على "أفْئِدة" جمع "فُؤاد" كغُراب وأَغْربة. وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة، فقيل: إشباع، كقوله:
(9/171)
---(1/3626)
2895- ........................ * يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ
أي: تَرِب، وكقوله:
2896- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ * الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ
وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا: الإشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة، قال: "كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في "باركم" و "يَأْمُركم" أنه سَكَّن". وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا.
وقرأ زيدٌ بن عليّ "إفادة" بزنةِ "رِفادة"، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مصدراً لأفاد كأَقام إقامةً، أي: ذوي إفادةٍ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم. والثاني: أن يكون أصلُها "وِفادة" فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو: إشاح وإعاء.
وقرأت أمُّ الهيثم "أَفْوِدَة" بواوٍ مكسورة، وفيها وجهان، أحدُهما: أن يكونَ جمع "فُوَاد" المُسَهًّل: وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَبْلُها واواً نحو: جُوَن، ففُعِل في "فُؤاد" المفرد ذلك، فأُقِرَّت في الجمع على حالها. والثاني: قال صاحب "اللوامح": "هي جمعُ وَفْد". قلت: فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ "أَوْفِدة" بتقديم الواو، إلا أن يُقال: إنه جَمَعَ "وَفْداً" على "أَوْفِدَة" ثم قلَبه فوزنه أَعْفلَة، كقولهم: آرام في أرْآم وبابِه، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو: نَجْد وأَنْجدة، وَوَهْي وأَوْهِيَة. وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة.
وقُرِئ "آفِدَة" بالقَصْرِ، وفيها وجهان أيضاً، أحدُهما: أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح. [والثاني]: أن تكونَ محففةً من "أَفْئِدة". بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها، وحَذْفِ الهمزةِ.
(9/172)
---(1/3627)
و "من الناس" في "مِنْ" وجهان، أحدُهما: أنها لابتداءِ الغاية. قال الزمخشريُّ: "ويجوز أن تكونَ "مِنْ" ىبتداءِ الغايةِ كقولك: "القلبُ مني سقيم" تريد: قلبي، كأنه قيل: أفئدةَ ناسٍ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ "أَفْئدة" لأنها في الآية نكرةٌ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ". قال الشيخ: "ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس".
والثاني: أنها للتبغيضِ، وفي التفسير: لو لم يقل "من الناس" لحجَّ الناسُ كلُّهم.
قوله: "تَهْوي" هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل. والعامَّة "تَهْوِي" بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم. قال:
2897- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه * يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام، كقوله:
2898- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها * طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ
وإنَّما عُدِّي بـ "إلى" لأنه ضُمِّنَ معنى "نميل"، كقوله:
2899- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى * ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّ "إلى" زائدةٌ، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل، ومصدرُ الأول على "هُوِيّ"، كقوله:
2900- ................................. * يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل
والثاني على "هَوَى". وقال أبو البقاء: "معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل".
وقرأ مسلمة بن عبد الله: "تُهْوَى" بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ "أهوى" المنقول مِنْ "هَوِيَ" اللازمِ، أي: يُسْرَع بها إلى إليهم.
(9/173)
---(1/3628)
* { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ }
قوله تعالى: {عَلَى الْكِبَرِ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ "على" على بابها من الاستعلاءِ المجازيِّ. والثاني: أنها بمعنى مع كقوله:
2901- إنِّي على ما تَرَيْنَ من كِبَري * أعلمُ مِنْ تُؤْكَلُ الكَتِفَ
قاله الزمخشري. ومحلُّ هذا الجارِّ النصبُ على الحالِ من الباء في "هَبْ لي".
قوله: {لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} فيه أوجه، أحدُها: أن يكون فعيل مثالَ مبالغةٍ مضافاً إلى مفعولِه، وإضافتُه مِنْ نصبٍ، وهذا دليلٌ لسيبويه على أن فَعِيلاً يعملُ عملَ اسمِ الفاعل، وإن كان قد خالف جمهور البصريين والكوفيين.
الثاني: انَّ الإضافةَ ليسَتْ مِنْ نصبٍ، وإنما هو كقولك: "هذا ضاربُ زيدٍ أمس". الثالث: أنَّ سميعاً مضافٌ لمرفوعه ويُجْعَلُ دعاءُ الله سميعاً على المجاز، والمراد سماع الله، قاله الزمخشري.
قال الشيخ: "وهو بعيدٌ لاستلزامِهِ أن يكونَ من الصفة المشبهة والصفةُ متعديةُ، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الفارسيِّ فإنه يُجيز أن تكونَ الصفةُ المشبهة من العفلِ المتعدِّي بشرطِ أَمْنِ اللَّبْس نحو: "زيد ظالمُ العبيد" إذا عُلِم أن له عبيداً ظالمين، وأمَّا هنا فالَّبْسُ حاصلٌ؛ إذ الظاهرُ أنه من إضافةِ المثالِ للمفعولِ لا للفاعل".
قلت: واللَّبْسُ أيضاً هنا مُنْتَفٍ لأن المعنى على الإسناد المجازي كما تقرَّر فانتفى اللَّبْسُ.
* { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ }
قوله تعالى:{وَمِن ذُرِّيَتِي}: عطفٌ على المفعولِ الأول لـ "تجعلني"، أي: واجعل بعضَ ذرِّيَّتي مقيمَ الصلاة. وهذا الجارُّ في الحقيقة صفةٌ لذلك المحذوفِ، أي: وبعضاً من ذريتي.
(9/174)
---(1/3629)
قوله: {وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} قرأ أو عمروٍ وحمزةُ وورشٌ بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً، والبزيُّ بإثباتها في الحالين، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وقد روي بعضُهم إثباتَها وقفاً أيضاً.
* { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ }
قوله تعالى: {وَلِوَالِدَيَّ}: العامَّةُ على "والِدَيَّ" بألفٍ بعد الواو وتشديدِ الياء، وابن جبير كذلك، إلا أنه سَكَّن الياءَ أراد والده وحدّه كقولِه {وَاغْفِرْ لأَبِيا
}. وقرأ الحسين بن علي ومحمد وزيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر "ولولدي" دون ألف، تثنية وَلَد، ويعني بهما إسماعيل وإسحاق، وأنكرها الجحدريُّ بأنَّ في مصحف أُبَيّ "ولأبويَّ" فهي مفسِّرةٌ لقراءةِ العامَّة.
ورُوي عن ابنِ يعمر أنَّه قرأ "ولِوُلْدي" بضمِّ الواو وسكونِ الياء، وفيها تأويلان، أحدُهما: أنه جمع "وَلَد" كأُسْد في "أَسَد"، وأنْ يكونَ لغةً في الوَلَد كالحُزْن والحَزَن، والعَدَم والعُدْم، والبُخْل والبَخَل، وعليه قول الشاعر:
2902- فليتَ زياداً كان في بَطْنِ أمِّه * وليت زياداً كان وُلْدَ حمارِ
وقد قُرِئَ بذلك في مريم والزخرف ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. و "يومَ" نصبٌ بـ "اغفر".
* { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }
(9/175)
---(1/3630)
قوله تعالى:{لِيَوْمٍ}: أي: لأَجْلِ يومٍ، فاللامُ للعلَّة وقيل: بمعنى إلى، للغاية. وقرأ العامَّة "يُؤَخِّرُهم" بالياء لتقدُّم اسمِ الله الكريم. وقرأ الحسن والسلميُّ والأعرج وخلائق - وتُروى عن أبي عمرو - "نَؤَخِّرُهم" بنون العظمة. و "تَشْخَصُ" صفةٌ لـ "يوم" ومعنى شُخُوصِ البصر حِدّةُ النظرِ وعَدَمُ استقرارِه في مكانِهِ، ويقال: شَخَص سَهْمُهُ وبَصَرُه وأشخصَهما صاحبُهما، وشَخَصَ بصرُه: لم يَطْرِفْ جَفْنُه، ويقال: شَخَص/ مِنْ بلدِه، أي: بَعُدَ، والشَّخْص: سوادُ الإنسانِ المَرْئِيِّ من بعيد.
* { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }
قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: حالان من المضافِ المحذوفِ؛ إذ التقديرُ: أصحاب الأبصار، إذ يُقال: شَخَصَ زيدٌ بصرَه، أو تكون الأبصارُ دلَّتْ على أربابِها فجاءت الحالُ مِن المدلولِ عليه، قالهما أبو البقاء. وقيل: "مُهْطِعين" منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، اي: يُبْصِرُهم مُهْطِعين. ويجوز في "مُقْنِعي" أن يكونَ حالاً من الضمير في "مُهْطِعين" فتكون حالاً متداخلةً. وإضافة "مُقْنعي" غيرُ حقيقيةٍ فلذلك وَقَعَتْ حالاً.
والإهطاع: قيل: الإسراعُ في المشي قال:
2903- إذا دعانا فأَهْطَعْنا لدَعْوَته * داعٍ سميعٌ فَلَفُّونا وساقُوْنا
وقال:
2904- وبمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأن عِنَانَه * في [رأس] جَذْعٍ .......................
وقال أبو عبيدة: "قد يكون الإسراعَ وإدامةَ النظر". وقال الراغب: "هَطَع الرجلُ ببصره إذا صَوَّبه، وبعيرٌ مُهْطِعٌ إذا صَوَّب عُنُقَه". وقال الأخفش: "هو الإقبالُ على الإصغاء" وأنشد:
2905- بِدِجْلَةَ دارُهُمْ ولقد أراهُمْ * بِدِجْلِةَ مُهْطِعِين إلى السَّماعِ
(9/176)
---(1/3631)
والمعنى: مُقْبِلِيْن برؤوسهم إلى سَماع الدَّاعي. وقالَ ثعلب: "أَهْطِع الرجلُ إذا نظر بِذُلٍّ وخُشُوعِ، لا يُقْلِعُ ببصره"، وهذا موافِقٌ لقول أبي عبيدٍ فقد سُمِعَ فيه: أَهْطَعَ وهَطَعَ رباعياً وثلاثياً.
والإقناع: رَفْعُ الرأسِ وإدامةُ النظر من غيرِ التفاتٍ إل غيرِه، قاله القتبيُّ وابنُ عرفة، ومنه قولُه يَصِفُ بلاً ترعى أعالي الشجر فترفع رؤوسها:
2906- يُباكِرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ * نواجِذُهُنَّ كالِحَدأ الوَقيع
ويقال: أَقْنَعَ رأسَه، أي: طَأْطَأها ونَكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعَةُ: الاجتِزاءُ باليسير، ومعنى قَنِع بكذا: ارتفع رأسُه عن السؤال، وفَمٌ مُقَنَّع: مَعْطُوفُ الأسنان داخله ورجلٌ مُقَنَّعٌ بالتشديد. ويقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً وقَنَعاً إذا رَضِيَ، وقَنَعَ قُنُوعاً غذا سَأَل، فوقع الفرقُ بالمصدر.
وقال الراغب: "قال بعضُهم: "أصلُ هذه الكلمةِ مِن القَناع، وهو ما يُغَطَّى الرأسَ، والقانِعُ مَنْ [لا] يُلحُّ في السؤال فَيَرْضَى بما يأتيه كقوله:
2907- لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني * مَفاقِرَه أعفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مَقْنَعٌ يُقْنِعُ به. قال:
2908- .......................... * شُهودِيْ على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ
والرُّؤوس: جمع رَأْس وهو مؤنثٌ، ويُجْمَع في القلة على أَرْؤُس، وفي الكثرةِ على رُؤوس، والأَرْأَسُ: العظيم الرأسِ، ويُعَبَّر بها عن الرجل العظيم كالوجهِ، والرئيس مشتق مِنْ ذلك، ورِئاسُ السيفِ مَقْبَضُهُ، وشاةٌ رَأْساء اسْوَدَّت رأسُها.
قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ} في محلِّ نصب على الحال أيضاً من الضمير في "مُقْنِعِي". ويجوز أن يكونَ بدلاً من "مُقْنِعي" كذا قال أبو البقاء، يعني أنه يَحُلُّ مَحَلَّه. ويجوز أن يكونَ استئنافاً.
والطَّرْفُ في الأصل مصدرٌ، وأُطْلِقَ على الفاعلِ لقولِهم: "ما فيهم عَيْنٌ تَطْرِفُ"، [ولعلَّه] هنا العينُ. قال:
(9/177)
---(1/3632)
2909- وأَغُصُّ طَرْفي ما بَدَتْ لي جارَتي * حتى يُواري جارَتي مَأْواها
والطَّرْفُ: الجَفْنُ أيضاً، يقال: ما طَبَّق طَرْفَه - أي: جَفْنَه - على الآخر، والطَّرْفُ أيضاً تحريكُ الجَفْن.
قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} يجوز أن يكونَ استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعاملُ فيه: إمَّا "يَرْتَدُّ"، وإمَّا ما قبله من العوامل. وأفرد "هواء" وإن كان خبراً عن جمعٍ لأنه في معنى: فارغة متخرَّقة، ولو لم يقصِدْ ذلك لقال: "أَهْوِيَة" ليُطابِقَ الخبرُ مبتدأه.
والهواءُ: الخالي من الأجسام، ويُعَبَّر به عن الجبن، يقال: جَوْفُه هواءٌ، أي: فارغ، قال زهير:
2910- كأن ارَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ * من الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُه هَواءُ
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
2911- ........................... * وأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ
النَّخِب: الذي أَخَذْتَ نُخْبَته، أي: خِيارَه.
* { وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوااْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ }
قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ}: مفعولٌ ثانٍ لـ "أَنْذْرْ"، أي: خَوِّفْهم عذابَ يومٍ، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ يَؤُول إلى قولِك: أَنْذِرْ عذابَ يأتيهم العذابُ، فلا حاجةَ إلى ذلك. ولا جائزٌ أن يكونَ ظرفاً له لأنَّ ذلك اليومَ لا إنذارَ فيه، سواءً قيل: إنه يومُ القيامةِ، أو يومٌ لهلاكهم، أو يومَ يلقاهم الملائكةُ. وقوله: "نُجِبْ" جوابُ الأمر.
قوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوااْ} قال الزمخشريُّ: "على إرادةِ القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بَطَراً وأَسَرَاً، وأَنْ يقولوه بلسان الحالِ حيث بَنَوْا شديداً وأمَّلوا بعيداً".
(9/178)
---(1/3633)
و "مالكم" جوابُ القسمِ، وإنما جاء بلفظِ الخطابِ، لقوله: "أَقْسَمْتُمْ" ولو جاء بلفظِ المُقْسِمين لقيل: ما لنا. وقَدَّر الشيخ ذلك القولَ من قولِ الله تعالى أو الملائكةِ، أي: فيقال لهم: أو لم تكونوا. وهو عندي أظهرُ مِن الأول، أعني جَرَيانَ القولِ مِنْ غيرهم لا منهم.
* { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ }
قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ }: أصلُ "سَكَن" التعدِّي بـ "في" كما في هذه الآيةِ، وقد يتعدَّى بنفسه. قال الزمخشريُّ: "السُّكْنَى مِن السكونِ الذي هو اللُّبْث، وأصلُ تَعَدِّيه بـ "في" كقولك: قَرَّ/ في الدارِ، وأقامَ فيها، وغَنِي فيها، ولكنه لمَّا نُقِل إلى سكونٍ خاص تصَرَّفَ فيه، فقيل: طسَكَنَ الدارَ" كما قيل: تبوَّأَها وأَوْطَنها، ويجوز ان يكونَ من السُّكون، اي: قَرُّوا فيها واطمأنُّوا".
قوله: "وتَبَيَّنَ" فاعلُه مضمرٌ لدلالةِ الكلامِ عليه، [أي]: حالُهم وخبرُهم وهلاكُهم. و "كيف" نَصْبٌ بفَعَلْنا، وجملةُ الاستفهامِ ليست معمولةً لـ "تَبَيَّن"؛ لأنه من الأفعال التي لا تُعَلَّق، ولا جائزٌ أن يكونَ "كيف" فاعلاً،؛ لأنها: إمَّا شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدَّمه، والفاعلُ لا يتقدَّك عندنا.
وقال بعض الكوفيين: "إنَّ جملةَ "كيف فَعَلْنا" هو الفاعلُ"، وهم يُجيزون أن تكونَ الجملةُ فاعلاً، وقد تقدم هذا قريباً في قوله تعالى: "ثم بدا لهم مِنْ بعدِ ما رَأَوُوا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّه".
(9/179)
---(1/3634)
والعامَّةُ على "بَيَّن" فعلاً ماضياً. وقرأ عمر لن الخطاب والسُّلَمي في روايةٍ عنه: "ونُبَيِّنَ" بضمِّ النونِ الأولى والثانية، مضارع "بَيَّن"، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ، أي: ونحنُ نبيِّن. وقرأ السُّلَميُّ - فيما نقل المهدويُّ - كذلك إلاَّ أنه سَكَّن النونَ للجزمِ نَسَقاً على "تكونوا"، فيكونُ داخلاً في حيِّز التقدير.
* { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
قوله تعالى: {وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}: يجوز أن يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لفاله كالأولِ بمعنى: أنَّ مَكْرَهُمْ الذي مكروه جزاؤُه عند الله تعالى، أو للمفعولِ، بمعنى: أنَّ عند الله مَكْرَهم الذي يَمْكُرُهم به، أي: يُعَذِّبهم. قالهما الزمخشري. قال الشيخ: "وهذا لا يَصِحُّ إلا أنَّ "مَكَرَ" لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسِه. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وتقول: زيدٌ ممكورٌ به، ولا يُحْفظ "زيدٌ ممكورٌ" بسبب كذا".
قوله "لِتَزُولَ" قرأ العامَّةُ بكسر اللام، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه، أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ، وفي "كان" حينئذٍ قولان، أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجِبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: "وما كان مَكْرُهم". القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
(9/180)
---(1/3635)
الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: "وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك". وقال ابن عطية: "ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديداً، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور" فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ.
والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً إزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رجَّحَ الوجهان الأخيران على الول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي.
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً.
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي "إنْ" وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى "إلا"، وقد تقدَّم نحقيقُ المذهبين.
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة "وإن كاد مكرهم لَتزول" كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون "كان" دالاًّ فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ.
وقُرِء "لَتَزُوْل" بفتح اللامين. وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام "كي".
* { فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
(9/181)
---(1/3636)
قوله تعالى: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ}: العامَّة على إضافة "مُخلف" إلى "وعدِه" وفيها وجهان، أظهرهما: أن "مُخْلف" يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه، فقدَّم المفعولَ الثاني، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو: "هذا كاسِيْ جُبَّةٍ زيداً" قال الفراء وقطرب: "لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ والتأخير". وقال الزمخشري: "فإن قلت: هلا قيل: مُخْلِفَ رسلِه وعدَه، ولِمَ قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت: قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا يُخْلِفُ الوعدَ ثم ثال "رسله" ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس من شأنِه إخلافُ المواعيد- كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ".
وقال أبو البقاء: "هو قريب من قولهم:
2912- يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ
وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ الشاعر:
2913- ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ * وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ
والحُسبان هنا: الأمر المنتفي، كقوله:
2914- فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي * فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ
الثاني: أنه متعدٍّ لواحدٍ، وهو "وعدِه"، وأمَّا "رُسُلَه" فمنصوبٌ بالمصدر، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه: مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه، فـ "ما" مصدريةٌ لا بمعنى الذي.
وقرأت جماعةٌ {مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ} بنصبِ "وعدَه" وجرِّ "رسلِه" فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ} قال الزمخشري جرأةً منه: "وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ}.
* { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }
(9/182)
---(1/3637)
قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ}: يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً بـ "انتقام"، أي: يقع انتقامُهُ في ذلك اليوم. الثاني: أن ينتصبَ بـ "اذكْر". الثالث: ان ينتصبَ بما يتلخَّص مِنْ معنى {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}. الرابع: أن يكونَ بدلاً من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} الخامس: أن ينتصبَ بـ "مُخْلِف". السادس: أن ينتصبَ بـ "وَعْدِه"، و "إنَّ" وما بعدها اعتراضٌ. ومنع أبو البقاء هذين الأخيرين، قال "لأنَّ ما قبل "إنَّ" لا يعمل فيما بعدها". وهذا غير مانعٍ لأنه كما تقدَّم اعتراضٌ فلا يُبالَى به فاصلاً.
وقوله: "والسمواتُ" تقديرُه: وتُبَدَّل السمواتُ غيرَ السمواتِ. وفي التبديلِ قولان: هل هو متعلِّقٌ بالذات أو بالصفة؟ وإلى الثاني مَيْلُ ابنِ عباس، وأنشد:
2915- فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدْتُهُمْ * ولا الدارِ التي كنتُ تَعْلَمُ
وقرئ "نُبَدِّل" بالنون، "الأرضَ" نصباً، و "السمواتِ" نَسَقٌ عليه.
قوله: "وبَرَزوا" فيه وجهان: أحدُهما أنها جملةٌ مستأنفةٌ، أي: ويَبْرُزُون، كذا قدَّره أبو البقاء، يعني أنه ماضٍ يُراد به الاستقبالُ، والأحسنُ أنه مِثْلُ {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} لتحقُّقِ ذلك.
والثاني: أنها حالٌ من الأرض، و "قد" معها مُرادةٌ، قاله أبو البقاء، ويكون الضميرُ في "بَرَزوا" للخَلْق دَلَّ عليهم السياقُ، والرابطُ بين الحالِ وصاحِبِها الواوُ.
وقرأ زيدُ بنُ علي "وبُرِّزوا" بضم الباءِ وكسر الراء مشددةً على التكثير في الفعلِ ومفعوله.
* { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ }
(9/183)
---(1/3638)
قوله تعالى: {مُّقَرَّنِينَ}: يجوز أن يكونَ حالاً على أنها بَصَرية، وأن يكونَ مفعولاً ثانياً على أنها عِلْمية. و {فِي الأَصْفَادِ} متعلِّقٌ به. وقيل: بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو صفةٌ لـ "مُقَرِّنين". والمُقَرَّنُ: مَنْ جُمِعَ في القَرَن، وهو الحبلُ الذي يُرْبط به، قال:
2916- وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ * لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيٍسِ
وقال آخر:
2917- والخيرُ والشرُّ مَلْزُوزان في قَرَنْ * ......................
وفي التفسير: أنَّ كلَّ كافرٍ يُقْرَنُ مع شيطانِه في سلسلة.
والأَصْفاد: جمعُ صَفَد وهوى الغِلُّ والقيد، يُقال: صَفَده يَصْفِدُه صَفْداً: قَيَّده، والاسمُ: الصَّفَد، وصَفَّده مشدداً للتكثير. قال:
2981- فآبُوا بالنهَّهائِبِ والسَّبابا * وأُبْنا بالمُلوكِ مُصفَّدينا
والصِّفاد مثلُ الصَّفَدِ، وأَصْفَده، أي: أعطاه، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعل. وقيل: بل يُستعملان في القَيْد وفي العطاء.
قال النابغة:
2919- .................. * فلم أُعَرِّض -أبيتَ اللَّعْنَ- بالصَّفَد
أي: بالإعطاءِ، وسُمِّي العَطاءُ صَفَداً لأنه يُقَيِّدُ مَنْ يعطيه ومنه "أنا مَغْلولُ أياديك، وأَسِيْرُ نِعْمَتِك".
* { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ }
قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ}: مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من "المجرمين"، وإمَّا من "مُقَرَّنين"، وإمَّا مِنْ ضميره. ويجوز أن تكونَ مستانفةً، وهو الظاهر.
والسَّرابيلُ: الثياب. وسَرْبَلْتُه، أي: أَلْبَسْتَه السِّربال. قال:
2920- أَوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْباليَهْ
ويُطلقُ على ما يُحَصَّنُ في الحَرْب، من الدِّرْع وشبهِه، قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ
(9/184)
---(1/3639)
}. والقَطِران: ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به. وفيه لغاتٌ: قَطِران بفتح/ القاف وكسر الطاء، وهي قراءةُ العامَّة. وقَطْران بزنة سَكْران وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقال أبو النجم:
2921- لَبَّسَه القَطْرانَ والمُسُوحَا
وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء بزنة سِرْحان، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت.
وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن "بَقَطِرٍ" بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء، "آنٍ" بزون عانٍ، جعلوهما كلمتين, والقَطِر: النحاس، والآني: اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني، أي: تناهى في الحرارةِ كقوله: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} وعن عمرَ رضي الله عنه "ليس بالقَطْران، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه".
وقُرِئ برفعِ "وجوهُهم" ونصبِ "النار" على سبيلِ المجاز، جَعَلَ ورودَ الوجوهِ النارَ غِشْياناً.
والجملةُ من قوله "وتَغْشى" قال أبو البقاء: "حالٌ أيضاً"، يعني أنها معطوفةٌ على الحال، ولا يَعْني أنها حالٌ، والواوُ للحال؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ.
* { لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ}: في هذه الآيةِ وجهان. أولاهما: أن يتعلَّق بـ "بَرَزُوا"، وعلى هذا فقولُه "وَتَرَى" جملةٌ معترضةٌ بين المتعلِّق والمتعلِّق به. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: فَعَلْنا بالمجرمين ذلك ليَجْزي كلَّ نفس؛ لأنه إذا عاقب المجرمَ أثاب الطائعَ.
* { هَاذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوااْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
وقوله تعالى: {هَاذَا} إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ} إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن نُزِّل مَنْزِلةَ الحاضر.
(9/185)
---(1/3640)
قوله: "وَلِيُنْذَروا" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: وليُنْذِرُوا به أَنْزَلْنا عليك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، ذلك المحذوفُ متعلقٌ بـ "بلاغ"، تقديره: ليُنْصَحوا ولِيُنْذَروا. الثالث: أن الواوَ مزيدةٌ و "لِيُنْذَروا" متعلقٌ بـ "بلاغ"، وهو رأيُ الأخفش، نقله الماوردي. الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليُبَلَّغُوا ولِيُنْذَرُوا. الخامس: أن اللامَ لامُ الأمر. قال بعضُهم: وهو حسنٌ لولا قولُه "ولِيَذَّكَّر" فإنه منصوبٌ فقط. قلت: لا محذورَ في ذلك فإنَّ قولَه "ولِيَذَّكَّرَ" ليس معطوفاً على ما تقدَّمه، بل متعلِّقٌ بفعلٍ مقدر، أي: ولِيَذَّكَّر أَنْزَلْناه وأَوْحيناه. السادس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. التقدير: هذا بلاغٌ وهو ليذَّكَّر، قاله ابن عطية. السابع: أنه عطفُ مفردٍ على مفردٍ، أي: هذا بلاغٌ وإنذار، قاله المبرد، وهو تفسيرُ معنى لا إعرابٍ.
الثامن: أنه معطوفٌ على قوله {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} في أولِ السورة. وهذا غريبٌ جداً. التاسع: قاله أبو البقاء: "الممعنى: هذا بلاغٌ للناسِ وللإنضار، فتعلَّق بالبلاغ أو بمحذوفٍ تقديره: ولِيُنْذَروا به أُنْزِل وتُلِي". قلت: فيؤدي التقدير إلى أَنْ يَبْقى التركيبُ: هذا بلاغٌ للإنذار، والإنذارُ لا يتأتَّى فيه ذلك.
وقرأ العامَّة: "لِيُنْذَرُوا"مبنياً للمفعول، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس: "ولِتُنْذِرُوا" بتاءٍ مضمومة وكسرِ الذال، كأنَّ البلاغَ للعموم والإنذار للمخاطبين.
وقرأ يحيى بن عُمارة الذارع عن أبيه، وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي. "ولِيُنْذَرُوا" بفتح ايلاء والذال مِنْ نَذَر بالشيء، أي: عَلِم به فاستعدَّ له، قالوا: ولم يُعرف له مصدرٌ فهو كَعَسَى وغيرِها من الأفعالِ التي لا مصادرَ لها.(1/3641)
سورة الحجر
* { الارَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ }
(9/186)
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} تقدَّم نظيرُها في أولِ الرعد. والإشارة بـ "تلك" إلى ما تضمَّنته السورةُ، ولم يذكرْ الزمخشري غيرَه. وقيل: إشارةٌ إلى الكتب السالفة. وتنكيرُ القرآنِ للتفخيم.
* { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ }
قوله تعالى: {رُّبَمَا} {رُبَ}: فيها قولان، أحدُهما: أنها حرفُ جرٍّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم. ومعناها التقليلُ على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله:
2922- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ * بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ
وقد أُجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النظير. ودلائلُ هذه الأقوال في النحو. وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها: "رُبَ" بالضم والتشديد، أو التخفيف، وبالثانية قرأ نافع وعاصم. و "رَبَ" بالفتح مع/ التشديد والتخفيف، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما. وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي: رُبَّتَما. وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإسكانُ والفتح كثُمَّت ولات، فتكثر الألفاظ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها: لزومُ تصديرِها، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله:
2923- رُبَّما الجامِلِ المثؤَبَّلِ فيهمُ * وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى
ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ "الجامِل". وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده، يُستغنى بتثبيتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه"
2924- ............................ * ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقةُ نحو: :رُبَّهما رجلين" نادرةٌ. وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو: "رُبَّ رجلٍ وأخيه". وها يلزم وَصْفُ مجرورِها، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف، والصحيحُ عدمُ ذلك. فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ:
2925- يا رُبَّ قائلةٍ غداً * يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ
(9/187)
---(1/3642)
ومن مجيء المستقبلِ قولُه:
2926- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ * عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقولُها: "يا رُبَّ قائلةٍ غداً" البيت، وقول سليم:
2927- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى * سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب
فإنَّ حرف التنفيس و "غداً" خَلَّصاه للاستقبالِ.
و"ما" في "رُبما" تحتمل وجهين، أظهرُهما: أنها المهيِّئَةُ، بمعنى: أن "رُبَّ" مختصةٌ بالأسماء، فلمَّا جاءت "ما" هَيَّأت دخولَها على الأفعال. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في "إنَّ" وأخواتها، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِهِ:
2928- رُبَّما الجامِلُ المثؤَبَّلُ ......... * ..........................
في روايةِ مَنْ رَفَعه، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه. والثاني: أنَّ "ما" نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها، والعائدُ على "ما" محذوفٌ، تقديره: رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا.
وقوله: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ، ومَنْ التَزَم ذلك قال: لأن المُتَرَقِّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه، كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ونحوِه.
قوله: {لَوْ كَانُواْ} يجوز في "لو" أن تكونَ الامتناعيةَ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً. تقديره: لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه. ومفعولُ "يَوَدُّ" محذوفٌ على هذا التقديرِ: أي: رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية.
والثاني: أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة. وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة، أي: يَوَدُّون كونَهم مسلمين، إنْ جعلنا "ما" كافةً، وإنْ جعلناها نطرةً كانت "لو" وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ "ما".
* { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }
(9/188)
---(1/3643)
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ}: هذا لا يُستعمل له ماضٍ إلا قليلاً استغناءً عنه بـ "تَرَكَ" بل يُستعمل منه المضارعُ نحو: {وَيَذَرُهُمْ} ومن مجيء الماضي قولُه عليه السلام: "ذَرُوا الحبشة ما وَذَرَتْكم"، ومثله: دَعْ ويَدَعُ، ولا يقال "وَدَعَ" إلاَّ نادراً، وقد قرئ "ما وَدَعك" مخفَّفاً، وأنشدوا قوله:
2929- سَلْ أميري ما الذي غيَّرهْ * عن وصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
و {يَأْكُلُواْ} مجزومٌ على جوابِ الأمر، وقد تقدَّم أنَّ "تَرَكَ" و "ذَرْ" يكونان بمعنى صَيَّر، فعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفاً، أي: ذَرْهُمْ مُهْمِلين، ولا يكونوا هو الثاني ولا حالاً؛ إذ كان يجبُ رفعه.
* { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ}: فيه أوجه، أحدُها: - وهو الظاهرُ- أنها واوُ الحالِ، ثم لك اعتباران، أحدُهما: أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ، ويرتفع "كتابٌ" به فاعلاً. والثاني: أن تجعلَ الجارَّ خبراً مقدماً، و "كتاب" مبتدأ والجملةُ حالٌ، وهذه الحالُ لازمةٌ.
الثاني: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة "إلا لها" بإسقاطِها. والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ.
الثالث: أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيداً، قال الزمخشري: "/والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف، كما تقول: "وجاءني زيد عليه يوبُه، وجاءني وعليه ثوبُه". وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبو البقاء تعالى: وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
(9/189)
---(1/3644)
}. قال الشيخ: "ولا نَعْلَمُ أحداً من النحويين، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني سَبَقهما إلى ذلك". ثم قال الشيخ: "وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد "إلا" يكون صفةً، وقد مَنَعُوا ذلك. قال الأخفش: "لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ بـ "إلا". ثم قال: وأمَّا نحوُ: "ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ" على تقدير: إلا رجلٌ راكب، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم". وقال أبو علي: "تقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا قائماً، "قائماً" حال، ولا تقول: إلا قائمٍ، لأنَّ "إلاَّ" لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ". وقال ابنُ مالك -وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله "ما مررت بأحدٍ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ، فلا يُلتفتُ إليه، وأَبْطَلَ قولَه: إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف.
قلت: قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى، وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخُلُ عليها واقعةً صفةً. ويقوِّه أيضاً ما نظَّره به من الآيةِ الأخرى في قوله {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} ويُقَوِّيه أيضاً قراءةُ ابن أبي عبلة المتقدمةُ.
وقال منذر بن سعيد: "هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ وهي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ، ومنه قولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
* { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ }
قوله تعالى: {مِنْ أُمَّةٍ} فاعلُ "تَسْبِقُ"، و "مِنْ" مزيدةٌ للتأكيد، وحُمِل على لفظِ "أمَّة" في قوله "أجلَها" فأفردَ وأنَّثَ. وعلى معناها في قولِه {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} فَجَمَعَ وَذَكَّرَ. وحَذَفَ متعلِّق "يَسْتأخِرُون"، تقديرُه: "عنه" للدلالةِ عليه، ولوقوعِه فاصلةً.
(9/190)
---(1/3645)
* { وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }
قوله تعالى: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} العامَّةُ على "نُزِّل" مشدَّداً مبنيَّاً للمفعول، وزيدُ بنُ عليه "نَزَلَ" مخففاً مبنياً للفاعل.
* { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
قوله تعالى: {لَّوْ مَا} حرفُ تحضيضٍ كهَلاَّ، وتكون أيضاً حرفَ امتناعٍ لوجود، وذلك أنَّ "لولا" مترددةٌ بين هذين المعنيين، وقد عُرِف الفرقُ بينهما: وهو أنَّ التحضيضيَّةَ لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً كقولِهِ:
2930- .................... * ..... لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
والامتناعيةُ لا يليها إلا الأسماءُ لفظاً أو تقديراً عند البصريين. وقولُه:
2931- ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزاً * لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احتمالي
مؤولٌ خلافاً للكوفيين. فمِنْ مجئ "لَوْما" حرفَ امتناعٍ قولُه:
2932- لَوْما الحياءُ ولوما الدينُ عِبْتُكما * ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما عَوَري
واخْتُلِف فيها: هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟ فقال الزمخشري: "لو" رُكِّبَتْ مع "لا" ومع "ما" لمعنيين، وأمَّا "هل" فلم تُرَكَّب إلا مع "لا" وحدَها للتحضيض. واختُلِف أيضاً في "لوما": هل هي أصلٌ بنفسِها أو فرعٌ على "لولا"؟ وأن الميمَ مبدلةٌ من اللامِ كقولهم: خالَلْتُه وخالَمْته فهو خِلِّي وخِلْمي، أي: صديقي. وقالوا: استولى عليَّ كذا، واستومَى عليه بمعنى؟ خلاف مشهور. وهذه الجملةُ من التحضيضِ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها.
* { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ }
(9/191)
---(1/3646)
قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} قرأ أبو بكر: "ما نُنَزِّل" بضمِّ التاء وفتحِ النونِ والزايِ مشددةً مبنياً للمفعول، "الملائكةُ" مرفوعاً لقيامِه مَقامَ فاعلِه، وهو موافقٌ لقولِه: {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً} ولأنها لا تُنَزَّلُ إلا بأمرٍ من الله، فغيرُها هو المُنَزِّل لها وهو الله تعالى.
وقرأ الأخَوان وحفصٌ بضم النون وفتح الثانية وكَسْرِ الزاي مشددةً مبنياً للفاعل المعَظَّم، وهو الباري تعالى، "الملائكةَ" نصباً مفعولاً بها، وهو موافِقٌ لقولِه تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلاائِكَةَ} ويناسِبُ قولَه قبل ذلك {وَمَآ أَهْلَكْنَا} وقولُه بعده {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} وما بعده من ألفاظِ التعظيمِ. والباقون من السبعةِ "ما تَنَزَّلُ" بفتح التاء والنون والزايِ/ مشددةً، و "الملائكةُ" مرفوعةً على الفاعلية، والأصل: تَتَنَزَّل بتاءين، فَحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم تقريرُه في {تَذَكَّرُونَ} ونحوه، وهو موافقٌ لقولِه {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا
}. وقرأ زيدُ بنُ عليّ "ما نَزَلَ" مخفَّفاً مبنياً للفاعل، "الملائكة" مرفوعةً بالفاعلية، وهو كقولِه {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
}. قوله: {إِلاَّ بِالحَقِّ} يجوز تعلٌُّق بالفعلِ قبله، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ أو المفعولِ، أي: ملتبسين بالحق. ودعله الزمخشريُّ نعتاً لمصدر محذوف، إلا تَنَزُّلاً ملتبساً بالحقِّ.
قوله: "إَذَنْ" قال الزمخشري: "إذن" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ لأنَّها جوابٌ لهم، وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ، تقديرُه: ولو نَزَّلْنا الملائكة ما كانوا مُنْظرين ومات أُخِّر عذابُهم.
* { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
(9/192)
---(1/3647)
قوله تعالى: {نَحْنُ}: إمَّا مبتدأ، وإمَّا تأكيدٌ، ولا يكون فضلاً لأنه لم يقع بين اسمين. والضمير في "له" للذِّكْر، وهو الظاهرُ. وقيل: للرسولِ عليه السلام.
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ }
قوله تعالى: {أَرْسَلْنَا}: مفعولُه محذوفٌ، أي: أرسلنا رسلاً من قبلك، فـ "مِنْ قبلك" يجوز أن يتعلَّقَ بـ "أَرْسَلْنَا"، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنه نعتٌ للمفعولِ المحذوفِ.
و {شِيَعِ الأَوَّلِينَ} قال الفراء: "هو من إضافة الموصوفِ لصفتِه، والأصلُ: في الشِّيَع الأولين كصلاة الأُولى، وجانهب الغربيّ". والبصريون يُؤَوِّلُونه على حذفِ المصووفِ، اي: في شِيَع الأممِ الأوَّلين، وجانب المكانِ الغربي، وصلاة الساعةِ الأولى.
* { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم} قال الزمخشري "حكايةُ حالٍ ماضيةٍ؛ لأنَّ "ما" لا تدخُل على مضارعٍ إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال". وهذا الذي ذكرَه هو الأكثرُ في لسانِهم، لكنه قد جاءَتْ مقارِنَةً للمضارعِ المرادِ به الاستقبالُ كقولِه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيا} وأنشدوا للأعشى يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم:
2933- له صَدَقاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُها * وليس عطاءُ اليومِ مانِعَه غَدا
وقولَ أبي ذؤيب:
2934- أودَى بَنِيَّ وأَوْدَعُونيْ حَسْرة * عند الرُّقَادِ وعَبْرةً ما تثقْلِعً
قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حالاً من مفعولِ "يَأتِيهمْ". ويجوزُ أن تكونَ صفةً لـ "رسول" فيكونَ في محلِّها وجهان: الجرُّ باعتبارِ اللفظ، والرفعُ باعتبارِ الموضعِ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مقدرةٌ.
* { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }
(9/193)
---(1/3648)
قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} يجوز في الكافِ أن تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على أنها خبرُ مبتدأ مضمر، أي: الأمرُ كذلك، و "نَسْلُكُه" مستأنفٌ. ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي: مثلَ ذلك السَّلْكِ ونحوِه نَسْلُكُه، أي: نَسْلُكُ الذِّكْرَ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المقدَّرِ.
والهاءُ في "نَسْلُكُه" يجوز عَوْدُها للذِّكْر، وهو الظاهر. وقيل: يعودُ للاستهزاء. وقيل: على الشِّرك.!
* { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ }
والهاءُ في : {بِهِ} يجوز عَوْدُها على ما تقدَّم من الثلاثة، ويكون تأويلُ عَوْدِها على الاستهزاءِ والشِّرْكِ، أي: لا يؤمنون بسببِه. وقيل: للرسولِ، وقيل: للقرآن. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ حالاً، أي: لا يؤمنون مُسْتهزئين" قلت: كأنه جعل "به" متعلقاً بالحالِ المحذوفةِ قائماً مَقامَها، وهو مردودٌ؛ لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلةً أو خبراً تعلَّق بكونٍ مطلقٍ لا خاصٍ، وكذا الظرفُ.
ومحلُّ {لاَ يُؤْمِنُونَ} النصبُ على الحال، ويجوز أَنْ لا يكونَ لها محلَّ، لأنها بيانٌ لقوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ}.
وقوله {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} استئناف.
والسَّلْكُ: الإدخال. يقال: سَلَكْتُ الخيطَ في الإبْرة، ومنه {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} يُقال: سَلَكَه وأَسْلكه، أي: نَظَمَه، قال الشاعر:
2935- وكنتُ لِزازَ خَصْمِك لم أُعَرِّدْ * وقد سَلَكُوكَ في أَمْرٍ عَصِيْبٍ
وقال الآخر في "أَسَلَكَ":
2936- حتى إذا أَسْلَكُوهمْ في قُتائِدَةٍ * شَلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدا
* { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }
قوله تعالى: {فَظَلُّواْ}: هي الناقصةُ، والضميرُ في "فظلُّوا" الأعمشُ وأبو حَيْوة "يَعْرِجون" بكسر الراء، وهي في لغةُ هُذَيْلٍ في عَرَج يَعْرِج، أي: صَعِد.
(9/194)(1/3649)
---
* { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }
قوله تعالى: {سُكِّرَتْ}: قرأ ابن كثير "سُكِرَتْ" مبنياً للمفعول مخففَ الكاف، بفتح السين وكسرِ الكاف خفيفةً مبنياًَ للفاعل.
فأمَّا القراءةُ الأولى فيجوز أن تكونَ بمعنى المشددة، فإنَّ التخفيفَ يَصْلُح للقليلِ والكثير، وهما مأخوذتان من "السِّكْر" بكسرِ السينِ وهو السَّدُّ، فالمعنى: حُبِسَتْ أبصارنا وسُدَّت. وقيل: بمعنى عُطِبَتْ. وقيل: بمعنى أُخِذَتْ. وقيل: بمعنى سُحِرَتْ. وقيل: المشدَّدُ مِنْ سِكْرِ الماء، والمخفَّفُ بمعنى سُحِرَتْ./ وقيل: المشدَّدُ مِنْ سِكْر الماءِ بالكسرِ، والمخفَّفُ مِنْ سُكْرِ الشَّراب بالضم.
والمشهورُ أنَّ "سَكَر" لا يتعدَّى فكيف بُني للمفعول. فقال أبو علي: "ويجوز أن يكونَ سُمِع متعدَّياً في البصر" والذي قاله المحققون مِنْ أهل اللغة أنَّ "سَكَرَ": إنْ كان مَنْ سَكِرَ الماءِ الشرابِ، أو مِنْ سَكَرِ الريح، فالتضعيفُ فيه للتعدية، وإن كان مِنْ سَكَرِ الماءِ فالتضعيفُ فيه للتعدية، وإن كان مِنْ سَكَرَتْ الريح تَسْكُرُ سَكَراً إذا رَكَدَتْ، وسَكِر الرجلُ من الشراب سَكَراً إذا رَكَد ولم يَنْفُذْ لحاجته، فهذان قاصران، فالتضعيفُ فيهما للتعدية. ويقال: سَكَرْتُ الماءَ في مجاريْه: إذا مَنَعْتَه من الجَرْيِ، فهذا متعدٍّ، قالتضعيفُ فيه للتكثير.
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فإن كانت مِنْ سَكَر الريحِ فيجوز أن يكون الفعلُ استُعِمل لازماً تارةً ومتعدياً أخرى، نحو: رَجَع زيدٌ، ورَجَعَه غيرُه، وسَعَدَ وسَعَدَه غيرُه.
وقال الزمخشري: "وسُكِّرت: حُيِّرَتْ، أو حُبِسَتْ من السَّكَر أو السَّكْر، وقُرئ "سُكِرَتْ" بالتخفيف، أي: حُبِسَتْ كما يُحْبَسُ النهرُ مِنَ الجَرْيِ" فجعل قراءة التشديدِ محتملةً لمعنيين، وقراءةَ التخفيفِ لمعنىً واحدٍ.
(9/195)
---(1/3650)
وأمَّا قراءةُ الزُّهريِّ فواضِحَةٌ، أي: عُطِبَتْ. وقيل: هي مطاوعُ أَسْكَرْتُ المكانَ فسَكِرَ، أي: سَدَدْتُه فانْسَدَّ.
* { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ }
قوله تعالى: {جَعَلْنَا}: يجوز أن يكونَ بمعنى خَلَقْنا، فيتعلَّقَ به الجارُّ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّرنا، فيكون مفعولُه الأول "بُروجاً"، ومفعولُه الثاني الجارَّ، فيتعلَّقُ.
و "للناظرين" متعلِّقٌ بـ "زيَّنَاها". والضميرُ للسماء. وقيل: للبروجِ، وهي الكواكبُ، زَيَّنها بالضوء. والنظر عينيٌّ. وقيل: قلبيٌّ. وحُذِف متعلِّقُه لِيَعُمَّ.
* { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ}: فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: في محلِّ نصب على الاستثناءِ المتصلِ، والمعنى: فإنها لم تُحْفَظْ منه، قاله غيرُ واحدٍ. والثاني: منقطع، ومحلُّه النصبُ أيضاً. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ {كُلِّ شَيْطَانٍ} فيكون محلُّه الجرَّ، قاله الحوفي وأبو البقاء. وفيه نظر؛ لأن الكلامَ موجَبٌ. الرابع: أنه نعتٌ لـ {كُلِّ شَيْطَانٍ}، فيكونُ محلُّه الجرَّ على خلافٍ في هذه المسألة. الخامس: أنه في محلِّ رفع بالابتداء، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه "فأَتْبعه". وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لأنَّ "مَنْ": إمَّا شرطيةٌ، وإمَّا موصولةٌ مُشَبَّهَةٌ بالشرطية، قاله أبو البقاء، وحينئذ يكونُ من بابِ الاستثناء المنقطع.
والشِّهاب: الشٌُّعْلَةُ من النار، وسُمِّي بها الكوكبُ لِشِدَّة ضوئِه وبَرِيْقِهِ، ويُجمع على شُهُب في الكثرة، وأَشْهِبَة. والشُّهْبَةُ: بياضٌ مختلِط بسوادٍ تشبيهاً بالشهاب لاختلاطِه بالدخان، ومنه كتيبةٌ شَهْباءُ لسوادِ القوم وبياضِ الحديد، ومِنْ ثَمَّ غَلِط الناسُ في إطلاقهم الشُّهْبَةَ على البياض الخالِص.
(9/196)
---(1/3651)
* { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ }
قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}: "الأرض" نصبٌ على الاشتغالِ، ولم يُقرأ بغيرِه؛ لأنه راجحٌ مِنْ حيث العطفُ على جملةٍ فعليةٍ قبلها، وهي قوله {{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً
} قال الشيخ: "ولمَّا كانَتْ هذه الجملةُ بعدها جملةً فعليةً كان النصبُ ارجحَ مِنَ الرفع" قلت: لم يَعُدُّوا هذا من القرائن المرجَّحة للنصب، إنما عَدُّوا عطفَها على جملةٍ فعليةٍ قبلَها لا عطفَ جملةٍ فعليةٍ عليها، ولكنه القياسُ، إذ تُعْطَفُ فيه فعليةٍ قبلَها لا عطفَ جمبةٍ فعليةٍ عليها، ولكنه القياسُ، إذ تُعْطَفُ فيه فعليةٌ على مثلِها بخلافِ ما لو رَفَعْتَ، إذ تضعْطِفُ فعليةً على اسميةٍ، لكنهم لم يعتبروا ذلك والضميرُ في "فيها" للأرض. وقيل: للرواسي. وقيل: لهما.
قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} يجوز في "مَنْ" أن تكونَ تبعيضيةً وهو الصحيحُ، وأن تكونَ مزيدةً عند الكوفيين والأخفش.
* { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ }
قوله تعالى: {وَمَن لَّسْتُمْ}: يجوز في "مَنْ" خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو قول الزجاج- أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ تقديرُه: وأَعَشْنا مَنْ لستم لهم برازقين، كالعبيد والدوابِّ/ والوحوشِ. الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على "معايش"، أي: وجعلنا لكم فيها مَنْ لستم لهم برازقين من الدوابِّ المنتفعِ بها. الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على محلِّ "لكم. الرابع: أنه مجرورٌ عطفاً على "كم" المجرورِ باللام، وجاز ذلك مِنْ تحقيقُه في سورة البقرة، عند قوله {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ} الخامس: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ. أي: ومَنْ لستم له برازقين جَعَلْنا له فيها معايشَ، وسُمِع من العرب "ضربْتُ زيداً وعمروٌ" برفع "عمرٌو" مبتدأً، محذوفَ الخبر، أي: وعمرٌو ضربْتُه.
(9/197)(1/3652)
---
و "مَنْ" يجوز أن يُرادَ بها العقلاءُ، أي: ومَنْ لستُمْ له برازقين مِنْ مواليكم الذين تزعمون أنَّكم ترزقونه من وأن يُرادَ بها غيرُهم، أي: ومَنْ لَسْتُمْ له برازقين من الدوابِّ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين. ويجوز أن يُراد بها النوعان، وهو حَسَنٌ لفظاً ومعنى.
* { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }
قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ}: "إنْ" نافيةٌ، و "مِنْ" مزيدةٌ في المبتدأ، و "عندنا" خبرُه، و "خزائنُه" فاعلٌ به لاعتماده، ويجوز أن يكونَ "عندنا" خبراً لما بعده، والجملةُ خبرُ الأولِ، والأولُ أَوْلى لقُرْب الجارِّ من المفرد.
قوله: {إِلاَّ بِقَدَرٍ} يجوزُ أن يتعلَّق بالفعلِ قبلَه، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ، أي: إلاَّ ملتبساً بقَدرٍ.
* { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }
قوله تعالى: {لَوَاقِحَ}} حالٌ مقدرةٌ من "الرياح". وفي اللواقح أقوال، أحدها: أنه جمع "مُلْقِح" لأنه مِنْ أَلْقَحَ يُلْقِحُ فهو مُلْقِحٌ، فحقُّه مَلاقِح، فَحُذِفَتِ الميمُ تخفيفاً. يقال: أَلْقَحتِ الريحُ السحابَ، كما يقال: ألقح الفحلُ الأنثى. ومثله الطوائح، وأصلُه "المَطاوِح" لأنه مِنْ أطاح يُطيح قال:
2937- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ * ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة.
والثاني: أنها جمع لاقِح يُقال: لَقِحَتِ الريحُ: إذا حَمَلَتِ الماءَ. وقال الأزهري: "حوامِلُ تحملُ السَِّحابَ كقولك: أَلْقَحَتِ الناقةُ فَلَحِقَتْ، إذا حَمَلَتِ الجنينَ في بطنِها، فشُبِّهَتْ الريحُ بها، ومنه قوله:
2938- إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ * ضَروسٌ تَهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
(9/198)
---(1/3653)
والثالث: أنها جمعُ "لاقِح" على النَسب كـ لابنِ وتامرِ، أي: ذاتُ لِقاح؛ لأنَّ الريحَ إذا مَرَّتْ على الماء، ثم مَرَّتْ على السحابِ والماءِ كان فيها لِقاحٌ، قاله الفراء. وقد تقدَّم الخلافُ في "معايش" في الأعراف، وفي "يُنَزِّل"، وفي "الريح" في البقرة. ولم يَبْقَ هنا إلا مَنْ أفردَ "الريح"، فإنه يُقال: كيف نصبَ الحالَ مجموعةً عن مفردٍ؟ وقد تقدم أن المرادَ به الجنسُ وهو جمعٌ في المعنى فلا محذورَ.
قوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} يقال: أَسْقاه وسَقاه وسيأتي بيانُهما في السورة بعدها فإنه قُرِئ بهما. واتصل الضميران هنا لاختلافِهما رتبةً، ولو فُصِل بعدها فإنه قُرِئ بهما. واتصل الضميران هنا لاختلافِهما رتبةً، ولو فُصِل ثانيهما لجاز عند غير سيبويه، وهذا كما تقدَّم في قولِه {أَنُلْزِمُكُمُوهَا
}. قوله: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} جملةٌ مستأنفة و "له" متعلِّقٌ بـ "خازنين".
* { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ }
قوله تعالى: {لَنَحْنُ} "نحن" يجوز أن يكونَ مبتدأً، و "نُحْيِيْ" خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّا". ويجوز أن يكونَ تأكيداً لـ "نا" في "إنَّا"، ولا يجوز أن يكونَ فَصْلاً لأنه لم يَقَعْ بين اسمين، وقد تقدَّم نظيرُه. وقال أبو البقاء: "لا يكون فَصْلاً لوجهين، أحدهما: أنَّ بعده فعلاً، والثاني: أنَّ كعه اللامَ. قلت: الوجهُ الثاني غَلَطَ فإنَّ/ لامَ التوكيد لا يمتنع دخولُها على الفَصلِ، نصَّ النحاةُ على ذلك، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ} جَوَّزوا فيه الفصلَ مع اقترانِه باللامِ.
* { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }
(9/199)
---(1/3654)
قوله تعالى: {مِن صَلْصَالٍ}: "مِنْ" لابتداء الغاية أو للتبعيضِ. والصَّلْصال: قال أبو عبيدة: "وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل، ثم يَجِفُّ، فيُسمع له صَلْصَلَةٌ، أي: تَصْوِيْت". وقال الزمخشري: "الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ من غيرِ طبخٍ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار". وقال أبو الهيثم: "هو صوت اللِّجامِ وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ". وقال الزمخشري أيضاً: "قالوا: إذا تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو صَلْصَلَة. وقيل: هو مِنْ تضعيفِ "صَلِّ: إذا أَنْتَنَ". انتهى. وصَلصال هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو: الزِّلزال. ويجوز كسرُه أيضاً.
وفي وزنِ هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف، فقيل: وزنه فَعْفَع، كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لمَ للكلمة، قاله الفراء وغيرُه. وهو غَلَطٌ لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ: فاء وعين ولام. الثاني: أنّ وزنَه فَعْفَل وهو قول الفرّاء. الثالث: أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل، فلما اجتمع ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي. وخصَّ بعضُهم هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو: سِمْسِم، قال: فلا خلاف في أصالةِ الجميع.
قوله: {مِّنْ حَمَإٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال، فيتعلَّقُ بمحذوف. والثاني: أنه بدلٌ من "صَلَصال" بإعادة الجارِّ.
والحَمَأُ: الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ. قال الليث: "واحدُه حَمَأة بتحريك العين"، جعله اسمَ جنسٍ، وقد غَلِظ في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا: لا يُقال إلا "حَمْأة" بالإسكان، ولا يُعْرَفُ التحريكُ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود:
2939- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً * يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ
فلا تكون "الحَمْأَةُ" واحدةَ "الحَمَأ" لاختلاف الوزنين.
(9/200)
---(1/3655)
والمَسْنُون: المَصْبوبُ مِنْ قولهم: سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه برطويتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات، فكأنَّ المعنى: أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة. قال الزمخشري: "وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ". قلت: يعني أنه يصيرُ التقدير: مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا {مِّنْ حَمَإٍ} صفةً لصَلْصال، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا. وقيل: مَسْنُون مُصَوَّر، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه. قال الشاعر:
2940- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ * .......................
وقال الزمخشري: "مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر: إذا حَكَكْتُه به, فالذي يَسيب بينهما "سَنينٌ" ولا يكون إلا مُتْنِناً". وقيل: المَسْنُون: المنسوبُ إليه، والمعنى: يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع. وقيل: هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين.
* { وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ }
قوله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ}: منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لعطفِ جملتِه على جملةٍ فعلية. والجانُّ أو الجنُّ وهو إبليس كآدم أبي الإنس. وقيل: اسمٌ لجنسِ الجِنِّ.
وقرأ الحسن "والجَأَنَّ" وقد تقدَّم القولُ في ذلك في أواخر الفاتحة.
و {مِن قَبْلُ} و {مِن نَّارِ} متعلقان بـ "خَلَقْنا"؛ لأن الأولى لابتداءِ الغاية والثانيةَ للتبعيض، وفيه دليلٌ على أن "مِنْ" لابتداء الغايةِ في الزمانِ، وتأويلُ البصريين له ولنظائِره بعيدٌ.
والسَّمومُ: ما يَقْتُل من إفراطِ الحَرِّ من شمسٍ أو ريحٍ أو نار؛/ لأنها تَدْخُل في المَسامِّ فتقتُل. وقيل: السَّموم ما كان ليلاً، والحَرُور ما كان نهاراً.
* { فَسَجَدَ الْمَلاائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ }(1/3656)
(9/201)
---
قوله تعالى: {أَجْمَعُونَ}: تأكيدٌ ثانٍ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت، خلافاً لبعضهم. قال أبو البقاء: "لكان حالاً [لا] توكيداً" يعني أنه يُفيد إفادةَ الحال مع أنه توكيدٌ، وفيه نظر؛ إذ لا منافاةَ بينهما بالنسبة إلى المعنى. ألا ترى أنه يجوز "جاؤوني جميعاً" مع إفادتِه للتوكيدِ، وقد تقدَّم لك تحريرُ هذا وحكايةُ ثعلب مع ابن قادم.
* { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }
قوله تعالى: {لأَسْجُدَ}: هذه لامُ الجحودِ.
وقوله: {فَقَعُواْ لَهُ} يجوز أن تتعلَّقَ اللامُ بالفعل قبلها، وأن تتعلَّق بساجدين. وقد تقدم نظائرُ ألفاظِ هذه القصة في البقرة والأعراف.
* { إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ }
قوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ} يجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار في "عليك"، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ اللعنةِ.
* { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
والضميرُ في: {لَهُمْ} لذرِّيَّةِ آدم، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ للعلْمِ بهم.
* { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ }
قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ}: "هذا" إشارةٌ إلى الإخلاص المفهومِ من "المُخْلَصين". وقيل: "هذا"، أي: انتفاءُ تَزْيينِه وإغوائه. و "عليَّ"، أي: مَنْ مَرَّ عليه مَرَّ عليَّ، أي على رضواني وكرامتي. وقيل: على بمعنى إلى، نُقِل عن الحسن.
وقرأ الضَّحاك وأبو رجاء وابن سيرين ويعقوب في آخرين :عَلِيٌّ"، أي: عالٍ مرتفعٌ.
* { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ متصل، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ الأكثرِ من الأقل، وهي مسالةُ خلافٍ.
(9/202)
---(1/3657)
والثاني: أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في "عبادي"؛ إذ المرادُ بهم الخُلَّصُ، والإضافةُ إضافةُ تشريفٍ.
* { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ }
و {أَجْمَعِينَ}: تأكيدٌ. وقال ابن عطية: "تأكيدٌ فيه معنى الحال" وفيه جنوحٌ لِمَنْ يَرَى اتحادَ الوقت. قوله: {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} في "أجمعين" وجهان أظهرُهما: أنه تأكيدٌ للضمير. والثاني: أنه حالٌ منه، والعاملُ فيه معنى الإضافة، قاله أبو البقاء. وقد عَرَفْتَ خلافَ الناس في مجيءِ الحالِ من المضافِ إليه. ولا يَعْمل فيها المَوْعِدُ إن أريد به المكانُ، فإن أُريد به المصدرُ جاز أَنْ يعملَ لأنه مصدرٌ، ولكن لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: مكان موعدِهم.
* { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ }
قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً وهو الظاهرُُ، ويجوز أن تكونَ خبراً ثانياً، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من "جهنم" لأنَّ "إنَّ" لا تعملُ في الحال، قاله أبو البقاء، وقياسُ ما ذكروه في ليت وكأنَّ ولعلَّ مِنْ أخواتها، مِنْ عملِها في الحال، لأنها بمعنى تَمَنَّيْتُ وشَبَّهْتُ وترجَّيْتُ: أن تعمل فيها "إنَّ" أيضاً؛ لأنها بمعنى أكَّدْتُ، ولذلك عَمِلَتْ عَمَلَ الفعلِ، وهي أصلُ البابِ.
قوله: "منهم" يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ "جُزْء" لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً. ويجوز أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في الجارِّ، وهو "لكلِّ بابٍ" والعاملُ في هذه الحالِ ما عَمِل في هذا الجارَّ. ولا يجوز أن تكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في "مَقْسُوم" لأنَّ الصفةَ لا تعمل فيما قبل الموصوفِ. ولا يجوز أن تكونَ صفةً لـ "باب" لأنَّ البابَ ليس من الناس.
(9/203)
---(1/3658)
وقرأ أبو جعفر بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، كأنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الزاي، ووَقَفَ عليها فَشَدَّدها، كقولهم: "خالدّْ"، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
* { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }
وكَسرَ عينَ {وَعُيُونٍ}: منكِّراً و "العِيون" مُعَرَّفاً حيث وقع ابنُ كثير والأخوان وأبو بكر وابن ذكوان. والباقون بالضمِّ وهو الأصل.
* { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ }
قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا}: العامَّةُ على وَصْلِ الهمزةِ من دَخَل يَدْخُل. وقد تقدَّم خلافُ القرِّاء في حركةِ هذا التنوين/ لالتقاء الساكنين في البقرة. وقرأ يعقوب بفتح التنوين وكسرِ الخاء. وتوجيهُها: أنه أمرٌ مِنْ أَدْخَل يُدْخِل، فلمَّا وقع بعد "عيون" ألقى حركة الهمزةِ على التنوين لأنها همزةُ قطع، ثم حذفها. والأمرُ مِنَ الله تعالى للملائكةِ، أي أَدْخِلوها إياهم.
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً "أُدْخِلوها" ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ بعقوبَ ضمَّ التنوين، ووجهُه: أنه أخذه مِنْ أَدْخَلَ رباعياً، فألقى حركَة همزةِ القطع على التنوين، كما ألقى حركةَ المفتوحةِ في قراءتِه الأولى. والحسن كَسَره على أصلِ التقاءِ الساكنين، ووجهُه: أن يكونَ أجرى همزةَ القطعِ مُجْرى همزةِ الوصلِ في الإسقاط.
وقراءةُ الأمرِ على إضمارِ القول، أي: يُقال لأهل الجنة: ادْخُلوها. أو يُقال للملائكة: أَدْخِلُوها إياهم. وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً مِنْ غيرِ إضمارٍ قولٍ.
قوله: "بسلامٍ" حالٌ، أي: ملتبسين بالسلامة، أو مُسلَّماً عليكم.
قوله: آمِنين" حالٌ أخرى وهي بدلٌ مِمَّا قبلها: إمَّا بدلُ كلٍ من كلٍ، وإمَّا بدلُ اشتمال؛ لأنَّ الأَمْنَ مُشْتملٌ على التحيةِ أو بالعكس.
* { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }
(9/204)
---(1/3659)
قوله تعالى: {إِخْوَاناً}: يجوز فيه أن يكونَ حالاً من "هم" في "صدورِهم"، وجاز ذلك لأنَّ المضافَ جزءُ المضاف إليه. وقال أبو البقاء: "والعاملُ فيها معنى الإلصاق". ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل "ادْخُلوها" على أنها حالٌ مقدرةٌ، كذا قال أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، بل هي حالٌ مقارِنةٌ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في "آمنين"، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في قوله {فِي جَنَّاتٍ}.
قوله: {عَلَى سُرُرٍ} يجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ "إخواناً" لأنه بمعنى متصافِّيْنَ على سُرُر. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ من حيث تأويلُ جامدٍ بمشتق بعيدٍ منه. و "متقابلين" على هذا حالٌ من الضمير في "إخواناً"، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لإخوان، وعلى هذا فـ "متقابلين" حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ. ويجوز أن يتعلَّقَ بـ "متقابلين"، أي: متقابلين على سُرُرٍ، وعلى هذا فـ "متقابلين" حالٌ من الضمير في "إخواناً" أو صفةٌ لـ "إخواناً" ويجوز نصبُه على المدح، يعني أنه لا يمكن أن يكونَ نعتاً للضمير فلذلك قُطِعَ.
والسُّرُر: جمع سَرِيْر وهو معروفٌ. ويجوز في "سُرُر" ونحوِه ممَّا جُمِعَ على هذه الصيغةِ مِنْ مضاعَف فعيل فَتْحُ العين تخفيفاً، وهي لغةُ كلبٍ وتميم فيقولون: سُرَرٌ وذُلَلٌ في جمع: سَرير وذَليل.
* { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }
قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ}: يجوز أن تكون هذه مستأنفةً، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في "متقابلين". والنَّصَب: التَّعَبُ. يُقالا منه: نَصِبَ يَنْصِبُ فهو نَصِبٌ وناصِب، وأَنْصَبَني كذا. قال:
2941- تأوَّبَني هَمٌّ مع الليلِ مُنْصِبُ * ......................
وهَمٌّ ناصِبٌ، أي: ذو نَصَب كـ لا بنٍ وتامرٍ. قال النابغة:
2942- كِلِيْني لِهَمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ * وليلٍ أقاسيه بَطِيْءِ الكواكبِ
(9/205)
---(1/3660)
و "منها" متعلقٌ بـ "مُخْرَجِيْن".
* { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: {أَنَا الْغَفُورُ}: يجوز في "أنا" أن يكونَ تأكيداً، وأن يكونَ مبتدأ، وأن يكونَ فصلاً.
* { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ }
قوله تعالى: {هُوَ الْعَذَابُ}: يجوز في "هو" الابتداء والفصلُ، ولا يجوزُ التوكيدُ؛ إذ المُظْهَرُ لا يُؤَكَّد بالمضمرِ.
* { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ}: في "إذ" وجهان: أحدُهما: أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدَّر، أي: اذكر إذ دخلوا. والثاني: أنه ظرفٌ على بابِه. وفي العاملِ فيه وجهان، أحدُهما: أنه محذوفٌ تقديره: خبر "ضيفِ". والثاني: أنه نفس "ضيف". وفي توجيه ذلك وجهان، أحدُهما: أنه لمَّا كان في الأصل مصدراً اعتُبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريَّته بعد الوصفِ بِه عدمُ مطابقته لِما قبله تثنيةً وجمعاً وتانيثاً في الأغلب، ولأنه قائمٌ مَقامَ وصفٍ، والوصفُ يعمل. والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: أصحاب ضيفِ إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدرُ باقٍ على حالِه فلذلك عَمِلَ.
وقال أبو البقاء: -بعد أنْ قَدَّر أصحابَ ضيافته-/ "والمصدرُ على هذا مضافٌ إلى المفعول". قلت: وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ إضافتُهُ لفاعِله، إذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو........
* { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ }
قوله تعالى: {لاَ تَوْجَلْ}: العامة على فتح التاء، مِنْ وَجِل كشَرِب يَشْرَب، والفتحُ قياسُ فَعِل، إلا أنَّ العريَ آثرَتْ يَفْعِل بالكسرِ في بعضِ الألفاظِ إذا كانت فاؤه واواً نحو: يَثِقُ.
(9/206)
---(1/3661)
وقرأ الحسن "تُوْجَل" مبنياً للمفعول من الإيجال. وقُرِئ "لا تَاجَل" والأصلُ "تَوْجَل" كقراءة العامَّةِ، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاحِ ما قبلها، وإن لم تتحرَّكْ، كقولهم: تابة وصامة، في تَوْبة وصَوْمَة، وسُمِع: :اللهم تقبَّل تابتي وصامتي". وقُرشئ أيضاً "لا تَوَاجَلْ" من المواجلة.
* { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ }
قوله تعالى: {أَبَشَّرْتُمُونِي} قرأ الأعرج "بَشَّرْتموني" بغسقاطِ أداةِ الاستفهام، فتحتمل الإخبارَ، وتحتمل الاستفهامَ وإنما حَذَفَ أداتَه للعلمِ بها.
قوله: {عَلَى أَن مَّسَّنِيَ} في محلِّ نصبٍ على الحال. وقرأ ابنُ محيصن "الكُبْرُ" بزنةِ قُفْل.
قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} "بِمَ" متعلقٌ بـ "تُبَشِّرون"، وقُدِّم وجوباً لأنَّ له صدرَ الكلامِ. وقرأ العامَّةُ بفتح النون مخففةً على أنها نونُ الرفع، ولم يُذْكَرْ مفعولُ التبشير. وقرأ نافع بكسرها، والأصل "تُبَشِّرُوني" فَحَذَفَ الياءَ مجتزِئاً عنها بالكسرة. وقد غلَّطه أبو حاتم وقال: "هذا يكونُ في الشعرِ اضطراراً".
وقال مكي: "وقد طَعَنَ في هذه القراءةِ قومٌ لبُعْدِ مَخْرَجِها في العربيةِ؛ لأنَّ حَذْفَ النونِ التي تصحب الياءَ لا يَحْسُنُ إلا في شِعْرٍ، وإن قُدِّر حَذْفُ النونِ الأولى حَذَفْتَ عَلَمَ الرفعِ من غيرِ ناصبٍ ولا جازمٍ؛ ولأنَّ نونَ الرفعِ كَسْرُها قبيحٌ، إنما حَقُّها الفتح". وهذا الطعنُ لا يُلتفت إليه لأنَّ ياءَ المتكلمِ قد كَثُرَ حَذْفُها مجتزَأً عنها بالكسرةِ، وقد قرئ بذلك في قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّيا} كما سيأتي بيانُه.
(9/207)
---(1/3662)
ووجهُه: أنه لَمَّا اجتمع نونان إحداهما للرفع، والأخرى نونُ الوقاية، استثقل اللفظ: فمنهم مَنْ أدغم، ومنهم مَنْ حذف. ثم اخْتُلِف في المحذوفة: هل هي في الأولى أو الثانية؟ وقد قدَّمْتُ دلائلَ كلِّ قولٍ مستوفاةً في سورةِ الأنعام. وقرأ ابن كثير بتشديدِها مكسورةً، أدغم الأولى في الثانية وحَذَف ياءَ الإضافةِ. والحسن أثبت الياءَ مع تشديد النون. ويرجِّح قراءةَ مَنْ أثبت مفعولَ "تُبَشِّرون" وهو الياءُ قولُه: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ}.
* { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ }
و {بِالْحَقِّ}: متعلقٌ بالفعلِ قبله، ويَضْعُفُ أن يكون حالاً، أي: بَشَّرْناك ومعنا الحقُّ.
* { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }
قوله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ}: هذا الاستفهامُ معناه النفي؛ ولذلك وقع بعده الإيجابُ بـ "إلا". وقرأ أبو عمروٍ والكسائي "يَقْنِط" بكسرِ عينِ هذا المضارعِ حيث وقع، والباقون بفتحها، وزيدُ بن علي والأشهبُ بضمِّها. وفي الماضي لغتان: قَنِط بكسر النون، يَقْنَظ بفتحها، وقَنَد بفتحِها يَقْنِط بكسرِها، ولولا أنَّ القراءةِ سُنَّةٌ متبعةٌ لكان قياسُ مَنْ قرأ "يَقْنَطُ" بالفتح أن يقرأَ ماضيَه "قَنِط" بالكسر، لكنهم أَجْمعوا على فتحِه في قولِه تعالى في قوله: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} والفتحُ في الماضي هو الأكثر ولذلك أُجْمِعَ عليه. ويُرَجِّح قراءَة "يَقْنَطُ" بالفتح قراءةُ أبي عمروٍ في بعض الروايات {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} كفَرِح يَفْرَحُ فهو فَرِح. والقُنُوط: شدةُ اليأسِ من الخير.
* { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ }
(9/208)
---(1/3663)
قوله تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ}: فيه [أوجهٌ] أحدُها: أنه مستثنى متصلٌ على أنه مستثنى من الضميرِ المستكنِّ في "مجرمين" بمعنى: أَجْرَموا كلُّهم إلا آلَ لوطٍ فإنهم لم يُجْرِموا، ويكونُ قولُه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ}/ استئنافَ إخبارٍ بنجاتهم لكونِهم لم يُجْرِموا، ويكون الإرسالُ حينئذ شاملاً للمجرمين ولآلِ لوط، لإعلامِ أولئك، وإنجاءِ هؤلاء.
والثاني: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ آل لوط لم يَنْدَرجوا في المجرمين البتَة. قال الشيخ: "وإذا كان استثناءً منقطعاً فهو ممِّا يجبُ فيه النصبُ، لأنه من الاستثناءِ الذي لا يمكن تَوَجُّه العاملِ إلى المستثنى فيه؛ لأنهم لم يُرْسَلوا إليهم، إنما أُرْسِلوا إلى القوم المجرمين خاصةً، ويكون قوله {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} جَرَى مجرى خبرِ "لكن" في اتصالِه بآلِ لوطٍ، لأنَّ المعنى: لكن آل لوطٍ مُنَجُّوهم. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناءِ المنقطعِ المقدَّرِ بـ "لكن" إذا لم يكن بعده ما يَصِحُّ أن يكونَ خبراً أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وأنه في موضعِ رفعٍ لجريان "إلا" وتقديرها بـ "لكن".
قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَهم: لا يتوجَّه عليه العاملُ، أي: لا يمكن، نحو: "ضحك القومُ إلا حمارَهم"، و "صَهِلَت الخيلُ إلا الإبلَ". وأمَّا هذا فيمكن الإرسالُ إليهم مِنْ غيرِ مَنْعٍ. وأمَّا قولُه "لأنهم لم يُرْسَلُوا إليهم" فصحيحٌ لأنَّ حكمَ الاستثناءِ كلِّه هكذا، وهو أن يكونَ خارجاً عن ما حُكِم به الأولِ، لكنه لو تَسَلَّط عليه لَصَحَّ ذلك، بخلافِ ما ذكرْتُه مِنْ أمثلتِهم.
* { إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ }
(9/209)
---(1/3664)
قوله تعالى: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ}: فيه وجهان: أحدُهما: أنه استثناءٌ مِنْ آل لوط. قال أبو البقاء: "والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناءِ كان الاستثناءُ الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولِك: "له عندي عشرةٌ إلا أربعةً إلا درهماً" فإنَّ الدرهمَ يُستثنى من الأربعة، فهو مضافٌ إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلا أربعةً، أو عشرة إلا ثلاثةً".
الثاني: أنَّها مستثناةٌ من الضمير المجرور في "مُنجُّوهم". وقد مَنَعَ الزمخشريُّ الوجهَ الأول، وعَيَّن الثاني: "فإن قلتَ: فقوله: "إلا امرأته" مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناءٌ مِنْ استثناءٍ؟ قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله "لمنجُّوهُمْ" وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيءٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ من الاستثناء إنما يكونُ فيما اتَّحد الحكمُ فيه، وأن يقالَ: أهلكناهم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَه، كما اتحد في قولِ المُطْلَق: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدةً، وقولِ المُقِرِّ لفلان: عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا درهماً، وأمَّا الآيةُ فقد اختلف الحكمان لأنَّ {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} متعلقٌ بـ "أَرْسَلْنا" أو بمجرمين، و {إِلاَّ امْرَأَتَهُ} قد تعلَّق بقولِه "لمنجُّوهم" فأنَّى يكون استثناءً من استثناء"؟
(9/210)
---(1/3665)
قال الشيخ: "ولمَّا استسلف الزمخشريُّ أن "امرأته" استثناءٌ من الضمير في لمنجُّوهم" أنى أن يكون استثناءً من استثناء؟ ومَنْ قال إنه استثناءٌ من استثناء فيمكن تصحيحُ قولِه بأحدِ وجهين، أحدُهما: أنَّه لمَّا كان "امرأتَه" مستثنى من الضمير في "لمُنجُّوهم" وهو عائدٌ على آلِ لوط صار كأنه مستثنى مِن آلِ لوط، لأنَّ المضمرَ هو الظاهر. والوجه الآخر: أن قولَه {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} لمَّا حَكَمَ عليهم بغيرِ الحكم الذي حَكَم به على قومٍ مجرمين اقتضى ذلك نجاتَهم فجاء قولُه: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تاكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آلَ لوط لم يُرْسَلْ إليهم بالعذاب، ونجاتُهم مترتبةٌ على عدمِ الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظيرَ قولِك: "قام القومُ إلا زيداً لم يَقُمْ"، أو "إلا زيداً فإنه لم يَقُمْ"، فهذه الجملةُ تأكيدٌ لِما تَضَمَّن الاستثناءُ من الحكم على ما بعد إلاّ بضدِّ الحكم السابق على المستثنى منه، فـ "إلا امرأته" على هذا التقريرِ الذي قَرَّرْناه مستثنى مِنْ آل لوط، لأنَّ الاستثناءَ ممَّا جيء به للتأسيسِ أَوْلَى من الاستثناءِ ممَّا جِيْءَ به للتأكيد".
وقرأ الأخوان "لمُنَجُوْهم" مخفَّفاً، وكذلك خَفَّفا أيضاً فِعْلَ هذه الصفةِ في قولِه تعالى في العنكبوت: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} وكذلك خَفَّفا أيضاً قولَه فيها: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} فهما جاريان على سَنَنٍ واحد. وقد وافقهما ابنُ كثير/ وأبو بكر على تخفيف "مُنْجوك" كأنهما جمعا بين اللغتين. وباقي السبعة بتشديد الكلِّ، والتخفيفُ والتشديدُ لغتان مشهورتان مِنْ نَجَّى وأَنْجَى كأَنْزَلَ ونَزَّل، وقد نُطِقَ بفعلهما قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} وفي موضعٍ آخرَ {أَنجَاهُمْ
}. قوله: "قَدَّرْناها" أبو بكر بتخفيف [الدال] والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَرَ وقدَّر، وهذا الخلافُ أيضاً جارٍ في سورة النمل.
(9/211)
---(1/3666)
قوله: "إنَّها" كُسِرتْ من أجلِ اللامِ في خبرها وهي معلِّقةٌ لِما قبلها، لأنَّ فِعْلَ التقديرِ يُعَلَّقُ إجراءً له مُجْرى العِلْم: إمَّا لكونِه بمعناه، وإمَّا لأنَّه مترتِّبٌ عليه. قال الزمخشري: "فإن قلتَ" لِمَ جاز تعليقُ فِعْلِ التقدير في قوله "قَدَّرْنَآ إِنَّهَا"، والتعليق مِنْ خصائصِ أفعالِ القلوب؟ قلت: لتضمُّنِ فِعْلِ التقدير معنى العِلْمِ". قال الشيخ: "وكُسِرَتْ "إنها" إجراءً لفعل التقدير مُجْرى العِلْم". قلت: وهذا لا يَصِحُّ علةً لكسرِها، إنما يَصْلُحُ علةً لتعليقِها الفعلَ قبلها، والعلةُ في كسرِها ما قَدَّمْتُه في وجودِ اللامِ ولولاها لفُتِحَتْ.
* { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ }
قوله تعالى: {بَلْ جِئْنَاكَ} إضرابٌ عن المفعول المحذوفِ تقديرُه: ما جئناك بما يُنْكَرُ، بل جِئْناك.
* { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }
وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه تعالى: {فَأَسْرِ}: قطعاً ووصلاً في هود. وقرأ اليمانيُّ فيما نقل ابن عطية وصاحب "اللوامح" "فَسِرْ" من السَّيْر. وقرأت فرقةٌ "بقِطَع" بفتح الطاء. وقد تَقَدَّم في يونس: أن الكسائيَّ وابنَ كثير قرآه بالسكون في قوله "قطعاُ"، والباقون بالفتح.
قوله: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} "حيث" على بابِها مِنْ كونِها ظرفَ مكانٍ مبهمٍ، ولإبهامها تعدَّى إليها الفعلُ من غير واسطة على أنه قد جاء في الشعر تَعَدِّيْه إليها بـ "في" كقولِه:
2943- فَأصْبَحَ في حيثُ التقَيْنا شريدُهُمْ * طَليقٌ ومكتوفُ اليدين ومُزْعِفُ
(9/212)
---(1/3667)
وزعم بعضُهم أنها هنا ظرفُ زمانٍ، مستدلاًّ بقولِه "بقِطْعٍ من الليل"، ثم قال: {وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}، أي: في ذلك الزمان. وهو ضعيفٌ، ولو كان كما قال لكان التركيبُ: حيث أُمِرْتم، على أنه لو جاء التركيب كذا لم يكن فيه دلالةٌ.
* { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ }
قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} ضَمَّن القضاءَ معنى الإيحاء، فلذلك تَعَدَّى تعديتَه بـ "إلى"، ومثلُه: {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
}. قوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} "ذلك" مفعولُ القضاء، والإشارةُ به إلى ما وَعَدَ من إهلاكِ قومِه، و "الأمرَ": إمَّا بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له.
قوله: {أَنَّ دَابِرَ} العامَّةُ على فتحِ "أنَّ" وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ "ذلك" إذا قلنا: "الأمر" عطفُ بيان. الثاني: أنها بدل من "الأمر" سواء قلنا: إنها بيانٌ أوب دل ممَّا قبلَه. والثالث: أنه على حَذْفِ الجارِّ، أي: بأنَّ دابِرَ، ففيه الخلافُ المشهور.
وقرأ زيدُ بن علي بكسرِها؛ لأنه بمعنى القولِ، أو على إضمار القول. وعَلَّله الشيخُ بأنَّه لمَّا عَلَّق ما هو بمعنى العلم كُسِر. وفيه النظرُ المتقدم.
قوله: {مُّصْبِحِينَ} حالٌ من الضمير المستتر في "مقطوعٌ" وإنما جُمِع حَمْلاً على المعنى، وجعله الفراء وأبو عبيد خبراً لـ "كان" مضمرة، قالا: "وتقديره: إذا كانوا مُصْبِحين نحو: "أنتَ ماشياً أحسنُ منك راكباً". وهو تكلُّفٌ. و "مُصْبِحين" داخلين في الصَّباح فهي تامَّةٌ.
* { وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ }
قوله تعالى: و {يَسْتَبْشِرُونَ}: حال.
* { قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }
(9/213)
---(1/3668)
قوله تعالى: {هَؤُلآءِ}: يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ "بناتي" مفعولاً بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَزَوَّجوا هؤلاء. و "بناتي" بيانٌ أو بدلٌ. الثاني: أن يكونَ "هؤلاء بناتي" مبتدأ وخبراً ولا بُدَّ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تَتِمُّ به الفائدةُ، أي: فَتَزَوَّجُوْهن. الثالث: أن يكونَ "هؤلاء" مبتدأً، و "بناتي" بدلٌ أو بيان، والخبرُ محذوفٌ، أي: هُنَّ أظهرُ لكم، كما جاء في نظيرتها.
قوله: {فَلاَ تَفْضَحُونِ} الفَضْحُ والفَضيْحَةُ البيان والظهور، ومنه فَضَحَه الصُّبْحُ قال:
2944- ولاحَ ضوءُ هِلالِ الليل يَفْضَحُنا * مثلَ القُلامَةِ قد قُصَّتْ من الظُفُرِ
إلا أنَّ الفضيحةَ اختصَّتْ بما هو عارٌ على الإنسانِ عند ظهورِه.
* { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }
(9/214)
---(1/3669)
قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ}: مبتدأٌ، محذوفٌُ الخبر وجوباً، ومثلُه: لايْمُنُ الله. و "إنهم" وما في حَيِّزه جوابُ القسمِ تقديرُه: لَعَمْرك قسمي أو يميني إنهم. والعَمْر والعُمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنهم التزموا الفتح في القسم. قال/ الزجاج: "لأنَّه أَخَفُّ عليهم، وهم يُكْثرون القَسَم بـ "لَعَمْرك". وله أحكامٌ كثيرة منها: أنه متى اقترن بلامِ الابتداء لَزِم فيه الرفعُ بالابتداءِ، وحُذِفَ خبرُه، لِسَدِّ جوابِ القسم مَسَدَّه. ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يَتَعَيَّن فيه، بخلافِ غيرِه نحو: عهدُ الله وميثاقُه. ومنها: أنه يَلْزَمُ فَتْحُ عينِه، فإن لم يقترنْ به لامُ الابتداء جاز نصبُهُ بفعل مقدر نحو: عَمْرَ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذ في الجلالةِ وجهان: النصبُ والرفعُ، فالنصبُ على أنه مصدرٌ مضافٌ لفاعله وفي ذلك معنيان، أحدهمل: أنَّ الأصلَ: أسألُكَ بتعميرك اللهَ. أي: بوصِفك اللهَ تعالى بالبقاء، ثم حُذِف زوائدُ المصدرِ. والثاني: أن المعنى: عبادتك الله، والعَمْرُ: العبادة، حكى ابن الأعرابي "عَمَرْتُ ربي"، أي: عَبَدْته، وفرنٌ عامِرٌ ربِّه، أي: عابدُه.
وأمَّا الرفعُ: فعلى أنه مضافٌ لمفعولِه. قال الفارسي: "معناه: عَمَّرَك اللهُ تَعْميراً". وقال الأخفش: "أصله: أسألك بتعميرك اللهَ، فحُذِفَ زوائدُ المصدرِ والفعلُ والباءُ فانتصب، وجاز أيضاً ذِكْرُ خبرِهِ فتقول: عَمْرُك قَسَمي لأقومَنَّ، وجاز أيضاً ضَمُّ عينِه، ويُنْشِدُ بالوجهين قولُه:
2945- أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً * عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ
ويجوزُ دخولُ باءِ الجرِّ عليه، نحو: بعَمْرِكَ لأفعلَنَّ. قال:
2946- رُقَيَّ بعَمْرِكُمْ لا تَهْجُرِينا * ومَنَّيْنا المُنَى ثم امْطُلِينا
(9/215)
---(1/3670)
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، فلا يُقطع عنها، ويُضاف لكلِّ شيءٍ. وزعم بعضُهم أنه لا يَضاف إلى الله. قيل: كأنَّ قائل هذا تَوَهَّم أنه لا يُسْتعمل إلا في الانقطاع، وقد سُمع إضافتُه للباري تعالى. قال الشاعر:
2947- إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ * لعَمْرُ اللهِ أَعْجبني رِضاها
ومَنَع بعضُهم إضافتَه إلى ياءِ المتكلمِ قال: لأنه حَلْفٌ بحياة المُقْسِم، وقد وَرَدَ ذلك، قال النابغة:
2943- لَعَمْري -وما عَمْري عليَّ بهَيِّنٍ- * لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأقارِعُ
وقد قَلَبَتْه العربُ بتقديمِ رائِه على لامه فقالوا: "رَعَمْلي"، وهي ردئيةٌ.
والعامَّة على كسرِ "إنَّ" لوقوعِ اللامِ في خبرها. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ الجَهْضَمِيِّ بفتحها. وتخريجُها على زيادةِ اللامِ وهي كقراءة ابن جبير: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} بالفتح.
والأعمش: "سَكْرِهم" دون تاءٍ. وابن أبي عبلة "سَكَراتهم" جمعاً. والأشهبُ "سُكْرَتِهم" بضم السين.
و "يَعْمَهُون" حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ، وإمَّا من الضميرِ المجحرورِ بالإضافةِ. والعامل: إمَّا نفسُ "سَكْرَة" لأنها مصدرٌ، وإمَّا معنى الإضافة.
* { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ }
قوله تعالى: {مُشْرِقِينَ}: حالٌ مِنْ مفعول "أَخَذَتْهم"، أي: داخلين في الشُّروق.
* { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ }
والضميرُ في {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} للمدينة. وقال الزمخشري: "لقرى قومِ لوطٍ". ورُجِّح الأولُ بأنه تقدَّم ما يعود عليه لفظاً بخلاف الثاني.
* { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }
(9/216)
---(1/3671)
قوله تعالى: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: متعلِّقٌ بمحذوف على أنه صفةٌ لآيات. والأجودُ أَنْ يتعلَّق بنفس "آياتٍ" لأنها بمعنى العلامات. والتَّوَسُّم تَفَعُّلٌ مِنَ الوَسْمِ، والوَسْم: أصلُه التَّثبُتُ والتفكُّر، مأخوذٌ من الوَسْمِ، وهو التأثير بحديدةٍ في جِلْد البعير أو غيره. وقال ثعلب: "الواسم: الناظرُ إليك مِنْ قَرْنِكَ إلى قَدَمِك"، وفيه معنى التثُّبت. وقيل:/ أصلُه: استقصاءُ التعرِّفِ يُقال: تَوَسَّمْتُ، أي: تَعَرَّفْتُ مُسْتَقْصِياً وجوهَ التعرُّف. قال:
2949- أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ * بَعَثَتْ إليَّ عريفَها يتوسَّمُ
وقيل: هو تَفَعُّل من الوَسْمِ، وهو العَلاَمَةُ: تَوَسَّمْتُ فيك خيراً، أي: ظَهَر له مِيْسَمُه عليك. قال ابن رواحة في النبي صلَّى الله عليه وسلم:
2950- إنِّي تَوَسَّمْتُ فيك الخيرَ أَعْرِفُه * والله يَعلم أني ثابتُ البَصَرِ
وقال آخر:
2951- تَوَسَّمْتُه لَمَّا رَأَيْتُ مَهابَةً * عليهِ وقُلْتُ: المرءُ مِنْ آلِ هاشمِ
ويُقال: اتَّسَمَ الرجلُ: إذا اتَّخَذَ لنفسِه علامةً يُعْرَفُ بها، وتَوَسَّمَ: إذا طلبَ كَلأَ الوَسْمِيَّ، أي: العشبِ النابتِ في أولِ مطرِ [الربيعِ].
* { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ }
قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ}: الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على المدينة أو القُرى. وقيل: على الحجارةِ. وقيل: على الآيات.
* { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ }
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ}: "إنْ" هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ، وقد تَقَدَّم حكمُ ذلك. والأَيْكَةُ: الشجرةُ المُلْتَفَّةُ، واحدةُ الأَيْكِ. قال:
2952- تَجْلُوْ بقادِمَتَيْ حَمامةِ أيْكةٍ * بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُه بالإثْمِدِ
ويقال: لَيْكَة. وسيأتي بيانُ هذا عند اختلافِ القرَّاءِ فيه إن شاء الله تعالى في الشعراء.
* { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ }
(9/217)(1/3672)
---
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ} في ضمير التثنيةِ أقوالٌ، أَرْجَحُها: عَوْدُه على قريَتْي قومِ لوطٍ وأصحابِ الأيكة وهم قوم شُعَيب لتقدَّمِهما ذِكْراً. وقيل: يعودُ على لوطٍ وشُعَيْبٍ، وشعيبٌ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولكنْ دَلَّ عليه ذِكْرُ قومِه. وقيل: يعود على الخبرين: خبرِ إهلاكِ قومٍ لوطٍ، وخبر إهلاكِ قومِ شعيب. وقيل: يعودُ على أَصحابِ الأيكةِ وأصحابِ مَدْيَنَ؛ لأنه مُرْسَلٌ إليهما فَذِكْرُ أحدِهما مُشْعِرٌ بالآخرِ.
* { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ }
و {مُصْبِحِينَ} حالٌ كما تقدَّم، وهي تامَّةٌ.
* { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
قوله تعالى: {فَمَآ أَغْنَى}: يجوز أن تكونَ نافيةً، أو استفهاميةً فيها معنى التعجبِ. و "ما" يجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً، أي: كَسْبُهم، أو موصوفةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: شيءٌ يَكْسِبونه، أو الذي يَكْسِبونه.
* { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ بِالْحَقِّ}: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: خَلْقاً ملتبساً بالحقِّ.
* { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ }
(9/218)
---(1/3673)
قوله تعالى: {كَمَآ أَنْزَلْنَا} فيه أقوالٌ، أحدُهما: أنَّ الكافَ متعلقٌ بـ "آتيناك"، وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: "أي: أَنْزَلْنا عليك مثلَ ما أَنْزَلْنا على أهل الكتاب، وهم المُقتسِمُون الذين جعلوا القرآن عِضِينَ". والثاني: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٍ بـ "آتيناك" تقديرُه: آتَيْناك إتْيانا كما أَنْزَلْنا. الثالث: أنه منصوبٌ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، ولكنه مُلاقٍ لـ "آتيناك" من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: أَنْزَلْنا إليك إنزالاً كما أَنْزَلْنا، لأنَّ "آتيناك" بمعنى أَنْزَلْنَا إليك. الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، العاملُ فيه مقدرٌ أيضاً تقديرُه: مَتَّعْناهم تمتيعاً كما أَنْزَلْنا، والمعنى: نَعَّمْنا بعضَهم كما عَذَّبنا بعضَهم. الخامس: أنه صفةٌ لمصدرٍ دَلَّ عليه "النذير" والتقدير: أنا النذيرُ إنْذاراً كما أَنْزَلْنا، أي: مثلَ ما أنزلناه.
السادس: أنه نعتٌ لمفعولٍ محذوف، الناصبُ له "النذير"، تقديرُه: النذير عذاباً، كما أنزلنا على المُقْتَسِمين، وهم قومٌ صالحٍ لأنهم قالوا: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} فأَقسموا على ذلك، أو يُراد بهم قريشٌ حيث قَسَموا القرآن إلى سِحْرٍ وشِعْرٍ وافتراء. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه يلزمُ منه إعمالٌ الوصفِ موصوفاً، وهو غيرُ جائزٍ عند البصريين، جائزٌ عند الكوفيين، فلو عَمِل ثم وُصِفَ جاز عند الجميعِ.
السابع: أنه مفعولٌ به، ناصبُه "النذير" أيضاً. قال الزمخشريُّ: "والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بقوله: "وقل: إني أنا النذيرُ المبين، أي: وأَنْذِرْ قريشاً مثلَ ما/ أَنْزَلْنَا من العذابِ على المقتسمين، يعني اليهودَ وهو ما جَرَى على قُرَيْظَةَ والنَّضِير". وهذا مردودٌ بما تقدم من إعمالِ الوصفِ موصوفاً.
(9/219)
---(1/3674)
الثامن: أنه منصوبٌ نعتاً لمفعولٍ به مقدرٍ، والناصبُ لذلك المحذوفِ مقدَّرٌ لدلالةِ لفظِ "النذير" عليه، أي: أُنْذِرُكم عذاباً مثلَ العذابِ المنزَّلِ على المقتسمين، وهم قومٌ صالحٍ أو قريشٌ، قاله أبو البقاء، وكأنه فَرَّ مِنْ كونِهِ منصوباً بلفظِ "النَّذير" لِما تقدَّم من الاعتراض البَصْرِيِّ.
وقد اعترض ابنُ عطيةَ على القول فقال: "والكافُ من قوله "كما" متعلقةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وقل إني أنا النذيرُ المبينُ عذاباً كما أنزَلْنا، فالكافُ اسمٌ في موضع نصبٍ، هذا قولُ المفسِّرين. وهو عندي غيرُ صحيحٍ، لأنَّ {كَمَآ أَنْزَلْنَا} ليس مما يقولُه محمدٌ عليه السلام، بل هو مِنْ كرمِ اللهِ تعالى، فينفصِلُ الكلامُ، وإنما يترتَّبُ هذا القولُ بأن الله تعالى قال له: أَنْذِرْ عذاباً كما. والذي أقول في هذا: "المعنى: وقل: إني أنا النذيرُ المبين، كما قال قبلَك رسلُنا، وأنزلْنا عليهم كما أَنْزَلْنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً، على أنَّ المُقْتَسِمين اهلُ الكتاب". انتهى.
وقد اعتذر بعضُهم عَمَّا قاله أبو محمدٍ فقال: "الكافُ متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى تقديرُه: أنا النذيرُ بعذابٍ مثلِ ما أنزلنا، وإنْ كان المُنَزِّل اللهَ، كما يقول بعضُ خواصِّ المَلِك: أَمَرْنا بكذا، وإنكان المَلِكُ هو الآمرَ، وأمَّا قولُ أبي محمدٍ: وأنْزَلْنَا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك كلامٌ غيرُ منتظمٍ، ولعل أصلَه: وأَنْزَلْنا عليك كما أَنْزَلْنا عليهم، كذا اصلحه الشيخ وفيه نظرٌ: كيف يُقَدَّر ذلك والقرآن ناطقٌ بخلافِهِ: وهو قولُه {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}؟
التاسع: أنه متعلِّقٌ بقوله {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} تقديرُه: لَنَسْأَلَنَّهم أجمعين مثلَ ما أَنْزَلْنا.
(9/220)
---(1/3675)
العاشر: أنَّ الكافَ مزيدةٌ تقديره: أنا النذير المُبين ما أنزلناه على المُقتسِمين، ولا بد مِنْ تأويلِ ذلك: على أنَّ "ما" مفعولٌ بالنذير عند الكوفيين فإنهم يُعْلِمون الوصفَ الموصوفَ، أو على إضمارِ فعلٍ لائق، أي: أُنْذِركم ما أنزلناه كما يليق بمذهبِ البصريين.
الحادي عشر: أنه متعلِّقٌ بـ "قل" التقديرُ: وقُلْ قولاً كما أنزَلْنا على المقتسِمين: إنك نذيرٌ لهم، فالقولُ للمؤمنين في النِّذارة كالقولِ للكفارِ المقتسِمين؛ لئلا تظنَّ أن إنذارَك للكفارِ مخالِفٌ لإِنذار المؤمنين، بل أنت في وصفِ النِّذارة لهم بمنزلةٍ واحدةٍ، تُنْذِر المؤمنَ كما تُنْشر الكافرَ، كأنه قال: أنا النذير المبينُ لكم ولغيرِكم.
* { الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ }
قوله تعالى: { فَاصْدَعْ}: فيه أوجهٌ: أظهرُها: أنه نعتٌ للمقتسِمين. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه بيانٌ له. الرابع: أنه منصوبٌعلى الذمِّ. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. السادس: أنه منصوب بالنذير المبين، قاله الزمخشري، وهو مردودٌ بإعمال الوصفِ الموصوفِ عند البصريين، وتقدَّم تقريرُه.
و "عِضيْن" جمع "عِضَة" وهي الفِرْقَةُ، فـ "العِضين" الفِرَق، ومعنى جَعْلِهم كذلك: أنَّ بعضَهم جعله شعراً، وبعضَهم سحراً، وبعضَهم كِهانةً، نعوذ بالله من ذلك. وقيل: العَضْهُ: السِّحْرُ بلغة قريش، يقولون: هو عاضِهٌ وهي عاضِهَةٌ. قال:
2953- أَعُوذُ بربِّي مِن النَّافِثا * تِ في عُقَدِ العاضِهِ المُعْضِهِ
وفي الحديث: "لَعَن العاضِهَة والمُسْتَعْضِهَة"، أي: الساحرة والمُسْتَسْحِرَة. وقيل: هو مِنْ العِضَهِ، وهو الكذبُ والبُهْتانُ. يقال: عَضَهَهُ عَضْهَاً وعَضِيْهَةً، أي: رماه بالبُهتان، وهذا قولُ الكسائيِّ. وقيل: هو من العِضاه، وهي شجرٌ شَوْكٌ مُؤْذٍ، قاله الفراء.
(9/221)
---(1/3676)
وفي لام "عِضَة" قولان يَشْْهد لكلٍّ منهما التصريفُ: الواوُ، لقولهم: عِضَوات، واشتقاقها من العُضْوِ، لأنه جزءٌ مِنْ كلٍّ، ولتصغيرِها على عُضَيِّة، والهاء/ لقولهم: عُضَيْهَة وعاضِهٌ وعاضِهَةٌ وعَضِهٌ، وفي الحديث: "لا تَعْضِيَةَ في مِيراثٍ" وفُسِّر بأنْ لا تَفْريقَ فيما يَضُرُّ بالوَرَثَةِ، تفريقُه كسيفٍ يُكْسَر بنصفَيْن فَيَنْقُصُ ثمنُه.
وقال الزمخشريُّ: "عَضين: أجزاءٌ، جمع عِضَة، وأصلُها عِضْوَة فِعْلَة، مِنْ عَضَا الشاةَ إذا جَعَلها أعضاءً. قال:
2954- وليسَ دينُ اللهِ بالمُعَضَّى
وجُمِعََ عِضَة على عِضين، كما جُمع سَنَة وثُبَة وظُبَةَ، وبعضهم يُجْري النونَ بالحركاتِ مع الياء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وحينئذ تَثْبُُ نونُه في الإضافةِ فيقال: هذه عِضِيْنُك.
* { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {فَاصْدَعْ}: أصلُ الصَّدْعِ: الشَّقُّ: صَدَعْتُه فانصَدَعَ، أي: شَقَقْتُه فانْشَق، ومنه التفرقةُ أيضاً كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
}. وقال:
2955- ........................... * كأنَّ بياضَ غِرَّتِه صَدِيعُ
والصَّديعُ: ضوء الفجر لانشقاقِ الظلمةِ عنه، ومعنى "فاصدَعْ": فافرُقْ بين الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما. وقال الراغب: "الصَّدْعُ شِقٌّ في الأجسامِ الصُّلْبة كالزُّجَاج والحديد، وصَدَّعْتُه بالتشديد فتصَدَّع، وصَدَعْتُه بالتخفيفِ فانْصَدَع، وصُداع الرأسِ منه لتوهُّمِ الانشقاقِ فيه، وصَدَعْتُ الفَلاةَ، أي: قطعتُها" مِنْ ذلك، كأنه تَوَهَّم تفريقَها.
و "ما" في "بما تُؤْمَر" مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والأصلُ: تُؤْمَر به، وهذا الفعلُ يَطَّرِدُ حَذْفُ الجارِّ معه، فَحَذْفُ العائدِ فصيحٌ، وليس هو كقولك "جاء الذي مررت" ونحوُه:
2956- أَمَرْتُكَ الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به * ................................
(9/222)
والأصل: بالخير. وقال الزمخشري: "ويجوز أن تكونَ "ما" مصدريةً، أي: بأَمْرِك، مصدرٌ من المبني للمفعول". انتهى. وهو كلامٌ صحيحٌ. ونَقَل الشيخُ عنه أنه قال: "ويجوز أن يكونَ المصدرُ يُراد به "أَنْ" والففعلِ المبنيِّ للمفعول". ثم قال الشيخ: "والصحيحُ أنَّ ذلك لا يجوز". قلت: الخلافُ إنما في المصدرِ المُصَرَّح به: هل يجوز أن يَنْحَلَّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ مبني للمفعول أم لا يجوزُ ذلك؟ خلافٌ مشهور، أمَّا أنَّ الحرفَ المصدريَّ هل يجوزُ فيه أن يُوْصَلَ بفعل مبني للمفعول نحو: "يُعجبني أن يُكْرَمَ عمروٌ" أم لا يجوز؟ فليس محلَّ النِّزاعِ.(1/3677)
سورة النحل
* { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}: في "أتى" وجهان، أحدُهما: - وهو المشهورُ- أنه ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ إذ المرادُ به يومُ القيامة، وإنما أُبْرِز في صورةِ ما وَقَع وانقضى تحقيقاً له ولصِدْقِ المخبِرِ به. والثاني: أنه على بابه، والمرادُ به مقدِّماتُه وأوائلُه، وهو نَصْرُ رسولِه صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أظهرُهما: أنَّه للأمرِ، فإنَّه هو المُحَدَّثُ عنه. والثاني: أنه لله، أي: فلا تستعجلوا عذابَه.
قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكونَ "ما" مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهور، أي: عن إشراكِهم به غيرَه، وأن تكونَ موصولةً اسميةً.
وقرأ العامَّةُ: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين. وابنُ جبير بالياء من تحتُ عائداً على الكفار أو المؤمنين.
وقرأ الأَخَوان: "تُشْرِكُون" بتاءِ الخطابِ جَرْياً على الخطابِ في "تَسْتَعْجِلُوه" والباقون بالياء عَوْداً على الكفار. وقرأ الأعمشُ وطلحةُ والجحدريُّ وجَمٌّ غفيرٌ من فوقُ في الفعلين.
(9/223)
---(1/3678)
* { يُنَزِّلُ الْمَلاائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوااْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ }
قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاائِكَةَ}: قد تقدَّم الخلافُ في "يُنَزِّل" بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم "تَنَزَّلُ" مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ، "الملائكةُ" رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلا أنه خَفَّف الزايَ. وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم "تَنَزَّلُ" بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل، والأصلُ: "تَتَنَزَّل" بتاءَيْن. وقرأ ابنُ أبي عبلة "نُنَزِّلُ" بنونينِ وتشديدِ الزايِ، "الملائكةَ" نصباً، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف. قال/ ابن عطية: "وفيهما شذوذٌ" ولم يُبَيِّن وجهَ ذلكن ووجهُه: أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ، وتخريجُه على الالتفات.
قوله: "بالرُّوْحِ" يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإنزال، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة"، أي: ومعهم الروحُ.
قوله: {مِنْ أَمْرِهِ} حالٌ من "الرُّوحِ". و "مِنْ": إمَّا لبيانِ الجنسِ، وإمَّا للتبعيضِ.
قوله: {أَنْ أَنْذِرُوااْ} في "أَنْ" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها المُفَسِّرةُ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ، والإنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ. الثاني: أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره: أنَّ الشأنَ أقولُ لكم: إنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشريُّ: الثالث: أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم: "كتبت إليه بأنْ قُمْ"، وقد مضى لنا فيه بحثٌ.
(9/224)
---(1/3679)
فإن قلنا: إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها، وإنْ قلنا: إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من "الرُّوح"؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل. والثالث: أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه، والأصلُ: بأَنْ أَنْذِروا، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ.
قوله: {أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ أَنَاْ} هو مفعولُ الإنذارِ والإنذار قد يمنُ بمعنى الإعلامِ. يقال: نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا، أي: أَعْلِمُوهم التوحيدَ. وقوله "فاتَّقونِ" التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة.
* { خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍْْ} متعلِّقٌ بـ "خَلَق" و "مِنْ" لابتداءِ الغاية. والنُّطْفَةُ: القَطْرَةُ من الماء، نَطَفَ رأسُه ماءً، أي: قَطَر. وقيل: هي الماء الصافي ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرجل، ويُكْنَى بها عن اللؤلؤة، ومنه صبيٌّ مُنَطَّف: إذا كان في أذنه لُؤْلؤة، ويقال: ليلة نَطُوف: إذا جاء فيها مطرٌ. والناطِف: ما سال من المائعاتِ، نَطَفَ يَنْطِفُ، أي: سال فهو ناطِفٌ. وفرنٌ يَنْطِفُ بسوءٍ.
قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} عَطَلإَ هذه الجملةَ على ما قبلَها. فإن قيل: الفاءُ تدلُّ على التعقيب، ولا سيما وقد وُجِدَ معها "إذا" التي تقتضي المفاجَأةَ، ومونثه خصيماً مبيناً لم يَعْقُبْ خَلْقَه مِنْ نُطْفة، إنما توسَّطَتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ. فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيءِ بما يَؤُول إليه، كقولِه تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} والثاني: أنه أشار بذلك إلى سُرْعَةِ نِسْيانهم مَبْدَأَ خَلْقِهم. وقيل: ثَمَّ وسائِطُ محذوفةٌ. والذي يظهر أنَّ قولَه "خَلَقَ" عبارةٌ عن إيجاده وتربيتِه إلى أن يبلغَ حدّ هاتين الصفتين.(1/3680)
(9/225)
---
و "خصيم" فَعِيْل، مثالُ مبالغةٍ مِنْ خَصَم بمعنى اختصم، ويجوز أن يكونَ مُخاصِم كالخَلِيط والجَلِيس.
* { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا}: العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على الاشتغالِ،وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ. والثاني: أنه نصبٌ على عَطْفِه على "الإنسان"، قاله الزمخشريُّ وابنُ عطية، فيكون "خَلَقَها" على هذا مؤكِّداً، وعلى الأول مفسِّراً. وقُرئ في الشاذِّ و "الأنعامُ" رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ.
قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يجوز أن يَتَعَلَّقَ "لكم" بـ "خَلَقَها"، أي: لأجلِكم ولمنافعِكم، ويكون "فيها" خبراً مقدماً، "ودِفْءٌ" مبتداً مؤخراً. ويجوز أن يكونَ "لكم" هو الخبر، و "فيها" متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يكونَ "فيها" حالاً من "دِفْء"أنه لو تاخَّر لكان صفةً له، أو يكونَ "فيها" هو الخبرَ، و "لكم" متعلِّقٌ بما تعلَّق به، أو يكونَ حالاً مِنْ "دِفْء" قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها، لا يجوز: "قائماً في الدار زيدٌ" فإنْ تأخَّرَتْ نحو: "زيدٌ في الدار قائماً" جازَ بلا خلافٍ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ، أجازه الأخفشُ، ومنعه غيرُه.
قلت: ولقائلٍ أن يقولَ: لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها، إلاَّ أنْ يقولَ: لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ، لزيادةِ القبح.
(9/226)
---(1/3681)
وقال أبو البقاء أيضاً: "ويجوز أَنْ يرتفعَ "دِفْء" بـ "لكم" أو بـ "فيها" والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب". قال الشيخ: "ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير: خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ" قلت" قد تقدَّم الخلاف في تقدير نتعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً: هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا.
والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به، أي: يُسْخَنُ، وجمعُه أدْفاء، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِءٌ، ودَفِئٌ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأَى، كسَكْران وسَكْرى. والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد: الإبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ. قيل: الدِّفْءُ: نِتاحُ الإبل وألبانُها، وما يُنْتفع به منها.
وقرأ زيدُ بنُ عليّ "دِفٌ" بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء، والزهريُّ كذلك، إلا أنه شَدَّدَ الفاء، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم: "هذا فَرُخّْ" بالتشديد وقفاً. وقال صاحب "اللوامح": "ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفا". قلت: التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها.
قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} "مِنْ" هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ. قال الزمخشري: فإن قلت: تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها. قلت: الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به".
* { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }
(9/227)
---(1/3682)
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}: كقوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} و "حين" منصوبٌ بنفس "جَمال"، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له، أو معمولٌ لِما عَمِل في "فيها" أو في "لكم".
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ "حينا" بالتنوين على أنَّ الجملةَ بعدَه صفةٌ له، والعائدُ محذوفٌ، أي: حيناً تُرِيْحون فيه، وحيناً تَسْرحُون فيه، كقولِه تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
}. وقُدِّمَتْ الإراحةُ على السَّرْحِ؛ لأنَّ الأنعامَ فيها أجملُ لِمَلْءِ بطونِها وتَحَفُّلِ ضُروعِها.
والجَمالُ: مصدرُ جَمُلَ بضمِّ الميم يَجْمُل فهو جميل، وهي جميلة. وحكى الكسائيُّ جَمْلاء كَحَمْراء، وأنشد:
2957- فهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالعٍ * بَذَّتِ الخَلْقَ جميعاً بالجَمالْ
ويقال: أراحَ الماشيةَ وهَرَاحَها بالهاءِ بدلاً من الهمزة. وسَرَحَ الإبلَ يَسْرَحُها سَرْحاً، أي: أرسلَها، وأصلُه أن يُرْسِلَها لترعى السَّرْحَ، والسَّرْحُ شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سَرْحَة. قال:
2958- أبى اللهُ إلا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ * على كلِّ افنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
وقال:
2959- بَطَلٌ كأن ثيابَه في سَرْحةٍ * يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوْءَم
ثم أُطْلِق على كل إرسالٍ، واستُعير أيضاً للطَّلاق فقالوا: سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه، كما تسعير الطلاقُ أيضاً للطَّلاق فقالوا: سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه، كما استعير الطرقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عُلُقِها. واعتُبِر من السَّرْحِ المُضِيُّ فقيل: ناقَةَ سُرُحٌ، أي: سريعة قال:
2960- ... سُرُحُ اليَدَيْن ........... * ..............................
وحَذَفَ مفعولي "تُرِيْحون" و "تَسْرَحُون" مراعاةً للفواصل مع العلم بهما.
* { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
(9/228)
---(1/3683)
قوله تعالى: {لَّمْ تَكُونُواْ}: صفةٌ لـ "بلد" و "إلا بشِقٍّ" حالٌ من الضمير المرفوع في "بالِغِيْه"، أي: لم تَبْلُغوه إلا ملتبسِيْنَ بالمَشَقَّة.
والعامَّةُ على كسر الشين. وقرأ أبو جعفر، ورُوِيَتْ عن نافع وأبي عمرو بفتحها. فقيل: هما مصدران بمعنىً واحدٍ، أي: المَشَقَّة، فمِنَ الكسر قولُه:
2961- رأى إبِلاً تَسْعى، ويَحْسِبُها له * أخي نَصَبٍ مِنْ شِقِّها ودُؤْوْبِ
أي: مِنْ مَشَقَّتها./ وقيل: المفتوحُ المصدرُ، والمكسورُ الاسمُ. وقيل: بالكسرِ نصفُ الشيء. وفي التفسير: إلا بنصفِ أنفسكم، كما تقول: "لم تَنَلْه إلا بقطعةٍ من كَبِدك" على المجاز.
* { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ}: العامَّةُ على نصبِها نَسَقاً على "الأنعامَ". وقرأ ابن أبي عبلة برفعِها على الابتداء والخبرُ محذوفٌ، أي: مخلوقَةٌ أو مُعَدَّةٌ لتركبوها، وليس هذا ممَّا نابَ فيه الجارُّ منابَ الخبرِ لكونِه كوناً خاصاً.
قوله: "وزينةً" في نصبها أوجهٌ، أحدُها: أنها مفعولٌ من أجلِه، وإنما وَصَل الفعلُ إلى الأول باللام في قوله: "لتركبوها" وإلى هذا بنفسِه لاختلالِ شرطٍ في الأول، وهو عَدَمُ اتحادِ الفاعلِ، فإن الخالقَ اللهُ، والراكبَ المخاطبون بخلافِ الثاني.
الثاني: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحبُ الحال: إمَّا مفعول "خَلَقَها"، وإمَّا مفعولُ "لتركبوها"، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الحال.
الثالث: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ، فقدَّره الزمخشري "وخَلَقها زينة". وقدَّره ابن عطية وغيرُه "وجَعَلها زينةً".
الرابع: أنه مصدرٌ لفعلٍ محذوف، أي: وَيَتَزَيَّنُوْن بها زينةً.
وقرأ قتادةُ عن ابن عباس "لتَرْكَبوها زينةً" بغير واوٍ، وفيها الأوجهُ المتقدمةُ، ويزيد أن تكونَ حالاً من فاعل "لتركبوها"، أي: تركبونها مُتَزَيِّنين بها.
(9/229)
---(1/3684)
* { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }
قوله تعالى: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}: الضميرُ يعود على السبيل لأنها تُؤَنَّثُ: {هَاذِهِ سَبِيلِيا} أو لأنها في معنى سُبُل، فَأَنَّثَ على معنى الجمع.
والقَصْدُ مصدرٌ يُوصَفُ به فهو بمعنى قاصِد، يُقال: سبيلٌ قَصْدٌ وقاصِدٌ، أي: مستقيم كأنه يَقْصِد الوجهَ الذي يَؤُمُّه السَّالكُ لا يَعْدِل عنه. وقيل: الضمير يعود على الخلائق ويؤيِّده قراءةُ عيسى وما في مصحف عبد الله: "ومنكم جائِزٌ"، وقراءةُ عليٍّ: "فمنكم جائر" بالفاء.
وقيل: أل في السبيل للعَهْدِ، فعلى هذا يعود الضميرُ على "السبيل" التي يتضمَّنها معنى الآية كأنه قيل: ومِن السبيل، فأعاد عليها وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ مقابلَها يَدُلُّ عليها. وأمَّا إذا كانت أل للجنس فتعودُ على لفظها.
والجَوْرُ: العُدولُ عن الاستقامةِ. قال النابغة:
2962- ....................... * يَجُور بها الملاَّحُ طَوْراً ويَهْتدي
وقال آخر:
2963- ومن الطريقةِ جائرٌ وهُدىً * قَصْدُ السبيلِ ومنه ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء: "وقَصْدُ مصدرٌ بمعنى إقامةِ السبيل وتَعِديلِ السبيلِ، وليس مصدرَ قصَدْتُه بمعنى أتَيْتُه".
* { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ }
قوله تعالى: {مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ}: يجوزُ في "لكم" أن يتعلَّقَ بـ "أنْزَلَ"، ويجوزُ أن يكونَ صفةً لـ "ماءً"، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، فعلى الأولِ يكون "شرابٌ" مبتدأً و "منه" خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ أيضاً صفةٌ لـ "ماءً" وعلى الثاني يكون "شرابٌ" فاعلاً بالظرف، و "منه" حالٌ من "شراب". و "مِنْ" الأولى للتبعيض، وكذا الثانيةُ عند بعضهِهم، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله:
2946- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ
(9/230)
---(1/3685)
أي: في سَحابة، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها.
وقال أبو بكر بن الأنباري: "هو على حذف مضاف إمَّا من الأول، يعني قبل الضمير، أي: مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شُرْب شجر أو حياة شجر". وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية، أي: بسببه، ودَلَّ عليه قولُه: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ}.
والسَّجَرُ هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتى الكَلأُ، وفي الحديث: "لا تأكُلوا الشجرَ فإنه سُحْتٌ" يعني الكلأ، ينهى عن تحجُّر المباحاتِ المحتاجِ إليها بشدة. وقال:
2965- نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ
وهو مجازٌ؛ لأنَّ الشجرَ ما كان له ساقٌ.
قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} هذه صفةٌ أخرى لـ "ماءً". والعامَّة على "تُسِيمون" بضمِّ الياء مِنْ أسام، أي: أَرْسَلَها لِتَرْعى، وزيد بن علي بفتحِها، فيحتمل أن يكونَ متعدياً، ويكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذفِ مضافٍ، أي: تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ.
* { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {يُنبِتُ}: تحتمل هذه الجملةُ الاستئنافَ والتبعيةَ كما في نظيرتِها. ويقال: "أَنْبت اللهُ الزرعَ" فهو مَنْبُوت، وقياسُه مُنْبَتٌ. وقيل: "أَنْبت" قد يجيْءُ لازماً كـ "نَبَت" أنشد الفراء:
2966- رأيتَ ذوي الحاجاتِ حولَ بيوتِهمْ * قَطِيناً لهم حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعي، والبيتُ حجةٌ عليه، وتأويلُه بـ "أَنبت البقلُ نفسَه" على المجاز بعيدٌ جداً.
وقرأ أبو بكر "نُنْبِتُ" بنون العظمة،/ والزهري "نُنَبِّتُ" بالتشديد. والظاهر أنه تضعيف المتعدي. وقيل: بل للتكرير. وقرأ أُبَي "يَنْبُت" بفتحِ الياءِ وضم الباء، "الزَّرعُ" وما بعده رفعٌ بالفاعلية.
(9/231)(1/3686)
* { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
وقد تقدَّم خلافُ القراء في رفع "الشمس" وما بعدها ونصبِها، وتوجيهُ ذلك في سورة الأعراف.
* { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ} عطفٌ على "الليل" قاله الزمخشري يعني ما خَلَقَ فيها من حيوانٍ وشَجَر. وقال أبو البقاء: "في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوف، أي: وخَلَقَ وأَنْبَتَ". كأنه استبعد تَسلُّطَ "سَخَّر" على ذلك فقدَّر فعلاً لائقاً. و "مختلفاً" حالٌ منه، و "ألوانُه" فاعلٌ به.
وخَتَمَ الآيةَ الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأمُّلٍ ونَظَر، والثانيةَ بالعقل؛ لأنَّ مدارَ ما تقدَّم عليه، والثالثةَ بالتذكُّر؛ لأنه نتيجةُ ما تقدَّمَ. وجَمَعَ "آيات" في الثانية دونَ الأولى والثالثةِ؛ لأنَّ ما نِيْطَ بها أكثرُ، ولذلك ذَكَرَ معها العقلَ.
* { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {مِنْهُ لَحْماً}: يجوز في "منه" تعلُّقُه بـ "لتأكلوا"، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده. و "مِنْ" لابتداء الغاية أو للتبعيضِ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: مِنْ حيوانِه.
(9/232)
---(1/3687)
و "طَرِيّاً" فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً. وقال الفراء: "بل يقال: طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراءً مثل: شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاءً". والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة، أي: غَضاً جديداً. ويُقال: الثيابُ المُطَرَّاة. والإِطراء: مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه، وأمَّا "طَرَأَ" بالهمز فمعناه طَلَع.
قوله: "حِلْيةً" الحِلْيَةُ: اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة. و "تَلْبَسُونها" صفةٌ. و "منه" يجوز فيه ما جاز في "منه" قبله. وقوله "تَرَى" جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما "لتأكلوا" و "لِتَبْتَغُوا"، وإنما كانَتْ اعتراضاً لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ.
قوله: "فيه" يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ "ترى"، وأَنْ يتعلَّقَ بـ "مواخِرَ" لأنها بمعنى شَواقَّ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ "مَواخِر"، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه.
و "مَواخِر" جمع ماخِرة، والمَخْرُ: الشَّقُّ، يُقال: مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ، أي: شَقَّتْه، تَمْخُره مَخْراً ومُخُوراٌ. ويقال للسُّفُنِ: بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم، والباءُ بدل منها. وقال الفراء: "هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ". وقيل: صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ. وقيل: "بناتُ مَخْرٍ" لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفاً، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها، أي: استقبلْتَها بأنفك. وفي الحديث: "اسْتَمْخِروا الريحَ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ" يعني في الاستنجاء، والماخُور: الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ. و "ترى" هنا بَصَريَّةٌ فقط.
قوله: "ولِتَبْتَغُوا" فيه ثلاثةُ أوجهٍ: عطفُه على "لتأكلوا"، وما بينهما اعتراضٌ -كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ. ثانيها: أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا، ذكره ابن الأنباري، ثالثُها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فَعَل ذلك لتبتغوا، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.
(9/233)
---(1/3688)
* { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {أَن تَمِيدَ}:، أي: كراهةَ أَنْ تَمِيْدَ، أو: لئلاَّ تَمِيْدَ.
قوله: "وأنهاراً" عطفٌ على "رَواسي" لأنَّ الإلقاءَ بمعنى الخَلْقَ. وادِّعاءُ ابنِ عطية أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجَعَل فيها أنهاراً، ليس كما ذكره. وقدَّره أبو البقاء: "وشَقَّ فيها أنهاراً" وهو مناسِبٌ، و "سُبُلاً"، أي: وذَلَّل، أو: وجعل فيها طُرُقاً.
* { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }
و {وَعَلامَاتٍ}، أي: ووَضَعَ فيها علاماتٍ.
قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ} متعلِّق بـ "يهتدون". والعامَّةُ على فتحِ النونِ وسكونِ الجيمِ بالتوحيدِ فقيل: المرادُ به كوكبٌ بعينه كالجَدْيِ أو الثُّرَيَّا. وقيل: بل هو اسمُ جنسٍ. وقرأ ابن وثاب بضمِّهما، والحسنُ بضمِّ النون فقط، وعَكَسَ بعضُهم النَّقْلَ عنهما.
فأمَّا قراءةُ الضمتين ففيها تخريجان، أظهرُهما: أنها جمعٌ صريحٌ لأنَّ فَعْلاً يُجْمع على فُعُل نحو: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن./ والثاني: أنَّ أصلَه النجومُ، وفَعْل يُجمع على فُعُول نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خُفِّف بحَذْفِ الواوِ كما قالوا: أَسَد وأُسُود وأُسُد. قال أبو البقاء: "وقالوا في خِيام: خِيَم، يعني أنه نظيرُه، من حيث حَذَفوا منه حرفَ المدِّ. وقال ابنُ عصفور: إن قولهم "النُّجُم مِنْ ضرورة الشعر" وأنشد:
2967- إنَّ الي قَضَى بذا قاضٍ حَكَمْ * أن تَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ
يريد: النحوم، كقوله:
2968- حتى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيْمُ الحُلُقْ
يريد الحُلُوق.
وأمَّا قراءةُ الضمِّ والسكونِ ففيها وجهان، أحدهما: أنها تخفيفٌ من الضم. والثاني: أنها لغةٌ مستقلة.
(9/234)
---(1/3689)
وتقديمُ كلٍّ من الجار والمبتدأ يفيد الاختصاصَ. قال الزمشخري: "فإن قلت: قوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} مُخْرَجٌ عن سَنَنِ الخِطاب، مقدَّم فيه النجم، مُقْحَمٌ فيه [هم]، كأنه قيل: وبالنجمش خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدونَ، فَمَنْ المرادُ بهم؟ قلت: كأنَّه أراد قريشاً، كان لهم اهتداءٌ بالنحوم في مسائرِهم، وكان لهم به عِلْمٌ لم يكنْ لغيرِهم فكان الشكرُ عليهم أوجبَ ولهم أَلْزَمَ".
* { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} إنْ أُريد بـ "مَنْ لا يَخْلُق" جميعٌ ما عُبِد مِنْ دون الله كان ولاودُ "مَنْ" واضحاً؛ لأن العاقلَ يُغَلَّبُ على غيرِه، فيُعبَّر عن الجميع بـ "مَنْ" ولو جِيْء بـ "ما" أيضاً لجازَ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ "مَنْ" عليهم أوجهٌ، أحدُها: إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله:
2969- بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي * فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ
أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ
فأوقعَ على السِّرْب "مَنْ" لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ. الثاني: المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق. الثالث: تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم، والمعنى: أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} إلى آخره؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ "مَنْ" على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ.
(9/235)
---(1/3690)
قال الزمخشريُّ: "فإن قلتَ: هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها، تشبيهاً بالله تعالى، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق، فكان حَقُّ الإلزامِ أن يُقال لهم: أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق؟ قلت: حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه، والعبادةِ له، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقولِه {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}.
* { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ}: قرأ العامَّةُ "تُسِرُّون" و "تُعْلِنون" بتاء الخطاب. وأبو جعفر بالياء مِنْ تحتُ.
* { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
وقرأ عاصم وحده "يَدْعُون" بالياء، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ. وقُرِئ "يُدْعَوْن" مبنياً للمفعول. وهنَّ واضحاتٌ.
* { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }
قوله تعالى: {أَمْواتٌ}: يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أي: وهم يُخْلَقُون وهم أمواتٌ. ويجوز أن يكونَ "يُخْلَقون" و "أمواتٌ" كلاهما خبراً من بابِ "هذا حُلْوٌ حامِض" ذكره أبو البقاء، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم أمواتٌ.
قوله: {غَيْرُ أَحْيَآءٍ} يجوزُ فيه ما تقدم، ويكون تأكيداً. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أَنْ يكونَ قصد بها أنهم في الحال غيرُ أحياءٍ ليَرْفَعَ به توهُّمَ أنَّ قولَه "أمواتٌ" فيما بعد إذ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} قلت: وهذا لا يُخْرِجُه عن التأكيدِ الذي ذكره قبلَ ذلك.
(9/236)
---(1/3691)
قوله: {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} "أيَّان" منصوبٌ بما بعده لا بما قبلَه لأنه استفهامٌ، وهو مُعَلَّقٌ لـ "يَشْعُرون" فجملتُه في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، هذا هو الظاهرُ. وفي الآية قولٌ آخرُ: وهو أن "أيَّان" ظرفٌ لقولِه {إِلاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ} يعني أن الإلهَ واحدٌ يومَ القيامة، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله "يَشْعُرون"، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ لـ "أيَّان" عن موضوعِها -وهو: إمَّا/ الشرطُ، إمَّا الاستفهامُ -إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت، مضافٌ للجملة بعده كقولِك: "وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق" فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق، مضافٌ لتذهب.
* { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }
قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ}: قد تقدَّمَ الكلامُ على هذه اللفظةِ في سورةِ هود. والعامَّةُ على فتحِ الهمزة مِنْ "انَّ اللهَ" وكَسَرَها عيسى الثقفيُّ، وفيها وجهان، أظهرُهما: الاستئنافُ. والثاني: جَرَيانُ "لا جَرَم" مَجْرَى القسمِ فَتُتَلَقَّى بما يُتَلَقَّى به. وقال بعضُ العرب: "لا جَرَم واللهِ لا فارَقْتُك" وهذا عندي يُضْعِفُ كونَها للقسم لتصريحه بالقسمِ بعدها، وإن كان الشيخ أتى بذلك مُقَوِّياً لجريانِها مَجْرى القسَم.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }
قوله تعالى: {مَّاذَآ أَنْزَلَ}: قد تقدَّم الكلامُ على "ماذا" أولَ البقرة. وقال الزمخشري: "أو مرفوعٌ بالابتداءِ بمعنى: أيُّ شيءٍ أنزلَه ربُّكم؟ قال الشيخ: "وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريين". يعني مِنْ كونِه حَذَفَ عائدَه المنصوب نحو: "زيدٌ ضربتُ" وقد تقدَّم خلافُ الناس في هذا، والصحيحُ جوازه.
(9/237)
---(1/3692)
والقائمُ مَقامَ فاعلِ "قيل" الجملةُ مِنْ قولِه {مَّاذَآ أَنْزَلَ} لأنها المَقُولَةُ، والبصريون يَأْبَوْنَ ذلك، ويجعلون القائمَ مقامَه ضميرَ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَ الفاعلِ، والفاعلُ المحذوفُ: إمَّا المؤمنون، وإمَّا بعضُهم، وإمَّا المقتسِمون.
وقرئ: "أساطيرَ" بالنصب، على تقدير: أَنْزَلَ أساطيرَ على سبيل التهكُّم، أو المذكورُ أساطيرُ. وللزمخشريِّ هنا عبارةٌ فظيعةٌ يقف منها الشَّعْرُ.
* { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }
قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ}: في هذه اللام ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ الأمرِ الجازمةُ على معنى الحَتْمِ عليهم، والصِّغارِ الموجبِ لهم، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ عند قولِه "الأوَّلين"، ثم اسْتُؤْنِف أَمْرُهم بذلك. الثاني: أنها لام العاقبة، أي: كان عاقبةُ قولِهم ذلك، لأنهم لم يقولوا "أساطير" لِيَحْمِلوا، فهو كقولِه تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وقوله:
2970- لِدُوا للموتِ وابْنُوا للخرابِ * ...................................
الثالث: أنَّها للتعليل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه تعليلٌ مجازيٌّ. قال الزمخشري: "واللامُ للتعلشلِ مِنْ غيرِ أن يكونَ غرضاً نحو قولِك: خرجْتُ من البلد مخافةَ الشرِّ". والثاني: أنه تعليلٌ حقيقةً. قال ابن عطية: -بعد حكاية وجهِ لامِ العاقبة- "ويُحتمل أن تكونَ صريحَ لامِ كي، على معنى: قَدَّر هذا لكذا" انتهى. لكنه لم يُعَلِّقُها بـ "قالوا" إنما قَدَّرَ لها علةَ "كيلا"، وهو قَدَّر هذا، وعلى قول الزمخشري يتعلَّقُ بـ "قالوا"؛ لأنها ليست لحقيقةِ العلَّةِ. و "كاملةً" حالٌ.
(9/238)
---(1/3693)
قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ "مِن" مزيدةٌ، وهو قولُ الأخفش، أي: وأوزار الذين على معنى: ومثل أوزارِ، كقولِه: كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها". والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ وهي للتبعيضِ، أي: وبعض أوزار الذينز وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه، أي: وأوزاراً مِنْ أوزارِ، ولا بدَّ مِنْ حذف "مثل" أيضاً.
وقد منع الواحديُّ أن تكونَ "مِنْ" للتبعيض قال: "لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام "من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ" لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزارِ الأتباع". قال الشيخ: "والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا، إنما تقدَّر: والوزار التي هي أوزارُ اذين، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير".
قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ "يُضِلُّونهم"، أي: يُضِلُّون مَنْ لا يعلم أنهم ضُلاَّلٌ، قاله الزمخشري. والثاني: أنه الفاعل، ورُجِّح هذا بأنه هو المُحدَّث عنه. وقد تقدَّم الكلامُ في إعرابِ نحو "ساءَ ما يَزِرون"، وأنها قد تجري مَجْرى بِئْس.
* { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {مِّنَ الْقَوَاعِدِ} يجوز أن يتعلَّقَ بـ "خَرَّ" وتكون "مِنْ" لابتداءِ الغاية، أي: من ناحيةِ القواعدِ، أي: أتى أمرُ الله وعذابُه.
(9/239)
---(1/3694)
قوله: {مِن فَوْقِهِمْ} يجوز أن يتعلَّقَ بـ "خَرَّ" وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية، ويجوز/ أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من "السقف" وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم. وقال جماعة: ليس "مِنْ تحتِهم" تأكيداً؛ لأنَّ العرب تقول: "خَرَّ علينا سَقْفٌ، ووقع علينا حائط" إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه، فجاء بقوله "من فوقهم" ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب، اي: عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا. وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه.
والعامَّةُ على "بُنْيانِهم". وفرقة: "بِنْيَتَهُمْ". وفرقة -منهم أبو جعفر- "بَيْتهم". والضحاك "بُيوتهم".
والعامَّةُ أيضاً: "السَّقْفُ" مفرداً. وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد، وهي لغةٌ في السَّقْف، ولعلها مخففةٌ من المضموم، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم: "رَجْل"، ولا يقولون: "رَجُل". وقرأ الأعرج "السُّقُف" بضمتين. وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءةِ {وَبِالنُّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
* { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّواءَ عَلَى الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} مبتدأٌ وخبر. والعامَّة على "شركائي" ممدوداً. وسَكَّن ياءَ المتكلم فرقةٌ، فَتُحْذَفُ وصلاً لالتقاء الساكنين. وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء. وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً. وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة.
(9/240)
---(1/3695)
قلت: وقد رُوِي عن ابنِ كثير قَصْرُ التي في القصص، ورُوِي عنه أيضاً قَصْرُ "ورائي" في مريم، ورَوى عنه قتبل أيضاً قَصْرَ {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} في العلق، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة.
قوله: "تُشَاقُّون" نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل: تُشاقُّوني، فَحَذَفَها مجتزِئاً عنها بالكسرة، والباقون بفتحها خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ، أي: تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ، بدليلِ القراءةِ الأولى. وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، أعني قراءةَ نافعٍ. وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً، والأصل: تُشَاقُّونني فأدغم، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في {أَتُحَاجُّوانِّي} {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} وسيأتي في قولِه تعالى {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّيا
}. قوله: "اليومَ" منصوب بالخِزْي، وعَمِل المصدرُ وفيه أل. وقيل: هو منصوبٌ بالاستقرار في "على" إلا أنَّ فيه فَصْلاً بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ.
* { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
(9/241)
---(1/3696)
قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ}: يجوز أن يكونَ الموصولِ مجرورَ المحلِّ نعتاً لِما قبله، أو بدلاً منه، أبو بياناً له، وأن يكونَ منصوباً على الذمِّ، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبرُ قولُه {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} والفاءُ مزيدةٌ في الخبر، قاله ابن عطية، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقاً، نحو: "زيد فقام"، أي: قام. ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاءَ هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع، كذا قاله الشيخ، وهو ظاهر. وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلاً فيه.
وقرأ "يَتَوَفَّاهُمْ" في الموضعين بالياء حمزة، والباقون بالتاء مِنْ فوق، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله {فَنَادَتْهُ الْمَلاائِكَةُ} "فناداه". وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، في مصحفِ عبد الله "تَوَفَّاهم" بتاءٍ واحدة، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإدغام، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءَيْن.
و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حالٌ مِنْ مفعولِ "تَتَوَفَّاهم" و "تَتَوَفَّاهم" يجوز أن يكونَ مستقبلاً على بابه إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، وأن يكونَ ماضياً على حكاية إن كان واقعاً يوم القيامة.
(9/242)
---(1/3697)
قوله: "فَأَلْقَوا" يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه. الثاني: أنه عطفٌ على {قَالَ الَّذِينَ}. الثالث: أن يكونَ مستأنفاً، والكلامُ قم تَمَّ عند قولِه "أنفسِهم"، ثم عاد بقولِه "فألْقَوا" إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة، فعلى هذا يكون قولُه {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} إلى قوله "أنفسهم" جملةَ اعتراض. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على "تَتَوفَّاهم" قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ "تَتَوفَّاهم" بمعنى المُضِيِّ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في "تَتَوفَّاهم" سواه.
قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون تفسيراً للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} قاله أبو البقاء، ولو قال: "يحكي ما هو بمعنى القول" كان أوفقَ لمذهب الكوفيين. الثاني: أن يكونَ "ما كنَّا" منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال، أي: فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك./ و {مِن سُواءٍ} مفعول "نعمل"، زِيْدَتْ فيه "مِنْ"، و "بلى" جوابٌ لـ "ما كنَّا" فهو إيجابٌ له.
* { فَادْخُلُوااْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }
قوله تعالى: {فَلَبِئْسَ} هذه لامُ التأكيدِ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ. أي: جهنم.
* { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ }
(9/243)
---(1/3698)
قوله تعالى: {خَيْراً}: خيراً: العامَّةُ على نَصْبِه، أي: أَنْزل خيراً. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ قلتَ: لِمَ رَفَعَ الأولَ ونَصَبَ هذا؟ قلت: فصلاً بين جواب المُقِرِّ وجوابِ الجاحد". يعني أن هؤلاء لمَّا سُئِلوا لم يَتَلَعْثموا، وأطبقوا الجوابَ على السؤال بَيِّنا مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا: خيراً، وأولئك عَدَلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطيرُ الأولين، وليس هو من الإنزال في شيء.
وزيدُ بن علي: "خيرٌ" بالرفع، أي: المُنْزَل خيرٌ، وهي مؤيدةٌ لجَعْلِ "ذا" موصولةً، وهو الأحسنُ لمطابقة الجوابِ لسؤاله، وإن كان العكسُ جائزاً، وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة.
قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ منقطعةً مِمَّا قبلها، إخبارَ استئنافٍ بذلك. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ "خيراً". قال الزمخشري: "هو بدل من "خيراً" حكايةً لقول الذين اتَّقَوْا، أي: قالوا هذا القولَ فقدَّم تسميتَه خيراً ثم حكاه". الثالث: أن هذه الجملةَ تفسيرٌ لقوله: "خيراً"؛ وذلك أن الخيرَ هو الوحيُ الذي أَنْزل الله فيه: مَنْ أَحْسَنَ في الدنيا بالطاعة حسنةٌ في الدنيا وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله: {فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا} الظاهرُ تعلُّقه بـ "أَحْسَنوا"، أي: أَوْقَعوا الحسنةَ في دار الدنيا. ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ "حَسَنَة" إذ لو تأخَّر لكان صفةً لها، ويَضْعُفُ تعلُّقه بها نفسِها لتقدُّمِه عليها.
* { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ }
(9/244)
---(1/3699)
قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: يحوز أن يكونَ هو المخصوصَ بالمدح فيجيءُ فيها ثلاثةُ الأوجهِ: رفعُها بالابتداء، والجمةُ المتقدمة خبرُها، أو رفعُها خبرَ المبتدأ المضمر، أو رفعُها بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ، وهو أضعفُها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. ويجوز أن يكونَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبرَ مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدَّم، بل يكونُ المخصوصُ محذوفاً، تقديرُه: ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُهم هي جنات. وقَدَّره الزمخشريُّ "ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُ الآخرة". ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله: "يَدْخلونها"، ويجوز أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديره: لهم جناتُ عدن، ودلَّ على ذلك قولُه {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.
والعامَّة على رفع "جناتُ" على ما تقدَّم. وقرأ زيد بن ثابت والسُّلَمي "جناتِ" نصباً على الاشتغال بفعل مضمر تقديره: يَدْخلون جناتِ عدن يَدْخُلونها، وهذه تُقَوِّي أن يكونَ "جنات" مبتدأً، و "يَدْخلونها" الخبرَ في قراءةِ العامَّة.
وقرأ زيد بن علي "ولَنِعْمَةُ دارِ" بتاءِ التأنيثِ مرفوعةٌ بالابتداء، و "دارِ" خفضٌ بالإضافة، و "جَنَّاتُ عَدْنٍ" الخبر. و "يَدْخُلونها" في جميعِ ذلك نصبٌ على الحال، إلاّ إذا جَعَلْناه خبراً لـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
وقرأ نافع في روايةٍ "يُدْخَلُونها" بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول، وأبو عبد الرحمن "تَدْخُلونها" بتاء الخطاب مبنياً للفاعل.
قوله: "تَجْري" يجوز أن يكونَ منصوباً على الحالِ مِنْ "جنات" قاله ابن عطية، وأن يكونَ في موضعِ الصفةِ لـ "جنات" قاله الحوفي، والوجهان مبنيَّان على القولِ في "عَدْن": هل هو معرفةٌ لكونِه علماً، أو نكرةً، فقائلُ الحالِ لَحَظ الأولَ، وقائلُ النعتِ لحظَ الثاني.
قوله: "تَجْري" الكلامُ في هذه الجملةِ كالكلامِ في الجملة قبلَها، والخبرُ: إمَّا "لهم" و إمَّا "فيها".
(9/245)
---(1/3700)
قوله: "كذلك" الكافُ في محلِّ نصب على الحال من ضمير المصدرِ، أو نهتٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أو في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: الأمرُ كذلك. و {يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} مستأنَفٌ.
* { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
و {1649;لَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ} يَحْتمل ما ذكرناه فيما تقدَّم، إذا جَعَلْنا "يقولون" خبراً فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نَجْعَلْه خبراً كان حالاً من "الملائكة"/ فيكون "طيبين" حالاً مِنَ المفعولِ، و "يقولون" حالاً مِن الفاعل. وهي يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، ومقدَّرةً إنْ كان واقعاً في الآخرة.
و "ما" في "بما" مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
* { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}: وقد تقدَّم في آخرِ الأنعام أن الأَخَوَيْنِ يَقْرآن بالياء مِنْ تحتُ، والباقين يقرؤون بالتاءِ من فوقُ، وهما واضحتان لكونِه تأنيثاً مجازياً.
* { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ}: عطفٌ على {فَعَلَ الَّذِينَ} وما بينهما اعتراضٌ.
* { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }
(9/246)
---(1/3701)
قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ}: يجوز في "أَنْ" أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولاً، وأن تكونَ مصدريةً، أي: بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا.
قوله: {مَّنْ هَدَى} و {مَّنْ حَقَّتْ} يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ.
* { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
وقرأ العامَّةُ {إِن تَحْرِصْ}: بكسرِ الراءِ مضارعَ "حَرَص" بفتحِها، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز. والحسن وأبو حَيْوة" تَحْرَصُ" بفتح الراء مضارعَ "حَرِصَ" بكسرِها، وهي لغةُ لبعضِهم، وكذلك النخعي، إلا أنه زاد واواً قبل "إنْ" فقرأ {وَإنْ تَحْرَصْ}.
قوله: {لاَ يَهْدِي} قرأ الكوفيون "يَهْدِي" بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، فـ "مَنْ" مفعولُ "يَهْدِي" ويؤيده قراءةُ أُبَيّ "فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ"، وأنه في معنى قولِه: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ
}. والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و "يَهْدِي" يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله "يَهْدِي" بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على "مَنْ" محذوفٌ: {مَن يُضِلُّ}، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون: "لا يُهْدَى" بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و "مَنْ" قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً.
(9/247)
---(1/3702)
وجَوَّز أبو البقاء في "مَنْ" أن يكونَ مبتدأً و "لا يَهْدِي" خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: "زيدٌ لا يَضْرِبُ"، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ "لا يُهْدِيْ" بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: "وهي ضعيفةٌ" قال الشيخ: "وإذا ثَبَتَ أنَّ "هَدَى" لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ".
وقوله: "ومالهم" حُمِلَ على معنى "مَنْ"، فلذلك جُمِعَ.
وقُرِئ "مَنْ يَضِلُّ" بفتحِ الياءِ مِنْ "ضَلَّ"، أي: لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه.
* { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ}: ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقاً على "وقال الذين أشركوا" إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان. قوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد، أي: وَعَدَ ذلك، وحَقَّ حقاً. وقيل: "حقاً" نعتٌ لـ "وَعْد" والتقدير: بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك. وقرأ الضحاك: {وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ} برفعِهما على أنَّ وَعْداً خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله، و "حَقٌّ": نهتٌ لـ "وعدٌ".
* { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ }
قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ}: هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإيجاب، أي: بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ.
* { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
(9/248)
---(1/3703)
وقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} قد تقدَّم ذلك في البقرة. واللامُ في "لِشَيءٍ" وفي "له" لامُ التبليغِ كهي في: "قلت له قم". وجعلها الزجاج للسببِ فيهما، أي: لأجل شيءٍ، أَنْ نقولَ لأجله، وليس بواضح. وقال ابن عطية: "وقوله تعالى {أَن نَّقُولَ} يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المصدرِ، كأنه قال: قولُنا، ولكنَّ "أنْ" مع الفعلِ تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلبِ أَمْرها، وقد تجيءُ في مواضعَ لا يُلْحَظُ فيها الزمنُ كهذه الآيةِ، وكقولِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} إلى غيرِ ذلك.
قال الشيخ: "وقوله: في أغلبِ أمرِها: ليس بجيدٍ بل تَدُلُّ على المستقبل في جميع أمورِها، وقوله "وقد تجيءُ إلى آخره" لم يُفْهَمْ ذلك مِنْ "أنْ"، إنما فُهِمَ من نسبةِ قيامِ السماءِ والأرض بأمرِ الله لأنه لا يختصُّ بالمستقبلِ دونَ الماضي في حَقِّه تعالى، ونظيرُه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} و "كان" تدل على اقترانِ مضمونِ الجملةِ بالزمنِ الماضي، وهو تعالى/ متصفٌ بذلك في كلِّ زمن.
* { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {حَسَنَةً} فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها نهتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تَبْوِئَةً حسنةً. والثاني: أنها منصوبةٌ على المصدر الملاقي لعامِله في المعنى؛ لأنَّ معنى "لَنُبَوِّئَنَّهم": لَنُحْسِنَنَّ إليهم. الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الفعلَ قبلها مضمِّنٌ معنى: "لَنُعْطِيَنَّهم. و "حسنة" صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، أي: داراً حسنة، وفي تفسيرِ الحسن: داراً حسنة، وهي المدينةُ. وقيل: تقديره: منزلةً حسنةً وهي الغَلَبَةُ على أهلِ المشرقِ والمغربِ وقيل: "حسنة" بنفسها هي المفعولُ من غيرِ حَذْفِ موصوفٍ.
(9/249)
---(1/3704)
وقرأ أميرُ المؤمنين وابنُ مسعود ونعيم بن ميسرة: "لَنُثْوِيَنَّهُمْ" بالثاء المثلثة والياء، مضارع أَثْوَى المنقولِ بهمزةِ التعديةِ مِنْ ثَوَى بمعنى أقام، وسيأتي أنه قُرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و "حسنةً" على ما تقدَّم. ونزيد أنه يجوز أن يكونَ على نَزْع الخافضِ، أي: في حسنة.
والموصولُ مبتدأٌ، والجملةُ مِنَ القسمِ المحذوفِ وجوابِه خبرُه، وفيه رَدٌّ على ثعلب حيث مَنَعَ وقوعَ جملةِ القسم خبراً. وجَوَّز أبو البقاء في "الذين" النصبَ على الاشتغال بفعلٍ مضمرٍ، أي: لَنُبَوِّئَنَّ الذين. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوز أن يُفَسِّر عاملاً إلا ما جاز أَنْ يعملَ، وأنت لو قلت: "زيداً لأضْرِبَنَّ" لم يَجُزْ، فكذا لا يجوزُ "زيداً لأضربنَّه".
وقوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يعودَ الضميرُ على الكفار، أي: لو كانوا يَعْلمون ذلك لرجَعوا مسلمين، أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرةِ والإحسانِ، كما فعل غيرُهم.
* { الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُواْ}: مَحَلَّه رفعٌ على "هم"أو نصبٌ على "أمدحُ"، ويجوز أن يكونَ تابعاً للموصولِ قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحلُّه محلُّه.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيا إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {نُّوحِيا إِلَيْهِمْ}: قد تقدَّم في آخر يوسف. وقرأت فرقةٌ "يُوحي"، أي: الله.
* { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
(9/250)
---(1/3705)
قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ}: فيه ثمانيةُ أوجه، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "رِجالاً" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مُصاحبين لها. وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه. الثاني: أنه متعلقٌ بـ "أَرْسَلْنا" داخلاً تحت حكمِ الاستثناءِ مع "رجالاً"، أي: وما أرسَلْنا إلا رجالاً بالبينات كقولِك: "وما ضربْتُ إلا زيداً بالسَّوْطِ"؛ لأنَّ أصلَه: ضربْتُ زيداً بالسَّوْط". وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ "إلاَّ" لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على "إلا" وما يليها. قال: "وإلا أنه قد جاء في الشِّعر:
2971- نَنِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ * ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ
قال الشيخ: وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون، إذ لا يُجيزون أن يقع بعد "إلا" إلا مستثنى منه أو تابعٌ لذلك، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ. وأجاز الكسائيُّ أن يليهَا معمولُ ما قبلها مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً، نحو: ما ضَرَب إلا عمراً زيدٌ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع، والأخفش في الظرف وعديله، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش".
الثالث: أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضاً، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناءِ تقديرُه: وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالاً، حتى لا يكونَ ما بعد "إلا" معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظاً وربتةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل "إلا"، حكاه ابنُ عطية.
(9/251)
---(1/3706)
الرابع: أنَّه متعلقٌ بـ "نُوحِي" كما تقول: "أُوْحي إليه بحق"، ذكره الزمخشري وأبو البقاء. الخامس: أن الباءَ مزيدةٌ في ""بالبيِّنات" وعلى هذا فيكون "بالبيِّنات" هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة. السادس: أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل، وهو "إليهم" ذكرهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً معنىً وصناعةً.
السابع: أَنْ يتعلَّق بـ "لا تعلمون" على أنَّ الشرطَ/ في معنى التبكيتِ والإلزام، كقولِ الأجير: "إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي". قال الزمخشري: "وقوله: "فاسْألوا أهلَ" اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة" ويعني بقوله "فاسألوا" الجزاءَ وشرطَه، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ.
الثامن: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: بم أُرْسِلوا؟ فقيل: أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر. كذا قدَّره الزمخشري، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: "بُعِثوا"، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظاً ومعنىً.
* { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {السَّيِّئَاتِ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: المَكَرات السيئات، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. الثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين "مَكَروا" عَمِلُوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين فقولُه: {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ} مفعول بـ "أَمِنَ". الثالث: أنه منصوبٌ بـ "أَمِنَ"، أي: أَمِنُوا العقوباتِ السيئات، وعلى هذا فقولُه {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ} بدلٌ من "السيئات".
* { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
(9/252)
---(1/3707)
قوله تعالى: {عَلَى تَخَوُّفٍ}: متعلقٌ بمحذوفٍ، فإنه حالٌ مِنْ فاعلِ "يأخذهم"، وإمَّا مِنْ مفعوله، ذكرهما أبو البقاء. والظَاهِرُ كونُه حالاً من المفعولِ دونَ الفاعل.
والتخوُّفُ: التنقُّص. حكى الزمخشري أن عمر بن الخطاب سألهم على المِنْبر عنها فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوُّفُ: التنقُّصُ قال: فهل تعرف [العربُ] ذلك في أشعارِها؟ قال: نعم. قال شاعرُنا وأنشد:
2972- تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِد * كما تَخَوَّفَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: "أيها الناسُ، عليكم بديوانِكم لا يَضِلُّ". قالوا: وما ديواننا؟ قال: "شعرُ الجاهلية، فإنِّ فيه تفسيرَ كتابكم".
قلت: وكان الزمخشريُّ نَسَبَ البيتَ قبل ذلك لزهيرٍ، وكأنه سهوٌ، فإنَّه لأبي كبير الهذلي، ويؤيد ذلك قول الرجل: "قال شاعرنا"، وكان هُذَلِيَّاً كما حكاه هو. وقيل: التخوُّفُ: الخوفُ.
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }
قوله تعالى: أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}: قرأ الأخَوان "تَرَوْا" بالخطاب جَرْياً على قولِه {فَإِنَّ رَبَّكُمْ}، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ}. وأمَّا قولُه: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ} فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب، ووافقه ابنُ عامر فيه، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني، وابنَ عامر بالعكس، والباقون بالغيبة فيهما.
(9/253)
---(1/3708)
فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ.
قوله: {مِن شَيْءٍ} هذا بيانٌ لِما في قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ} فإنها موصولةٌ بمعنى الذي. فإن قلتَ: كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- بـ "شيء" وهو مبهمٌ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه، وهي {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ}.
قال الزمخشري: "وما موصولة بـ {خَلَقَ اللَّهُ} وهو مبهمٌ، بيانُه {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ}. وقال ابن عطية: "وقولُه {مِن شَيْءٍ} لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} صفة لشيء، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال: "والمعنى: من شيءٍ له ظِلٌ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ. وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} إخبارٌ عن قوله {مِن شَيْءٍ} ليس بوصفٍ له، وهذا الإخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه: هو له ظلٌّ" وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له، والصفةُ أبينُ. و {مِن شَيْءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، أي: أَعْني مِنْ شيء.
والتفيُّؤُ: تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ، أي: رَجَع، و "فاء" قاصرٌ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ/ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ. وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ. ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله:
2973- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها * وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا
(9/254)
---(1/3709)
واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل: هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا. وقيل: "ما كان [قبل] الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ"، فالظلُّ أعمُّ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج. وقيل: بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده. قال الأزهري: "تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ، فالتفيُّؤُ لا يكون إلا بالعَشِيّ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ، والظلُّ ما يكون بالغداة، وهو ما لم تَنَلْهُ [الشمس] قال الشاعر:
2975- فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه * ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ
وقال امرؤُ القيس أيضاً:
2975- تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ * يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ
وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال، وقال: إنما يُطْلَقُ على ما بعده، واستدلَّ بالاشتقاقـ فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال.
وقرأ أبو عمرو "تَتَفَيَّأ" بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي.
وقرأ العامَّة "ظلالُه" جمع ظِلّ، وعيسى بن عمر "ظُلَلُهُ" جمع "ظُلَّة" كغُرْفَة وغُرَف. قال صاحب "اللوامح" في قراءة عيسى "ظُلَلُهُ": "والظُلَّة: الغَيْمُ، وهو جسمٌ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة".
(9/255)
---(1/3710)
قوله: "عن اليمين" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها تتعلَّقُ بـ "يتفيَّأ"، ومعناها المجاوزةُ، أي: تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من "ظلالُه". الثالث: أنها اسمٌ بمعنى جانب، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف.
وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} فيه سؤالان، أحدهما: ما المراد باليمين والشَّمائل؟ والثاني: كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ، أحدُها: أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله، وجعل المشرقَ يميناً؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية.
الثاني: البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم.
الثالث: أنَّ المنصوبَ للعِبْرة: كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة.
الرابع: قال الزمخشري: "أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن حانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإنسان وشمائله لجانبي الشيءِ، أي: تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب". وهذا قريبٌ ممَّا قبله.
وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ، أحدُها: أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ "الشمال"، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات. وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء.
والثاني: قال الزمخشري: "واليمين بمعنى الأَيْمان" يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي: الأدبار.
(9/256)
---(1/3711)
الثالث: قال الفراء: "كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها، لأنَّ قولَه {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
}. الرابع: أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها، فكانت اليمينُ واحدةً، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع.
الخامس: قال الكرماني: "يُحتمل أَنْ يُراد الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليساء مِنَ التَّضادِّ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ".
السادس: قال ابن عطية: "وما قال بعضُ الناس: مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين، فتخليطٌ من القول، ويَبْطُل مِنْ جهات. وقال ابن عباس: "إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً، فقبضَ إليه الظلَّ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عام ّاً لكلِّ شيء".
(9/257)
---(1/3712)
السابع: قال ابن الضائع: "أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهةٍ واحدة، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات، فلُحِظَت الغايتان في الآية. هذا من جهةِ المعنى، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ؛ لأنَّ "سُجَّداً" جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به، فَحَصَل في الآيةِ مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً، وتلك الغايةُ في الإعجاز".
قوله: "سُجَّداً" حالاٌ مِنْ "ظلالُه" و "سُجَّداً" جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد، وراكِع ورُكَّع.
قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها حالٌ من الهاءِ في "ظلالُه". قال الزمخشري: "لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِبَ".
وقد رَدَّ الشيخُ هذا: بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه، وهو نظيرُ: "جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً" قال: "ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه".
الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في "سُجَّدا" فهي حالٌ متداخلِةٌ.
الثالث: أنها حالٌ مِنْ "ظلالُه" فينتصبُ عنه حالان.
(9/258)
---(1/3713)
ثم لك في هذه الواو اعتباران، أحدُهما: أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ، وليست بواوِ حال، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ. وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء. والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور، ونظير ما نحن فيه: "جاء زبد ضاحكاً وهو شاكٍ" فقولك "وهو شاكٍ" يحتمل الحاليةَ من "زيد" أو من ضمير "ضاحكاً".
والدُّخور: التواضعُ قال:
2976- فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ * ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ
وقيل: هو القهرُ والغلبةُ. ومعنى داخِرُون: أَذِلاَّاءُ صاغِرون.
* { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلاائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }
قوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ}: يجوز أن يكونَ بياناً لِما في السموات وما في الأرض، ويكون لله تعالى في سمائِه خَلْقٌ يَدِبُّون كما يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأرض. ويجوز أن يكون بياناً لِما في الأرض فقط. قال الزمخشري: "فإن قلت: فهلاَّ جيْءَ بـ "مَنْ" دونَ "ما" تغليباً للعقلاء مِن الدوابِّ على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جِيْءَ بـ "مَنْ" لم يكنْ فيه دليلٌ على التغليب فكأن متناولاً للعقلاءِ خاصة فجيء بما هو صالحٌ للعقلاءِ وغيرِهم إرادةَ العمومِ".
(9/259)
---(1/3714)
قال الشيخ: "وظاهرُ السؤالِ تسليمُ أنَّ "مَنْ" قد تشمل العقلاءَ وغيرَهم على جهةِ التغليبِ، وظاهرُ الجوابِ تخصيصُ "مَنْ" بالعقلاء، وأنَّ الصالحَ للعقلاء [وغيرهم] "ما" دون "مَنْ" وهذا ليس بجواب؛ لأنه أورد السؤالَ على التسليم، ثم أورد الجوابَ على غير التسليم، فصار المعنى: أنَّ "مَنْ" يُغَلَّبُ بها والجوابَ لا يُغَلَّبُ بها، وهذا في الحقيقةِ ليس بجوابٍ".
قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن تكونَ الجملةُ استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "يَسْجُدُ".
* { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
قوله تعالى: {يَخَافُونَ} يجوز فيها أن تكونَ مفسِّرةً لعدم استكبارِهم، كأنه قيل: ما لهم لا يَسْتكبرون؟ فَأُجِيبَ بذلك، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً مِنْ فاعل "لا يَسْتكبرون" ومعنى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} أي: عقابَه.
قوله: {مِّن فَوْقِهِمْ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تتعلَّقَ بـ "يَخافون"، أي: يخافون عذابَ ربهم كائناً مِنْ فوقهم؛ لأنَّ العذابَ إنما ينزل مِنْ فوفُ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "ربهم" أي يخافون ربَّهم عالياً عليهم، قاهراً لهم، كقولِه تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.
* { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ }
قوله تعالى: {اثْنَيْنِ}: فيه قولان، أحدُهما: أنه مؤكد لـ "إلهَيْن" وعليه أكثرُ الناسِ، و "اتَّخذ" على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين، والثاني منها محذوفٌ، أي: لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً.
والثاني: أنَّ "اثنين" مفعولٌ أولُ، وإنما أُخِّر، والأصلُ: لا تَتِّخذوا اثنين إلهين، وفيه بُعْدٌ.
(9/260)
---(1/3715)
وقال أبو البقاء: "هو مفعولٌ ثانٍ" وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال: "فإنْ قلتَ: إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين، فقالوا: عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد، فلا حاجةَ على أَنْ يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى {إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ}؟ قلت: الاسمُ الحاملُ لمعنى الإفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على أن المعنيَّ على شيئين: على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به، ألا ترى أنك لو قلْتَ: إله، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإلهيةَ لا الوَحْدانية".
وقال الشيخ: "لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو: نِعم الرجلُ زيدٌ، ونِعْم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر:/
2977- فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى * وإنَّ أَوَّلُها الكلامُ
أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد".
قوله: "فإيَّايَ" منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ، أي: إياي ارهبوا فارْهَبون. وقدَّر ابنُ عطية "ارهَبوا إيَّاي فارهبون". قال الشيخ: "وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله:
2978- إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا
(9/261)
---(1/3716)
وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أول البقرة. وقد يُجاب عن ابنِ عطية: بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [الأمورِ] اللفظيةِ. وفي قوله: "فإيَّايَ" التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه {وَقَالَ اللَّهُ} إلى تكلُّمٍ وهو قوله "فإيَّاي" ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله: {وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ}.
* { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {وَاصِباً}: حالٌ من "الدِّين" العاملُ فيها الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبراً. والواصِبُ: الدائم، قال حسَّان:
2979- غَيَِّرَتْهُ الريحُ تَسْفِي بِهِ * وهَزِيْمٌ رَعْدُهُ واصِبُ
[وقال] أبو الأسود:
2980- لا أبتغيْ الحَمْدَ القليلَ بقاؤُه * يوماً بِذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبا
والوَصِبُ: العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له. وقيل: مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ، فهو كقوله:
2981- ............................ * ...... أضحى فؤادي به فاتِنا
أي: ذا فُتُوْن, وقيل: الواصِبُ: الخالِصُ.
(9/262)
---(1/3717)
وقال ابن عطية: والواوُ في قوله: {وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ} عاطفةٌ على قولِه {إِلاهٌ وَاحِدٌ}، ويجوز أن تكونَ واوَ ابتداء". قال الشيخ: "ولا يُقال واوُ ابتداءٍ إلا لواوِ الحال، ولا تظهر هنا الحالُ". قلت: وقد يُطْلِقون واوَ الابتداء، ويريدون واوَ الاستئناف، أي: التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا: قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ. واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم، وهو كثيرٌ جداً. ومعنى قولِه "عاطفة على قوله {إِلاهٌ وَاحِدٌ}، أي: أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبراً، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها، وهي قوله {إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ} وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداءِ هذا، فإنها استئنافيةٌ.
* { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا بِكُم}: يجوز في "ما" وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً، والجارُّ صلتُها، وهي مبتدأٌ، والخبرُ قولُه {فَمِنَ اللَّهِ} والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ، تقديره: والذي استقرَّ بكم. و {مِّن نِّعْمَةٍ} بيان للموصول. وقدَّر بعضُهم متعلِّق "بكم" خاصَّاً فقال: "ما حَلَّ بكم أو نزل بكم" وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ.
(9/263)
---(1/3718)
والثاني: أنها شرطية، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء. قال الفراء: "التقدير: وما يكنْ بكم". وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد "إنْ" خاصةً، في موضعين، أحدُهما: أن يكون في باب الاشتغال نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ. والثاني: أن تكونَ "إنْ" متلوَّةً بـ "لا" النافية، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله:
2982- فطلَِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ * وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ
أي: وإن لا تُطَلِّقْها، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله "فَطَلِّقْها" عليه فإن لم توجَدْ "لا" النافيةُ، أو كانت الأداةُ غيرَ "إنْ" لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً، مثالُ الأول:
2983- قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ * كان غنياً مُعْدِماً قالت: وإنْ
أي: وإن كان غنياً رَضِيْتُه. ومثالُ الثاني:
2984- صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ * اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
وقول الآخر:
2985- فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو * ه وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
قوله: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الفاءُ جوابُ "إذا". والجُؤار رَفْعُ الصوتِ، قال رؤبة يصفُ راهباً./
2986- يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِيـ * ـكِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً
ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة، وأنشد الزمخشري:
2987- جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه * ..........................
وقيل: الجُؤَار كالخُوار، جَأَر الثورُ وخارَ واحد، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها. وقال الراغب: "جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، تشبيهاً بجُؤْارِ الوَحْشِيَّات".
وقرأ الزهري: "تَجَرون" بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها، كما قرأ نافع "رِدَّاً" في "رِدْءاً".
* { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }
(9/264)
---(1/3719)
قوله تعالى: {إِذَا كَشَفَ}: "إذا" الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها. وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ "إذا" الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد "إذا" الفجائية لا يعمل فيما قبلَها.
وقرأ قتادة "كاشَفَ"على فاعَلَ. قال الزمخشري: "بمعنى فَعَل، وهو أقوى مِنْ "كَشَفَ" لأنَّ بناءَ المغالبةِ يدلُّ على المبالغة".
قوله: "منكم" يجوز أن يكونَ صفةً لـ "فريق" و "مِنْ" للتبعيض، ويجوز أن تكونَ للبيان. قال الزمخشري: "كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم".
* { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ}: في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لامُ كي، وهي متعلقةٌ بـ "يُشْركون"، أي: إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ، أي: صار أمرُهم إلى ذلك. الثالث: أنها لامُ الأمرِ، وإليه نحا الزمخشريُّ.
وقرأ أبو العالية - ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم "فَيُمْتَعُوا" بضمِّ الياء مِنْ تحتُ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء، مضارعَ مُتِع مبنياً للمفعول. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياءِ مِنْ تحتُ أيضاً. وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه: إمَّا للنصبِ عطفاً على "ليكفروا" إنْ كانت لامَ كي، أو للصيرورة، وإمَّا للنصبِ أيضاً، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر. ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفاً على "لِيَكْفُروا" إن كانت للأمر أيضاً.
* { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }
(9/265)
---(1/3720)
قوله تعالى: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ}: الضميرُ في "يَعْلمون" يجوز أن يكونَ للكفار، أي: لِما لا يَعْلم الكفار، ومعنى لا يَعْلمونها: أنهم يُسَمُّوها آلهةً، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمعن وليس الأمر كذلك. ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ، أي: لأشياءَ غيرِ موصوفةٍ بالعلم.
و "نصيباً" هو المفعول الأول، والجارُّ قبلَه هو الثاني، أي: ويُصيِّرون للأصنام نصيباً. و {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} يجوز أن يكونَ نعتاً لـ "نصيباً"، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ. فـ "مِنْ" على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.
* { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ }
قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ}: يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البناتِ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون. وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ "ما" منصوبةَ المحلِّ عطفاً على "البناتِ" و "لهم" عطفٌ على "الله"، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال الشيخ: "وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية: وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر، فلا يجوز: "زيدٌ ضربه"، أي: ضربَ نفسَه، ولا "زيدٌ مَرَّ به"، أي: مرَّ بنفسه، ويجوز: زيدٌ ظنَّه قائماً"، و "زيدٌ فَقَده" و "هَدِمه"، أي: ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها. إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ "ما" منصوبةً عطفاً على "البنات" يؤدِّي إلى تعدَّى فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / "يَجْعَلون" إلى ضميرِه المتصل، وهو "هم" في "لهم". انتهى ملخصاً.
(9/266)
---(1/3721)
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً: اعلمْ أنه لا يجوز تَهَدَّى فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِها المتصلِ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب، وفي فَقَد وعَدَمِ، فلا يجوز: "زيد ضربه" ولا "ضربه زيد"، أي: ضربَ نفسه. ويجوز: "زيد ظنَّه قائماً"، وظنَّه زيدٌ قائماً، و "زيد فَقَده وعَدِمه"، و "فَقَدَه وعَدِمَه زيد"، ولا يجوز تَعَدَّى فِعْلِ المضمرِ المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب، لا يجوز "زيداً ضرب"، أي: ضربَ نفسَه.
وفي قولي: "إلى ضميرها المتصلِ" قيدان أحدُهما: كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو: "زيدٌ ضَرَبَ نفسَه" و "ضَرَبَ نفسَه زيدٌ". والثاني: كونُه متصلاً، فلو كان منفصلاً جاز نحو: "زيدٌ ما ضربَ إلا إياه"، و "ما ضرب زيدٌ إلا إياه"، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ، وقد أَتْقَنْتُها في "شرح التسهيل".
وقال مكي: "وهذا لا يجوزُ عند البصريين، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً، إنما يجوز: جعلتُ لنفسي طعاماً، فلو كان لفظُ القرآن "ولأنفسِهم ما يَشْتَهون" جاز ما قال الفراء عند البصريين. وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير". قلت: ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك.
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ "ما" في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَن تبعه: "وقال ابو البقاء - وقد حكاه-: وفيه نظرٌ". قلت: وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال: "وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ" فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه.
(9/267)
---(1/3722)
وقد يُقال: وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّى ذلك الفعلِ، أي: وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو: "زيدٌ مَرَّ به" فإن المرورَ واقعٌ بزيد، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلين، بل بما يَشْتهون، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} والجوابُ عنهما ما تقدَّم: وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصِية هذا بزيادةِ فائدةٍ.
* { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }
قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ}: يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها، وأن تكونَ بمعنى صار، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ، و "مُسْوَدّاً" خبرُها. وأمَّا "وجهُه" ففيه وجهان، المشهور - وهو المتبادَرُ إلى الذهن - أنه اسمها. والثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ المستتر في "ظل" بدلُ بعضٍ من كل، أي: ظلَّ أحدُهم وجهُه، أي: ظلَّ وجهُ أحدِهم.
قوله: "كَظِيم" يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله {وَهُوَ مَكْظُومٌ} والجملة حال من الضمير في "ظَلَّ"، أو مِنْ "وجهه"، أو من الضمير في "ظَلَّ". وقال أبو البقاء هنا: "فلو قُرِئ "مُسْوَدٌّ" يعني بالرفع لكان مستقيماً، على أن تَجْعَلَ اسمَ "ظَلَّ" مضمراً، والجملةُ خبرها". وقال في سورة الزخرف: "ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ "ظلَّ".
* { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُواءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }
(9/268)
---(1/3723)
قوله تعالى: {يَتَوَارَى}: يحتمل أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً ممَّا كانت الأُوْلى حالاً منه، إلا [مِنْ] "وجهُه" فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن تكونَ حالاً من الضمير في "كظيم".
قوله: {مِنَ الْقَوْمِ مِن سُواءِ} يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلة، أي: من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به.
قوله {أَيُمْسِكُهُ}. قال أبو البقاء: "في موضع الحال تقديرُه: يَتَوارى متردِّداً. هل يُمْسكه أم لا"، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً. والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل "يتوارى" المتممِ للكلام، أي: يتوارى ماظراً أو مفكَّراً: أيُمْسِكُه على هُوْن.
والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ "ما" وقرأ / الجحدريُّ {أَيُمْسِكُها}، {أَمْ يَدُسُّها} مُراعاةً للأنثى أو لمعنى "ما". وقُرِئ {أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ}.
والجحدريُّ وعيسى قرآ على "هَوان" بزنة "قَذَالٍ"، وفرقةٌ على "هَوْنٍ" بفتح الهاء، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن "الهَوْن" بالفتح الرِّفقُ واللين، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا "الهَوان" فبمعنى هُوْن المضمومة.
قوله: {عَلَى هُونٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال: يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه.
والثاني: أنه حالٌ من المفعولِ، أي: يُمْسِكها ذللةً مُهانةً.
والدَّسُّ: إخفاءُ الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْدِ.
* { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }
(9/269)
---(1/3724)
قوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ}: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه".
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر "نَسْقيكم" بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّهما فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين:
2290- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى * نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و "نُمَيْراً" هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد: "مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرهما: أَسْقَى فقط". وقال الأزهري: "العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى".
وقال الفارسي: "سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً". وقيل" سَقاه إذا ناوله الإناءَ ليشربَ مِنْ هذا: أَسْقاه.
(9/270)
---(1/3725)
وقرأ أبو رجاء "يُسْقِيْكم" بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولِ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ "تًسْقيكم" بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: "وهي ضعيفةٌ". قال الشيخ: "وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ- أنه أنَّثَ في "تِسْقِيْكم"، وذَكَّر في قوله {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين". قلت" وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.
قوله: "مِّمَّا فِي بُطُونِهِ" يجوز أن تكونَ "مِنْ" للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشري: "ذكر سيبويه الأنعامَ في باب "ما لا ينصرف" في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا "في بطونها" في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في "الأنعام" وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير "نَعَم" كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ "نَعَم" في قوله:
2991- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ * يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير "نَعَم"، وأنَّه في معنى الجمع".
(9/271)
---(1/3726)
قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في: "هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: "وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعلِ ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ". ثم قال: "وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}. وقال أبو الخطاب: "سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش".
قال: "والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفً مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: "أُتِيّ" بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: "هو الأنعامُ"، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال:
(9/272)(1/3727)
---
2992- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى * وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه: "وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد" فقوله "قد يقع للواحد" دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: "أنه ذكره في الأسماء النمفردة على أَفْعال" تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: "وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعُول ولا أُفْعَال ولا أَفْعيل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع". قال: "فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة".
قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَود الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ افظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه.
وقيل: إنما ذَكَّر الضمير لأنه يعودُ على البعض وهو الإناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: "أي في بطونِ ما ذَكَرَ". قال المبرد: "وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: "إنَّ هذه تذكرةٌ فَمَنْ شاء ذَكَره"، أي: ذَكَر هذا الشيء. وقال تعالى: "فلمَّا رأى الشمسَ بازغةً قال: هذا ربِّي"، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب". قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله:
2993- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ * كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر:/(1/3728)
(9/273)
---
2994- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ
وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهَم الجمعَ، ومثلُه قولُه:
2995- وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ
لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم "هو أحسنُ الفتيان وأجملُه"، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه.
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: "وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فققد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر". يعني أنه قد تقدَّم أن النذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على "فَحْل" المرادِ به الحنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبه بنكير.
قوله: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ} يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ بالسَّقْي، على أنها لابتداءِ الغاية، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور "مِنْ" الأولى؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ. وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه. وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ "لَبَناً"؛ إذْ لو تأخَّرَتْ لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له. قال الزمخشري: "وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة، فهو قَمِنٌ بالتقديم".
الثالث: أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها.
والفَرْث: فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ. ويقال: فَرَثَ كّبِدَه، أي: فتَّتها، وأَفْرث فلانٌ فلاناً: أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث.
(9/274)
---(1/3729)
قوله: "لَبَنا" هو المفعولُ الثاني لنُسْقي. وقرئ "سَيِّغاً" بتشديد الياء بزِنة "سَيِّد"، وتصريفُه كتصريفِه. وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو: مَيْت وهَيْن. ولا يجوز أن يكون فَعْلاً؛ إذ كان يجب أن يكونَ "سَوْغاً" كقَوْل.
* { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره الزمخشريُّ: "ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأهناب، أي: مِنْ عصيرِها، وحُذِف لدلالةِ "نُسْقيكم" قبلَه عليه". قال: "وتَتَّخذون: بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإسقاء". وقدَّره أبو البقاء: "خَلَقَ لكم وجَهَلَ لكم".
وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ، لا يُقال: لا حاجةَ إلى تقدير "نُسْقيكم" بل قولُه {وَمِن ثَمَرَاتِ} عطفٌ على قولِه {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ، كما تقول: "سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل" فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك "من العسل"، لا يُقال ذلك لأنَّ "نُسْقيكم" الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام. قال الشيخ: "وقيل: متعلِّقٌ بـ "نُسقيكم". فيكونُ معطوفاً على {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} أو بـ "نُسقيكم" محذوفةً دلَّ عليها "نُسقيكم". انتهى. ولم يُعْقِبْه بنكير، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً.
(9/275)
---(1/3730)
الثاني: أنه متعلِّقٌ بـ "تَتَّخذون" و "منه" تكريرٌ للظرف توكيداً نحو: "زيدٌ في الدارِ فيها" قاله الزمخشريٌّ. وعلى هذا فالهاءُ في "منه" فيها ستةُ أوجهٍ. أحدها: أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ، كما رَجَعَ في قوله {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} إلى الأهلِ المحذوفِ. الثاني: أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر. الثالث: أنها تعودُ على النخيل. الرابع: أنها تعودُ على الجنس. الخامس: أنها تعودُ على البعض. السادس: أنها تعود على المذكور.
الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ: أنه معطوفٌ على قولِه {فِي الأَنْعَامِ}، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ "إنَّ" في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}، التقدير: وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً، ويكونُ قوله "تتخذون" بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع "نُسْقيكم" تفسيراً لها أيضاً.
الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ: "ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون"/ قال الشيخ: "وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين". قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليسَتْ "ما" هذه موصولةً، بل نكرةً موصوفةٌ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ، لأن في الكلام "مِنْ"، وكتى كان في الكلام "مِنْ" اطَّرد الحذفُ نحو: "منا ظَعَنَ ومنا أقام" ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} أي: إلا مَنْ له مقام. قال: فَحُذِفَتْ" "مَنْ" لدلالةِ "مِنْ" عليها في قوله "وما مِنَّا". ولما قجدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره: ثَمَرٌ تتخذون، ونظَّره بقول الشاعر:
2996- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر
(9/276)
---(1/3731)
تقديرُه: بكفَّيْ رجل، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم "مِنْ": ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال: "وقيل: هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً تتخذون منه، بالنصب، أي: وإنَّ من ثمراتِ النخيل. وإن شئت "شيء" بالرفعِ بالابتداء، و {مِن ثَمَرَاتِ} خبرُه".
والسَّكَر: - بفتحتين - فيه أقوال، أحدها: أنه من أسماءِ الخمر، كقول الشاعر:
2997- بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ * إذا جَرَى فيهم المُزَّاءُ والسَّكَرُ
الثاني: أنه في الأصل مصدرٌ، ثم سُمِّي به الخمرُ. يقال: سَكِر يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً، نحو: رَشِد يَرْشَدُ رُشْداً ورَشداً.
قال الشاعر:
2998- وجاؤُوْنا بهم سَكَرٌ علينا * فَاَجْلَى اليومُ والسَّكْران صاحي
قاله الزمخشري. الثالث: أنه اسمٌ للخَلِّ بلغةِ الحبشة، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اسمٌ للعصير ما دام حُلْواً، كأنه سُمِّي بذلك لمآله لذلك لو تُرِكَ. الخامس: أنه اسمٌ للطُعْم قاله أبو عبيدة، وأنشد:
2999- جَعَلْتَ أعراضَ الكرامِ سَكَراً
أي: تتقلَّبُ بأعراضِهم. وقيل في البيت: إنه من الخمر، وإنه إذا انتهك أعراضَ الناسِ كأنه تَخَمَّر بها.
وقوله: {وَرِزْقاً حَسَناً} يجوز أن يكونَ مِنْ عطف المغايِرات، وهو الظاهرُ. وفي التفسير: أنه كالزَّبيب والخَلِّ ونحوِ ذلك، وأن يكونَ من عطفِ الصفاتِ بعضِها على بعضٍ، أي: تتخذون منه ما يُجْمَعُ بين السَّكَرِ والرِّزْقِ الحسن كقوله:
3000- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمامِ * ............................
البيت.
* { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }
(9/277)
---(1/3732)
قوله تعالى: {أَنِ اتَّخِذِي}: يجوز أن تكونَ مفسِّرةً، وأن تكون مصدريةً. واستشكل بعضُهُم كونَها مفسرةً. قال: "لأنَّ الوَحْيَ هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو إلهامٌ لا قولَ فيه". وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القولَ لكلِّ شيءٍ بحسَبِه.
والنَّحْلُ: يذكَّر ويؤنَّث على قاعدةِ أسماء الأجناس. والتأنيثُ فيه لغةُ الحجاز، وعليها جاء {أَنِ اتَّخِذِي}. وقرأ ابن وثَّاب "النخلَ" فيُحتمل أن يكون لغةً مستقلةً، وأن يكونَ إتباعاً.
و {مِنَ الْجِبَالِ} "مِنْ" فيه للتعيض؛ إذ لا يتهيَّأُ لها ذلك في كلِّ جبلٍ ولا سجرٍ. وتقدَّم القول في "يَعْرِشُونَ"، ومَنْ قرأ بالكسر والفتحِ في الأعراف.
* { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {ذُلُلاً}: جمع ذَلُول. ويجوز أن تكونَ حالاً مِن السُّبُل، أي: ذَلَّلها اللهُ تعالى، كقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "اسْلُكي"، أي: مطيعةً منقادةً. وفي التفسير المعنيان منقولان.
وانتصابُ "سُبُل" يجوز أن يكونَ على الظرفية، أي: فاسْلُكي كا أكلْتِ في سُبُلِ ربِّك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النَّوْر ونحوه عَسَلاً، وأن يكونَ مفعولاً به، أي: اسْلكي الطرقَ التي أَفْهَمَكِ وعلَّمَكِ في عَمَلِ العسل. و "مِنْ" في {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يجوز ان تكونَ تبهيضيةً، وأن تكونَ للابتداءِ على معنى: أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات، وهو بعيدٌ جداٌ.
(9/278)
---(1/3733)
قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} التفاتٌ وإخبارٌ بذلك، ولو جاءَ على الكلام الأوَّل لقيل: مِنْ بطونِك. والهاء في / "فيه" تعودُ على "شَراب"، وهو الظاهرُ، وقيل: تعودُ على القرآن.
* { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ}: في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها لامُ التعليل، و "كي" بعدها مصدريةٌ ليس إلا، وهي ناصبةٌ بنفسِها للفعلِ بعدَها، وهي ومنصوبُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللام، واللامُ متعلقةٌ بـ "يُرَدُّ". وقال الحوفيُّ: "إنها لام كي، وكي للتأكيد" وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اللامَ للتعليلِ و "كي" مصدريةٌ لا إشعارَ لها بالتعليل والحالةُ هذه، وأيضاً فعلمُها مختلفٌ.
الثاني: إنها لامُ الصَّيْرورةِ.
قوله: "شيئاً" يجوز فيه التنازع؛ وذلك أنه تقدمه عامِلان: "يَعْلَمَ" و "عِلْمٍ". فعلى رأيِ البصريين - وهو المختار - يكون منصوباً بـ "يَعْلم"، وعلى رأيِ الكوفيين يكون منصوباً بـ "يعلم". وهو مردودٌ؛ إذ لو كان كذلك لأَضْمَرَ في الثاني، فكان يُقال: لكيلا يعلمَ بعد عِلْمٍ إياه شيئاً.
* { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
(9/279)
---(1/3734)
قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ}: في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ أداةِ الاستفهام تقديرُه: أَفَهُمْ فيه سواءٌ، ومعناه النفيُ، أي: ليسوا مُسْتَوين فيه. الثاني: أنها إخبارٌ بالتساوي، بمعنى: أن ما تُطْعِمونه وتُلْبِسونه للمماليككم إنما هو رِزْقي أَجْرَيْتُه على أيديهم، فهم فيه سواءٌ. الثالث: قال أبو البقاء: "إنها واقعةٌ موقعَ فعلٍ"، ثم جَوَّز في ذلك الفعلِ وَجْهَيْنِ، أحدهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النفي تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقِهم على ما ملكَتْ أيمانُهم فيَسْتَوُوا. والثاني: أنه معطوفٌ على موضع "برادّي" فيكون مرفوعاً تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا يَرُدُّون فما يَسْتَوُوْن.
وقرأ أبو بكر "تَجْحَدون" بالخطابِ مراعاةً لقولِه "بعضَكم"، والباقونَ بالغَيْبَةِ مراعاةً لقولِه {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ}.
* { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ }
قوله تعالى: {وَحَفَدَةً}: في "حَفَدَة" أوجهُ. أظهرُها: أنه معطوفٌ على "بنين" بقيدِ كونِه من الأزواج، وفُسِّر هنا بأنه أولادُ الأولادِ. الثاني: أنه مِنْ عطفِ الصفاتِ لشيءٍ واحدٍ، أي: جَعَلَ لكم بنينَ خَدَماً، والحَفَدَةُ: الخَدَمُ. الثالث: أنه منصوبٌ بـ "جَعَلَ" مقدرةً، وهذا عند مَنْ يُفَسِّر الحَفَدة بالأعوان والأَصْهَار، وإنما احتيج إلى تقدير "جَعَلَ" لأنَّ "جَعَلَ" الأولى مقيدةٌ بالأزواج، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج.
(9/280)
---(1/3735)
والحَفَدَةُ: جمع حافِد كخادِم وخَدَمَ. وفيهم للمفسرين أقوالٌ كثيرةٌ، واشتقاقُهم مِنْ قولِهم: حَفَدَ يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطاعة. وفي الحديث: "وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ"، أي: نُسْرِعِ في طاعتِك. قال الأعشى:
3001- كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً * إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا
وقال الآخر:
3002- حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ * بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ
ويستعمل "حَفَدَ" أيضاً متعدياً. يقال: حَفَدَني فهو حافِدٌ، وأُنْشِد:
3003- يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ * كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال: "أَحْفَدَ" رباعياً. وقال بعضهم: "الحَفَدَةُ: الأَصْهار، وأنشد:
3004- فلو أنَّ نفسي طاوَعَتْني لأصبحَتْ * لها حَفَدٌ ممَّا يُعَدُّ كثيرُ
ولكنها نَفسٌ عليَّ أَبِيَّةٌ * عَيُوفٌ لإصهارِ اللِّئامِ قَذْوْرُ
ويقال: سيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع. وقال الأصمعيُّ: "أصلُ الحَفْدِ: مقارَبَةُ الخَطْوِ".
و "مِنْ" في {مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} للتبعيض.
* { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }
قوله تعالى: {شَيْئاً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً، أي: شيئاً من المِلْك. والثاني: أنه بدلٌ مِنْ "رِزْقاً"، أي: لا يَمْلِكُ لهم شيئاً. وهذا غيرُ مفيدٍ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء، ويؤيِّد ذلك: أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين: البيانِ أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيانٌ؛ لأنه أعمُّ، ولا تأكيدَ. الثالث: أنه منصوبٌ بـ "رِزْقاً" على أنه اسمُ مصدرٍ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك.
(9/281)
---(1/3736)
ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ. قلت: وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين: فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ، ومنهم مَنْ نَقَلَ الجوازَ. وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه بـ "رِزْقاً" كما تقدَّم. ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن. ورُدَّ على ابنِ الطراوة: بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ، وقد سُمِعَ فيه ذلك. قلت: فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ.
وقوله: {مِّنَ السَّمَاوَاتِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه متعلقٌ بـ "يملك"، وذلك على الإعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ "شيئاً". الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "رزقاً". الثالث: أن يتعلَّقَ بنفس "رِزْقاً" إن جعلناه مصدراً. وقال ابن عطية: - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - "والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ، وبَعُد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصالِ في الإضافةِ حَسَّنَ عملَه، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر:
3005- ضعيفُ النكايةِ أهداءَه * ...............................
[وقوله]:
3006- ......................... * فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا
قال الشيخ: "أمَّا قولُه "باتفاق": إن عَنَى من البصريين فصحيحُ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل. فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً. وأمَّا قولُه "في تقدير الانفصال" فليس كذلك؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان. ومذهبُهما فاسدٌ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة. وقوله "لا يعمل" إلى آخره ناقَضَه بقولِه "وقد جاء عاملاً" إلى آخرِه.
(9/282)
---(1/3737)
قلت: فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه. وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً؛ لأنه عَنَى أولاً أنه لا يَعْمَل في السِّعَة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: "في قول الشاعر".
قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} يجوز في الجملة وجهان: العطفُ على صلةِ "ما"، والإخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على "ما" باعتبارِ معانها؛ إذ المرادُ بذلك آلهتهم، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين.
* { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ}: يجوزُ في "مَنْ" هذه أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ موصوفةً. واختاره الزمخشري قال: "كأنه قيل: وحُرَّاً رَزَقْناه، ليطابِقَ عَبْداً". ومحلُّها النصبُ عطفاً على "عبداً". وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد "ضَرَبَ".
قوله: {سِرّاً وَجَهْراً} يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر، أي: إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر، ويجوز أن يكونَ حالاً.
قوله: {هَلْ يَسْتَوُونَ} إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه. وقيل: على الأغنياءِ والفقراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضاً. وقيل: اعتباراً بمعنى "مَنْ" فإنَّ معناها جكعٌ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها.
قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصاراً أو اقتصاراً.
(9/283)
---(1/3738)
* { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
والكَلُّ: الثقيل، والكَلُّ: العِيال، والجمع: كُلُول. والكَلُّ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، والكَلُّ أيضاً: اليتيم، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه. قال الشاعر:
3007- أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه * إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ
قوله: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ} شرطٌ وجزاؤُه. وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن وثاب وعلقمةُ "يُوَجِّهْ" بهاءٍ ساكنة للجزم. وفي فاعِلِه وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى، ومفعولُه محذوفٌ، تقديرُه كقراءةِ العامة. والثاني: أنه ضميرُ الأبكم، ويكون "يُوَجِّه" لازماً بمعنى تَوَجَّه، يقال: وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى.
وقرأ علقمةُ أيضاً وطلحةُ كذلك، إلا أنه بضم الهاء، وفيها أوجهُ، أحدها: أنَّ "أينما" ليست عنا شرطيةً و "يُوَجِّهُ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: أينما هو يُوَجِّهُ، أي: الله تعالى، والمفعولُ محذوفٌ/ أيضاً، وحُذِفَتْ الياءُ مِنْ {لاَ يَأْتِ} تخفيفاً، كما حُذِفَتْ في قولِه {يَوْمَ يَأْتِ} و {إِذَا يَسْرِ} ورُدَّ هذا لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفاً لأجلِ التضعيفِ، وهذه الهاءُ هي هاءُ الضمير فلم يُحِلَّها جزم. ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي.
الثالث: أن "أينما" أَعْمِلَتْ حَمْلاً على "إذا" لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط، كما حُمِلَتْ "إذا" عليها في الجزم في نفسِ المواضع، وحُذِفَت الياءُ مِنْ "يَأْتِ" تخفيفاً أو جزماً على التوهم، ويكون "يُوَجِّهُ لازماً بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم.
[وقرأ عبدُ الله أيضاً]. وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة - "هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ" وكأنه لم يعرف توجيههَا.
(9/284)(1/3739)
---
وقرأ علقمةُ وطلحةُ "يُوَجَّهْ" بهاءٍ واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ، وهي واضحةٌ.
وقرأ ابن مسعود أيضاً "تُوَجِّهْه" كالعامَّةِ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ.
وفي الكلام حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله {أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} كأنه قيل: والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه، وهو خفيفٌ على مولاه، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ. ودَلَّ على ذلك قولُه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}.
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ "أينما تَوَجَّهَ" فعلاً ماضياً، فاعلُه ضميرُ الأبكم.
وقوله: {وَمَن يَأْمُرُ} الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضميرِ المرفوعِ في "يَسْتوي"، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير. والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ. {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الجملةُ: إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ.
* { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}: أي: أو أَمْرٌ، فالضميرُ للأمر، والتقدير: أو أمرُ الساعةِ أقربُ من لَمْحِ البصر.
* { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}: الجملةُ حالٌ مِنْ مفعول "أَخْرجكم"، أي: أخرجكم غيرَ عالِمين. و "شيئاً" إمَّا مصدر، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعولٌ به. والعِلْمُ هنا العِرْفان. وقد تقدَّم الكلامُ في "أمَّهاتكم" في النساء.
قوله: "وَجَعَلَ" يجوز أن يكونَ معطوفاً على "أَخْرجكم" فيكونَ داخلاً فيما أَخْبر به عن المبتدأ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً.
(9/285)
---(1/3740)
والأَفْئِدَةُ: جمعُ "فؤاد" وقد تقدَّم. وقال لارازي: "إنما جُمِعَ جَمْعَ قِلَّة؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ مشغولون بأفعالٍ بهيمية فكأنهم لا فؤاد لهم". وقال الزمخشري: "إنه من الجموع التي استُعْمِلت للقلة والكثرة، ولم يُسمع فيها غيرُ القلة، نحو: "شُسُوع" فإنها للكثرة، ويستعمل في القَلّة، ولم يُسْمَع غيرُ شُسُوع". كذا قال، وفيه نظر. سُمِع منهم "أَشْسَاع" فكان ينبغي أن يقول: غَلَبَ شُسُوع.
* { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ}: يجوز أن تكون الجملةُ حالاً من الضمير المستتر في "مُسَخَّراتٍ"، ويجوز ان تكونَ من "الطير"، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
* { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }
قوله تعالى: {سَكَناً}: يجوز أن يكونَ مفعولاً اولَ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ، والمفعولُ الثاني أحدًُ الجارَّيْنِ قبله. ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ فيتعدَّى لواحدٍ. وإنما وَحَّد السَّكن لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه، قاله أبو البقاء: وقد يُقال: إنه في الأصل مصدرٌ، وإليه ذهب ابن عطية فتوحيدُه واضحٌ. إلا أنَّ الشيخ منه كونَه مصدراً، ولم يذكر وَجْهَ المنعِ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة أن "السَّكَن" فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبْضِ والنَّقَض بمعنى المقبوض والمنقوض، وأنشد الفراء:
3008- جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً * يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ
(9/286)
---(1/3741)
قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر. وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر.
قوله: {أَثَاثاً} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ هطفاً على "بُيوتاً"، أي" وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ومنصوباً على منصوبٍ، ولا فَضْلض هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ. وقال أبو البقاء: "وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قولُه {وَمِنْ أَصْوَافِهَا}، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في "الإيضاح"؛ لأنَّ الجارّض والمجرورَ مفعول، وتقديمُ / مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ". وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه، تقديرُه: وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتاً حالَ كونِها أثاثاً، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين. وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
وقوله: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ} اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً، أي: أَبْصَرَ بسرعة. وقيل: أصلُه من لَمْحِ البرق، وقولهم "لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً"، أي: أمراً واضحاً.
وقوله: {فِي جَوِّ السَّمَآءِ} الجَوُّ: الهواء، وهو ما بين السماءِ والأرض. قال:
3009- فلستَ لإنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ * تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ
وقيل: الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه.
وقوله: "ظَعْنِكم" مصدرُ ظَعَن، أي: ارْتَحَلَ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ، وإلا فهو مَحْمَلٌ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة، ظَعينة.
(9/287)
---(1/3742)
وقال أهل اللغة: الأصوافُ للضَّأْن، والأَوْبار للإبِل، والشَّعْر للمَعِز. والأَثاث: مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً. وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا. قال امرؤ القيس:
3010- وفَرْعٍ يُغْشَي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ * أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ
ونساء أَثائِثُ، أي: كثيراتُ اللحمِ، كأنَّ عليهن أَثاثاً، وتَأَثَّث فلانٌ: كَثُر أثاثُه. وقال الزمخشري: "الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت، والخُرْثِيُّ: ما قَدُم منها"، وأنشد:
3011- تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا * دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثَّيا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا. وقال أبو زيد: "واحدة: أَثاثَةٌ، وجمعُه في القلَّة "أثِثَّة، كتَبات وأَبِتَّة". قال الشيخ: "وفي الكثير على "أَثَثٍ". وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا، وهما: عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما، فلا يجوز: زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة. وقال الخليل: "الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهِما كقوله:
3012- ............................. * وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[وقوله]:
3013- ........................... * أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
* { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {أَكْنَاناً}: جمع "كِنّ" وهو ما حَفِظَ مظِن الريح والمطرِ، وهو في الجبل: الغار.
قوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قيل: حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى، أي: والبردَ كقوله:
(9/288)
---(1/3743)
3014- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها * إذا نَجَلَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسرا
أي: ويدُها، وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة. وقال الزجاج: "اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقس البردَ". وفيه نظرٌ للاحتيجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد.
قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ} أي: مِثْلَ ذلك الإتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل. وقرأ ابن عباس: "تَتِمُّ" بفتح التاءِ الولى، "نِعْمَتَهُ" بالرقع على الفاعلية. وقرأ أيضاً "نِعَمه" جمع "نعمة" جمع "نعمة" مضافةً لضميرِ الله تعالى. وعنه: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} بفتح التاءِ واللامِ مضارع "سَلِم" من السَّلامة، وهو مناسبٌ لقولِه {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب.
* { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }
قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يجوز أن يكونَ ماضياً، ويكون التفاتاً مِن الخطاب المتقدَّم، وأن يكونَ مضارعاً، والأصل: تَتَوَلَّوا بتاءَيْن فحذف نحو: {تَنَزَّلُ} و {تَذَكَّرُونَ} ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق.
قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} هو جوابُ الشرط، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ، أي: فأنتَ معذورٌ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب.
* { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }
قوله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}: جِيءَ بـ "ثُمَّ" هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ.
* { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }
(9/289)
---(1/3744)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ اذكر. الثاني: بإضمارِ "خَوِّفْهم". الثالث: تقديره: ويوم نَبْعثُُ وقعوا في أمرٍ عظيم. الرابع: أنه معطوفٌ على ظرفٍ محذوف، أي: ينكرونها اليومَ ويوم نَبْعَثُ.
/قوله: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ} قال الزمخشري: "فإن قلتَ: ما معنى "ثم" هذه؟ قلت: معناه أنهم يُمَنَّوْن بعد شهادةِ الأنبياءِ بما هو أَطَمُّ منه، وهو أنهم يُمْنَعُون الكلام، فلا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ، كما قاله الزمخشري، أو: في الرجوع إلى الدنيا.
قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا تُزال عُتْباهم، وهي ما يُعْتَبُون عليها ويُلامون. يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى أَعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْباه، واستفعل بمعنى أَفْعل غيرُ مُسْتَنْكَرٍ. قالوا: اسْتَدْنَيْتُ فلاناً، وأَدْنَيْتُه، بمعنىً واحد. وقيل: السين على بابها من الطلب، ومعناه: أنهم لا يُسْأَلون أن يَرْجِعُوا عَمَّا كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتابٌ معناه طَلَبَ عُتْباهم. وقال الزمخشري: "ولا هم يُسْتَرْضَوْن أي: لا يُقال لهم: أَرْضُوا ربَّكم؛ لأن الآخرىَ ليست بدارِ عملٍ". وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله في سورة حم السجدة؛ لأنه أَلْيَقُ به لاختلافِ القرَّاء فيه.
* { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
قوله تعالى:{فَلاَ يُخَفَّفُ}: هذه الفاءُ وما في حيِّزِها جوابُ "إذا" ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ قبلَ هذه الفاءِ، أي: فهو لا يُخَفَّفُ، لأنَّ جوابَ "إذا" متى كان مضارعاً لم يَحْتَجْ إلى فاءٍ سواءً كان موجَباً كقولِه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} أم منفيَّاً نحو: "إذا جاء زيدٌ لا يكرُمك".
* { وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
(9/290)
---(1/3745)
قوله تعالى: {السَّلَمَ}: العامَّةُ على فتحِ السين واللام, وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ. ومجاهدٌ بضم السين واللام. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ. ومجاهدٌ بضم السين واللام، وكأنه جمع "سَلام" نحو قَذَال وقُذُل، والسَّلام والسَّلَم واحدٌ، وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء.
* { الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ}: يجوز أن يكونَ مبتدأً، والخبرُ "زِدْناهم" وهو واضحٌ. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بدلاً مِنْ فاعلِ "يَفْتَرُوْن"، ويكون "زِدْناهم" مستأنفاً. ويجوز أن يكونَ {الَّذِينَ كَفَرُواْ} نصباً على الذمِّ أو رفعاً عليه، فَيُضْمَرُ الناصبُ والمبتدأُ وجوباً.
* { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
قوله تعالى: {تِبْيَاناً}: يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال، ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله وهو مصدرٌ، ولم يَجِيءْ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان: هذا وتِلْقاء، وفي الأسماء كثيرٌ نحو: التِّمْساح والتِّمْثال. وأمَّا المصادر فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال. وقال ابن عطية: "إنَّ التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ"، والنَّحْويون على خلافِه.
(9/291)
---(1/3746)
قوله: "للمُسْلمين" متعلقٌ بـ "بُشْرَى" وهو متعلقٌ من حيث المعنى بـ {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أيضا. وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله. وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ.
* { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى}: مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ولم يَذْكر متعلِّقاتِ العدلِ والإحسانِ والبَغْي لِيَعُمَّ جميعَ ما يُعْدَلُ فيه، ويُحْسَنُ به إليه، ويُبغى فيه؛ فلذلك لم يذكُرِ المفعولَ الثاني للإيتاء، ونَصَّ على الأول حَضَّاً عليه لأدائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءِه صدقَةٌ وصِلَةٌ.
قوله: "يَعِظُكم" يجوز ان يكونَ مستأنفاً في قوة التعليل للأمرِ بما تقدَّم، أي: إنَّ الوعظَ سببٌ في أمره لكم بذلك. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من الضمير في "يَنْهَى"، وفي تخصيصِه الحالَ بهذا العاملِ فقط نظرٌ؛ إذ يظهرُ جَعْلُه حالاً مِنْ فاعل "يأمرُ" أيضاً، بل أَوْلى؛ فإن الوعظ يكونُ بالأوامر والنواهي، فلا خصوصيةَ له بالنهي.
* { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }
(9/292)
---(1/3747)
قوله تعالى: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: متعلقٌ بفعل النهي. والتوكيدُ مصدرُ وَكَّدَ يُوَكِّدُ بالواو، وفيه لغةٌ أخرى: أَكَّد يُؤَكِّد بالهمز، وهذا كقولِهم: وَرَّخْتُ الكتابَ وأرَّخْتُه، وليست الهمزة بدلاً من واوٍ كما زعم أبو إسحق؛ لأنَّ الاستعمالين في المادتين متساويان، فليس ادِّعاء كونِ أحدهما أصلاً أَوْلَى من الآخر.
وتبع مكيٌّ الزجاجَ في ذلك ثم قال: "ولا يَحْسُن أَنْ يقال: الواوُ بدلٌ من الهمزة، كما لا يَحْسُنُ أن يقالَ ذلك في "أَحَد"؛ إذ صلُه "وَحَد"، فالهمزةُ بدل من الواو". يعني أنه لا قائلَ بالعكس، وكذلك تَبِعَه في ذلك الزمخشري أيضاً. و "تَوْكِيدها" مصدرٌ/ مضافٌ لمفعوله.
وأدغم أبو عمروٍ الدالَ في التاء، ولا ثانيَ له في القرآنِ، أعني أنه لم تُدْغَمْ دالٌ مفتوحةٌ بعد ساكنٍ إلا في هذا الحرفِ.
قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ} الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ فاعلِ "تَنْقُضوا"، وأما من فاعلِ المصدرِ، وإن كان محذوفاً.
* { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
قوله تعالى: {أَنكَاثاً}: يجوز فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ مِنْ "غَزْلِها". والأَنْكاث: جمعُ نِكْث بمعنى مَنْكوث، أي: منقوضٌ. والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ لتضمين "نَقَضَتْ" معنى "صَيَّرَتْ". وجَوَّز الزجاجُ فيه وجهاً ثالثاً وهو: النصبُ على المصدرية؛ لأنَّ معنى نَقَضَتْ: نَكَثَتْ، فهو مُلاقٍ لعاملِه في المعنى.
قوله: "تَتَّخذون" يجوز أن تكونَ الجملةُ حالاً من واو "تكونوا" أو من الضمير المستتر في الجارِّ، إذ المعنى: لا تكونوا كذا حالَ كونِكم متَّخذين.
(9/293)
---(1/3748)
قوله: {دَخَلاً بَيْنَكُمْ} هو المفعولُ الثاني لـ "تَتَّخذون". والدَّهَل: الفسادُ والدَّغَلُ. وقيل: "دَخَلاً": مفعولٌ من أجله. وقيل: الدَّخَل: الداخلُ في الشيءِ ليس منه.
قوله: {أَن تَكُونَ}، أي: بسبب أَنْ تكونَ، أو مخافةَ أَنْ تكونَ. و "تكون" يجوزُ أَنْ تكونَ تامةً، فتكون "أمَّةٌ" فاعلَها، وأن تكونَ ناقصةً، فتكون "أمَّةٌ" اسمَها، و "هي" مبتدأ، وأَرْبَى" خبرُه. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، على الوجه الأول، وفي موضعِ الخبرِ على الثاني. وجوَّز الموفيون أن تكونَ "أُمَّةٌ" اسمَها، و "هي" عمادٌ، أي: ضميرُ فَصْلٍ، و "أربَى" خبرُ "تكون"، والبصريون لا يُجيزون ذلك لأجل تنكيرِ الاسمِ، فلو كان الاسمُ معرفةً لجاز ذلك عندهم.
قوله: "به" يجوز أن يعودَ الضميرُ على المصدر المنسبك مِنْ {أَن تَكُونَ} تقديره: إنما يَبْلُوكم الله بكونِ أُمَّة، أي: يختبركم بذلك. وقيل: يعودُ على "الربا" المدلولِ عليه بقولِه {هِيَ أَرْبَى} وقيل: على الكثرة، لأنها في معنى الكثير. قال ابن الأنباري: "لَمَّا كان تأنيثُها غيرَ حقيقي حُمِلَتْ على معنى التذكير، كما حُمِلت الصيحةُ على الصِّياح" ولم يتقدمْ للكثرةِ لفظٌ، وإنما هي مدلولٌ عليها بالمعنى مِنْ قوله {هِيَ أَرْبَى}.
* { وَلاَ تَتَّخِذُوااْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّواءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
قوله تعالى: {فَتَزِلَّ}: منصوبٌ بإضمار "أَنْ" على جوابِ النهي.
قوله: {بِمَا صَدَدتُّمْ}: "ما" مصدريةٌ، و "صَدَدْتُمْ" يجوز أن يكونَ من الصُّدود، وأن يكونَ مِن الصَدِّ، ومفعولُه محذوفٌ. ونُكِّرت "قَدَمٌ": قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ وُحِّدَتِ القَدَمُ ونُكِّرَتْ؟ قلت: لاستعظامِ أن تَزِلَّ قدمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحق بعد أن ثَبَتَتْ عليه فكيف بأقدامٍ كثيرة"؟.
(9/294)
---(1/3749)
قال الشيخ: "الجمع تارةً يُلْحَظُ فيه المجموعُ من حيث هو مجموعٌ، وتارةً يُلحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ. فإذا لُوْحظ فيه المجموعُ كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّةُ، وإذا لُوْحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإسناد مطابقاً للفظِ الجمع كثيراً، فيُجْمع ما أُسند إليه، ومطابقاً لكلِّ فردٍ فردٍ فيُفْرد، كقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ} لمَّا كان لُوْحِظ في قوله "لهنَّ" معنى لكلِّ واحدة، ولو جاء مُراداً به الجمعيةُ أو الكثيرُ في الوجهِ الثاني لجُمِع المتكأ، وعلى هذا المعنى يُحمل قول الشاعر:
3015- فإني وَجَدْتث الضَّامِرينَ متاعُهمْ * يَمُوْتُ ويَفْنَى فارْضِخِي مِنْ وعائيا
أي: رأيتُ كلَّ ضامرٍ؛ ولذلك أَفْرَدَ الضميرَ في "يموتُ ويَفْنى" ولمَّا كان المعنى: لا يَتَّخِذُ كلُّ واحدٍ منكم جاء "فَتَزِلَّ قَدَمٌ"، مراعاةً لهذا المعنى، ثم قال: وتَذُوقْوا، مراعاةً للمجموع [أو] لِلَفْظِ الجمع على الوجهِ الكثيرِ إذا قلنا: إن الإسنادَ لكل فردٍ فرد، فتكون الآية قد تعرَّضتْ للنهي عن اتخاذ الأَيْمَانِ دَخَلاُ باعتبار المجموعِ، وباعتبارِ كل فردٍ فرد، ودَلَّ على ذلك بإفراد "قَدَم" وبجَمْعِ الضمير في "وتَذُوْقوا".
قلت: وبهذا التقديرِ الذي ذكره الشيخ يفوتُ المعنى الجَزْلُ الذي اقتنصَه أبو القاسم مِنْ تنكير "قَدَم" وإفرادها. وأمَّا البيتُ المذكورُ فإنَّ النَّحجْويين خَرَّجوه على أن المعنى: يموت مَنْ ثُمَّ، ومَنْ ذُكِرَ، فأفرد الضميرَ لذلك لما لا لِما ذكر.
* { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوااْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(9/295)
---(1/3750)
قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ}: مبتدأ وخبر. والنَّفَادُ: الفناءُ والذِّهابُ يقال: نَفِذ بكسر العين يَنْفَذُ بفتحها نَفَاذاً ونُفُوذاً. وأمَّا "نَفَذَ" بالذالِ المعجمة فَفِعْلُه نَفذَ بالفتح يَنْفُذُ بالضم، وسيأتي. ويُقال: أَنْفَد القومُ. فَنِيَ زادُهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ، لِيَنْفِد حجةَ صاحبِه، يقال: مافَدْتُه فَنَفِدْتُه.
وقوله "باقٍ" قد تقدَّم الكلامُ في الوقف عليه في الرعد.
قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ} قرأ ابن كثير وعاصم وابن ذكوان {وَلَنَجْزِيَنَّ} بنونِ العظمة، التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلم. وتقدَّم تقريرُ الالتفاتِ. والباقون بياء الغَيْبة رجوعاً إلى الهِ لتقدُّم ذكرِه العزيز في قولِه تعالى / {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}.
وقوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ} يجوز أن تكونَ أَفْعَل على بابِها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسنِ فَلأَنْ يُجازِيَهم بالحَسَن من باب الأَوْلَى. وقيل: ليسَتْ للتفضيلِ، وكأنهم فَرُّوا مِنْ مفعومِ أفْعل؛ إذ لا يلزم من المجازاةِ بالأحسنِ المجازاةُ بالحَسَن. وهو وَهْمٌ لما تقدَّم مِنْ أنه مِنْ مفهوم الموافقة بطريق الأَوْلى.
* { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {مِّن ذَكَرٍ}: "مِنْ" للبيان فتتعلقُ بمحذوفٍ، أي: أَعْنِي مِنْ ذَكَر. ويجوزُ أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل "عَمِل".
قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملةٌ حاليةٌ أيضاً.
(9/296)
---(1/3751)
قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} راعى معنى "مَنْ" فَجَمع الضميرَ بعد أن راعَى لفظَهَا فَأَفْرَدَ في "فَلَنُحْيِيَنَّهُ" وما قبله، وقرأ العامَّةُ "وَلَجْزِيَنَّهم" بنونِ العظمةِ مراعاةً لِما قبله. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكونَ على إضمارِ قَسَمٍ ثانٍ، فيكونَ من عطفِ جملةٍ قَسَميةٍ مثلِها، حُذفتا وبقي جواباها.
ولا جائزٌ أن يكونَ مِنْ عطفِ جوابٍ على جواب لإفضائِه إلى أخبارِ المتكلم عن نفسِه بإخبار الغائب، وهو لا يجوزُ. لو قلت: "زيد قال: واللهِ لأَضْرِبَنَّ هنداً ولَينفينَّها" تريد: ولَينفينَّها زيدٌ، لم يَجُزْ. فإن أَضْمَرْت قسماً آخرَ جاز، لأأي: وقال: واللهِ لينفينَّها؛ لأنَّ لك في مثلِ هذا التركيبِ أن تحكيَ لفظه، ومنه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} وأن تحكيَ معناه، ومنه {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} ولو جاء على اللفظ لقيل: ما قلنا.
* { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ} أي: فإذا أَرَدْتَ، فأضمرتَ الإرادةَ. قال الزمخشري: "لأنَّ الفعلَ يوجد عند القصدِ والإرادةِ من غير فاصلٍ وعلى حسبِه، فكان منه بسببٍ قوي وملابسةٍ ظاهرة". وقال ابن عطية: "فـ "إذا" وَصْلاةٌ بين الكلامين، والعربُ تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية: فإذا أَخَذْتَ في قراءةِ القرآن فاسْتَعِذْ". قلت: وهذا هو مذهبُ الجمهورِ من القُرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهرِ الآية، فاستعاذ بعد أن قرأ، من الصحابة أبو هريرة، ومن الأشمة مالك وابن سيرين، ومن القرَّاء حمزة.
* { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }
(9/297)
---(1/3752)
قوله تعالى: {بِهِ مُشْرِكُونَ}: يجوز أن يعودَ الضميرُ على الشيطانِ، وهو الظاهرُ؛ لتتحدَ الضمائرُ. والمعنى: والذين هم مشركون بسببه. وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون باللهِ. ويجوز أن يعودَ على "ربهم".
* { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوااْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابه. والثاني: أنها حاليةٌ، وليس بظاهرٍ. وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراءَ بأنواعٍ من المبالغات: الحصرِ والخطابِ واسمِ الفاعل الدالِّ على الثبوتِ والاستقرار. ومفعول "لا يعلمون" محذوفٌ للعلمِ به، أي: لا يعلمون أنَّ في نَسْخِ الشرائعِ وبعضِ القرآنِ حِكَماً بالغة.
* { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
قوله تعالى:{لِيُثَبِّتَ}: متعلقٌ بـ "نَزَّله". و "هدى وبشرى" يجوز أَنْ يكونا عطفاً على محلِّ "ليُثَبِّتَ" فيُنْصبان، أو على لفظِه وما رَدَّ به الشيخُ، وما رُدَّ به عليه. وجوَّز أبو البقاء ارتفاعَهما خَبَرَيْ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهو هُدَىً، والجملةُ حالٌ.
وقرئ "لِيُثْبِتَ" مخففاً مِنْ أَثْبتَ.
* { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
(9/298)
---(1/3753)
قوله تعالى: {لِّسَانُ الَّذِي}: العامَّة على إضافة "لسان" إلى ما بعدَع. واللِّسانُ: اللغة. وقرأ الحسن "اللسان" معرَّفاً بأل، و "الذي" نعتٌ له. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: لا محلَّ لها لاستئنافِها، قاله الزمخشري. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل "يقولون"، أي: يقولون ذلك والحالُ هذه، أي: عِلْمُهم بأعجميةِ هذا البشرِ وإبانةِ عربيَّةِ هذا القرآنِ كان ينبغي أَنْ يمنَعهم من تلك المقالةِ، كقولِك: "تَشْتُمُ فلاناً وهو قد أحسنَ إليك"، أي: وعِلْمُك بإحسانِه إليك كان يمنعُم مِنْ شَتْمِهِ، قاله الشيخ. ثم قال: "وإنما ذهب إلى الاستئنافِ لا إلى الحالِ؛ لأنَّ مِنْ مذهبِه أنَّ مجيءَ الحالِ اسميةً من غيرٍ واوٍ شاذٌ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ تَبِه فيه الفراءَ".
و "أعجميٌّ" خبرٌ على كبتا القراءتين. والأعجميُّ: مَنْ لم يتكلَّمْ بالعربية. وقال الراغب: "العَجَمُ عربياً كان أو غيرَ عربي؛ اعتبارً بقلة فَهْمِه من العُجْمة. والأعجميُّ منسوبٌ إليه، ومنه قيل للبهيمة "عَجْماءُ" من حيث إنها لا تُبِيْنُ، و "صلاةُ النهارِ عَجْماء"، أي: لا يُجْهَرُ فيها. والعَجَمُ: النَّوَى لاختفائِه. وحروف المعجم، قال الخليل: "الحروفُ المقطَّعة لأنها أعجمية" قال بعضهم: معانه أنَّ الحروفَ المجردة لا تَدُلُّ على ما تَدُلُّ عليه الموصولةُ. وأَعْجمتُ الكتاب ضِدُّ أَعْرَبْتُه، وأَعْجَمْتُه: أَزَلْتُ عُجْمَتَه كَأَشْكَيْتُه، أي: أَزَلْتُ شِكايتَه، وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله في الشعراء، وحم السجدة. وتقدَّم خرفُ القرَّاءِ في "يُلْحِدُون" في الأعراف.
* { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(9/299)
---(1/3754)
قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ}: يجوز فيه أوجهُ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من {الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر. الثاني: أنه بدلٌ مِنَ "الكاذبون". والثالث:/ مِنْ "أولئك" قاله الزمخشريُّ، فعلى الأولِ يكون قولُه {وَأُوْلائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه.
واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال: "لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتَي الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن، سواءً كفر بالله من بعدِ إيمانِه، أم لا، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري" قال: "وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ: وأولئك: أي: الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والذين لا يؤمنون هم المُفْترون. وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ: إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه، مُخْبراً عنهم بأنهم الكاذبون".
الوجه الرابع: أن ينتصبَ على الذمِّ، قاله الزمخشري. الخامس: أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ على الذمِّ أيضاً. السادس: أن يرتفعَ على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديره: فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد "مَنْ" الثانيةِ عليه.
(9/300)
---(1/3755)
السابع: أنها مبتدأٌ أيضاً، وخبرُها وخبرُ "مَنْ" الثانيةِ أيضاً قولُه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ}، قاله ابن عطية، قال: "إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإخبارَ في قولِه {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ} إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر". قال الشيخ: "وهذا وإنْ كان كما ذكر، إلا أنهما جملتان شرطيتان، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك، فلا بد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإعرابِ، وقد ضَعَّفوا مَهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قولَه "فسلامٌ لكَ من أصحابِ اليمين"، وقولُه {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} جوابُ "أمَّا"، و "إنْ" هذا، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى".
الثامن: أن تكونَ "مَنْ" شرطيةً وجوابُها مقدرٌ تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالةِ ما بعد "مَنْ" الثانيةِ عليه. وقد تقدَّم أن ابنَ عطية جَعَلَ الجزاءَ لهما معاً، وتقدَّم الكلامُ معه فيه.
قولِه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ}، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً. وقال أبو البقاء: "وقيل: ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد:
3016- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ * ..............................
فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً.
الثاني: أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر، تقديرُه: فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ، فاستثنى الصِّنفَ الأول.
قوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} جملةٌ حاليةٌ، أي: إلا مَنْ أُكْرِهَ في هذه الحالةِ.
(9/301)
---(1/3756)
قوله: {وَلَاكِن مَّن شَرَحَ} الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} قد يَسْبق الوهمُ إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا. وقولُه {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} لا ينفي ذلك الوهم. و "مَنْ": إمَّا شرطيةٌ أو موصولةٌ، ولكن متى جُعِلَتْ شرطيةً فلا بدُّ من إضمارِ مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجملُ الشرطيةُ، قاله الشيخ ثم قال: "ومثلُه:
3017- ............................ * ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
أي: ولكن أنا متى يَسْتَرْفد" وإنما لم تقعِ الشرطيةُ بعد "لكن" لأنَّ الاستدراكَ لا يقع في الشُّروط. هكذا قيل، وهو ممنوع.
* { ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّهُمُ}: مبتدأ وخبر، كنظائرَ مَرَّتْ، والإشارةُ بـ "ذلك" إلى ما ذُكِرَ من الغضبِ والعذاب؛ ولذلك وُحِّد كقوله: {بَيْنَ ذالِكَ} و [قولِه]
3018- كأنه في الجِلْدِ .....................
وقد مَرَّ ذلك.
* { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(9/302)
---(1/3757)
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ}: في خبر "إنَّ" هذه ثلاثةُ أوجهٍ، إنه قولُه {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، و {إِنَّ رَبَّكَ} الثانيةُ واسمُها تأكيدٌ للأولى واسمِها، فكأنه قيل: ثم إنَّ ربَّك إنَّ ربَّك لغفورٌ رحيم، وحينئذٍ يجوز في قولِه "للذين" وجهان: أن يتعلَّقَ بالخبرين على سبيل التنازعِ، أو بمحذوفٍ على سبيلِ البيان كأنه قيل: الغُفرانُ والرحمةُ للذين هاجرُوا. الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الجارِّ بعدها كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هُو لك لا عليك بمعنى هو ناصرُهم لا خاذِلُهم، قال معناه الزمخشريُّ [ثم قال "كما يكون المَلِكُ للرجل لا عليه، فيكون مَحْمِيَّاً مَنْفُوْعاً].
الثالث: أن خبرَ الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية،/ يعني أنه محذوفٌ لفظاً لدلالةِ ما بعده عليه، وهذا معنى قولِ أبي البقاء: "وقيل: لا خبرَ لـ "إنَّ" الأولى في اللفظ؛ لأنَّ خبرَ الثانيةِ أغنى عنه" وحينئذٍ لا يَحْسُنُ رَدُّ الشيخِ عليه بقوله: "وهذا بيس بجيدٍ أنه أَلْغَى حكمَ الأولى، وجَعَلَ الحكمَ للثانيةِ، وهو عكسُ ما تقدَّمَ ولا يجوز".
قولِه: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} قرأ ابنُ عامر "فَتَنوا" مبنياً للفاعل، أي: فَتَنُوا أَنْفُسَهم، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى: فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ، أي: فتنُوا المؤمنين.
والباقون "فُتِنُوا" مبنياً للمفعول. والضميرُ في "بعدها" للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ، أي: مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ. وقال ابن عطية: "عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة".
* { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
(9/303)
---(1/3758)
قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي}: يجوز أَنْ ينتصبَ بـ "رحيم"، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى، وأن ينتصِبَ بـ "اذكر" مقدرةً، وراعى معنى "كل" فأنَّثَ الضمائر في قوله "تجادل" إلى آخره، ومثلُه:
3019- جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فتركْنَ كلَّ * .........................
إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوعِ. وقوله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ.
* { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
قوله تعالى: {وَالْخَوْفِ}: العامَّةُ على جَرِّ "الخوف" أحدها: أن يُعطف على "لباس". الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ "الجوع"؛ لأنه مقعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: "أَنْ أَلْبَسَهم الجوعُ والخوفَ"، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي:] ولباس الخوف، ثم حُذِفَ وأقيم [المضاف إليه] مُقامَه قاله الزمخشري.
(9/304)
---(1/3759)
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: "فإن قُلْتَ، الإذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإنسانَ والتبس به من بعض الحوادث. وأمَّا إيقاعُ الإذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابِسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر:
3020- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً * غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ
استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال، لا وصفُ الرداء، نظراً إلى المستعار له. أن ينظروا فيه المستعار كقوله:
3021- يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو * رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني * ودونَك فاعْتَجِز منه بِشَطْرِ
أراد بردائِه سيفضه ثم قال: "فاعتجِرْ منه بِشَطْر" فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: "فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف"، ولقال كثِّير: "ضافي الرداءِ إذا تبسَّم". انتهى. وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية: "لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
3022- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها * تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
(9/305)
---(1/3760)
ومثلُه قولُه تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ} ومثلُه قولُ الشاعر:
3022- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ * لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما
كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه".
وقوله: "فأذاقهم" نظيرُ قولِه تعالى: "ذُقْ إنك [أنت] العزيزُ الكريم، ونظيرُ قولِ الشاعر:
3023- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ
وفي قراءةِ عبد الله "فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ"، وفي مصحف أُبَيّ "لباسَ الخوفِ والجوعِ".
وقوله: {بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ "بِنِعَمِ الله" جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
و "أنْعُم" فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ "نِعْمةٍ" نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: "جمعُ "نِعمة" على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع". وقال قطرب: "هي جمه نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال: "هذه أيامُ طُعْم ونُعْم". وفي الحديث: "نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى: "إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا
". قوله: {بِمَا كَانُواْ} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه. والواو في "يَصْنعون" عائدةٌ على أهل المعدَّب. قيل: قرية، وهي نظيرةُ قولِه {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} بعد قولِه {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}.
* { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
قوله تعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ}: صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة، بل قال: {وَاشْكُرُواْ للَّهِ} لمَّا لم يتقدمْ ذلك، وتقدَّم نظائرُها هنا.
(9/306)
---(1/3761)
* { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلاَلٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}: العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ. وفيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه "تَصِفُ" و "ما" مصدريةٌ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله {هَاذَا حَلاَلٌ وَهَاذَا حَرَامٌ} و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ للنهي عن القول الكذبَ، وإلى هذا نحا الزجَّاج والكسائيُّ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ.
الثاني: أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ، ويكون قوله: {هَاذَا حَلاَلٌ} بدلاً مِنَ "الكذب" لأنه عينُه، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ، أي: فيقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ، و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ أيضاً، والتقديرُ: ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم. وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ، وذلك: أن القولَ يَطْلُبُ "الكذب" و"تَصِفُ" أيضاً يطلبه، أي: ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ.
الثالث: أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على "ما" إذا قلنا: إنها بمعنى الذي؛ التقدير: لِما تصفُه، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء. الرابع: أن ينتصبَ بإضمار اعني، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا معنى عليه.
(9/307)
---(1/3762)
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ "الكذبِ" بالخفضِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من الموصولِ، أي: ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو. والثاني: ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً لـ "ما" المصدرية. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ، لا يُقال" يعجبني أن تخرجَ السريهُ" ولا فرقَ بين عذا وبين باقي الحروفِ المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال، ورفعِ الباء صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف، أو جمع "كِذاب" نحو: كِتاب وكُتُب.
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك، إلا أنَّه نصب الباءَ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، ذكرها الزمخشري. أحدُها: أن تكونَ منصوبةً على الشتم، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب، يعني أنها مفعولٌ بها، والعامل فيها: إمَّا "تَصِفُ"، وإمَّ القولُ / على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ. الثالث: أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك "كَذِب كِذاباً" يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتاب، وقد قرأ الكسائيُّ: {وَلاَ كِذَاباً} بالتخفيف كما سيأتي في النبأ.
(9/308)
---(1/3763)
قوله: "لِتَفْتَرُوا" في اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: قال الواحدي: "إنه بدلُ مِنْ {لِمَا تَصِفُ} لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله". قال الشيخ: "فهو على تقدير جَعْلِ "ما" مصدريةً، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها مت يُفْهِمُ التعليلَ، وغنما اللامُ في "لِما" متعلقةٌ بـ "لا تقولوا" على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك: لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ: هذا حرامٌ، أي: لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول: لا تقلْ لزيدٍ عمراً، أي: لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ". قلت: وهذا وإن كان ظاهراً، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل، وإنْ كانت بمعنى الذي.
الثاني: أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرض.
الثالث: أنها للتعليلِ الصريحِ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك.
* { مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مَتَاعٌ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، و "قليل" خبره، وفيه نظرٌ للابتداءِ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغ. فإن ادُّعِي إضافتُه نحو: متاعُهم قليل، فهو بعيدٌ جداً. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بَقاؤهم أو عيشُهم أو منفعتُهم فيما هم عليه.
* { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُوااْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {مِن قَبْلُ}: متعلِّقٌ بـ "حَرَّمْنَا" أو بـ "قَصَصْنَا" والمضافُ إليه "قبلُ" تقديرُه: ومِنْ قبلِ تحريمِنا على أهلِ مِلَّتِك.
* { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّواءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوااْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {مِن بَعْدِهَا}: أي: مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإصلاح، وقيل: على الجهالةِ. وقيل: على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ.
(9/309)
---(1/3764)
و "بجهالة" حالٌ مِنْ فاعل "عَمِلوا".
* { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {أُمَّةً}: تُطْلَقُ الأُمَّة على الرجل الجامع لخصالٍ محمودة. وقيل: فًعْلَةُ تدل على المبالغةِ، وإلى المعنى الأولِ نَظَر ابنُ هانئٍ في قوله:
3024- وليس الله بمُسْتَنْكَرٍ * أن يَجْمَعَ العالمَ في واحِدِ
* { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله تعالى: {شَاكِراً}: يجوز أن يكونَ خبراً ثالثاً، او حالاً مِنْ أحدِ الضميرين في "قانِتاً" أو "حنيفاً".
قوله: "لأَنْعُمِهِ" يجوز تعلُّقه بـ "شاكراً" أو بـ "اجتباه"، و "اجتباه": إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ آخرُ لـ كان. و {إِلَى صِرَاطٍ} يجوز تعلُّقُه بـ "اجتباه" و بـ "هداه" على قاعدةِ التنازع.
* { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ}: قال الزمخشري: "في "ثم" هذه ما فيها مِنْ تعظيم منزلتِهِ وأجلالِ مَحَلَّه، والإيذانُ بأنَّ أَشْرَفَ ما أُوتي خليلُ الرحمنِ من الكرامةِ وأَجَلَّ ما أُولِيَ من النعمة اتِّباعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قَبِل أنها دَلَّتْ على تباعُدِ هذا النعتِ في الرتبةِ منْ بينِ سائرِ النُّعوت التي أثنى اللهُ عليه بها".
قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} يجوز أن تكونَ المفسرِّةَ، وأن تكونَ المصدريةَ فتكونَ مع منصوبِها مفعولَ الإيحاء.
(9/310)
---(1/3765)
قوله: "حنيفاً" حالٌ، وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال ابن عطية: "قال مكي: ولا يكون - يعني حنيفاً - حالاً من "إبراهيم" لأنه مضافٌ إليه، وليس كما قال؛ لأن الحالَ قد تعمل فيها حروفُ الجرِّ إذا عَمِلَتْ في ذي الحال كقولِك "مررتُ بزيدٍ قاءماً". قلت: ما ذكره مكيٌّ من امتنعِ الحالِ من المضاف إليه فليس على إطلاقه لِما تقدَّم تفصيلُه في القرة. وأمَّا قولُ ابن عطية: إن العاملَ الخافضُ فليس كذلك، إنما العاملُ ما تعلَّق به الخافضُ، ولذلك إذا حُذِفَ الخافضُ، نُصِبَ مخفوضُه.
* { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ}: العامَّةُ على بنائِه للمفعول، وأبو حَيْوةَ على بنائِه للفاعلِ، "السَّبْتَ" مفعول به.
* { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
قوله تعالى: {ادْعُ}: يجوز أن يكونَ مفعولُه مراداً، أي: ادعُ الناسَ، وأن لا يكونَ، أي: افعلِ الدعاءَ. و "بالحكمة" حالٌ، أي: ملتبساً بها.
* { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }
قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ}: العامَّةُ على المُفاعلة، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر، وابنُ سيرين "عَقَّبْتم" بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم. وقيل: تتبَّعْتُم. والباءُ مُعَدِّيَةٌ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين: إمَّا للسببيةِ، وإمَّا مزيدةٌ.
(9/311)
---(1/3766)
قوله: {لِّلصَّابِرينَ} يجوز أن يكونَ عامَّاً، أي: الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم.
* { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ بِاللَّهِ}: أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة.
قوله: {فِي ضَيْقٍ} ابن كثير هنا، وفي النمل؛ بكسر الصاد، والباقون بالفتح. فقيل: لغتان بمعنىً في هذا المصدر، كالقَوْل والقِيْل. وقيل: المفتوحُ مخفَّفٌ من "ضَيِّق" كَمَيْت في "مَيِّت"، أي: في أمرٍ ضَيِّق. ورَدَّه الفارسيُّ: بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاءُ الحذفِ، ولذلك جاز: "مررت بكاتبٍ" وامتنع "بآكلٍ".
قوله: {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} متعلقٌ بـ "ضَيْق". و"ما" مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.(1/3767)
سورة الإسراء
* { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
(9/312)
قوله تعالى: {سُبْحَانَ}: قد تقدَّم الكلامُ عليه مستوفى أول البقرو. و"أَسْرى" و "سَرَى" لغتان، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة هود، وأن بعضَهم خَصَّ "أَسْرى" بالليل. قال الزمخشري هنا: "فإن قلتَ: الإسراءُ لا يكون إلا ليلاً فما معنى ذِكْرِ الليلِ؟ قلت: أراد بقوله "ليلاً" بلفظ التنكيرِ تقليلَ مدةِ الإسراءِ، وأنه أُسْرِي به في بعض الليلِ من مكةَ إلى الشام مسيرةََ أربعين ليلةً؛ وذلك: أنَّ التنكيرَ دلَّ على البعضية، ويَشْهَد لذلك قراءةُ عبدِ الله وحذيفة "من الليل"، أي: بعضه كقوله: {وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} انتهى. فيكون "سَرى" و "أسْرى" كـ "سَقَى" و "أَسْقى" والهمزةُ ليست للتعديةِ، وإنما المُعَدَّى الباءُ في "بعبده"، وقد تقدَّم أنها لا تَقْتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول عند الجمهور، في البقرة خلافاً للمبرد.
وزعم ابن عطية أنَّ مفعولَ "أَسْرى" وأنَّ التعديةَ بالهمزة فقال: "ويَظْهر أنَّ "أَسْرىط مُعَدَّاةٌ بالهمزةِ إلى مفعولٍ محذوف، أي: تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقْلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يَحْسُنُ إسنادُ شيءٍ من هذا مع وجودِ مَنْدوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشريعة شيءٌُ من ذلك تَأَوَّلْناه نحو: اَتَيْتُه هَرْوَلة".
قلت: وهذا كلُّه إنما بنماه اعتقاداً على أن التعديةَ بالباء تَقتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول في ذلك، وقد تقدَّم الردُّ على هذه المذاهبِ في أول البقرة في قوله {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ}. ثم جَوزَّ أن يكونَ "أَسْرى" بمعنى "سَرَى" على حَذْفِ مضافٍ كقولِه: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} يعني فيكون التقدير: الذي أَسْرَى ملائكتُه بعبدِه، والحاملُ له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة.
قوله: "لَيْلاً" منصوب على الظرف. وقد تقدَّم فائدةُ تنكيرِه. و "من المسجد" لابتداء الغاية.
(9/313)
---(1/3768)
قوله: حولَه" فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرف، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه أولَ البقرة. والثاني: انه مفعولٌ. قال أبو البقاء: "أي: طَيَّبْنا ونَمَّيْنا". يعين ضَمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه، وفيه نظرٌ لأنه لا يَتَصَرَّف.
قوله: "لِنُرِيَه" قرأ العامَّة بنونِ العظمة جَرْياً على "بارَكْنا". وفيهما التفاتان: مِنَ الغَيْبة في قوله {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} إلى التكلُّم في "بارَكْنا" و "لِنُرِيَه"، ثم التفتَ إلى الغَيْبَة في قولِه "إنه هو" إن أَعَدْنا الضميرَ على اللهِ تعالى وهو الصحيحُ، ففي الكلام التفاتان.
وقرأ الحسن "لِيُرِيَه" بالياء مِنْ تحتُ أي الله تعالى، وعلى هذه القراءةِ يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أولاً من الغَيْبة في قوله {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله "بارَكْنا"، ثم التفت ثانياً من التكلمِ في "بارَكْنا" إلى الغيبة في "لِيُرِيَه" على هذه القراءة، ثم التفت بالياء من هذه الغَيْبة إلى التكلم في "آياتنا"، م التفت رابعاً من هذا التكلمِ إلى الغيبة في قوله "إنه هو" على الصحيح في الضميرِ أنَّه لله، وأمَّا على قولٍ نقله أبو البقاء أن الضمير في "إنه هو" للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا يجيءُ ذلك، ويكون في قراءة العامَّةِ التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وهذا موضعٌ غريبٌ، وأكثرُ ما وَرَدَ الاتفاتُ [فيه] ثلاثُ مرات على ما قال الزمخشري في قولِ امرئ القيس:
3025- تطاوَلَ ليلُكَ بالإثْمِدِ *........................
الأبيات. وقد تقدَّم النزاعُ معه في ذلك، وبعضُ ما يُجاب به عنه أولَ الفاتحة.
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ فيها خمسةَ التفاتات لاحتاج في دَفْعِه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ مِنْ "إنَّه هو" إلى التكلم في قوله {وَآتَيْنَآ مُوسَى} الآية.
(9/314)
---(1/3769)
والرؤيةُ هنا بَصَريةٌ. وقيل: قلبية وإليه نحا ابن عطية، فإنه قال: "ويُحْتمل أَنْ يريد: لِنُرِيَ محمداً للناس آيةً، أي: يكون النبي صلى الله عليه وسلم آيةً في أَنْ يصنعَ اللهُ ببشرٍ هذا الصنعَ" فتكونُ الرؤيةُ قلبيةً على هذا.
* { وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً }
قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تُعْطَفَ هذه الجملةُ على الجملةِ السابقة من/ تنزيهِ الربِّ تبارك وتعالى ولا يَلْزَمُ في عَطْفِ الجملِ مشاركةٌ في خبرٍ ولا غيرِه. الثاني: قال العسكري: إنه معطوف على "أسرى". واستبعده الشيخُ. ووجهُ الاستبعادِ: أن المعطوفَ على الصلةِ صلةٌ، فيؤدِّي التقديرُ إلى ضرورةِ التركيبِ، أَسْرَيْنا بعبدِنا، وأًرَيْناه آياتِنا وآتَيْنا، وهو قريبٌ مِنْ تفسيرِ المعنى لا الإعراب.
قوله: "وجَعْلَناه" يجوز أن يعودَ ضميرُ النصبِ للكتاب، وهو الظاهرُ، وأَنْ يعودَ لموسى عليه السلام.
قوله: {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يجوز تعلُّقُه بنفس "هدى" كقوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، أي: جعلناه لأجلِهم، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتاً لـ "هُدى".
قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ} يجوز أَنْ تكون "أَنْ" ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة، أي: لئلا تتَّخذوا. وقيل: "لا" مزيدةٌ، والتقدير: كراهةَ أَنْ تتخذوا، وأنْ تكونَ المفسرةَ و "لا" ناهيةٌ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر، أي: مقولاً لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب. وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ "أَنْ".
وقرأ أبو عمروٍ {أَنْ لا يتَّخذوا} بياء الغَيْبة جَرْياً على قوله {لبني إسرائيل} والباقون بالخطاب التفاتاً.
(9/315)
---(1/3770)
* { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ}: العامَّةُ على نصبها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ، وبه بدأ الزمخشري. الثاني: أنَّها منصوبَةً على البدلِ من "وَكِيلاً"، أي: أن لا تتخذوا من دونِه ذريةَ مَنْ حَمَلْنا. الثالثك أنها منصوبةٌ على المفعولِ الأولِ لـ "تتخذوا"، والثاني هو "وكيلاً" فقُدِّم، ويكون "وكيلاً" ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا مع نوح وُكَلاءَ كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً
}. الخامس: أنها منصوبةٌ على النداء، أي: يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في "تتَّخذوا" وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يَلْزَمُ، وإن كان مكيٌّ قد منع فإنه قال: "فأمَّا مَنْ قرأ "يتَّخذوا" بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ". وليس كما زعم، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإنسانَ شخصاً ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول: "يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا" و "يا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت".
وقرأت فرقةٌ "ذُرِّيَّةُ" بالرفع، وفيها وجهان، أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو ذريَّةُ، ذكره [أبو] البقاء وليس بواضحٍ. والثاني: أنه بدلٌ من واوِ "تتَّخذوا" قال ابن عطية: "ولا يجوز ذلك في القراءةِ بالتاءِ، لأنك لا تُبْدِلُ من ضميرٍ مخاطب، لو قلت: "ضربْتُك زيداً" على البدل لم يَجُزْ".
(9/316)
---(1/3771)
وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإطلاقَ وقال: "ينبغي التفصيلُ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز، وإن كان كلاًّ مِنْ كل، وأفاد الإحاطةَ نحو "جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم" جَوَّزه الأخفش والكوفيون. قال: "وهو الصحيحُ". قلت: وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه "ضَرَبْتُكَ زيداً" قد يَدْفع عنه هذا الردَّ.
وقال مكي: "ويجوزالرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في "يتَّخذوا" ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ مه الغائبُ، ويجوز الخفضُ على البدل من بني إسرائيل". قلت: أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرشد عليه في قوله "لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ" ما وَرَدَ على ابن عطية، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالاً يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية/.
قوله تعالى: {مَنْ حَمَلْنَا}: يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً.
* { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }
قوله: {وَقَضَيْنَآ} "قَضَى" يتعدَّى بنفسِه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} وإنما تَعَدَّى هنا بـ "إلى" لتضمُّنه معنى: أَنْفَذْنَا وأَوْحَيْنا، أي: وأَنْفَذْنا إليهم بالقضاءِ المحتومِ. ومتعلِّقُ القضاءِ محذوفٌ، أي: بفسادِهم. وقوله: "لَتُفْسِدُنَّ" جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لتفسِدَنَّ، وهذا القسمُ مؤكدٌ لمتعلَّق القضاء. ويجوز أن يكونَ "لَتُفْسِدَنَّ" جواباً لقوله: "وقَضَيْنا" لأنه ضُمِّن معنى القسمِ، ومنه قولُهم: "قضاء الله لأفعلنَّ" فيُجْرُون القضاء والنَّذْرَ مُجْرى القسم فَيُتَلَقَّيان بما يُتَلَقَّى به القسمُ.
(9/317)
---(1/3772)
والعامَّةُ على توحيد "الكتاب" مُراداً به الجسنُ. وابنُ جبير وأبو العالية " في الكُتُب" على الجمع، جاؤوا به نَصَّاً في الجمع.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسر السينِ مضارعَ "أفسدَ"، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ. ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ، أي: لتُوقِعُنَّ الفساد. وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد "لَتُفْسَدُن" ببنائه للمفعولِ، أي: لَيُفْسِدَنَّكم غيرُكم: إمَّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التاء وضمِّ السين، أي: فَسَدْتُم بأنفسِكم.
قوله "مَرَّتَيْنِ" منصوبٌ على المصدر، والعاملُ فيه "لتُفْسِدُنَّ" لأنَّ التقديرَ: مرتين من الفساد.
قوله: "عُلُوَّاً" العامَّة على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو. وقرأ زيد بن عليٍّ "عِلِيَّاً" بكسرِهما والياءُ، والأصلُ الواو، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولاً المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو: عَتا عُتُوَّاً، والإعلالُ قليلٌ نحو {أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً} على أحدِ الوجهين كما سيأتي، وإنْ كان جمعاً فالكثيرُ الإعلالُ. نحو: "جِثِيَّاً" وشَذَّ: بَهْوٌ وبُهُوُّ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ، وقاسه الفراء.
* { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }
قوله تعالى: {وَعْد}: أي: مَوْْعُود، فهو مصدرٌ واقعق موقعَ مفعول، وتركه الزمخشري على حالِه، لكن بحذف مضاف، أي: وَعءدُ عقابِ أُوْلاهما. وقيل: الوَعْدُ بمعنى الوعيد. وقيل: بمعنى المَوْعِد الذي يُراد به الوقتَ. فهذه أربعةُ أوجهٍ. والضميرُ عائدٌ على المرتين.
قوله: "عِباداً" العامَّةُ على "عِباد" بزنة فِعال، وزيدُ بن علي والحسنُ "عبيداً" على فَعِيْل، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك.
(9/318)
---(1/3773)
قوله: "فجاسُوا" عطفٌ على "بَعَثْنا"، أي: تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا. والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ، أي: فَتَّشَ ونقَّبَ، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: "قَتَلُوا" قال حسان:
3026- ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ * فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ
وقال أبو زيد: "الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ طَلَبُ الطَّوْف بالليل". وقارب قطرب: "جاسُوا: نزلوا". وأنشد:
3027- فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً * وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا
وقيل: "جاسوا بمعنى داسوا"، وأنشد:
3028- إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ
وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. وقيل: الشيءِ باستقصاء. ويقال: "حاسُوا" بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال، وقرئ "فَجَوَّسُوا" بالجيم بزنة نُكِّسُوا.
قوله: "خلالَ" العامَّةُ على "خِلال" وهو محتملٌ لوجهين، أحدهما: أنه جمعُ خَلَل كجِبال في جَبَل، وجِمال في جَمَل. والثاني: أنه اسمٌٌ مفردٌ بمعنى وَسْط، ويدلُّ له قراءةُ الحسن "خَلَلَ الدِّيار". وقوله: "وكان وَعْداً"، أي: وكان الجَوْسُ، أو وكان وَعْدُ أُوْلاهما، أو وكان وَعْدُ عقابِهم.
* { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }
قوله تعالى: {الْكَرَّةَ}: مفعولُ "رَدَدْنا" وهي في الأصلِ مصدرُ كَرَّ يَكُرُّ، أي: رَجَعَ، ثم يُعَبَّر بها عن الدَّوْلَةِ والقَهْرِ.
قوله "عليهم" يجوز تعلُّقع بـ "رَدَدْنا"، أو بنفس/ الكَرَّة، لأنه يُقال: كَرَّ عليه فتتعدَّى بـ "على" ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من "الكَرَّة".
(9/319)
---(1/3774)
قوله: "نَفيراً" منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ، أحدها: أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل، أي: أكثر نافراً، أي: مَنْ يَنْفِرُ معكم. الثاني: أنه جمع نَفْرٍ نحو: عَبْد وعَبيد، قاله الزجاج، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء. الثالث: أنه مصدرٌ، أي: أكثرُ خروجاً إلى الغَزْو. قال الشاعر:
3029- فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ * وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا
والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، فقدَّره بعضُهم: أكثر نفيراً من أعدئكم، وقدَّره الزمخشري: أكثر نفيراً مِمَّا كنتم.
* { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }
قوله تعالى: {فَلَهَا}: في اللامِ أوجهٌ: أحدُها: أنها بمعنى "على"، أي فعليها كقوله:
3030- ...................... * فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ
أي: على اليدين. والثاني: أنها بمعنى إلى. قال الطبري: "أي/ فإليها تَرْجِعُ الإساءةُ". الثالث: أنها على بابها، وإنما أتى بها دونه "على" للمقابلة في قوله: "لأنفسِكم" فأتى بها ازْدِواجاً. وهذه اللامُ يجوز أن تتعلَّقَ بفعلٍ مقدرٍ كما تقدَّم في قولِ الطبريِّ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فلها الإساءةُ لا لغيرِها.
قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ}، أي: المرة الآخرة فَحُذِفَت "المرَّة" للدَّلالة عليها، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: بَعَثْناهم.
(9/320)
---(1/3775)
وقوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر "لِيَسُوْءَ" بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل. والفاعلُ: إمَّا اللهُ تعالى، وإمَّا الوعدُ، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النفيرُ. والكسائيُّ "لِنَسُوءَ" بنونِ العظمة، أي: لِنَسُوءَ نحن، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه "بَعَثْنا عباداً لنا" و "رَدَدْنا" و "أَمْدَدْنا"، وما بعده من قوله: "عُدْنا" و "جَعَلْنا".
وقرأ الباقون: "لِيَسُوْءُوا" مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ}. وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه، من بابِ "عندي درهمٌ ونصفُه".
وقرأ أُبَيٌّ "لِنَسُءَنْ" بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة، وهذا جوابٌ لـ "إذا"، ولكن على حَذْفِ الفاء، أي" فَلِنَسُوْءَنْ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ
}. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب "لَيَسُوْءَنَّ" و "وَلَنَسْءَنَّ" بالياء أو النون التي للعظمةِ، ونونِ التوكيدِ الشديدة، واللامِ التي للقسَمْ. وفي مصحف اُبَيّ "لِيَسُوْءُ" بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة، كقوله:
3031- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي * .......................
يريد: "كانوا". وقولِ الآخر:
3032- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا * ........................
يريد "جاعُوا"، فكذا هذه القراءةُ، أي: لِيَسُوْءُوا، كما في القراءةِ الشهيرة، فَحَذَفَ الوَاو.
(9/321)
---(1/3776)
وقرئ "لِيَسْءَ" بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها، أي: ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم، أو ليقبِّح الوعدُ، أو البعثُ. وفي مصحفِ أنس "وَجْهَكم" بالإفرادِ كقوله:
3033- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا * ..................
[وكقوله:]
3034- ........................ * في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا
[وكقوله:]
3035- ........................ * .......... وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
قوله: "ولِيَدْخُلُوا" مَنْ جَعَلَ الأولى لامَ "كي" كانت هذه أيضاً لامَ "كي" معطوفةً عليها، عَطْفَ علةٍ على أخرى، ومَنْ جَعَلَها لامَ أمرٍ كأُبَيِّ، أو لامَ قسمٍ كعليّ بن أبي طالب فاللامُ في "لِيَدْخُلوا" تحتمل وجهين: الأمرَ والتعليل، و {كَمَا دَخَلُوهُ} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميره، كما يقول سيبويه، أي: دخولاً كما دخلوه. و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرفُ زمانٍ، وتقدَّم/ الكلامُ عليها في براءة.
[قوله:] {مَا عَلَوْاْ} يجوز في "ما" أن تكونَ مفعولاً بها، أي: ليُهْلِكُوا الذي عَلَوه، وقيل: ليَهْدِمُوه كقوله:
3036- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ * يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ
ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي: مدةَ استعلائِهِم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو: هو يعطي ويمنع.
* { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }
قوله تعالى: {حَصِيراً}: يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى فاعِل، اي: حاصرةً لهم، مُحيطةً بهم، وعلى هذا فكان ينبغي أن يؤنَّثَ بالتاء كخبيرة. وأُجيب: بأنَّها على النسَب، أي ذات حَصْرٍ كقولِه: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي ذاتُ انفطارٍ. وقيل: الحَصِيْرُ: الحَبْسُ، قال لبيد:
3037- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ * جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ
(9/322)
---(1/3777)
وقال أبو البقاء: "لم يؤنِّثْه لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل" وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّ إلى أن تكونَ الصفةُ التي على فعيل إذا كانَتْ بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل يَلْزَمُ تأنيثه، وبمعنى مَفْعول يجب تذكيرُه، وما جاء شاذَّاً مِنَ النوعين يُؤَوَّل. وقيل: إنما لم يُؤَنَّثْ لأنَّ تأنيث "جهنَّم" مجازيٌّ، وقيل: لأنها في معنى السِّجْن والمَحْبَس، وقيل: لأنها بمعنى فِرَاش.
* { إِنَّ هَاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }
قوله تعالى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}: أي: للحالةِ أو للمِلَّة أو للطريقة. قال الزمخشري: "وأَيَّتَما قدَّرْتَ لم تَجِدْ مع الإثباتِ ذَوْقَ البلاغةِ الذي تجده مع الحذف؛ لِما في إبهام الموصوفِ بحذفِه مِنْ فخامةٍ تُفْقَدُ مع إيضاحِه".
* { وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
قوله تعالى: {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ عطفاً على "أنَّ " الأولى، أي: يُبَشِّرُ المؤمنين بشيئين: بأجرٍ كبيرٍ وبتعذيبِ أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يُصيبُ عَدُوَّك سُرورٌ لك. وقال الزمخشري: "ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخبر بأنَّ الذين".
(9/323)
---(1/3778)
قال الشيخ: "فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ". قلتُ: قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين، أحدُهما: أن يكونَ قولُه "ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخْبِرُ بأنَّ" أنه من باب الحذف، أي: حَذَف "ويُخْبِرُ" وأبقى معموله، وعلى هذا فيكون "أنَّ الذين" غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك، ويحتمل أن يكونَ قصدَه: أنه أُريد بالبِشارة مجَّدُ الإخبار سواءً كان بخيرٍ أو بِشَرّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز، أو استعمالاً للمشترك في معنييه، وفي المسألتين خلافٌ مشهور، وعلى هذا فيكون قولُه {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه.
* { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }
قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ}: في الباءين ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنهما متعلِّقان بالدعاءِ على بابهما نحو: "دَعَوْتُ بكذا" والمعنى: أنَّ الإنسانَ في حالِ ضَجَرِه قد يَدْعُو بالشرِّ ويُلِحُّ فيه، كما يَدْعُو ويُلِحُّ فيه.
والثاني: أنهما بمعنى "في" بمعنى أنَّ الإنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ. وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونض للسببِ، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يُساعده، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه.
* { وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }(1/3779)
(9/324)
---
قوله تعالى: {آيَتَيْنِ}: يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ، و {الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول، والتقدير: وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار، والمرادُ بالآيتين: إمَّا الشمسُ والقمرُ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا، وهذا على هذا، ويجوز أنْ يكونَ "آيَتَيْن" هو الثاني، و {الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} هما الأول. ثم فيه احتمالان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ:/ إمَّا من الأولِ، أي: نَيَّرَي الليل والنهار، وهما القمرُ والشمسُ، وإمَّا من الثاني، أي: ذَوِي آيتين. والثاني: أنه لا حَذْفَ، وأنهما علامتان في أنفسِهما، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ. قال أبو البقاء: "فلذلك أضافَ في موضعٍ، وَوَصف في آخر. قال أبو البقاء: "فلذلك أضافَ في موضعٍ، ووَصَف في آخر" يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه {آيَةَ الْلَّيْلِ} و {الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه: "وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين". هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جَعَلْناه بمعنى "خَلَقْنا" هذا كلُّه إذا جَعَلْما الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جَعَلْناه بمعنى "خَلَقْنا" كان "آيتين" حالاً، وتكونُ حالاً مقدرة.
واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ "جَعَلَ" بمعنى صَيَّر قال: "لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ، ثم انتقل عنها إلى أخرى".
قوله: "مُبْصِرَةً" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مِنْ الإسنادِ المجازيِّ، لأن الإبصارَ فيها لأهلِها، كقولِه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} لمَّا كانت سبباً للإبْصار. وقيل: "مُبْصِرة": مضيئةً، وقيل: هي من بابِ اَفْعَل، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم: "أَضْعَفَ الرجلُ"، أي: ضَعُفَتْ ماشِيتُه، و "أَجْبن" إذا كان أهلُه جبناء، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء.
(9/325)
---(1/3780)
وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ "مَبْصَرة" بفتح الميم والصاد، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنةِ نحو: "مَذْأَبَة".
قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية. وكذلك {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ} والثاني: -وهو بعيد- أنه منصوبٌ نَسَقاً على "الحِسابِ"، أي: لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً، ويكون "فَصَّلْناه" على هذا صفةً.
وقرئ "في عُنْقِه" وهو تخفيفٌ شائعٌ.
* { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }
قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ}: العامَّةُ على "نُخْرِجُ" بنونِ العظمة مضارع "اَخْرَجَ"، و "كتاباً" فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من المفعول المحذوف، إذ التقديرُ: ونُخْرِجُه إليه كتاباً، ونُخْرِجُ الطائرَ.
ورُوِي عن أبي جعفر: "يُخْرَجُ" مبنيَّاً للمفعول، "كتاباً" نصبٌ على الحال، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ، وعنه أنَّه رَفَع "كتاباً". وخُرِّج على أنَّه رَفَع "كتاباً". وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقةٌ.
وقرأ الحسن: "ويَخْرُجُ" بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ "خَرَجَ"، "كتابٌ" فاعلٌ به، وابن محيصن ومجاهد كذلك، إلا أنهما نَصَبا "كتاباً" على الحال، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ، أي: ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ. وقرئ "ويُخْرِجُ" بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ "اَخْرَجَ"، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى، "كتاباً" مفعولٌ.
قوله: "يَلْقَاْه" صفةٌ لـ "كتاباً"، و "مَنْشُوراً" حالٌ من هاء "يَلْقاه". وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب. وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه.
(9/326)(1/3781)
---
وقرأ ابنُ عامر "يُلَقَّاه" بضمِّ بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارعَ "لَقَّى" بالتشديد، والباقون: بالفتح والسكونِ والتخفيف مضارع لَقِي.
* { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }
قوله تعالى: {اقْرَأْ}: على إضمارِ القولِ، أي: يُقال له: اقرأْ، وهذا القولُ: إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله.
قوله/ {كَفَى بِنَفْسِكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ، المشهورُ عند المُعْرِبين: أنَّ "كفى" فعلٌ ماضٍ، والفاعلُ هو المجرورُ بالياء، وهي فيه مزيدةٌ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع، كقوله:
3038- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه * كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقولِ الآخر:
3039- ......................... * كَفَى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا
وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه، وإن كان مجروراً كقوله: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} و {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ. أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ، و "كفى" على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ، أي: اكْتَفِ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ "كَفَى" علاماتِ الأفعالِ. الثالث: أنَّ فاعلَ "كَفَى" ضميرٌ يعودُ على الاكتفاء، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى. و "اليومَ" نصبٌ بـ "كفى".
(9/327)
---(1/3782)
قوله: "حَسِيْبا" فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: "وهو بمعنى حاسِب، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها، وصَرِيْم بمعنى صارِم، ذكرهما سيبويه، و "على" متعلقةٌ به مِنْ قولك: حَسِب عيله كذا، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد، فعُدِّي بـ "على" لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه. فإن قلت: لِمَ ذَكَرَ "حسيباً"؟ قلت: لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل: كفى بنفسِك رجلاً حسيباً، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ، كما يقال: ثلاثة أنفس". قلت: ومنه قولُ الشاعر:
3040- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * لقد جارَ الزمانُ علي عيالي
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، وذُكِرَ لِما تقدَّم. وقيل: حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى: مُخالِط ومُجالس.
* { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }
قوله تعالى: {أَمَرْنَا}: قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلأٍ، حاصلُه: أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه، وقدَّر متعلِّق الأمرِ: الفسق، أي: أَمَرْناهم بالفسق قال: "أي: أَمَرْناهم بالفِسْق، فعملوا، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم: افْسُقوا، وهذا لا يكونُ، فبقي أن يكونَ مجازاً. ووجهُ المجازِ: أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً، فجهلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا".
(9/328)
---(1/3783)
ثم قال: "فإنْ قلت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه: أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا. قلت: لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ "فَفَسَقُوا" يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال: "أَمَرْتُه فَقام"، و "أَمَرْتُه فعصاني" أو "فلم يمتثلْ" لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به، فكأنه يقول: كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ، كما أنَّ مَنْ يقول: ["فلان] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع" لا يَقْصِدُ مفعولاً. فإن قلت: هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد: أَمَرْناهم بالخيرِ، قلت: لأنَّ قوله "فَفَسَقوا" يدافعه، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه، ونظيرُ "أمر": "شاء" في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه. تقول: لو شاءَ لأحسنَ إليك، ولو شاءَ لأساءَ إليك، تريد: لو شاء الإحسانَ، ولو شاء الإساءةَ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ، وقلت: قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنشدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ، لم تكنْ على سَدادٍ".
(9/329)
---(1/3784)
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال: "أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً، وأمَّا قولُه: "لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ" فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه. وقوله: "فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ" إلى "عِلْم/ الغيب" فنقول: حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: ما سَكَنَ وتحرَّك، وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبردَ، وقول الشاعر:
3041- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً * أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ * أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أي: وأَجْتَنِبُ الشرَّ، وتقول: "أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ" فليس المعنى: أمرتُه بعدم الإحسانِ، بل المعنى: أَمَرْتُه بالإحسانِ فلم يُحْسِنْ، والآيةُ من هذا القبيل، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره، وكذلك "أَمَرْتُه فأساء إليَّ" ليس المعنى: أَمَرْتُه بالإحسان. وقوله: "ولا يَلْزم هذا قولَهم: "أَمَرْتُه فعصاني". نقول: بل يَلْزَمُ. وقوله: "لأنَّ ذلك منافٍ"، أي: لأنَّ العِصْيانَ منافٍ. وهو كلامٌ صحيح. وقوله: "فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ" لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض، كما بَيَّنَّا. وقوله: "لا يَنْوِي مأموراً به" لا يُسَلَّم. وقوله: "لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه. وقولُه: "ونظيرُ "أمر" "شاء" ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ "أمر" كَثُر التصريحُ به. قال الله [تعالى]: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ} {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ إِيَّاهُ} {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَاذَآ} وقال الشاعر:
(9/330)
---(1/3785)
3042- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به * ...............................
قلت: والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ.
والوجه الثاني: أنَّ "أَمَرْنا" بمعنى كَثَّرْنا، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال: "وفسَّرَ بعضُهم "أَمَرْنا" بـ "كَثَّرْنا"، وجَعَلَه من بابِ: فَعَّلْتُه فَفَعَلَ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر. وفي الحديثِ: "خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة"، أي: كثيرةُ النِّتاج". قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ، يقال: أَمِر القومُ، وأَمَرهم اللهُ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة، وقال أبو علي: "الجيِّد في "أَمَرْنا" أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا".
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره. يقال: كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً". ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المخنلفةِ؛ إذ يُقال: أَمِر القومُ كَثُروا، وأَمَرَهم الله كثَّرهم، وهو من بابِ المطاوعة: أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك: شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ: "أَمِرْنا" بكسر الميم بمعنى "أَمَرْنا" بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال: "أَمَرَ اللهُ مالَه، وأَمِرَه" بفتح الميم وكسرِها، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في "لوامِحه" فكيف تُرَدُّ؟
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين "آمَرْنا" بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هذه قراؤة عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ، واختارها يعقوبُ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
(9/331)
---(1/3786)
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: "أمَّرْنا" بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم اُمَراءَ، واللازمُ من ذلك "أُمِّر". قال الفارسيُّ، "لا وجهَ لكون "أَمَّرْنا"/ من الإمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة". وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم.
* { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا}: "كم" نصبٌ بأَهْلكنا، و {مِنَ الْقُرُونِ} تمييزٌ لـ "كم"، و {مِن بَعْدِ نُوحٍ}: "مِنْ" لابتداء الغاية، والأُوْلى فلذلك متعلَّقُها. وقال الحوفي: "الثانية بدلٌ مِن الأولى، وليس كذلك لاختلاف معنييهما. والباءُ بعد "كَفَى" تقدَّم الكلامُ عليها. وقال ابن عطية: "إنما يُجاءُ بهذه الباءِ في موضعِ مَدْحٍ أو ذم". والباء في "بذنوب" متعلقةٌ بـ "خبيراً"، وعَلَّقها الحوفيُّ بـ "كَفَى". قال الشيخ: "وهو وهمٌ". قلت: إنما جَعَلَه وهماً لأنه لا يَتَعَدَّى بالباء، ولا يليق به المعنى.
* { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً }
(9/332)
---(1/3787)
قوله تعالى: {مَّن كَانَ}: "مَنْ" شرطيةٌ، و "عَجََّلْنا" جوابُه، و "ما يشاء" مفعولُه، و "لمن نريد" بدلُ بعضٍ من كل، من الضمير في "له" بإعادةِ العاملِ، و "لمن نريد" تقديرُه: لمَنْ نريدُ تعجيلَه له.
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} "جَعَلَ" هنا تصييرية.
قوله: "يَصْلاها" الجملةُ حالٌ: إمَّا من الضمير في "له" وإمَّا مِنْ "جهنَّم"، و "مَذْمُوماً" حالٌ مِنْ فاعلِ "يَصْلاها". قيل: وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل: مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه. وقيل: بل الصل: مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق.
* { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً }
قوله تعالى: {سَعْيَهَا}: فيه وجهان، أحدُهُما: أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى: وعَمِل لها عملَها. والثاني: أنه مصدرٌ، و "لها"، أي: مِنْ أجلِها.
قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل "سعى".
* { كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلااءِ وَهَاؤُلااءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً }
قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلااءِ}: "كُلاًّ" منصوب بـ "نُمِدُّ" و "هؤلاء" بدلٌ، "وهؤلاء" عطفٌ عليه، أي: كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا تقديرٌ جيد. وقال الزمخشري في تقديرِه: "كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ". قال الشيخ: "كذا قَدَّره الزمخشريُّ، وأعربوا "هؤلاء" بدلاً مِنْ "كُلاًّ" ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلاً مِنْ "كل" على تقدير: كلَّ واحد، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض، فينبغي أن يكونض التقدير: كلَّ الفريقين.
و {مِنْ عَطَآءِ} متعلقٌ بـ "نُمِدُّ". والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول.
(9/333)
---(1/3788)
والمَحْظور: الممنوعُ، وأصله مِن الحَظْر وهو: جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة، والحَظيرة: ما يُعْمَل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم، والمُحْتَظِر: مَنْ يعمل الحظيرة.
* { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }
قوله تعالى: {كَيْفَ فَضَّلْنَا}: "كيف" نصبٌ: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلِّقَةٌ ـ "انظرْ" بمعنى فَكِّرْ، أو بمعنى أبصرْ.
قوله: "وأكثر تَفْصيلاً"، أي: من درجاتِ الدنيا، ومِنْ تفضيلِ الدنيا.
* { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }
قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ}: يجوز أن تكونَ على بابها، فينتصِبَ ما بعدها على الحال، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى "صار" فينتصبَ على الخبرية، وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وأنشدوا في ذلك:
3043- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ * ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ
من دون أن تلتقي الأَرْكابُ * ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ
أي: ويَصير. والبصريون لا يَقيسونن هذا، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم: "شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ".
* { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }
(9/334)
---(1/3789)
قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ إِيَّاهُ}: يجوز أَنْ تكونَ "أنْ" مفسِّرةً؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول، و "لا" نافيةٌ، أي: بأنْ لا، ويجوزُ أن تكونَ المخففةَ، واسمُها ضميرُ الشأن، و "لا" ناهيةٌ أيضاً، والجملةُ في مثل هذا الإشكالِ قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} وقوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ} لكونِه دعاءً وهو طَلَبٌ أيضاً، ويجوز أَنْ تكونَ الناصبة و "لا" زائدة. قال أبو البقاء: ويجوز أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ، [أي:] أَلْزَمَ ربُّك عبادَته و "لا" زائدةٌ". قال الشيخ: "وهذا وهمٌ لدخولِ "إلا" على مفعولِ "تَعْبدوا" فَلَزِم أن يكونَ نَفْياًً أو نهياً".
وقرأ الجمهور "قَضَى" فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعِها الأصلي: قال ابنُ عطية: "ويكون الضمير في "تَعْبُدوا" للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ" وقيل: هي بمعنى أَمَر. وقيل: بمعنى أَوْحَى، وقيل: بمعنى حَكَم، وقيل: بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم.
وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل "وقضاء"/ اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و {أَلاَّ تَعْبُدُوااْ} خبرُه.
قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قد تقدَّم نظيرُه في البقرة. وقال الحوفي: :الباءُ متعلقةٌ بـ "قضى"، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: واَوْصى بالوالدين إحساناً، وإحساناً مصدر، أي: يُحْسِنون بالوالدين إحساناً".
وقال الواحديُّ: "الباءُ مِنْ صلة الإحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول: بزيدٍ فانْزِلْ". وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال: "لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه". قلت: والذي ينبغي أن يُقال: إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين.
(9/335)
---(1/3790)
وقال ابنُ عطية: "قوله وبالوالدَيْن إحساناً عطف على "أنْ" الأولى، أي: أَمَر اللهُ أَنْ لا تعبدوا إلا إياه، وأن تُحْسِنوا بالوالدَيْن إحساناً". واختار الشيخُ أَنْ يكون "إحساناً" مصدراً واقعاً موقعَ الفعلِ، وأنَّ "أنْ" مفسرةٌ، و "لا" ناهيةٌ. قال: فيكون قد عَطَفَ ما هو بمعنى الأمرِ على نَهْيٍ كقولِه:
3044- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ * .......................
وكأنه ضُمِّن "أَحْسَن" لمعنى "لَطُف" فتعدَّى تعديتَه.
قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخَوان "يَبْلُغانِّ" بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ، أحدها: أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما، و "أَحَدُهما" بدلٌ منه، و "أو كِلاهما" عطفٌ عليه. وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه. واشتشكله بعضُهم بأنَّ قولَه "أحدُهما" بدلُ بعضٍ مِنْ كل، لا كلٍّ من كل، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك "أو كِلاهما" عطفٌ على البدلِ، فيكونُ بدلاً، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية. لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ "كِلاهما" فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه.
قلت: هذا معنى قولِ الشيخِ. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً. وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ "وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ:
3045- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ * ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
(9/336)
---(1/3791)
إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال: "أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله: "وكنت...." فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو، وأيضاً فشرطُه: ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو "كلاهما" فليس من البدلِ المقسِّم". ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله.
الثاني: أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةِ و "أحدُهما" فاعلٌ بالفعلِ قبلَه، و "أو كلاهما" عطفٌ عليه. وقد رُدَّ هذا الزجهُ: بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو: قاما أخواك، أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو: "قاما زيد وعمرو"، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِ سماعاً كقوله:
3046- ....................... * وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم
والفعلُ هنا مسندٌ إلى "أحدُهما" وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ.
الثالث: نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/ "كلاهما" توكيدٌ، وهذا لا بدَّ من إصلاحشه بزيادةوٍ، وهو أن يُجْعَلَ "أحدُهما" بدلَ بعضٍ من كل، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع "كلاهما" توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه: أو يَبْلُغا كلاهما، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاء التوكيد، وفيها خلافٌ، أجازها الخليل وسيبويه نحو: "مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما" بالرفع والنصب، وفالرفعُ على تقديرِ: هما أنفسُهما، والنصبُ على تقديرِ أَعْيِيهما أنفسَهما، ولكنْ في هذا نظرٌ: من حيث إن الممنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
(9/337)
---(1/3792)
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعَ التوكيدِ فقال: فإنْ قلت: لو قيل: "إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما" كان "كلاهما" توكيداً لا بدلً، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمِه، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه". قلت: يعني أنَّ "أحدُهما: لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.
ثم قال: "فإنْ قلتَ: ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت: لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل: "كلاهما" فحسبُ، فلمَّا قيل: "أحدهما أو كلاهما" عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول".
الرابع: أَنْ يرتفعَ "كلاهما" بفعلٍ مقدَّر تقديرُه: أو يبلغُ كلاهما، ويكون "إحداهما" بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل. والمعنى: إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما.
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ، و "إن ما": هي "إنْ" الشرطية زِيْدَتْ عليها "ما" توكيداً، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه، وهو إدغامٌ واجب. قال الزمخشري: "هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها "ما" توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون، ولو أُفْرِدَتْ "إنْ" لم يَصِحُّ دخولُها، لا تقول: إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ، ولكن: إمَّا تُكْرِمنَّه.
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبوزيهِ على خلافهِ، قال سيبويه: "وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ بـ "ما". قال الشيخ: "يعني مع النون وعَدَمِها". وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإتيانُ بها بعد "أمَّا"، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك. وقوله بعد ذلك "كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ بـ "ما"، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها.
(9/338)
---(1/3793)
و "عندك" ظرفٌ لـ "يَبْلُغَنَّ" و "كِلا" مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً: فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً، ووزنُها على فِعْل كـ "مِعَى" وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في "كِلْتا" مؤنثَ "كِلا" هذا هو المشهور. وقيل: ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ. وقال الكوفيون - وتبعهم السهليليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله:
3047- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه * .......................
فَنَطَق بمفرِدها-: هي مثنَّاة لفظاً، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف "الزيدان"، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة.
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابض المثنى، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثن مطلقاً فيقولون: رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك، وكونُها جَرضتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في "شرح التسهيل".
ومن أحكامِها: أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو: "كِلا الرجلين"، أو معنىً لا لفظاً نحو:، "كِلانا"، ولا تَضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو: "كِلا زيد وعمرو" إلا في ضرورةٍ كقوله:
3048- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به * على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ
وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثميةُ إلا في ضرورةٍ كقوله:
3049- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى * وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو: كلاهما قائمٌ، وكلاهما ضربتُه، ويجوزُ في قليل: قائمان، وضربتُهما، اعتباراً بمعناها، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله:
(9/339)
---(1/3794)
3050- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما * قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو: كِلانا كفيلُ صاحبِهِ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى، ويُستعمل، ويُستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً. و "كلتا" في جميعِ ما ذُكِرَ كـ كِلا"، وتاؤُها مزيدةٌ، ووزنُها فِعْتَل. وقد رَدَّ عليه الناس، وله موضعٌ غيرُ هذا. والنسب إليها عند سيبويه: كِلْوِيّ كمذكَّرِها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين.
(9/340)
---(1/3795)
قوله: "أُفٍّ" "أُفّ" اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ باب أسماء الأفعال أوامرُ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي، وأقلُّ منه اسمُ المضارع كـ "أُفّ" وأَوَّه، أي: أتوجَّع، ووَيْ، أي: أَعْجَبُ. وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرَّمَّاني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطية لفظةً، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ: أ ُفُّ، أُفَّ، أُفِّ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه، أُفُ، أُفَ، أُفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أُفُّه أَفَّه أُفِّه، أفَّا من غير إمالة، وبالإِمالة المحضة، وبالإمالة بين بين، أُفُّو أُفِّي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ: بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه، إفَّا بالإمالة. وستٌ مع فتح الهمزة: أَفَّ أَفِّ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، أَفْ بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً، وتمامُ الأربعين "أَفاهْ" بهاء السكت. وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة، ومن كلامِ أهلِها، إلى تتبُّع كثيرٍ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ: "ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها" فذكرها، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ.
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء. وقرأ نافعٌ في روايةٍ: أُفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين، وابنُ عباس: "أفْ" بالسكون.
(9/341)
---(1/3796)
وقوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، أي: لا تَزْجُرْهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ، ومنه "النَّهْر" لظهوره. وقال الزمخشري: "النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ".
* { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }
قوله تعالى: {جَنَاحَ الذُّلِّ}: هذه استِعارةٌ بليغة، قيل: وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ المعنى: واخفِضْ لهما جناحَك كما قال: "واخفِضْ جناحَك للمؤمنين" فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ. والثاني: أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله:
3051- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ * إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما" انتهى. يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ، ثم استعار له جناحان، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح.
ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله:
3052- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني * صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْةٍ وقال له: أَعْطني شيئاً من ماء المَلام. فقال: حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ" يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك. وقال بعضهم:
3053- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى * فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
(9/342)
---(1/3797)
وقرأ العامَّةُ "الذُّلِّ" بضم الذَّال، وابن في آخرين بكسرها، وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ.
قوله: {مِنَ الرَّحْمَةِ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للتعليل فتتعلق بـ "اخفِضْ"، أي: اخفِضْ مِن أجل الرحمة. والثاني: أنها لبيانِ الجنس. قال ابنُ عطية: "أي: إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس". الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ "جَناح". الرابع: أنها لابتداءِ الغاية. قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي} في هذه الكافِ قولان، أحدهما: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، فقدَّره الحوفيُّ: "ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي". وقدَّره أبو البقاء: "رحمةً مثلَ رحمتِهما"، كأنه جعل التربيةَ رحمةً. الثاني: أنها للتعليل، أي: ارْحَمْهما لأجلِ تربيتهما كقولِه: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}.
* { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً }
قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ}: التَّبْذِيرُ: التفريق ومنه :البَذْرُ" لأنه يُفَرِّق في الأرض للزراعة. قال:
3054- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها * كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غَلَبَ في الإسرافِ في النفقةِ.
* { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً }
(9/343)
---(1/3798)
قوله تعالى: {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله، ناصبُه "تُعْرِضَنَّ" وهو مِنْ وَضْعِ المُسَبِّب موضعَ السببِ، وذلك أن الأصل: وإمَّا تُعْرِضَنَّ عنهم لإعسارِك. وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجوابِ الشرطِ، أي: فقل لهم قولاً سهلاً ابتغاء رحمةٍ. وردَّ عليه الشيخ: بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها نحو: "إن يَقَمْ زيدٌ عمراً فاضرِبْ" فإنْ حَذَفْتَ الفاءَ جاز عند سيبويهِ والكسائي نحو: "إنْ يَقُمْ زيدٌ عمراً يَضْرِبْ". فإن كان الاسمُ مرفوعاً نحو "إن تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ" جاز ذلك عند سيبويهِ على أنَّه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعده، أي: إنْ تَقُمْ يَقُمْ زيدٌ يقمْ. ومنع مِنْ ذلك الفراءُ وشيخُه.
وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك، لقولِه تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} الآية. لأنَّ "اليتيمَ" وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ.
الثاني: أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ "تُعْرِضَنَّ".
قوله: "تَرْجُوها" يجوز أن يكونَ/ صفة لـ "رحمةٍ"، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً بـ "تَرْجُوها"، أي: تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك، على المجاز.
قوله: "تَرْجُوها" يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "تُعْرِضَنَّ"، وأَنْ يكونَ صفةً لـ "رحمةٍ".
* { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }
قوله تعالى: {كُلَّ الْبَسْطِ}: نصبٌ على المصدرِ لإضافتِها إليه. و "فَتَقْعُدَ" نصبُه على جواب النهي. و "مَلُوماً": إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ، كما تقدَّم.
* { وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }
(9/344)
---(1/3799)
قوله تعالى: {خِطْئاً}: قرأ ابن ذكوان: "خَطَّأً" بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء.
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين: أحدهما: أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إذا لم يُصِبْ أيضاً، وأنشد:
3055- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ * خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب. واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا: لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا.
قلت: وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: "خَطِئ" إذا لَمْ يُصِبْ.
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل: قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً. قال أبو علي: "هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ، وإنْ كنَّا لم نجدْ "خاطَأَ" ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ "خاطَأَ" فَدَلَّنا عليه، ومنه قولُ الشاعر:
3056- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه * وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ
وقال الآخر:
3057- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه * وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذيم يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل.
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر: "لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً"، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً. قلت: قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ.
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً، إذا تَعَمَّد الكذبَ.
وقرأ الحسن: "خَطاء" بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر "أَخْطَأَ" كالعَطاء اسمٌ للإعطاء.
وقرأ أيضاً "خَطا" بالقصرِ، وأصلُه "خَطَأ" كقراءةِ ابن ذَكْوان، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا.
(9/345)
---(1/3800)
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك، إلا أنهما كسرا الخاء كـ "زِنَى" وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين، وأَخْطأ في الرأي، وقد يُقام كلٌّ منههام مقامَ الآخرَ.
وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ "خَطْئَاً" بالفتح والسكون والهمزِ، مصدرُ "خَطِئ" بالكسرِ.
وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ "تُقَتِّلوا"، و "خِشْية" بكسرِ الخاء.
* { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {الزِّنَى}: العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه لغةٌ في المقصور. والثاني: أنه مصدر زاني يُزاني، كقاتل يُقاتل قِتالاً؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق:
3058- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه * ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً وقول الآخر:
3059- كانت فريضةُ ما تقولُ كما * كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة.
قوله" {وَسَآءَ سَبِيلاً} تقدَّم نظيره. قال ابنُ عطيةَ: "وسبيلاً: نصبٌ على التمييز، أي: وساء سبيلاً سبيلُه". ورَدَّ الشيخ: هذا: بأنَّ قولَه "منصوبٌ على التمييز" ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميراً مُفَسَّراً بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه: ساء سبيلُه سبيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس.
* { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }
قوله تعالى: {إِلاَّ بِالحَقِّ}: أي: إلا بسببِ الحق، فيتعلَّقُ بـ {لاَ تَقْتُلُواْ} ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل {لاَ تَقْتُلُواْ} أو مِنْ مفعولِه، أو: لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ، ويجوز أن يكونَ نعتاً/ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا قَتْلاً ملتبساً بالحق.
(9/346)
---(1/3801)
قوله: "مَظْلُوماً" حالٌ مِنْ مرفوع "قُتِل".
قوله: {فَلاَ يُسْرِف} [قرأ] الأخَوان بالخطاب، على إرادةِ الوليِّ، وكان الوليُّ [يَقْتُل] الجماعةَ بالواحد، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً.
والباقون بالغَيْبَة، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب.
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه: {فَلاَ رَفَثَ} وقيل: "في" بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ}، أي: إنَّ الوليَّ، أو إنَّ السلطان، أو إنَّ القاتل، أي: أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة، أو إلى المقتولِ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق.
* { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }
قوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: إن كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده. والثاني: أن الضميرَ يعود على العهدِ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}.
* { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
قوله تعالى: {بِالقِسْطَاسِ}: قرأ الأخوانِ وحفصٌ بكسر القافِ هنا وفي سورة الشعراء بكسر القاف، والباقون بضمِّها فيهما، وهما لغتان مشهورتان، وهو القَرَسْطُون. وقيل: هو كل ميزان. قال ابن عطية: "واللفظةُ للمبالغة من القِسْط". ورَدَّه الشيخ باختلافِ المادتين، ثم قال: "إلا أَنْ يَدَّعيَ زيادةَ السين آخراً كقُدْْموس، وليس من مواضع زيادتها". ويقال بالسين والصاد. قال بعضُهم: هو روميٌّ معرَّبٌ.
والمَحْسُور: المنقطع السيرِ، حَسَرْتُ الدابة: قَطَعْتُ سيرضها، وحضسير: أي: كليل تعبانُ بمعنى مَحْسُور، والجمع" حَسْرى قال:
(9/347)
---(1/3802)
3060- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها * فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
وحَسَر عن هذا: كشف عنه، كقوله:
3061- ........... يَحْسِرُ الماءُ تارةً * .........................
قوله: "تأويلاً" منصوب على التفسير. والتأويلُ: المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ، أي: أحسن عاقبةً.
* { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ}: العامَّةُ على هذه القراءةِ، أي: لا تَتَّبِعْ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه، قال النابغة:
3062- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ * بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
وقال الكميت:
3063- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ * ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا
وقرأ زيدُ بن عليَ: "ولا تَقْفُو" بإثباتِ الواو، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ العلةِ جزماً لغةُ قوم، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله:
3064- ........................ * مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقرأ معاذ القارئ "ولا تَقُفْ" بزنةِ تَقُلْ، مِنْ قاف يَقُوف، أي: تَتَبَّع أيضاً، وفيه قولان: أحدُهما: أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو، والثاني -وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب، لكثرة الاستعمالين، ومثله: قَاع الفحلُ الناقةَ وقاعَها.
قوله: "والفُؤادَ" قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة. وتوجيهُها: أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد، يقال: فُؤَاد وفَآد، وأنكرها أبو حاتمٍ، أعني القراءةَ، وهو معذورٌ.
والباء في "به" متعلقةٌ بما تَعَلَّق به "لك" ولا تتعلَّق بـ "عِلْم" لأنه مصدر، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ.
قوله: "أولئك" إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله:
(9/348)
---(1/3803)
3065- ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى * والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
فـ "أولئك" يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع. واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإشارةِ به لغير العقلاءِ فقال: "وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد بـ "أولئك" لأنها حواسُّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ، وقد قال سيبويه -رحمه الله- في قوله {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} إنما قال "رأيتُهم" في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود -وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل- عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ. وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِ بـ "أولئك"، وأنشد هو والطبري:
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى * والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ
وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه "الأقوامِ". ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ.وأمَّا قولُه: إنَّ الرواية: "الأقوامِ" فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو "الأيَّام".
قوله: {كُلُّ أُولائِكَ} مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ "كان" خبرُه، وفي اسمِ "كان" وجهان، أحدثهما: أنه عائدٌ على "كل" باعتبارِ لفظِها، وكذا الضميرُ في
عنه"، و "عنه" متعلقٌ بـ "مَسْؤولاً" خبرُها. والثاني: أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي، وفي "عنه" يعودُ على "كل" وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل: كنتَ عنه مسؤولاً. وقال الزمخشريُّ: و "عنه" في موضع الرفع بالفاعلية/، أي: كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} انتهى. وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح.
(9/349)
---(1/3804)
وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه: بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه. وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ: يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حمى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً، فليس هو نظيرَ قولِه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على "كل" أو على القافي.
* { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }
قوله تعالى: {مَرَحاً}: العامَّةُ على فتحِ الراء وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، أي: مَرِحاً بكسر الراء، ويدلُّ عليه قراءةُ بعضِهم فيما حكاه يعقوبُ "مَرِحاً" بالكسر. الثاني: أنَّه حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا مَرَحٍ، الثالث: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.
والمَرَحُ: شِدَّةُ السرورِ والفرحِ. مَرِح يَمْرَح مَرَحاً فهو مَرِحٌ كفَرِح يَفْرَح فَرَحاً فهو فَرِحٌ.
قوله: "طُوْلاً" يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل "تَبْلُغ" أو مِنْ مفعولِه، أو مصدراً مِنْ معنى "تَبْلُغ" أو تمييزاً أو مفعولاً له. وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى.
وقرأ أبو الجرَّاح: "لن تَخْرُق" بضمِّ الراءِ، وأنكرها أبو حاتمٍ، وقال "لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ".
* { كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }
(9/350)
---(1/3805)
قوله تعالى: {كُلُّ ذالِكَ {كَانَ سَيِّئُهُ}: قرأ ابنُ عامرِ والكوفيون بضمِّ الهمزةِ والهاء، والتذكيرِ، وتَرْكِ التنوين. والباقون بفتح الهمزة وتاءِ التأنيث منصوبةً منونةً. فالقراءةُ الأُولى أشير إلى ضميرِ ما تقدَّم، ويؤيِّدها ما قرأ به عبدُ الله:"كلُّ ذلك مان سَيِّآته" بالجمعِ مضافاً للضمير، وقراءةُ اُبَيّ "خبيثُهُ" والمعنى: كلُّ ما تقدَّم ذِكْرُه ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ [عنه] كان سَيِّئُه -وهو ما نُهِيْتُمْ عنه خاصةً- أمراً مكروهاً. هذا أحسنُ ما يُقَدَّر في هذا المكان.
وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى: كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر: المأمورُ به، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه.
و "مكروهاً" خبر "كان"، وحُمِل الكلامُ كلُّه على لفظِ "كل" فلذلك ذكَّر الضميرَ في "سَيِّئُهُ"، والخبرُ وهو: مكروه.
وأمَّا قراءةُ الباقين: فتحتمل أن تقعَ الإشارةُ فيها بـ "ذلك" إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما: قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً. والثاني: أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي. و "سَيِّئَةً" خبرُ كان، وأُنِّثَ حضمْلاً على معنى "كُل"، ثم قال "مَكْروهاً" حَمْلاً على لفظها.
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو: أنَّ "السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ "سَيِّئة" ومَنْ قرأ "سَيِّئاً" ألا ترى أنَّك تقولُ: الزِّنَى سيئة، كما تقول: السرقةُ سيئةٌ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث".
(9/351)
---(1/3806)
وفي نَصْبِ "مكروهاً" أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ ثانٍ لـ "كان"، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ "سيئة". وضعِّف هذا: بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في {عِنْدَ رَبِّكَ} لوقوعِه صفةً لـ "سَيِّئة". الرابع: أنه نعتٌ لـ "سيئةٍ"، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ. وقد رُدَّ هذا: بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا، نحو: "الشمسُ طالعةٌ"، لا يجوز: "طالعٌ" إلا في ضرورةٍ كقوله:
3066- ....................... * ولا أرض أبقلَ إبقالها
وهذا عند غيرِ ابنِ كَيْسان، وأمَّا ابنُ كَيْسان فيُجيز في الكلام: "الشمسُ طَلَع، وطالعٌ".
وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله:
3067- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها
لو قال: فإنَّ الحَدَثان/ لصَحَّ من حيث المعنى، فَعَدَلَ عنه لِيَصِحَّ الوزنُُ.
وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً {كان سَيِّئاتٍ} بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ "كان"، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو.
* { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى}: مبتدأ أو خبر، و "ذلك" إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من التكاليفِ وهي أربعةٌ وعشرون نوعاً، أولُها قولُه: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً آخَرَ} وآخرُها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} {مِمَّآ أَوْحَى} "مِنْ" للتبعيضِ؛ لأنَّ هذه بعضُ ما أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه.
(9/352)
---(1/3807)
قوله: {مِنَ الْحِكْمَةِ} يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ: مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة، أو حالٌ من نفسِ الموصولِ. الثاني: أنه متعلق بأَوْحى، و "مِنْ" إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعضُ الحكمةِ وإمَّا للابتداءِ، وإمَّا للبيان. وحينئذٍ تتعلَّق بمحذوفٍ. الثالث: أنها مع مجرورِها بدلٌ مع مجرورِها بدلٌ مِنْ {مِمَّآ أَوْحَى}.
* { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }
قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}: ألفُ "أَصْفى" عن واوٍ، لأنَّه من صفا يَصْفو، وهو استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ.
قوله: "واتَّخَذَ" يجوز أن يكونَ معطوفاً على "أَصْفاكم" فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإنكار، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ، و "قد" مقدرةٌ عند قومٍ. و "اتَّخذ" يجوز أَنْتكونَ المتعديةَ لاثنين، فقال أبو البقاء: "إنَّ ثانيَهما محذوفٌ، أي: أولاداً، والمفعولُ الأولُ هو "إناثاً". وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعولُ الثاني هو {مِنَ الْمَلاائِكَةِ} قُدِّم على الأولِ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب، وما لا فلا. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} و {مِنَ الْمَلاائِكَةِ} متعلِّقٌ بـ "اتَّخذ" أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده.
* { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَاذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }
(9/353)
---(1/3808)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا}: العامَّةُ على تشديد الراء، وفي مفعول "صَرَّفْنا" وجهان، أحدُهما: أنه مذكورٌ، و "في" مزيدةٌ فيه، أي: ولقد صَرَّفْنا هذا القرآنَ، كقولِهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} ومثله:
3068- ................... * .... يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ
وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيا} أي: يَجْرَحْ عراقيبَها، وأَصْلح لي ذريتي. ورُدَّ هذا بأنَّ "في" لا تُزاد، وما ذُكِرَ متأول، وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى في الأحقاف.
الثاني: أنَّه محذوفٌ تقديرُه: ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره.
وقال الزمخشري في تقدير ذلك: "ويجوز أن يُراد بـ "هذا القرآن" إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه، والمعنى: ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى، وأوقَعْنا التصريفَ فيه، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد بـ {هَاذَا الْقُرْآنِ} التنزيلَ، ويريد: ولقد صَرَّفناه، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضميرَ لنه معلومٌ". قلت: وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ لأجلِه، فقدَّرَ المفعولَ خاصَّاً، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضميرُ الذي قدَّره في "صَرَّفْناه" بخلافِ تقديرِ غيرِه، فإنَّ جَعَلَه عامَّاً.
وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً، والمعنى: أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك، فالمفعولُ جبريل عليه السلام.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان. وقال ابنُ عطية: "أي: صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى".
(9/354)
---(1/3809)
قوله: "لِيَتَذَّكَّروا" متعلقٌ بـ "صَرَّفْنا". وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع "ذكر" من الذِّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال مشددةٌ، والأصلُ: يتذكَّروا، فأدغم التاءَ في الذال، وهو من الاعتبار والتدبُّر.
قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ}، أي: التصريفُ، و "نُفوراً" مفعولٌ ثانٍ.
* { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ}: الكافُ في موضعِ نصبٍ، وفيهما وجهان: أحدُهما: أنها متعلقةٌ بما تعلَّقَتْ به "مع" من الاستقرار، قاله الحوفي. والثاني: أنها/ نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: كوناً كقولهم قاله أبو البقاء.
وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ "يقولون" بالياءِ مِنْ تحت، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وكذا قولُه بعد هذا {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} قرأه بالخطابِ الأخَوان، والباقون بالغيب، فتحصَّل من مجموع الأمر أنَّ ابنَ كثير وحفصاً يَقْرآنهما بالغيب، وأن الأخوين قرآ بالخطاب فيهما، وأن الباقين قرؤوا بالغيب في الأول، وبالخطاب في الثاني.
فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه: حَمَل الأولَ على قولِهِ: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} وحَمَل الثاني عليه. وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحَمَل الثاني عليه. وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله "وما يزيدهم" والثاني التفت فيه إلى خطابهم.
قوله: "إذَنْ" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. قال الزمخشري: "وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو "لابتَغَوا" جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزارٌ لـ "لو". وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين.
* { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً }
(9/355)
---(1/3810)
قوله تعالى: {وَتَعَالَى}: عطفٌ على ما تضمَّنه المصدرُ، تقديرُه: تنزَّه وتعالى. و "عن" متعلقة به. أو بـ "سبحان" على الإعمال لأنَّ "عن" تعلَّقت به في قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} و "عُلُوّاً" مصدرٌ واقع موقعَ التعالي، كقولِه: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} في كونِه على غيرِ الصدرِ.
* { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
قوله تعالى : {تُسَبِّحُ}: قرأ أبو عمروٍ والأخَوان وحفصٌ بالتاء، والباقون بالياء مِنْ تحت، وهما واضحتان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ولوجودِ الفصلِ أيضاً.
وقال ابن عطية: "ثم أعاد على السمواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ"، وهذا بناءً منه على أنَّ "هُنَّ" مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زَعَمَ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإشارة بـ "أولئك" في قوله {كُلُّ أُولائِكَ} وقد تقدَّم. وقرأ عبدُ الله والأعمشُ "سبَّحَتْ" ماضياً بتاء التأنيث.
* { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً }
قوله تعالى: {مَّسْتُوراً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه على بابه بمعنى: مستور عن أعينِ الكفار فلا يَرَوْنه. وقيل: هو على النسب، أي: ذو سِتْرٍ كقولِهم: مكان مَهُول وجاريةٌ مَغْنُوجة، أي: ذو هَوْل وذات غُنْجٍ، ولا يُقال فيهما: هُلْتُ المكانَ ولا غَنَجْتُ الجارية. وقيل: هو وصفٌ على جهة المبالغة كقولهم: "شِعْرٌ شاعِر". ورُدَّ هذا: بأنَّ ذلك إنما يكون في اسمِ الفاعلِ ومِنْ لفظِ الأولِ.
(9/356)
---(1/3811)
والثاني: أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم: مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى: شائِم ويامِن، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق، وهذا قولُ الأخفش في آخرين.
* { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيا آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }
قوله تعالى: {وَحْدَهُ}: فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الحال، وإن كان معرفةً لفظاً، لأنه في قوةِ النكرة؛ إذ هو في معنى "منفرداً"، وهل هو مصدرٌ أو اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال، فـ "وَحْدَه" وُضِعَ موضعَ "إيحاد" و "إيحاد" وُضع موضعَ "مَوْحَد" وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدرٌ على حَذْف الزوائد، إذ يقال: أَوْحَدَه يُوْحِدُه إيحاداً، أو هو مصدرٌ بنفسِه لـ "وَحَد" ثلاثياً. قال الزمخشري: "وَحَدَ يَحِدُ وَحْداً وحِدَة نحو: وَعَد يَعِد وَعْداً وعِدضة، و "وَحْدَه" من باب: "رَجَع عَوْدَه على بَدْئه، و "افعَلْه جهدَك وطاقتَك" في أنه مصدرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحال، أصلُه يَحِدُ وَحْدَه، بمعنى واحداً". قلت: وقد عرفْتُ أن هذا ليس مذهبَ سيبويه.
والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قولُ يونس. واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة "وحده" -إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو: ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده" فمذهبُ سيبويه: أنه حالٌ من الفاعل، أي: مُوَحِّداً له بالضرب. ومذهبُ المبردِ: أنه يجوز أن يكونَ حالاً من المفعول. قال الشيخ: "فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير: وإذا ذكرْتَ ربَّك مُوَحِّداً لله، وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكونَ التقديرُ: مُوَحَّداً بالذِّكْر".
(9/357)
---(1/3812)
قوله: نُفوراً" فيه وجهان: أحدُهما: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى. والثاني: أنه حال مِنْ فاعل "وَلَّوا" وهو حينئذ جمع نافرٍ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس. والضميرُ في "وَلَّوا" الظاهر/ عودُه على الكفارِ. وقيل: يعود على الشياطين، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ.
* { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }
قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ}: متعلقٌ بـ "أَعْلَمُ". وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو: أنت أعلمُ به، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به، وما أجهلَه بك!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو: أنت أَكْسَى للفقراء. و "ما" بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض فكأنه قال: نحن أعلمُ بلالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به. قاله ابنُ عطية.
قوله: "به" فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري: "وبه في موضع الحالِ كما [تقول:] يستمعون بالهُزْر، أي: هازئين". الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث: أنَّهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم، قالهمل أبو البقاء. الرابع: قال الحوفيُّ: "لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإخبارَ عن الاستماعِ فقط، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهَّمَ المسموعِ دون هذا المقصد"، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء بـ "يستمعون".
(9/358)
---(1/3813)
قوله: "إذ يستمعون" فيه وجهان: أحدُهما: أنه معمولٌ لـ "أَعْلَمُ". قال الزمخشريُّ: "إذ يستمعون نصبٌ بـ "أَعْلَمُ"، أي: اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون، وبما يتناجَوْن به، إذ هم ذَوُو نجوى". والثاني: أنه منصوبٌ بـ "يَستمعون" الأولى. قال ابن عطية: "والعاملُ في "إذ"الأولى وفي المعطوف "يستمعون" الأول. وقال الحوفي: "فـ إذ الأولى تتعلق بـ "يستمعون" وكذا {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} لأنَّ المعنى: نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنما يستمعون لسَقْطِك، وتتبُّعِ عيبِك، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و "إلى".
قوله: "نَجْوى" يجوز أن يكونَ مصدراً من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حَذْفِ مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشريُّ. ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى. قاله أبو البقاء.
قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ مِنْ "إذ" الأولى في أحَد القولين، والقولُ الآخر: أنها معمولةٌ لـ "اذكُر" مقدراً.
قوله: "مَسْحوراً" الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من "السِّحْر" بكسرِ السين، أي: مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه. وقال أبو عبيدة: "معناه أن له سَحْراً" أي: رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ، فهو بشرٌ مثلُكم. وتقول العرب للجبان: "قد انتفخ سَحْره" بفتح السين، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب: مَسْحُور، ومُسْحضر. فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس:
3069- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ * ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ
أي: نُغَذَّى ونُعَلَّلُ. ومِن الثاني قول لبيد:
3070- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا * عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
(9/359)
---(1/3814)
ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى. قال ابن قتيبة: "لا أَدْري ما الذي حضمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ". قلت: وأيضاً فإن "السَّحْر" الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف "السَّحْر"، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه "انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ" لا يناسِبُ إلا "السِّحْر" بالكسرِ.
* { وَقَالُوااْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا}: قد تقدَّم خلافُ القراء في الاستفهامين كهذه الايةِ في سورة الرعد، وتحقيقُ ذلك. والعاملُ في "إذا" محذوفٌ تقديرُه: أنُبْعَثُ أو أنُحْشَرُ إذا كنَّا، دلَّ عليه "لمَبْعوثون"، ولا يعملُ فيها "مَبْعوثون" هذا؛ لأنَّ ما بعد "إنَّ" لا يعملُ فيما قبلها، وكذا ما بعدَ الاستهامِ لا يعملُ فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقديرِ الذي ذَكرْتُه تكون "إذا" متمحِّضةً للظرفيةِ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً فَيُقَدَّرُ العاملُ فيها جوابَها، تقديرُه: أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً نُبْعَثُ أو نُعادُ، ونحو ذلك، فهذا المحذوفُ جوابُ الشرطِ عند سيبويه والذي انصبَّ عليه/ الاستفهامُ عند يونس.
قوله: "ورُفاتاً" الرُّفات: ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ. وقال الفراء: "هو التراب". ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن "تُرابا وعظاماً". ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ، أي: كَسرَه. والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات.
قوله: "خَلْقاً" يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه، أي: نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً. والثاني: أنه في موضع الحالِ، أي: مَخْلوقين.
(9/360)
---(1/3815)
* { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً }
قوله تعالى: {الَّذِي فَطَرَكُمْ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوف، أي: الذي فطركم يعيدُكم. وهذا التقديرُ فيه مطابقةٌ بين السؤالِ والجوابِ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: مُعِيْدُكم. الذي فطركم. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر، أي: يعيدُكم الذي فطركم، ولهاذ صُرِّح بالفعل في نظيره عند قولِه: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
}. و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرفُ زمان ناصبُه "فَطَركم".
قوله: "فسَيُنْغِضُون"، أي: يُحَرِّكونها استهزاءً. يقال: أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها، أي: حَرَّكها إلى فوقُ، وإلى أسفلَ إنغاضاً، فهو مُنْغِضٌ، قال:
3071- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا * كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا
وقال آخر:
3072- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا
وقال أبو الهيثم: "إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ". قال ذو الرمة:
3073- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ * بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ
أي: لم تُحَرَّك، وأمَّا نَغَضَ ثلاثياً، يَنْغَضُ ويَنْغُضُ بالفتح والضم، فبمعنى تَحَرَّكـ لا يتعدَّى يقال: نَغَضَتْ سِنَّه، أي: تَحَرَّكت، تَنْغُضُ نَغْضاً ونُغوضاً. قال:
3074- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها
قوله: {عَسَى أَن يَكُونَ} يجوز أن تكونَ الناقصة، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام، أو لتضمُّنِه في قوله "مَبْعوثون"، و "أن يكونَ" خبرُها، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى "أنَّ" وما في حيِّزها، واسمُ "يكونَ" ضميرُ البعثِ كما تقدَّم.
(9/361)
---(1/3816)
وفي "قريباً" وجهان، أحدُهما: أنه خبر "كان" وهو وصفٌ على بابِه. والثاني: أنه ظرفٌ، أي: زماناً قريباً، وأن يكونَ" على هذا تامةٌ، أي: عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب.
* { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }
قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}: فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه بدلٌ من "قريباً"، إذا اَعْرَبْنا "قريباً" ظرفَ زمان كما تقدم. الثاني: أنه منصوبٌ بـ "يَكونَ" قاله أبو البقاء، وهذا مَنْ يُجيز إعمالَ الناقصةِ في الظرفِ، وإذا جَعَلْناها تامَّةً فهو معمولٌ لها عند الجميع. الثالث: أنه منصوبٌ بضميرِ المصدرِ الذي هو اسمُ "يكون" أي: عسى أن يكونَ العَوْدُ يوم يَدْعوكم. وقد منعه أبو البقاء قال: "لأنَّ الضميرَ لا يعمل" يعني عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فيُعملون ضميرَ المصدرِ كمُظْهِرِه فيقولون: مروري بزيدٍ حَسَنٌ، وهو بعمروٍ قبيحٌ" وعندهم متعلِّق بـ "هو" لأنَّه ضمير المرور، وأنشدوا قول زهير على ذلك:
3075- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ * وما هو عنها بالحديثِ المُؤَجَّمِ
فـ "هو" ضميرُ المصدرِ، وقد تَعَلَّق به الجارُّ بعده، والبصريون يُؤَوِّلونه. الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، أي: اذكُرْ يومَ يَدْعوكم. الخامس: أنه منصوبٌ بالبعثِ المقدَّر، قالهما أبو البقاء.
قوله: بحَمْدِه" فيه قولان، أحدُهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامِدِين، أي: منقادين طائعين. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ "يَدْعوكم" قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ.
قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ} "إنْ" نافيةٌ، وهي معلَِقَةٌ للظنِّ عن العمل، وقلَّ مِنْ يذكرُ "إنْ" النافيةَ، في أدواتِ تعليق هذا الباب. و "قليلاً" يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو لُبْثاً قليلاً.
(9/362)
---(1/3817)
* { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً }
قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي}: تقدَّم نظيرُه في إبراهيم.
قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر، وذلك أنَّ قولَه: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} وَقَعَ تفسيراً لقوله {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وبياناً لها، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ.
وقرأ طلحة "يَنْزِغ" بكسر الزاي وعما لغتان، كيَعرِشون ويَعْرُشون، قاله الزمخشري. قال الشيخ: "ولو مَثَّل بـ "يَنْطَح" و "يَنْطِح"/ كأنه يعني من حيث إن لامَ كلٍ منهما حرفُ حَلْقٍ، وليس بطائلٍ.
* { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}: في هذه الباءِ قولان، أظهرُهما: أنها تتعلَّقُ بـ "أَعْلَمُ" كما تَعَلَّقَتْ الاءُ بـ "أَعْلَمُ" قبلها، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تخصيصُ علمِه بمَنْ في السموات والأرض فقط. والثاني: أنها متعلِّقَةٌ بـ "يَعْلَمُ" مقدراً. قاله الفارسي محتجاً بأنه يَلْزَمُ من ذِكْرِ الشيءِ نَفْيُ الحكمِ عَمَّا عداه. وهذا هو الذي يقول الأصوليون: إنه مفهومُ اللقب، ولم يَقُلْ به إلا أبو بكر الدقاق في طائفةٍ قليلة.
(9/363)
---(1/3818)
قوله: "زَبُورا" قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ، أي: زَبُوراً من الزُّبُر، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأُطِلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ، كما يُطْلَقُ على بعضَ القرآن، ويجوزُ أَنْ يكونَ "زَبُور" عَلَماً، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} كانت لِلَمْحِ الأصلِ كعبَّاس والعبَّاس، وفَضْل والفضل.
* { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً }
قوله تعالى: {الَّذِينَ زَعَمْتُم}: مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى، أي: زَعَمْتوهم آلهةً، وحَذْفُهما اختصاراً جائزٌ، واقتصاراً فيه خلافٌ.
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }
قوله تعالى: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}: "أولئك" مبتدأٌ، وفي خبره وجهان، أظهرُهما: أنه الجملةُ مِنْ "يبتغون" ويكون تلموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمرادُ باسم الإشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله. والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم، ويكون العائدُ على "الذين" محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون.
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون، فمفعولُ "يَدْعون" محذوف.
(9/364)
---(1/3819)
والثاني: أن الخبرَ نفسُ الموصولِ، و "يَبْتَغُون" على هذا حالٌ مِنْ فاعل "يَدْعُون" أو بدلٌ منه. وقرأ العامَّةُ "يَدْعُون" بالغيبِ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو: هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم. وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءٍ في قراءة العامَّة.
قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في "أيُّ" هذه وجهان، أحدُهما: أنها استفهاميةٌ.
والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ. فقال الزمخشري: "وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو "يَبْتغون" و "أيُّ" موصولةٌ، أي: يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ، أو ضُمِّن [يَبْتَغُون] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون، فكأنه قيل: يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ". قلت: فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها، و "أَقْرَبُ" خبرُ "هو" واحتملت "أيُّ" حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً، وهو الأكثرُ فيها، وأن تكونَ مُعْرَبةً، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم. وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو "يَحْرُصون"، فيكون "أيُّهم" مبتدأً و "أقربُ" خبرَه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ "يَحْرِص" يتعدَّى بـ "على" قال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ
}. وقال أبو البقاء: "أيُّهم" مبتدأ، و "أقربُ" خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب بـ "يدْعُونَ"، ويجوز أن يكونَ "أيُّهم" بمعنى الذي، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في "يَدْعُوْن".
(9/365)
---(1/3820)
قال الشيخ: "علًّق "يَدْعُون" وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فَصَلَ بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة". قلت: أمَّا كونُ "يَدْعُون" لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور. وقال يونس: يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً، القلبيةِ وغيرِها. وأمَّا قولُه "فَضَل بالجملة الحالية" يعني بها "يَبْتَغُون" فَصَل بها بين "يَدْعون" الذي هو صلةُ "الذين" وبين معمولِه وهو {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ "يبتغون" حالاً، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول، وهذا قريب.
وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولةٍ بدلاً من واو "يَدْعُون" ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو "يَبْتَغون" وهو الظاهر.
وقال الحوفي: "أَيُّهُمْ أَقْرَبُ" ابتداءٌ وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكونَ "أَيُّهُمْ أَقْرَبُ"/ بدلاً من واو "يَبْتغون". قلت: فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو "ينظرون"، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى بـ "إلى"، وغن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى بـ "في"، فعلى التقديرين الجملةُ الاتسفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه.
(9/366)
---(1/3821)
وقال ابن عطية: "وأيُّهم ابتداءٌ، و "أقربُ" خبرُه، والتفدير: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الهطاب رضي الله عنه: "فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها"، أي: يتبارَوْن في القُرْبِ". قال الشيخ: "فَجَعَل المحذوفَ "نَظَرُهم ووَكْدُهم" وهذا مبتدأ، فإن جعلْتَ {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في موضعِ نصبٍ بـ "نَظَرُهم" بقي المبتدأ بلا خبر، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [هو] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب، وإنْ جَعَلْتَ التقدير: نَظَرُهم في أيهم أقربُ، أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق".
قلت: فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ "أيّ" استفهاماً. الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري. الثاني: أنها مُعَلَّقَةٌ لـ "يَنْظرون" مقدَّراً، لـ "يَدْعُون" كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها مُعَلِّقَةٌ لـ "يَنْظرون" مقدَّراً، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها مُعَلَّقةٌ لـ "نَظَرُهُمْ" كما قدَّره ابن عطية. واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً، الأول: البدلُ مِنْ واو "يَدْعُون" كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ واو "يَبْتَغون" كما قاله الجمهور.
* { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }
(9/367)
---(1/3822)
قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ}: "إن" نافيةٌ و "مِنْ" مزيدةٌ ف المبتدأ لاستغراقِ الجنس. وقال ابنُ عطية: "هي لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما قال الشيخ: "لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما، تُفَسّره كقوله: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ". ثم قال "ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: "وقيل: المرادُ الخصوصُ".
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا}.
والثاني: أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية، وأن يَقَعَ موقعَها "الذي" كقولِه: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}.
* { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ}: "أنْ" الأولى وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍ على اختلاف القولين؛ لأنها على حَذْفِ الجارِّ، أي: وما مَنَعَنا مِنْ إرسال الرسلِ بالآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين، أي: لو أَرْسلنا الآياتِ المقترحةَ لقريش لأُهْلِكوا عند تذكيبِهم كعادةِ مَنْ قبلَهم، لكنْ عَلِمَ الله أنه يُؤْمِنُ بعضُهم، ويكذِّبُ بعضُهم مَنْ يومن، فلذلك لم يُرْسِلِ الآياتِ لهذه المصلحةِ.
وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال: "تقديرُه: إلا إهلاكُ التكذيب، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإهلاك، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه.
(9/368)
---(1/3823)
قوله: "مُبْصِرَة" حالٌ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ، اي: هي، وهو إسنادٌ مجازيٌّ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها، ولكنها لمَّا كانت سبباً في الإبصار نُسِب إليها. وقرأ قومٌ بفتحٍ الصاد، مفعولٌ على الإسناد الحقيقي. وقتادة بفتح الميم والصاد، أي: مَحَلُّ إبصارٍ كقوله عليه السلام: "الولدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة" وكقوله:
3076- ....... والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ
أجرى هذه الأشياءَ مُجْرى الأمكنةِ نحو: أرضٌ مَسْبَعَة ومَذْأبَة.
قوله: {إِلاَّ تَخْوِيفاً} يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مُخَوِّفين أو من المفعولِ، أي: مُخَوِّفاً بها.
* { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً }
قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ}: العامَّة على نصبِها نَسَقاً على "الرؤيا"، و "الملعونةَ" نعت، قيل: هو مجازٌ؛ إذ المُراد: الملعونُ طاعِموها؛ لأنَّ الشجرةَ مِنْ رحمة الله، لأنها تخرجُ في أصلِ الجحيم. وزيد بن علي برفعِها على الابتداء. وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: محذوفٌ، أي: فتنة. والثاني: - قاله أبو البقاء- أنه ولُه {فِي القُرْآنِ} وليس بذاك.
قوله: "ونُخَوِّفُهم" قراءةُ العامَّةِ بنون العظمة. والأعمش بياء الغيبة.
* { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }
(9/369)
---(1/3824)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ {طِيناً}: فيه أوجهُ، أحدُها: أنه حالٌ من "لِمَنْ" فالعاملُ فيها "أَاَسْجُدُ"، أو مِنْ عائد هذا الموصولِ، أي: خلقَته طِيْناً، فالعاملُ فيها "خَلَقْتَ"، وجاز وقوعُ طين حالاً، وإن كان جامداً، لدلالتِه على الأصالةِ كأنه قال: متأصِّلاً من طين. الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ، أي: مِنْ طين، كما صَرَّح به في الآية الأخرى:/ {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الثالث: أن منتصبٌ على التمييز، قاله الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، ولا يظهرُ ذلك إذ لم يتقدَّم إيهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ.
* { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَاذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }
قوله تعالى: قَالَ {أَرَأَيْتَكَ}: قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام. وقال الزمخشري: "الكاف للخطاب، و "هذا" مفعول به، والمعنى: أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي، أي: فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه؟ فاختصر الكلامَ". وهذا قريبٌ من كلام الحوفي.
وقال ابنُ عطية: "والكافُ في "أَرَأَيْتُكَ" حرفُ خطابٍ لا موضعً لها من الإعراب، ومعنى "أَرَأَيْتَ" أتأمَّلْتَ ونحوه، كأنَّ المخاطِب يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [بعدُ]. وقال سيبويه: "وهي بمعنى أَخْبِرْني، ومَثَّل بقوله: "أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟" وقولُ سيبويهِ صحيحٌ، حيث يكون بعدها استفهامٌ كمثالِه، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ، وليست التي ذكر سيبويه". قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ، بل الآيةُ كمثالِه، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محفذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر، هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته؟
(9/370)
---(1/3825)
وقال الفراء: "الكافُ في محلِّ نصب، أي" أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك: أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ".
وقال أبو البقاء: "والمفعولُ الثاني محذوفٌ، تقديرُه: تفضيلَه أو تكريمه". قلت. وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام".
قال الشيخ: "ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً". قلت: يَرُدُّ ذلك التزانُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا.
قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وهذه قاعدةُ مَنْ ثُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، هذا كلُّه في حرفِ هذه السورةِ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه {لَوْلاا أَخَّرْتَنِيا} فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم.
قوله: "لأحْتضنِكَنَّ" جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام. ومعنى "لأحْتَنِكَنَّ" لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه. يقال: حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها، أي: فَعَل بها ذلك، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض: أكلَ نباتها قال:
3077- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ * جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ
واحتنكَتْ أموالَنا وحَلَّفَتْ
وحكى سيبويه: "أحْنَكُ الشاتَيْن، أي: آكَلُهما، أي: أكثرُهما أَكْلاً.
* { قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً }
(9/371)
---(1/3826)
قوله تعالى: {اذْهَبْ فَمَن}: تقدَّم أنَّ الباءَ تُدْغَمُ في الفاءِ في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمروٍ والكسائيِّ وحمزةَ في رواية خلاَّدٍ عنه بخلاف في قوله: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ
}. قوله: "جزاؤُكم" يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فغلَّب المخاطَب، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به "مَنْ" خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات.
قوله: "جَزاءً" في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ، الناصبُ له المصدرُ قبله، وهو مصدرٌ مبيِّن لنوعِ المصدرِ الأول. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ أيضاً لكن بمضمرٍ، أي: يُجازَوْن جزاءً. الثالث: أنه حالٌ موطِّئة كجاء زيد رجلاً صالحاً. الرابع: أنه تمييزٌ وهو غيرُ مُتَعَقَّل.
و "مَوْفُوراً" اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً، ومنه قولُ زهير:
3078- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ * يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا، ويُستعمل لازماً يقال: وَفَرَ المالُ.
* { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ}: جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه "اذهَبْ". و {مَنِ اسْتَطَعْتَ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم. والثاني: أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ بـ "استطعْتَ" قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ لأنَّ "اسْتَفْزِزْ" يطلبه مفعولاً به، فلا يُطقع عنه، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق.
(9/372)
---(1/3827)
والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال:
3079- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزِّه * ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة "فزَّاً". قال الشاعر:
3080- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ * خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ: القَطْعُ، يقال: تَفَزَّز الثوبُ، أي: تقطَّع.
قوله: "وأَجْلِبْ"، أي: اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال: أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ، أي: جَمَعَ عليه الجموعَ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: توعَّده بشرٍّ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: أعان، وأجلب، أي: صاح صِياحاً شديداً، ومنه الجَلَبَة، أي: الصِّياح.
قوله: "وَرَجِلِك" قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ، والباقون بسكونها، فقراءة حفصٍ "رَجِل" فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال: رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً، فيكون مثل: حَذِر وحَذُر، ونَدِس ونَدُس، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ. وقال ابن عطية: هي صفةٌ يقال: فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ، ومنه قولُ الشاعر:
3081- ................... * ...... رَجِلاً إلا بأصحابي
قلت: يشير إلى البيتِ المشهور وهو:
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي
أراد: فارساً ولا راجلاً.
وقال الزمخشريُّ: "على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: وجَمْعك الرَّجِلُ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ: حَذُر وحَذِر، ونَدُس ونَدِس، وأخواتٍ لهما".
وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ "رَجِل" بكسر الجيم أو ضمِّها، والمشهورُ: أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب. والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً.
وقرأ عكرمةُ "ورِجالك" جمع رَجِل بمعنى راجِل، أو جمع راجِل كقائم وقيام. وقُرِئ "ورُجَّالك" بضمِّ الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب.
(9/373)
---(1/3828)
والباء في "بخَيْلِك" يجوز أن تكونَ الحالية، أي: مصاحَباً بخيلك، وأن تكون مزيدةً كقوله:
3082- .......................... * .......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وقد تقدَّم في البقرة.
قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ} من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال: وما تَعِدُهم، بالتاء من فوق.
قوله: {إِلاَّ غُرُوراً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ، الأصل: إلا وَعْداً غروراً، فيجيء فيه ما في "رجلٌ عَدْلٌ"، أي: إلا وَعْداً ذا غرور، أو على المبالغة أو على: وعداً غارَّاً، ونسب الغرورَ إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساع، أي: ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه.
* { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً }
قوله تعالى: {إِلاَّ إِيَّاهُ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى.
* { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً }
قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ}: استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ. وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه، أي: أَنَجَوْتم فَأَمِنْتُمْ.
(9/374)
---(1/3829)
قوله: {جَانِبَ الْبَرِّ} فيه وجهان أظهرهما: أنه مفعولٌ به كقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف. و "بكم" يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: مصحوباً بكم، وأَنْ تكونَ للسببية. قيل: ولا يَلْزَمُ مِنْ خَسْفِه بسببهم أن يَهْلَكوا. وأُجيب بأنَّ المعنى: جانبَ البر الذي أنتم فيه فيلزم بخَسْفِه هلاكُهم، ولولا هذا التقديرُ لم يكنْ في التوعُّدِ به فائدةٌ.
قوله: {أَن يَخْسِفَ} "أو يُرْسِلَ" "أن يُعِيْدَكم" فَيُرْسِلَ" "فَيُغرْقكم" قرأ هذه [جميعَها] ينون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ، والباقون في قولِه {رَّبُّكُمُ} إلى آخر، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة.
قوله: "حاصِباً"، أي: ريجاً حاصِباً، ولم يؤنِّثْه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسَبِ، أي: ذاتَ حَصْبٍ. والحَصْبُ: الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار. قال الفررزدق:
3083- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم * حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
والحاصِبُ أيضاً: العارِضُ الذي يَرْمِي البَرَد.
* { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ}/: يجوز أَنْ تكونَ المتصلة، أي: أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أَنْ تكونَ المنقطعةَ، و {أَن يُعِيدَكُمْ} مفعولٌ به كـ {أَن يَخْسِفَ}.
قوله "تارةً" بمعنى مرةً وكَرَّة، فهي مصدرٌ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ. قال الشاعر:
3084- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً * فَيَبْدُة وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وألفُها تحتمل أن تكونَ عن واوٍ أو ياء. وقال الراغب: وهو فيما قيل: مِنْ تارَ الجُرْحُ: التأَمَ".
(9/375)
---(1/3830)
قوله: "قاصِفاً" القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً، يقال: قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً. قال أبو تمام:
3085- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ * عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتْمِ
فالمعنى: أنها لا تُلْفِي شيئاً إلا قَصَفَتْه وكَسَرَتْه. والثاني: أن يكون مِنْ قَصِفَ قاصراً، أي: صار له قَصِيف يقال: قَصِفَتِ الريحُ تَقْصِفُ، أي: صَوَّتَتْ. و {مِّنَ الرِّيحِ} نعت.
قوله: {بِمَا كَفَرْتُمْ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي، والباءُ للسببية، أي: بسببِ كفرَكم، أو بسبب الذي كفَرْتم به، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق.
وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد "فَتُغْرِقَكم" بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح. وفي كتاب الشيخ" "فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى "الريح". والحسنُ وأبو رجاء بياء الغيبة وفتح الغين وشدِّ الراء، عَدَّاه بالتضعيف والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب". قلت: وهذا: إمَّا سهوٌ، وإمَّا تصحيفٌ من النسَّاخ عليه؛ كيف يَسْتقيم أن يقولَ بتاءِ الخطاب وهو مسندٌ إلى ضمير الريح، وكأنه أراد بتاء التأنيث فسبقه قلمُه أو صَحَّف عليه غيرُه.
وقرأ العامَّة "الريحِ" بالإفراد، وأبو جعفر: "الرياح" بالجمع.
قوله: {بِهِ تَبِيعاً} يجوز في "به" أن يَتَعَلَّق بـ "تَجِدوا"، وأن يتعلَّق بتتبيع، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع. والتَّبِيْع: المطالِبُ بحقّ، المُلازِمُ، قال الشمَّاخ:
3086- ..................... * كما لاذَ الغريمُ من التَّبيعِ
وقال آخر:
3087- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْرنُهم فكأنَّها * ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ
(9/376)
---(1/3831)
* { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
قوله تعالى: {كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: عَدَّاه بالتضعيفِ، وهو مِنْ كَرُم بالضمِّ كشَرُف، وليس المرادُ من الكرمِ في المال.
* { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ "فَضَّلْناهم"، أي: فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو. قال ابن عطية في تقريره: "وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ. إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [يومئذٍ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان، لقولِهم: {يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً
}. الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ فيه اذكر، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية. قلت: وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ.
(9/377)
---(1/3832)
الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية، والخبرُ الجملةُ بعده. قال ابنُ عطية في تقريره: "ويَصِحُّ أَنْ يكونَ "يوم" منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلى قوله {وَمَن كَانَ}. قال الشيخ: "قوله منصوبٌ على البناء" كان ينبغي أن يقول: مبنيَّاً على الفتح، وقوله "لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن" ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يُجيزون بناءَه. وقوله: "والخير في التقسيم" إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء". قلت: الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به، أي: فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه.
الرابع: أنه منصوبٌ بقولِه "ثم لا تجدوا" قاله الزجَّاج. الخامس: أنه منصوبٌ بـ "يُعيدكم يومَ نَدْعو. السادس: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {وَلاَ يُظْلَمُونَ} بعده، أي: ولا يُظْلَمون يوم ندعو، قاله ابن عطية وأبو البقاء. السابع: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {مَتَى هُوَ} الثامن: أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} التاسع: أنه بدلٌ مِنْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل. العاشر: أنه مفعولٌ به بإضمار "اذكر"، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ.
وقرأ العامَّة "نَدْعو" بنون العظمة، ومجاهدٌ "يَدْعُو" بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو المَلَك. و "كلَّ" نصبٌ مفعولاً به على القراءتين.
(9/378)
---(1/3833)
وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه "يُدْعَة" مبنياً للمفعول، "كلُّ" مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ، وفيما نقله عنه غيرُه "يُدْعَو" بضمِّ الياء وفتح العين، بعدها واوٌ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: أن الأصلَ: يُدْعَوْن فَحُذِفَت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام: "لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا حتى تحابُّوا" وقوله:
3088- أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ * وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي
و "كلٌّ" مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ "يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ
". والتخريجُ الثاني: أنَّ الأصلَ "يُدْعَى" كما نَقَله عنه الدانيُّ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً، وهي لغةٌ لقومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أَفْعى وعَصا، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. و "كلُّ" مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا.
قوله: "بإمامِهم" يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء، أي: باسمِ إمامهم، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: نضدْعُوهم مصاحبين لكتابهم. والإمام: مَنْ يُقْتَدَى به. وقال الزمخشري" "ومن بِدَع التفاسير: أن الإمامَ جمع "أُمّ" وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين، وأن لا يُفْضَحَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى، وإظهارُ شرفِ الحسن والحسين، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى" قال: "وليت شعري أيهما أَبْدَعُ: أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟".
(9/379)
---(1/3834)
قلت: وهو معذورٌ لأن "أُمّ" لا يُجْمع على "إمام"، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله {ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وأَخْبرعنه كذلك نحو: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وفي ذلك غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه.
قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ} يجوز أن تكونَ شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهه بالشرط. وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فَأُفْرِد، وعلى المعنى ثانياً في قولِه: "فأولئك" فَجُمِع.
* { وَمَن كَانَ فِي هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَاذِهِ}: يجوز في "مَنْ" ما جاز في "مَنْ" قبلها. وأمال الأخَوان وأبو بكر "أعمى" في الموضعين من هذه السورة، وأبو عمروٍ أمال الأولَ دون الثاني، والباقون فتحوهما، فالإمالةُ لكونِهما من ذوات الياء، والتفخيمُ لأنه الأصل. وأمَّا أبو عمروٍ فإنه أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً، وأمَّا الثاني فإنه للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه "وأَضَلَّ" فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ "مِنْ" الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير.
قلت: كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا {وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ} مع التصريح بـ "مِنْ" فَلأَنْ يُميلوا "أَعْمى" مقدَّراً معه "مِن" أَوْلَى وأَحْرَى.
(9/380)
---(1/3835)
وأمَّا "أَعْمى" في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو، ولم يُمِلْه أبو بكر، وإن كان يُمليه هنا، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر. وقد فَرَّق بعضُهم: بأنَّ "أعمى" فيه طه مِنْ عَمَى البصرِ، وفي الإسراء مِنْ عَمَى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجَهْل فأُمِيلَ هنا، ولم يُمَلْ هناك للفرقِ بين المعنيين. قلت: والسؤال باقٍ؛/ إذ لقائلٍ أن يقولَ: فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ، ولو عُكِسَ الأمرُ كان الفارقُ قائماً.
* { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }
قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}: "إنْ" هذه فيها المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين: أنها مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين "إنْ" النافية، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى "ما" النافيةِ، واللامُ بمعنى "إلا". وضُمِّنَ "يَفْتِنُونَك" معنى يَصْرِفُونك" فلهذا عُدِّي بـ "عن" تقديرُه: لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم. و "لتفترِيَ" متعلِّقٌ بالفتنةِ.
قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ} "إذن" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها، و "لاتَّخذوك" جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: إذن واللهِ لاتَّخذوك، وهو مستقبلٌ في المعنى، لأنَّ "إذَنْ" تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ. وهذا كقولِه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} أي: ليَظَلُّنَّ. وقولُ الزمخشري: "أي: ولو اتَّبَعْتَ درادَهم لاتَّخذُوك" تفسيرُ معنى لاإعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ "لاتَّخَذُوك" جوابٌ لـ "لو" محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه.
* { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }
(9/381)
---(1/3836)
قوله تعالى: {تَرْكَنُ}: العامَّة على فتح الكاف مضارع رَكِنَ بالكسر، وقتادة وابنُ مُصَرِّف وابنُ أبي إسحاق "تَرْكُن" بالضمِّ مضارعَ رَكَنَ بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدَّم تحقيقه في أواخر هود.
وقوله: "شيئاً": منصوبٌ على المصدر، وصفتُه محذوفة، أي: شيئاً قليلاً من الرُّكون.
* { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }
قوله تعالى: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ}: قال الزمخشري: فإن قلت" كيف حقيقةُ هذا الكلام؟ قلت: أصلُه: لأَذَقْناك عذابَ الحياةِ وعذابَ المماتِ؛ لأنَّ العذابَ عذابان، عذابٌ في المماتِ وهو عذابُ القبرِ، وعذابٌ في حياةِ الآخرةِ وهو عذاب النار، والضِّعْفُ يُوصَفَ به، نحوَ قولِه تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} يعني عذاباً مُضاعَفاً، فكأنَّ أصلَ الكلامِ: لأَذَقْناك عذاباً ضِعْفاً في الحياة، وعذاباً ضِعْفاً في المَمَات، ثم حُذِف الموصوفُ، وأُقيمت الصفةُ مُقامه وهو الضَّعْف، ثم أُضِفَتِ الصفة إضافةَ الموصوف فقيل: ضِعْفَ الحياة، وضِعْفَ المماتِ، كما لو قيل: أليمَ الحياةِ، وأليم الممات". والكلامُ في "إذن" و "لأَذَقْناك" كما تقدَّم في نظيره.
* { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً }
(9/382)
---(1/3837)
قوله تعالى: {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ}: قرأ العامَّةُ برفع الفعل بعد "إذَنْ" ثابتَ النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامَّة. ورفعُهُ وعدمُ إعمالِ "إذن" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أنها توسَّطَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. قال الزمخشري: "فإن قلت" ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعةُ -يعني برفعِ الفعلِ- فقد عُطِف فيها الفعلُ على الفعلِ، وهو مرفوعٌ لوقوعِه خبرَ كاد، وخبرُ "كاد" واقعٌ موقعَ الاسم". قلت: فيكون "لا يَلْبِثُون" عطفاً على قولِه "لِيَسْتَفِزُّونك".
الثاني: أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: ووالله إذن لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون.
وقرأ اُبَيٌّ بحذفِ النون، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور، وبـ "أَنْ" مضمرةً بعدها من غيرِهم، وفي مصحف عبد الله "لا يَلْبَثُوا" بحذفِها. ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ولا جواباً ولا خبراً. قال الزمخشري: "وأمَّا قراءةُ اُبَيّ ففيها الجملةُ برأسها اليت هي: إذاً لا يَلْبثوا، عَطَفَ على جملة قوله {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ}.
وقرأ عطاء {لاَّ يَلَبَثُونَ} بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء، مشددةً مبنياً للمفعول، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد. وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ، جَعَلَه مبنياً للفاعل.
قوله: "خِلافَك" قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ: "خِلافَك" بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام. والقراءتان بمعنى واحدٍ. وأنشدوا في ذلك:
3089- عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما * بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْراً
وقال تعالى: {خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ} والمعنى: بعد خروجك. وكثُر إضافةُ قبل وبعد ونحوِهما إلى أسماءِ الأعيان على حَذْفِ مضافٍ، فيُقَدَّر من قولك: جاء زيدٌ قبل عمروٍ: أي: قبل مجيئِه.
(9/383)
---(1/3838)
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف، أي: لُبْثاً قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً.
* { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً }
قوله تعالى: {سُنَّةَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصبَ على المصدرِ المؤكَّد، أي: سنَّ الله ذلك سُنَّةَ، أو سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني: -قاله الفراء- أنه على إسقاطِ الخافضِ، أي: كسُنَّةِ اللهِ، وعلى هذا لا يُوقف على قولِه "إلا قليلاً". الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتبعْ سُنَّةَ.
* { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }
قوله تعالى: {لِدُلُوكِ}: في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى "بَعْد"، أي: بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ، ومثلُه قول متمم بن نويرة:
3090- فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً * لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً
ومثلُه قولُهم: "كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ". والثاني: أنها على بابها، أي: لأجلِ دُلُوك. قال الواحدي: "لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس".
والدُّلوك: مصدرُ دَلَكا الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: "واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها". قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه:
3091- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ * ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ
أي: غَرَبَتْ بَراحِ، وهي الشمسُ. وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة:
3092- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها * نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ
(9/384)
---(1/3839)
أي: الغارِبات: وقال الراغب: دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب، وهو مِنْ قولِهم: دَلَكْتُ الشمسَ: دفعتُها بالرَّاح، ومنه: دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ، ودَلَكْتُ الرجلَ: ماطَلْتُه، والدَّلُوك: ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ، والدَّلِيْكُ: طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر".
قوله: {إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ} في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ بـ أَقِمْ" فهي لانتهاءِ غايةِ الإقامةِ، وكذلك اللامُ في "لِدُلوك" متعلقةٌ به أيضاً. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الصلاة"، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإعرابَ.
والغَشَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد:
3093- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا * واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا
وقيل: هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه، وأصلُه من السَّيَلان: غَسَقَتِ العين، أي: سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال:
3094- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ * حتى إذا هَجَمَ الإظْلامُ والغَسَقُ
ويُقال: غَسَقَتِ العينُ: امتلأَتْ دَمْعاً، وغَسَقَ الجرحُ: امتلأَ دَماً، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ. والغاسِقُ في قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} قيل: المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ. وقيل: الليل. والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار. ويُقال: غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجَى، وغَبَشَ وأَغْبَشَ، نقله الفرَّاء.
(9/385)
---(1/3840)
قوله: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على "الصلاة"، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.
* { وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }
قوله تعالى: {وَمِنَ الْلَّيْلِ}: في "منْ" هذه وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بـ "تَهَجَّدْ"، أي: تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل، والثاني: أنها متعلقةٌ بـ بمحذوفٍ تقديرُه: وقُمْ قَوْمةً من الليل، أو اسهرْ من الليل، ذَكَرهما الحوفيُّ. وقال الزمخشري: "وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به" فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ، وإن أراد تفسيرَ الإعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفاً، وجَعْلُه "مِنْ" بمعنى لا يَقْتضي اسميَّتَها، بدليل أنَّ واوَ "مع" ايسَتْ اسماً بإجماعٍ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو "مع"./
والضميرُ في "به" الظاهرُ عَوْدُه على القرآنِ من حيث هو، لا بقيد إضافتِه إلى الفجر. والثاني: أنها تعودُ على الوقت المقدَّرِ، أي: وقُمْ وقتاً من الليل فتهَجَّدْ بذلك الوقتِ، فتكونُ الباءُ بمعنى "في".
(9/386)
---(1/3841)
قوله "نافِلَةً" فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مصدرٌ، أي: تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ. والثاني: أنها منصوبةٌ بـ "تَهَجَّدْ" لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ، فكأنه قيل: تنفَّل نافلة. والنَّافِلَةُ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحالِ، أي: صلاةَ نافِلَةٍ، قاله أبو البقاء وتكون حالاً من الهاء في "به" إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال: "ويجوز أن ينتصِبَ "نافلةً" بتهجَّدْ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى: صَلِّ به نافلةً، أي: صَلِّ نافِلَةً لك".
والتهَجُّدُ: تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ، وتَفَعَّل للسَّلْب نحو: تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ، وفي الحديث: "كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ". وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل: هو النوم. قال:
3095- وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي * ..............................
وقال آخر:
3096- ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ * ................................
وقال آخر:
3097- ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ * وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ
فَهُجُودٌ: نيامٌ، جمعُ "هاجِد" كساجِد وسُجود. وقيل: الهُجود: مشتركٌ بين النائِمِ والمُصَلِّي. قال ابن الأعرابي: "تَهَجَّدَ: صلَّى من الليل، وتَهَجَّدَ: نامَ"، وهو قول أبي عبيدةَ واللَّيْث.
قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً} في نصب "مَقاماً" أربعةُ أوزجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثُك في مَقام. الثاني: أن ينتصِبَ بمعنى "يَبْعَثُك" لأنه في معنى يُقيمك، يقال: أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه، بمعنىً فهو نحو: قعد جلوساً. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه مقدَّرٌ، أي: فيقوم مقاماً.
(9/387)
---(1/3842)
و "عَسَى" على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ التامَّةَ، فتكونَ مسندةً إلى "أنْ" وما في حَيِّزها إذ لو كانت ناقصةً على أَنْ يكونَ {أَن يَبْعَثَكَ} خبراً مقدماً، و "ربُّك" اسماً مؤخراً، لَزِمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصلُ بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولِها، فإنَّ "مَقاماً" على الأوجه الثلاثةِ الأُوَلِ منصوبٌ بـ "يَبْعَثُكَ" وهو صلةٌ لـ "أَنْ" فإذا جَعَلْتَ "رَبُّك" اسمَها كان أجنبياً من الصلة فلا يُفْصَلُ به، وإذا جَعَلْتَه فاعِلاً لم يكن أجنبياً فلا يُبالَى بالفصلِ به. وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ "مقاماً" معمولٌ لغير الصلة، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ}.
* { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً }
قوله تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ}: يحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ ظرفَ مكان وهو الظاهر. والعامَّةُ على ضم الميم فيهما لسَبْقهما فعلٌ رباعي. وقرأ قتادة وأبو حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة وحميد بفتحِ الميمِ فيهما: إمَّا لأنهما منصوبان بمقدَّرٍ موافقٍ لهما تقديره: فادْخُلْ مَدْخَلَ واخرُجْ مَخْرَج. وقد تقدَّم هذا مستوفى في قراءةِ نافع في سورة النساء، وأنه قَرَأ كذلك في سورة الحج.
ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافةِ الموصوف لصفته، لأنه يُوصف به مبالغةً.
قوله: "سُلْطاناً" هو المفعولُ الأول للجَعْلِ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره. و "نصيراً" يجوز أن يكون مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنى مفعول.
(9/388)
---(1/3843)
* { وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }
والزُّهُوق: الذَّهابُ والاضمحلال قال:
3098- ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها * إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ
يقال: زَهَقَتْ نَفْسي تَزْهَقُ زُهوقاً بالضم. وأمَّا الزَّهوق بالفتح فمثالُ مبالَغَةٍ كقوله:
3099- ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها * .........................
* { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }
قوله تعالى: {مِنَ الْقُرْآنِ}: في "مِنْ" هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله الزمخشري، وابنُ عطية وأبو البقاء. ورَدَّ الشيخُ عليهم: بأنَّ التي للبيان لا بد أن يتقدَّمَها ما تُبَيِّنُه، لا أَنْ تتقدَّمَ هي عليه، وهنا قد وُجِدَ تقديمُها عليه.
الثاني: أنها للتبعيضَ، وأنكره الحوفي قال: "لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه شفاءً". وأُجيب عنه: بأنَّ إنزالَه إنما هو مُبَعَّضٌ. وهذا الجوابُ ليس بظاهرٍ. وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يَشْفي من المرضِ. قلت: وهذا قد وُجِد بدليل رُقْيَةِ بعضِ الصحابةِ سَيِّدَ الحيِّ الذي لُدِغ، بالفاتحةِ فشُفي.
الثالث: أنها لابتداءِ الغاية وهو واضح.
والجمهور على رفع "شِفاءٌ/ ورحمةٌ" خبرين لـ "هو"، والجملةُ صلةٌ لـ "ما" وزيدُ بن علي بنصبهما، وخُرِّجَتْ قراءتُه على نصبِهما على الحال، والصلةُ حينئذٍ "للمؤمنين" وقُدِّمَتْ الحالُ على عاملها المعنويِّ كقولِه {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} في قراءةِ مَنْ نصب "مَطْوِيَّاتٍ". وقولِ النابغة:
3100- رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدراعَهم * فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذارِ
(9/389)
---(1/3844)
وقيل: منصوبان بإضمارِ فعلٍ، وهذا [عند] مَنْ يمنع تقديمَها على عاملِها المعنوي. وقال أبو البقاء: "وأجاز الكسائيُّ: "ورحمةً" بالنصب عطفاً على "ما". فظاهرُ هذا أن الكسائيَّ بُقَّى "شفاء" على رفعِه، ونَصَبَ "رحمة" فقط عطفاً على "ما" الموصولة كأنه قيل: ونُنَزِّل من القرآن رحمةً، وليس في نَقْله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً. وتقدَّم الخلاف [في] "وننزل" تخفيفاً وتشديداً. والعامَّة على نونِ العظمة. ومجاهد "ويُنْزِل" بياء الغيبة، أي: الله.
* { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً }
قوله تعالى: {وَنَأَى}: قرأ العامَّةُ بتقديمِ الهمزةِ على حرف العلة مِن النَّأْي وهو البُعْدُ. وابن ذكوان -ونقلها الشيخ عن ابن عامر بكمالِه-: "ناءَ" بتقديم الألف على الهمزة. وفيها تخريجان, أحدُهما: أنها مِنْ ناء يَنُوْءُ أي نهض. قال الشاعر:
3101- حتى إذا ما التأَمَتْ مَفاصِلُهْ * وناءَ في شِقِّ الشِّمالِ كاهلُهْ
والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ نأى، ووزنُه فَلَع كقولهم في "رأى" راءَ، إلى غيرِ ذلك، ولكن متى أمكن عدمُ القلبِ فهو أَوْلَى. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في سورة حم السجدة.
وأمال الألفَ إمالةً محضةً الأخَوان وأبو بكر عن عاصم، وبينَ بينَ بخلافٍ عنه السوسيُّ، وكذلك في فُصِّلت، إلا أبا بكرٍ فإنه لم يُمِلْه.
وأمال فتحةَ النونِ في السورتين خَلَف، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائي.
* { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً }
(9/390)
---(1/3845)
قوله تعالى: {عَلَى شَاكِلَتِهِ}: متعلِّقٌ بـ "يَعْمل". والشَّاكِلَةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ: أنها مذهبه الذي يُِشاكل حالَه في الهدى والضلالة مِنْ قولهم: "طريقٌ ذو شواكل" وهي الطرقُ التي تَشَعَّبَتْ منه، والدليلُ عليه قولُه {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}. وقيل: على دينه. وقيل: خُلُقه. وقال ابن عباس: "جانبه". وقال الفراء: "هي الطريقةُ والمذهب الذي جُبِلَ عليه".
وهو من "الشَّكْلِ" وهو المِثْل، يقال: لستَ على شَكْلي ولا شاكلتي. وأمَّا "الشَّكْلُ" بالكسر فهو الهيئة. يقال: جاريةٌ حسنةُ الشَّكْل. وقال امرؤ القيس:
3102- حَيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ * إذ لا يُلائم شَكلُها شَكْلي
أي: لا يلائمُ مثلُها مثلي.
قوله: "أَهْدى" يجوز أن يكونَ مِنْ "اهْتَدى"، على حذفِ الزوائد، وأن يكونَ مِنْ "هَدَى" المتعدِّي. وأن يكونَ مِنْ "هدى" القاصر بمعنى اهتدى. و "سبيلاً" تمييز.
* { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }
قوله تعالى: {مِّن الْعِلْمِ}: متعلِّقٌ بـ "أُوْتِيْتُم"، ولا يجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ "قليلاً"؛ لأنه لو تأخَّر لكان صفةً؛ لأنَّ ما في حَيِّز "إلاَّ" لا يتقدم عليها.
وقرأ عبد الله والأعمش "وما أُوْتُوا" بضمير الغيبة.
* { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً }
قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً}: فيها قولان، أحدُهما: أنها استثناء متصلٌ لأنها تَنْدَرِجُ في قولِه "وكيلا". والثاني: أنها استثناء منقطعٌ فتتقدر بـ "لكن" عند البصريين، و "بل" عند الكوفيين. و "مِنْ ربِّك": يجوز أن يتعلَّقَ بـ "رحمة" وأن يتعلَّقَ بمحذوف، صفةً لها.
(9/391)
---(1/3846)
* { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }
قوله تعالى: {لاَ يَأْتُونَ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه جواب للقسمِ الموطَّأ له باللام. والثاني: أنه جواب الشرط، واعتذروا به عم رفعِه بأنَّ الشرطَ ماضٍ فهو كقوله:
3103- وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حِرِمُ
واستشهدوا عليه بقولِ الأعشى:
3104- لئِنْ مُنِيْتَ بنا عن غِبِّ معركةٍ * لا تُلْفِنا مِنْ دماءِ القومِ نَنْنتَفِلُ
فأجاب الشرطَ مع تقدُّمِ لامِ التوطئة، وهو دليلٌ للفراء ومَنْ تبعه على ذلك. وفيه رَدٌّ على البصريين، حيث يُحَتِّمون جوابَ القسمِ عند عدمِ تقدُّم ذي خبرٍ.
وأجاب بعضهم بأنَّ اللامَ في البيت للتوطِئةِ بل مزيدةٌ، وهذا ليس/ بشيء لأنه لا دليلَ عليه. وقال الزمخشري: "ولولا اللامُ الموطِّئة لجاز أن يكونَ جواباً للشرط كقولِه:
3105- ......................... * يقولُ غائبٌ ..................
لأنَّ الشرطَ وقع ماضياً. وناقشه الشيخُ: بأنَّ هذا ليس مذهبَ سيبويه ولا الكوفيين والمبرد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثلِه أن النيةَ به التقديمُ، ومذهبَ الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء، وهذا مذهبٌ ثالثٌ قال بعضُ الناس.
قوله: {وَلَوْ كَانَ} جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقولِه عليه السلام "أَعطُوا السائل ولو جاء على فرس" و "لبعضٍ" متعلِّقٌ بـ "ظَهير".
* { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا}: مفعولُه محذوف. وقيل: "مِنْ" زائدة في {مِن كُلِّ مَثَلٍ} وهو المفعولُ، قاله ابن عطية وهو مذهبُ الكوفيين والأخفش.
وقرأ الحسن "صَرَفْنا" بتخفيفِ الراء، وقد تقدَّم نظيرُه.
(9/392)
---(1/3847)
قوله: {إِلاَّ كُفُوراً} مفعولٌ به، وهو استثناءٌ مفرغ لأنه في قوة: لم يَفْعلوا إلا الكُفور.
* { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً }
قوله تعالى: {حَتَّى تَفْجُرَ}: قرأ الكوفيون "تَفْجَرَ" بفتح التاء وسكونِ الفاء وضمِّ الجيم خفيفةً، مضارعَ "فَجَر". والباقون بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاء وكسرِ الجيم شديدةً، مضارع فَجَّر للتكثير. ولم يختلفوا في الثانية أنها بالتثقيلِ للتصريحِ بمصدرِها. وقرأ الأعمش "تُفْجِرَ" بضمِّ التاءِ وسكونِ الفاء وكسر الجيم خفيفةً، مضارعَ أَفْجر بمعنى فَجَرَ، فليس التضعيفُ ولا الهمزةُ مُعَدِّيَيْنِ.
و "يَنْبوعاً" مفعولق به، ووزنُه يَفْعُول لأنَّه مِنَ النَّبْعِ، واليَنْبُوعُ: العَيْنُ تفورُ من الأرض.
* { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً }
قوله تعالى: {خِلالَهَا} نصبٌ على الظرفِ، وتقدَّم تحقيقُه أول السورة.
* { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاائِكَةِ قَبِيلاً }
قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ}: العامَّةُ على إسناد الفعل للمخاطب. و "السماءَ" مفعولٌ بها. ومجاهد على إسنادِه إلى "السماء" فَرَفْعُها به.
قوله: "كِسْفاً" قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ هنا بفتح السين، وفَعَل ذلك حفصٌ في الشعراء وفي سبأ. والباقون بسكونها في المواضعِ الثلاثةِ. وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم بلا خلافٍ، وهشامٌ عنه الوجهان، والباقون بفتحها.
فمَنْ فتح السينَ جعله جمعَ كِسْفة نحو: قِطْعَة وقِطَع، وكِسْرة وكِسَر، ومَنْ سَكَّن جعله جمع كِسْفَة أيضاً على حَدِّ سِدْرة وسِدْر، وقَمْحة وقَمْح.
(9/393)
---(1/3848)
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه جمعٌ على فَعَل بفتح العينِ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ يحتملُها حرفُ العلة، حيث يُقَدَّر فيه غيرُها فكيف بالحرف الصحيح؟. قال: "والثاني: أنه فَعْل بمعنى مَفْعول" كالطَّحْن بمعنى مَطْحون، فصار في السكون ثلاثةُ أوجهٍ.
وأصل الكَسْفِ القَطْع. يقال: كَسَفْتُ الثوبَ قطعتُه. وفي الحديثِ في قصة سليمان مع الصافنات الجياد: أنه "كَسَفَ عراقيبَها" أي: قطعها. وقال الزجاج" كَسَفَ الشيء بمعنى غَطَّاه". وقيل: ولا يُعرفُ هذا لغيرِه.
وانتصابُه على الحالِ، فإنْ جَعَلْناه جمعاً كان على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذات كِسَفٍ، وإنْ جعلناه فِعْلاً بمعنى مَفْعول لم يَحْتَج إلى تقدير، وحينئذ فيقال: لِمَ لَمْ يؤنَّث؟ ويجاب: بأنَّ تأنيثَ السماء غيرُ حقيقي، أو بأنها في معنى السقف.
قوله: "كما زَعَمْتَ" نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: إسقاطاً مثلَ مَزْعُومِك، كذا قدَّره أبو البقاء.
قوله: "قَبِيْلاً" حالٌ من "الله والملائكة" أو مِنْ أحدِهما، والآخرُ محذوفةٌ حالُه، أي: بالله والملائكةِ قبيلاً. كقوله:
3106- .............. كنتُ منه ووالدي * بريئاً ....................
[وكقولِهِ]
3107- ..................... * فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ ذكرَه الزمخشريُ، هذا إذا جَعَلْنا "قبيلاً" بمعنى كفيلاً، أي: ضامِناً، أو بمعنى معايَنة كما قاله الفارسيُّ. وإنْ جعلناه بمعنى جماعةً كان حالاً من "الملائكة".
وقرأ الأعرج "قِبَلاً" من المقابلة.
* { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }
(9/394)
---(1/3849)
قوله تعالى: {أَوْ تَرْقَى}: فعل مضارعٌ منصوبٌ تقديراً، لأنه معكةفٌ على "تَفَجُّرَ"، أي: أو حتى تَرْقَى في السماء، أي: في معارجِها، والرُّقِيُّ: الصُّعودُ. يقال: رَقِي بالكسرِ يَرْقى بالفتح رُقَيَّاً على فُعول، والأصل رُقُوْي، فَأُدْغم بعد قلبِ الواو ياءً، ورَقْياً بزنة ضَرْب. قال الراجز:
3108- أنتَ الذي كلَّفْتني رَقْيَ الدَّرجْ * على الكَلالِ والمَشِيْبِ والعَرَجْ
قوله: "نَقْرَؤُه" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نعتاً لـ "كتاباً". والثاني: أن يكونَ [حالاً] مِنْ "نا" في "علينا" قاله أبو البقاء، وهي حالٌ مقدرةٌ، لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزالِه لا في حالِ إنزالِه.
قوله: {قُلْ سُبْحَانَ} قرأ ابنُ كثير وابنُ عامر "قال" فعلاً ماضياً إخباراً عن الرسولِ عليه السلام بذلك، والباقون "قُلْ" على الأمر/ أمراً منه تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بذلك، وهي مرسومةٌ في مصاحف المكيين والشاميين: "قال" بألف، وفي مصاحِفِ غيرِهم "قُلْ" بدونها، فكلٌ وافق مصحفَه.
قوله: {إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} يجوزُ أَنْ يكونَ "بشراً" خبرَ "كنتُ" و "رسولاً" صفتُه، ويجوز أن يكون "رسولاً" هو الخبر، و "بَشَراً" حالٌ مقدمةٌ عليه.
* { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوااْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوااْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }
قوله تعالى: {أَن يُؤْمِنُوااْ}: "أَنْ يُؤْمِنُوا" مفعولٌ ثانٍ لـ "مَنَع"، أي/ ما مَنَعَهم إيمانَهم أو مِنْ إيمانهم، و "أنْ قالوا" هو الفاعلُ، و "إذ" ظرفٌ لـ "مَنَعَ"، والتقدير: وما مَنَعَ الناسَ من الإيمانِ وقتَ مجيءِ الهُدى إياهم إلا قولُهم" أَبَعَثَ الله.
وهذه الجملةُ المنفيَّةُ يُحتمل أَنْ تكونَ مِنْ كلام الله، فتكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ الرسولِ فتكونَ منصوبةَ المحلِّ لاندراجِها تحت القولِ في كلتا القراءتين.
(9/395)
---(1/3850)
قوله: {بَشَراً رَّسُولاً} كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره، وكذلك قولُه {لَنَزَّلْنَا [عَلَيْهِم] مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً}.
* { قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ}: يجوز في "كان" هذه التمامُ، أي: لو وُجِد وحَصَل، و "يمشون" صفةٌ لـ "ملائكةٌ" و {فِي الأَرْضِ} متعلقٌ به، و "مطمئنين" حالٌ من فاعل "يَمْشُون". ويجوز أن تكونَ الناقصةَ، وفي خبرها أوجهٌ، أظهرُها: أنه الجارُّ، و "يَمْشُون" و "مطمئنين" على ما تقدَّم. وقيل: الخبر "يَمْشُون" و {فِي الأَرْضِ} متعلِّق به. وقيل: الخبرُ "مطمئنين" و "يَمْشُون" صفةٌ. وهذان الوجهان ضعيفان لأنَّ المعنى على الأول.
* { وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً }
قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ}: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مندرجةً تحت المَقُولِ، فيكون محلُّها نصباً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ اللهِ، فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، ويكون في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إلى تكلُّم في قوله "ونَحْشُرهم".
(9/396)
---(1/3851)
وحُمِل على لفظِ "مَنْ" في قولِه "فهو المهتدِ" فَأُفْرِد، وحُمِل على معنى "مَنْ" الثانيةِ في قولِه {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ}. فجُمعَ. ووجهُ المناسبةِ في ذلك -والله أعلم-: أنه لمَّا كان الهَدْي شيئاً واحداً غيرَ متشعبِ السبلِ ماسَبَه التوحيدُ، ولمَّا كان الضلالُ له طرقٌ نحو: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} ناسب الجمعُ الجمعَ، وهذا الحملُ الثاني مِمَّا حُمِل فيه على المعنى، وإن لم يتقدَّمْه حَمْلٌ على اللفظ. قال الشيخ: "وهو قليلٌ في القرآن". يعني بالنسبةِ إلى غيرِه. ومثلُه قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ويمكن أن يكونَ المُحَسِّنَ لهذا كونُه تقدَّمَه حَمْلٌ على اللفظِ وإنْ كان في جملةٍ أخرى غيرِ جملتِه.
وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ بإثباتِ ياء "المُهْتدي" وصلاً وحَذْفْها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحَذَفها الباقون في الحالين.
قوله: {عَلَى وُجُوهِهِمْ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالحشر، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول، أي: كائنين ومَسْحوبين على وجوههم.
قوله: "عُمْياً" يجوز أن تكونَ حالاً ثانية، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأنه تَظْهَرُ أنواعُ البدلِ وهي: كلٌّ من كل، ولا بعضٌ من كل، ولا اشتمالٌ، وأن تكونَ حالاً من الضمير المرفوع في الجارِّ لوقوعِهِ حالاً، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ المجرورِ في "وجوههم".
قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ الاستئنافُ والحاليةُ: إمَّا من الضميرِ المنصوبِ أو المجرورِ.
قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} يجوز فيها الاستئنافُ والحاليةُ مِنْ "جهنم"، والعاملُ فيها معنى المَأْوَى.
وخَبَتِ النار تَخْبُو: إذا سكن لهَبُها، فإذا ضَعُفَ جَمْرُها قيل: خَمَدَتْ، فإذا طُفِئَتْ بالجملةِ قيل: هَمَدَت. قال:
3019- وَسْطُه كاليَراعِ أو سُرُجِ المِجْـ * ـدَلِ حِيْناً يَخْبُو وحِيناً ينيرُ(1/3852)
(9/397)
---
وقال آخر:
3100- لِمَنْ نارٌ قبيل الصُّبْـ * ـحِ عند البيتِ ما تَخْبُو
إذا ما أُخْمِدَتْ اُلٌِْيْ عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ
وأَدْغَم التاءَ في زاي "زِدْناهم" وأبو عمروٍ والأخَوان وورشٌ، وأظهرها الباقون.
* { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ}: يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً، و "بأنَّهم" متعلِّقٌ بالجزاء، أي: ذلك العذابُ المتقدَّمُ جزاؤهم بسببِ أنهم، ويجوز أَنْ يكونَ "جزاؤهم" مبتدأ ثانياً، والجارُّ خبرُه، والجملةُ خبرُ "ذلك"، ويجوز أن يكونَ "جزاؤهم" بدلاً أو بياناً، و "بأنَّهم" الخبرُ.
* { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً }
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَهُمْ}: معطوفٌ على قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لأنه في قوة: قد رَأَوْا، فليس داخلاً في حَيَّز الإنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها.
قوله: {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صفةٌ لـ "أجَلاً"، أي: أجلاً غيرَ مرتابٍ فيه. فإن أريد به يومُ القيامة فالإفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموتُ فهم اسم جنسٍ/ إذ لكلِّ إنسان أجلٌ يَخُصه.
قوله: {إَلاَّ كُفُوراً} قد تقدَّم قريباً.
* { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً }
(9/398)
---(1/3853)
قوله تعالى: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: -وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي -أن المسألة من بابِ الاشتغال، فـ "أنتم" مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ، لأنَّ "لو" لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، فهي كـ "إنْ" في قولِه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} وفي قوله:
3111- وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها * فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ
والأصل: لو تملكون، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه. ومثلُه: "وإن هو لم يَحْمِلْ" الأصلُ: وإن لم يَحْمل، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستترُ وبَرَزَ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني"، وقولُ المتلمس:
3112- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي * ............................
فـ "ذاتُ سوار" مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده.
الثاني: أنه مرفوعٌ بـ "كان" وقد كَثُر حَذْفُها بعد "لو" والتقدير: لو كنتم تملكون، فَحُذِفَتْ "كان" فانفصل الضمير، و "تملكون" في محلِّ نصبٍ بـ "كان" وهو قولُ ابنِ الصائغِ. وقريبٌ منه قولُه:
3113- أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ * ..............................
فإنَّ الأصلَ: لأَنْ كنتَ، فحُذِفَتْ "كان" فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ "كان" "ما"، وفي "لو" لم يُعَوَّض منها.
الثالث: أنَّ "أنتم" توكيدٌ لاسمِ "كان" المقدرِ معها، والأصلُ "لو كنتم أنتم تملِكُون" فَحُذِفَتْ "كان" واسمها وبقي المؤكِّد، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي. وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد، وإن كان سيبويه يُجيزه.
(9/399)
---(1/3854)
وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك: كونُ مذهب البصريين في "لو" أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله: "لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني". فإن قيل: هذان الوجهان: أيضاً فيهما إضمار فعلٍ. قيل: ليس هو الإضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير "كان"، وأمَّا "كان" فقد كَثُر حَذْفُها بعد "لو" في مواضعَ كثيرةٍ. وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد "لو" غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ، أنشد الفارسي:
3114- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ * كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري
إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه "شَرِقٌ". وقد تقدَّم تحقيق القول في "لو" فلنقتصِرْ على هذا.
قوله: {لأمْسَكْتُمْ} يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ، وأن يكونَ متعدِّياً، ومفعولُه محذوفٌ، لأَمْسَكْتُم المال، ويجوز أن يكونَ كقولِه {يُحْيِي وَيُمِيتُ
}. قوله: {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.
والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشِين الإِنفاقَ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو: "جَهْدَك" و "طاقتَك" و [كقوله:]
3115- وأرسلها العِراك ........... * .............................
ولا يُقاسُ عليه. والإنفاقُ مصدرُ أنفق، أي: أَخْرَجَ المالَ. وقال أبو عبيدة: "وهو بمعنى الافتقار والإقتار".
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُوراً }
قوله تعالى: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}: يجوز في "بيِّنات" النصبُ صفةً للعددِ، والجرُّ صفةً للمعدود.
(9/400)
---(1/3855)
قوله: {إِذْ جَآءَهُمْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ معمولاً لـ "آتَيْنا"، ويكون قولُه {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اعتراضاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ. والثالث: أنه منصوبٌ بـ يُخْبرونك مقدَّراً. الرابع: أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ، إذ التقديرُ: فَقُلْنا له: سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم. وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها. قال: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، أي: فقلنا له: سَلْ بني [إسرائيل]، أي: سَلْهُمْ عن فرعونَ، وقل/ له: أرسلْ معي بني إسرائيل، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله "فسال" على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش.
وقيل: فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ثم قال: "فإن قلتَ بمَ تعلَّق "إذ جاءهم"؟ قلت: أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ، أي: فقلنا له: سَلْهُمْ حين جاءهم، أو بـ "سال" في القراءة الثانية. وأمَّا على الأخير فبـ "آتَيْنا" أو بإضمار اذْكُرْ، أو بيُخْبرونك. ومعنى إذ جاءهم: إذ جاء آباءهم". انتهى.
(9/401)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 10 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
قال الشيخ: "ولا يتأتَّى تَعَلُّقه بـ "اذكر" ولا بـ يُخبرونك لأنه ظرفٌ ماضٍ". قلت: إذا جعله معمولاً لـ "اذكُرْ"، أو لـ يُخْبرونك لم يَجْعَلْه ظرفاً بل مفعولاً به، كما تقرَّر ذلك غيرَ مرة.(1/3856)
الخامس: أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه "فَسَلْ". قال أبو البقاء: "فيه وجهان، أهدُهما: هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى: اذْكرْ لبني إسرائيل [إذ جاءهم] وقيل: التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ "اذكر" الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ". يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ "اذكر" الذي فَسَّرْتَ "اسأَلْ" بها، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا "اذكر" جعلوا "إذ" مفعولاً به لا ظرفاً.
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال: "والثاني: أن يكونَ ظرفاً. وفي العامل فيه أوجهٌ، أحدُها: "آتَيْنا". والثاني: "قلنا" مضمرة. والثالث: "قُلْ"، تقديرُه قل لخصمِك: سَلْ. والمرادُ به فرعونُ، أي: قُلْ يا موسى، وكان الوجهُ أن يُقال: إذ جئتهم بالفتح، فرجع من الخطاب إلى الغيبة".
قلت" فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه "قُلْ" وهو ظرفٌ ماضٍ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ؛ إذ يرجع إلى: يا موسى قُلْ لفرعونَ: سَلْ بني إسرائيل، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إشرائيل، وليس المرادُ ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ -وهو أنَّ المعنى: يا موسى سَلْ بني إسرائيل، أي: اطْلُبْهم من فرعونَ -يكون المفعولُ للسؤال محذوفاً، والثاني هو "بني إسرائيل"، والتقدير: سَلْ فرعونَ بني إسرائيل، وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع، وأعمل الثانيَ، إذ التقديرُ: سَلْ فرعونَ فقال فرعونُ، فأعمل الثانيَ فَرَفَع بع الفاعلَ، وحَذَفَ المفعولَ مِنَ الأول وهو المختار من المذهبين.
(10/1)
---
والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه.
والضميرُ في {إِذْ جَآءَهُمْ}: إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ، أي: جاء آباءهم.(1/3857)
قوله: "مَسْحُوراً" فيه وجهان، أظهرُهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سُحِرْتَ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ. الثاني: أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم، أي: أنت ساحرٌ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك.
* { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلااءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُوراً }
قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ}: قرأ الكسائيُّ بضم التاء أَسْند الفعلَ لضمير موسى عليه السلام، أي: إني متحققٌ أني ما جئت به هو مُنَزَّلٌ مِنْ عندِ الله. والباقون بالفتح على إسناده لضميرِ فرعونَ، أي: أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئتُ به هو مُنَزَّل من عند الله وإنما كفرُك عِنادٌ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه أنكر الفتحَ، وقال: "ما عَلِك عدوُّ اللهِ قط، وإنما عَلِمَ موسى"، والجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ لأنها معلِّقةٌ للعِلْم قبلها.
قوله: "بَصائر" حالٌ وفي عاملها قولان، أحدُهما قولان، أحدُهما: أنه "أَنْزَلَ" هذا الملفوظُ به، وصاحبُ الحال هؤلاء، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطيةَ وأبو البقاء، وهؤلاء يُجيزون أن يَعْمل ما قبلَ "إلا" فيما بعدها، وإنْ لم يكنْ مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعاً له. والثاني: وهو مذهب الجمهور أنَّ ما بعد "إلا" لا يكون معمولاً لما قبله، فيُقدَّر لها عاملٌ تقديرُه: أَنْزَلها بصائِرَ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه في "هود" عند قولِه {إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ
(10/2)
---
}. قوله: "مَثْبورا" "مَثْبوراً" مفعولٌ ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنداء. والمَثْبُور: المُهْلَكُ. يقال: ثَبَره اللهُ، أي: أَهْلكه، قال ابن الزَّبْعَرى:
3116- إذ أُجاريْ الشيطانَ في سَنَنِ الغَيْ * يِ ومَنْ مالَ مَيْلَه مَثْبورُ(1/3858)
والثُّبُور: الهَلاكُ قال تعالى: {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً}.
* { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }
قوله تعالى: {لَفِيفاً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ، وأن أصلَه مصدرُ لفَّ يَلُفُّ لفيفاً نحو: النَّذير والنكير، أي: جِئْنا بكم منضمَّاً بعضُكم إلى بعض، مِنْ لفَّ الشيءَ يَلُفُّه لَفَّاً، والأَلَفُّ: المتداني الفَخْذَيْنِ، وقيل: العظيمُ البطن. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، والمعنى: جئنا بكم جميعاً فهو في قوةِ التأكيدِ.
* { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }
قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ}: في الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بأَنْزَلْناه، والباء سببية، أي: أنزلنا بسبب الحق. والثاني: أنه حالٌ من مفعول "أنزلناه"، أي: ومعه الحق. والثالث: أنه حالٌ من فاعِله، أي: ملتبسين بالحقِّ. وعلى هذين الوجهين يتعلَّقُ بمحذوفٍ.
(10/3)
---
والضمير في "أَنْزَلْناه" الظاهرُ عَوْدُه للقرآن: إمَّا الملفوظِ به في قولِه قبل ذلك {عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْآنِ} ويكون ذلك جَرْياً على قاعدةِ أساليب كلامِهِم، وهو أَنْ يستطردَ المتكلمُ في ذِكْر شيءٍ لم يَسْبِقْ له كلامُه أولاً، ثم يعودُ إلى كلامِه الأولِ، وإمَّا للقرآنِ غيرِ الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحالِ عليه كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقيل: يعودُ على موسى كقوله: {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} وقيل: على الوعد. وقيل: على الآيات التسعِ، وذكَّر الضميرَ وأفرده حملاً على معنى الدليل والبرهان.(1/3859)
قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} فيه الوجهان الأوَّلان دونَ الثالث لعدمِ ضميرٍ آخرَ غيرِ ضمير القرآن. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها للتأكيد، وذلك أنه يُقال: أنزلْتُه فَنَزَل، وأنزلْتُه فلا يَنْزِلْ، فجيْءَ بقولِه {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} دَفْعاً لهذا الوهم. وقيل: ليست للتأكيد، والمغايرةُ تَحْصُل بالتغاير بين الحقِّيْنِ، فالحقُّ الأول التوحيد، والثاني الوعدُ والوعيدُ والأمر والنهي. وقال الزمخشري: "وما أَنْزَلْنَا القرآنَ إلا بالحكمةِ المقتضية لإنزاله، وما نَزَلَ إلا ملتبساً بالحق والحكمةِ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خير، أو ما أَنْزَلْنَاه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصْدِ من الملائكةِ، وما نَزَلَ على الرسول إلا محفوظاً بهم مِنْ تخليط الشياطين". و "مبشِّراً ونذيراً حالان من مفعول أَرْسَلْنَاك".
* { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }
(10/4)
---
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}: في نصبه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وآتَيْناك قرآناً" يدلُّ عليه قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى} الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على الكافِ في "أَرْسَلْناك". قال ابنُ عطية: "من حيث كان إرسالُ هذا وإنزال هذا معنى واحداً".
الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على {مُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال الفراء: هو منصوبٌ بـ "أَرْسَلْناك"، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً، كما تقول: ورحمة لأنَّ القرآنَ رحمةً". قلت: يعين أنه جُعِل نفسُ القرآن مُراداً به الرحمةُ مبالغةً، ولو ادَّعى ذلك على حَذْفِ مضافٍ كان أقربَ، أي: وذا قرآنٍ. وهذان الوجهان متكلِّفان.(1/3860)
الرابع: أن ينتصِبَ على الاشتغال، أي: وفَرَقْنا قرآناً فرقناه. واعتذر الشيخُ عن ذلك، أي: عن كونِه لا يَصِحُّ الابتداءُ به لو جَعَلْناه مبتدأً لعدم مُسَوِّغٍ؛ لأنه لا يجوزُ الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسمِ الابتداءُ، بأنَّ ثمَّ محذوفةً، تقديرُه: وقرآناً أيَّ قرآنٍ، بمعنى عظيم. و "فَرَقْناه" على هذا لا محلَّ له بخلاف الأوجهِ المتقدمةِ؛ فإن محلِّه النصبُ لأنَّه نعتٌ لـ "قرآناً".
والعامَّةُ "فَرَقْناه" بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ علي بن أبي طالب -كرَّم اللهُ وجهَه- واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أي: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ. والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشري: "وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ "فَرَقَ" بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ".
(10/5)
---
قال الشيخ: "وقال بعضُ من اختار ذلك -يعني التنجيمَ- لم يَنْزِلْ في يومٍ ولا يومين ولا شهرٍ ولا شَهْرَيْن، ولا سنةٍ ولا سنتين. قال ابنُ عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ عن ابن عباس". قلت: وظاهرُ/ هذا أنَّ القولَ بالتنجيم ليس مرويَّاً عن ابن عباس ولا سيما وقد فَصَل قولَه "قال ابن عباس" مِنْ قولِع "وقال بعضُ مَنْ اختار ذلك"، ومقصودُه أنه لم يُسْنِده لابن عباس ليَتِمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ فَعَّل بالتشديد لا يَدُلُّ على التفريق، وقد تقدَّم له معه هذا المبحثُ أولَ هذا الموضوع.(1/3861)
قوله: "لتقرأَه" متعلقٌ بـ "فَرَقْناه". و "على مُكْثٍ" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول في "لتقرأه"، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً. والثاني: أنه بدلٌ مِنْ "على الناس" قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ، لأنَّ قوله "على مُكْثٍ" من صفاتِ القارئ أو المقروء من جهةِ المعنى، لا من صفاتِ الناس حتى يكون بدلاً منهم. الثالث: أنه متعلِّقٌ بـ "فَرَقْناه".
وقال الشيخ: "والظاهرُ تَعَلُّق "على مُكْث" بقوله "لتقرأه"، ولا يُبالَى بكونِ الفعلِ يتعلَّق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحدٍ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأنَّ الأولَ في موضعِ المفعول به، والثاني في موضعِ الحالِ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً".
قلت: قولُه أولاً إنه متعلقٌ بقوله "لتقرأَه" ينافي قولَه في موضع الحال؛ لأنه متى كان حالاً تعلَّق بمحذوف. لا يُقال: أراد التعلق المعنوي لا الصناعي لأنه قال: ولا يُبالَى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنسِ [واحد"]، وهذا تفسيرُ إعرابٍ لا تفسيرُ معنى.
والمُكْثُ: التطاولُ في المدة وفيه ثلاثةُ لغاتٍ: الضمُّ والفتحُ -ونقل القراءةَ بهما الحوفي وأبو البقاء -والكسرُ، ولم يُقرأ به فيما علمتُ. وفي فعله الفتحُ والضم وسيأتيان إن شاء الله تعالى في النمل.
(10/6)
---
* { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوااْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً }
قوله تعالى: {لِلأَذْقَانِ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها بمعنى "على"، أي: على الأذقان كقولِهم: خرَّ على وجهِه. والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري: "فإن قُلْتَ: حرفُ الاستعلاءِ ظاهرُ المعنى إذا قلت: خَرَّ على وجهه وعلى ذَقَنه فما معنى اللام في "خِرَّ لذَقْنَه ولوجهه"؟ قال:
3117- ........................... * فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ(1/3862)
قلت: معناه: جَعَلَ ذقَنَه ووجهَه للخُرور، واختصَّ به؛ لأنَّ اللامَ للاختصاص. وقال أبو البقاء: "والثاني هي متعلقةٌ بـ "يَخِرُّون" واللامُ على بابها، أي: مُذِلُّون للأذقان".
والأَذْقان: جمعُ ذَقَنٍ وهو مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْن. قال الشاعر:
3118- فَخَرُّوا لأَذْقانِ الوجوه تنوشُهُمْ * سِباعٌ من الطير العوادِي وتَنْتِفُ
و "سُجَّداً" حال. وجوَّز أبو البقاء في "للأَذقان" أن يكونَ حالاً. قال: "أي: ساجدين للأذقان" وكأنه يعني به "للأذقان" الثانية؛ لأنه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سُجَّداً، ولذلك قال: "والثالث: أنها -يعني اللامَ- بمعنى "على"، فعلى هذا تكون حالاً مِنْ "يَبْكُون" و "يَبْكُون" حال".
* {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }
قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ}: فاعلُ "يزيد": إمَّا القرآنَ، أو البكاءُ أو السجودُ أو المتلوُّ، لدلالةِ قوله: "إذ يتْلى". وتكرَّر الخُرور لاختلافِ حالتِه بالبكاء والسجود، وجاءتِ الحالُ الأولى اسماً لدلالتِه على الاستقرار، والثانية فعلاً لدلالتِه على التجدُّدِ والحدوث.
(10/7)
---
* { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ}: "أيَّاً" منصوب بـ "تَدْعُوا" على المفعول به، والمضافُ إليه محذوفٌ، أي: أيَّ الاسمين. و "تَدْعوا" مجزوم بها فهي عاملةٌ معمولةٌ، وكذلك الفعلُ، والجوابُ الجملةُ الاسمية مِنْ قوله {فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى}. وقيل: هو محذوفٌ تقديرُه: جاز، ثم استأنفَ فقال: فله الأسماءُ الحسنى". وليس بشيءٍ.(1/3863)
والتنوين في "أَيَّاً" عوضٌ من المضافِ إليه. وفي "ما" قولان، أحدهما: أنها مزيدةٌ للتاكيد. والثاني: أنها شرطيةٌ جُمِعَ بينهما تأكيداً كما جُمِع بين حَرْفَيْ الجرِّ للتاكيد، وحَسَّنه اختلافُ اللفظ كقوله:
3119- فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به * ........................
ويؤَيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرف "أياً مَنْ تَدْعُوا" فقيل: "مَنْ" تحتمل الزيادة على رأيِ الكسائي كقوله في قوله:
310- يا شاةَ مَنْ قنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ له * ............................
واحتُمِل أن تكونَ شرطيةً، وجُمِع بينهما تأكيداً لِما تقدم. و "تَدْعُوا" هنا يحتمل أن يَكونَ من الدعاء وهو النداء فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يَكونَ بمعنى التسمية فيتعدَّى لاثنين، إلى الأولِ بنفسه، وإلى الثاني بحرفِ الجر، ثم يُتَّسَعُ في الجارِّ فيُحذف كقوله:
3121- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ ......... * ..............................
والتقدير: قل: ادعُوا معبودَكم بالله أو بالرحمن/ بأيِّ الاسمين سَمَّيتموه. وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى "سَمَّى" الزمخشري.
(10/8)
---
ووقف الأخوان على "أيّا" بإب دال التنوين ألفاً، ولم يقفا على "ما" تبييناً لانفصالِ، "أيَّ" مِنْ "ما". ووقف غيرُهما على "ما" لامتزاجها بـ "أيّ"، ولهذا فُصِل بها بين "أيّ" وبين ما أُضيفت إليه في قوله تعالى {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ} وقيل: "ما" شرطيةٌ عند مَنْ وقف على "أياً" وجعل المعنى: أيَّ الاسمينِ دَعَوْتموه به جاز ثم استأنف {مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى} يعني أنَّ "ما" لا تُطْلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرطَ يقتضي عموماً، ولا يَصِحُّ هنا، وبأن فيه حَذْفَ الشرط والجزاء معاً.
* { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }(1/3864)
ٌقوله تعالى: {مَّنَ الذُّلِّ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها صفةٌ لـ "وليّ"، والتقدير: وليّ من أهلِ الذل، والمرادُ بهم: اليهودُ والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناسِ. والثاني: أنها تبعيضية. الثالث: أنها للتعليل، أي: مِنْ أجل الذُّلِّ. وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: "وليٌّ من الذل: ناصرٌ من الذل، ومانعٌ له منه، لاعتزازه به، أو لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه".
وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل في أولِ هذه السورة.
والمخافَتَةُ: المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ. وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ، أي: لم يُسْمَعْ له حِسٌّ.
و لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه".
وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل في أولِ هذه السورة.
والمخافَتَةُ: المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ. وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ، أي: لم يُسْمَعْ له حِسٌّ.(1/3865)
سورة الكهف
* { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }
(10/9)
قوله: {وَلَمْ يَجْعَل}: في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها معطوفةٌ على الصلةِ قبلَها. والثاني: أنها اعتراضيةٌ بين الحالِ وهي "قَيِّماً" وبين صاحبِها وهو "الكتابَ", والثالث: أنَّها حالق من "الكتابَ"، ويترتَّبُ على الأوجهِ القولُ في "قَيِّماً".
* { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً }
قوله: {قَيِّماً}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ من "الكتاب". والجملةُ مِنْ قولِه "ولم يَجْعَلْ" اعتراضٌ بينهما. وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال: "فإنْ قُلْتَ: بم انتصَبَ "قَيِّماً"؟ قلت: الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ، ولم يُجْعَلْ حالاً من "الكتابَ" لأنَّ قولَه "ولم يَجْعَلْ" معطوفٌ على "أَنْزَلَ" فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ". وكذلك قال أبو البقاء. وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ.
الثاني: أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في "له". قال أبو البقاء: "والحالُ موكِّدةٌ. وقيل: منتقلةٌ". قلت: القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: جَعَلَهُ قيِّماً. قال الزمخشريُّ: "تقديرُه: ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، جعله قيماً، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ". قال: "فإنْ قلتَ: ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟. قلت: فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يَخْلو مِنْ أدى عِوَجٍ عند السَّيْرِ والتصفُّح".
الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ. والتقديرُ: أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً.
(10/10)
الخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ. والتقديرُ: وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم: "عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو".
والضميرُ في "له" فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه للكتاب، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ. والثاني: أنَّه يعود على "عبدِه"، وليس بواضحٍ.
وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء. وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً. وقد تَقَدَّم القولُ فيها.(1/3866)
ووقف حفصٌ على تنوينِ "عِوَجاً" يُبْدله ألفاً، [ويسكت] سكتةً لطيفةً من غير قَطْع نَفْسٍ، إشْعاراً بأنَّ "قَيِّماً" ليس متصلاً بـ "عِوَجاً"،وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب. وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى.
قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ: "ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، لكنْ جَعَلَه قيَّماً". وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول: يَقِف على "عِوَجا"، ولم يقولوا: يُبدل التنوين ألفاً، فيُحْتمل ذلك، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ.
ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، أعني الإطلاقَ. ثم قال: "وفي ذلك نَظَرٌ -أي على إبدالِ التنوين ألفاً- فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ". انتهى.
وقال الأهوازيُّ: "ليس هو وَقْفاً مختاراً، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، معناه: أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً". قلت: دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل، وقد تقدَّم تحقيقُه.
(10/11)
---
وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ. فمنها: أَنَّه كان يقفُ على "مَرْقَدِنا"، ويَبْتدئ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ} صفةٌ لـ "مَرْقَدِنا" فالوقفُ يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم. قيل: هم الملائكةُ. وقيل: هم المؤمنون. وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ "هذا" صفةً لـ "مَرْقَدِنا" فيفوتُ ذلك.
ومنها: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} كان يقف على نونِ "مَنْ" ويَبْتَدِئ "راقٍ" قال: لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق.(1/3867)
ومنها: {بَلْ رَانَ} كان يقفُ على لام بل، ويَبْتدئ "رانَ" لِما تقدَّم.
قال المهدويُّ: "وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ، وهو لا يَفعلُه، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية". قال أبو شامة: "أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: "ولا يَحْزُنْكَ قولُهم. {إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} الوقفُ على "قَوْلُهم" لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ"، وكذا {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على "النار" لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ".
قلت: وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ. وقال أبو شامةَ أيضاً: "ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ". قلت: يعني في "بَلْ رَان" وفي "مَنْ راقٍ".
قوله: "لِيُنْذِرَ" في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ بـ "قَيِّماً" قاله الحوفيُّ. والثاني: -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق بـ "أَنْزَلَ". وفاعلُ "لِيُنْذِرَ" يجوز أن يكونَ "الكتابَ" وأن يكونَ الله، وأن يكون الرسول.
(10/12)
---
و "أَنْذَرَ" يتعدَّى لاثنين: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} ومفعولُه الأولُ محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ: "ليُنْذِرَ الذين كفروا، وغيره: "ليُنْذِرَ العبادَ"، أو "لِيُنْذِرَكم"، أو لِيُنْذِرَ العالَم. وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهو ضِدَّهم.(1/3868)
وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالُنْذَر في قوله {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ} فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه، وهو في غايةِ البلاغةِ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً}.
قوله: {مِّن لَّدُنْهُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمِّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ، فيقرأ "مشنْ لَدْنِهِيْ" والباقون يَضُمون الدالَ، ويسكِّنون [النونَ] ويَضُمُّون الهاءَ، وهم على قواعِدهم فيها: فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو: مِنْهو وعَنْهو، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء.
ووَجهُ أبي بكرٍ: أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين "عَضُد" والنونُ ساكنةٌ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} في سورة النور، فهناك نتكلَّم فيه، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء. وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة.
(10/13)
---(1/3869)
والإشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ، لأنَّ الإشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ غشارةٌ إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو: "جاء الرجل"، وهكذا ذكره النحويون. وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة. وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها، ثم تأتي بباقي الكلمةِ.
فإن قلتَ: إنما اتي بالإشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها. قيل لك: فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه. ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ. وقد تقدَّم في "يوسف" أن الإشمامَ في {لاَ تَأْمَنَّا} إذا فسَّرْناه بالإشارةِ إلى الضمة: منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإدغام، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده، وهذا نظيرُه. وتقدَّم أنَّ الإشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها.
و {مِّن لَّدُنْهُ} متعلق بـ "لِيُنْذِرَ"/. ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً لـ "بَأْساً" ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في "شديداً".
وقُرِئ "ويُبَشِّرُ" بالرفعِ على الاستئنافِ.
* { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً }
(10/14)
---(1/3870)
قوله: {مَّاكِثِينَ}: حالٌ: إمَّا من الضميرِ المجرورِ في "لهم"، أو المرفوع المستترِ فيه، أو مِنْ "أجراً" لتخصُّصِه بالصفةِ، إلا أنَّ هذا لا يجيءُ إلا على رَأيِ الكوفيين: فإنهم لا يشترطون بروزَ الضميرِ في الصفةِ الجاريةِ على غير مَنْ هي له إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رَأْيِ الكوفيين أن يكونَ صفةً ثانيةً لـ "أَجْراً". قال أبو البقاء: "وقيل: هو صفةٌ لـ "أَجْراً"، والعائدُ: الهاءُ مِنْ "فيه". ولم يَتَعَرَّضْ لبروزِ الضميرِ ولا لعدمِه بالنسبة إلى المذهبين.
و "أبداً" منصوبٌ على الظرفِ بـ "ماكثين".
* { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }
قوله: {مَّا لَهُمْ}: أي: بالولدِ، أو باتخاذه، أو بالقولِ المدلولِ عليه "اتَّخذ" وبـ "قالوا"، أو بالله.
وهذه الجملةُ المنفيةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإخبارِ بذلك. والثاني: أنها صفةٌ للولدِ، قال المهدويُّ. وردَّه ابنُ عطيةَ: بأنه لا يَصِفُه بذلك إلا القائلون، وهم لم يَقْصِدوا وَصْفَه بذلك. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ "قالوا"، أي: قالوه جاهلين.
و {مِنْ عِلْمٍ} يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ. والجارُّ هو الرافع، أو الخبر. و "مِنْ" مزيدةٌ على كِلا القولين.
قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} في فاعلِ "كَبُرَتْ" وجهان، أحدُهما: أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه: "قالوا: اتَّخذ الله"، أي: كَبُرَ مقالُهم، و "كلمةً" نصبٌ على التمييز، ومعنى الكلامِ على التعجب، أي: ما أكبرَها كلمةً. و "تَخْرُجُ" الجملةُ صفةٌ لـ "كلمة". ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإنسانُ على إظهاره باللفظ.
(10/15)
---(1/3871)
والثاني: أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ، ومعناها الذمُّ كـ "بِئس رجلاً"، فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ.
وقرأ العامَّةُ "كلمةً" بالنصبِ، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين. والثاني: النصبُ على الحالِ. وليس بظاهر.
وقوله: "تَخْرُجُ" في الجملة وجهان، أحدُهما: هي صفةٌ لكلمة. والثاني: أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه: كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.
وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير -في رواية القَوَّاس عنه -كلمةٌ" بالرفع على الفاعلية، "وتَخْرُج" صفةٌ لها أيضاً. وقُرِئَ "كَبْرَتْ" بسكون الباء وهي وهي لغةُ تميم.
قوله: "كَذِباً" فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة. والثاني: هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً كذباً.
* { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }
قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ}: العامَّةُ على كسرِ "إنْ" على أنها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه: "فَلَعَلَّكَ"، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ. وقُرِئ: "أَنْ لم" بالفتح على حَذْفِ الجارِّ، أي: لأنْ لم يؤمنوا".
(10/16)
---(1/3872)
وقُرئ "باخِعُ نَفْسِكَ" بالإضافة، والأصل النصبُ. وقال الزمخشري: "وقُرئ "باخع نفسك" على الأصل، وعلى الإضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ "إنْ لم يُؤمنوا"، وللمضيِّ فيمن قرأ "أن لم تُؤْمنوا" بمعنى: لأنْ لم يؤمنوا". قلت: يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ "إنْ" فإنها شرطيةٌ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يجئُ إلا في قراءةِ الإضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين. وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ "باخع"، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيفٍ.
ولعلَّك" قيل: للإشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأي الكوفيين. وقيل: للنهي أي: لا تَبْخَعْ.
والبَخْعُ: الإهلاك. يقال: بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وَجْداً. قال ذو الرمة:
3122- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه * لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ
يريد: نَحَّته بالتشديد، فخفَّف./ قال الأصمعي: "كان يُنْشِده: "الوجدَ" بالنصب على المفعولِ له، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية بـ "الباخع".
وقيل: البَخْعُ: أن تَضْعِفَ الأرضَ بالزراعة. قاله الكسائي: وقيل: هو جَهْدُ الأرضِ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، عن عمر: "بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ" تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها، وهذا استعارةٌ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري: هان بغير القَتْلِ والإهلاك. وقال في سورة الشعراء: "والبَخْعُ". أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ". انتهى. وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول: "تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً". قلت: يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم.
(10/17)
---(1/3873)
وقال الراغب: "البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ عَمَّاً". ثم قال: "وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ، وبما عليه من الحقِّ: إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه".
وقوله: "على آثارِهم" متعلقٌ بـ "باخعٌ"، أي: مِنْ بعد هلاكِهم.
قوله: أَسَفَاً" يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه "باخعٌ"، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في "باخعٌ".
* { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }
قوله تعالى: {زِينَةً}: يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ "جَعَلْنا" بمعنى خَلَقْنا، ويجوز ان يكونَ مفعولاً ثانياً إنْ كانَتْ "جَعَلَ" تصييريةً و "لها" متعلقٌ بـ "زِيْنةً" على العلةِ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةٌ في المفعول، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لـ "زينة".
قوله: "لِنَبْلُوَهُمْ" متعلقٌ بـ "جَعَلْنا" بمعنييه.
قوله: "أيُّهم أحسنُ" يجوز في "أيُّهم" وجهان، أحدهما: أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء، و "أحسنُ" خبرُها. والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ لـ "نَبْلُوَهم" لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي "وأحسنُ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ لـ "أيُّهم"، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلاً مِنْ مفعول "لنبلوَهم" تقديرُه: لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ. وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في "أيُّهم"، ان تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى: {لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} على أحدِ الأقوالِ، وفي قوله:
3123- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ * فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ
(10/18)
---(1/3874)
وشرطُ البناءِ موجودٌ، وهو الإضافةُ لفظاً، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ، وهذا مذهبُ سيبويه، وأن تكونَ للأعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ. ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذاً {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ} وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم.
والضمير في "لِنَبْلُوَهم" و "أيُّهم" عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق، وهم سكانُ الأرض. وقيل: يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء. وفي التفسير: المرادُ بذلك الرُّعاة: وقيل: العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء.
* { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }
قوله تعالى: {صَعِيداً}: مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا، والصَّعِيْدُ. الترابُ: والجُزُرُ: الذي لا نباتَ به. يقال: سَنَةٌ جُزُر، وسِنونَ أَجْرازٌ: لا مطَر فيها. وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْزارٌ: لا نبات بها. وجَزَرَتِ الأرضُ: إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَزَر الأرضَ الجرادُ: أكلَ ما فيها. والجَرُوْزُ: المَرْأةُ الأكولةُ: قال:
3124- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا * تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
* { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ}: "أم" هذه منقطعةٌ فَتُقَدَّرُ بـ "بل" التي للانتقال لا للإبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهورِ النحاة، و "بل" وحدَها، أو بالهمزةِ وحدَها عند غيرِهم. وتقدَّم تحقيقٌ القولِ فيها.
و "انَّ" وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ أو أحدِهما على الخلاف المشهور.
والكَهْفُ: قيل: مُطْلق الغار. وقل: هو ما اتَّسع في الجبل، فإن لم يَتَّسِعْ فهو غارٌ. والجمعٌ "كُهوفٍ" في الكثرة، و "أَكْهَف" في القِلَّةِ.
والرَّقيم: قيل: بمعنى مَرْقُوم. وقيل: بمعنى راقم. وقيل: هو اسمٌ للكلبِ الذي لأصحاب الكهفِ. وأنشدوا لأميةَ بنِ أبي الصلت:
(10/19)
---(1/3875)
3125- وليسَ بها إلا الرَّقيمُ مُجاوِراً * وصِيدَهُمُ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ
/قوله: "عجباً" يجوز أن تكونَ خبراً، و {مِنْ آيَاتِنَا} حالٌ منه، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، و {مِنْ آيَاتِنَا} خبراً أول، وأن يكونَ "عجباً" حالاً من الضميرِ المستتر في {مِنْ آيَاتِنَا} لوقوعه خبراً. ووُحِّدَ وإن كان صفةً في المعنى لجماعة لأنَّ أصلَه المصدرُ. وقيل: "عَجَباً" في الأصلِ صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: آيةً عجبا. وقيل: على حذفِ مضاف، أي: آيةً ذاتَ عَجَبٍ.
* { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }
قوله تعالى: {إِذْ أَوَى}: يجوز أن ينتصِبَ بـ "عَجَباً" وأَنْ ينتصِبَ بـ "اذْكُر".
قوله: "وهَيِّئْ" العامَّةُ على همزةِ بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهري بياءين: الثانيةُ خفيفةٌ، وكأنه أبدل الهمزةَ ياءً، وإن كان سكونُها عارضاً. ورُوي عن عاصم "وَهَيَّ" بياءٍ مشددةٍ فقط. فيحتمل أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ مِنْ أولِ وَهْلَةٍ تخفيفاً، وأن يكونَ أبدلها كما فعل أبو جعفر، ثم أجرى الياءَ مُجْرى حرفِ العلةِ الأصلي فحذفه، وإن كان الكثيرُ خلافَه، ومنه:
3126- جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظُلْمِه * سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظلمِ يَظْلمِ
وقرأ أبو رجاء "رُشْدا" بضمِ الراء وسكونِ الشين، وتقدم تحقيقُ ذلك في الأعراف. وقراءةُ العامَّةِ هنا أليقُ لتوافِقَ الفواصلَ.
* { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }
قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا}: مفعولُه محذوفٌ، أي: ضَرَبْنا الحجابَ المانعَ. و {عَلَى آذَانِهِمْ} استعارةٌ للزومِ النوم. كقول الأسود:
3127- ومن الحوادِث لا أبالَكِ أنني * ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرضُ بالأَسْدادِ
وقال الفرزدق:
3128- ضَرَبَتْ عليكَ العَنْكَبوتَ بنَسْجِها * وقَضَى عليك به الكتاب المُنَزَّلُ(1/3876)
(10/20)
---
ونصَّ على الآذان لأنَّ بالضرب عليها خصوصاً يَحْصُلُ النومُ.
وأمال "آذانهم"....
و "سنينَ" ظرفٌ لـ "ضَرَبْنا". و "عَدَداً" يجوزُ فيه أن يكونَ مصدراً، وأن يكون فَعَلاُ بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقَص. فعلى الأولِ يجوز نصبُه مِنْ وجهين: النعتِ لـ "سنين" على حَذْفٍ، أي: ذوات عدد، أو على المبالغةِ، والنصبُ بفعلٍ مقدرٍ، أي: تُعَدُّ عدداً. وعلى الثاني: نعت ليس إلا، اي: معدودة.
* { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }
قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ}: متعلقٌ بالبعث. والعامَّةُ على نون العظمة جرياً على ما تقدم. وقرأ الزُّهْري "لِيَعْلم" بياء الغَيْبَةِ، والفاعلُ اللهُ تعالى. وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيْبَة. ويجوزُ أن يكونَ الفاعلُ {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} إذا جَعَلْناها موصولةً كما سيأتي.
وقرئ "ليُعْلَمَ" مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامُ الفاعلِ: قال الزمخشري: "مضمونُ الجملة، كما أنه مفعولُ العلمِ". ورَدَّه الشيخ بأنه ليس مذهبَ البصريين. وتقدَّم تحقيقُ هذه أولَ البقرة.
وللكوفيين في قيامِ الجملة مَقامَ الفاعلِ أو المفعولِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه: الجوازُ مطلقاً، والتفصيلُ بين ما يُعلَّق كهذه الآيةِ فيجوزُ، فالزمخشري نحا نحوَهم على قَوْلَيْهم. وإذا جَعَلْنا {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} موصولةً جاز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إليه في هذه القراءةِ أيضاً كما جاز إسناده إليه في القراءةِ قبلها.
وقُرِئ "ليُعْلِمَ" بضمِّ الياء، والفاعلُ الله تعالى، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: ليُعْلِمَ اللهُ الناسَ. و {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} في موضعِ الثاني فقط، إنْ كانت عِرْفانيةً، وفي موضعِ المفعولين إن كانَتْ يقينية.
(10/21)
---(1/3877)
قوله: "أَحْصَى" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه أفعلُ تفصيلٍ. وهو خبرٌ لـ "أيُّهم"، و أيُّهم" استفهاميةٌ. وهذه الجملةُ معلَّقَةٌ للعلمِ قبلَها. و "لِما لَبِثُوا" حال مِنْ "أَمَداً"، لأنه لو تأخَّر عنه لكام نعتاً له. ويحوز أَنْ تكونَ اللامً ُ على بابِها من العلَّة، أي: لأجل أبو البقاء. ويجوز أن تكونَ زائدة، و "ما" مفعولةٌ: إمَّا بـ "أَحْصى" على رأيِ مَنْ يُعْمِلُ أفعلَ التفضيل في المفعولِ به، وإمَّا بإضمارِ فعلٍ. و "أمداً" مفعولُ "لَبِثُوا" أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُ عليه أَفْعَلُ عند الجمهور، أو منصوبٌ بنفسِ أفْعَلَ عند مَنْ يَرى ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون "أَحْصَى" فعلاً ماضياً. و "أمَداً" مفعولُه، و "لِمَا لَبثوا" متعلقٌ به، أو حالٌ مِنْ "أَمَداً" أو اللامُ فيه مزيدةٌ، وعلى هذا: فَأَمَداً منصوبٌ بـ لَبِثوا. و "ما" مصدريةٌ أو بمعنى الذي. واختارَ الأولَ -أعني كونَ "أَحْصى" للتفضيل -/ الزجاجُ والتبريزي، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: فما تقول فيمَنْ جعله مِنْ أفعلِ التفضيلِ؟ قلت: ليس بالوجهِ السديدِ، وذلك أنَّ بناءَه مِنْ غيرِ الثلاثي ليس بقياسٍ، ونحو "أَعْدَى من الجَرَب" و "أفلس من ابن المُذَلَّق" شاذٌّ، والقياسُ على الشاذِّ في غيرِ القرآن ممتنعٌ فكيف به؟ ولأنَّ "أَمَداً": إمَّا أَنْ ينتصِبَ بأفعلَ وأفعلُ لا يعملُ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ بـ "لبثوا" فلا يَسُدُّ عليه المعنى: فإنْ زعمتَ أني أنصِبُه بفعلٍ مضمرٍ كما أَضْمَرَ في قوله:
3129 ....................... * وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانسا
فقد أبعدت المتناول، حيث أبيت أن يكون ["أحصى"] فعلاً ثم رجعتَ مضطراً إليه".
(10/22)
---(1/3878)
وناقشه الشيخ قال: "أمَّا دعواه أنه شاذٌّ فمذهبُ سيبويهِ خِلافُه، وذلك أنَّ أفعلَ فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، ويُعْزى لسيبويه، والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب الفارسي، والتفصيلُ: بين أن تكونَ همزتُه للتعديةِ فيمتنعَ، وبين أَنْ لا تكونَ فيجوزَ، وهذا ليسَتِ العمزةُ فيه للتعدية. وأمَّا قولُه: "أَفْعَلُ لا يعمل" فليس بصحيح لأنه يعملُ في التمييز، و "أَمَداً" تمييزُ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطعُ الناسِ سيفاً، وزيد أقطعُ لِلْهامِ سيفاً".
قلت: الذي أحوجَ الزمخشريَّ إلى عَدَمِ جَهْلِه تمييزاً مع ظهوره في بادئ الرأي عدمُ صحةِ معناه. وذلك أنَّ التمييزَ شرطُه في هذا لاباب أن تَصِحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ويتصفَ به، ألا ترى إلى مثاله في قوله: "زيد أقطعُ الناس سيفاً" كيف يَصِحُّ أن يُسْنَدَ إليه فيقال: زيد قَطَعَ سيفُه، وسبفه قاطع، إلى غيرِ ذلك. وهنا ليس الإحصاءُ من صفةِ الأمَد، ولا تَصِحُّ نسبتُه إليه، وإنما هو صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان الشيخُ نقل عن أبي البقاء نضبَه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبَه على التمييز حالَ جَعْلِه "أَحْصَى" أفعلَ تفصيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فهلٌ ماضٍ. قال أبو البقاء: "في أحصى وجهان، أحدُهما: هو فعلٌ ماضٍ، "وأَمَداً" مفعوله، و "لِما لَبِثوا" نعتٌ له، قُدِّم فصار حالاً أو مفعولاً له، أي: لأجل اُبْثهم. وقيل: اللامُ زائدةٌ و "ما" بمعنى الذي، و "أَمَداً" مفعولُ "لبثوا" وهو خطأٌ، وإنما الوجهُ أن يكونَ تمييزاً والتقدير: لما لبثوه. والوجه الثاني: هو اسمٌ و "أَمَداً" منصوبٌ بفعلٍ دَلَّ عليه الاسمُ" انتهى. فهذا بفعلٍ مقدرٍ، وأنه جعله تمييزاً عن "لبثوا" كما رأيت.
(10/23)
---(1/3879)
ثم قال الشيخ: "وأمَّا قولُه "وأمَّا قولُه "وإمَّا أَنْ يُنْصَب بـ "لبثوا" فلا يَسُدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوبٌ بـ "لَبِثوا". قال ابن عطية: "وهو غير متجهٍ" انتهى. وقد يتجه: وذلك أنَّ الأمدَ هو الغاية، ويكون عبارةً عم المدةِ من حيث إنَّ المدَّةَ غايةٌ هي أَمَدُ المدة على الحقيقة، و "ما" بمعنى الذي، و "أمَداً" منصوبٌ على إسقاط الحرفِ، وتقديره: لِما لبثوا مِنْ أمدٍ، مِنْ مدةٍ، ويصيرُ "مِنْ أمدٍ" تفسيراً لما أُبْهِمَ من لفظ "ما" كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} ولمَّا سقط الحرفُ وصل إليه الفعل".
قلت: يكفيه أنَّ مِثْلَ ابنِ عطية جعله غيرَ متجهٍ، وعلى تقديرِ ذلك فلا نُسَلِّم أنَّ الطبريَّ عنى نصبَه بلبثوا مفعولاً به بل يجوز أَنْ يكونَ على نصبَه تمييزاً كما قاله أبو البقاء.
ثم قال: "وأمَّا قولُه: "فإن زعمت إلى آخره فتقول: لا يُحتاج إلى ذلك، لأنَّ لقائلِ ذلك أَنْ يذهب مذهبَ الكوفيين في أنه ينصِبُ "القوانسَ" بنفس "أَضْرَبُ" ولذلك جعل بعضُ النحاة أنَّ "أعلم" ناصبٌ لـ "مَنْ" في قوله: "أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ"، وذلك لأنَّ أَفْعَلَ مضمَّنٌ لمعنى المصدر إذ التقدير: يزيد ضربُنا القوانسَ على ضَرْبِ غيرنا".
قلت: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعلُ التفصيلِ ضعيفٌ ولذلك قَصُرَ عن الصفةِ المشبهةِ باسمِ الفاعلِ، حيث لم يؤنَّثْ ولم يُثنَّ ولم يُجْمَع.
(10/24)
---(1/3880)
وإذا جعلنا "أَحْصَى" اسماً فجوَّز الشيخ في "أيّ" أن تكونَ الموصولةَ، و"أَحْصَى" خبرٌ لمبتدأ محذوف هو عائدُها، وأنَّ الضمةَ للبناء على مذهبِ سيبويهِ لوجودِ / شرطِ البناءِ وهو أضافتُها لفظاً، وحَذْفُ صدرِ صلتِها، وهذا إنما يكون على جَعْلِ العِلْم بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقديرُ آخرُ لا حاجةَ إليه. إلا أنَّ في إسنادِ "عَلِمَ" بمعنى عَرَف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريرُه في الأنفال وغيرِها. وإذا جَعَلْناه فعلاً امتنع أن تكونَ موصولةً إذ لا وجهَ لبنائها حينئذٍ وهو حسن.
* { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }
قوله تعالى: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ}: فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل: إنهم فتيةٌ آمنوا بنا. وقوله: "وزِدْناهُم" "وَرَبَطْنا" التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضاً.
* { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }
قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ}: منصوبٌ بـ "رَبَطْنا" والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ.
(10/25)
---(1/3881)
قوله: "إذن" جوابٌ وجزاءٌ، أي: لقد قُلنا قولاً شَطَطاً إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهاً. وشَطَطاً في الأصل مصدرٌ، يقال: شَطَّ شَطَطاً وشُطُوطاً، أي: جارَ وتجاوزَ حَدّضه، ومنه: شطَّ في السَّوْمِ، وأَشَطَّ، أي: جاوَزَ القَدْرَ. وشَطَّ المنزلُ: يَعُدَ، من ذلك. وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطاًً، طالَتْ، من ذلك. وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر "قُلْنا". الثاني: نعتٌ لمصدرٍ، أي: قولاً ذا شَطَطٍ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً. الثالث: أنه مفعولٌ بـ "قُلْنا" لتضمُّنِه معنى الجملة.
* { هَاؤُلااءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }
قوله تعالى: {هَاؤُلااءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ}: يجوز في "قومُنا" أن يكونَ بدلاً أو بياناً، و "اتَّخذوا" هو عبرُ "هؤلاء"، ويجوز أن يكونَ "قومُنا" هو الخبرَ، و "اتَّخذوا: حالاً. و "اتَّخذ" يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا، و "مِنْ دونِه" هو الثاني قُدِّمَ، و "آلهةً" هو الأولُ. وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في "مِنْ دونِه" أن يتعلَّقَ بـ "اتَّخذوا"، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ "آلهة" إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً لـ "آلهةً".
قوله: {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} تخصيصٌ فيه معنى الإنكار. و "عليهم"، أي: على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به. ولا يجوز أن تكون هذه الجملةُ التخصيصية صفةً لـ "آلهةً" لفساده معنى وصناعةً، لأنها جملةٌ طلبيةٌ. فإنْ قلت: أُضْمِرُ قولاً كقوله:
3130- جاؤوا بِمَذْقٍ عل رَأَيْتَ الذئبَ قطّْ
لم يسعِدْك المعنى لفسادِع عليه.
(10/26)
---(1/3882)
* { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }
قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}: "إذا" منصوبٌ بمحذوف، أي: وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم. وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ "إذ" للتعليل، أي: فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ.
قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} يجوز في "ما" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ، أي: واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه. و "إلا الله" يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه، ومنقطعاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ، وأن يكون عائدَه، والمعنى واحد.
والثاني: أنها مصريةٌ، أي: واعتزلتُمٍ عبادَتهم، أي: تركتموها. و "إلا اللهَ" على حَذْفِ مضاف، أي: إلا عبادةَ اللهِ. وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.
الثالث: أنها نافيةٌ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى، وعلى هذا فهذه الجملةُ معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري. و {إِلاَّ اللَّهَ} استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه. وقال أبو البقاء: "والثالث: أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصلٌ، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ" قلت: فظاهرُ هذا الكلامِ: أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون "ما" نافيةً، وليس الأمرُ كذلك.
(10/27)
---(1/3883)
قوله: "مِرْفَقا" قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ. ونافع وابنُ عامر بالعكس، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة، فقيل: هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفِقُ به، وليس بمصدرٍ. وقيل: هو بالكسر في الميم لليد، وبالفتح للأمر، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ. وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة:
3131- بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ
/وقيل: يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
وحكى مكي، عن الفراء أنه قال: "لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ".
قلت: وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه. وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميدِه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: "هو بفتح الميم: الموضعُ كالمسجد. وقال أبو زيد: هو بفتح الميم حصدرٌ جاء على مَفْعَل" وقال بعضهم: هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط. وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال: "أهلُ الحجاز يقولون: "مَرْفقا" بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به، ويكسِرون مِرْفَقَ الإنسان، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً". وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ.
و {مِّنْ أَمْرِكُمْ} متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض. وقيل: هي بمعنى بَدَلَ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد:
3132- فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً * مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانْ
أي: بَدَلاً. ويجوز أن يكونَ حالاً من "مِرْفَقاً" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.
(10/28)
---(1/3884)
* { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }
قوله تعالى: {تَّزَاوَرُ}: قرأ ابن عامر "تَزْوَرُّ" بزنةِ تَحْمَرُّ، والكوفيون "تَزَاوَرُ" بتخفيفِ الزايِ، والباقون بتثقِيلها. فـ "تَزْوَرُّ" بمعنى تميل من الزَّوَر وهو المَيَلُ، وزاره بمعنى مال إليه، وقول الزُّور: مَيّلٌ عن الحق، ومنه الأَزْوَرُ وهو المائلُ بعينه وبغيرها. قال عمر بن أبي ربيعة:
3133- .......................... * وجَنْبي خِيفة القوم أَزْوَرُ
وقيل: تَزْوَرُّ بمعنى تَنْقَبِضُ مِنْ ازْوَرَّ، أي: انقبضَ. ومنه قولُ عنترة:
3134- فازْوَرَّ مَنْ وَقَعَ القَنا بلَبانِه * وشكا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
وقيل: مال. ومثلُه قولُ بِس~ر بن أبي خازم:
3135- يَؤُمُ بها الحداةُ مياهَ نَخْلٍ * وفيها عن أبانَيْنِ ازْوِرارُ
أي: مَيْلٌ.
وأما "تزاوَرُ" و "تَّوازَرُ" فأصلهما تَتَزاوَرُ بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التائين، وغيرُهم أَدْغم، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في "تَظَاهَرون" و "تَساءلون" ونحوِهما. ومعنى ذلك الميل أيضاً.
وقرأ أبو رجاء والجحدري وابن أبي عبلة وأيُّوب السُّختياني "تَزْوَارُّ" بزنة تَحْمارُّ. وعبد الله وأبو المتوكل "تَزْوَئِرُّ" بهمزةٍ مكسورةٍ قبل راءٍ مشددة، وأصلُها "تَزْوارُّ" كقراءة أبي رجاء ومَنْ معه، وإنما كَرِهَ الجمعَ بين الساكنين، فأبدل الألفَ همزةً على حدِّ إبدالها في "جَأَنّ" و "الضَّأَلِّين". وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا التصنيف أخرَ الفاتحة.
(10/29)
---(1/3885)
و {إِذَا طَلَعَت} معمولٌ لـ "تَرَى" أو لأ "تَزَاوَرُ"، وكذا {إِذَا غَرَبَت} معمولٌ للأولِ أو للثاني وهو "تَقْرضهم". والظاهرُ تمحُّضُه للظرفيةِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً.
ومعنى "تَقْرِضُهم" تَقْطَعهُم لا تُقَرِّبهم، لأنَّ القَرْضَ القَطْعُ، من القَطِيعةِ والصَّرْم. قال ذو الرمة:
3136- إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أقْواز مُشْرِفٍ * شِمالاً، وعن أَيْمَانِهِنَّ الفوارِسُ
والقَرْضُ: القَطْعُ. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال الفارسي: "معنى تَقْرِضُهم: تُعْطيهم مِنْ ضوئِها شيئاً ثم تزولُ سريعاً كالقَرْضِ يُسْتَرَدُّ". وقد ضُعِّف قولُه بأنه كان ينبغي أن يُقْرأ "تُقْرِضُهم" بضم التاء لأنه مِنْ أَقْرض.
وقرئ "يَقْرِضهم" بالياء مِنْ تحتُ، أي: الكهف، وفيه مخالَفَةٌ بين الفعلين وفاعلِهما، فالأَوْلى أن يعودَ على الشمس ويكون كقوله:
3137- ............................... * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وهو قولُ ابنِ كَيْسان.
و "ذات اليمين" و "ذات الشِّمال" ظرفا مكانٍ بمعنى جهةِ اليمين وجهةِ الشِّمال.
قوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} جملةٌ حاليةٌ، أي: نفعلُ هذا مع اتساع مكانِهم، وهو أهجبُ لحالِهم، إذ كان ينبغي أَنْ تصيبَهم الشمسُ لاتِّساعِه. والفَجْوَةُ: المُتَّسَعُ، من الفَجا، وهو تباعدُ ما بين الفَخْذَين. يقال: رجلٌ أَفْجَى وامرأة فَجْواء، وجمع الفَجْوَة فِجاءٌ كقَصْعَة وقِصاع.
قوله: "ذلك" مبتدأٌ مُشار به إلى جميعِ ما تقدم مِنْ حديثهم. و "من" آياتِ الله" الخبرُ. ويجوز أن يكونَ "ذلك" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك. و {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} حالٌ.
* { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }
(10/30)
---(1/3886)
قوله تعالى: {أَيْقَاظاً}: جمعٌ "يَقُظ" بضم القاف، ويُجمع على يِقاظ. ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال. وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال: "يَقِظ" بالكسر، لأنه قال: "وأيقاظ جمع "يَقِظ" كأَنْكادِ في "نَكِد". واليَقَظَةُ: الانتباهُ ضدُّ النوم.
والرُّقود: جمع راقِد كقاعِد وقُعود، ولا حاجةَ إلى إضمار شيءٍ كما قال بعضهم: إنَّ التقديرَ: لو رَأَيْتَهم لَحَبْسْتَهُم أيقاظاً.
قوله: "ونُقِلَّبهم" قرأ العامَّةُ "نُقَلِّبهم" مضارعاً مسنداً للمعظِّمِ نفسَه. وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ، أي: الله أو المَلَك. وقرأ الحسن: "يُقَلِبُهم" بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ، وفاعلُه كما تقدّضم: إمَّا اللهُ أو المَلَكُ. وقرأ أيضاً "وتَقَلُّبَهم" بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ"، كقولِه: "وتَقَلُّبَك في الساجدين" ونصبِ الباء. وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ، أي: ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ. ورُوِيَ عنه أيضاً رفعُ الباءِ على الابتداءِ، والخبرُ الظرفُ بعدَه. ويجوز أن يكونَ محذوفاً، أي: آيةٌ عظيمة./ وقرأ عكرمةُ "وتَقْلِبُهم" بتاءِ التأنيثِ مضارعَ "قَلَبَ" مخففاً، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ.
قوله: "وكَلْبُهم" العامَّةُ على ذلك. وقرأ جعفر الصادق "كالِبُهم"، أي: صاحبُ كلبِهم، كلابِن وتامِر. ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب "وكالِئُهم" بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ: أي: حَفِظَ يَحْفَظُ.
و "باسِط" اسمُ فاعلٍ ماضٍ، وإنما هَمِلَ على حكاية الحال. والكسائيُّ يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية.
والوَصْيدُ: الباب. وقيل: العَتَبة. وقيل: الصَّعيد والتراب. وقيل: الفِناء. وأنشد:
3138- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها * عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
(10/31)
---(1/3887)
والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ {لَوِ اطَّلَعْتَ} على أصلِ التقاءِ الساكنين. وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: فِرارا" يجوز أَنْ يكونَ مصنوباً على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال، أي: فارَّاً، وتكونُ حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكونَ مفعولاً له.
قوله: "رُعْباً" مفعولٌ ثانٍ. وقيل: تمييز. وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ "لَمُلِئْتَ" بالتشديد على التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ. وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران.
* { وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ}: الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كما أَنَمْناهم تلك النَّوْمَةَ كذلك بَعَثْناهم ادَّكاراً بقُدرتِه.
والإشارةُ بـ "ذلك" إلى المصدرِ المفهومِ مِنْ قوله "فَضَرَبْنا"، أي: مثلَ جَعْلِنا إنامتَهم هذه المدة المتطاولةَ آيةً جَعَلْنا بَعْثُهم آيةً. قاله الزجاج والزمخشري.
قوله: "ليتساءَلُوا" اللامُ متعلقةٌ بالبعث، فقيل: هي للصَّيْرورة، لأنَّ البَعْثَ لم يكنْ للتساؤلِ. قاله ابنُ عطيةَ. والصحيحُ أنَّها على بابِها مِن السببية.
(10/32)
---(1/3888)
قوله: {كَم لَبِثْتُمْ} "كم" منصوبةٌ على الظرف، والمُمَيِّزُ محذوفٌ، تقديرُه: "بِوَرِقِكم" حال ِمنْ "أحدَكم"، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وأبو بكر بفتحِ الواوِ وسكونِ الراءِ والفَكِّ. وباقي السبعة بكسر الراء، والكسرُ هو الأصلُ، والتسكينُ تحفيفٌ كـ "نَبْق" في نَبِق. وحكى الزجاج كسرَ الواوِ وسكونِ الراء وهو نَقْلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدْ وكَبْد وكِبْد.
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن كذلك، إلا أنه بإدغام القاف. واستضعفوها مِنْ حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدِّيهما وقد تقدَّم لك في المتواترِ ما يُشبه هذه من نحوِ {فَنِعِمَّا} {لاَ تَعْدُّواْ فِي السَّبْتِ} ورُوِيَ عن ابنِ محيصن أنَّه أَدْغَمَ كسرَ الراءَ فِراراً مِمَّا ذَكَرْتَ.
وقرأ أميرُ المؤمنين "بوارِقكم" اسمَ فاعلٍ، أي: صاحب وَرِقٍ كـ "لابن". وقيل: هو اسمُ جمعٍ كجاملٍ وباقر.
والوَرِقُ: الفِضَّةُ المضروبةُ. وقيل: الفضةُ مطلقاً. ويقال لها: "الرِّقَةُ" بحذفِ الفاء. وفي الحديث: "في الرِّقَةِ رُبْع العُشْر" وجُمعت شذوذاً جَمْعَ المذكرِ السالم، قالوا: "حُبُّ الرِّقَيْنِ يغطِّي أَفْن الأَفِين".
قوله: أيُّها أَزْكَى: يجوز في "أيّ" أن تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ موصولةً. وقد عَرَفْتَ ذلك ممَّا تقدَّم لك في قوله: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} فالعملُ واحدٌ. ولا بد مِنْ حذفٍ: "أيُّ أهْلِها أزْكَى". وطعاماً: تمييز. وقيل: لا حَذْفَ، والضميرُ على الأطعمة المدلول عليها من السياق.
قوله: "ولِيَتَلَطَّفْ" قرأ العامَّةُ بسكونِ لامِ الأمر، والحسنُ بكسرِها على الأصل. وقتيبة المَيَّال "ولِيَتَلَطَّفْ" مبنياً للمفعول. وأبو جعفر وأبو صالحٍ وقتيبة "ولا يَشْعُرَن" بفتحِ الياءِ وضمِّ العين، "أحدٌ" فاعلٌ به.
* { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوااْ إِذاً أَبَداً }(1/3889)
(10/33)
---
قوله: {إِنَّهُمْ} هذا الضميرُ يجوز أن يعودَ على "أحد" لأنه في معنى الجمع، وأنْ يكونَ عائداً على "أهل" المضاف لضمير المدينة، قاله الزمخشري. ويجوز أَنْ يعودَ على قومِهم لدلالةِ السِّياقِ عليهم. وقرأ زيدُ بن علي "يُظْهِروا" مبنيّاً للمفعول و "إذن" جوابٌ وجزاؤٌ، أي: إنْ ظَهَروا فلن تُفْلِحوا.
* { وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوااْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً }
قوله: {وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا}: أي: وكما أَنَمْاهم وبَعَثْناهم أَعْثَرْنا، أي: أَطْلَعْنا. وقد تقدَّم الكلامُ على مادة "عثر" في المائدة و "لِيَعْلَموا" متعلقٌ بأَعْثَرْنا. والضمير: قيل: يعود على مفعول "أَعْثَرْنا" المحذوفِ تقديرُه: أَعْثَرْنا الناسَ. وقيل: يعود على أهل الكهف.
قوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ} يجوز أَنْ يعملَ فيه "أَعْثَرنا" أو "لِيَعْلَموا" أو لمعنى "حَقٌّ" أو لـ "وَعْدَ" عند مَنْ "يَتَّسع في الظرف. وأمَّا مَنْ لا يَتَّسعُ، فلا يجوز الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صِلَتِهِ.
قوله: "بُنْياناً" يجوز أَنْ مفعولاً به، جمعَ يُنْيَانَه، وأن يكونَ مصدراً.
قوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ} يجوز أن يكونَ مِنْ كلام الباري تعالى، وأن يكونَ من كلامِ المتنازِعَيْنِ فيهم.
قوله: "غَلَبوا" قرأ الثقفي والحسن بضم الغين وكسرِ اللام.
(10/34)
---(1/3890)
* { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }
قوله: {سَيَقُولُونَ}: قيل: إنما أُتتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيَّاً وإدْماجاً تقديرُه: فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون. ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال.
وقرأ ابنُ محيصن "ثَلاثٌّ" بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ.
قوله: {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ "ثلاثة".
قوله: "خَمْسَةٌ" قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم، وعي لغةٌ كعشَرَة. وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ، وبإدغامِ التاءِ في السين، يعني تاءَ "خمسة" في سين "سادسهم" وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جداً، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطاً على مثلِه. ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة.
و "ثلاثةٌ" و "خمسةٌ" و "سبعةٌ" إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هم ثلاثةٌ، وهم خمسةٌ، وهم سبعةٌ. وما بد "ثلاثة" و "خمسة" من الجملةِ صفةٌ لهما، كما تقدَّم. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً لعدم عاملٍ فيها، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هؤلاء ثلاثةٌ، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العاملُ اسمَ الإشارة أو التنبيه. قال أبو البقاء: "لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ، ولم يُشيروا إلى حاضر".
(10/35)
---(1/3891)
قوله: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب. والثاني: أنه في موضعِ الحال، أي: ظانِّين. والثالث: أنَّه منصوبٌ بـ "يقولون" لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه، أي: يَرْجُمون بذلك رَجْماً.
والرَّجْمُ في الأصلِ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ. قال زهير:
3139- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ * وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
أي: المَظْنُون.
قوله: "وثامِنُهُم" في هذه الواوِ أوجهٌـ أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ عذع الجملةَ على جملةِ قولِه "هم سبعة" فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم. الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ
}. ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.
الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة تسعة، يُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله.
(10/36)
---(1/3892)
وقُرِئ: "كالبُهم"، أي: صاحبُ كلبِهم. ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة: وثامنُهم صاحبُ كلبِهم.
وثلاثة وخمسة وسبعة مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ: ثلاثة أشخاص، قال: "وإنما قدَّرْنا أشخاصاً لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه رَبَعَهم، أي: جَعَلَهم أربعةً، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ، فلو قدَّرْناه رجالاً استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين". وهو كلامٌ حسنٌ.
وقال أبو البقاء: "ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ". قلت: يعني أن رابعَهم فيما مضى، فلا يعمل النصبَ تقديراً، والإضافة محضة. وليس كما زعم فإنَّ المعنى على: يَصير الكلبُ لهم أربعةً، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط.
* { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَداً }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}: قاله أبو البقاء: "في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غداً، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول. الثاني: هو من "فاعلٌ"، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ "إن شاء الله". والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ "أَنْ يشاء اللهُ" نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيلك: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبساً بقولِ: "إن شاء الله".
(10/37)
---(1/3893)
قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال: "إلا أَنْ يشاء" متعلقٌ بالنهي لا بقولِه "إنِّي فاعلٌ" لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي". قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن.
ثم قال: "وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين، أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه. والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبسا بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله. وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ "إلا أَنْ يشاء" في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبداً، ونحوُه: "وما يكون لنا أن نعودَ فيها {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا} لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله".
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ.
وقال الشيخ: "وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية: "في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس "إلا أن يشاءَ اللهُ" من القولِ الذي نَهَى عنه".
* { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً }
(10/38)
---(1/3894)
قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ}: قرأ الأخَوان بإضافة "مِئَةِ" إلى سنين. والباقون بتنوين "مِئَةٍ". فأمَّا الأولى فأوقع فيها الجمعَ موقعَ المفردِ كقولِه: {بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} قاله الزمخشري يعني أنه أوقع "أَعْمالاً" موقعَ "عَمَلاً". وقد أنحى أبو حاتم على هذه القراءةِ ولا يُلْتَفَتُ إليه. وفي مصحفِ عبد الله "سَنَة" بالإفراد. وبها قرأ أُبَيّ. وقرأ الضحاك "سِنُون" بالواو على أنها خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُون.
وأمَّا الباقون: فلمَّا لم يَرَوا إضافةَ "مِئَة" إلى جمعٍ نَوَّنُوا، وجعلوا "سِنين" بدلاً مِنْ "ثلثمئة" أو عطفَ بيان. ونَقَل أبو البقاء أنَّه بدلٌ مِنْ "مِئَة" لأنها في معنى الجمع. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ "سنين" في هذه القراءةِ مميِّزاً، لأنَّ ذلك إنما يجيءُ في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز، كقوله:
3140- إذا عاش الفَتَى مِئَتين عاماً * [فقد] ذَهَب اللَّذاذَةُ والفَتاءُ
قوله: "تِسْعاً"، أي: تسعَ سنين، حَذَفَ المُمَيَّزَ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، إذ لا يُقال: عندي ثلثمئة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أَرَدْتَ ثياباً ونحوَها لم يَجُزْ لأنه إلغازٌ. و "تِسْعاً" مفعولٌ به. وازداد: افتَعَلَ، أُبْدِلَتِ التاءُ دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين نحو: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} فلمَّا بُنِي على الافتعال نَقَص واحداً.
وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في وراية "تَسْعا" بفتح التاء كعَشْر.
* { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً }
(10/39)
---(1/3895)
قوله: {أَبْصِرْ بِهِ}: صيغةُ تعجبٍ بمعنى ما أبصرَه، على سبيل المجاز، والهاءُ للهِ تعالى. وفي مثلِ هذا ثلاثةُ مذاهبَ: الأصحُّ أنه بلفظِ الأمرِ ومعناه الخبرُ، والباءُ مزيدةٌ في الفاعل إصلاحاً للَّفْظ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المصدرِ. والثالث: أنه ضميرُ المخاطبِ، أي: أَوْقِعْ أيها المخاطبُ. وقيل: هو أمرٌ حقيقةً لا تعجبٌ، وأن الهاءَ تعودُ على الهُدَى المفهوم من الكلام.
وقرأ عيسى: "أَسْمَعَ" و "أَبْصَرَ" فعلاً ماضياً، والفاعلُ الله تعالى، وكذلك الهاءُ في "به"، أي: أبصرَ عبادَه وأَسْمعهم.
قوله: "مِنْ وليّ" يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأً.
قوله: "ولا يُشْرك"، قرأ ابن عامر بالتاءِ والجزم، أي: ولا تُشْرِكْ أنت أيها الإنسانُ. والباقون بالياء من تحتُ ورفعِ الفعلِ، أي: ولا يُشْرك الله في حكمِه أحداً، فهو نفيٌ مَحْضٌ.
وقرأ مجاهد: "ولا يُشْرِكْ" بالتاء من تحتُ والجزم.
قال يعقوب: "لا أعرف وجهه". قلت: وجهُه أنَّ الفاعلَ ضميرُ الإنسانِ، أُضْمِرَ للعِلْمِ به.
والضميرُ في قولِه/ "مالهم" يعود على معاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: "وتكون الآيةُ اعتراضاً بتهديد". كأنَّه يعني بالاعتراضِ أنهم ليسوا ممَّن سَبَق لأجلهم، ولا يريد الاعتراضَ الصناعيِّ.
* { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }
قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}: أي: احبِسْها وثَبِّتْها، قال أبو ذؤيب:
3141- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة * تَرْسُو إذى َفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
وقوله: "بالغَداة" تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام.
(10/40)
---(1/3896)
قوله: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ مفعولَه محذوفٌ، تقديرُه: ولا تَعْدُ عيناك النظرَ. والثاني: أنه ضُمِّن معنى ما يتعدَّى بـ "عَنْ". قال الزمخشري: "وإنما عُدِّيَ بـ "عَنْ" لتضمين "عَدا" معنى نبا وعلا في قولِك: نَبَتْ عنه عيْنُه، وعلَتْ عنه عَيْنُه، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به. فإن قلت: أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلاَّ قيل: ولا تَعْدُهم عيناك، أو: ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت: الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ. ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك: ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم. ونحوه {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: ولا تُضُمُّوها إليها آكلين لها".
ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس، وإنما يُصار إليه عند الضرورة. فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه.
وقرأ الحسن "ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ" مِنْ أَعْدى رباعياً. وقرأ هو وعيسى والأعمش "ولا تُعَدِّ" بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّى مُضَعَّفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ، كقولِ النابغة:
3142- فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له * وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ
كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ. ورَدَّ عليهما الشيخ: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين في بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه. وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال: "يقال: عَدَاه إذا جاوزه، وإنما عُدِّي بـ عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ" وهو اعتراضٌ حسنٌ.
قوله: "تُريد" جملةٌ حالية. ويجوز أن يكونَ فاعلُ "تريد" المخاطبَ، أي: تريد أنت. ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد. ومنه قولُ امرئ القيس:(1/3897)
(10/41)
---
3143- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ * بها العَيْنان تَنْهَلُّ
وقولُ الآخر:
3144- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ * أو سُتنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ
وفيه غيرُ ذلك. زنسبةُ الإرادةِ إلى العينين مجازٌ. وقال الزمخشري: "الجملةُ في موضعِ الحال". قال الشيخ: "وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ "عَيْناك" فكان يكون التركيبُ: تريدان". قلت: غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها: من من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ. ثم قال: "وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام. وإنما جِيْءَ بقوله: "عيناك" والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له".
قلت: وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه: وهو أن يكون "تَعْدُ" مُسنداً لضميرِ المخاطب صلى الله عليه وسلم، و "عيناك" بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل. و "تُرِيدُ" على وَجْهَيْها: مِنْ كونها حالاً مِنْ "عيناك" أو من الضمير في تَعُدْ. إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في "ولا تَعْدُ" ضَعفاً: من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول: "الجارية حسنُها فاتِنٌ" ولا يجوز "فاتنةٌ" إلا قليلاً، كقولِه:
3145- فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
فقال: "مُعَيَّنٌ" مراعاةً للهاء في "كأنه"، وكان الفصيحُ أن يقولَ: "مُعَيَّنان" مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ.
(10/42)
---(1/3898)
قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} العامَّة على إسنادِ الفعل لـ "نا" و "قلبَه" مفعول به. وقرأ عمر بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع "قلبُه" أَسْندوا الإغفالَ إلى القلبِ. وفيه أوجهٌ. قال ابن جني: مَنْ ظَنَنَّا غافِلين عنه". وقال الزمخشري: "مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً،. وقال أبو البقاء: "فيه وجهان، أحدُهما: وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه. والثاني: أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا".
قوله: "فُرُطاً" يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعل كقولِهم: "فرسٌ فُرُطُ"، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدَّماً للحقِّ. وأن يكونَ مصدراً بمعن التفريط والتضييع، أي: أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإفراط والإسراف.
* { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }
قوله: {وَقُلِ الْحَقُّ}: يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني" أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحقُّ، كما صَرَّح به في موضعِ آخرَ، إلاَّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها، منها: أَنْ يُجَابَ به استفهامٌ، أو يُرَدَّ به نفيٌ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعد كقراءة {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ} كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده.
(10/43)
---(1/3899)
وقرأ أبو السَّمَّال قعنب: "وقَلُ الحقَّ" بضمِّ اللامِ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف. وقرأ أيضاً بنصب "الحقَّ". قال صاحب "اللوامح": "هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً، وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ "مِنْ" بمضمرٍ على ذلك. أي: جاء مِنْ ربكم" انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله: "فَلْيُؤْمِنْ"، و "فَلْيَكْفُرْ" وهو الأصل.
قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} يجوز في "مَنْ" أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُـ وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط. وفاعلُ "شاء" الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على "مَنْ". وقيل: ضميرٌ يعودُ على الله، وبه فَسَّر ابنُ عباس، والجمهورُ على خلافِه.
قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "ناراً". والسَّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء. وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادِق. قاله الهَرَوِيُّ. وقيل: هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسطاط. وقيل: هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار. وقيل: كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق، قال رؤبة:
3146- يا حَكْمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ * سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ
ويُقال: بيت مُسَرْدَق. قال الشاعر:
3147- هوة المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه * صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ
وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفيلة. والفُيول: جمع فِيل. وفيل: السُّرادق: الدِّهليز. قال الفرزدق:
3148- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ * تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا
والسُّرادق: فارسيٌّ معرَّبٌ أصله: سرادَة، قاله الجواليقي، وقال الراغب: "فارسيٌّ معرَّبٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان".
(10/44)
---(1/3900)
قوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ}، أي: يَطْلُبوا العَوْنَ. والياءُ عن واوٍ، إذ الأصل: يستَغْوِثوا، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله: {نَسْتَعِينُ} وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه:
3149- ....................... * ........ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
[وكقولِه]:
3150- ....................... * تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وهو كثير.
و "كالمُهْلِ" صفةٌ لـ "ماء". والمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص. والمَهَل بفتحتين: التُّؤَدَة والوَقار. قال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
}. قوله: {يَشْوِي الْوجُوهَ} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً، أن تكونَ حالاً مِنْ "ماء" لأنه تخصَّصَ بالوصف، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف.
والشَّيءُ: الإنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءَ المَشْوِيَّ.
قوله: {بِئْسَ الشَّرَابُ} المخصوصُ محذوفٌ تقديره: هو، أي: ذلك الماءُ المستغاثُ به.
قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} "ساءَتْ" هنا متصرفةٌ على بابها. وفاعلُها ضميرُ النار. ومُرْتَفَقَا تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها. والمُرْتَفَقُ: المُتَّكأ. وقيل: المنزل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ: "وحَسُنَتْ مُرتفقا"، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أَنْ يكون من قوله:
3151- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا * كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ
يعني من باب التهكُّم.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }
(10/45)
---(1/3901)
قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ {إِنَّ الَّذِينَ} والرابطُ: إمَّا تَكَرُّرُ الظاهرِ بمعناه، وهو قولُ الأخفش. ومثلُه في الصلة / جائز. ويجوز ان يكونَ الرابطُ محذوفاً، أي: منهم/ ويجوز أن يكونَ الرابطُ العمومَ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ قولَه: {أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ}، ويكونَ قولُه: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} اعتراضاً. قال ابن عطية: ونحوُه في الاعتراض قولُه:
3152- إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ أَلْبَسَه * سِرْبالَ مُلْكٍ به تُزْجى الخواتِيمُ
قال الشيخ: "ولا يتعيَّنُ أن يكونَ "إنَّ اللهَ ألبسَه" اعتراضاً لجوازِ أَنْ يكونَ خبراً عن "إنَّ الخليفة". قلت: وابن عطيةَ لم يَجْعَلْ ذلك متعيِّناً بذلك هو نحوه في أحد الجائزين فيه. ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قولَه {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقولَه {أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ} - خَبَريْن لـ "إنَّ" عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، أعني تعدُّدَ الخبر، وإنْ لم يكونا في معنى خبرٍ واحد.
وقرأ الثقفيُّ "لا نُضَيِّع" بالتشديدِ، عَدَّاه بالتشديد كما عَدَّاه الجمهورُ بالهمزة.
* { أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }
قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ}: في "مِنْ" هذه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنَّها للابتداءِ. والاثني: أنها للتعيض. والثالث: أنها لبيان الجنسِ، لأي: شيئاً مِنْ أساور. والرابع: أنها زائدةٌ عند الأخفش، ويَدُلُّ عليه قولُه: {وَحُلُّوااْ أَسَاوِرَ} ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء.
وأساوِر جمع أَسْوِرة، وأَسْوِرة جمعُ سِوار، كحِمار وأَحْمِرة، فه جمعُ الجمع. جمع أسْوار. وأنشد:
3153- واللهِ لولا صِبْيَةٌ صِغارُ * كأنَّما وجوهُهمْ أَقْمارُ(1/3902)
(10/46)
---
- أخافُ أَنْ يُصِيبهم إقتارُ * أو لاطِمٌ ليسَ له إسْوارُ
- لمَّا رآني مَلِكٌ جَبَّارُ * ببابِه ما طَلَعَ النَّعارُ
وقال أبو عبيدة: "هو جمعُ "إسوار" على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرْ.
وقرأ أبان بن عاصم "أَسْوِرة" جمعَ سِوار وستأتي إنْ شاء الله تعالى في الزخرف عاتان القراءتان في المتواتر، وهناك أذكًر إن شاء الله تعالى الفرقَ.
والسَّوارُ يُجمع في القِلَّة على "أَسْوِرة" وفي الكثرة على "سُور" بسكون الواو، وأصلُها كقُذُل وحُمُر، وإنما سُكِّنَتْ لأجلِ حرفِ العلة. وقد يُضَمُّ في الضرورة، وقال:
3154- عن مُبْرِقاتٍ بالبُرِيْنَ وتَبْـ * ـدُو في الأكفِّ اللامعاتِ سُوُرْ
وقال أهل اللغة: السَّوار ما جُعِلَ في الذِّراعِ مِنْ ذهبٍ أو فضة أو نُحاس، فإن كان مِنْ عاج فهو قُلْبٌ.
قوله: {مِن ذَهَبٍ} يجوز أن تكونَ للبيان، وأَنْ تكونَ للتبعيض. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لأساوِر فموضعُه جر، وأن تتعلَّقَ بنفس "يُحَلُّوْنَ" فموضعها نصب.
قوله: {وَيَلْبَسُونَ} عطفٌ على "يُحَلَّوْن". وبُني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتِهم، وأنَّ غيرَهم يَفعل لهم ذلك ويُزَيِّنُهم به، كقولِ امرئِ القيس.
3155- غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمةٍ * يُحَلِّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّراً
بخلافِ اللَّبس فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه. وقُدِّم التحلِّي على الِّلباس لأنه أَشْهَى للنفسِ.
وقرأ أبان بن عاصم "وَيَلْبِسُونَ" بكسر الباء.
قوله: {مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} "مِنْ" لبيانِ الجنس وهي نعتٌ لثياب.
والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ من الدِّيباج. والإستبرق: ما غَلُظَ منه وهما جمعُ سُنْدُسة واسْتَبْرَقَة. وقيل: ليسا جمعَيْنِ. وهل "اسْتَبْرق" عربيُّ الأصلِ مشتق من البريق، أو معرِّبٌ أصلُه استبره؟ خلافٌ بين اللغويين. وقيل: الإستبرق اسم للحرير. وأنشد للمرقش:
(10/47)
---(1/3903)
3156- تراهُنَّ يَلْبِسْنَ المشاعِرَ مَرَّةً * وإستبرقُ الديباجُ طَوْراً لِباسُها
وهو صالحٌ لِما تقدَّم. وقال ابنُ بحر: "الإستبرق: ما نُسج بالذهب".
ووَزْنُ سُنْدُس: فُعْلُل ونونُه أصلية.
وقرأ ابن محيصن "واسْتَبرقَ" بوصلِ الهمزة وفتح القافِ غيرَ منونة. فقال ابن جني: هذا سهوٌ أو كالسهوِ". قلت: كأنه زعم أنَّه مَنَعه الصرفَ ولا وجهَ لمنعِه، لأنَّ شرطَ مَنْعِ الاسمِ الأعجمي أَنْ يكونَ عَلَماً وهذا اسمُ جنسٍ. وقد وجَّهها غيرُه على أنه جَعَلَه فعلاً ماضياً من البريق، واستَفْعَلَ بمعنى فَعَلَ المجرد نحو: قَرَّ واستقرَّ. وقال الأهوازيُّ في "الإقناع": "واستبرق بالوصلِ وفتحِ/ القاف حيث كان لا يَصْرِفُه" فظاهرُ هذا أنه اسمٌ، وليس بفعلٍ وليس لمنعِه وجهٌ، كما تقدَّم عن ابن جني، وصاحب "اللوامح" لمَّا ذكر وَصْلَ الهمزةِ لم يَزِد على ذلك، بل نَصَّ على بقائِه منصرفاً ولم يذكر فتح القاف أيضاً فقال: "ابن محيصن "واستبرق" يوصلِ الهمزة في جميع القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزةَ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربياً مِنْ بِرَق يَبْرُقُ بَرْيقاً، ووزنُه استفعل، فلمَّا سُمِّي به عامَلَه معاملَةَ الفعل في وَصْلِ الهمزةِ، ومعاملةَ الممتكنةِ من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثرُ التفاسيرِ على أنَّه عربية وليس بمستعربٍ، دَخَل في كلامِهم فاعربوه".
قوله: "مُتَّكئين" حال والأرائِكُ: جمعُ أَرِيْكَة وهي الأَسِرَّة بشرط أن تكونَ في الحِجالِ فإن لم تُسَمَّ أَرْيْكَة. وقيل: الأرائِكُ: الفُرُش في الحَجال أيضاً. وقال الارغب: "الأَرِيْكة: حَجَلَةٌ على سريرٍ، وتسميتها بذلك: إمَّا لكونِها في الأرض مُتَّخَذَةً مِنْ أَراك، أو مِنْ كونها مكاناً لٌفامة في قولهم: أَرَك بالمكان أُرُوكاً، وأصل الأُروك الإقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإقامات".
(10/48)
---(1/3904)
وقرأ ابن محيصن: "عَلَّرَائك" وذلك: أنَّه نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى لامِ التعريف فالتقى مِثْلان: لامُ "على" - فإنَّ ألفها حُذفَتْ لالتقاءِ الساكنين- ولامُ التعريف، واعتدَّ بحركة النقل فأدغم اللامَ في اللامِ، فصار اللفظُ كما ترى، ومثلُه قولُ الشاعر:
3157- فما أصبحَتْ عَلَّرْضِ نَفْسٌ بريئةٌ * ولا غيرُها إلا سليمانُ نالها
يريد "على الأرض". وقد تقدَّم قراءةٌ قريبةٌ مِنْ هذه أولَ البقرة: بما أُنْزِلَّيْكَ"، أي: أُنْزِلَ إليك.
* { وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً }
قوله: {رَّجُلَيْنِ}: قد تقدَّم أنَّ "ضَرَبَ" مع المَثَلِ، يجوز أن يتعدَّى لاثنين في سورةِ البقرة. وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مَثَل رجلين، و "جَعَلْنَا" تفسيرٌ لـ "مَثَل" فلا موضعَ له، ويجوز أن يكونَ موضعُه نصباً نعتاً لـ "رَجُلِيْن" كقولك: مررت برجلين جُعِلَ لأحدِهما جنةٌ".
قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا} يقال: خَفَّ بالشيءِ: طاف به من جميع جوانِبِه، قال النابغة:
3158- يَحُفُّه جانِباً نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ * مِثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِن الرَّمَدِ
وحَفَّ به القومُ: صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته، وحَفَفْتُه به، أي: جَعَلْتُه مُطِيْفاً به.
* { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً }
قوله: {كِلْتَا}: قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ "كلتا" وهي مبتدأ، و "آتَتْ" خبرُها. وجاء هنا على الكثير: وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها.
(10/49)
---(1/3905)
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه- "كلا الجَنَّتين" بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ثم قرأ "آتَتْ" بالتأنيث اعتباراً بلفظ "الجنتين" فهو نظيرُ "طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ" وروى الفراء عنه قراءةً أخرى: "كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه" أعادَ الضميرَ على لفظِه.
قوله: "وفجَّرْنا" العامَّةُ على التشديد وإنما كان كذلك، وهو نهر واحد مبالغةٌ فيه. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيفِ وهي قراءةُ الأعمش في سورة القمر، والتشديدُ هناك أظهرُ بقولِه "عيوناً".
والهامَّةُ على فتحِ "نَهَر" وأبو السَّمال والفياض بسكونها.
* { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً }
قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}: قد تقدَّم الكلامُ فيه في الأنعام مستوفى، وتقدَّم أنَّ "الثُّمُرَ" بالضم المالُ. فقال ابنُ عباس: جميع المال مِنْ ذهبٍ وفِضَّةٍ وحيوانٍ وغير ذلك. قال النابغة:
3159- مَهْلاً فداءً لك الأقوامُ كلُّهمُ * وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
وقيل: هو الذهب والفضة خاصةٍ.
وقرأ أبو رجاء "بِثَمْرِه" بفتحة وسكون.
قوله: "وهو يحاوره" جملةٌ مُبَيِّنة إذ لا يَلْزَمُ مِنَ القولِ المحاوَرَةُ؛ إذ المحاوَرَةُ مراجعةُ الكلام مِنْ حار، رَجَعَ، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} وقال امرؤ القيس:
3160- ومال المرءُ إلا كالشِّهابِ وضَوئِه * يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هُوَ ساطِعُ
ويجوز أَنْ تكونَ حالاً مِنَ الفاعل أو من المفعول.
* { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً }
قوله: {جَنَّتَهُ}:/ إنما أفرد بعد ذِكْرِ التثنية امكتفاءً بالواحدِ للعِلْمِ بالحال. قال أبو البقاء: "كما اكْتُفِيَ بالواحدِ عن الجمعِ في قولِ الهُذَليّ:
3161- فالعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها * سُمِلَتْ بشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
(10/50)
---(1/3906)
ولقائلٍ أن يقول: إنما جاز ذلك لأنَّ جمعَ التكسيرِ يجري مَجْرى المؤنثة، فالضمير في "سُمِلَتْ" وفي "فهي" يعود على الحِداق لا على حَدَقة واحدة كما تَوَهَّم.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ أَفْرَدَ الجنَّة بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنتُه، ماله جنةٌ غيرُها، بمعنى: أنَّه ليس له نصيبٌ في الجنة اليت وُهِدَ المتقون. فما ملكه في الدنيا هو جَنَّته لا غير، ولم يَقْصِدُ الجنتين ولا واحدةً منهما".
قال الشيخ: "ولا يُتَصَوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: "ودخل جَنَّته" إخبارٌ من الله تعالى بأنَّ هذا الكافرَ دَخَلَ جَنَّته فلا بُدَّ أَنْ قَصَدَ في الإخبار أنَّه دَخَلَ إحدى جنتيه إذ لا يمكن أَنْ يَدْخُلَهما معاً في وقتٍ واحد:". قلت: ومتى أدَّعَى دخولهما في وقتٍ واحدٍ يُلْزِمَه بهذا المستحيل في البداية. وأمَّا قوله "ولم يَقْصِدِ الجنتين ولا واحدةً" معناه لم يَقْصِدْ تعيينَ مفردٍ ولا مثنى لا أنه لم يَقْصِدْ الإخبارَ بالدخول".
وقال أبو البقاء: "إنما أفْرَدَ لأنهما جميعاً مِلْكُه فصارا كالشيء الواحد".
قولع: "وهو ظالمٌ" حالٌ مِنْ فاعل "دَخَلَ"، و "لنفسِه" مفعولُ "ظالمٌ" واللام مزيدةٌ فيه لكونِ العامل فرعاً.
"قال له صاحبُه" يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في "ظالم"، أي: وهو ظالمٌ في حالِ كونِه قائلاً، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً بياناً لسبب الظلمِ، وهو الأحسن.
قوله: "أَنْ تبيد"، أي: تَهْلَكَ، قال:
3162- فَلَئِنْ باد أهلُه لبِما كان يُوْهَلُ
ويقال: باد يبيدُ بُيُوداً وبَيْدٌودة، مثل "كَيْنُونة" والعملُ فيها معروفٌ وهو أنه حُذِفَت إحدى الياءين، ووزنُها فَيْعَلُولة.
* { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }
(10/51)
---(1/3907)
قوله: {خَيْراً مِّنْهَا}: قرأ أبو عمروٍ والكوفيون "منها" بالإفراد نظراً إلى أقربِ مذكورٍ، وهو قولُه: "جَنَّته" وهي في مصاحفِ العراق دونَ ميمٍ. والباقون "منهما" بالتثنية نظراً إلى الأصل في قوله: "جَنَّتَيْن" و "كِلْتَا الجنتين" ورُسِمَتْ في مصاحف الحرمين والشام بالميم، فكلُّ قد وافق رَسْمَ مصحفِه".
* { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً }
قوله: {مِن نُّطْفَةٍ}: النُّطْفَةُ في الأصل: القطرةُ من الماء الصافي يقال: نَطَف يَنْطِف، أي: قَطَر يَقْطُر. وفي الحديث: "فخرجَ ورأسُه يَنْطِفُ" وفي رواية: يَقْطُر، وهي مفسِّرةٌ، وأُطْلِق على المَنِّيِّ "نُطْفَةٌ" تشبيهاً بذلك.
قوله: "رَجُلاً" فيه وجهان، أحدهما: أنه حال، وجاز ذلك وإنْ [كان] غير منتقلٍ ولا مشتقٍ لأنه جاء بعد "سَوَّاك" إذ كان مِنَ الجائز أَنْ يُسَوِّيَه غيرَ رجلٍ وهو كقولِهم: "خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيْها أطولَ من رجليها" وقول الآخر:
3163- فجائت به سَبْطَ العظام كأنما * عِمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ
والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ لـ "سَوَّاك" لتضمُّنِه معنى صَيَّرك وجعلك، وهو ظاهرُ قول الحوفي.
* { لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }
قوله: {لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي}: قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ.
(10/52)
---(1/3908)
والأصلُ في هذه الكلمةِ" "لكنْ أنا" فَنَقَلَ حركةَ همزةِ "أنا" إلى نون "لكن" وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ "أنا" اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ "أنا" وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
وإعرابُ ذلك: أن يكونَ "أنا" مبتدأ و "هو" مبتدأ ثانٍ، و "هو" ضمير الشأن، و "اللهُ" مبتدأ ثالث. و "ربي" خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في "ربي". ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ "هو" أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ "هو" عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه {بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ "لكنَّ" من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ "لكنَّهْ" بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون "أنا"، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاء السكتِ. وعن حاتم الطائي: "هكذا فَرْدِي أَنَهْ".
(10/53)
---(1/3909)
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو: "رَوَى عنه هارون "لكنَّه هو الله" بضمير لَحِقَ "لكن". قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً كـ "لكن" وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ "لكنَّا" ولكنَّ واسمَها وهو "نا"، والأصل: "لكنَّنا" فحذف إحدى النونات نحو: {إِنَّا نَحْنُ} وكان حقُّ التركيبِ أن يكون "ربنا"، {} قال: "ولكنه اعتبر المعنى فأفرد". وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ "لكنَّ" مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله "لكنْ أنا هو" على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه "لكنْ هو الله" بغير "أنا". وقرئ أيضاً "لكنَنَا".
وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ". [وقال:] "ونحوُه -يعني إدغامَ نون "لكن" في نون "نا" بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل:
3164- وتَرْمِينَنِيْ بالطَّرْفِ اَيْ مُذْنِبٌ * وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: "ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ "لكنَّ"، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه:
3165- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي * ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك". قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر "لكنَّ" وهو:
3166- ...................... * ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
(10/54)
---(1/3910)
فأدخل اللامَ في خبر "لكنَّ". وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ "إنِّي" إلى نون "لكن" بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر "إنَّ"، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله "أكفرْتَ"، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: "زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ" لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً.
قوله: {لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي}: قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ.
والأصلُ في هذه الكلمةِ" "لكنْ أنا" فَنَقَلَ حركةَ همزةِ "أنا" إلى نون "لكن" وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ "أنا" اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ "أنا" وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
(10/55)
---(1/3911)
وإعرابُ ذلك: أن يكونَ "أنا" مبتدأ و "هو" مبتدأ ثانٍ، و "هو" ضمير الشأن، و "اللهُ" مبتدأ ثالث. و "ربي" خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في "ربي". ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ "هو" أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ "هو" عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه {بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ "لكنَّ" من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ "لكنَّهْ" بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون "أنا"، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاء السكتِ. وعن حاتم الطائي: "هكذا فَرْدِي أَنَهْ".
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو: "رَوَى عنه هارون "لكنَّه هو الله" بضمير لَحِقَ "لكن". قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً كـ "لكن" وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ "لكنَّا" ولكنَّ واسمَها وهو "نا"، والأصل: "لكنَّنا" فحذف إحدى النونات نحو: {إِنَّا نَحْنُ} وكان حقُّ التركيبِ أن يكون "ربنا"، {} قال: "ولكنه اعتبر المعنى فأفرد". وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ "لكنَّ" مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله "لكنْ أنا هو" على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه "لكنْ هو الله" بغير "أنا". وقرئ أيضاً "لكنَنَا".
وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ". [وقال:] "ونحوُه -يعني إدغامَ نون "لكن" في نون "نا" بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل:
(10/56)
---(1/3912)
3164- وتَرْمِينَنِيْ بالطَّرْفِ اَيْ مُذْنِبٌ * وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: "ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ "لكنَّ"، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه:
3165- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي * ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك". قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر "لكنَّ" وهو:
3166- ...................... * ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر "لكنَّ". وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ "إنِّي" إلى نون "لكن" بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر "إنَّ"، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله "أكفرْتَ"، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: "زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ" لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً.
* { وَلَوْلاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً }
قوله: {وَلَوْلاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ}: "لولا" تحضيضة داخلةٌ على "قلتَ" و "إذا دَخَلْتَ" منصوبٌ بـ "قلتَ" فُصِلَ به بين "لولا" وما دَخَلَتْ عليه، ولم يُبالَ بذلك لأنه ليس بأجنبي، وقد عَرَفْتَ أنَّ حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان للتوبيخ.
(10/57)
---(1/3913)
قوله: {مَا شَآءَ اللَّهُ} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ شرطيةً، فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً بـ "شاء" أي: أيَّ شيءٍ شاء اللهُ. والجواي محذوف، أي: ما شاء الله كان ووقَعَ. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وفيها حينئذٍ وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأةً، وخبرُها محذوفٌ، أي: الذي شاءه اللهُ كائنٌ وواقعٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: الأمرُ الذي شاءه الله. وعلى كلِّ تقديرٍ: فهذه الجملة في محلِّ نصب بالقول.
قوله: {إِلاَّ بِاللَّهِ} خبرُ "لا" التبرئةِ، والجملةُ أيضاً منصوبةٌ بالقولِ، أي: لولا قُلْتَ هاتين الجملتين.
قوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ} يجوز في "أنا" وجهان. أحدُهما: أنْ يكونَ مؤكِّداً لياء المتكلم. والثاني: أنه ضميرُ الفصلِ بين المفعولين. و "أَقَلَّ" مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ بحسبِ الوجهين في الرؤية: هل هي بَصَريةٌ أو عِلْمِيةٌ؟ إلا أنَّك إذا جعلتَها بَصَيةً تعيَّن في "أنا" أَنْ تكونَ توكيداً لا فصلاً؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يقع بين مبتدأ وخبرٍ، أو ما أصلُه المبتدأُ والخبرُ.
وقرأ عيسى بن عمرَ "أَقَلَّ" بالرفع، ويَتَعَيَّن أن يكونَ "أنا" مبتدأ، و "أقلُّ" خبرُه. والجملةُ: إمَّا في موضعِ المفعولِ الثاني، وإمَّا في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية.
و {مَالاً وَوَلَداً} تمييز. وجوابُ الشرطِ قولُه {فعسَى رَبِّي}.
* { فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
(10/58)
---(1/3914)
قوله: {حُسْبَاناً}: الحُسْبانُ/ مصدرُ حَسَب الشيءَ يَحْسُبه، أي: أَحْصاه. قال الزجاج: "أي: أَحْصاه. قال الزجاج: "أي عذابَ حُسْبان، أي: حسابَ ما كسبت يداك". وهو حسن. وقال الراغب: "قيل: معناه ناراً وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَبُ عليه فيُجَازَى بحَسَبه" وهذا موافقٌ لِما قاله أبو إسحاق، والزمخشري نحا إليه أيضاً، فقال: "والحُسْبانُ مصدرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بمعنى الحِساب، أي: مقداراً حَسَبه الله وقَدَّرَه، وهو الحُكْمُ بتخريبِها". وقيل: هو جمع حُسْبانة وهي السَّهْمُ. وف التفسير: أنها قِطَعٌ مِنْ نارٍ. وفيه: هي الصواعِقُ.
* { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً }
قوله: {أَوْ يُصْبِحَ}: عطفٌ على "يُرْسِلَ" قال الشيخ: "و "أو يُصْبِحَ" عطفٌ على قوله: "ويُرْسِلَ" لأنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عنم الآفةِ السماويةِ، إلا إنْ عَنَى بالحُسْبانِ القضاءَ الإلهيَّ، فحينئذٍ يتسَبَّبُ عنه إصباحُ الجنة صعيداً زَلَقاً، أو إصباحُ مائِها غَوْراً.
والزَّلَقُ والغَوْرُ في الأصلِ: مصدران وُصِف بهما مبالغةً.
والعامَّة على فتحِ الغين. غار الماءُ يغورُ غَوْراً، غاض وذهب في الأرض. وقرأ البرجميُّ بضمِّ الغين لغةً في المصدر. وقرأتْ طائفةٌ "غُؤْوراً" بضمِّ الغينِ والهمزةِ وواوٍ ساكنة. وهو مصدرٌ أيضاً يُقال: غار الماءُ غُؤْوراً مثل: جَلَسَ جُلوساً.
* { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً }
قوله: {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: قُرئ "تَقَلَّبُ كَفَّاه"، أي: تتقلَّب كفَّاه. و "أصبح": يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وأَنْ تكونَ بمعنى صار، وهذا كنايةٌ عن الندمِ لأنَّ النادمَ يَفْعل ذلك.
(10/59)
---(1/3915)
قوله: {عَلَى مَآ أَنْفَقَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ "يُقَلِّب"، وإنما عُدِّيَ بـ "على" لأنَّه ضُمِّن معنى يَنْدَمُ.
وقوله: "فيها"، أي: في عمارتِها. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ "يُقَلَّبُ"، أي: مُتَحَسِّراً. كذا قَدَّره أبو البقاء. وهو تفسيرُ معنى. والتقديرُ الصناعيُّ إنما هو كونٌ مطلقٌ.
قوله: "ويقولُ" يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على "يُقَلَّبُ"، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً.
* { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً }
قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ}: قرأ الأخَوان "يَكُنْ" بالياء مِنْ تحتُ. والباقون مِنْ فوقُ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيثُ مجازيٌّ، وحَسَّن التذكيرَ الفصلُ.
قوله: "يَنْصُرُونه" يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ حالية، والخبرُ الجارُّ المتقدِّمُ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ من النكرة تقدُّمُ النفيِ. ويجوز أَنْ تكونَ صفةً لـ "فئة" إذا جَعَلْنا الخبرَ الجارَّ.
وقال: "يَنْصُرونه" حَمْلاً على معنى "فِئَة" لأنهم في قوةِ القوم والناس، ولو حُمِل على لفظِها لأُفْرِد كقولِه تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
}. وقرأ ابن أبي عبلة: "تَنْصُرُه" على اللفظ. قال أبو البقاء: "ولو كان "تَنْصُره" لكان على اللفظ". قلت: قد قرئ بذلك كما عَرَفْتَ.
* { هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }
(10/60)
---(1/3916)
قوله: {هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ}: يجوز أَنْ يكونَ الكلامُ تَمَّ على قوله "منتصراً" وهذه جملةٌ منقطعةٌ عمَّا قبلَهان وعلى هذا فيجوز في الكلامِ أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ "هنالك الوَلايةُ" مقدَّراً بجملةٍ فعليةٍ، فالولايةُ فاعلٌ بالظرف قبلها، أي: استقرَّتِ الولايةُ لله، و "لله" متعلقٌ بالاستقرار، أو بنفسِ الظرفِ لقيامِه مَقامَ العاملِ أو بنفسِ الوَلاية، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الولاية"، وهذا إنما يتأتَّى على رَأْيِ الأخفش من حيث إنَّ الظرفَ يرفعُ الفاعلَ مِنْ غيرِ اعتماد.
والثاني: أَنْ يكونَ "هنالك" منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر "الولاية" وهو "لله" أو بما تعلَّق به "لله" أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ منها، والعاملُ الاستقرار في "لله" عند مَنْ يُجيز تقدُّمَ الحالِ على عاملِها المعنويِّ، أو يتعلَّق بنفس "الولاية".
والثالث: أَنْ يُجْعَلَ "هنالك" هو الخبر، و "لله" فَضْلةٌ، والعاملُ فيه ما تقدَّم في الوجه الأول.
ويجوز أن يكونَ "هنالك" مِنْ تتمة ما قبلها فلم يَتِمَّ الكلامُ دونَه، وهو معمولٌ لـ "منتصراً"، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و "هنالك" إشارةٌ إليها. وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقفُ على "هنالِك" تامَّاً، والابتداءُ بقولِه "الوَلايةُ لله" فتكونُ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر.
والظاهرُ في "هنالك": أنَّه على موضوعِه مِنْ ظرفيةِ المكان كما تقدَّم معناه. وتقدَّم أنَّ الأَخَوين يَقْرآن "الوِلاية" بالكسرِ، والفرقُ بينهما وبين قراءةِ الباقين بالفتح في سورة الأنفال فلا معنى لإعادتِه.
وحُكي عن أبي عمروٍ والأصمعيِّ أنَّ كسرَ الواوِ هنا لحنٌ. قالا: لأنَّ فِعالة إنما تجيءُ فيما كان صنعةً أو معنى متقلداً، وليس هناك تَوَلِّي أمورٍ.
(10/61)
---(1/3917)
قوله: "الحق" قرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ برفع "الحقُّ" والباقون بجرِّه، والرفعُ، من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه صفةٌ للوَلاية. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو، أي: ما أَوْحينا إليك. الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الحقُّ ذلك. وهو ما قُلْناه.
والجرُّ على أنه صفةٌ للجلالةِ الكريمة.
وقرأ زيدُ بن عيل وأبو حيوة وعمرو بن عبيد ويعقوب "الحقَّ" نصباً على المصدرِ المؤكَّد لمضمونِ الجملة كقولك: هذا عبدُ اللهِ الحقَّ لا الباطلَ".
قوله: "عُقباً" عاصمٌ وحمزةُ بسكونِ القافِ، والباقون بضمها. فقيل: لغتان كالقُدُس والقُدْس. وقيل: الأصل الضمُّ، والسكونُ تخفيفٌ. وقيل: بالعكس كالعُسْر واليُسْر، وهو عكسُ معهودِ اللغةِ. ونصبُها ونصبُ "ثواباً" و "أملاً" على التمييز لأفعل التفضيل قبلها. ونقل الزمخشري أنه قُرئ "عُقْبى" بالألف وهي مصدرٌ أيضاً كبُشْرى، وتُروى عن عاصم.
* { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }
قوله: {كَمَآءٍ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، فقدَّره ابنُ عطية هي: أي: الحياة الدنيا. والثاني: أنه متعلقٌ بمعنى المصدر، أي: ضراباً كماء. قاله الحوفي. وهذا بناءً منهما على أن "ضَرَب" هذه متعديةٌ لواحدٍ فقط. والثالث: أنه في موضعِ المفعول الثاني لـ "اضْرِبْ" لأنها بمعنى صَيَّرَ. وقد تقدَّم.
قال الشيخ بعدما نقل قولَيْ ابن عطية والحوفي: "وأقولُ: إنَّ "كماء" في موضعِ المفعولِ الثاني لقولِه "واضربْ"، أي: وصَيِّرْ لهم مَثَلَ الحياة، أي: صفتَها شبهَ ماء". قلت: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء.
و "أَنْزَلَناه" صفةٌ لـ "ماء".
(10/62)
---(1/3918)
قوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ} يجوز في هذه الباءِ وجهان أحدهما: أن تكونَ سببيةً. الثاني: أَنْ تكونَ معدِّية. قاله الزمخشري: "فالتفَّ بسبِبه وتكاثف حتى خالط بعضُه بعضاً. وقيل: نَجَعَ الماءُ في النبات حتى رُوِيَ ورَفَّ رَفِيْفاً. وكان حقُّ اللفظِ على هذا التفسيرِ: فاختلط بنباتِ الأرضِ. ووجه صحتِه: أنَّ كلَّ مختلطَيْنِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصفةِ الآخرَ".
قوله: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} "أصبح" يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها؛ فإنَّ أكثرَ ما يَطْرُقُ مِن الآفاتِ صباحاً، كقولِه: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى صار مِنْ غير تقيُّدٍ بصَباحٍ كقوله:
3167- أَصْبَحَتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا * اَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
والهَشِيمُ: واحدُه هَشِيْمَة وهو اليابس. وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً فَيَبِسَ. ومنه {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ومنه: هَشَمْتُ الفتَّ. ويقال: هَشَمَ الثَّريدَ: إذا فَتَّه.
قوله: "تَذَرُوْه" بالواو. وقرأ عبد الله "تَذْرِيه" من االذَّرْي، ففي لامه لغتان: الواوُ والياءُ. وقرأ ابنُ عباس "تُذْرِيه" بضم التاء من الإذْراء. وهذه تحتمل أَنْ تكونَ من الذَّروِ وأَنْ تكونَ من الذَّرْيِ. والعامَّةُ على "الرياح" جمعاً. وزيد بن علي والحسن والنخعي في آخرين "الرِّيحُ" بالإفراد.
* { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }
قوله: {زِينَةُ الْحَيَاةِ}: إنما افرد "زينة" وإن كانت خبراً عن بَنِين لأنَّها مصدرٌ، فالتقدير: ذزا زِيْنة، إذ جُعلا نفسَ المصدر مبالغةً؛ إذ بهما تَحْصُلُ الزينة، أو بمعنى مُزَيِّنَتَيْنِ. وقرئ شاذاً "زينتا الحياة" على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين فَيُتَوَهَّمُ أنه قرئ بنصب "زينة الحياة".
(10/63)
---(1/3919)
* { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }
قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ}: "يومَ" منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ بعده تقديرُه: نقول لهم نُيَسِّر الجبال: لقد جِئْتمونا. وقيل: بإضمار اذكر. وقيل: هو معطوفٌ على "عند ربك" فيكونُ معمولاً لقولِه "خيرٌ".
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّ التاء وفتح الياء مبنياً للمفعول. "الجبالُ" بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعل، وحَذَفَ الفاعلَ للعِلْمِ به وهو الله، أو مَنْ يأمرُه من الملائكة. وهذه القراءةُ موافقةٌ لِما اتُّفق عليه في قوله {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} ويؤيِّدها قراءةُ عبدِ الله هنا {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
والباقون "نُسَيِّر" بنون العظمة، والياءُ مكسورةٌ مِنْ "سَيَّر" بالتشديد؛ "الجبالَ" بالنصب على المفعول به، وهذه القراءةُ مناسِبةٌ لِما بعدها مِنْ قولِه {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ}.
وقأ الحسنُ كقراءةِ/ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه إلا أنه بالياءِ مِنْ تحتُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوبٌ عن أبي عمرو: "تَسِيْر" بفتحِ التاءِ من فوقُ ساكن الياء مِنْ سارَتْ تسيرُ، و "الجبالُ" بالرفع على الفاعليةِ.
قوله: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} "بارزةً" حالٌ؛ إذ الرؤيةُ بَصَريةٌ. وقرأ عيسى "وتُرى الأرضُ" مبنياً للمفعول، و "الأرضُ" قائمةٌ مقامَ الفاعل.
(10/64)
---(1/3920)
قوله: "وحَشَرْناهم" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ماضٍ مُرادٌ به، المستقبلُ، أي: ونَحْشُرهم، وكذلك {وَعُرِضُواْ} {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ في محلِّ النصب، أي: نفعل التسييرَ في حال حَشْرِهم ليشاهدوا تلك الأموالَ. والثالث: قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لِمَ جِيْءَ بـ "حَشَرْناهم" ماضياً بعد "نُيَسِّر" و "تَرَى"؟ قلت: للدلالة على أنَّ حَشْرَهم قبل التَّسْييرِ وقبل البروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ العِظامَ، كأنه قيل: وحَشَرناهم قبل ذلك".
قال الشيخ: "والأَوْلَى أَنْ تكونَ الواوُ للحال" فَذَكَرَ نحواً ممَّا قدَّمْتُه.
قوله: "فلم نغادِر" عطفٌ على "حَشَرْناهم" فإنه ماضٍ معنى. والمغادَرَةُ هنا: بمعن الغَذْر وهو الترك، أي: فلم نتركْ. وغَديرُ الماء مِنْ ذلك لأنَّ السيلَ غادَرَه، أي: تَرَكَه فلم يَجِئْهُ أو ترك فيه الماءَ، ويُجْمع على "غُدُر" و "غُدْران" كَرغِيف ورُغْفان، واسْتَغْدَرَ الغَدِيرَ: صار فيه الماء. والغَدِيْرة: الشَّعْرُ الذي تُرِكَ حتى طالَ. والجنع غَدائِر. قال امرؤ القيس:
3168- غَدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا * .............................
وقرأ قتادة "فلم تُغادِرْ" بالتاءِ من فوقُ، والفاعلُ ضميرُ الأرض،ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق. وأبان "يُغادَرْ" مبنياً للمفعول، "أحدٌ" بالرفع. والضحاك: "نُغْدِرْ" بضم النونِ وسكونِ العينِ وكسرِ الدالِ مِنْ "أَغْدَرَ بمعنى غَدَرَ.
* { وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً }
(10/65)
---(1/3921)
قوله: {صَفَّاً}: حالٌ من مرفوعِ "عُرِضوا" وأصلُه المصدرية. يُقال منه: صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين. واخْتُلَِف هنا في "صَفَّاً": هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ، إذ المرادُ صفوفاًَ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح: "يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً". وفي حديث آخر: "أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً، أنتم منهم ثمانون". وقيل: ثَمَّ حَذْفٌ، أي: صَفَّاً صَفَّاً. ومثلُه قولُه في موضع: {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقال في آخرَ: {يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً} يريد: صفاً صفاً، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا. وقيل: بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً، وهو أبلغُ في القُدرة. وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً.
قوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمارِ قولٍ، أي: وقُلْنا لهم: كيت وكيت. وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ "عُرِضُوا"، أي: عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا.
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ}، أي: مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً، لا مالَ ولا ولدَ معكم. وقال الزمخشري: "لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة" فعلى هذين التقديرين، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه.
(10/66)
---(1/3922)
قوله: {أَلَّن نَّجْعَلَ} "أَنْ" هي المخففةُ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي. و "لكم" يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير. و "مَوْعِداً" هو الأول. ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل، أو يكونَ حالاً مِنْ "مَوْعداً" إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً، بل بمعنى لمجردِ الإيجاد.
و "بل" في قولِه: "بل زَعَمْتُمْ" لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ.
* { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }
قوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}: العامَّةُ على بنائه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل، وهو الله أو المَلَك. و "الكتابَ" منصوبٌ مفعولاً به. و "الكتابُ" جنسٌ للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يَخُصُّه. وقد تقدَّم الوقفُ على {مَالِ هَاذَا الْكِتَابِ} وكيف فُصِلَتْ لامُ الجرِّ مِنْ مجرورِها خطاً في سورة النساء عند {فَمَا لِهَاؤُلااءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ
}. و "لا يغادِرُ" جملةٌ/ حالية من "الكتاب". والعاملُ الجارُّ والمجرورُ لقيامِه مَقامَ الفعلِ، أو الاستقرارُ الذي تعلَّق به الحالُ.
قوله: "إلا أحْصاها" في محلِّ نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة. ويجوز أن تكونَ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني؛ لأنَّ يُغَادِرُ بمعنى يترك، و "يترك" قد يتعدَّى لاثنين كقوله:
3169- ........................... * فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشبِ
في أحدِ الوجهين.
(10/67)
---(1/3923)
* { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوااْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }
قوله: {وَإِذَا قُلْنَا}: أي: اذْكُرْ.
قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} فيه وجهان، أظهرهما: أنه استئنافٌ يفيد التعليلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّر. والثاني: أنَّ الجملةَ حاليةٌ، و "قد" معها مرادةٌ. قاله أبو البقاء وليس بالجليِّ.
قوله: "فَفَسَقَ" السببيةُ في الفاءِ ظاهرةٌ، تَسَبَّبَ عن كونِه من الجنِّ الفِسْقُ. وقال أبو البقاء: إنما أدخل الفاءَ هنا لأنَّ المعنى: "إلا إبليس امتنع فَفَسَق". قلت: إنْ عَنَى أنَّ قولَه {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وُضِعَ موضعَ قولِه "امتنع" فيُحتمل مع بُعْدِه، وإنْ عنَى أنه حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عليه هذا فليس بصحيحٍ لرستغناءِ عنه.
قوله: "عَنْ أمر" "عن" على بابها من المجاوزة، وهي متعلِّقَةٌ بـ "فَسَق"، أي: خرج مجاوزاً أمرَ ربِّه. وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسببِ أمرِه، فإنه فَعَّالٌ لِما يريدُ.
قوله: "وذُرِّيَّتَه" يجوز في الواو أَنْ تكونَ عاطفةً وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ بمعنى مع. و "مِنْ دوني" يجوز تعلُّقُه بالاتخاذ، وبمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأَوْلِياء.
قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولِ الاتخاذِ أو فاعلِه؛ لأنَّ فيها مصحِّحاً لكلٍ من الوجهين وهو الرابطُ.
قوله: "بِئْسَ" البَدَلُ إبليسُ وذريتُه و "للظالمين" متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالاً مِنْ "بَدَلاً". وقيل: متعلِّقٌ بفعل الذَّمِّ.
* { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }
(10/68)
---(1/3924)
قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ}: أي: إبليسَ وذريتَه، أو ما أشهدْتُ الملائكةَ فكيف تعبدونهم؟ أو ما أشهدْتُ الكفارَ فكيف تَنْسُبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدْتُ جميعَ الخَلْقِ.
وقرأ أبو جعفر وشيبةُ والسختياني في آخرين: "أشهَدْناهم" على التعظيم.
قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} وُضع الظاهرُ موضعَ المضمر؛ إذ المراد بالمُضِلِّين مَنْ نفى عنهم إشهادَ خَلْقِ السمواتِ، وإنما نبَّه بذلك على وَصْفِهم القبيحِ.
وقرأ العامَّةُ "كُنْتُ" بضمِّ التاء إخباراً عنه تعالى. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر بفتحها خطاباً لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} نوَّن اسمَ الفاعلِ ونَصَبَ به، إذ المرادُ به الحالُ أو الاستقبالُ.
وقرأ عيسى "عَضْداً" بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: شَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن "عُضْداً" بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً "عَضَداً" بفتحتين و "عُضُداً" بضمتين. والضحاك "عِضَداً" بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ.
والعَضُدُ من الإنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك.
* { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً }
قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ}: معمولٌ لـ "اذكر" أي: ويوم نقولُ يجري كيت وكيت. وقرأ حمزة "نقولُ" بنون العظمة مراعاةً للتكلم في قوله: "ما أَشْهَدْتُهم" إلى أخره. والباقون بياءِ الغَيْبَةِ لتقدُّمِ اسمِ الشريفِ الظاهر.
(10/69)
---(1/3925)
قوله: "مَوْبِقاً" مفعولٌ أولُ للجَعْلِ، والثاني الظرفُ المُقَدَّم. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ، فيتعلَّق الظرفُ بالجَعْلِ أو بمحذوفٍ على الحال مِنْ "مَوْبَقا".
والمَوْبِقُ: المَهْلَكُ، يقال: وَبِقَ يَوْبِق وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هَلَكَ وأَوْبَقه ذنبُه. وعن الفراء: "جَعَلَ اللهُ تواصُلَهم هَلاكاً" فجعل البَيْنَ بمعنى الوَصْلِ، وليس بظرفٍ كقولِه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} في وجهٍ. وعلى هذا فيكون "بينَهم" مفعولاً أولَ و مَوْبِقاً" مفعولاً ثانياً. والمَوْبِقُ هنا: يجوز أَنْ يكونَ مصدراً وهو الظاهر. ويجوزُ أَنْ يكونَ مكاناً/.
* { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }
قوله: {مَصْرِفاً}: المَصْرِفُ: المَعْدِل. قال الهذلي:
3170- أزهيرُ هل عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ * أم لا خُلُوْدَ لباذِلٍ متكلِّفِ
ويجوز أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو زمانٍ. وقال أبو البقاء: "مَصْرِفاً: أي انْصِرافاً، ويجوز أَنْ يكونَ مكاناً". قلت: وهذا سَهْوٌ فإنه جَعَلَ المَفْعِل بكسرِ العينِ مصدراً لِما مضارعثه يَفْعِل بالكسرِ من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسمَ مصدر هذا النوعِ مفتوحُ العين، واسمَ زمانِه ومكانِه مكسوراها نحو: المَضْرَب والمَضْرِب.
وقرأ زيدُ بن عليّ رضي الله عنه "مَصْرِفاً" بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنَّه مكسور العين في المضارع فهو كالمَضْرَب بمعنى الضَّرْب، وليت أبا البقاءِ ذكر هذه القراءةَ وَوَجَّهَها بما ذكره قبلُ.
* { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَاذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }
(10/70)
---(1/3926)
قوله: {مِن كُلِّ مَثَلٍ}: يجوز أَنْ يكونَ "مِنْ كلِّ" صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، وهو مفعولٌ "صَرَّفنا"، أي: صَرَّفنا مَثَلاً مِنْ كلِّ مَثَل. ويجوز أَنْ تكونَ "مِنْ" مزيدةً على رَأْيِ الأخفش والكوفيين.
قوله: "جَدَلاً" منصوبٌ على التمييز. وقوله: "أكثرَ شيءٍ"، أي: أكثر الأشياء التي يتاتَّى منها الجِدال إنْ فَصَّلْتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإنسانَ أكثرُ جدلاً مِنْ كلِّ شيءٍ يُجادل، فَوَضَعَ "شيءٍ" مَوْضِعَ الأشياء. وهل يجوزُ أَنْ يكونَ جَدَلاً منقولاً مِنْ اسم كان إذ الأصل: وكان جَدَلُ الإنسانِ أكثرَ شيء؟ فيه نظرٌ. وكلامُ أبي البقاء مُشْعشرٌ بجوازِهِ فإنه قال: "فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ شيئاً هنا في معنى مُجادِل؛ لأنَّ أَفْعل يُضافٌ إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزُه بـ "جَدَلاً" يَقْتَضي أَنْ يكونَ الأكثرَ مجادلاً. وهذا مِنْ وَضْعِ العامِّ موضعَ الخاصِّ. والثاني: أنَّ في الكرم محذوفاً تقديره: وكان جَدَلُ الإنسانِ أكثرَ شيءٍ، ثم مَيَّزه". فقوله: "تقديرُه: وكان جَدَلُ الإنسانِ" يفيد أنَّ الإنسانِ أكثرَ شيءٍ، ثم مَيَّزه". فقوله: تقديرُه: وكان جَدَلُ الإنسانِ" يفيد أنَّ إسنادَ "كان إلى الجَدَلِ جائزٌ إلى الجملة، إلا أنه من تميمٍ لذلك: وهو أَنْ تَتَجَوَّزَ فتجعَلَ جَدَلاً كقولِهِم: "شِعْرٌ شاعرٌ" يعني أنَّ لجدل الإنسانِ جَدَلاً وهو أكثرُ من جَدَلَِ سائرِ الأشياءِ.
* { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوااْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً }
قوله: {وَمَا مَنَعَ}: وقد تقدَّم في آخرِ السورة قبلها. وقوله: "قُبُلاً" قد تقدَّم خلافُ القراء فيه وتوجيهُ ذلك.
(10/71)
---(1/3927)
* { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوااْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً }
قوله: {لِيُدْحِضُواْ}: متعلِّقٌ بـ "يُجَادِل" والإدْحاض: الإزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها عن موضعِها، والإدْحاض: الإزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها. والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها. والدَّحْضُ: الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه. قال:
3171- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه * وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ
وقال آخر:
3172- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه * وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ
و "مكانٌ دَحْضٌ" مِنْ هذا.
قوله: {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوزُ في "ما" هذه أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف. وعلى التقديرين فهي عطفٌ على "آياتي". و "هُزُوا" مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ. وتقدَّم الخلافُ في "هُزُوا". وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام.
* { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً }
قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ}: يجوز في "المَوْعِد" أَنْ يكونَ مصدراً أو زماناً أو مكاناً.
والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، أي: رَجَعَ، وهو من التأويل. وقال الفراء: "المَوْئِلُ: المَنْجى، وَأَلَتْ نَفْسُه، أي: نَجَتْ". قال الأعشى:
3137- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ * وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ
أي: ما يَنْجُو. وقال ابن قتيبة: "المَوْئل: المَلْجَأ". يقال: وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلاً، ووُؤْلاً، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ.
(10/72)
---(1/3928)
و "مِنْ دونِه" متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "مَوْئِلاً".
وقرأ أبو جعفر "مَوِلا" بواوٍ مسكورةٍ فقط. والزُّهْري: بواوٍ مشددة فقط. والأُوْلَى أقيسُ تخفيفاً.
* { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }
قوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى}: يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبراً، و "أهلكناهم" حينئذ: إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ. ويجوز أن تكونَ "تلك" مبتدأ، و "القرى" صفتها أو بيان لها أو بدل منها و "أَهْلكناها" الخبرُ. ويجوز أن يكون "تلك" منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال.
والضميرُ في "أَهْلَكْناهم" عائدٌ على "أهل" المضافِ إلى القرى، إذ التقديرُ: وأهل تلك القُرى، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ. وتقدَّم ذلك في أول الأعراف.
و {لَمَّا ظَلَمُواْ} يجوُ أَنْ يكونَ حرفاً، وأن يكونَ ظرفاً وقد عُرِف ما فيها.
قوله: "لِمَهْلِكِهِمْ" قرأ عاصم "مَهْلَك" بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي فـ "مَهْلَك" فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: "إنَّ "هَلَك" يتعدَّى دون همز وأنشد:
3174- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا
(10/73)
---(1/3929)
فـ "مَنْ" معمولٌ لـ "هالكٍ" وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. فـ "مَنْ تعرَّج" فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في "هالِك" ضميرَ "مَهْمه" ونَصَبَ "مَنْ تعرَّج" نَصْبَ "الوجهَ" في قولِك: "مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ" ثم أضاف الصفة وهي "هالك" إلى معمولها، فالإضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رَفْعٍ. فهو كقولك: "زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ"، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو: هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر:
3175- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً * والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي:
3176- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها * وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه: "إنه زمانٌ" ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَت عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال: "وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ". وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولشه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
(10/74)
---(1/3930)
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و "مُهْلَك" فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم.
والمَوْعِدُ: مصدرٌ أو زمان.
* { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً }
قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى}: "إذ" منصوبٌ بـ اذكر، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه.
قوله: "لا أَبْرَحُ" يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر. والثاني: أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه. فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه: لا أبرح أسيرُ حتى أبلغَ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة كقوله:
3177- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ * يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ
أي: حين ليس في الدنيا مُجير. والثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ، ثم حذف "مسير" وأقيمت الياء مُقامَه، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً، وبقي "حتى أَبْلُغَ" على حالِه هو الخبر.
(10/75)
---(1/3931)
وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً، فقال: "هذين الزجهين فجعَلَهما وجهاً واحداً، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً، فقال: "فإن قلت" "لا أبرح" إن كان بمعنى "لا أَزُوْل" مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى "لا أزال" فلا بُدَّ من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يضدُلاَّام عليه: أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه "حتى أَبْلُغَ" غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له، فلا بد أن يكون المعنى: [لا أبرح أسير حتى أبلغَ. ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى:] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ "حتى أبلغَ" هو الخبرُ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إيله مُقامه وهو ضميرُ المتكلم، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ".
قلت: وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو: خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن "مسيري" في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به. ألا ترى أنه ليس في قوله "حتى أبلغ" ضميرٌ يعودُ على "مَسيري" إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به.
ويمكن أَنْ يُجابَ عنه: بانَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه حتى أبلغَ به، أي: بمسيري.
وإن كانت التامةَ كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرحُ المكانَ. قلت: فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان.
وقرأ العامَّة "مَجْمَعَ" بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتحِ عينِ مضارعِه.
(10/76)
---(1/3932)
قوله: "حُقُبا" منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنةٌ واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن. "حُقْباً" بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً، وأن يكونَ لغةً مستقلة. ويُجمع على "أَحْقاب" كعُنُق وأَعْناق. وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر. قال امرؤ القيس:
3178- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها * فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً. وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرْب، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب.
وقوله: "أو أَمْضِيَ" فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه منسوقٌ على "أَبْلُغَ" يعني بأحد أمرين: إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ، أو بمضيِّه حُقُباً. والثاني: انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ، فيكون منصوباً بإضمارِ، "أَنْ" بعد "أو" نحو "لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي".
قال الشيخ: "فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معهخ فواتَ مجمعِ البحرَيْن" قلت: فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً، فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين.
وجَعَلَ أبو البقاء "أو" هنا بمعنى "إلاَّ" في أحدِ الوجهين، قال: "والثاني: أنَّها بمعنى: إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين". وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى "إلى" المقتضيةِ للغايةِ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإشكالُ.
* { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً }
قوله: {نَسِيَا} "سَرَبا" مفعولٌ ثانٍ لـ "اتَّخذ". و "في البحر" يجوز أن يتعلَّق بـ "اتَّخَذَ"، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
(10/77)
---(1/3933)
والهاءُ في "سبيلَه" تعودُ على الحُوْت. وكذا المرفوع في "اتَّخَذَ".
* { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً }
قوله: {جَاوَزَا}: مفعولُه محذوفٌ، أي: جاوزا الموعدَ. وقيل: جاوزا مجمعَ البحرَيْن.
قوله: "هذا" إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ، أو مجمعَ البحرين. و "نَصَبا" هو المفعول بـ "لَقِيْنا". والعامَّةُ على فتح النون والصاد. وعبد الله بن عبيد بن عيمر بضمِّهما. وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة. كذا أبو الفضلِ الرازي في "لوامحه".
* { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً }
(10/78)
---(1/3934)
قوله: {أَرَأَيْتَ}: قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام. وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو "أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية، فقالوا: أَرَأَيْتُك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها. وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى، ولا تقولُ فيها أبداً: "أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ" وتقولُ هذا على معنى "اعلَمْ". وشذَّتْ أيضاً فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي} فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى: أمَّا أو تنبَّهْ. والمعنى: أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ. وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا. وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ، وقد تَخْرُجُ لمعنى "أمَّا"، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان، فقوله: "فإنِّي نَسِيْتُ" معناه: أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي، أو تَنَبَّه إذ أوينا، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ "إذْ" لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً بـ "ما" بلا خلافٍ".
وقال الزمخشري: "أرأيتَ بمعنى أخبِرْني. فإن قلتَ: ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ "أرأيت" ومِنْ "إذ أَوَيْنا"، ومِنْ "فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ" [لا متعلِّقَ له]؟ قلت: لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نٍِيانه إلى تلك الغايةِ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال: أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت. فحذف ذلك".
(10/79)
---(1/3935)
قال الشيخ: "وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري "أرأيتَ بمعنى أخبرني". يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبِرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها.
قوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ} قرأ حفص بضمِّ الهاء. وكذا في قوله: {عَلَيْهِ اللَّهَ} في سورة الفتح. قيل: لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل. وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً؟
والباقون بالكشر نظراً إلى اللفظِ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة. وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في ها الكناية: فإنه ضمَّ الهاء في "أنسانِيْه" في غيرِ صلةٍ، ووصَلَها بياءٍ في قوله: {فِيهِ مُهَاناً} على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك.
قوله: {أَنْ أَذْكُرَهُ} في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء "أنسانِيْه" بدلِ اشتمال، أي: أَنْساني ذكرَه.
قوله: "عَجَباً" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لـ "اتَّخذ". و "في البحرِ" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
وفي فاعل "اتَّخذ" وجهان، أحدُهما: هو الحوت، كما تقدَّك في "اتَّخذ" الأولى. والثاني: هو موسى.
الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ "عَجَباً" أنه مفعولٌ به، والعاملُ فيه محذوفٌ، فقال الزمخشري: "أو قال: عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله. وقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه". فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ بـ "قال"، أي: قال هذا اللفظَ.
الثالث: أنه مصدر، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه: فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً.
(10/80)
---(1/3936)
الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، ناصبُه "اتَّخذ"، أي: اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً. وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون "في البحر" مفعولاً ثانياً لـ "اتَّخَذَ" إن عَدَّيْناها لمفعولين.
* { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً }
قوله: {نَبْغِ}: حذفَ نافع وأبو عمرو والكسائي ياء "نَبْغي" وقفاً، وأثبتوها وصلاً. وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حَذَفوها في الحالين اتِّباعاً للرسم. وكان مِنْ حَقِّها الثبوتُ، وإنما حُذِفت تشبيهاً بالفواصلِ، أو لأنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بالحذفِ فإنَّ "ما" موصولةٌ حُذِفَ عائدُها، وهذه بخلافِ التي في يوسف فإنها ثابتةٌ عند الجميعِ، وقد تقدَّم ذلك في مَوْضِعِه.
قوله: "قَصَصاً" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: قاصِّيْن. الثاني: أنه مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مِنْ لفظِه مقدَّرٍ، أي: يَقُصَّان قَصَصاً. الثالث: أنه منصوبٌ بـ "ارتَدَّا" لأنه في معنى فَقَصَّا.
وقرأ الكسائيُّ "أنسانِيْهِ" بالإمالة.
وعبد الله "أَنْ أذكرَكَه". وأبو حيوة "واتخاذّ سبيلِه" عَطَفَ هذا المصدرَ على مفعول "اذكره".
* { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }
قوله: {عِلْماً}: مفعولٌ ثان لـ "عَلَّمْناه"، قال أبو البقاء: "ولو كان مصدراً لكان تعليماً" يعني لأنَّ فعلَه على فَعَّل بالتشديد، وقياسُ مصدرِه التفعيلُ.
و {مِن لَّدُنَّا} يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "عِلْماً".
* { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }
قوله: {عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ}: في موضعِ / الحال من الكاف في "أَتَّبِعُك"، أي: أَتَّبِعُك باذلاً لي علمَك.
(10/81)
---(1/3937)
قوله: "رُشْداً" مفعولٌ ثانٍ "تُعَلِّمَني"، لا لِقوله: "ممَّا عُلِّمْتَ". قال أبو البقاء: "لأنَّه لا عائد إذن على الذي" يعني أنه إذا تعدَّى لمفعولٍ ثانٍ غيرِ ضميرِ الموصولِ لم يَجُزْ أَنْ يتعدَّى لضميرِ الموصولِ؛ لئلاَّ يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، ولكن لا بُدَّ مِنْ عائدٍ على الموصول.
وقد تقدَّم خلافُ القرَّاء في "رُشْدا" في سورة الأعراف. وهل هما بمعنى واحدٍ أم لا؟
* { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }
قوله: {خُبْراً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ لقولِه "تُحِطْ" وهو منقولٌ مِنَ الفاعليةِ، إذ الأصل: مما لم يُحِطْ به خَبَرُك. والثاني: أنه مصدرٌ لمعنى لم تُحِط، إذ هو في قوة: لم يُخْبِرْه خُبْراً. وقرأ الحسن "خُبُراً" بضمتين.
* { قَالَ سَتَجِدُنِيا إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً }
قوله: {وَلاَ أَعْصِي}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنََّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها. وفيه بُعْدٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ عطفاً على "سَتَجِدُني" لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول. وقال الشيخ: "ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "سَتَجِدُني" لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول. وقال الشيخ: "ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "سَتَجِدُني" فلا يكونُ له محلٌّ من الإعراب؟ وهذا سَهْوٌ؛ فإنَّ "ستجِدُني" منصوبُ المحلِّ لأنه منصوبٌ بالقول، فكذلك ما عُطِفَ عليع، ولكن الذي غَرَّ الشيخَ أنَّه رأى كلامَ الزمخشري كذلك، ولم يتأمَّلْه فتبعه في ذلك، فمن ثَمَّ جاء السهو. قال الزمخشري: ولا أَعْصِي: في محلِّ النصبِ عطفاً على "صابراً"، أي: ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ. أو "لا" في محلِّ عطفاً على "سَتَجِدُني".
الرابع: أنَّه في محلِّ نصبٍ عطفاً على "صابراً" كما تقدَّم تقريرُه.
* { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }
(10/82)
---(1/3938)
قوله: {فَلاَ تَسْأَلْني}: قد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في هذا الحرفِ في سورة هود: وقرأ أبو جعفر هنا بفتحِ السينِ واللامِ وتشديدِ النونِ من غيرِ همزٍ.
* { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }
قوله: {لِتُغْرِقَ}: في اللام وجهان، أحدُهما: هي لامُ العلة. والثاني: هي لامُ الصَّيْرورة. وقرأ الأخَوان: "ليَغْرَقَ" بفتح الياء مِنْ تحتُ وسكونِ الغين وفتح الراء، "أهلُها" بالرفع فاعلاً. والباقون بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الراء، أي: لتُغْرِق أنا أهلَها بالنصب مفعولاً به. والحسن وأبو رجاء كذلك، إلا أنَّهما شَدَّدا الراءَ.
والسفينة معروفةٌ، وتُجمع على سُفُن وسَفائن نحو: صحيفة وصُحُف وصحائف. وتُحذف منها التاءُ مراداً بها الجمعُ، فتكونُ اسمَ جنسٍ نحو: ثَمَرَ وبَلَح. إلا أنه هذا المصنوع قليلٌ جداً نحو: جَرَّة وجَرَّ، وعِمامة وعِمام. قال الشاعر:
3179- متى تَأْتيه تأتي لُجَ بَحْرٍ * تقاذَفُ في غوارِبِه السَّفينُ
واشتقاقها مِن السَّفْنِ وهو القَشْر؛ لأنها تقشُر الماءَ. كما سُمِّيَتْ "بِنْتَ مَخْرٍ" لأنها تَمْخُر الماء، أي: تَشُقُّه.
قوله: "إمْراً" شيئاً عظيماً، يقال: أَمِرَ الأَمْرُ، أي: عَظُم وتفاقَمَ. قال:
3180- داهِيَةً دَهْياءَ إمْراً
* { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }
قوله: {عُسْراً}: كفعولٌ ثانٍ لـ "تُرْهِقْني" مِنْ أَرْهَقَه كذا إذا حَمَّله إياه وغشَّاه به. و "ما" في "بما نَسِيْتَ" مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
* { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }
(10/83)
---(1/3939)
قوله: {زاكِيَةً}: قرأ "زاكية" بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو. وبدون الألف وتشديد الياء الباقون. فَمَنْ أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة.
والغُلام: مَنْ لم يَبْلُغْ. وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ. فقيل: مجازاً باعتبارِ ما كان. ومنه قولُ ليلى:
3181- شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها * غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال آخر:
3182- تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني * غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ
وقيل: بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإغلام وهو السَّبْق، وذلك إنما يكونُ في الإنسانِ المحتلِمِ. وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/.
قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قيل: "حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها" بغير فاءِ، و "حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله" بالفاء؟ قلت" جَعَل "خَرَقَها" جزاءً للشرطِ، وجَعَل "قَتَله" من جملةِ الشرط معطوفاً عليه، والجزاءُ "قال: أَقْتَلْتَ". فإنْ قلت: لِمَ خُولف بينهما؟ قلت: لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ".
قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: انها متعلقةٌ بـ "قَتَلْتَ". الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ، أي: قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً، كذا قَدَّرَه أبو البقاء. وهو بعيدٌ جداً. الثالث: أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قَتْلاً بغيرِ نفسٍ.
(10/84)
---(1/3940)
قوله: "نُكْراً" قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين، والباقون بضمة وسكون. وهما لغتان، أو أحدهما أصل. و "شيئاً": يجوز أن يُراد به المفعولُ به، أي: جِئْتَ أمراً مُنْكَراً. وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإمر أو بالعكس. فقيل: الإمْرُ أبلغُ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة. وقيل: بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه، ولذلك قال: "ألم أَقُلْ لك" ولم يأتِ بـ "لك" مع "إمراً".
* { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً }
قوله: {فَلاَ تُصَاحِبْنِي}: العامَّةُ على "تصاحِبْني" من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: "فلا تَصْحَبَنِّي" مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ "فلا تُصْحِبْني عِلْمَك" فأظهر المفعول.
قوله: {مِن لَّدُنِّي} العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على"لُدُن" لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون "مِنْ" و "عَنْ" فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
(10/85)
---(1/3941)
ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحَقْ نونَ الوقاية لـ "لَدُن". إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: "لا يجوزُ أَنْ تأتيَ بـ "لَدُنْ" مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية". وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ بـ "لَدُ" لغةً في "لَدُن" حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: "لَدُني" بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ "عَنْ" و "مِنْ" في قوله:
3183- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ * لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على "لَدْ" الساكنة الدال، لغةً في "لدن" فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد "عَضْد" وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه {لاَ تَأْمَنَّا} وفي قوله في هذه السورةِ "مِنْ لدنه" في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ "عُذُراً" بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً "عُذْرِي" مضافاً لياءِ المتكلم.
و {مِن لَّدُنِّي} متعلقٌ بـ "بَلَغْتَ"، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "عُذْرا".
(10/86)
---(1/3942)
* { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }
قوله: {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا}: جواب "إذا"، أي:سألاهم الطعامَ. وفي تكريرِ "أهلَها" وجهان،أحدهما: أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله:
3184- لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
والثاني: أنَّه للتأسيسِ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل، إنما هم البعضُ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً، فلو قيل: استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه، فكرَّر الأهلَ لذلك.
قوله: {أَن يُضَيِّفُوهُمَا} مفعولٌ به لقولِه "أبَوْا". والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه. والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ: أضافَه يُضيفه وهما مثل: مَيَّله وأماله.
قوله:{أَن يَنقَضَّ} مفعولُ الإرادة. و "انقَضَّ" يُحتلم أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبد الله وقراءةِ الأعمش "يريد ليُنْقَضَ" وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه {يُرِيدُ أَن يُنقَضَ} بغير لام كي.
(10/87)
---(1/3943)
وقرأ الزُّهْري "أنْ يَنْقَاضَ" بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: "هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ" أي: هَدَمْتُه فانهدم". قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال: "مثل: يَحْمارّ" ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيف ِ الضاد قال: "وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم".
وقرأ علي أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين "يَنْقاص" بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه: "وتقول العرب" انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً". وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة:
3185- ............................. * .........مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل: فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً.
قوله: "لاتَّحّذْتَ" قرأ ابم كثير وأبو عمرو "لتَخِذْتَ" بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تضخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون: :لاتَّخَذْتَ" بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو:
3187- ......................... * تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
(10/88)
---(1/3944)
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.
* { قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
قوله: {فِرَاقُ بَيْنِي}: العامَّةُ على الإضافةِ اتِّساعاً في الظرف. وقيل: هو بمعنى الوَصْلِ. ومِثلُه قولُه:
3188- ...................... * وجِلْدَةُ بين العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة "فِراقٌ" بالتنوين على الأصل. وتكريرُ المضافِ إليه عطفاً بالواو هو الذي سَوَّغ إضافةَ "بَيْنَ" إلى غيرِ متعدِّدٍ، ألا ترى أنَّك لو اقتصَرْتَ على قولك: "المالُ بيني" لم يكن كلاماً حتى تقولَ: بيننا، أو بيني وبين فلان. وقرأ ابن وثاب "سَأُنْبِيْكَ" بإخلاص ايلاء بدلَ الهمزة.
* { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }
قوله: {لِمَسَاكِينَ}: العامَّةُ على تخفيفِ السِّين، جمعَ "مِسْكين". وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين -كرَّم الله وجهَه- بتشديدِها جمع "مَسَّاك". وفيه قولان، أحدُهما: أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة. وفيه بعضُ مناسبة. والثاني: أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ "مَسْك" بفتح الميم وهي الجُلود. وهذا بعيدٌ، لقولِه {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}. ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين. و "يَعْملون" صفةٌ لمساكين.
قوله: {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} "وراء" هنا قيل: يُراد بها المكانُ. وقيلَ: الزمانُ. واخْتُلِف/ أيضاً فيها: هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام؟ وأنشدوا على هذا الثاني:
3189- اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا * فَيَأْمَنَ أعدتئي ويَسْأَمَني أَهْلي
وقولَ لبيد:
(10/89)
---(1/3945)
3190- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي * لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ
وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي:
3191- أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي * وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا
ومثله قولُه تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} أي: بين يديه.
قوله: "غَصْباً" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ، أو منصوبٌ على المفعولِ له. وهو بعيدٌ في المعنى. وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال: "فإنْ قلتَ: قولُه" "فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها" مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه؟ قلت: النيةُ به التأخيرُ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه، ولكن مع كونِها للمساكينِ، فكان بمنزلةِ قولِك: زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ".
* { وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً }
قوله: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ}: التثنيةُ للتغليبِ، يريد: أباه وأمه، فغلَّب المذكرَ، وهو شائعٌ. ومثلُه: القمران والعُمَران. وقد تقدَّم في يوسف: أنَّ الأبوين يُراد بهما الأبُ والخالَةُ فهذا أقربُ.
والعامَّةُ على "مُؤْمِنَيْنِ" بالياء. وأبو سعيد الخُدريُّ والجحدري "مؤمنان" بالألف. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه على لغة بين الحارث وغيرهم. الثاني: أنَّ في "كان" ضميرَ الشأنِ، و "أبواه مؤمنان" مبتدأ وخبرٌ في محلِّ النصبِ كقوله:
3192-إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ * ............................
فهذا أيضاً محتمِلٌ للوجهين. الثالث: أن في "كان" ضميرَ الغلامِ، أي: فكان الغلامُ والجملةُ بعده الخبرُ. وهو أحسنُ الوجوهِ.
* { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً }
(10/90)
---(1/3946)
قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا}: قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال مِنْ "بَدَّلَ" هنا، وفي التحريم {أَن يُبْدِلَهُ} وفي القلم {أَنْ يُبْدِلَنا} والباقون بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدالِ مِنْ "أَبْدَلَ" في المواضعِ الثلاثة. فقيل: هما لغتان بمعنىً واحد. وقال ثعلب: الإبدالُ تَنْحِيَةُ جوهرَةٍ، واستئنافُ أخرى. وأنشد:
3193- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ
قال: ألا تراه نَحَّى جسماً، وجعل مكانَه آخرَ. والتبديلُ: تغييرُ الصورةِ إلى غيرِها، والجوهرةُ باقيةٌ بعينِها. واحتجَّ الفراء بقولِه تعالى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: "والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلا أنَّهم يجعلون اَبْدَلْتُ بمعنى بَدَّلْتُ". قلت: ومِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في قولِه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ} هل يتغير الجسمُ والصفةُ، أو الصفةُ دونَ الجسمِ؟
قوله: "رُحْماً" قرأ ابن عامر "رُحُماً" بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ وهما بمعنى الرحكة. قال رؤبة:
3192- يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسا * ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسا
وقيل: الرُّحْم بمعنى الرَّحِم. وهو لائقٌ هنا مِنْ أجلِ القَرابةِ بالولادة. ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس "رَحِماً" بفتحِ الراءِ وكسرِ الحاءِ. و "زكاة ورُحْماً" منصوبان على التمييز.
* { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
(10/91)
---(1/3947)
قوله: {رَحْمَةً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أوضحُها: أنَّه مفعولٌ له. الثاني: أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ من الفاعل، أي: أراد ذلك راحماً، وهي حالٌ لازمةٌ. الثالث: أَنْ ينتصِبَ انتصابَ المصدرِ لأنَّ معنى {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ} معنى "فَرَحِمَهما".
قوله: تَسْطِعْ"، قيل: أصلُه استطاع، فَحُذِفَتْ تاءُ الافتعالِ. وقيل: المحذوفُ: الطاءُ الأصلية ثم أُبْدِلت تاءُ الافتعال طاءً بعد السِّين. وهذا تكلُّفلإ بعيدٌ. وقيل: السينُ مزيدةٌ عوضاً من قلبِ الواوِ ألفاً، والأصلُ: أطاع. ولتحقيقِ القولِ فيه موضعٌ غيرُ هذا.
ويقال: "استتاعَ" بتاءين، و "اسْتاعَ" بتاء واحدة، فهذه أربعُ لغاتٍ، حكاها ابن السكيت.
* { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً }
قوله: {مِّنْهُ ذِكْراً}: أي: مِنْ أخبارِهِ وقَصَصِه.
* { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً }
قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ}: مفعولُه محذوفٌ، أي: أمره وما يريد.
* { فَأَتْبَعَ سَبَباً }
(10/92)
---(1/3948)
قوله: {فَأَتْبَعَ}: قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو "فَأَتْبَعَ" و "ثم أَتْبَعَ" في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء. والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء. فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: "أتبع" بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه: فأتبع سبباً سبباً آخرَ، أو فأتبع أمرَه سبباً. ومنه {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} فعدَّاه لاثنين/ ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين: قولُه تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي: أَتْبعوهم جنودَهم. واختار أبو عبيد "اتَّبع" بالوصل، قال: "لأنه من المسيرِ" قتل" تقول" تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم. فأما الإتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق، كقولِه تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وقال يونس وأبو زيد: "أَتْبَعَ" بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ. وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات.
* { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }
قوله: {حامِيَةٍ}: قرأ ابن عامر وأبو بكر والأخَوان بالألف وياءٍ ضريحة بعد الميم. والباقون دون ألفٍ وهمزة بعد الميم. فأمَّا القراءةُ الأولى فإنها اسمُ فاعلٍ مِنْ حَمِي يَحْمِي، والمعنى: في عينٍ حارَّة. واختارها أبو عبيدٍ، قال: "لأنَّ عليها جماعةً من الصحابة" وسمَّاهم. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنَ الحَمْأةِ وهي الطينُ.
وكان ابنُ عباس عند معاويةَ. فقرأ معاويةُ "حاميةٍ" فقال ابن عباس: "حَمِئَةٍ". فسأل معاويةُ ابنَ عمرَ كيف تقرأ؟ فقال: كقراءةِ أمير المؤمنين. فبعث معاويةُ، فسأل كعباً فقال: "أَجِدُها تغرُب في ماءٍ وطين". فوافق ابن عباس. وكان رجلٌ حاضرٌ هناك فأنشد قولَ تُبَّع:
(10/93)
---(1/3949)
3195- فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها * في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ
ولا تناقضَ بين القراءتينِ؛ لأنَّ العينَ جامعةٌ بين الوصفين: الحرارةِ وكونِها مِنْ طين.
قوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} يجوز في {أَن تُعَذِّبَ} الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، أي: إمَّا تعذيبُك واقعٌ، أو الرفعُ على خبرٍ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو تعذيبُك. والنصبُ، أي: إمَّا أَنْ تَفْعَلَ أَنْ تُعَذَّبَ.
* { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }
قوله: {جَزَآءً الْحُسْنَى}: قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب "جزاءً" وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازِ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.
الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و "الحُسْنى" مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى.
الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ.
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في "جزاءَ الحسنى" التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله:
3196- ............................ * ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
ذكره المهدويُّ.
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق "جزاءً" مرفىعاً منوناً على الابتداء. و "الحُسْنى" بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار "أَعْني"، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ.
(10/94)
---(1/3950)
و "يُسْراً" نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً ذا يُسْرٍ. وقرأ أبو جعفر بضمِّ "اليُسْر" حيث وَرَدَ.
* { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً }
قوله: {مَطْلِعَ}: العامَّةُ على كسر اللام، والمضارعُ يَطْلَع بالضم، فكان القياسُ فتحَ اللامِ في المَفْعَل مطلقاً، ولكنها مع أخواتٍ لها سُمع فيها الكسر، وقياسُها الفتح. وقد قرأ ابن الحسن وعيسى وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن ابن كثير وأهلِ مكة. قال الكسائي: "هذه اللغةُ قد ماتَتْ" يعني: أي: بكسر اللام من المضارع والمفْعِل. وهذا يُشْعِرُ أنَّ مِن العرب مَنْ كان يقول: طَلَع يَطْلِعُ بالكسرِ في المضارع.
* { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً }
قوله: {كَذَلِكَ}: الكافُ: إمَّا مرفوعةُ المحلِّ، أي: الأمر كذلك. أو منصوبتُه، أي: فَعَلْنا مثلَ ذلك.
قوله: {بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} "بين" هنا يجوز أن يكونَ طرفاً، والمفعولُ محذوفٌ، أي: بلغ غَرَضَه ومقصودَه، وأَنْ يكونَ مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكانَ الحاجزَ بينهما.
(10/95)
---(1/3951)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح سين "السَّدَّين" و "سَدَّا" في هذه السورةِ، وحفص فتح الجميع، أعني موضعَيْ عذع السورة وموضعَيْ سورةِ يس. وقرأ الأخَوان بالفتح في "سَدَّاً" في سورتيه وبالضمِّ في "السُّدَّيْن". والباقون بالضم في الجميع. فقيل: هما بمعنى واحد./ وقيل: المضمومُ ما كان من فِعْلِ اللهِ تعالى، والمفتوحُ ما كان مِنْ فِعْلِ الناس. وهذا مرويٌ عن عكرمةَ والكسائي وأبي عبيد. وهو مردودٌ: بأن السَّدَّيْن في هذه السورة جَبَلان، سَدَّ ذو القرنين بينهما بسَدّ، فهمل مِنْ فِعْلِ اللهِ، والسَّدُُّ الذي فعله ذو القرنين مِنْ فِعْل المخلوق. و "سَدّاً" في يس مِنْ فِعْلِ الله تعالى لقولِه: "وجَعَلْنا"، ومع ذلك قُرِئ في الجميع بالفتح والضمِّ. فَعُلِم أنهما لغتان كالضَّعْف والضُّعف والفَقْر والفُقْر. وقال الخليل: المضمومُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. وهذا هو الاختيارُ.
* { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }
قوله: {يَفْقَهُونَ}: قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: لا يُفْقهون غيرهم قولاً. والباقون بفتحها، أي: لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم، وهو بمعنى الأول. وقيل: ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه. وبالعكس.
* { قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }
(10/96)
---(1/3952)
قوله: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}: قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: استقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله:
3197- ......................... * تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ.
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومه المضوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ "طائيّ" في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجزج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج "آجوج".
(10/97)
---(1/3953)
قوله: "خَارجاً" قرأ ابن عامر "خَرْجاً" هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان "خراجاً" "فَخَراج" في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو "فَخَراج" كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك.
قال مكي رحمه الله: "والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق.
* { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }
قوله: {مَا مَكَّنِّي}: "ما" بمعنى الذي. وقرأ ابن كثير "مكَّنني" بإظهار النون. والباقون بإدغامِها في نون الوقاية للتخفيف.
* { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }
(10/98)
---(1/3954)
قوله: {آتُونِي}: قرأ أبو بكر "ايتوني" بهمزةِ وصل مِنْ أتى يَأتي في الموضعين من هذه السورة بخلافٍ عنه في الثاني. وافقه حمزةُ على الثاني من غيرِ خلافٍ عنه. والباقون بهمزةِ القطعِ فيهما. فـ "زُبُرَ" على قراءةِ همزةِ الوصل منصوبةٌ على إسقاط الخافض، أي: جيئوني بزُبُرِ الحديد. وفي قراءة قَطْعِها على المفعول الثاني لأنه يتعدَّى/ بالهمزة إلى اثنين. وعلى قراءة أبي بكر يُحتاج إلى كسر التنوين من "رَدْماً" لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزةَ الوصلِ تسقط دَرْجاً فيُقْرأ له بكسر التنوين، وبعد همزةٌ ساكنة هي فاءُ الكلمة. وإذا ابتدأت بكلمتي "ائتوني" في قراءتِه وقراءةِ حمزة تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ للوصل ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزةِ فاء الكلمة، وفي الدَّرْجِ تسقط همزةُ الوصل، فتعود الهمزةُ لزوالِ موجِبِ إبدالها.
والباقون يَبْتَدِئون ويَصِلُون بهمزةٍ مفتوحة لأنها همزة قطع، ويتركون تنوين "رَدْماً" على حاله من السكون، وهذا كلُّه ظاهرٌ لأهلِ النحو، خَفِيٌّ على القُرَّاء.
والزُّبَرُ جمع زُبْرَة كغُرْفَة وغُرَف. وقرأ الحسن بضم الباء.
قوله: "ساوَى" هذه قراءةُ الجمهور، وقتادة "سوَّى" بالتضعيف. وعاصمٌ في رواية "سُوِّيَ" مبنياً للمفعول.
قوله: "الصَّدَفَيْن" قرأ أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال. وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّهما، والباقون بفتحهما. وهذه لغاتٌ قُرِئ بها في السبع. وأبو جعفر وسيبة وحميد بالفتح والإسكان، والماجِشون بالفتح والضم، وعاصم في روايةٍ بالعكس.
والصَّدَفان: ناحيتا الجبلين. وقيل: أَنْ يتقابلَ جبلان وبينهما طريق، فالناحيتان صَدَفان لتقابُلِهما وتصادُفِهما، مِنْ صادَفْتُ الرجلَ، أي: لاقَيْتُه وقابَلْته. وقال أبو عبيد: "الصَّدَفُ: كل بناءٍ مرتقع وليس بمعروفٍ، والفتح لغة تميم، والضمُّ لغة حِمْير".
(10/99)
---(1/3955)
قوله: "قِطْراً" هو المتنازَعُ فيه. وهذه الآيةُ أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. والقِطْر: النُّحاس أو الرَّصاصُ المُذاب.
* { فَمَا اسْطَاعُوااْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً }
قوله: {فَمَا اسْطَاعُوااْ}: قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإدغام كما قال أبو علي: "لمَّا لم يكن إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك"- يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الاسكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه "ومَسْحِيِ" يعني في قول الشاعر:
3198- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ * ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد "ومَسْحِه" فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج: "مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ" وقال أبو علي: "هي غيرُ جائزة".
وقرأ الأعشى، عن أبي بكر "اصْطاعوا" بإبدال السين صاداً. والأعمش "استطاعوا" كالثانية.
* { قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً }
قوله: {جَعَلَهُ دَكَّآءَ}: الظاهرُ ان الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير فتكون "دَكَّاء" مفعولاً ثانياً. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ حالاً، و "جعل" بمعنى خلق، بُعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجودٌ. وقد تقدَّم خلافٌ القراء في "دَكَّاء" في الأعراف.
قوله: {وَعْدُ رَبِّي} الوَعْدُ هنا مصدرٌ بمعنة الموعود أو على بابه.
* { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }
قوله: {يَمُوجُ}: مفعولٌ ثانٍ لـ "تَرَكْنا" والضمير في "بعضَهم" يعودُ على "يَأْجُوج ومَأْجوج" أو على سائر الخلق.(1/3956)
(10/100)
---
قوله: "يومئذ" التنوينُ عوضٌ من جملةٍ محذوفة. تقديرُها: يوم إذ جاء وَعْدُ ربي، أو إذ جَحَرَ السَّدُّ بينهم.
* { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }
قوله: {الَّذِينَ كَانَتْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من "للكافرين" أو بياناً أو نعتاً، وأن يكونَ منصوباً بإضمار أَذُمُّ، وأن يكونَ مرفوعاً خبرَ ابتداءٍ مضمر.
* { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيا أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً }
قوله: {أَفَحَسِبَ}: العامَّةُ على مسرِ السين وفتح الباء فعلاً ماضياً. و {أَن يَتَّخِذُواْ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين. وقرأ أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزيد علي وابن كثير ويحيى بن يعمر في آخرين، بسكون السينِ ورفعِ الباءِ على الابتداء، والخبر "أَنْ" وما في حَيَّزها.
وقال الزمخشري: "أو على الفعلِ والفاعلِ لأن اسمَ الفاعلِ إذا اعتمد على الهمزةِ ساوى الفعلَ كقولك: "أقائمٌ الزيدان" وهي قراءةٌ مُحْكَمةٌ جيدةٌ".
قال الشيخ: والذي يظهرُ أنَّ هذا الإعرابَ لا يجوزُ لأنَّ حَسْباً ليس باسمِ فاعل فيعما، ولا يلزم مِنْ تفسير شيءٍ بشيء أن تجريَ عليه / أحكامُه. وقد ذكر سيبويه أشياءَ مِنَ الصفات التي تجري مَجْرى الأسماءِ، وأنَّ الوجهَ فيها الرفعُ. ثم قال: وذلك نحو: مررتُ برجلٍ خيرٌ [منه] أبوه، ومررتُ برجلٍ سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررت برجلٍ أبٌ له صاحبُه، ومررت برجلٍ حَسْبُك مِنْ رجلس هو، ومررت برجلٍ أيُّما رجلٍ هو. ثم قال الشيخ: "ولا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ به الظاهرُ، فقد أجازوا في "مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه" ان يرتفعَ "أبوه" بأبي عشرة لأنه في معنى والدِ عشرة".
(10/101)
---(1/3957)
قوله: "مزلاً" فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ جمعَ "نازِل" نحوشارِف وشُرُف. الثاني: أنه اسمُ موضعِ النزول. الثالث: أنَّه اسمُ ما يُعَدُّ للنازلين من الضيوفِ، ويكونُ على سبيلِ التهكُّم بهم، كقولِه تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله:
3199- .............................. * تحيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجميعُ
ونصبُه على هذين الوجهين مفعولاً به: أي: صَيَّرنا.
وأبو حيوة "نُزلاً" بسكونِ الواي، وهو تخفيفُ الشهيرةِ.
* { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً }
قوله: {أَعْمَالاً}: تمييزٌ للأَخْسَرين، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع.
* { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }
قوله: {الَّذِينَ ضَلَّ}: يجوز فيه الجرُّ نعتاً وبدلاً وبياناً، والنصبُ على الذمِّ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر.
قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} يُسَمَّى في البديع "تجنيس التصحيف" وتجنيس الخَطِّ، وهذا مِنْ أحسنِه. وقال البحتري:
3200- ولم يكن المُغْتَرُّ بالله إذ شَرَى * لِيُهْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طالبُهْ
فالأولُ من الغُرور، والثاني مِن العِزِّ. ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس
3201- سَقَيْنَني رِيِّيْ وغَنِّيْنَنِيْ * يُحْتُ بحبِّي حين بِنَّ الخُرُدْ
يصحف بنحو:
3202- شَقَيْتَني ربي وعَنَّيْتِنيْ * بحُبِّ يحيى خَتَنِ ابن الجُرُدْ
وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء: "قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك، هبدٌ عند رَخاك رجاك، آمِلٌ أَمَّك".
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }
(10/102)
---(1/3958)
وقرأ ابن عباس "فَحَبِطَتْ" بفتح الباء. والعامَّة على "نُقيم" بنون العظمة مِنْ "أقام". ومجاهد وعبيد بن عمير. "فلا يُقيم" بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، فالضميرُ يعود عليه. ومجاهدٌ أيضاً "فلا يقومُ لهم" مضارع قام، "وزنٌ" بالرفع. وعن عبيد بن عمير أيضاً "فلا يقومُ وزناً" بالنصبِ كأنه تَوَعَّم أنَّ "قام" متعدٍّ. كذا قال الشيخ. أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ "يقومُ" صنيعُهم أو سَعْيهُم، وينتصِبُ حينئذٍ "وَزْناً" على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التمييز.
* { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوااْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً }
قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ}: فيه أوجهُ كثيرةٌ أحدُها: أَنْ يكونَ "ذلك" خبرَ مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و "جزاؤُهم جهنَّم" جملةٌ برأسها. الثاني: أن يكون "ذلك" مبتدأ اولَ، و "جزاؤهم" مبتدأٌ به، كذا قال أبو البقاء، فالهاء في "به" تعود على "ذلك"، و "ذلك" مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن.
قال الشيخ: "ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر". قلت: إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ. ووجهُ النظر: أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ عيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ، فإنَّ العائدَ على البمتدأ إذا كان مجروراً لا يُحْذَفُ بحرفٍ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه:
3202- أَصِخْ فالذي تُدْعَى به أنت مُفْلِحٌ * ...............................
أي: مفلحٌ به. وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ.
(10/103)
---(1/3959)
الثالث: أن يكون "ذلك" مبتدأً، و "جزاؤهم" بدلٌ أو بيان، و "جهنم" خبره. الرابع: أن يكون "ذلك" مبتدأ أيضاً، و "جزاؤهم" خبره و "جهنمُ" بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يُجعل "ذلك" مبتدأ و "جزاؤهم" بدلٌ أو بيان و "جهنم" خبر ابتداءٍ مضمرٍ، و "بما كفروا" خبر الأول، والجملة اعتراضٌ. السادس: أن يكون "ذلك" مبتدأً، والجارُّ الخبر، و "جزاؤهم جهنمُ" جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ. السابع: أن يكون "ذلك" إشارةً إلى جماعة / وهم مذكورون في قوله: "بالأخسرين"، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل: أولئك جزاؤهم جهنَّمُ، والإعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير.
قوله: "واتَّخذوا" فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على "كفروا"، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر "إنَّ". الثاني: أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له.
والباء في قوله: "بما كفروا" لا يجوزُ تعلُّقُها بـ "جزاؤهم" للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً }
قوله: {نُزُلاً}: فيه ما تقدَّم: من كونِه اسمَ مكانِ النزولِ، او ما يُعَدُّ للضيفِ. وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه خبر "كانت"، و "لهم" متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حال مِنْ "نُزُلا"، أو على البيان، أو بـ "كانت" عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنه حالٌ من "جنات"، أي: ذوات نُزُلٍ، والخبرُ الجارُّ.
* { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً }
قوله: {لاَ يَبْغُونَ}: الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ صاحب "خالدين"، وإمَّا من الضمير في "خالدين"، فتكونُ حالاً متداخلة.
والحِوَل: قيل: مصدرٌ بمعنى التحوُّل: يُقال: حال عن مكانه حِوَلاً، فهو مصدرٌ كالعِوَج والعِوَد والصِّغَر قال:
3204- لكلِّ دولةٍ أجلُ * ثم يُتاح لها حِوَل
(10/104)
---(1/3960)
وقال الزجاج: "هو عند قومٍ بمعنى الحِيلة في التنقُّل". وقال ابن عطية: "والحِوَلُ: بمعنى التحوُّل" قال مجاهد: "مُتَحَوَّلاً" وأنشد الرجز المتقدم ثم قال: "وكأنه اسم جمع، وكأنَّ واحدَة حوالة" قلت: وهذا الحِوَل وإن كان جمعاً فالعكسُ نحو: "ثِيَرة" و ....
* { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }
قوله: {تَنفَدَ}: قرأ الأَخوان "يَنْفَذَ" بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. والباقون بالتاء من فوقُ لتأنيثِ اللفظ. وقرأ السُّلمي - ورُويت عن أبي عمرو وعاصم - تَنَفَّذَ - بتشديدِ الفاءِ، وهو مُطاوَعُ نَفَّدَ بالتشديد نحو: كسَّرته فتكسَّر. وقراءةُ الباقين مطاوعُ أَنْفَدْته.
قوله: "ولو جئنا" جوابُها محذوف لِفَهْمِ المعنى تقديره: لنفِدَ. والعامَّةُ على "مَدَداً" بفتح الميم. والأعمشُ قرأ بكسرها، ونصبُه على التمييز كقوله:
3205- ............................ * فإنَّ الهوى يَكْفِيْكه مثلُه صَبْرا
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس "مِداداً" كالأول. ونصبُه على التمييز أيضاً عند أبي البقاء. وقال غيرُه - كأبي الفضل الرازي-: إنه منصوب على المصدرِ بمعنى الإمداد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} قال: والمعنى: ولو أَمْدَدْناه بمثلِه إمداداً.
* { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }
قوله: {أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ}: "أنَّ" هذه مصدرية وإنْ كانت مكفوفةً بـ "ما". وهذا المصدر قائمٌ مقامَ الفاعلِ كأنه قيل: إنما يُوْحَى إليَّ التوحيدُ.
(10/105)
---(1/3961)
قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ} العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ، عُطِفَ بها على أمرٍ. ورُوي عن أبي عمروٍ {وَلاَ تُشْرِكْ} بالتاءِ مِنْ فوقُ خطاباً على الالتفات من الغَيْبة إلى الخطاب ثم التُفِتَ في قولِه {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} إلى الأول. ولو جيْءَ على الالتفات الثاني: لقيل: ربك. والباءُ سببية، أي: بسبب. وقيل: بمعنى في.
والفِرْدَوس: الجَنَّةُ مِن الكَرْم خاصة. وقيل: بل ما كان غالبُها كَرْماً. وقيل: كل ما حُوِطَ فهو فِرْدوسٌ والجمع فراديس. وقال المبرد: "الفِرْدوس فيما سمعتُ من العرب: الشجرُ الملتفُّ، والأغلبُ عليه أن يكون من العِنَب". وحكى الزجاج أنها الأَوْدِيَة التي تُنْبِتُ ضُروباً من النَّبْت. واختُلف فيه: فقيل: هو عربيٌّ وقيل: أعجمي. وهل هو روميٌّ أو فارسيٌّ أو سُرْيانيٌّ؟ قيل: ولم يُسْمع في كلام العرب إلا في بيت حَسَّان:
3206- وإنَّ ثوابَ اللهِ كلَّ مُوحِّدِ * جِنانٌ من الفردوسِ فيها يُخْلَّدُ
وهذا ليس بصحيح، لأنه سُمع في شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلت:
3207- كانت منازلُهمْ إذ ذاك ظاهرةً * فيها الفَراديسُ ثم الثومُ والبَصَلُ
ويقال: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّشٌ، ولهذا سُمِّيَتِ الروضةُ التي دونَ اليَمامة فِرْدَوساً.
وإضافةُ "جنَّات" إلى الفِرْدوس إضافةٌ تبيينٍ.(1/3962)
سورة مريم
* { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ }
قوله: {ذِكْرُ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍِ. أحدُها: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر، تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم ذِكْرُ. الثاني: أنه خبرٌ محذوفٌ المبتدأ، تقديرُه: المَتْلُوُّ ذِكْرُ. الثالث: أنه خبرُ محذوفُ المنقطعةِ، وهو قولُ يحيى بن زياد. قال أبو البقاء: "وفيه بُعْدٌ؛ لأن الخبرَ هو المبتدأُ في المعنى، وليس في الحروفِ المقطَّعةِ ذِكْرُ الرحمةِ، ولا في ذكرِ الرحمة معناها".
(10/106)
والعامَّةُ على تسكينِ أواخرِ هذه الأحرفِ المقطَّعةِ، وكذلك كان بعضُ القَرِّاءِ يقفُ على كلِّ حرفٍ منها وَقْفَةً يسيرةً مبالغَةً في تمييزِ بعضِها مِنْ بعضٍ.
وقرأ الحسنُ "كافُ" بالضم، كأنه جَعَلها معربةً، ومَنَعها من الصَّرْف للعَمَليَّةِ والتأنيث.
وللقُرَّاء خلافٌ في إمالة "يا" و "ها" وتفخيمِهما.
وبهضُهم يُعَبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يُعَبِّر عن الإمالةِ بالكسرِ، وإنما ذكَرْتُه لأنَّ عبارتَهم في ذلك مُوْهِمَةٌ.
وأظهر دالَ صاد قبل ذال "ذَكْرُ" نافعٌ وابنُ كثير وعاصم لأنه الأصل، وأدغمها فيها الباقون.
والمشهورُ إخفاءُ نونِ "عَيْن" قبل الصاد؛ لأنها تُقاربها، ويشتركان في الفم، وبعضُهم يُظْهِرُها لأنها حروف مقطعة يُقْصَدُ تمييزُ بعضِها [من بعض].
و "ذِكْرُ" مصدرٌ مضافٌ. قيل: إلى مفعولِه وهو الرحمةُ، والرحمةُ في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعلِه، و "هبدَه" مفعولٌ به. والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكونُ فاعلُ الذِّكْرِ غيرَ مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أَنْ ذَكَرَ اللهُ رحمتَه عبدَه. وقيل: بل "ذِكْرُ" مضافٌ إلى فاعلِه على الاتِّساعِ ويكون "عبدَه" منصوباً بنفسِ الذِّكْر، والتقديرُ: أَنْ ذَكَرَتِ الرحمةُ عبدَه، فَجَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً له مجازاً.
و "زكريَّا" بدلٌ أو عطفٌ بيانْ، أو مصنوبٌ بإضمتر "أَعْني".
(10/107)(1/3963)
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسن - "ذَكَّرَ" فعلاً ماضياً مشدِّدا، و "رحمةَ" بالنصبِ على أنها مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَتْ على الأولِ، وهو "عبدَه" والفاعلُ: إمَّا ضميرُ القرآنِ، أو ضميرُ القرآنِ، أو ضميرُ الباري تعالى. والتقدير: أَنْ ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذَكَّر اللهُ - عَبْدَه رحمتَه، أي: جَعَلَ العبدَ يَذْكرُ رحمتَه. ويجوز على المجازِ المتقدِّمِ أن تكون "رحمةَ ربك" هو المفعولَ الأولَ، والمعنى: أنَّ اللهَ جَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً للعبدِ. وقيل: الأصلُ: ذكَّرَ برحمةٍ، فلمَّا انْتُزِعَ الجارُّ نُصِب مجرورُه، ولا حاجةَ إليه.
وقرأ الكلبيُّ "ذَكَرَ" بالتخفيفِ ماضياً، "رحمةَ" بالنصبِ على المفعول به، "عبدُه" بالرفع فاعلاً بالفعلِ قبلَه، "زكريَّا" بالرفعِ على البيانِ او البدلِ او على إضمارِ مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى.
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدانيُّ- "ذَكَّرْ" فعلَ أمرٍ، "رحمةَ" و "عبدةَ" بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم مِنْ كونِ كلِّ واحدٍ يجوز أَنْ يكونَ المفعولَ الأولَ أو الثاني، بالتأويلِ المتقدِّم في جَعْلِ الرحمة ذاكرةً مجازاً.
* { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }
قوله: {إِذْ نَادَى}: في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍٍ، أحدُها: أنَّه "ذِكْرُ" ولم يذكر الحوفيُّ غيرَه. والثاني: أنَّه "رحمة"، وقد ذكر الوجهين أبو البقاء. والثالث: أنَّه بدلٌ مِنْ "زكريَّا" بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الوقتَ مُشْتملٌ عليه وسيأتي مِثْلُ هذا عند قولِه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } ونحوِه.
* { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }
قوله: {قَالَ رَبِّ}: لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ لقولِه "نادى ربَّه" وبيانٌ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ.(1/3964)
(10/108)
---
قوله: "وَهَنَ" العامَّةُ على فتحِ الهاء. وقرأ الأعمشُ بكسرِها. وقُرِئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. ووَحَّد العظمَ إرادةِ الحنسِ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه، قد أصابه الوَهْنُ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ: وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها، قاله الزمخشري: وقيل: أُطْلِقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه:
3208- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها * فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
أي: جلودُها، ومثلُه:
3209- كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا * فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي: بطونكم.
و "مَنَّي" حالٌ من "العَظْمِ". وفيه رَدُّ على مَنْ يقول: إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ: وَهَنَ عَظْمِي. ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ:
3210- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ * بَجسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
قوله: "شَيْباً" في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ، احدُها: - وهو المشهورُ- أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصلُ: اشتعلَ شيبُ الرأسِ. قال الزمخشر: "شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ". انتهى. وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ، ووجهُ الجمع: الانبساطُ والانتشارُ.
والثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، اي: شائباً أو ذا شيبٍ.
(10/109)
---(1/3965)
قوله: "بدُعائِك" فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه، أي: بدعائي إياك. والثاني: أنه مضافُ لفاعلِه، أي: لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإيمانِ شَقِيَّا.
* { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً }
قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ}: العامَّةُ على "خَفْتُ" بكسر الحاء وسكونِ الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم. و "المَوالي" مفعولٌ به بمعنى: أنَّ مَوالِيه كانوا بني إسرائيل/ فخافَهم على الدِّين. قاله الزمخشري.
قال أبو البقاء: "لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي".
وقرأ الزُّهري كذلك، إلا أنه سَكَّن ياءَ "المَوالي" وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو، وعليه قراءةُ زيدِ عليّ {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين: "خَفَّتِ" بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين. و" المَوالِيْ" فاعلٌ به، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت.
قوله: {مِن وَرَآئِي} هذا متعلِّقٌ في قراءةِ الجُمهورِ بما تضمنَّه المَوالي مِنْ معنى الفِعْلِ، أي: الذين يَلُوْن الأمرَ بعدي. ولا يتعلق بـ "خَفْتُ" لفسادِ المعنى، وهذا على أَنْ يُرادَ بـ "ورائي" معنى خلفي وبعدي. وأمَّا في قراءةِ "خَفَّتْ" بالتشديد فيتعلَّق الظرفُ بنفسِ الفعل، ويكونُ "ورائي" بمعنى قُدَّامي. والمرادُ: أنهم خفُّوا قدَّامَه ودَرَجُوا، ولم يَبْقَ منهم مَنْ به تَقَوٍّ واعْتِضادٌ. ذكر هذين المعنيين الزمخشري.
والمَوالي: بنو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشاعرِ لهم بذلك في قوله:
3211- مَهْلاً بني عَمَّنا مَهْلاً مَواليَنا * لا تَنْبُشوا بَيْنَنا ما كان مَدْفُوْنا
وقال آخر:
(10/110)
---(1/3966)
3212- ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ * وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ
والجمهورُ على "ورائي" بالمدِّ. وقرأ ابنُ كثير - في روايةٍ عنه - "وَرايَ" بالقصرِ، ولا يَبْعُدُ ذلك عنه فإنه قَصَرَ "شُرَكاي" في النحل كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قَرَأ {أَنْ رَاْه اسْتَغْنى} في العَلَق، كأنه كان يُؤْثِرُ القَصْر على المدِّ لخفَّتِهن ولكنه عند البصريين لا يجوزُ سَعَةً.
و {مِن لَّدُنْكَ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ "هَبْ". ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ "وَليَّاً" لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ فقُدِّمَ عليها.
* { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }
قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ}: قرأ أبو عمروٍ والكسائي بجزمِ الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر إذ تقديرُه: إن يَهَبْ يَرِثْ. والباقون برفِعهما على أنَّهما صفةٌ لـ "وليَّاً".
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين- رضي الله عنه - وابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وقتادة في آخرين: "يَرِثُني" بياء الغيبة والرفع، وأَرثُ" مُسْنداً لضمير المتكلم. قال صاحب "اللوامح": في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقديرُ: يَرِثُ نبوَّتي إن مِتُّ قبلَه وأَرِثُه مالَه إنْ مات قبلي". ونُقِل هذا عن الحسن.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والجحدري "يَرِثُني وارثٌ" جعلوه اسمَ فاعلٍ، أي: يَرِثُني به وارِثٌ، ويُسَمى هذا "التجريدَ" في علم البيان.
(10/111)
---(1/3967)
وقرأ مجاهد "أُوَيْرِثٌ" وهو تصغيرُ "وارِث"، والأصلُ وُوَيْرِث بواوين. وَجَبَ قَلْبُ أولاهما همزةً لاجتماعهما متحركين أولَ كلمةٍ، ونحو "أُوُيْصِل" تصغيرَ "واصل". والواو الثانية بدلٌ عن ألفِ فاعِل. وأُوَيْرِث مصروفٌ. لا يُقال: ينبغي أن يكونَ غيرَ مصروفٍ لأنَّ فيه علتين الوصفيةَ ووزنَ الفعل، فإنه بزنة أُبَيْطِر مضارع بَبْطَر، وهذا مِمَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير. لا يُقال ذلك لأنه غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ "أُوَيْرِثاً" وزنُه فُوَيْعِل لا أُفَيْعِل بخلافِ "أُحَيْمِر" تصعير "أَحْمَر".
وقرأ الزُّهْري "وارِث" بكسرِ الواو، ويَعْنون بها الإمالةَ.
قوله: "رَضِيَّا" مفعولٌ ثانٍ، وهو فَعِيْل بمعنى فاعِل، وأصلُه رَضِيْوٌ لأنه مِنَ الرِّضْوان.
* { يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }
قوله: {يَحْيَى}: فيه قولان: أحدُهما: أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له، وهذا هو الظاهرُ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة. وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع.
والجملةُ مِنْ قولِه: {اسْمُهُ يَحْيَى} في محلِّ جَرٍّ صفةً لـ "غُلام" وكذلك {لَمْ نَجْعَل}. و"سَمِيَّا" كقوله: "رَضِيَّا" إعراباً وتصريفاً لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ، ولو كان من الوَسْم لقيل: وَسِيما.
* { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }
(10/112)
---(1/3968)
قوله: {عِتِيّاً}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا {مِنَ الْكِبَرِ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بـ "بَلَغْتُ"، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "عِتِيَّا" لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل "بَلَغْتُ"، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ فـ "مِنْ" مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: "وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتِبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا" يريد بقوله: "أو بَلَغْتُ" أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ.
والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِما فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: "عِصِيّ" إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: "وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً" وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمعِ والإعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: "إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة" وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.
وقرا الأخَوان "عِتِيَّا" و "صِلِيَّا" و "بِكِيَّا" و "جِثِيَّا" بكسر الفاء للإتباع، ولاباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ "عَتِيَّا" و "صَلِيَّا" جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
(10/113)
---(1/3969)
وقرأ عبد الله ومجاهد "عُسِيَّا" بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها.
* { قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }
قوله: {كَذالِكَ}: في محلِّ هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقف على: "كذلك" ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فَقَدَّره أبو البقاء بـ "أَفْعَلُ مثلَ ما طلبْتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّراً، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به.
وقال الزمخشري: "أو نصبٌ بـ "قال" و "ذلك" إشارةٌ إلى مُبْهم يُفَسِّره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، ونحوُه: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} وقرأ الحسن {وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يَهُون عليَّ. ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يُشارَ بـ "ذلك" إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله، لا إلى قولِ زكريَّا. و "قال" محذوفٌ في كلتا القراءتين.- في كلتا القراءتين: يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسن - أي: قال هو عليَّ هيِّن، قال: وهو عَلَيَّ هَيِّن، وإن شئتَ لم تَنْوِه، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ، والمعنى أنه قال ذلك، ووَعْدُه وقولُه الحق".
وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ "قال" الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف. وقوله: "وقال محذوفٌ" يعني تفريغاً على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند "قال ربك" ويُبْتَدأ بقولِه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. وقوله: "وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه" أي: لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك.
(10/114)
---(1/3970)
وظاهرُ كلامِ بعضهِم: أنَّ "قال" الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ، وقد صَرَّح بذلك اينُ جريرٍ، وتبعه ابن عطية. قال الطبري: "ومعنى قولِه" قال كذلك"، أي: الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك، ولكم قال ربُّكِ، والمعنى عندي: قال المَلَكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربك: هو عليَّ هَيِّنٌ" انتهى.
وقرأ الحسن البصري "عَلَيِّ" بكسر ياء المتكلم كقوله:
3213- عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ * لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ
أنشدوه بالكسر. وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ {بِمُصْرِخِيِّ}.
قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} هذه جملة مستأنفة. وقرأ الأخَوان "خَلَقْناك" أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه. والباقون "خَلَقْتُكَ" بتاءِ المتكلم.
وقوله: {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئاً، أي: شيءاً يُعْتَدُّ به كقوله:
3214- ............................ * إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلاً
وقالوا: عَجِبْتُ مِنْ لا شيء. ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.
* { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِيا آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً }
قوله: {سَوِيّاً}: حالٌ مِنْ فاعل "تُكَلِّمَ". وعن ابن عباس: أنَّ "سَوِيَّاً" من صفةِ الليالي بمعنى كاملات، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف. والجمهورُ على نصب ميم "تُكَلَّم" جعلوها الناصبةَ.
وابن أبي عبلة بالرفعِ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف، و "لا" فاضلةٌ. وتقدَّم تحقيقُه.
* { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }
(10/115)
---(1/3971)
قوله: {أَن سَبِّحُواْ}: يجوز في "أَنْ" أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإيحاء. و {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ظرفا زمانٍ للتسبيح. وانصرفَتْ "بُكْرَة" لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف. وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتُ نشاط [لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة]، ومثلُها في ذلك كله "غدوة".
وقرأ طلحة "سَبَّحوه" بهاءِ الكناية. وعنه أيضاً: "سَبِّحَنَّ" بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة وهو كقولِه: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} وقد تقدَّم تصريفه.
* { يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }
قوله: {بِقُوَّةٍ}: حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوة. و "صَبِيَّا" حال من هاء "آتيناه".
* { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً }
قوله: {وَحَنَاناً}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به نَسَقاً على "الحُكْمَ"، أي: وآتيناهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللِّيْن، وأنشد أبو / عبيدة:
3215- تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ * فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا
قال: "وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم: حَنَانَيْكَ، وقولِه:
3216- ............................ * حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ
وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدراً، كأنَّه يريد بع المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه. ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} و {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} في أحد الوجهين: وأنشد سيبويه:
3217- وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هَهنا * أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ
(10/116)
---(1/3972)
وقيل لله تعالى: حَنان، كما يقال له "رَحيم" قال الزمخشري: "وذلك على سبيل الاستعارة".
و {مِّن لَّدُنَّا} صفةٌ له.
* { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً }
قوله: {وَبَرّاً}: يجوز أن يكون نَسَقاً على خبر "كان"، أي: كان تقيَّاً بَرَّاً. ويجوز أَنْ يكون منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: وجَعَلْناه بَرَّاً. وقرأ الحسن "بِرَّاً" بكسر الباء في الموضعين. وتأويلُه واضح كقوله: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} وتقدَّم تأويلُه. و "بِوالِدَيْهِ" متعلِّقٌ بـ "بَرَّاً".
و "عَصِيَّا" يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولاً، والأصل: عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر. ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.
* { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً }
قوله: {إِذِ انتَبَذَتْ}: في "إذ" أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ بـ "اذكُرْ" على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها. والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره: واذكر خبرَ مريم، أو نَبَأَها، إذ انْتَبَذَتْ، فـ "إذ" منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره: وبَيَّنَ، أي: اللهُ تعالى، فهو كلامُ آخرُ. وهذا كما قال سيبويه في قوله: {انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ} وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به. والرابع: أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر، أي: خبر مريم أو نبأ مريم. وفيه بُعْدٌ. قاله أبو البقاء. والخامس: أنه بدلٌ مِنْ "مريمَ" بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: "لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه".
(10/117)
---(1/3973)
قال أبو البقاء: - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ- "وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها". وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية، ألا ترى نحو: "سُلِبَ زيدٌ ثوبُه" فـ "ثوبُه" لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن "زيد" ولا حالاً منه ولا وصفاً له، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ.
السادس: أنَّ "إذ" بمعنى "أَنْ" المصدرية كقولِك: "لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني"، أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال، أي: واذكر مريمَ انتباذَها. ذكره أبو البقاء.
والانْتِباذُ: افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ، وقد تقدَّم بيانُه.
* { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ "رُوْحِنا" وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} وحكى النقاش أنه قد قُرِئ "رُوْحَنَّا" بتشديدِ النون، وقال: هو اسم مَلَكٍ من الملائكة.
قوله: {بَشَراً سَوِيّاً} حالٌ مِنْ فاعل "تَمَثَّلَ". وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالاً.
* { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً }
(10/118)
---(1/3974)
قوله: {لأَهَبَ}: قرأ نافع وأبو عمرو "لِيَهَبَ" بالياء والباقون "لأَِهَبَ" بالهمزة. فالأُوْلَى: الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ، أي: ليَهَبَ الرَّبُّ. وقيل: الأصلُ: لأَهَبَ بالهمز، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببُ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك.
وقوله: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
* { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }
قوله: {بَغِيّاً}: في وزنِه قولان، أحدُهما - وهو قولُ المبردِ - أنَّ وزنَه فُعوا، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ. قال أبو البقاء: "ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور". ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل، قال: "ولو كانَتْ فَعُولاً لقيل: بَغُوٌ، كما يقال: فلان نَهُوٌ عن المنكر" ولم يُعْقِبْه بنكير. ومَنْ قال: إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو: امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة. وقد أُجيب عن ذلك: بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق، أي ذات بَغْي. وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل: "ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضاً لأنها للمبالغة" فجعل العلةَ في عدم الِّحاق كونَه للمبالغة. وليس بشيءٍ. وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ.
(10/119)
---(1/3975)
* { قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }
قوله: {كَذالِكَ}: تقدَّم نظيرُه.
قوله: "وَلِنَجْعَلَه" يجوز أن يكونَ علةً، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره: لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك. ويجوز أَنْ يكونَ نِسَقاً على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً. والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم "كان" مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلامُ، أي: خَلْقُه وإيجادُه أمراً لا بُدَّ منه/.
* { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً }
قوله: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ}: الجارُّ والمجرورُ في محل نصب على الحال، أي: انتبذَتْ وهو مصاحبٌ لها، كقولِه:
3218- ........................ * تَدْوْسُ بنا الجَماجِمَ والتَّرِيْبا
* { فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً }
قوله: {فَأَجَآءَهَا}: الأصلُ في "جاء" أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ كان القياسُ يقتضي تَعَدِّيَه لاثنين. قال الزمخشري: "إلا أنَّ استعمالَه قد تغيَّر بعد النقلِ إلى معنى الإلْجاء، ألا تراكَ لا تقول: جِئْتُ المكانَ وأَجَاْءَنْيهِ زيدٌ، كما تقول: بَلَغْتُه وأَبْلَغَنْيه، ونظيرُه "آتى" حيث لم يُستعمل إلا في الإعطاء ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيه فلان". وقال أبو البقاء: الأصلُ "جاءها" ثم عُدِّيَ بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واسْتُعمل بمعنى أَلْجَأَها".
(10/120)
---(1/3976)
قال الشيخ: "قوله وقولُ [غيرِه]: إنَّ "أجاءعل" بمعنى أَلْجَأَها يحتاج إلى نَقْلِ أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك مِنْ لسانِ العرب. وإجاءةُ تدلُّ على المُطلق، فَتَصْلُح لِما هو بمعنى الإلجاءِ ولِما هو بمعنى الاختيار، كما تقول: "أَقَمْتُ زيداً" فإنه يَصْلُحُ أَنْ تكونَ إقامتُك له قَسْراً أو اختياراً. وأمَّا قوله: "ألا ترك لا تقول" إلى آخره فَمَنْ رَأَى أنَّ التعديةَ بالهمزة قياسٌ أجاز ذلك وإنْ لم يُسْمَعْ، ومَنْ منع فقد سُمِع ذلك في "جاء" فيُجيز ذلك. وأمَّا تنظيرُه ذلك بـ "آتى" فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناه على أنَّ همزتَه للتعديةِ، وأنَّ أصلَه "أتى"، بل "آتى" ممَّا بُني على أَفْعَل، ولو كان منقولاً مِنْ "آتى" المتعدِّي لواحد لكان ذلك الواحدُ هو المفعولَ الثاني، والفاعلُ هو الأولُ، إذا عَدَّيْتَه بالعمزةِ تقولُ: "أتى المالُ زيداً" و "آتى عمروٌ وزيداً المالَ" فيختلف التركيب بالتعدية لأنَّ "زيداً" عند النحويين هو المفعولُ الأول، و "المالُ" هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس، فَدَلَّ على أنَّه ليس على ما قاله، وأيضاً فآتى مُرادِفٌ لأَعْطَى، فهو مخالفٌ من حيث الدَّلالةُ في المعنى. وقوله: "ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيْه" هذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تقول: "أتيتُ المكانَ" كما تقول: "جئت المكان". وقال الشاعر:
3219- أَتَوْا ناري فقلتُ مَنُوَّنَ أنتُمْ * فقالوا: الجنُّ قلتُ عِمُوا ظَلاما
ومَنْ رأى التعديةَ بالهمزةِ قياساً، قال: "آتانيه", وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ معه ظاهرُه الأجوية، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها.
وقرأ الجمهورُ "فَأَجَاْءَها"، أي: أَلْجأها وساقَها، ومنه قولُه:
3220- وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليكم * أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ
(10/121)
---(1/3977)
وقرأ حَمَّاد بن سَلَمة "فاجَأَها" بألفٍ بعد الفاء وهمزةٍ بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة قابَلَها. ويقرأ بألفين صريحتين كأنهم خفَّفوا الهمزةَ بعد الجيمِ، وكذلك رُوِيَت بينَ بينَ.
والجمهور على فتحِ الميم من "المَخاض" وهو وَجَعُ الوِلادةِ. ورُوي عن ابن كثير بكسرِ الميمِ، فقيل: عما بمعنى. وقيل: المفتوح اسمُ مصدرٍ كالعَطاء والسَّلام، والمكسورُ مصدرٌ كالقتال واللِّقاء، والفِعال قد جاء مِنْ واحد كالعِقاب والطَّراق. قاله أبو البقاء. والميمُ أصليةٌ لأنه مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تتمخَّضُ.
و {إِلَى جِذْعِ} يتعلقُ في قراءة العامَّة بـ "أَجاءها"، أي: ساقَها إليه.
وفي قراءةِ حَمَّاد بمحذوفٍ لأنه حالٌ من المفعولِ، أي: فاجَأَها مستندةً إلى جِذْعِ النخلةِ.
قوله: "نَسْيَاً" الجمهورُ على كسرِ النون وسكون السين وبصريح الياء بعدها. وقرأ حمزةُ وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسورُ فِعْلُ بمعنى مَفْعول كالذَّبْح والطَّحْن، ومعناه الشيءُ الحقيرُ الذي مِنْ شأنه أن يُنْسَى كالوَتِدِ والحَبْلِ وخِرْقةِ الطَّمْثِ ونحوِها.
قال ابن الأنباري: "مَنْ كسر فهو اسمٌ لما يُنْسَى كالنَّقْصُ اسمٌ لما يَنْقص، والمفتوحُ مصدرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوصفِ". وقال الفراء: "هما لغتان كالوَتْر والوِتْر، الكسرُ أحَبُّ إليَّ".
وقرأ محمدُ بن كعب القَرَظيُّ "نِسْئاً" بكسر النون، والهمزةُ بدلُ الياء. ورُوي عنه أيضاً وعن بكر بن حبيب السَّهْمي فتحٌ مع الهمز. قالوا: وهو مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيءُ المُسْتَعْلَكُ، والمفتوحُ مصدر كما كان ذلك من النِّسْيان
ونَقَل ابن عطية عن بكر بن حبيب "نَسَا" بفتح النون والسين والقصرِ كعَصَا، كأنه جَعَل فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبَض بمعنى المَقْبُوض.
(10/122)
---(1/3978)
و "مَنْسِيَّاً" نعتٌ على البمالغةِ، وأصلثه مَنْسُوْي فَأُدْغم. وقرأ أبو جعفر والأعمش "مِنْسِيَّاً" بكسر الميم للإتباع لكسرةِ اسين، ولم يَعْتَدُّوا بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ كقولهم: "مِنْتِن" و "مِنْخِر".
* { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً }
قوله: {مِن تَحْتِهَآ}: قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم "مِنْ"، وجَرَّ "تحتِها" على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب "تحتَها". فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في "نادى" مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه {مِن تَحْتِهَآ} أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس "فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و {مِن تَحْتِهَآ} على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها.
وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح.
والقراءةُ الثانية: تكون فيها "مَن"ْ موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
قوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} يجوزُ في "أَنْ" تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى القول، و "لا" على هذا ناهيةٌ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و "لا" حينئذٍ نافيةٌ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ. ومَحَلَّ "أنْ": إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر، أي: فناداها بكذا. والضمير في "تحتها": إمَّا لمريمَ عليها السلام، وإمَّا للنخلةِ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين.
قوله: "سَرِيَّا" يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ، و "تحتك" مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر. ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق، فتكون "تحتك" لغواً.
(10/123)
---(1/3979)
والسَّرِيُّ فيه قولان، أحدهما: أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف، فهو سَرِيٌّ. وأصله سَرِيْوٌ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد، فلامُه واوٌ. والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام، ويُجْمع "سَرِيُّ" على "سَراة" بفتح السين، وسُرَواء كظُرَفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جضمْعِه "أَسْرِيتْ"، كغنِيِّ وأَغْنِياء. وقيل: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ، أي: نَزَعْتُه، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس، أي: نَزَعْتُه. كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل. قاله الراغب.
والثاني: أنه النهرُ الصغير، ويناسِبُه "فكُلي واشربي" واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي، لأن الماءَ يَسْري فيه، فلامُه على هذا ياء، وأنشدوا للبيد:
3221- فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا * مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها
* { وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }
قوله: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ}: يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في "بِجَذْعِ" زائدةً كهي في قولِه تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [وقولِه:]
3222- ........................ * ...........لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري:
3223- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه * وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: "أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه:
3224- ....................... * ... يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
(10/124)
---(1/3980)
قال الشيخ: "وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في بابِ ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ غليه، ولذلك جَعَلَ النحويون "عن" و"على" اسْمَيْن في قولِ امرئ القيس:
3225- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه * ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر:
3226- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ * بِكَفِّ الإلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله:
3227- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها * تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر:
3228- فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ * مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا "إلى" فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً كـ "عَنْ" و "على". ثم أجاب: بأنَّ "إليك" في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك". قال: "كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: إني لكما من الناصحين" في أحد الأوجه".
قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو: "دَعْ عنك" "وهَوِّنْ عليك" وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك.
(10/125)
---(1/3981)
قوله: "تُساقِطْ" قرأ حمزة "تَسَاقَطْ" بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - عيرَ حفصٍ- كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص "تَتَساقط" بتاءين، مضارعَ "تساقَطَ" فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو: "تَنَزَّلٌ" و "تَذَكَّرون"، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن. وقراءةُ حفص مضارع "ساقَطَ".
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب "يَسَّاقَطْ" كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع "اسَّاقط" وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُبِلَتْ همزةُ الوصل كأ "ادَّارَأ" في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ:/ واقفة مسروقٌ في الأولى، وهي "تُسْقِط" بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع "رُطَباً جَنِيَّاً" بالفاعلية.
وقُرِئَ "تَتَساقط" بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْغُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله:
3229- ............................ * كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة "تَلْتَقِطْه بعض السيارة". ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
(10/126)
---(1/3982)
وأمَّا نَصْبُ "رُطَباً" فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حارً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَع لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به بـ "هُزِّيْ" وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان "جَنِيَّاً" بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ "تُخَم" فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا "الرطب" باعتبار الجنس، وأنَّثوا "التُّخَم" باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على "أَرْطاب" شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك "جَنَى فلانٌ جنايةً" كما استعير "اجْتَرَم جريمةً".
* { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيا إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً }
قوله: {وَقَرِّي عَيْناً}: "هَيْناً" نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ "قَرِّيْ" أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع.
(10/127)
---(1/3983)
وقُرئ بكسرِ القاف، وعي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في المتضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكان بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: "وَقَرْنَ في بُيوتكِن".
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ "القُرّ" وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِج صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: "أَسْخَنَ اللهُ عينَه"، وفي الدعاء له: "أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
3230- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَاُسْخِنَتْ * وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره.
قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت "إنْ" الشرطية على "ما" الزائدة للتوكيد، فَأُدْعِمت فيها، وكُتِبَتْ متلةً. و "تَرَيْنَ" تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية "تَرَئِنَّ" بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء، وكذلك رُوي عنه "لَتَرَؤُنَّ" بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري: "هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ" - يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين". وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: "هو لحنٌ عند أكثر النحويين".
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة "تَرَيْنَ" بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: "وهي شاذَّةٌ". قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَذِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
3231- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به * ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
(10/128)
---(1/3984)
3232- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ * يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ "لم"، وأبقى نونَ الرفعِ.
و "من البشر" حالٌ من "أحداً" لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: "أو مفعول" يعني أنه متلعقٌ بنفسِ الفعل قبله.
قوله: فَقُولِيْ" بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}/ كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله "فقُولي" إلى آخره، أنه بالإشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي "صِياماً" بدل "صوم"، وهما مصدران.
* { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }
قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}: "به" في محلَِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل "أَتَتْ"، أي: أتَتْ مصاحِبَةً له نحو: جاء بثيابِه، أي: ملتبساً بها. ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإتيان. وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالاً ثانية مِنْ فاعل "أَتَتْ". ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الهاء في "به". وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً وفيه نظرٌ.
قوله: "شيئاً" مفعولٌ به، أي: فَعَلْتِ. أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيء فَرِيَّاً. والفَرِيُّ: العظيم من الأمر، يقالُ في الخير والشرِّ. وقيل: الفَرِيُّ: العجيب. وقيل المُفْتَعَلُ. ومن الأول: الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه: فلم أرَ عبقَرِيَّاً يَفْرِيْ فَرْيَّة". والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإصلاح. والإفراء: إفسادُه. وفي المثل: جاء يَفْري الفَرِيَّ، أي: يعمل العملَ العظيم. وقال:
(10/129)
---(1/3985)
3233- فَلأَنْتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْـ * ـضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه "فَرِيْئاً" بالهمز. وفيما نقل ابن عطية "فَرْياً" بسكون الراء.
* { ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً }
وقرأ عُمَرُ بن لجأ {مَا كَانَ أَباكِ امْرُؤُ سَوْءٍ} جَعَلَ النكرةَ الاسمَ، والمعرفةَ الخبرَ، كقوله:
3234- ........................ * يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ
[وكقوله:]
وهنا أحسنُ بوجودِ الإضافةِ في الاسم.
* { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }
قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ}: الإشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ. وأنشدوا لكثيِّر:
3230- فقلتُ وفي الإحشاء داءٌ مُخامِرٌ * ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ
قوله: {مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} في "كان" هذه أقوالٌ. أحدُها: أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد، أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد. و "صَبِيَّا" على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً. وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً- بأنها لو كانَتْ زائدةً لما نَصَبَتِ الخبرَ، وهذه قد نصَبتْ "صَبيَّا". وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ.
الثاني: أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقدير: كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا، و "صَبِيَّاً" حال من الضمير في "كان".
الثالث: أنها بمعنى صار، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا، و "صَبِيَّا" على هذا خبرُها، فهو كقوله:
3237- .......................... * قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها
(10/130)
---(1/3986)
الرابع: أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف "لم تَزَلْ". قال الزمخشري: "كان" لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد. وهو هنا لقريبةِ خاصةً، والدالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجب. ووجه آخر: وهو أَنْ يكونَ "نُكَلِّمُ" حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن"؟
وأمَّا "مَنْ" فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة، أي: كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً. وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً. و "كان" بمعنى "يكنْ"، وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ وهو "كيف نُكَلِّم"، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، اي: مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله منصوبتُه بـ "نكلِّم". وإذا قيل بأنَّ "كان" زائدةٌ. هل تتحمَّل ضميراً أم لا؟ فيه خلاف، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله:
3238- فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ * وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فرفع بها الواوَ. ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرَها هو "لنا" قُدِّم عليها، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف.
وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد. والأكثرون على أنه إخفاءٌ.
* { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }
(10/131)
---(1/3987)
قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُ}: هذه شرطيةٌ. وجوابُها: إمَّا محذوفٌ مَدْلولٌ عليه بما تقدَّمَ، أي: أينما كنتُ جَعَلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ عند مَنْ يرى ذلك. ولا جائزٌ أن تكونَ استفهاميةً؛ لأنه يلزمُ أَنْ يعملَ يها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكونَ شرطيةً لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين.
قوله: "ما دُمْتُ" "ما" مصدريةٌ ظرفيةٌ وتقدُّمُ [ما] على "دام" شرطٌ في إعمالها. والتقدير: مجةَ دوامي حياً. ونقل ابن عطية عن عاصمٍ وجماعة أنهم قرؤوا "دُمْتُ" بضم الدال، وعن ابن كثير وأبي عمرو وأهلِ المدينة "دِمت" بكسرها، وهذا لم نَرَه لغيره وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذة التي بين أيدينا، فيجوز أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصحفٍ غريب. ولا شك أنَّ في "دام" لغتين، يقال: دُمْتَ تَدُوْم، وهي اللغةُ العالية، ودِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف، وهذا كما تقدم لك/ في مات يموت وماتَ يَمات.
* { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً }
قوله تعالى: {وَبَرّاً}: العامَّةُ بفتحِ الباء، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنه منصوبٌ نَسَقاً على "مباركاً"، أي: وجَعَلَنِي بَرَّاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. واخْتِير هذا على الأولِ لأنَّ فيه فَصْلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلِّقِها.
وقُرئ "بِرَّاً" بكسرِ الباءِ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، وإمَّا على المبالغة في جَعْلِه نفسَ المصدر. وقد تقدَّم في البقرة أنه يجوز أن يكونَ وصفاً على فِعْل. وحكى الزهراويُّ وأبو البقاء أنه قُرئ بكسر الباء والراء. وتوجيهُه: أنه نَسَقٌ على "الصلاة"، أي: وأوصاني بالصلاةِ وبالزكاةِ وابالبِرِّ. و "بوالَديَّ" متعلقٌ بالبَرّ أو البِرّ.
* { وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }
(10/132)
---(1/3988)
قوله تعالى: {وَالسَّلاَمُ}: الألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ لأنه قد تقدَّمَ لفظُه في قولِه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} فهو كقولِه {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوَجَّهٌ إليَّ. وقال الزمخشري- بعد ذِكْرِه ما قدَّمْتُه-: "والصحيحُ أن يكونَ هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متهمي مريمَ عليها السَّلامِ عليَّ خاصة فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم. وتنظيرُه: {وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
}. قوله: {يَوْمَ وُلِدْتُّ} منصوبٌ بما تضمنَّه "عليَّ" من الاستقرار. ولا يجوزُ نَصْبُه بـ "السَّلام" للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه. وقرأ زيد بن على "وَلَدَتْ" جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ مريمَ، والتاءُ للتأنيث. و "حَيَّاً" حالٌ مؤكِّدَةٌ.
* { ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ }
قوله تعالى: {ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ}: يجوز أَنْ يكونَ "عيسى" خبراً لـ "ذلك"، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و "قولُ الحق" خبره. ويجوز أَنْ يكونَ "قولُ الحق" خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و "ابن مريم" يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر "قولَ الحق" بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: "وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ" قال الشيخ: "وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ".
(10/133)
---(1/3989)
والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: "هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: {وَعْدَ الصِّدْقِ} أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و "الذي" نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً بالحقِّ سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ هلى الحالِ من "عيسى". ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ "قالُ" برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ الحسن "قُوْلُ" بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء: "والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي "قُولُ الحق" بضمِّ القاف مثل "الرُّوْح" وهي لغةٌ فيه". قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهَب والرَّهِب والرُّهْب.
وقرأ طلحةُ والأعمش "قالَ الحقُّ" جعل "قال" فعلاً ماضياً، و "الحقُّ" فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه {الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما "تَمْتَرون" بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ.
* { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
وتقدَّم الكلامُ على نصبِ "فيكونَ" وما قيل فيه.
(10/134)
---(1/3990)
* { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }
قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ}: قرأ ابن عامرٍ والكوفيون "وإنَّ" بكسر "إنَّ" على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ {إِنَّ اللَّهَ} بالكسر دون واو.
وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه.
الثاني: أنها عطفٌ على "الصلاةِ" والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ "وبأنَّ اللهَ ربي" بإظهار الباءِ في مصحفِ أَُيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام.
الثالث: أَنْ تكونَ "أنَّ" وما بعدها نَسَقاً على "أمراً" المنصوبِ بـ "قَضَى" والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْمِ والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على "أمراً" لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ بـ "إذا"، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على الإطلاق. ونسبوا هذا الوعمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِرَ ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإضمارِ.
(10/135)
---(1/3991)
الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على "الكتاب" في قولِه "قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ" على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عَطَفَ {إِنَّ اللَّهَ} على قوله " فهو داخلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ.
* { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
قوله تعالى: {مِن مَّشْهِدِ}: "مَشْهَد" مَفْعَل: إمَّا من الشهادة، وإمَّا من الشهود وهو الحضورُ. و "مَشْهَد: هنا يجوز أن يُراد به الزمانُ أو المكان أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمراد به الزمان، فتقديره: مِنْ وقتِ شهادة. وإن أريد به المكانُ فتقديره: من مكانِ شهادة يوم. وأَنْ تشهدَ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم والملائكةُ والأنبياءُ. وإذا كان من الشهود وهو الحضورُ فتقديرُه: مِنْ شهود الحساب والجزاء يوم القيامة، أو من مكانِ الشهود فيه وهو الموقفُ أو من وقتِ الشهود؟ وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافتُه إلى الظرف من بابِ الاتساعِ، كقوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ويجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه على أن يُجْعَلَ اليومُ شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة وإمَّا مجازاً.
* { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}: هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو: أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباء، والباءُ زائدةٌ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحاً للَّفظِ، لأنَّ أَفْعِلْ أمراً لا يكون فاعلُه إلا ضميراً مستتراً، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله:
(10/136)
---(1/3992)
3239- تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها * فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا
أي: بأَنْ تَسَرْبَلَ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ. ولنا قولُ ثانٍ: إن الفاعلَ مضمرٌ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفيَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب، ويُعزَى هذا للزجاج.
ولنا قول ثالث: أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقديرُ: أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ. ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظاً جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقيديرَه: وأَبْصِرْ بهم. وفيه أبحاثٌ موضعُها كتب النحو.
وقوله {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معمولٌ لـ "أَبْصِرْ". ولا يجوز أن يكونَ معهولاً لـ "أَسْمِعْ" لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازه. وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِماً إعماَ الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال. وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم: ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
وقوله "اليوم" منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قولِه "في ضلال مبين"، أي: لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم. ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك: القتال اليوم في دارِ زيدٍ، فإنه يجوز الاعتباران.
* { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
(10/137)
---(1/3993)
قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ}: يجوز أن يكونَ منصوباً بالحَسْرَةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "يوم" فيكون معمولاً لـ "أَنْذر" كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ، ولم يَذْكر غيرَ البدل.
وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي، فإن جَعَلْتَ "اليوم" مفعولاً به، أي: خَوِّفْهم نفسَ اليومِ، أي: إنهم يخافون اليومَ نفسَه، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة.
وقوله: {لَاكِنِ الظَّالِمُونَ من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ.
قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} جملتان حاليتان وفيهما قولان، أحدهما: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قولِه {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين. والثاني: أنهما حالان مِنْ مفعولِ "أَنْذِرْهُم" أي: أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها، وعلى الاولِ يكون قولًُه {وَأَنْذِرْهُم} اعتراضاً.
* { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
وقرأ العامَّةُ "يُرْجَعون" بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنياً للفاعل، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكونَ التفاتاً وأن لا يكونَ.
* { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }
(10/138)
---(1/3994)
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من "إبراهيم" بدلَ اشتمال كما تقدَّم في {إِذِ انتَبَذَتْ} وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} نحو: رأيت زيداً - ونِعْم الرجلُ - أخاك". وقال الزمخشري: "ويجوز أن يتعلَّقَ "إذ" بـ "كان" أو بـ "صِدِّيقاً نبيَّاً"، أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ". ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه {صِدِّيقاً نبيَّاً} أو معناه.
قال الشيخ: "الإعرابُ الأولُ - يعني البدليةَ - يقتضي تصرُّفَ "إذ" وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ "كان" في الظرف وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العاملُ مركباً من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ. ولا جائز أن يكونَ معمولاً لـ "صِدِّيقاً" لأنه قد وُصِفَ، إلا عند الكوفيين. ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولاً لـ "نبيَّاً" لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة".
قلت: العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله "أي: كان جامعاً / لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه".
* { ياأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِيا أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }
وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر "يا أبَتِ" وفي مصحف عبد الله "ويا أبتِ" بـ "وا أبتِ" التي للنُّدْبة.
* { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }
(10/139)
---(1/3995)
قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنتَ}: يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكون "راغبٌ" مبتدأً لاعتمادِه على همزةِ الاستفهام، و "أنت" فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر. والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و "أنت" مبتدأ مؤخر ورُجِّح الأولُ بوجهين، أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعلِ التأخيرُ عن رافعِه. والثاني أنه لا يلزم فيه الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك لأنَّ {عَنْ آلِهَتِي} متعلقٌ بـ "راعِبٌ"، فإذا جُعل "أنت" فاعلاً فقد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل، بخلافِ جَعْلِه خبراً فإنه أحنبي إذ ليس معمولاً لـ "راغبٌ".
قوله: "مَلِيَّاً" في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبُ على الظرفِ الزماني، أي: زمناً طويلاً، ومنه "المَلَوان" للَّيلِ والنهارِ، ومَلاوةُ الدَّهْر بتثليث الميم قال:
3240- فَعُسْنا بها من الشَّبابِ مَلاوةً * فالحجُّ آيات الرسولِ المحبِّبِ
وأنشد السدِّي على ذلك لمهلهل:
3241- فتصَدَّعَتْ صُمُّ الجِبالِ لمَوْتِه وبَكَتْ عليه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال معناه: سالماً سَويَّاً. كذا فسَّره ابن عباس: فهو حالٌ مِنْ فاعلِ "اهْجُرْني"، وكذلك فَسَّره ابنُ عطيةَ قال: "معناه: مُسْتَبداً، أي: غنيَّاً من قولهم هو مَلِيٌّ بكذا وكذا". قال الزمخشري: "أي: مُطيقاً" والثالث: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: هَجْراً مَلِيَّاً يعني: واسعاً متطاولاً كتطاول الزمان الممتد.
* { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيا إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }
وقرأ أبو البرهسم "سَلاماً" بالنصب، وتوجيهُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.
* { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً }
قوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً}: "وكُلاًّ" مفعولٌ مقدم هو الأول، و "نبيَّا" هو الثاني.
(10/140)
---(1/3996)
* { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً }
قوله تعالى: {نَجِيّاً}: حالٌ مِنْ مفعولِ "قَرَّبْناه" وأصلُه نَجِيْوا، لأنه مِنْ نجا يَنْجو، والأَيْمَن: الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} وقيل: إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة.
* { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً }
قوله تعالى: {مِن رَّحْمَتِنَآ}: في "مِنْ" هذه وجهان، أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: مِنْ أَجْل رحمتِنا. و "أخاه" على هذا مفعولٌ به، و "هرون" بدلٌ أو عطف بيان، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني، و"نَبِيَّاً" حالٌ. والثاني: أنها تبعضيةٌ، أي: بعض رحمتِنا. قال الزمخشري: "وأخاه على هذا بدلٌ، وهرونَ عطف بيان". قال الشيخ: "الظاهرُ أنَّ "أخاه" مفعولُ "وَهَبْنَا"، ولا تُرادِفُ "مِنْ" بعضً فَتُبْدِلُ "أخاه" منها".
* { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً }
قوله تعالى: {مَرْضِيّاً}: العامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصلُه مَرْضُوْوٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً، واحجتمعت الياءُ والواو فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ، ومن الإعلالِ قولُه:
3242- لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني * أنا المَرْءُ مَعْدِيَّاً عليه وعادِيا
وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أي: مُسْقاة بالسَّانية.
(10/141)
---(1/3997)
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً }
قوله تعالى: {مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ}: "مِن" الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنْعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ مُحالٌ، والثانيةُ للتبعيض، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كل.
قوله: "وإسرائيل" عطفٌ على "إبراهيم".
قوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على {مِّنَ النَّبِيِّيْنَ}، وأن يكونَ عطفاً على {مِن ذُرِّيَّةِ} ءادَمَ}.
قوله: {إِذَا تُتْلَى} جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان، أظهرهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها. والثاني: أنها خبرُ "أولئك"، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإشارة، وعلى الول يكون الموصولُ نفسَ الخبر. وقرأ العامَّةُ "تُتلى" بتاءين مِنْ فوقُ. وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في رواياتٍ شاذة بالياء أولاً مِنْ تحتُ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان.
قوله: "سُجَّدا" حالٌ مقدرة. قال الزجاج: "لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّداً".
(10/142)
---(1/3998)
و "بُكِيَّا" فيه وجهان، أظهرهما: أنه جمع باكٍ، وليس بقايِه، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة، كقاضٍ وقُضاة، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسرِان فاءَه على الإتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو: جَلَسَ جُلُوْساً، وقَعَدَ قُعوداً. والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء، فأُعِلَّ الإعلالَ المشهور في مثله. وقال ابن عطية: "وبكيَّا بكسر [الباء] وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك". قال الشيخ: "وليس بسديدٍ بل الإتباعُ جائزٌ فيه". وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ، جمع عَصا ودَلْو، وعلى هذا فيكون "بكيَّاً": إمَّا مصدراً مؤكداً لفعلٍ محذوف، أي: وبَكَوْا بُكِيَّاً، أي: بكاءً، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي: باكين أو ذوي بكاءً، أو جُعِلوا [نفس] البكاءِ مبالغةً.
* { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناءٌ متصلٌ. وقال الزجاج: "هو منقدعٌ" وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار.
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعةٌ "الصلوات" جمعاً. والغَيُّ تقدم.
وقرأ الحسنُ هنا وجميعَ ما في القرآن "يُدْخَلون" مبنياً للمفعولِ. ونقل الأخفس أنه قُرِئ "يُلَقَّوْن" بضم الياء وفتح اللام وتشديدِ القاف، مِنْ لقَّاه مضعفاً. وستأتي هذه القراءة لبعض السبعة في آخر الفرقان. و "شيئاً"، إمَّا / مصدرٌ، أي: شيئاً من الظلم، وإمَّا مفعولٌ به.
* { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }
(10/143)
---(1/3999)
قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: العامَّةُ على كسر التاء نصباً على أنها بدل مِن "الجنةَ"، وعلى هذه القراءةِ يكون قولُه {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فيه وجهان، أحدهما: أنه اعتراضٌ بين البدلِ والمبدلِ منه. الثاني: أنه حالٌ، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ: من حيث إن المضارع المنفيِّ بـ "لا" كالمُثْبَتِ في أنه لا تباشِرُه واوُ الحالِ.
وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر والأعمش "جناتُ" بالرفع وفيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتد مضمرٍ تقديرُه: تلك، أو هي جناتُ عدنٍ. الثاني:- وبه قال الزمخشري- أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرُها {الَّتِي وَعَدَ}.
وقرأ الحسن بن حيّ وعلي بن صالح والأعمشُ في روايةٍ "جَنَّةَ عَدْنٍ" نصباً مفرداً. واليماني والحسنُ والأزرقُ عن حمزةَ "جنةُ" رفعاً مفرداً، وتخريجُها واضحٌ ممَّا تقدَّم. قال الزمخشري: "لَمَّا كانت مشتملةٌ على جناتِ عدنٍ أبْدِلَتْ منها كقولِك: "أَبْصَرْتُ دارَكَ القاعةَ والعلاليَّ"، و "عَدْنٍ" معرفةٌ علمٌ بمعنى العَدْنِ وهو الإقامةُ كما جعلوا فينةَ وسحَر وأمسَ - فيمن لم يَصْرِفْه - أعلاماً لمعاني الفنية والسَّحَر والأمس، فجرى مَجْرى العَدْن لذلك، أو هو عَلَمٌ لأرضِ الجنةِ لكونِها دارَ إقامة، ولولا ذلك لَما ساغَ الإبدالُ لأنَّ النكرةَ لا تُبْدَلُ من المعرفةِ إلاَّ موصوفةً، ولَما ساغ وصفُها بالتي".
(10/144)
---(1/4000)
قال الشيخ: "وما ذكرع متعقِّبٌ: أمَّا دعواه أنَّ عَدْناً، عَلَمٌ لمعنى العَدْنِ فيحتاج إلى تَوْقيفٍ وسَماع من العرب، وكذا دعوى العَلَميةِ الشخصيةِ فيه. وأمَّا قولُه "ولولا ذلك" إلى قوله "موصوفة" فليس مذهبَ البصريين؛ لأنَّ مذهبَهم جوازُ إبدالِ النكرةِ من المعرفةِ وإن لم تكون موصوفةً، وإنما ذلك شيءٌ قاله البغداديون، وهم مَحْجُوْجون بالسَّماعِ على ما بيَّناه، وملازمتُه فاسدةٌ. وأمَّا قولُه "ولَما ساغَ وصفُها بـ "التي" فلا يتعيَّن كون "التي" صفةً، وقذ ذَكَرْنا أنه يجوزُ إعرابُه بدلاً".
قلت: الظاهر أنَّ "التي" صفةٌ، والتمسُّكُ بهذا لالظاهرِ كافٍ، وأيضاً فإنَّ الموصولَ في قوةِ المشتقات، وقد نَصُّوا على أنّض البدلَ بالمشتقِّ ضعيفٌ فكذا ما في معناه. قوله: "بالغيبِ" فيه وجهان: أحدعما: أن الباءَ حاليةٌ. وفي صاحب الحالِ احتمالان، أحدُهما: ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ، أي: وعَدَعا، وعي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها. والثاني: أن يكونَ مِنْ "عبادَة"، أي: وهم غائبون عنعا لا يَرَْنها، إنما آمنوا بمجردِ الإهبار منه.
والوجه الثاني: أن الباءَ سببيةٌ، أي: بسببِ تصديقِ الغيب، وبسببِ الإيمان به.
قوله: "إنه كان" يجوز في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى يعودُ على الرحمن، أي: إنَّ الرحمن كان موعدُه مَأْتِيَّا. والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأن]؛ لأنه مَقامُ تعظيمٍ وتفخيمٍ، وعلى الأول يجوز أَنْ يكونَ في "كان" ضميرٌ هو اسمُها يعودُ على اللهِ تعالى، و "وعدُه" بدلٌ من ذلك الضميرِ بدلُ اشتمال، و "مَأْتِيَّاً" خبرُها. ويجوز أَنْ لا يكون فيها ضميرُ، بل هي رافعةٌ لـ "وَعِدُه" و "مَأْتِيَّاً"، الخبرُ أيضاً، وهو نظير: "إنَّ زيداً كان أبوه منطلقاً".
(10/145)
---(1/4001)
ومَأْتِيَّاً فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ على بابِهِ، والمرادُ بالوعدِ الجنةُ، أُطْلِقَ عليها المصدرُ أي موعوده نحو: دِرْعَمٌ ضَرْبُ الأميرِ. وقيل: الوَعْدُ مصدرٌ على بابه ومَأْتِيَّاً مفعولٌ بمعنى فاعِل ولم يَرْتِضِهْ الزمخشريُّ فإنه قال: "قيل في "مَأْتِيَّاً" مفعولٌ بمعنى فاعِل. والوجهُ: أنَّ الوهدَ هو الجنة، وهم يَأْتونَها، أو هو مِنْ قولِك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعدُه مفعولاً مُنْجِزاً".
* { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }
قوله: {إِلاَّ سَلاَماً}: أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ أحدُهت: أَنْ يكونَ معناه: إنْ كان تَسْلِيمُ بعضَهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه:
3234- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم * بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الثاني: أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ، على الاستثناء المنقطع. الثالث: أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ، واهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ، فكان ظاهرُع من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ.
قلت: ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني. أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ بالاعتبارِ الذي ذكره، وأمَّا الاتصالًُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى}.
* { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }
(10/146)
---(1/4002)
قوله: {نُورِثُ}: قرأ الأعمش "نُورِثها" بإبراز عائدِ الموصول. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة "نُوَرِّثُ" بفتحِ الواوِ وتشديد الراء مِنْ "وَرَّثَ" مضعِّفاً.
* { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }
قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ}: قال ابن عطية: "الواو عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على أخرى، واصلةٌ بين القولين وإن لم يكن / معناهما واحداً". وقد أغربَ النقاشُ في حكايتِه لقولٍ: وهو أنَّ قولَه {وَمَا نَتَنَزَّلُ}، متصلٌ بقولِه {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} وقال أبو البقاء: "وما نَتَنَزَّل، أي: وتقول الملائكةُ" فَجَعَلَه معمولاً لقولٍ مضمر. وقيل: هو من كلامِ أهل الجنة.
ونَتَنَزَّل مطاوعُ نَزَّل بالتشديد ويقتضي العملَ في مُهْلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: "التَنَزُّلُ على معنيين: معنى النزولِ على مَهْلٍ، ومعنى النزولِ على الإطلاق كقوله:
3244- فَلَسْتُ إنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ * تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السَّماءِ يصوبُ
لأنه مطاوع نَزَّل، ونزَّل يكون بمعنى أَنْزَلَ، ويكون بمعنى التدريج، واللائقُ بهذا الموضعِ هو النزولُ على مَهْلٍ، والمراد: أنَّ نزولَنا في الأحاديين وقتاً غِبَّ وقتٍ". قلت: وقد تقدم أنه يُفَرِّق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضع.
وقرأ العامَّةُ "نَتَنَزَّل" بنون الجمع. وقرأ الأعرج "يَتَنزَّل" بياء الغيبة. وفي الفاعل حينئذ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ جبريل. قال ابن عطية: "يَرُدُّه قولُه "له لما بين أيدينا وما خَلْفَنَا" لأنه يَطَّرِدُ معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أنَّ القرآن لا يَتَنَزَّل إلا بأمر الله في الأوقات التي يُقَدَّرها". وقد يُجاب عما قال ابن عطية: بأنَّع على إضمار القول: أي: قائلاً: "له ما بين أيديدنا".
(10/147)
---(1/4003)
الثاني: أنه يعود على الوَحْي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضميرُ للوحي، ولا بد من إضمار هذا القولِ الذي ذكرتُه أيضاً.
قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} استدلَّ بعضُ النحاة على أنَّ الأزمنةَ ثلاثةُ: ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ بهذه الآية، وهو كقولِ زهير:
3245- وأعلمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه * ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
* { رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }
قوله: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ}: فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدها: كونُه بدلاً مِنْ "ربُّك". الثاني: كونُه خبرَ مبتدأ، أي: هو ربُّ. الثالث: كونُه مبتدأً، والخبرُ الجملةُ الأمريةُ بعده وهذا ماشٍ على رَأْي الأخفش: أنه يُجَوِّزُ زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً.
قوله: لعبادتِه" متعلَّقٌ بـ "اصْطَبِرْ" وكان مِنْ حَقِّه تعديتُه بـ "على" لأنها صلتُه كقولِه: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ولكنه ضُمِّن معنى الثبات، لأنَّ العبادةَ ذاتُ تكاليفَ قَلَّ مَنْ يَثْبُتُ لها فكأنه قيل: واثْبُتْ لها مُصْطَبراً.
قوله: "هل تعلم" أدغم الأخَوان وهشام وجماعة لام "هل" في التاء، وأنشدوا على ذلك بيت مزاحم العقيلي.
3246- فدَعْ ذا ولكن هَتُّعِيْنُ مُتَيَّماً * على ضوءِ بَرْقٍ آخرَ الليلِ ناصِبِ
* { وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً }
(10/148)
---(1/4004)
قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ}: "إذا" منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ علي بقوله تعالى {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} تقديرُه: إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه "أُخْرِج" لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها. قال أبو البقاء: "لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ" قلت: قد جضعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين: أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله. تقول: زيداً سأضرب، وسوف أضرب، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ، والصحيحُ الجوازُ، وأنشدوا عليه:
3247- فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها * وقالت: أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ
فـ "هكذا" منصوب بـ "يَفْعَل" بعد حرف التنفيس.
وقال ابن عطية: واللامُ في قوله: "لَسَوْف" مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى، كأنَّ قائلاً قال للكافر: إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيَّاً، فقرَّر الكلامَ على جهةِ الاستبعادِ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول".
قال الشيخ: "ولا يُحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ، بل هو من كلامِ الكافرِ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ".
(10/149)
---(1/4005)
وقال الزمخشري: "لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت: لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في "يا الله" للتعويض، واضمحلَّ عنها معنى التعريف". قال الشيخ: "وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال. وأمَّا قولُه: "كما أَخْلَصَت الهمزة" فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله: لاه، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ، ولو قلنا: إن أصلَه إلاه، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانَتْ عوضاً من المحذوف لَثَبَتَتْ دائماً في لانداء وغيرِه، ولَمَات جاز حذفُها في النداء، قالوا: "يا الله" بحَذْفِها، وقد نَصُّوا على أن [قطعَ] عمزةِ الوصل في النداء شاذ".
وقرأ الجمهور "أإذا" بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم. وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ "إذا" بعمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها، وجماعةٌ "إذا" بهمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحَذَف أداتَه للعلمِ بها، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها.
وقرأ طلحة بن مصرف "لَسَأَخْرَجُ" بالسين دون سوف، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه، وغيرُه نَقَل عنه "سَأَخْرُج" دونَ لامِ ابتداء، وعلى هذه القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ "أُخْرَج"، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح.
وقرأ العامَّةُ "أُخْرَجُ" مبنياً للمفعول. والحسن وأبو حيوة "أَخْرِجُ" مبنياً للفاعل. و "حَيَّاً" حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجهِ أن يكونَ "حَيَّاً" وهو كقولِه: {أُبْعَثُ حَيّاً
(10/150)
---(1/4006)
}. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة "يَذْكُرُ" مخففاً مضارعَ "ذكر"، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر، والأصل "يتذكَّر" فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال. وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر: أُبَيُّ.
* { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً }
والهمزةُ في قوله {أَوَلاَ يَذْكُرُ} مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور. وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال: "الواوُ عَطَفَتْ {لاَ يَذْكُرُ} على "يقول" / ووُسِّطَتْ همزةُ لإنكار بين المعطوف وحرفِ العطف" ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها، وقد فعل هذا - أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور- في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعه.
قوله: {مِن قَبْلُ}، أي: مِنْ قبلِ بَعْثه. وقَدَّره الزمخشري "من قبلِ الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه".
* { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }
(10/151)
---(1/4007)
قوله: {جِثِيّاً}: حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ "لَنُحْضِرَنَّهُمْ" و "جِثِيّاً" جمعُ حجاثٍ جمعٌ على فُعُول نحو: قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس. وفي لامِه لغتان، إحداهما الواو، والأخرى الياء يُقال: جثا يَجْثُو جُثُوَّاً، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه "جُثُوْوٌ" بواوين: الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع، والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ، وتقدَّم تحقيقُه في "عِتِيَّاً". وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْياً، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة، وهو: المجموعُ من التراب والحجارة. وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل. ويجوز في "جِثِيَّا" أن يكون مصدراً على فُعول، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعاً: إمَّا جُثُوٌّ، وإمَّا جُثُوْيٌ.
وقد تقدَّم" أنَّ الأخوين يكسران فاءَه، والباقون يَضُمونها.
والجُثُوُّ: القُعُودُ على الرَّكَب.
* { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً }
قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}: في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: "أم "أيُّهم" موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و "أَشَدُّ" خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ بـ "أيُّهم"، و "أيُّهم" وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله "لَنَنْزِعَنَّ".
ولـ "ايّ" أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر:
3248- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ * فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم "أيُّهم" وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
(10/152)
---(1/4008)
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ "أيُّهم" هنا مبتدأٌ، و "أشدُّ" خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر:
3249- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ * فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأهٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ لـ "نَنْزِعَنَّ" فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري: "ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا". فجعل "أيُّهم" موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ".
قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين".
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ {كُلِّ شِيعَةٍ} و "مِنْ" مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ "مِنْ"، و "أيُّ" استفهامٍ"، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبغيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى "لننزِعَنَّ" لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في "أيّ". قال المهدوي : "ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ".
(10/153)
---(1/4009)
وقال المبرد: "أيُّهم" متعلِّقٌ بـ "شيعةٍ" فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا". ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً لـ "نَنْزِعَنَّ" محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: "وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشضَايَعُوا بمعنى تعاونوا". قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ "أيُّهم" فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ "شيعة" من معنى الفعلِ، قال: "التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي".
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ "أيُّهم" في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش "أيُّهم" نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: "ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما" قال" وقد أعرب سيبويه "أيَّاً" وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبينها مضافةً"؟ وقال الجرميُّ: "خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: "لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ" بالضمِّ بل يَنْصِبُ".
(10/154)
---(1/4010)
و {عَلَى الرَّحْمَانِ} متعلقٌ بـ "أشدُّ" و "عِتِيَّاً" منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم عو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه". قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان بـ "أَفْعَل"، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم: "هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا".
قلت: يعني بـ "على" قولَه "على الرحمن"، وبالباء قولَه "بالذين هم". وقوله "بالمصدر" يعني بهما "عِتيَّا" و "صِلِيَّاً" وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه.
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ "عِتِيَّاً" و "صِلِيَّاً" في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ تتعلقَ على ولباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ.
* { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }
(10/155)
---(1/4011)
قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ}: في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية" {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ} وَارِدُهَا} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ". قال الشيخ: "وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو بـ "إنْ" والجوابُ هنا على زَعْمه بـ "إنْ" النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَضُّوا. وقوله: "والواو تَقْتَضِيه" يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: "نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ"، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
3250- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ
أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه".
و "إنْ" حرفُ نفيٍ، و "منكم" صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه "منكمْ" يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري: "التفاتٌ إلى الإنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ "وإنْ منهم" أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور".
والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى: "هذا خَلْقُ الله" و "هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ". و "على ربِّك" متعلِّقٌ بـ "حَتْم" لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه بـ "مَقْضِيَّاً".
(10/156)
---(1/4012)
* { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }
وقرأ العامَّةُ {ثُمَّ نُنَجِّيْ} بضمِّ "ثمَّ" على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ "ثَمَّ" بفتحها على أنها الظرفيةُ، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا.
وقرأ الجمهور "نُنَجِّيْ" بضم النونِ الأولى الثانية وتشديدِ الجيم، مِنْ "نجَّى" مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن "نُنْجِي" مِنْ أَنْجى. والفعلُ على هاتين مضارعٌ.
وقرأَتْ فِرقةٌ "نُجِّيْ" بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة. وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ، ولكنه سكَّنه تخفيفاً. وتحتمل هذه القراءةُ توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء. وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضاً "نُنَجِّي" بحاءٍ مهملة، من التَّنْحِيَة.
ومفعول "اتَّقوا" إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به، أي: اتَّقُوا الشركَ والظلمَ.
قوله: جِثِيَّا" إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان "نَذَرُ" يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ "نَذَرُ" بمعنى نُخَلِّيْهم. و"جِثِيَّاً" على ما تقدَّم.
و "فيها" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ "نَذَرُ"، وأَنْ يتعلَّقَ بـ "جِثِيَّاً" إنْ كان حالاً، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدراً. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ "جِثِيَّاً" لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالاً.
* { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوااْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }
(10/157)
---(1/4013)
قوله: {مَّقَاماً}: قرأ ابن كثير "مُقاماً" بالضم، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءةُ ابن محيصن. والباقون بالفتح. وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر، إمَّا من "قام" ثلاثياً، أو مِنْ "أقام"، أي: خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ.
والنَّدِيُّ: فَعِيل، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا، يقال: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أي: أَتَيْتُ ناديَهم، والنادي مثلُه. ومنه "فَلْيَدْعُ ناديَة"، أي: أهل نادية. والنَّدِيُّ والنادي: مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم. وقيل: هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛ لأن الكرماء يجتمعون فيه، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك. وقال حاتم:
3251- ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم * يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ
والمصدرُ: النَّدْوُ. و "مَقاماً" و "نَدِيَّا" منصوبان على التمييز من أفْعل.
وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن "يُتْلَى" بالياء مِنْ تحتُ، والباقون/ بالتءِ من فوقُ واللامُ في "للذين" يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ، وهو الظاهر، وأن تكونَ للتعليلِ.
* { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً }
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا}: "كم" مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا: استفهاميةٌ أو خبريةٌ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ، و "أَهلَكْنا" مُتَسَلِّطٌ على "كم" أي: كثيراً من القرون أَهْلَكْنا. و "مِنْ قَرنٍ" تمييزٌ لـ "كَمْ" مُبَيِّنٌ لها.
(10/158)
---(1/4014)
قوله: {هُمْ أَحْسَنُ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما:- وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب، صفةً لـ "كم". قال الزمخشري: "ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ "هم" لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ "أحسنُ" على الوصفية". وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَضُّوا: على أنَّ "كم" استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً لـ "قَرْن" ولا محذورَ في هذا، وإنما جُمِعَ في قوله: "هم" لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ، فـ "قَرْن" كلفظِ "جميع" و "جميع" يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى: {لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
}. قوله: "ورِئْياً" الجمهورُ على "رِئْياً" الجمهورُ على "رِئْيا" بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإظهارُ اعتباراً بالأصل، والإدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر "ورِيَّا" بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ساءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرَّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
(10/159)
---(1/4015)
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى "وَرِيْئاً" بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ "رِئْياً" في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْهٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر:
3252- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ * مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ "ورِياء" بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة "وَرِيَاً" بياء فقط مخففةٍ. ولها وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير. والثاني: أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد "وَرِيْئا" بالقلب، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل، فصار "وَرِيا" كما ترى. وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً، وليس اللاحنُ غيرَه، لخَفَاءِ توجيهِها عليه.
وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ "وزِيَّا" بزايٍ وياءٍ مشددة، والزَّيُّ: البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه، أي: يَجْمعه، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه.
* { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }
(10/160)
---(1/4016)
قوله: {مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ}: "مَنْ" يجوز ان تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط. وقولُه: "فَلْيَمْدُدْ" فيه وجهان، أحدُهما: أنه طَلَبٌ على بابه، ومعناه الدُّعاءُ. والثاني: لفظُه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مَدَّ له الرحمنُ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذاناً بوجوبِ ذلك. أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه".
قوله: "حتى إذا" في "حتى" هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها: حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين. فقال الزمخشري: "وفي هذه الآيةِ وجهان: أن تكونَ موصولةً، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها، والآيتان اعتراضٌ بينهما، أي: قالوا: أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً وأَحْسَنُ نَدِيَّاً، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون، أي: لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون [به] لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ" وذكر كلاماً حسناً.
ثم قال: "والثاني: أن تتصلَ بما يليها، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم" وذكر كلاماً طويلاً. ثم قال: "إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ / اللهِ للمؤمنين، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها. فإنْ قلت: "حتى" هذه ما هي؟ قلت: هي التي تُحْكى بعدها الجملُ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها، وهي {إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ}.
قال الشيخ: - مُسْتبعداً للوجه الأول- "وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قولِه: "قالوا أيُّ الفريقينِ" وبين الغايةِ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي". وهذا الاستبعادُ قريبٌ. وقال أبو البقاء: "حتى" يُحْكَى ما بعدها ههنا، وليست متعلقةً بفعلٍ".
(10/161)
---(1/4017)