(7/113)
---
وقال الجرجاني صاحب "النظم": "نَسَق الأمرَ على الجر، وجاز ذلك لأنَّ قوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي} قول؛ لأنَّ الأمر لا يكون إلا كلاماً والكلام قول، وكأنه قال: قل يقول ربي: أقسطوا وأقيموا" يعني أنه عطف على المعنى.
و {مَسْجِدٍ} هنا يحتمل أن يكون مكاناً وزماناً. قال الزمخشري: "في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود" وكان مِنْ حَقِّ مسجدِ مَسْجَد بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخواتُ كثيرةٌ مذكورةٌ في التصريف.
وقوله: {مُخْلِصِينَ} حال من فاعل "ادعُوه"، و "الدّين" مفعول به باسم الفاعل. و "له" متعلِّقٌ بمخلصين، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من "الدين".(1/2724)
قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ} الكافُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف تقديره: تَعُودون عَوْداً مثلَ ما بدأكم. وقيل: تقديره يَخْرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليقُ بلفظِ الآيةِ الكريمة. وقال ابن الأنباري: "موضعُ الكاف في "كما" نصبٌ بتعودون؛ وهو على مذهبِ العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم". قال الفارسي "كما بدأكم تعودون" ليس على ظاهره إذ ظاهرُه: تعودون كالبَدْء، وليس المعنى تشبيهَهم بالبَدَاء، إنما المعنى على إعادةِ الخَلْق كما ابتُدِئ، فتقديرُ كما بدأكم تعودون: كما بدأ خَلْقَكم أي: يُحْيي خَلْقَكم عَوْداً كبدئه، وكما أنه لم يَعْنِ بالبَدْء ظاهرَه من غير حذفِ المضافِ إليه كذلك لم يَعْنِ بالعَوْد من غير حذف المضافِ الذي هو الخَلْق فلمَّا حَذَفَه قام المضافُ إليه مَقَامَ الفاعِل فصار الفاعلون مخاطَبِين، كما أنه لَمَّا حَذَفض المضافَ من قوله "كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ" قلت: يعني أن الأصل كما بدأ خَلْقُكُمْ يعود خَلْقُكم فحذف الخَلْقَ في الموضعين، فصار المخاطبون في الأول مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة، وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة أيضاً.
(7/114)
---(1/2725)
و "بدأ" بالهمز أنشأ واخترع، ويُسْتعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على أَفْعل، فالثلاثيُّ كهذه الآيةِ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} فهذا مِنْ أبدأ، ثم قال: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} هذافيما يتعدَّى بنفسه. وأمَّا ما يتعدى بالباء نحو: بدأت بكذا بمعنى قَدَّمْته وجَعَلْته أولَ الأشياء يُقال منه: بدأت به وابتدأت به. وحكى الراغب أيضاً أنه يقال مِنْ هذا: أَبْدَأْت به على أَفْعَل وهو غريب، وقولهم "أَبْدَأْتُ من أرض كذا" أي ابتدأت منها بالخروج. والبَدْءُ: السيِّدُ، سُمِّيَ بذلك قيل: لأنه يُبْدأ به في العدِّ إذا عُدَّ السادات، وذكروا عليه قوله:
2183- فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولمَّا * فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
أي: جئت قبور قومي سَيِّداً ولمَّا أكن سيداً، لكنْ بموتهم صُيِّرْتُ سيِّداً / وهذا يَنْظُرُ لقول الآخر:
2184- خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ * ومن العَناء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ
و "ما" مصدرية أي: كبَدْئكم.
* { فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }
(7/115)
---(1/2726)
قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ}: في نصب "فريقاً" وجهان أحدُهما: أنه منصوب بهدى بعده، وفريقاً الثاني منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره قولُه {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} من حيث المعنى، والتقدير: وأضلَّ فريقاً حَقَّ عليهم، وقَدَّره الزمخشري: "وخَذَل فريقاً" لغرضٍ له في ذلك. والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل "بدأكم" أي: بَدَأكم حالض كونه هادياً فريقاً ومُضِلاً آخر، و "قد" مضمرةٌ عند بعضهم. ويجوز على هذا الوجهِ أيضاً أن تكون الجملتان الفعليتان مستأنفتَيْن، فالوقفُ على "يعودون" على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن، فالوقفُ على "يعودون" على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن، فالوقفُ على قوله "الضلالة".
الوجه الثاني: أن ينتصبَ "فريقاً" على الحال من فاعل "تَعُودون" أي: تعودون: فريقاً مَهْدِيَّاً وفريقاً حاقَّاً عليه الضلالة، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقاً وفريقاً، ولا بد حينئذ من حَذْفِ عائد على الموصوف من هَدَى أي: فريقاً هداهم، ولو قَدَّرْته "هداه" بلفظ الإِفراد لجاز، اعتبار بلفظ "فريق"، إلا أن الأحسنَ الأول لمناسبة قوله: {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ}، والوقف حينئذ على قوله "الضلالة"، ويؤيد إعرابَه حالاً قراءةُ أُبَيّ بن كعب: "تعودون فريقَيْن: فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة" ففريقَيْن نصب على الحال، وفريقاً وفريقاً بدل أو منصوب بإضمار أعني على القطع، ويجوز أن ينتصبَ فريقاً الأول على الحال من فاعل تعودون، وفريقاً الثاني نصب بإضمار فعلٍ يفسِّره "حقَّ عليهم الضلالة، كما تقدم تحقيقه في كل منهما.
(7/116)
---(1/2727)
وهذه الأوجهُ كلُّها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاماً حسناً، قال رحمه الله: "انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضمير الذي في تعودون، يريد: تعودون كما ابتدأ خَلْقُكم مختلفين، بعضكم أشقياء وبعضكم سُعَداء، فاتصل "فريق" وهو نكرةٌ بالضمير الذي في "تعودون" وهو معرفة فقُطِع عن لفظه، وعُطِف الثاني عليه". قال: "ويجوز أن يكونَ الأول منصوباً على الحال من الضمير، والثاني منصوب بحقَّ عليهم الضلالة، لأنه بمعنى أضلَّهم كما يقول القائل: "عبدالله أكرمته وزيداً أحسنت إليه" فينتصب زيداً بأحسنت إليه بمعنى نَفَعْته، وأنشد:
2185- أثعلبةَ الفوارسِ أم رِياحا * عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
نصب ثعلبة بـ "عَدَلْتَ بهم طهية" لأنه بمعنى أَهَنْتَهم أي: عَدَلْت بهم مَنْ هو دونَهم، وأنشد أيضاً قوله:
2186- يا ليت ضيفَكمُ الزبيرَ وجارَكم * إيايَ لبَّس حبلَه بحبالي
فنصب "إياي" بقوله: "لَبَّس حبله بحبالي، إذ كان معناه خالطني وقصدني" قلت: يريد بذلك أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه، هذا وجهُ التنظير. وإلى كون "فريقاً" منصوباً بـ "هدى" و "فريقاً" منصوباً بـ "حَقَّ" ذهب الفراء، وجَعَلَه نظيرَ قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
}. وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا} جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك كقراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب "أنهم" بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ، وعليه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ
}.
(7/117)
---(1/2728)
* { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيا أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ}: استفهامٌ معناه التوبيخُ والإِنكار، وإذا كان للإِنكارِ فلا جوابَ له إذ لا يُراد به استعلامٌ، ولذلك نُسِب مكي إلى الوهم في زعمه أن قوله: قل هي للذين آمنوا إلى آخره جوابه.
وقوله {مِنَ الرِّزْقِ} حالٌ من "الطيبات". قوله "خالصة" قرأها نافع رفعاً، والباقون نصباً. فالرفع من وجهين أحدهما: أن تكون مرفوعةً على خبر المبتدأ وهو "هي"، و "للذين آمنوا" متعلِّقٌ بـ "خالصة"، وكذلك يوم القيامة، وقال مكي: "ويكون قوله للذين تبييناً". قلت: فعلى هذا تتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً له. و "في الحياة الدنيا" متعلِّقٌ بآمنوا، والمعنى: قل الطيبات / خالصة للمؤمنين في الدنيا يوم القيامة أي: تَخْلُص يومَ القيامة لِمَنْ آمن في الدنيا، وإن كانت مشتركاً فيها بينهم وبين الكفار في الدنيا، وهو معنى حسن. وقيل: المراد بخلوصها لهم يوم القيامة أنهم لا يُعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نحا سعيد بن جبير.
(7/118)
---(1/2729)
الثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأول قوله "للذين آمنوا"، و "في الحياة الدنيا" على هذا متعلِّقٌ بما تعلق به الجارُّ من الاستقرار المقدر، ويوم القيامة معمولٌ لخالصة كما مَرَّ في الوجه قبله، والتقدير: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامة، وإن كانوا في الدنيا يُشاركهم الكفار فيها. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجه لم يُعَلِّقْ "في الحياة" إلا بالاستقرار، ولو عَلَّق بآمنوا كما تقدَّم في الوجهِ قبله لكان حسناً وكون "خالصة" خبراً ثانياً هو مذهبُ الزجاج، واستحسنه الفارسي ثم قال: "ويجوز عندي"، فذكر الوجه الأول كما قررته ولكن بأخصر عبارة.
والنصبُ من وجهٍ واحد وهو الحال، و "للذين آمنوا" خبر "هي" فيتعلق بالاستقرار المقدر، وسيأتي أنه يتعلَّق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.
و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على ما تقدَّم مِنْ تعلُّقِه بآمنوا أو بالاستقرار المتعلِّق به "للذين". و "يوم القيامة" متعلِّقٌ أيضاً بخالصة، والتقدير: قل الطيباتُ كائنةٌ أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حالَ كونهم مقدَّراً خلوصُها لهم يوم القيامة. وسَمَّى الفراء نصبَها على القطع فقال: "خالصةً نصبٌ على القطع"، وجعلَ خبر "هي" في اللام التي في قوله "للذين". قلت: يعني بالقطع الحال.
(7/119)
---(1/2730)
وجوَّز أبو علي أن يتعلق {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بمحذوف على أنه حال، والعامل فيها ما يعمل في "للذين آمنوا". وجَوَّزَ الفارسي وتبعه مكي أن يتعلق "في الحياة" بحرَّم، والتقدير: مَنْ حرَّم زينةَ الله في الحياة الدنيا؟ وجوَّز أيضاً أن يتعلق بالطيبات، وجوَّز الفارسيُّ وحدَه أن يتعلق بالرزق. ومنع مكي ذلك قال: "لأنك قد فَرَّقْتَ بينهما بقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} يعني أن الرزق مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش.
وجوَّز الأخفش أن يتعلق "في الحياة" بأخرج أي: أخرجها في الحياة الدنيا. وهذا قد ردَّه عليه الناسُ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقولُه {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} يعني أن الرزقَ مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش.
وجوَّز الأخفش أن يتعلق "في الحياة" بأخرج أي: أخرجها في الحياة الدنيا. وهذا قد ردَّه عليه الناسُ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقولُه {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ}، وذلك أنه لا يُعْطَفُ على الموصول إلا بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته، لأنَّ "التي أَخْرَجَ" صفة لزينة، و "الطيبات" عطف على "زينة". وقوله: "قل هي للذين" جملة أخرى قد فَصَلَت على هذا التقدير بشيئين.
(7/120)
---(1/2731)
قال الفارسي - كالمجيب عن الأخفش -: "ويجوز ذلك وإن فُصِل بين الصلة والموصول بقوله: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} لأنَّ ذلك كلامٌ يَشدُّ الصلة وليس بأجنبي منها حَدَّاً كما جاء ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، فقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} معطوفٌ على "كَسَبُوا" داخلٌ في الصلة". قلت: هذا وإن أفاد في ما ذكر فلا يفيد في الاعتراضِ الأولِ، وهو العطفُ على موصوفِ الموصول قبل تمام صلته إذ هو أجنبيٌّ منه، وأيضاً فلا نُسَلِّم أن هذه الآية نظيرُ آيةِ يونس فإن الظاهرَ في آية يونس أنه ليس فيها فصلٌ بين أبعاضِ الصلة. قوله: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} معترض، و "ترهقهم" عطف على "كَسَبوا" قلنا ممنوع، بل {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} هو خبر الموصول فيُعْترض بعدم الرابط بين المبتدأ والخبر، فيُجاب بأنه محذوفٌ، وهو مِنْ أحسنِ الحذوفِ لأنه مجرور بـ مِنْ التبعيضية، وقد نصَّ النحاة على أن ما كان كذلك كَثُر حَذْفُه وحَسُنَ، والتقدير: والذين كسَبُوا السيئاتِ جزاءُ سيئة منهم بمثلها، فجزاءُ سيئةٍ مبتدأ و "منهم" صفتُها، و "بمثلها" خبره، والجملةُ خبرُ الموصولِ وهو نظيرُ قولِهم: "السَّمْن مَنَوان بدرهم" أي: منوان منه، ويسأتي لهذه / الآية مزيد بيان.
(7/121)
---(1/2732)
ومنع مكي أن يتعلق {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بزينة قال: "لأنها قد نُعِتت والمصدر واسم الفاعل متى نُعِتا لا يعملان لبُعْدهما عن شبه الفعل" قال: "ولأنه يُفَرَّق بين الصلة والموصول؛ لأنَّ نعت الموصةل ليس من صلته". قلت: لأن "زينة" مصدر فهي في قوة حرفٍ موصولٍ وصلته، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبع الموصولُ إلا بعد تمام صلته. فقد تحصَّل في تعلُّق "للذين آمنوا" ثلاثة أوجه: إمَّا أَنْ يتعلَّق بخالصة، أو بمحذوفٍ على أنها خبرٌ، أو بمحذوفٍ على أنها للبيان. وفي تعلُّق {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سبعةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّق بآمنوا. الثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنها حال. الثالث: أن يتعلَّق بما تعلَّق به للذين آمنوا. الرابع: أن يتعلق بحرَّم. الخامس: أن يتعلق بأخرج. السادس: أن يتعلق بقوله: "الطيبات". السابع أن يتعلَّق بالرزق. ويوم القيامة له متعلق واحد وهو خالصة، والمعنى: أنها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصةٌ للمؤمنين فقط أخرى.
(7/122)
---(1/2733)
فإن قيل: إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة؟ قلت: قد أجابوا عن ذلك من أوجه: أحدُها: أن في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة، قاله أبو القاسم الكرماني، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما. والثاني: أن "للذين آمنوا" ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة، قاله الزمخشري، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. الثالث: ما ذكره الزمخشري، وسبقه إليه التبريزي قال: "فإن قلت: هَلاَّ قِيل [هي] للذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}. وقال التبريزي: "ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة، والكفار تَبَعٌ لهم، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، وهذا الثالثُ في الحقيقة ليس جواباً ثالثاً إنما هو مبين لحُسْن حذف المعطوف وعدمِ ذِكْره مع المعطوف عليه.
* { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
(7/123)
---(1/2734)
قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}: تقدَّم في آخر السورة قبلها. وقوله: "والإِثم" الظاهرُ أنها الذنب. وقيل: هو الخمر هنا، قاله الفضل وأنشد:
2187- نهانا رسولُ الله أَنْ نقرَب الزِّنى * وأن نشرب الإِثمَ الذي يُوجب الوِزْرا
وأنشد الأصمعي:
2188- ورُحْتُ حزيناً ذاهلَ العقل بعدهمْ * كأني شربتُ الإِثمَ أو مَسَّني خَبَلُ
قال: وقد تُسَمَّى الخمرُ إثماً، وأنشد:
2189- شَرِبْتُ الإِثمَ حتى ضَلَّ عقلي * كذاك الإِثمُ يَذْهب بالعقولِ
ويُروى عن ابن عباس والحسن البصري أنهما قالا: "الإِثم: الخمر". قال الحسن: "وتصديق ذلك قولُه: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} والذي قاله الحذَّاقُ: إن الإِثم ليس من أسماء الخمر. قال ابن الأنباري: "الإثم لا يكون اسماً للخمر؛ لأن العرب لم تُسَمِّ الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك، لأن الخمر سبب الإِثم بل هي معظمه فإنها مؤجِّجةٌ للفتن، وكيف يكون ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السورة حلالاً؛ لأن هذه السورةَ مكية، وتحريمُ الخمر إنما كان في المدينة بعد أُحُدٍ، وقد شربها جماعةٌ من الصحابة يوم أحد فماتوا شهداء وهي في أجوفهم. وأمَّا ما أنشده الأصمعي من قوله "شَرِبت الإِثم" فقد نَصُّوا أنه مصنوعٌ، وأما غيره فالله أعلم".
و {بِغَيْرِ الْحَقِّ} حالٌ، وهي مؤكدة لأن البغي لا يكون إلا بغير حق و "أَنْ تُشْرِكوا" منصوبُ المحلِّ نسقاً على مفعول "حَرَّمَ" أي: وحَرَّم إشراكَكَم عليكم، ومفعولُ الإِشراك {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}: تهكُّمٌ بهم لأنه / لا يجوزُ أن يُنْزِلَ برهاناً أَنْ يُشْرَكَ به غيرُه".
* { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }
(7/124)
---(1/2735)
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}: خبر مقدم، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضُهم أن التقديرَ: ولكلِّ أحدٍ من أمةٍ أَجَلٌ أي عُمْرٌ، كأنه توهَّم أن كل أحد له عمرٌ مستقلٌّ، وأن هذا مراد الآية الكريمة، ومراد الآية أعمُّ من ذلك. وقوله {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} قال بعضهم: "كل موضع في القرآن من شِبْهِ هذا التركيب فإنَّ الفاءَ داخلةٌ على "إذا" إلا في يونس أما في يونس فيأتي حكمُها، وأمَّا سائر المواضع فقال: "لأنها عَطَفَتْ جملةً على أخرى بينهما اتصالٌ وتعقيب، فكان الموضعُ موضعَ الفاء". وقرأ الحسن وابن سيرين "آجالهم" جمعاً.
قوله: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ}: جوابُ "إذا"، والمضارعُ المنفيُّ بـ "لا" إذا وقع جواباً لـ "إذا" في الظاهر جاز أن يُتَلقَّى بالفاء وأ، لا يُتَلَقَّى بها. قال الشيخ: "وينبغي أن يُعْتَقَدَ أنَّ بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ فتصير الجملةُ اسميةً، ومتى كانت كذلك وَجَبَ أن تَتَلَقَّى بالفاء أو إذا الفجائية". و "ساعة" نصبٌ على الظرف وهي مَثَلٌ في قلة الزمان.
قوله: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} هذا مستأنفٌ، معناه الإِخبار بأنهم لا يَسْبقون أَجَلَهم المضروبَ لهم بل لا بد من استيفائهم إياه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلَّ زمان. وقال الحوفي وغيرُه: "إنه معطوفٌ على "لا يستأخرون" وهذا لا يجوزُ، لأن "إذا" إنما يترتَّب عليها وعلى ما بعدها الأمورُ المستقبلة لا الماضية، والاستقدامُ بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإِخبار بالضروريات التي لا يَجْهل أحدٌ معناها، فيصير نظير قولك: "إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى" ومعلوم أن قيامَك في المستقبل لم يتقدَّمْ قيامك هذا.
(7/125)
---(1/2736)
وقال الواحدي: "إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التقديم على الأجل وقتَ حضوره؟ وكيف يَحْسُن التقديمُ مع هذا الأجل؟ قيل: هذا على المقاربة لأنَّ العربَ تقول: "جاء الشيء" إذا قَرُب وقتُه، ومع مقاربة الأجل يُتَصور الاستقدامُ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى: لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضَتْ ولا يَسْتقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء". قلت: هذا بناءً منه على أنه معطوفٌ على "لا يستأخرون"وهو ظاهرُ أقوال المفسرين.
* { يَابَنِيا ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
وقوله تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ}: قد تقدَّم نظيره في البقرة. و "منكم" صفةٌ لرسل، وكذلك "يَقُصُّون" وقُدِّم الجارُّ على الجملة لأنه أقربُ إلى المفردِ منها. وقوله "فَمَنْ" يُحتمل أن تكون "مَنْ" شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً. فإن كان الأولَ كانت هي وجوابُها جواباً للشرطِ الأول، وهي مستقلةٌ بالجواب دون الجملة التي بعد جوابها، وهي "والذين كَذَّبوا"، وإن كان الثاني كانت هي وجوابُها والجملة المشار إليها كلاهما جواباً للشرط، كأنه قَسَّم جوابَ قوله: "إمَّا ياتينَّكم" إلى مُتَّقٍ ومُكَذِّب وجزاء كل منهما. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة.
وحَذَفَ مفعولَيْ "اتَّقى وأصلحَ" اختصاراً للعِلْم بهما أي: اتَّقى ربَّه وأصلح عمله، أو اقتصاراً أي: فَمَنْ كان من اهل التقوى والصلاح، من غير نظرٍ إلى مفعول كقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} ولكن لا بد من تقديرِ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين الجملةِ الشرطية، والتقدير: فَمَنْ اتَّقى منكم والذين كَذَّبوا منكم.
(7/126)
---(1/2737)
وقرأ أُبَيُّ والأعرجُ "تأتينَّكم" بتاء مثناة من فوق، نظراً إلى معنى جماعة الرسل، فيكونُ قوله تعالى: "يَقُصُّون" بالياء من تحت حَمْلاً على المعنى؛ إذ لو حُمل على اللفظ لقال: "تَقُصُّ" بالتأنيث أيضاً.
* { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوااْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }
وقوله تعالى: {مِّنَ الْكِتَابِ}: في محلِّ الحال من "نصيبهم" أي: حال كونه مستقراً من الكتاب و "مِنْ" لابتداء الغاية.
قوله: {حَتَّى إِذَا}: "حتى" هنا غايةٌ، و "إذا" وما في حَيِّزها تقدَّم لك الكلامُ عليها غيرَ مرة: هل هي جارَّةٌ أو حرفُ ابتداء؟ وتقدَّم عبارةُ الزمخشري فيها. واختلفوا فيها إذا كانت حرفَ ابتداء أيضاً: هل هي حينئذ جارٌَّ وتتعلَّق بما قبلها تعلُّقَ حروفِ الجر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والجملة بعدها في محل جر، أو ليست بجارَّةٍ بل هي حرفُ ابتداء فقط، غيرُ جارة وإن كان معناها الغاية كقوله:
3190- سَرَيْتُ بهم} حتى تَكِلَّ مطيُّهم * وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسانِ
وقول الآخر:
3191- فما زالت القتلى تَمُدُّ دماءَها * بدجلةَ حتى ماءُ دجلةَ أَشْكلُ
(7/127)
---(1/2738)
خلاف. الأولُ قولُ ابن درستويه، والثاني قول الجمهور. وقال صاحب "التحرير": "حتى هنا ليست للغاية بل هي ابتداء وخبره" وهذا وهمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها، وقوله: "بل هي ابتداءٌ وخبرٌ" تسامحٌ في العبارة، يريد: بل الجملةُ بعدها. ثم الجملة التي بعدها في هذا المكان ليست ابتداءً وخبراً بل هي جملةٌ فعلية / وهي: "قالوا"، و "إذا" معمولةٌ لها. وممن ذهب إلى أنها ليست هنا للغاية الواحديُّ فإنه حكى في معنى الآية أقوالاً ثم قال: "فعلى هذا القولِ معنى: "حتى" للانتهاء والغاية، وعلى القَوْلين الأوَّلين ليست "حتى" في هذه الآيةِ للغاية بل هي التي يقعُ بعدها الجملُ وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء كـ "أمَّا" و "إذا". ولا تَعَلُّق لقوله "حتى إذا" بما قبله بل هذا ابتداءُ خبرٍ، أخبر عنهم، كقوله:
2192- فيا عجبا حتى كليبٌ تَسُبُّني * كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشعُ
قلت: وهذا غير مَرْضيٍّ منه لمخالفته الجمهور. وقوله: "لا تعلُّق لها بما قبلها" ممنوعٌ على جميع الأقوال التي ذكرها، ولولا خوفُ الإِطالة لأورَدْت ما تَوَهَّمَ كونَه مانعاً مِمَّا ذكر، ولذكرْتُ الانفصال عنه، والظاهر أنها إنما تتعلَّقُ بقوله {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم}.
وقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال. وكُتِبت "أينما" متصلةً وحقُّها الانفصالُ، لأنَّ "ما" موصولةٌ لا صلةٌ، إذ التقدير: أين الذين تدعونهم؟ ولذلك كُتِبَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} منفصلاً و {إِنَّمَا اللَّهُ} متصلاً. وقولهم: "ضلُّوا" جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، وذلك أن السؤالَ إنما وقع عن مكان الذين كانوا يَدْعونهم من دون الله، فلو جاء الجوابُ على نسق السؤال لقيل: هم في المكان الفلاني، وإنما المعنى: ما فَعَل معبودُكم ومَنْ كنتم تدعونهم؟ فأجابوا بأنهم ضاعوا عنهم وغابوا.
(7/128)
---(1/2739)
قوله: {وَشَهِدُواْ} يُحتمل أن يكونَ نَسَقاً على "قالوا" الذي وقع جواباً لسؤال الرسل فيكون داخلاً في الجواب أيضاً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً مقتطعاً عَمَّا قبله ليس داخلاً في الجواب أيضاً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً مقتطعاً عَمَّا قبله ليس داخلاً في حيز الجواب. كذا قال الشيخ وفيه نظر؛ من حيث إنه جَعَل هذه الجملة جواباً لعطفها على قالوا، وقالوا في الحقيقة ليس هو الجواب، إنما الجواب هو مقول هذا القول وهو "ضلُّوا عنا" فـ "ضَلُّوا عنا" هو الجوابُ الحقيقي الذي يُسْتفاد منه الكلام. ونظيره أن يقول: سَأَلْتُ زيداً ما فعل؟ فقال: أطعمتُ وكسوتُ، فنفس أطعمتُ وكسوتُ هو الجوابُ. وإذا تقرَّر هذا فكان ينبغي أن يقول "فيكون" معطوفاً على "ضلوا عنا"، ثم لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى: وهو أنه كان يكون التركيبُ الكلامي: "ضلُّوا عنا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا"، إلا أَنْ يُقال: حكى الجواب الثاني على المعنى، فهو محتملٌ على بُعْدٍ بعيد.
* { قَالَ ادْخُلُواْ فِيا أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلااءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فِيا أُمَمٍ}: يجوز أن يتعلَّق قولُه "في أمم" وقوله: "في النار" كلاهما بادخلوا فيجيء الاعتراضُ المشهور: وهو كيف يتعلَّق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعاملٍ واحد؟ فيُجاب بأحد وجهين إمَّا أنَّ "في" الأولى ليست للظرفية بل للمعيَّة، كأنه قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدخول، وقد تأتي "في" بمعنى مع كقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيا أَصْحَابِ الْجَنَّةِ}. وقول الشاعر:
(7/129)
---(1/2740)
2193- شموسٌ وَدُوْدٌ في حياءٍ وعفةٍ * رخيمةُ رَجْع الصوتِ طيبةُ النَّشْر
وإمَّا بأن "في النار" بدلٌ من قوله "في أمم" وهو بدلُ اشتمال كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ} فإن "النارِ" بدلٌ من "الأخدود"، كذلك "في النار" بدلٌ من "أممٍ" بإعادة العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفيةُ في "في" الأولى مجازاً؛ لأن الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنما المعنى: ادخلوا في جملةِ أممٍ وغمارِهم. ويجوز أن تتعلق "في أمم" بمحذوفٍ على أنه حال أي: كائنين في جملة أمم. و "في النار" متعلق بخَلَتْ أي: تسبقكم في النار.
ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأمم فتكون "أمم" قد وُصِفَتْ بثلاثة أوصاف، الأول: الجملةُ الفعليةُ وهي قولُه "قد خَلَتْ"، والثاني: الجار والمجرور وهو قوله {مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ}، والثالث: قولُه "في النار"، والتقدير: في أمم خاليةٍ من قبلكم كائنةٍ من الجن والإِنس ومستقرةٍ في النار.
ويجوز أن تتعلَّق "في النار" بمحذوفٍ أيضاً لا على الوجه المذكور، بل على كونه حالاً مِنْ "أمم"، وجاز ذلك وإن كانَتْ نكرة لتخصُّصها بالوَصْفَيْن المشارِ إليهما. ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في "خَلَتْ" إذ هو ضميرُ الأمم. وقُدِّمَتْ / الجنُّ على الإِنس لأنهم الأصلُ في الإِغواء.
وقوله "حتى" هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنهم يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضُهم لبعض إلى النتهاء تداركهم فيها. والجمهور قرؤوا "إذا ادَّاركوا" بوصل الألف وتشديد الدال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُه فُعِل به ما فُعِل بادَّارَأْتم. وقد تقدَّم تحقيقُ تصريفه في البقرة.
(7/130)
---(1/2741)
قال مكي: "ولا يُسْتطاع اللفظُ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تَرُدُّ الزائد أصلياً فتقول: افَّاعلوا، فتصير تاء تفاعَل فاءَ الفعل لإِدغامها في فاء الفعل، وذلك لا يجوز فإنْ وَزَنْتَها على الأصل فقلت: تَفَاعلوا جاز". قلت: هذا الذي ذَكَر مِنْ كونه لا يمكن وزنُه إلا بالأصل وهو تفاعلوا ممنوع. قوله: "لأنك تَرُدُّ الزائدَ أصلياً" قلنا: لا يلزم ذلك لأنَّا نَزِنُه بلفظِه مع همزةِ الوصل ونأتي بتاء التفاعل بلفظها فنقول: وزنُ ادَّاركوا اتْفاعَلوا فيُلْفَظُ بالتاءِ اعتباراً بأصلها لا بما صارت إليه حالَ الإِدغام. وهذه المسألةُ نَصُّوا على نظيرها وهو أن تاءَ الافتعال إذا أُبْدلت إلى حرف مجانس لما قبلها... تُبْدَلُ طاءً أو دالاً في نحو: اصطبر واضطرب وازدجر وادَّكر، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلْفَظُ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه من طاء أو دال، فتقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل، فكذلك تقول هنا: وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرقَ بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك.
وقرأ ابن مسعود والأعمش، ورُوِيت عن أبي عمرو: تداركوا وهي أصلُ قراءة العامة. وقرأ أبو عمرو: "إذا ادَّاركوا" بقطع همزة الوصل. قال ابن جني: "هذا مُشْكِلٌ، ومثلُ ذلك لا يفعله ارتجالاً، وكأنه وَقَفَ وِقْفة مستنكرٍ ثم ابتدأ فقطع". قلت: وهذا الذي يُعْتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يَقْرأ بما لا يَثْبت إلا في ضرورة الشعر في الأسماء؟ كذا قال ابن جني، يعني أَنَّ قَطْع ألف الوصل في الضرورة إنما جاء في الأسماء.
(7/131)
---(1/2742)
وقرأ حميد "أُدْرِكوا" بضم همزة القطع، وسكون الدال وكسر الراء، مثل "أُخْرِجوا" جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكها، ونُقِل عن مجاهد بن جبر قراءتان: فَرَوى عنه مكي "ادَّارَكوا" بوصل الألف وفتح الدال مشددة وفتح الراء، وأصلُها "ادْتَرَكوا" على افتعلوا مبنياً للفاعل ثم أدغم كما أدغم ادَّان من الدَّيْن. وروى عنه غيره "أَدْرَكوا" بتفح الهمزة مقطوعةً وسكونِ الدال وفتح الراء أي أدرك بعضهم بعضاً. وقال أبو البقاء: "وقرئ: إذا ادَّاركوا" بألفٍ واحدة ساكنة بعدها دالٌ مشددة وهو جمعٌ بين ساكنين،وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال بعضهم "اثنا عْشر" بإثبات الألف وسكون العين"، قلت: يعني بالمتصل نحو: الضالِّين وجانّ، ومعنى المنفصل أن ألف "إذا" من كلمة، والساكن الثاني من كلمة أخرى. وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا. وتقدَّم تفسيرُ هذه المادة.
و {جَمِيعاً} حالٌ من فاعل "ادَّاركوا". وأُخْراهم وأُولاهم: يحتمل أن تكونَ فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري: "أُخْراهم منزلةً، وهم الأتباع والسَّفَلة، لأُولاهم منزلةً وهم السَّادة والرؤساء"، ويحتمل أن تكون "أخرى" بمعنى آخِرة تأنيث آخِر مقابل لأوَّل، لا تأنيث "آخَر" الذي للمفاضلة كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخِرة وبين أخرى تأنيث آخَر بزنة أفعل للتفضيل أنَّ التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحد تقول: مررت بامرأةٍ وأخرى وأخرى، كما تقول: برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء كما يدلُّ عليه مذكَّرها ولذلك لا يُعْطَفُ أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة "غير"، وهذه لا تفيد إفادةَ "غير". والظاهرُ في هذه الآيةِ الكريمة أنهما ليستا للتفضيل بل لِما ذكرت لك /.
(7/132)
---(1/2743)
وقوله: {لأُولاَهُمْ} اللامُ للتعليل أي لأجل، ولا يجوز أن تكون التي للتبليغ كهي في قولك: قلت لزيدٍ افعل. قال الزمخشري: "لأنَّ خطابَهم مع الله لا معهم" وقد بَسَط القولَ قبله في ذلك الزجاج فقال: "والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم" فَذَكَرَ نحوه. قلت: وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قوله "أُولاهم لأخراهم" يجوز أن تكون للتبليغ، لأنَّ خطابَهم معهم بدليل قوله: "فما كان لكم علينا مِنْ فضلٍ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون".
وقوله "ضِعْفاً" قال أبو عبيدة: "الضِّعْفُ: مثلُ الشيء مرةً واحدة" قال الأزهري: "وما قاله أبو عبيدة هو ما يَسْتعمله الناس في مجاز كلامهم، وقد قال الشافعي قريباً منه فقال في رجل أوصى: "أَعْطوه ضِعْف ما يُصيب ولدي" قال: "يُعطَى مثله مرتين". قال الأزهري: "الوصايا يُستعمل فيها العُرْف وما يتفاهمه الناس، وأما كتاب الله فهو عربي مبين، ويُرَدُّ تفسيرُه إلى لغة العرب وموضوعِ كلامِها الذي هو صنعةُ ألسنتها. والضِّعْف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يُقتصر به على مِثْلين بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه وثلاثةُ أمثاله، لأنذَ الضِّعْفَ في الأصل زيادةٌ غيرُ محصورة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلين، وأَوْلى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثالِه كقوله تعالى: "مَنْ جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها" فأقلُّ الضعف محصورٌ وهو المِثْل وأكثرُه غير محصور". ومثلُ هذه المقالةِ قال الزجاج أيضاً فإنه قال: "أي عذاباً مضاعفاً لأن الضِّعْفَ في كلام العرب على ضربين أحدهما: المثل، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء" أي زاد به إلى ما لا يَتناهَى. وقد تقدم طرفٌ من هذا في البقرة.
و "ضِعْفاً" صفة لـ "عذاباً". و "من النار" يجوز أن يكون صفة لـ "عذاباً" وأن يكون صفةً لـ "ضِعْفاً"، ويجوز أن يكونَ ضعفاً بدلاً من "عذاباً".(1/2744)
(7/133)
---
وقوله "لكلٍّ" أي: لكل فريق من الأخرى والأولى. وقوله: "ولكن لا تعلمون، قراءةُ العامة بتاء الخطاب: إمَّا خطاباً للسائلين، وإمَّا خطاباً لأهل الدنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضميرُ عائداً على الطائفة السائلة تضعيفَ العذاب أو على الطائفتين أي: لا يعلمون قَدْر ما أَعَدَّ لهم من العذاب.
* { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }
قوله تعالى: {فَمَا}: هذه الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ المنفية على قول الله تعالى للسَّفلة: "لكلْ ضعف" فقد ثَبَتَ أن لا فضلَ لكم علينا، وأنَّا متساوون في استحقاق الضعف فذوقوا. قال الشيخ - بعد أن حكى بعضَ كلامِ الزمخشري -: "والذي يظهر أن المعنى: انتفاء كون فضلٍ عليهم من السَّفَلة في الدنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتِهم لهم في الكفر أي: اتِّباعُكم إيانا وعدمُ اتِّباعكم سواءٌ، لأنكم كنتم في الدنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم علينا فضلٌ باتباعكم بل كفرتم اختياراً، لا أنَّا حَمَلْناكم على الكفر إجباراً، وأن قوله "فما كان" جملةٌ معطوفة على جملة محذوفة بعد القول دَلَّ عليها ما سَبَقَ من الكلام، والتقدير: قالت أولاهم لأخراهم: ما دعاؤكم الله أنَّا أَضْللناكم وسؤالكم ما سألتم، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم، وأنَّ قوله: "فذوقوا" من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفِّي، وأنَّ ذوق العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضللناكم. وقيل: فذوقوا من خطاب الله لهم".
و "بما" الباء سببية، و "ما" مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائد محذوف أي: تكسبونه.
(7/134)
---(1/2745)
* { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }
وقرأ أبو عمرو: {لا تُفْتَح}: بضم التاء من فوق والتخفيف. والأخوان بالياء من تحت والتخفيف، والباقون: بالتأنيث والتشديد. فالتأنيث والتذكير باعتبار الجمع والجماعة، والتخفيفُ والتضعيفُ باعتبار التكثير وعدمِه، والتضعيفُ هنا أوضح لكثرة المتعلق. وهو في هذه القراءاتِ مبنيٌّ للمفعول. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم "تَفَتَّح" بفتح التاء مِنْ فوق والتضعيف، والأصل: / لا تتفتَّح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم في "تذكَّرون" ونحوه، فـ "أبواب" على قراءة أبي حَيْوة فاعلٌ، وعلى ما تقدم مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه. وقرئ: "لا تَفْتَحُ" بالتاء ونصب "الأبواب" على أن الفعل للآيات، وبالياء على أن الفعل لله، ذكره الزمخشري.
وقوله {فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} متعلقٌ بـ "يَلِجُ". وسَمُّ الخياط ثقب الإِبرة وهو الخُرْتُ، وسينُه مثلثةٌ، وكل ثقبٍ ضيقٍ فهو سَمّ. وقيل: كل ثقب في البدن، وقيل: كل ثقب في أنفٍ أو أذن فهو سَمٌّ، وجمعه سُموم، قال الفرزدق:
2194- فَنَفَّسْتُ عن سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسَا * وقلت له لا تخش شيئاً ورائيا
(7/135)
---(1/2746)
والسُّمُّ: القاتل سُمِّي بذلك لِلُطْفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أريد به معنى الفاعل لدخولِه باطنَ البدن، وقد سَمَّه إذا أدخله فيه، ومنه "السَّامَّة" للخاصَّة الذين يدخلون في بواطن الأمور ومَسَامِّها، ولذلك يقال لهم الدُّخْلُلُ. والسَّموم: الريح الحارة لأنها تؤثر تأثيرَ السُّمِّ القاتل. والخِياط والمِخْيَط الآلة التي يُخاط بها فِعال ومِفَْل كإزار ومِئْزَر ولِحاف ومِلْحَف وقِناع ومِقْنع. ولا يقال للبعير جَمَل إلا إذا بَزَل. وقيل: لا يُقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، وأول ما يخرج ولد الناقة ولم تُعرف ذكوريتُه أو أنوثتُه يقال له: سَلِيْل، فإن كان ذكراً فهو سَقْبٌ، والأنثى حائل، ثم هو حُوار إلى الفِطام وبعده فصيل إلى سنة، وفي الثانية ابنُ مَخاض وبنت مخاض، وفي الثالثة ابن لَبون وبنت لَبون، وفي الرابعة حِقٌّ وحِقَّة، وفي الخامسة جَذَع وجَذَعة، وفي السادسة ثَنِيٌّ وثَنِيَّة، وفي السابعة رَباع ورَباعِية مخففة، وفي الثامنة سَديس لهما، وقيل: سَديسة للأنثى، وفي التاسعة بازل وبازلة، وفي العاشرة مُخْلِفٌ ومُخْلِفة، وليس بعد البُزُول والإشخلاف سِنٌّ بل يقال: بازل عام أو عامين ومُخْلِفُ عام أو عامَيْن حتى يَهْرَم فيقال له فَوْد.
والوُلوج: الدخول بشدة ولذلك يقال: هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول. والوَليجة: كلُّ ما يعتمده الإِنسان، والوليجة: الداخلُ في قومٍ ليس منهم.
والجَمَل قراءة العامة وهو تشبيه في غاية الحسن، وذلك أن الجملَ أعظمُ حيوانٍ عند العرب وأكبره جثةً حتى قال:
2195- ................ * جسمُ الجِمالِ وأحلام العصافير
[وقوله]:
2196- لقد كَبُر البعيرُ بغير لُبٍّ * .......................
(7/136)
---(1/2747)
وسُمُّ الإِبرة في غاية الضيق، فلما كان المَثَلُ يُضْرَب بعِظَم هذا وكبره، وبضيق ذاك حتى قيل: أضيقُ من خُرْتِ الإِبرة، ومنه الخِرِّيْتث وهو البصير بمضايق الطرق قيل: لا يَدْخلون الجنة حتى يتقحَّمَ أعظمُ الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها، فكأنه قيل: لا يَدْخلون حتى يُوجدَ هذا المستحيلُ، ومثلُه في المعنى قولُ الآخر:
2197- إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي * وصارَ القارُ كاللينِ الحليب
وقرأ ابن عباس في رواية ابن حَوْشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وابن محيصن وأبو رجاء وأبو رزين وأبان عن عاصم: "الجُمَّل" بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ. والقَلْسُ: حبلٌ غليظ يُجمع من حبال كثيرة فَيُفْتَل وهو حبلُ السفينة وقيل: الحبل الذي يُصْعَد به [إلى] النخل، ويروى عن ابن عباس أنه قال: "إن الله أحينُ تشبيهاً من أن يُشَبِّه بالجمل" كأنه رأى إن صحَّ عنه أن المناسب لسُمّ الإِبرة شيء يناسب الخيط المسلوك فيها. وقال الكسائي: "الراوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فشدّد الميم". وضَعَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءةً. قلت: وكذلك هي قراءة مشهورة بين الناس. وروى مجاهد عن ابن عباس ضمَّ الجيم وفتح الميم خفيفةً، وهي قراءة ابن جبير وقتادة وسالم الأفطس.
(7/137)
---(1/2748)
وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية عطاء: الجُمُل بضم الجيم والميم مخففة، وبها قرأ الضحَّاك والجحدري. وقرأ عكرمة وابن جبير بضم الجيم وسكون الميم. والمتوكل وأبو الجوزاء بالفتح والسكون، وكلها لغات في القَلْس المذكور. وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية، فقال: زوج الناقة، كأنه فهم ما اراد السائل فاستغباه. وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وطلحة: "سُمّ" بضم السين. وأبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع: سِمّ بالكسر. وقد تقدَّم أنها لغات. وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز: المِخْيَط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء. وطلحة بفتح الميم. وهذه مخالفة للسواد.
قوله: {وَكَذالِكَ} أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين، فالكافُ نعتٌ لمصدر محذوف.
* { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
وقوله تعالى: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ}: والجملةُ محتملة للحالية والاستئناف، ويجوز حينئذ / في "مهاد" أن تكون فاعلاً بـ "لهم" فتكون الحال من قبيل المفردات، وأن تكون مبتدأ فتكون من قبيل الجمل. و "من جهنم" حال من "مِهاد" لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً، أو متعلِّقٌ بما تعلَّق الجارُّ قبله.
وغَواشٍ: جمع غاشية. وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصاً بقياسٍ خلافٌ: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرفٌ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع فصار وزنُه وزن جَناح وقَذَال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوينُ تنوينُعوض. واختُلِفَ في المُعَوَّض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوضٌ من الياء المحذوفة. وذهب المبرد إلى أنه عوضٌ من حركتها. والكسرُ ليس كسرَ إعراب، وهكذا جَوارٍ ومَوالٍ. وبعضهم يجرُّه بالفتحة قال:
2198- ولو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه * ولكنَّ عبدَ اللِ مَوْلَى مَواليا
وقال آخر:
(7/138)
---(1/2749)
2199- قد عَجِبَتْ مني ومن يُعَيْلِيا * لَمَّا رَأَتْني خَلَقاً مُقْلَوْلِيا
وهذا الحكمُ ليس خاصاً بصيغة مَفاعل، بل كل غير منصرف إذا كان منقوصاً فحكمه حكم ما تقدم نحو: يُعَيْلٍ تصغير يَعْلى، ويَرْمٍ اسم رجل، وعليه قولُه: "ومن يُعَيْلِيا"، وبعضُ العرب يُعْرب "غواشٍ" ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة فيقول: هؤلاء جوارٌ، وقرئ {وَمن فوقهم غواشٌ} برفع الشين وهي كقراءة عبد الله {وله الجوارُ} برفع الراء. وقد حرَّرْتُ هذه المسألةَ وما فيها من المذاهبِ واللغات في موضوعٍ غير هذا.
قوله: {وَكَذالِكَ} تقدَّم مثله. وقوله {الظَّالِمِينَ} يحتمل أن يكون من باب وقوع الظاهرِ موقع المضمر. والمراد بالظالمين المجرمون، ويحتمل أن يكونوا غيرَهم وأنهم يُجْزَون كجزائهم.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: مبتدأ وفي خبره وجهان، أحدهما: أنها الجملةُ من قولِه {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} وعلى هذا فلا بد من عائدٍ وهو مقدر، وتقديره: نفساً منهم. والثاني: هو الجملة من قوله {أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ}، وتكون هذه الجملة المنفيَّةُ معترضةً بينهما، وهذا الوجه أعرب.
* { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوااْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
(7/139)
---(1/2750)
وقوله تعالى: {مِّنْ غِلٍّ}: يجوز أن تكون "مِنْ" لبيان جنس "ما"، ويجوز أن تكون حالاً فتتعلَّق بمحذوف أي: كائناً مِنْ غِل. وقوله: "تجري من تحتهم الأنهار" في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها حال من الضمير في "صدورهم" قاله ابو البقاء. وجَعَل العامل في هذه الحال معنى الإِضافة. والثاني: أنها حال، والعامل فيها "نزعنا"، قاله الحوفي. والثالث: أنها استئناف إخبار عن صفة أحوالهمز
وردَّ الشيخ الوجهين الأوَّلين: أمَّا الثاني فلأنَّ {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} ليس مِنْ صفة فاعل "نَزَعْنا" ولا مفعوله وهما "نا" و "ما" فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهو واضح. وأمَّا الأولُ فلأنَّ معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا أمْكن تجريدُ المضاف وإعمالُه فيما بعده رفعاً أو نصباً. قلت: قد تقدم غيرَ مرة أن الحالَ تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمَدْرَكٍ آخر لا لِما ذكره أبو البقاء من أنَّ العامل هو معنى الإِضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف وإن كانت الحالُ ليست منه؛ لأنهما لما كانا متضايفَيْنِ وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك.
والغِلُّ: الحِقْد والإِحْنَةُ والبغض، وكذلك الغُلول. وجمع الغِلّ غلال. والغُلول: الأَخْذُ في خُفْية، وأحسنُ ما قيل أن ذلك من لفظ الغِلالة كأنه تَدَرَّع ولبس الحقد والخيانة حتى صار إليه كالغِلالة الملبوسة.
قوله: {لَوْلاا أَنْ هَدَانَا} أَنْ وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ على ما قََّرْته غير مرة، وجواب "لولا" مدلول عليه بقوله: "وما كنا" تقديره: لولا هدايةٌ لنا موجودة لشَقِيْنا أو ما كنا مهتدين. و "لقد جاءت" جواب قسم مقدر. و "بالحق" يجوز أن تكون الباءُ للتعدية، فبالحق مفعولٌ معنى، ويجوز أن تكون للحال أي: جاؤوا ملتبسين بالحق.
(7/140)
---(1/2751)
قوله: {أَن تِلْكُمُ} يجوز أن تكون المفسِّرة، فَسَّرَت النداء - وهو الظاهر - بما بعدها. ويجوز أن تكون المخففةَ، واسمُها ضمير الأمر محذوفاً، وأن وما بعدها في محل نصب أو جر؛ لأنَّ الأصلَ: بأن تلكم، وأشير إليها بإشارة البعيد لأنهم وُعِدوها في الدنيا. وعبارة بعضهم "هي إشارة لغائبة" [فيها] مسامحة لأنَّ الإِشارة لا تكون إلا لحاضر، ولكن العلماء تُطْلق على البعيد غائباً مجازاً.
و "أُورِثتموها" يجوز أن تكون هذه الجملةُ حاليةً كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}، ويجوز أن تكونَ خبراً عن "تلكم" ويجوز أن تكون "الجنة" بدلاً أو عطف بيان، و "أُورثتموها الخبر. ومنع أبو البقاء أن تكون حالاً من "تلكم" لفصل بالخبر، ولأن المبتدأ لا يعمل في الحال. وأدغم أبو عمرو والأخوان الثاء في التاء، وأظهرها الباقون.
و {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدم غيره مرة. والجماعة على "وما كنا" بواو وكذلك هي في مصاحف الأمصار غيرَ الشام. وفيها وجهان، أظهرهما: أنها واو الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة. والثاني: أنها حالية. وقرأ ابن عامر: "وما كنا" بدون واو، والجملة على ما تقدَّم من احتمالي الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشاميين كذا / فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.
* { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }
(7/141)
---(1/2752)
قوله تعالى: {أَن قَدْ وَجَدْنَا}: "أَنْ" يحتمل أن تكون تفسيرية للنداء، وأن تكونَ مخففةً من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن، والجملة بعدها خبرها، وإذا كان الفعلُ متصرفاً غيرَ دعاء فالأجود الفصلُ بـ "قد" كهذه الآية او بغيرها. وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة . وقال الزمخشري: "فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: "ما وَعَدنا ربنا". قلت: حُذِف ذلك تخفيفاً لدلالة "وَعَدْنا" عليه. ولقائل أن يقول: أُطْلِق ليتناول كلَّ ما وَعَدَ الله من البعث والحساب والعقاب والثواب وسائرِ أحوالِ القيامة، لأنهم كانوا مكذِّبين بذلك أجمعَ، ولأن الموعودَ كلَّه ممَّا ساءهم، وما نعيم أهلِ الجنة إلا عذابٌ لهم فأطلق لذلك" قلت: قوله: "ولقائلٍ غلى آخره" هذا الجوابُ لا يطابق سؤالَه لأن المُدَّعى حَذْفُ المفعول الأول وهو ضمير المخاطبين، والجواب وقع بالمفعول الثاني الذي هو الحسابُ والعقاب وسائر الأحوال، فهذا إنما يناسب لو سُئل عن حَذْفِ المفعول الثاني لا المفعول الأول.
و {نَعَمْ} حرفُ جوابٍ كأجل وإي وجَيْر وبلى. ونقيضتها لا، و"نعم" تكون لتصديق الإِخبار أو إعلام استخبار أو وَعْدِ طالب، وقد يُجاب بها النفيُ المقرونُ باستفهام وهو قليل جداً كقوله:
2200- أليس الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ * وإيَّانا فذاك بنا تَدَاني
نعم وترى الهلالَ كما أراه * ويَعْلوها النهارُ كما عَلاني
فأجاب قوله "أليس" بـ نعم، وكان من حقه أن يقول: بلى، ولذلك يُروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}: لو قالوا: نعم لكفروا، وفيه بحثٌ يأتي إن شاء الله تعالى قريباً.
(7/142)
---(1/2753)
وتُكْسَرُ عينُها، وبها قرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وهي لغةُ كنانة. وطعن أبو حاتم عليها وقال: "ليس الكسر بمعروف". واحتجَّ الكسائي لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنه سأل قوماً فقالوا: نَعَم - يعني بالفتح - فقال: "أمَّ النَّعَم فالإِبل فقولوا: نَعِم" أي بالكسر. قال أبو عبيد: "ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً". قلت: هذا طعنٌ في المتواتر فلا يُقبل. وتبدل عينها حاءً، وهي لغةٌ فاشيةٌ كما تبدل حاء "حتى" عيناً.
وقوله: {بَيْنَهُمْ} يجوز أن يكونَ منصوباً بـ "أذَّن" أو بـ "مؤذِّن"، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "مؤذِّن". قال مكي عند إجازته هذا الوجه: "ولكن لا يعمل في "أَنْ" "مُؤَذِّن" إذ قد نَعَته" يعني أنَّ قوله "أَنْ لعنةُ" لا يجوز أن يكونَ معمولاً [لـ "مؤذن لأنه موصوف، واسم الفاعل متى وُصِف لم يعمل. قلت: هذا يُوهِمُ أنَّا إذا لم نجعل "بينهم" نعتاً لـ "مؤذِّن" جاز أن يعمل في "أن"] وليس الأمر كذلك، [لأنك لو قلت]: "ضرب ضاربٌ زيداً" تنصب زيداً بـ ضرب لا بضارب. لكني قد رأيت الواحدي [أجاز ما] أجاز مكي [من كون] "مؤذِّن" عاملاً في طأَنْ"ن وإذا وَصَفْتَه امتنع ذلك، وفيه ما تقدَّم وهو حسن.
و "أَنْ" يجوز أن تكون المفسِّرة، وأن تكونَ المخففةَ، والجملة الاسميةُ بعدها الخبر، ولا حاجةَ هنا لفاصل. وقرأ الأخوان وابن عامر والبزِّي: "أنَّ" بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب اللعنة على أنها اسمها، و "على الظالمين" خبرها، وكذلك في النور "أن لعنةُ الله عليه" خَفَّف "أَنْ" ورفع اللعنة نافع وحده، والباقون بالتشديد والنصب. وقرأ عصمة عن الأعمش: إنَّ بالكسر والتشديد وذلك: إمَّا على إضمار القول عن البصريين، وإمَّا على إجراء النداء مُجْرى القول عند الكوفيين.
* { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ }
(7/143)
---(1/2754)
وقوله تعالى: {الَّذِينَ}: يجوز أن يكون مرفوعَ المحل ومنصوبَه على القطع فيهما، ومجرورَه على النعت أو البدل أو عطف البيان. ومفعول "يَصُدُّون" محذوفٌ أي: يصدُّون الناس. ويجوز ألاَّ يُقَدَّر له مفعول، والمعنى: الذين من شأنهم الصدُّ كقولهم: "هو يعطي ويمنع". ويجوز أن يكون "يَصُدُّون" بمعنى يُعْرضون، مِنْ صَدَّ صُدوداً فيكون لازماً.
* { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }
قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا}: أي: بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذا هو الظاهر لقوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ}. وقيل: بين الجنة و النار، وبه بدأ الزمخشري. وقوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ} قال الزمخشري: "أي: وعلى أعراف الحجاب" كأنه جعل أل عوضاً من الإِضافة وهو مذهب كوفي، وقد تقدم تحقيقه. وجعل بعضُهم نفس الأعراف هي نفس الحجاب المتقدِّمِ ذكرُه، عبَّر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف. قال الواحدي:- ولم يذكر غيره- "ولذلك عُرِّفَت الأعراف لأنه عَنَى بها الحجاب".
والأعراف جمع عُرْف بضم العين، وهو كل مُرْتَفَع من أرض وغيرها استعارةً مِنْ عُرْف الديك وعُرْف الفَرَس، كأنه عُرِف بارتفاعه دونَ الأشياءِ المنخفضة فإنها مجهولة غالباً، قال أمية بن أبي الصلت:
2201- وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا * في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ
2202- كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ * كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ
وقال آخر - وهو الشماخ -:
2203- فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها * رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ
(7/144)
---(1/2755)
وقوله: {يَعْرِفُونَ} في محل رفع نعتاً لرجال. و "كُلاَّ" أي: كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار. وقوله {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} كقوله {أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} إلا أنه لم يُقْرأ هنا إلا بأنْ الخفيفة فقط.
قوله: {وَنَادَوْاْ}هذا الضميرُ وما بعده لرجال. وقوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا} في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها حال من فاعل "نادوا" أي: نادى أهل الأعراف حالَ كونهم غير داخلين الجنة. وقوله "وهم يطمعون" يحتمل أن يكون حالاً مِنْ فاعل "يَدْخلُوها طامعين في دخولها بل/ دخلوها على بأس مِنْ دخولها. والثاني: أن المعنى: لم يدخلوها حال كونهم طامعين أي: لم يدخلوا بعد، وهم في وقت عدم الدخول طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنَفَاً أخبر عنهم بأنهم طامعون في الدخول.
الوجه الثاني: أن يكون حالاً من مفعول "نادوا" أي: نادَوهم حالَ كونهم غيرَ داخلين. وقوله: "وهم يَطْمَعون" على ما تقدم آنفاً. والوجه الثالث أن تكون في محلِّ رفعٍ صفةً لرجال قاله الزمخشري. وفيه ضعفٌ من حيث إنه فَصَل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: "ونادَوا" وليست جملةَ اعتراض. والوجه الرابع: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جوابُ سائلٍ سأل عن أصحاب الأعراف فقال: ما صُنِعَ بهم؟ فقيل: لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها.
(7/145)
---(1/2756)
وقال مكي كلاماً عجيباً وهو أن قال: "إنْ حَمَلْتَ المعنى على أنهم دخلوها كان "وهم يطمعون" ابتداء وخبراً في موضع الحال من المضمر المرفوع في "يدخلوها"، معناه: أنهم يئسوا من الدخول فلم يكن لهم طمعٌ في الدخول، لكن دخلوا وهم على بأس من ذلك، فإنْ حَمَلْتَ معناه أنهم لم يدخلوا بعدُ ولكنهم يطمعون في الدخولِ برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً". وقال بعضُهم: "جملةُ قوله "لم يدخلوها" من كلام أصحاب الجنة، وجملةُ قوله وهم يطمعون" من كلام الملائكة" قال عطاء عن ابن عباس: "إن أصحابَ الأعراف ينادُون أصحابَ الجنة بالسلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب الجنة للخزنة: ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فيقول لهم الملائكة جواباً لهم وهم يطمعون"، وهذا يَبْعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن.
والطمع هنا يحتمل أن يكونَ على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين. قالوا: لقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم على نبيِّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام: {وَالَّذِيا أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ} وقال:
2204- وإني لأطمعُ أنَّ الإِله * قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني
* { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {تِلْقَآءَ}: منصوبٌ على ظرف المكان قال مكي: "وجمعُه تلاقِيّ". قلت: لأن تِلْقاء وزنه تِفْعال كتمثال، وتمثال وبابه يُجمع على تفاعيل، فالتقت الياءُ الزائدة مع الياء التي هي لام الكلمة فأدغمت فصارت تلاقِيَّ. والتلقاء في الأصل مصدر ثم جُعِل دالاً على المكان أي: على جهة اللقاء والمقابلة قالوا: ولم يجئ من المصادر على تِفْعال بكسر التاء إلا لفظتان: التِلقاء والتِبْيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوحٌ نحو التَّرْداد والتَّكرار، ومن الأسماء مكسورٌ نحو تِمثال وتِمْساح وتِقْصار.
(7/146)
---(1/2757)
وفي قوله: {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} فائدةٌ جليلة وهو أنهم لم يَلْتفتوا إلى جهة النار إلا مجبورين على ذلك لا باختيارهم لأنَّ مكان الشر محذور. وقد تقدَّم خلافُ القراء في نحو "تلقاء أصحاب" بالنسبة إلى إسقاط إحدى الهمزتين أو إثباتها أو تسهيلها في أوائل البقرة. وقرأ الأعمش: "وإذا قُلِبَتْ" وهي مخالفةٌ للسواد، كقراءة {لم يدخلوها وهم ساخطون} أو {وهم طامِعُون} على أنَّ هذه أقرب. و "قالوا" هو جوابُ "إذا" والعامل فيها.
* { وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }
قوله تعالى: {مَآ أَغْنَى}: يجوز أن تكونَ استفهاميةً للتوبيخ والتقريع وهو الظاهر، ويجوز أن تكونَ نافية. وقوله: "وما كنتم": "ما" مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي: ما أغنى عنكم جمعُكم وكونُكم مستكبرين. وقرئ "تستكثرون" بتاء مثلثة من الكثرة.
* { أَهَاؤُلااءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }
قوله تعالى: {أَهَاؤُلااءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ}: يجوز في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محل نصب بالقول المتقدم أي: قالوا: ما أغنى وقالوا: أهؤلاء الذين. والثاني: أن تكون جملةً مستقلةً غيرَ داخلةٍ في حيز القول، والمشارُ إليهم على القول الأول هم أهل الجنة، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف، والمقولُ لهم هم أهل النار. والمعنى: وقال أهلُ الأعراف لأهل النار: أهؤلاء الذين في الجنة اليوم هم الذين كنتم تَحْلفون إنهم لا يدخلون الجنة، برحمة الله وفضله ادخلوا الجنة أي: قالوا لهم أوقيل لهم: ادخلوا الجنة.
(7/147)
---(1/2758)
وأمَّا على القول الثاني وهو الاستئناف: فاختُلف في المشار إليه. فقيل: هم أهل الأعراف، والقائلُ ذلك مَلَكٌ يأمره الله بهذا القول، والمقول له هم أهلُ النار. وقيل: المشار إليه هم أهل الجنة، والقائلُ هم الملائكة، والمقولُ له هم أهل النار. وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم / القائلون ذلك أيضاً، والمقول لهم الكفارُ، وقوله "ادخلوا الجنة" من قولةِ أهل الأعراف أيضاً أي: يرجعون فيخاطب بعضُهم بعضاً فيقولون: ادخلوا الجنة. وقال ابن الأنباري: "إن قوله: أهؤلاء الذين أَقْسَمْتم لا ينالهم الله برحمة" من كلام أصحاب الأعراف. وقوله "ادخلوا" من كلام الله تعالى، وذلك على إضمار قول أي: فقال لهم الله: ادخلوه، ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} فهذا من كلام الملأ، فماذا تأمرون؟ فهذا من كلام فرعون أي: فقال: فماذا تأمرون؟.
وقرأ الحسن وابن سيرين: "أَدْخِلوا الجنة" أمراً من أَدْخَل وفيها تأويلان، أحدهما: أن المأمور بالإِدخال الملائكة أي: أَدْخلوا يا ملائكةُ هؤلاء. ثم خاطب البشر بعد خطاب الملائكة فقال: لا خوف عليكم، وتكون الجملة من قوله: "لا خوف" لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها. والثاني: أن المأمور بذلك هم أهل الأعراف والتقدير: أدخلوا أنفسَكم، فحذف المفعولَ في الوجهين. ومثلُ هذه القراءة هنا قولُه تعالى: {أَدْخِلُوا آل فرعون} وستأتي إن شاء الله، إلا أن المفعولَ هناك مصرَّحٌ به في إحدى القراءتين.
والجملة من قوله "لا خوف" على هذا في محلِّ نصبٍ على الحال أي: أَدْخِلوا أنفسكم غير خائفين. وقرأ عكرمة "دَخَلوا" ماضياً مبنياً للفاعل. وطلحة وابن وثاب والنخعي "أُدْخِلوا" مِنْ أُدْخِل ماضياً مبنياً للمفعول على الإِخبار، وعلى هاتين فالجملة المنفية في محل نصبٍ بقول مقدر، ذلك القولُ منصوبٌ على الحال أي: مقولاً لهم لا خوف.
(7/148)
---(1/2759)
* { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {أَنْ أَفِيضُواْ}: كأحوالِها من احتمال التفسير والمصدرية، و "من الماء" متعلق بأفيضوا على أحدِ وجهيه: إمَّا على حذف مفعول أي: شيئاً من الماء فهي تبعيضيةٌ، طلبوا منهم البعضَ اليسير، وإمَّا على تضمين "أفيضوا" معنى ما يتعدَّى بـ مِنْ أي: أنعموا منه بالفيض. وقوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ} "أو" هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين: إمَّا تخييراً أو إباحةً أو غيرَ ذلك ممَّا يليق بها، وعلى هذا يقال كيف قيل: حَرَّ مهما فأعيد الضمير مثنَّى، وكان من حق مَنْ يقول إنها لأحد الشيئين أن يعودَ مفرداً على ما تقرر غير مرة؟ وقد أجابوا بأن المعنى: حَرَّم كلاً منهما. وقيل إن "أو" بمعنى الواو فعود الضمير واضحٌ عليه.
و "ممّا": "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية، وهو الظاهر، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وفيه مجازان: أحدهما: أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك. والثاني: أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ} في أحد وجهيه. وقال الزمخشري: "أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة. ويجوز أن يُراد: أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله:
2205- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * ...............
(7/149)
---(1/2760)
قال الشيخ: "وقوله "و ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة" يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون قوله: "أفيضوا" ضُمِّن معنى "ألقوا" علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيصحَّ العطف، ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكونَ أضمر فعلاً بعد "أو" يَصِل إلى ما رزقكم الله وهو "ألقوا"، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطِف على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصحيح منهما التضمين لا الإِضمار". قلت: يعني الزمخشري أن الإِفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه في المائعات، فقوله "أو مِنْ غيره من الأشربة" تصحيح ليسلِّط الإِفاضةَ عليه؛ لأنه لو حُمِل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإِفاضة إليهما إلا بتجوُّز، فذكر وجه التجوز بقوله "ألقوا"، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلَف لا يُسْنَدُ إلى الماء. فقوله إمَّا بالتضمين أي فَغَذَّيتُها، ومثلُه:
2206- ............... * وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
وقوله:
2207- يا ليت زوجَك قد غدا * متقلِّدا سيفاً ورُمْحا
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} وقد مضى من هذا جملةٌ صالحة. وزعم بعضهم أن قوله {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} عامٌّ يندرج فيه الماء المتقدم، وهو بعيدٌ أو متعذَّرٌ للعطف بأو.
والتحريم هنا المَنْعُ كقوله:
2208- حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى * ................
* { الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }
(7/150)
---(1/2761)
قوله تعالى: {الَّذِينَ}: يجوز أن يكون في محل جَرٍّ وهو الظاهر نعتاً أو بدلاً من "الكافرين": ويجوز أن يكونَ رفعاً أو نصباً على القطع. وقوله: "وغَرَّتْهم" عطفٌ على الصلة. وقوله: "فاليومَ" منصوب بما بعده. / وقوله: "كما" نعتٌ لمصدر محذوف أي: ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءَ اي بتركهم. و "ما" مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الكافُ للتعليل أي: تركناهم لأجل نسيانهم لقاءَ يومهم. و "يومهم" يجوز أن يكونَ متسعاً فيه فأُضيف المصدرُ إليه، كما يُضاف إلى المفعول به. ويجوز أن يكون المفعولُ محذوفاً، والإِضافةُ غلى ظرف الحدث أي: لقاء العذاب في يومهم. وقوله: "وما كانوا" "ما" مصدريةٌ نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي: وكما يجحدون بآياتنا، والتعليل فيه واضح.
* { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
والضمير في: {جِئْنَاهُمْ}: عائدٌ على مَنْ تقدَّم من الكفرة، والمراد بـ "كتاب" الجنس. وقيل: يعودُ على مَنْ عاصر النبي عليه الصلاة والسلام. والمراد بالكتاب القرآن. والباء في "بكتاب" للتعدية فقط. وقوله: "فَصَّلناه" صفةٌ لـ "كتاب"، والمرادُ بتفصيله إيضاحُ الحقِّ من الباطل، أو تنزيله في فصولٍ مختلفةٍ كقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}. وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي: فضَّلْناه على غيرِه من الكتب السماوية. وقوله: "على عِلْم" حال: إمَّا من الفاعل أي: فَضَّلْناه عالمين بتفصيله، وإمَّا من المفعول أي: فصَّلْناه مشتملاً على علم. ونَكَّر "علم" تعظيماً.
(7/151)
---(1/2762)
وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} الجمهورُ على النصب، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول من أجله أي: فصَّلناه لأجل الهداية والرحمة. والثاني: أنه حال: إمَّا من كتاب، وجاز ذلك لتخصصه بالوصف، وإمَّا من مفعول "فصَّلناه". وقرأ زيد بن علي "هدىً ورحمةٍ" بالجر، وخرَّجه الكسائي والفراء على النعت لـ "كتاب"، وفيه المذاهب المشهورة في نحو "[مررت] برجل عدل"، وخرَّجه غيرهما على البدل منه. وقرأته فرقة "هدىً ورحمةٌ" بالرفع على إضمار المبتدأ. وقال مكي: "وأجاز الفراء والكسائي "هدى ورحمة" بالخفض، يجعلانه بدلاً من "علم"، ويجوز هدى ورحمة على تقدير: هو هدى ورحمة" وكأنه لم يَطَّلع على أنهما قراءتان مَرْوِيَّتان حتى نسبهما على طريق الجواز. و "لقومٍ" صفة لرحمة وما عُطِفت عليه.
* { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوااْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
وقوله تعالى: {تَأْوِيلَهُ}: قد تقدَّم ذلك في آل عمران. وقال الزمخشري ههنا: "والتأويل مادتُه من همزة وواو ولام مِنْ آل يؤول" وقال الخطابي: "أَوَّلْتُ الشيءَ رَدَدْتُه إلى أوله، واللفظةُ مأخوذةٌ من الأول". قال الشيخ: وهو خطأٌ لاختلاف المادتين". و "يومَ" منصوب بـ "يقول"، وقد جاءَتْ منصوبةً بالقول، و "بالحق" يجوز أن تكونَ الباءُ للحال، وأن تكونَ للتعدية أي: جاؤوا ملتبسين بالحق أو أجاؤوا الحق.
(7/152)
---(1/2763)
قوله: {مِن شُفَعَآءَ} "مِنْ" مزيدة في المبتدأ و "لنا" خبرٌ مقدم. ويجوز أن يكونَ "من شفعاء" فاعلاً و "مِنْ" مزيدة أيضاً، وهذا جائزٌ عند كل أحد لاعتماد الجارِّ على الاستفهام. وقوله: "فيشفعوا" منصوب بإضمار "أَنْ" في جواب الاستفهام، فيكون قد عَطَفْتَ اسماً مؤولاً على اسمٍ صريح أي: فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا.
قوله: {أَوْ نُرَدُّ} الجمهور عَلَى رفع "نُرَدُّ" ونصب "فنعملَ"، فَرَفْعُ "نردُّ" على أنه عَطَفَ جملةً فعلية وهي "نُرَدُّ" على جملة اسمية وهي: هل لنا من شفعاء فيشفعوا، ونصبُ "فنعملَ" على ما انتصب عليه "فيشفعوا"ز وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدم، كذا روى عنه ابن عطية وغيره. وروى عنه الزمخشري نصب "نُرَدّ" ورفع "فنعمل". وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بنصبهما. فنصبُ "نُرَدَّ" عطفاً على "فيشفعوا" جواباً على جواب، ويكون الشفعاء في أحد شيئين: إمَّا في خلاصهم من العذاب، وإمَّا في رجوعهم للدنيا ليعملوا صالحاً، والشفاعةُ حينئذ منسحبةٌ على الخلاص أو الردّ، وانتصب "فنعملَ" نسقاً على "فنردَّ" ويجوز أن يكون "أو نُرَدَّ" من باب "لألزمنَّكَ أو تقضيَني حقي" إذا قدَّرناه بمعنى: حتى تقضيَني أو كي تقضيَني، غَيَّا اللزومَ بقضاء الحق أو عَلَّله به فكذلك الآية الكريمة أي: حتى نُرَدَّ أو كي نُرَدَّ، والشفاعةُ حينئذ متعلقةٌ بالردِّ ليس إلا، وأمَّا عند من يقدِّر "أو" بمعنى "إلا" في المثال المتقدم وهو سيبويه فلا يظهر معنى الآية عليه، إذ يَصير التقدير: هل يشفع لنا شفعاءُ إلا أن نُرَدَّ. وهذا استثناءٌ غير ظاهر.
وقوله: "ما كانوا" فاعل "ضَلَّ"، و "ما" موصولةٌ عائدها محذوف.
(7/153)
---(1/2764)
* { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}: الجمهور على رفع الجلالة خبراً لـ "إنَّ"، ويَضْعُف أن تُجْعل بدلاً من اسم "إنَّ" على الموضع عند مَنْ يرى ذلك، والموصولُ خبرٌ لـ "إنَّ" وكذا لو جَعَلَه عطفَ بيان، ويتقوَّى هذا بنصب الجلالة في قراءة بكار فإنها فيها بدلٌ أو بيانٌ لاسم "إنَّ" على اللفظ، ويضعف أن تكونَ خبرَها عند مَنْ يرى نَصْبَ الجزأين فيها كقوله:
2209- إذا اسْوَدَّ جنحُ الليلِ فلتأتِ ولتكنْ * خُطاك خِفافاً إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا
وقوله:
2210- إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا * تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
قيل: ويؤيد ذلك قراءةُ الرفع أي في جَعْلها إياه خبراً، فالموصولُ نعتٌ لله أو بيان له أو بدل منه، أو يُجْعل خبراً لـ إنَّ على ما تقدم من التخاريج، ويجوز أن يكون معطوفاً على المدح رفعاً أو نصباً.
وقوله: {فِي سِتَّةِ} أصل ستة: سِدْس فقُلِبَتْ السينُ تاءً فلاقَتْها الدال وهي مقاربةٌ لها ساكنة فوجب الإِدغام، وهذا الإِبدالُ لازمٌ، ويدلُّ على أن هذا هو الأًصل رجوعُه في التصغير إلى سُدَيْسَةٍ وفي الجمع [أَسْداس، وقولهم: جاء فلان سادساً وساتَّاً وسادِياً بالياء مثناة] مِنْ أسفل قال الشاعر:
2211- ............... * وتَعْتَدُّني إن لم يَقِ اللهُ ساديا
أي سادساً فأبدلها ياء.
(7/154)
---(1/2765)
و {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الظاهر أنه ظرفٌ لـ {خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} فاسْتُشْكِل على ذلك: أن اليوم إنما هو بطلوع الشمس وغروبها وذلك إنما هو بعد وجودِ السموات والأرض. وأدابوا عنه بأجوبة منها: أن الستةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقط، فعلى هذا يكون قوله {خَلَقَ السَمَاوَاتِ} مطلقاً لم يُقَيَّدْ بمدة، ويكون قولُه "والأرض" مفعولاً بفعل مقدر أي وخلق الأرض، وهذا الفعلُ مقيدٌ بمدة ستة أيام، وهذا قولٌ ضعيف جداً. وقوله "ثم استوى" الظاهرُ عَوْدُ الضمير على الله تعالى بالتأويل المذكور في البقرة. وقيل: الضمير يعود على الخَلْق المفهوم مِنْ خَلَق أي: ثم استوى خَلْقُه على العرش ومثله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: يحتمل أن يعود الضمير في "استوى" على الرحمن، وأن يعود على الخَلْق، ويكون "الرحمن" خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن.
والعرش: يُطْلق بإزاءِ معانٍ كثيرة فمنه سرير المَلِك، وعليه {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}. ومنه السلطان والعزُّ، وعليه قول زهير:
2212- تدارَكْتُما عبساً وقد ثُلَّ عرشُها * وذبيانَ إذ زلَّتْ بأقدامها النَّعْلُ
2213- إنْ يَقْتُلوك فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ * بربيعةَ بن الحارث بن شهاب
ومنه خشب تُطوى به البئرُ بعد أن يُطوى بالحجارة أسفلُها. ومنه ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع. ومنه السقف وكلُّ ما علاك فهو عرش، وكأن المادة دائرة مع العلو والرفعة، ويقال لأربعة كواكب صغار أسفلَ من العَوَّاء.
(7/155)
---(1/2766)
قوله: {يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد "يُغْشي" مخففاً مِنْ أغشى على أفْعَل، والباقون على التشديد مِنْ غشَّى على فَعَّل، فالهمزةُ والتضعيفُ كلاهما للتعدية أكسبا الفعلَ مفعولاً ثانياً، لأنه في الأصل متعدٍ لواحدٍ فصار الفاعل مفعولاً. وقرأ حميد بن قيس "يَغْشى" بفتح الياءِ والشين، "الليلُ" رفعاً، "النهار" نصباً هذه رواية الداني عنه. وروى ابن جني عنه نصب "الليل" ورفع "النهار". قال ابن عطية: "ونَقْلُ ابن جني أَثْبَتُ" وفيه نظرٌ من حيث إن الداني أعنى من أبي الفتح بهذه الصناعة وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد روايةَ الداني أيضاً أنها موافقةٌ لقراءة العامة من حيث المعنى، وذلك أنه جعل الليل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنهار مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة: الليل فاعل معنى، والنهار مفعول لفظاً ومعنى، وذلك أن المفعولَيْن في هذا الباب متى صَلُح أن يكونَ كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى لئلا يُلْبِسَ نحو: "أعطيت زيداً عمراً" فإن لم يُلْبس نحو: "أعطيت زيداً درهماً، وكَسَوْتُ عمراً جبةً" جاز، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصريحين نحو: ضرب موسى عيسى، وضرب زيد عمراً، وهذه الآيةُ الكريمةُ من باب "أعطيت زيداً عمراً" لأن كلاً من الليل والنهار يَصْلُح أن يكون غاشياً مغشِّياً فوجَبَ جَعْلُ "الليل" في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي و "النهار" هو المفعول من غير عكس، وقراءة الداني موافقةٌ لهذه لأنها المصرَِّةُ بفاعلية الليل، وقراءة ابن جني مخالفةٌ لها، وموافقةُ الجماعة أولى. قلت: وقد روى الزمخشري قراءةَ حميد كما رواها أبو الفتح فإنه قال: "يُغَشِّي" بالتشديد: أي يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل، يحتملهما جميعاً، والدليل على الثاني قراءةُ حميد بن قيس "يَغْشى" بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار" انتهى.(1/2767)
(7/156)
---
وفيما / قاله أبو القاسم نظر لِما ذَكَرْتُ لك من أن الآية الكريمة مما يجب فيها تقديمُ الفاعل المعنوي، وكأن أبا القاسم تبع أبا الفتح في ذلك فلم يلتفتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سهواً.
قوله "يَطْلبه" حال من الليل لأنه هو المحدَّث عنه أي: يغشى النهار طالباً له، ويجوز أن يكونَ من النهار اي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كلٍّ منهما. و "حثيثا" يُحتمل أن يكون نعتَ مصدرٍ محذوف اي: طَلَباً حثيثا، وأن يكون حالاً من فاعل "يطلبه" أي حاثَّاً، أو من مفعوله أي: محثوثاً. والحَثُّ: الإِعجال والسرعة والحَمْل على فعلِ شيءٍ كالحَضِّ عليه، فالحثُّ والحضُّ أخَوان. يقال: حَثَثْتُ فلاناً فاحتثُّ فهو حثيث ومحثوث. قال:
2214- تَدَلَّى حثيثاً كأنَّ الصُّوا * رَ يَتْبَعُهُ أُزْرَقِيٌّ لَحِمْ
فهذا يُحتمل أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوف، وأن يكونَ حالاً أي: تولَّى تَوَلِّيَاً حثيثاً أو تولَّى في هذه الحال.
قوله: {وَالشَّمْسَ} قرأ ابن عامر هنا وفي النحل برفع "الشمس" وما عُطف عليها ورفع "مُسَخَّرات"، وافقه حفص عن عاصم في النحل خاصة على رفع {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ}، والباقون بالنصب في الموضعين. وقرأ أبان ابن تغلب هنا برفع "النجوم" وما بعدها فقط، كحفص في النحل.
فأما قراءةُ ابن عامر فعلى الابتداء والخبر، جعلها جملةً مستقلة بالإِخبار بأنها مسخرات لنا من الله تعالى لمنافعنا. وأما قراءة الجماعة فالنصبُ في هذه السورة على عطفها على "السموات" أي: وخلق الشمس، وتكون "مسخرات" على هذا حالاً من هذه المفاعلي. ويجوز أن تكون هذه منصوبة بـ "جَعَل" مقدراً، فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أول، ومسخرات مفعولاً ثانياً.
(7/157)
---(1/2768)
وأما قراءةُ حفص في النحل فإنه إنما رفع هناك لأن الناصبَ هناك "سخَّر" وهو قولُه تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، فلو نصب النجوم ومسخرات لصار اللفظ: سَخَّرها مسخرات، فيلزم التأكيد فلذلك قطعهما على الأول ورفعهما جملةً مستقلة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة وهو مستفيضٌ في كلامهم، أو على إضمار فعل قبل "والنجوم" أي: وجعل النجوم مسخرات، أو يكون "مسخرات" جمع مُسَمَّر المراد به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنه قيل: وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم تسخيرات أي أنواعاً من التسخير.
وقوله: {بِأَمْرِهِ} متعلق بمسخرات أي بتيسيره وإرادته لها في ذلك. ويجوز أن تكون الباءُ للحال أي: مصاحبةً لأمره غيرَ خارجةٍ عنه في تسخيرها. وقوله: {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} يجوز أن يكون مصدراً على بابه، وأن يكونَ واقعاً موقع المفعول به.
* { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
وقوله تعالى: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}: نصب على الحال أي: متضرِّعين مُخْفين الدعاءَ ليكونً أقربَ إلى الإِجابة. ويجوز أن ينتصبا على المصدر أي دعاءَ تضرُّع وخفية. وقرأ أبو بكر "خِفية" بكسر الخاء وقد تقدم ذلك في الأنعام، إلا أن كلامَ أبي علي يُرْشِد إلى أن "خِفْيَة" بالكسر بمعنى الخَوْف، وهذا إنما يتأتَّى على ادِّعاء القلب اي يُعتقد تقدُّمُ اللامِ على العين وهو بعيدٌ، ولأنه كان ينبغي أن تعودَ الواوُ إلى أصلها، وذلك أن خِيْفة" ياؤها عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها، لما أُخِّرَت الواو تحرَّكت وسُكِّن ما قبلها، إلا أن يُقال: إنها قُلبت متروكةً على حالها. وقرأ الأعمش "وخِيْفة" وهي تؤيد ما ذكره الفارسي، نَقَل هذه القراءة عنه أبو حاتم. وقرأ ابن أبي عبلة "إن الله" أتى بالجلالة مكان الضمير.
(7/158)
---(1/2769)
* { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً}: حالان أي ادْعُوه ذوي خوف وطمع، أو خائفين طامعين، أو مفعولان من أجلهما أي: لأجل الخوف والطمع.
قوله: {قَرِيبٌ} إنما لم يؤنِّثها وإن كانت خبراً عن مؤنث لوجوه منها: أنها في معنى الغفران فحُمِلت عليه، قاله النضر بن شميل واختاره أبو إسحاق. ومنها: أناه صفةٌ لموصوفٍ مذكر حذف وبقيت صفتُه، والتقدير: إن رحمة الله شيء قريب. ومنها: أنها في معنى العفو أو المطر أو الرحم. ومنها: أنها بمعنى النسب أي ذات قرب كحائض أي ذات حيض. ومنها: تشبيهُ فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث كجريح، كما حُمِل هذا عليه حيث قالوا: أسير وأُسَراء، وقبيل وقُبَلاء، حَمْلاً على رحيم ورُحَماء وعليم وعُلَماء وحكيم وحُكَماء. ومنها: أنه مصدرٌ جاء على فعيل كالنَّقِيق وهو صوت الضفدع والضَّغيب وهو صوت الأرنب، وإذا كان مصدراً / لزم الإِفرادُ والتذكير. ومنها: أنها بمعنى مفعول أي مُقَرَّبة قاله الكرماني وليس بجيد؛ لأن فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس، و على تقدير اقتياسه فإنما يكون من الثلاثي المجرد لا من المزيد فيه، ومُقَرَّبة من المزيد فيه. ومنها: أنه من باب المؤنث المجازي فلذلك جاز التذكيرُ كطلع الشمس. قال بعضهم: "وهو غيرُ جيد لأن ذلك حيث كان الفعل متقدماً نحو: طلع الشمس، أما إذا تأخر وَجَبَ التأنيثُ إلا في ضرورة شعر كقوله:
2215- .............. * ولا أرضَ ابقلَ إبقالها
(7/159)
---(1/2770)
قلت: وهذا يجيء على مذهب ابن كيسان فإنه لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشعر بل يُجيزه في السَّعة. وقال الفراء: "قريبة وبعيدة: إمَّا أن يُراد بها النسبُ وعدمُه فتؤنثها العرب ليس إلا، فيقولون: فلانةٌ قريبةٌ مني أي في النسب، وبعيدةٌ مني أي في النسب، أمَّا إذا أريد القربُ في المكان فإنه يجوز الوجهان؛ لأن قريباً وبعيداً قائمٌ مقام المكان فتقول: فلانةٌ قريبةٌ وقريب، وبعيدة وبعيد. التقدير: هي في مكانٍ قريبٍ وبعيد. وأنشد:
2216- عشيَّةَ لا عفراءُ منك قربيةٌ * فِتَدْنو ولا عفراءُ منك بعيدُ
فجمع بين اللغتين. إلا أنَّ الزجاج ردَّ على الفراء قوله وقال: "هذا خطأ لأنَّ سبيلَ المذكر والمؤنث أن يجريا على أَفْعالهما" قلت: "وقد كَثُر في شعر العرب مجيءُ هذه اللفظةِ مذكرةً وهي صفة لمؤنث قال امرؤ القيس:
2217- له الويلُ إن أمسى ولا أمُّ سالمٍ * قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يشكرا
وفي القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} وقال أبو عبيدة: "قريب في الآية ليس وصفاً لها، إنما هو ظرفٌ لها وموضع، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع، فإن أريد بها الصفةُ وَجَبَت المطابقةُ، ومثلُها لفظةُ "بعيد" أيضاً". إلا أنَّ عليَّ بن سليمان الأخفش خطَّأه قال: "لأنه لو كانت ظرفاً لانتصَبَ كقولك: "إن زيداً قريباً منك". وهذا ليس بخطأ لأنه يجوز أن يُتَّسعَ في الظرف فيعطى حكمَ الأسماء الصريحة فتقول: زيدٌ أمامُك وعمروٌ خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النحاة على أنَّ نحو "إن قريباً منك زيد" أن "قريباً" اسم إنَّ، و "زيدٌ" خبرها، وذلك على الاتِّساع. و "من المحسنين" متعلقٌ بـ "قريب".
(7/160)
---(1/2771)
* { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {بُشْراً}: قد تقدَّم خلافُ القراء في إفراد "الريح" وجمعها بالنسبة إلى سائر السور في البقرة. وأمَّا "بُشْراً" فقرأه في هذه السورة - وحيث ورد في غيرها من السور - نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّل فيها ستة أوجه، أحدها: أنَّ "نُشُراً" جمع ناشر كبازِل وبُزُل وشارِف وشُرُف وهو جمع شاذ في فاعل ثم "نشر" هذا اختُلِفَ في معناه فقيل: هو على النسب: إمَّا إلى النَّشْر ضد الطيّ، وإمَّا إلى النشور بمعنى الإِحياء كقوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} والمعنى: ذا نشر أو ذا نشور كـ "لابن" و "تامر". وقيل: هو فاعِل مِنْ نَشَر مطاوع أنْشر يقال: أنشر الله الميت فنشر فهو ناشر وأنشد:
2218- حتى يقولَ الناسُ ممَّا رَأَوا * يا عجباً للميتِ الناشِرِ
وقيل: ناشر بمعنى مُنْشِر أي: المُحْيي تقول: نشر الله الموتى وأنشرها، ففَعَل وأَفْعَل على هذا بمعنى واحد، وهذه الثالثة ضعيفة.
الوجه الثاني: أن "نُشُراً" جمع نَشُور. هذا فيه احتمالان، أحدهما: - وهو الأرجح - أنه بمعنى فاعِل، وفَعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور وصُبُر وشكور وشُكُر. والثاني: أنه بمعنى مفعول كرَكوب وحَلوب بمعنى مَرْكوب ومحلوب قالوا: لأنَّ الريح تُوْصَفُ بالموتِ وتوصفُ بالإِحياء، فمن الأولِ قولُه:
2219- إني لأرجو أن تموتَ الريح * فأقعدُ اليومَ وأستريحُ
(7/161)
---(1/2772)
ومن الثاني قولهم: "أنشرَ اللهُ الريحَ وأحياها" وفَعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُل. وبهذا قال جماعة كثيرة، إلا أن ذلك غيرُ مقيس في المفرد / وفي الجمع، أعني أنه لا ينقاس فَعول بمعنى مفعول لا تقول: زيد ضَروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول، ولا ينقاس أيضاً جمعُ فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل.
وبيان ستة الأوجه في هذه القراءةِ: أنها جمع لناشِر بمعنى ذا نشر ضد الطيّ. الثاني: جمع ناشِر بمعنى ذي نشور. الثالث: جمع ناشر مطاوع أنشر. الرابع: جمعُ ناشِر بمعنى مُنْشِر. الخامس: جمع نُشور بمعنى فاعل. السادس: جمع نُشور بمعنى مَفْعول.
وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عباس وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق. وقد كُفِينا مؤونةَ تخريج هذه القراءة بما ذُكِر في القراءة قبلَها فإنَّها مخففةٌ منها كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب، فَسَلَبُوا الضمةَ تخفيفاً، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد الذي هو أخفُّ من الجمع كقولهم في عُنُق: عُنْق، وفي طُنُب، طُنْب فما بالُهم في الجمع الذي أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخَوان: "نَشْراً" بفتح النون وسكون الشين. ووجهُها: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال بمعنى ناشرة أو منشورة أو ذات نشر كلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره. وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل وأنشر متقاربان. وقيل: نَشْراً مصدر على حذف الزوائد أي: إنشاراً، وهو واقعٌ موقعَ الحال أي: مُنْشِراً أو مُنْشَراً حسبَ ما تقدَّم في ذلك.
(7/162)
---(1/2773)
وقرأ عاصم: "بُشْراً" بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. وقيل: جمع فعيل كقليب وقُلُب ورغيف ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى: "وهو الذي يُرْسِلُ الرياحَ مُبَشِّرات" أي تُبَشِّر بالمطر، ثم خُفِّفت الضمَّة كما تقدَّم في "نُشُر". ويؤيد ذلك أن ابنَ عباس والسلمي وابن أبي عبلة قرؤوا بضمِّها، وهي مرويَّةٌ عن عاصم نفسِه. فهذه أربعُ قراءاتٍ في السبع.
والخامسة ما ذكرْتُه الساعة عن ابن عباس ومَنْ معه. وقرأ مسروق: "نَشَراً" بفتح النون والشين، وفيها تخريجن أحدهما: نقله أبو الفتح أنه اسمُ جمعٍ كـ "غَيَب" و "نَشَأ" لغائبة وناشئة. والثاني: أن فَعَلاً بمعنى مفعول كقبَض بمعنى مقبوض. وقرأ أبو عبد الرحمن "بَشْراً" بفتح الباء وسكون الشين. ورُوِيَتْ عن عاصم أيضاً على أنه مصدرُ "بَشَر" ثلاثياً. وقرأ ابن السَّمَيْفَع "بُشْرى" بزمة رُجعى وهو مصدرٌ أيضاً. فهذه ثمان قراءات: أربع مع النون وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّق بالقراءات وما هي بالنسبة إلى كونها مفردة أو جمعاً.
وأمَّا نصبها فإنها في قراءة نافع ومن معه وابنِ عامر منصوبةٌ على الحال من "الرياح" أو "الريح" حسبما تقدَّم في الخلاف. وكذلك هي في قراءة عاصم وما يُشْبهها. وأمَّا في قراءة الأخوين ومسروق فتحتمل المصدرية أو الحاليةَ، وكلُّ هذا واضح وكذلك قراءة بُشْرى بزنة رُجْعى. ولا بد من التعرُّض لشيء آخر وهو أنَّ مَنْ قرأ "الرياح" بالجمع وقرأ "نُشْراً" جمعاً كنافع وأبي عمرو فواضحٌ.
وأمَّا مَنْ أفرد "الريح" وجمع "نشراً" كابن كثير فإنه يجعلُ الريحَ اسم جنس فهي جمع في المعنى فوَصَفَها بالجمع. كقول عنترة:
2220- فيها اثنتانِ وأربعونَ حَلُوبةً * سُوداً كخافيةِ الغُرابِ الأسْحَمِ
(7/163)
---(1/2774)
والحالية في بعض الصور يجوز أن تكون مِنْ فاعل "يُرْسل" أو مفعوله، وكلُّ هذا يُعْرف مما قَدَّمْتُه فلا حاجةَ إلى ذِكْر كلِّ صورةٍ بلفظها. و "بين" ظرف لـ "يُرْسل" أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله: {حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ} غايةٌ لقوله "يرسل". وأقلَّتْ: أي حَمَلَتْ، مِنْ أَقْلَلْتُ كذا اي حملتُه بسهولة، وكأنه مأخوذ من القِلَّة لأنه يقال: أَقَلَّه أي: حَمَله بسهولة فهو مستقلٌّ لما يحمله. والقُلَّة بضم القاف هذا الظرفُ المعروف، وقِلال هَجَر كذلك لأنَّ البعير يُقِلُّها أي يَحْملها. والسَّحاب تقدم تفسيره، وأنه يُذَكَّر ويُؤَنَّثُ، ولذلك عاد الضمير عليه مذكَّراً في قوله "سُقْناه". ولو حُمِل على المعنى كما حُمِل قوله "ثقالاً" فجُمِع لقال "سقناها". و "لبلدٍ" جعل الزمخشري اللامَ للعلة أي: لأجلِ بلده. قال الشيخ: "فرقٌ بين قولك: / سُقْت له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، فإنَّ "سُقْت له" أَوْصَلْتَه إليه وأَبْلَغْته إياه، بخلاف "سُقْته لأجله" فإنه لا يلزم منه إيصاله له، فقد يسوق المال لغيري لأجلي وهو واضحٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في تخفيف "ميت" وتثقيله في آل عمران. وجاء هنا وفي الروم "يرسل" بلفظ المستقبل مناسَبةً لما قبله، فإنَّ قبله: "ادْعُوه خَوْفاً" وهو مستقبل. وفي الروم "ليَجْزي الذين" وهو مستقبل. وأمَّا في الفرقان وفاطر فجاء بلفظ الماضي "أرسل" لمناسبةِ ما قبله وما بعده في المضيّ؛ لأنَّ قبله: "ألم تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظلَّ" وبعده "مَرَجَ البحرَيْن"، فناسب ذلك الماضي، ذكره الكرماني.
(7/164)
---(1/2775)
وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} الضميرُ في "به" يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو "بلد ميت" وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى: أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء. وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر. وقيل: الضمير يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان، أحدُهما: هي بمعنى "مِنْ" أي: فأنزلنا من السحاب الماء. والثاني: أنها سببيةٌ أي: فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب. وقيل: يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل. والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب. وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور.
وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} الخلافُ في هذه الهاء كالذي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحسنَ منها وهو العَوْدُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه و "مِنْ" تبعيضيةٌ أو ابتدائية وقد تقدَّم نظيرُه. و "كذلك" نعتُ مصدر محذوف أي: يُخْرج الموتى إخراجاً كإخراجنا هذه الثمراتِ.
* { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }
والبلد يُطْلَقُ على كل جزءٍ من الأرض عامراً كان أو خراباً، وأنشدوا على ذلك قولَ الأعشى:
2221- وبلدةٍ مثلِ ظَهْر التُّرْسِ مُوْحشةٍ * للجنِّ بالليل في حافاتِها زَجَلْ
(7/165)
---(1/2776)
و {بِإِذْنِ رَبِّهِ} يجوز أن تكونَ الباءُ سببيةً أو حاليةً. وقوله: "إلا نَكِداً" فيه وجهان أحدُهما: أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً. يقال منه نَكِد يَنْكَد نَكَداً بالفتح فهو نَكِد بالكسر. والثاني: أن ينتصب على أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: إلا خروجاً نَكَداً. وَصَفَ الخروجَ بالنَّكَد كما يوصف به غيرُه، ويؤيِّده قراءة أبي جعفر ابن القعقاع "إلا نَكَداً" بفتح الكاف. قال الزجاج: "وهي قراءة أهل المدينة" وقراءة ابن مصرِّف "إلا نَكْداً" بالسكون وهما مصدران. وقال مكي: "هو تخفيف نَكِد بالكسر مثل كَتْف في كتِف" يقال: رجل نَكِدوأَنْكد. والمَنْكُود: العطاء النَّزْر، وأنشدوا في ذلك:
2222- وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَه طَيِّباً * لا خيرَ في المَنْكودِ والناكد
وأنشدوا أيضاً:
2223- لا تُنْجزِ الوعدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ * أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تافِهاً نَكِدا؟
وقوله: {كَذالِكَ نُصَرِّفُ} كما تقدَّم في نظيره. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر: "يُخْرَج" مبنياً للمفعول. "نباتُه" مرفوعاً لقيامِه مَقامَ الفاعل وهو الله تعالى. وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ} صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: والبلد الذي خَبُث، وإنما حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه، كما أنه قد حُذِف منه الجارُّ في قوله "بإذن ربه"، إذ التقديرُ: والبلد الذي خَبُث لا يَخْرُج بإذن ربه إلا نكداً. ولا بد من مضاف محذوف: إمَّا من الأول تقديره: وبيان الذي خَبُث لا يَخْرُج، وإمَّا من الثاني تقديرُه: والذي خَبُث لا يخرج نباته إلا نكداً. وغايَر بين الموصولين فجاء بالأول بالألف واللام، وفي الثاني جاء بالذي، ووُصِلَتْ بفعل ماضٍ.
* { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّيا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
(7/166)
---(1/2777)
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا}: جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: واللهِ لقد أرسَلْنا. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع "قد"، وقلَّ عنهم قولُه:
2224- حَلَفْتُ لها بالله حَلْفَةَ فاجرٍ * لَناموا .....................
قلت: إنما كان ذلك لأن الجملةَ القسَمية لا تُساقُ إلا تأكيداً للجملة المقسمِ عليها التي هي جوابُها فكانت مَظَنَّةً لمعنى التوقع الذي هو معنى "قد" عند استماع المخاطب كلمة القسم"، وأمَّا غير أبي القاسم من النحاة فإنه قال: "إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً: فإمَّا أن يكون قريباً مِنْ زمن الحال فتأتي بـ "قد" وإلاَّ أَتَيْتَ باللام وحدها" فظاهر هذه العبارة جوازُ الوجهَيْن باعتبارَيْن.
وقال هنا: "لقد" من غير عاطفٍ وفي هود والمؤمنين: "ولقد بعاطف. وأجاب الكرماني بأن في هود قد تقدَّم ذِكْرُ الرسول مرات، وفي المؤمنين ذُكِر نوح ضمناً في قوله "وعلى الفلك" لأنه أولُ مَنْ صنعها [فَحَسُنَ أن يُؤْتَى بالعاطف على ما تقدم] بخلافه في هذه السورة/.
(7/167)
---(1/2778)
قوله "غيره" قرأه الكسائي بخفض الراء في جميع القرآن، والباقون برفعها. وقرأ عيسى بن عمر "غيرَه" بالنصب. فالجرُّ على النعت أو البدل من "إله" لفظاً. والرفعُ على النعتِ أو البدل من موضع "إله" لأنَّ "مِن"مزيدةٌ فيه، وموضعهُ رفع: إمَّا بالبتداء وإمَّا بالفاعلية. ومنع مكي في وجهِ الجر أن يكونَ بدلاً من "إله" على اللفظ قال: "كما لا يجوزُ دخولُ "مِنْ" لو حَذَفْتَ المبدل منه لأنها لا تدخل في الإِيجاب" وهذا كلامٌ متهافت. والنصبُ على الاستثناء، والقراءتان الأُوْلَيان أرجحُ؛ لأن الكلامَ متى كان غيرَ إيجاب رَجَحَ الإِتباع على النصب على الاستثناء، وحكمُ "غير" حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد "إلا". و "من إله" إذا جَعَلْته مبتدأ فلكك في الخبر وجهان أظهرهما: أنه "لكم"، والثاني: أنه محذوفٌ أي: ما لكم مِنْ إلهٍ في الوجود أو في العالم غير الله، و "لكم" على هذا تخصيصٌ وتبيين.
وجيء هنا بفاء العطف حيث قيل "فقال" وكذا في المؤمنين، وفي قصة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء، والأصل الفاء، وإنما حُذِفَتْ تخفيفاً وتوسُّعاً واكتفاءً بالربط المعنوي، وكانت الثواني فما بعدها بالحذف أوْلى، وأمَّا في هود فيقدَّر قبل قوله "إني لكم": فقال، بالفاء على الأصل. وجاء هنا {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ} فلم يَعْطِفْ هذه الجملةَ المنفيَّة بفاءٍ ولا غيرها لأنها مبينة ومنبِّهة على اختصاص الله تعالى بالعبادة ورَفْضِ ما سواه وكانت في غاية الاتصال.
* { قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
وقال ابن عطية: "وقرأ ابن عامر "المَلَوُ" بواو وهي كذلك في مصاحف الشام، وهذه القراءة ليست مشهورةً عنه".
(7/168)
---(1/2779)
قوله {لَنَرَاكَ} يجوز أن تكون القلبيةَ فتتعدَّى لاثنين ثانيهما "في ضلال"، وأن تكون البصريةَ وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضلالَ ظرفاً مبالغةً في وَصْفهم لهبذلك،و زادوا في المبالغة بأن أكَّدوا ذلك بأنْ صَدَّروا الجملة بـ "إنَّ" وفي خبرها اللام.
* { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}: مِنْ أحسنِ الردَّ وأبلغه لأنه نفى أن تلتبسَ به ضلالةٌ واحدة فضلاً عن أن يحيطَ به الضلال، ولو قال لستُ ضالاً لم يؤدِّ هذا المؤدَّى. وقوله: "ولكني" جاءت "لكن" هنا أحسنَ مجيء لأنها بين نقيضين، لأن الإِنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلالَ. و "من رب" صفة لرسول و "مِنْ" لابتداء الغاية المجازية.
* { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ}: يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفة أتي بها لبيان كونِه رسولاً، ويجوز أن تكونَ صفةً لرسول، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم فقال: "أُبَلِّغُكُمْ" ولو راعى الاسمَ الظاهر بعده لقال: يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كل اسم ظار سبقه ضميرٌ حاضر من متكلم أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان: مراعاةُ الضميرِ لاسابق وهو الأكثر ومراعاةُ الاسمِ الظاهر، فتقول: "أنا رجلٌ أفعل كذا" مراعاةٌ لـ: أنا. وإن شئت "أنا رجلٌ يفعل كذا" مراعاةٌ لرجل، ومثله: "أنت رجل تفعل كذا" بالخطاب والغيبة. وقوله {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} جاء على الأكثر. ومثله ما لو وقع بعد الضمير موصولٌ نحو: "أنا الذي فَعَلْتُ وفعل"، و "أنت الذي فعل وفعلت". ومنه: 2225- نحن الذين بايَعُوا محمَّداً * على الجهاد ما بقينا أبدا
فجمع بين الاستعمالين، وقد تقدَّم هذا بأوضحَ منه هنا.
(7/169)
---(1/2780)
وقرأ أبو عمرو: "أُبْلِغُكم" بالتخفيف والباقون بالتشديد، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعَيْن وفي الأحقاف. والتضعيف والهمزة للتعدية كأنزل ونَزَّل. وجمع "رسالة" بالعتبار أنواعها من أمرٍ ونهيٍ ووَعْظٍ وزجر وإنذار وإعذار. وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} فهذا شاهدٌ لقراءة أبي عمرو، وجاء على فَعَّل في قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة.
* { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قوله تعالى: {أَن جَآءَكُمْ}: أي مِنْ أَنْ جاءكم، فلمَّا حَذَفَ الحرف جرى الخلاف المشهور. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزة السابقة على الواو. وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه محذوفاً / تقديرُه: أكذَّبتم وعَجِبْتم. و "مِنْ ربكم" صفةٌ لذِكْر. وقوله "على رجل" يجوز أن يكونَ على حذفِ مضافٍ أي: على لسان رجل. وقيل"على" بمعنى مع أي: مع رجل فلا حذف، وقيل: لا حاجة إلى حَذْفٍ ولا إلى تضمينِ حرفٍ لأنَّ المعنى: أُنزل إليكم ذِكْرٌ على رجل، وهذا أَوْلَى، لأن التضمينَ في الأفعال حسنُ منه في الحروف لقوتها وضعف الحروف.
* { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ }
(7/170)
---(1/2781)
وقوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ}: يجوز أن يتعلَّق بأَنْجيناه أي: أنجيناه في الفلك. ويجوز أن تكونَ "في" حينئذ سببيةً أي: بسبب الفُلْك كقوله "إنَّ امرأةً دخلت النار في هرة". ويجوز أن يتعلق "في الفلك" بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً أي: الذين استقروا في الفلك معه. و "عَمِين" جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة. وقيل هنا: عمٍ إذا كان أعمى البصيرة غيرَ عارفٍ بأموره، وأعمى أي في البصَر. قال زهير:
2226- وأَعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبله * ولكنني عن عِلِْ ما في غدٍ عَمِ
وهذا قول الليث. وقيل: عمٍ وأعمى بمعنىً، كخَضِر وأخضر. وقال بعضهم: "عَمٍ" فيه دلالةٌ على ثبوت الصفة واستقرارِها كفَرِح وضَيّق، ولو أُريد الحدوثُ لقيل: عامٍ كما يُقال: فارح وضائق. وقد قُرِئ "قوماً عامين" حكاها الزمخشري.
* { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {أَخَاهُمْ هُوداً}: "أخاهم" نصب بأَرْسَلْنا الأولى كأنه قيل: لقد ارسلْنا نوحاً وأرسلْنا إلى عادٍ أخاهم، وكذلك ما يأتي من قوله {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} {وَلُوطاً} ويكون ما بعد "أخاهم" بدلاً أو عطف بيان. وأجاز مكي أن يكونض النصبُ بإضمار "اذكر" وليس بشيء؛ لأن المعنى على ما ذكرْتُ مع عدم الحتياج إليه.
و "عاد" اسم للحَيِّ ولذلك صَرَفَه، ومنهم مَنْ جعله اسماً للقبيلة، ولذلك منعه. قال:
2227- لو شَهْدَ عادَ في زمانِ عادِ * لابْتَزَّها مَبارِكَ الجِلادِ
(7/171)
---(1/2782)
وعاد في الأصل اسم للأب الكبير، وهو عاد بن عوص بن أرَم ابن سام بن نوح فسُمَِّيت به القبيلةُ أو الحيّ، وكذلك ما أشبهه من نحو "ثمود" إنْ جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه، وإنْ جَعَلْته اسماً لمؤنث مَنَعْته. وقد بَوَّب له سيبويه باباً. وأمَّا هود فاشتهر في ألسنة النحاة أنه عربي، وفيه نظرٌ؛ لأن الظاهرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نوح ولوط أنه أعجمي، ولأنَّ أبا البركات النسَّابة الشريف حكى أن أهل اليمن تزعم أن يَعْرُبَ ابنَ قحطان بن هود هو أولُ مَنْ تكلم بالعربية وسُمِّيت به العَرَبُ عَرَباً، وعلى هذا يكون "هود" أعجمياً، وإنما صُرِفَ لِما ذُكر في أخويه نوح ولوط. وهود ومَنْ قال: إنه مِنْ عاد في النسب فالأخوة ظاهرة.
وهنا "قال" بغير فاء وقد تقدَّم أنها مُرادةٌ. وقال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ يُحْذَفُ العاطفُ من قوله "قال يا قوم" ولم يقل: فقال، كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل له: قال يا قوم". انتهى. وعلى هذا فلا تُقَدَّر هذه الفاءُ البتة.
* { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
وقيل هنا: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فوَصَفَ الملأَ بالكفر، ولم يُوصفوا في قصة نوح. فقيل: لأن هذه صفةٌ مميزة، إذ منهم مَنْ آمن كمرثد بن سعد بخلاف قوم نوح فإنه لم يؤمنْ منهم أحدٌ. قاله الزمخشري وغيرُه. وفيه نظرٌ لقوله تعالى {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}. ويحتمل أنَّ حال مخاطبةِ نوحٍ لقومٍ لم يؤمن منهم أحد بعدُ ثم آمنوا، بخلاف قصة هود فإنه حالَ الخطابِ كان فيهم مؤمن، ويُحتمل أن يكونَ صفةً لمجرد الذمِّ من غير قَصْدِ تمييزٍ بها.
(7/172)
---(1/2783)
* { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوااْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوااْ آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَكُمْ}: في "إذ" وجهان أحدهما: أنه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمَّنَتْه الآلاء من معنى الفعل كأنه قيل: واذكروا نِعَمَ اللهِ عليكممفي هذا الوقت. ومفعولُ "اذكروا" محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: فاذكروا آلاءَ الله، ولأنَّ قوله "إذ جعلكم خُلَفاء"، وزادكم كذا هو نفس الآلاء، وهذا ظاهرُ قولِ الحوفي. وقال الزمخشري: "إذ" مفعول اذكروا، أي: / اذكروا هذا الوقتَ المشتمل على النِّعَمِ الجسيمة".
وقوله {فِي الْخَلْقِ}: يُحتمل أن يُراد به المصدر، بمعنى في امتداد قاماتكم، في حُسْن صُوَركم وعِظَم أجسامكم، ويحتمل أن يُرادَ به معنى المفعول به أي: في المخلوقين بمعنى زادكم في الناس مثلكم بسطة عليهم، فإنه لم يكن في زمانِهم مثلُهم في عِظَم الأَجْرام. وَرَدَ في التفسير أنَّ أقصرَهم ستون ذراعاً. وتقدَّم الخلاف في "بَسْطة" في البقرة.
قوله: {آلآءَ اللَّهِ} أي نِعَمه، وهو جمعٌ مفردةٌ "إلْيّ" بكسر الهمزة وسكون اللام كحِمْل وأحمال، أو "أُلْي" بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال، أو "إلَى" بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب، أو "أَفَى" بفتحها كقفا وأقفاء، قال الأعشى:
2228- أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله "الآناء" جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى. وقال الأخفش: "إنْوٌ". والآناء: الأوقات كقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ} وسيأتي.
(7/173)
---(1/2784)
* { قَالُوااْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
قوله تعالى: { لِنَعْبُدَ}: متعلِّقٌ بالمجيء الذي أنكروه عليه. وقوله "إن كنتَ" جوابُه محذوف أو متقدم وهو "فَأْت به".
* { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِيا أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوااْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
وقوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ}: إمَّا متعلق بوَقَع، ومِنْ للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلَّق بمحذوف لأنها حال إذ كانت في الأصل صفة لرجس. وقوله "سَمَّيْتُموها" صفةٌ لأسماء، وكذلك الجملة من قوله "ما نَزَّل الله" و "مِنْ سلطان" مفعول "نَزَّل" ومِنْ مزيدة. و "من المنتظرين" خبر "إني". و "معكم" فيه ما تقدَّم في قوله {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}. ويجوز - وهو ضعيف - أن يكون "معكم" هو الخبر و "من المنتظرين" حال، والتقدير: إني مصاحبُكم حالَ كوني من المنتظرين النصرَ والفرجَ من الله تعالى، وليس بذاك لأن المقصود في الكلام هو الانتظارُ لمقابلة قوله "فانتظروا" فلا تُجْعل فَضْلة.
* { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيا أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(7/174)
---(1/2785)
قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ}: ثمود اسم رجل وهو ثمود ابن جائر بن إرَم بن سام وهو أخو جديس، فثمود وجديس أخوان ثم سُمِّيت به هذه القبيلة، والأكثر مَنْعُه اعتباراً بما ذكرته، ومنهم مَنْ جَعَله اسماً للحيِّ فصرفه وهي قراءةُ الأعمش ويحيى بن وثاب في جميع القرآن، وسيأتي لك خلاف بين القراء السبعة في سورة هود وغيرها. وقيل: سُمُّوا ثمود لقلة مائهم، والثَّمْدُ الماء القليل. قال النابغة:
2229- واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرَتْ * إلى حَمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ
وصالح اسم عربي وهو صالح بن آسف. وقيل: ابن عبيد بن آسف ابن كاشح بن أروم بن ثمود بن جائر.
قوله: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} قد كثُر إيلاءُ هذه اللفظةِ العواملَ، فهي جاريةٌ مَجْرى الأبطح والأبرق في عدم ذِكْرِ موصوفها. وقوله: "من ربكم" يحتمل أن تتعلَّق بجاءتكم و "مِنْ" لابتداء الغاية مجازاً، وأن تتعلق بمحذوف لأنها صفةُ بَيِّنة. ولا بد مِنْ حَذْف مضاف أي: من بينات ربكم ليتصادَقَ الموصوفُ وصفتُه. وقوله: "آية" نصب على الحال لأنها بمعنى العلامة. والعاملُ فيها: إمَّا معنى التنبيه، وإمَّا معنى الإِشارة كأنه قال: أنبِّهكم عليها أو أُشير إليها في هذه الحال. ويجوز أن يكون العاملُ مضمراً تقديره: انظروا إليها في هذه الحال، والجملةُ لا محلَّ لها لأنها كالجواب لسؤالٍ مقدر كأنهم قالوا: أين آيتك؟ فقال: هذه ناقةُ الله، وأضافها إلى الله تشريفاً كبيت الله وروح الله، وذلك لأنها لم تتوالد بين جَمَلٍ وناقة بل خَرَجَتْ من صَلْد كما هو المشهور.
وقوله {لِكُمْ} أي: أعني لكم، وخُصُّوا بذلك لأنهم هم السائلوها أو المتفعون بها من بين سائر الناس لو أطاعوا. ويحتمل أن تكون "هذه ناقة الله" مفسرةً لقوله "بيِّنة" لأنَّ البينة تستدعي شيئاً يتبيَّن به المُدَّعَى، فتكون الجملةُ في محل رفع على البدل، وجاز إبدال جملةٍ من مفرد لأنها في قوته.
(7/175)
---(1/2786)
قوله: {فِيا أَرْضِ اللَّهِ} الظاهرُ تعلُّقه بـ "تأكل" وقيل: يجوز تعلُّقه بقوله "فَذَرُوها"، وعلى هذا فتكونُ المسألة من التنازع وإعمال الثاني، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني فقال: تأكل فيها في أرض الله. / وانجزم "تأكل" جواباً للأمر. وقد تقدم الخلافُ في جازمه: هل هو نفسُ الجملة الطلبية أو أداة مقدرة؟ وقرأ أبو جعفر "تأكلُ" برفع الفعل على أنه حالٌ"، وهو نظير {فهبْ لي من لدنك وَلِيَّاً يرثني" رفعاً وجزماً.
* { وَاذْكُرُوااْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوااْ آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
قوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} بوَّأه: أنزله منزلاً. والمَبَاءةُ المنزل، وتقدَّمَتْ هذه المادة في آل عمران وهو يتعدَّى لاثنين، فالثاني محذوف أي: بَوَّأكم منازل. و "في الأرض" متعلقٌ بالفعل وذُكِرَتْ ليبني عليها ما يأتي بعدها من قوله "تَتَّخذون". قوله: "تَتَّخذون" يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد، فيكونَ "من سهولها" متعلقاً بالاتخاذ أو بمحضوف على أنه حال من "قصوراً" إذ هو في الأصل صفةٌ لها لو تأخر، بمعنى أنَّ مادة القصور مِنْ سهل الأرض كالجبس واللِّبَن والآجرّ كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} أي: مادته من الحُلِيِّ. وقيل: "مِنْ" بمعنى في. وفي التفسير: أنهم كانوا يسكنون في القصور صيفاً وفي الجبال شتاءً. وأن تكونَ المتعدية لاثنين ثانيهما "من سهولها".
(7/176)
---(1/2787)
قوله: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً}: يجوز أن تكون "الجبال" على إسقاط الخافض أي: من الجبال، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} فيكون "بيوتاً" مفعولَه. ويجوز أن يُضَمَّن "تَنْحِتون" معنى ما يتعدَّى لاثنين أي: وتتخذون الجبال بيوتاً بالنحت أو تُصَيِّرونها بيوتاً بالنحت. ويجوز أن يكون "الجبال" هو المفعول به و "بيوتاً" حالٌ مقدرة كقولك: خِطْ هذا الثوب جُبَّةً، أي: مقدراً له كذلك. و "بيوتاً" وإن لم تكن مشتقةً فإنها في معناه أي: مسكونة.
وقرأ الحسن: "تَنْحَتون" بفتح الفاء. وزاد الزمخشري أنه قرأ: "تنحاتون" بإشباع الفتحة ألفاً، وأنشد:
2230- يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ * .................
وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالك بالياء من أسفل على الالتفات. إلا أن أبا مالك فَتَح الحاء كقراءة الحسن. والسهلُ من الأرض مالان وسَهُلَ الانتفاع به ضد الحَزَن. والسهولة: التيسير. والقُصور: جمع قَصْر وهو البيت المُنيف، سُمِّي بذلك لقُصور الناس عن الارتقاء إليه، أو لأن عامَّة الناس يُقَصِّرون عن بناء مثله بخلاف خواصِّهم، أو لأنه يُقتصر به على بُقْعَةٍ من الأرض بخلاف بيوت الشعر والعُمُد، فإنها لا يُقتصر بها على بُقْعَةٍ مخصوصة لارتحال أهلها، أو لأنه يَقْصُر مَنْ فيه أي يَحْبِسه، ومنه: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}. والنَّحْتُ: النَّجْر في شيء صُلْب كالحجر والخشب قال:
2231- أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسلسلةٍ * والليلُ في بَطْنِ منحوت من الساج
وقرأ الأعمش: "ولا تِعْثُوا" بكسر حرف المضارعة. وقد تقدم أن ذلك لغةٌ. و "مفسدين" حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عاملها. و "في الأرض" متعلقٌ بالفعلِ قبله أو بمفسدين.
(7/177)
---(1/2788)
* { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوااْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ}: قرأ ابن عامر وحده: "وقال" بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقةً لمصاحف الشام، فإنها مرسومة فيها. والباقون بحَذْفِها: إمَّا اكتفاءً بالربط المعنويِّ، وإمَّا لأنه جواب لسؤالٍ مقدر كما تقدَّم نظيره، وموافقةً لمصاحفهم، وهذا كما تقدم في قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} إلا أنه هو الذي حَذَف الواو هناك.
قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} اللام للتبليغ. ويَضْعُف أن تكون للعلة. والسين في "استكبروا" و "استضعفوا" يجوز أن تكونَ على بابِها من الطلب أي: طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى فَعَل كعجب واستعجب.
قوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من "الذين اسْتُضْعِفُوا" بإعادة العامل، وفيه وجهان أحدهما: أنه بدلُ كل مِنْ كل إن عاد الضمير في "منهم" على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط. كأنه قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح. والثان: أنه بدلُ بعضٍ من كل إن عادَ الضمير على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربَيْن: مؤمنين وكافرين، كأنه قيل: / قال المستكبرون للمؤمنين من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء.
وقوله: {أَتَعْلَمُونَ} في محلِّ نصب بالقول. و "من ربه" متعلق بمُرْسَل. و "مِنْ" للابتداء مجازاً، ويجوز أن تكونَ صفةً فتتعلَّق بمحذوف.
قوله: {بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ} متعلِّقٌ بـ "مؤمنون" قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة. و "ما" موصولةٌ. ولا يجوز هنا حَذْفُ العائد وإن اتحد الجارُّ للموصول وعائدِه؛ لاختلاف العامل في الجارَّيْن. وكذلك قوله:
(7/178)
---(1/2789)
* { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوااْ إِنَّا بِالَّذِيا آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
"بِالَّذِيا آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ":
* { فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
والعَقْر أصله كشف العراقيب في الإِبل وهو: أن تُضْرب قوائمُ البعير أو الناقة فتقع، وكانت هذه سنَتهم في الذَّبْح. قال امرؤ القيس:
2232- ويومَ عَقَرْتُ للعَذارى مطيَّتي * فيا عَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ
ثم أُطْلِق على كل نحرٍ، وإن لم يكنْ فيه كَشْفُ عراقيب تسميةً للشيء بما يلازمه غالباً إطلاقاً للسبب على مسبَّبه. هذا قول الأزهري. وقال ابن قتيبة: "العَقْر: القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة". وقيل: العَقْرُ: الجرح. وعليه قول امرئ القيس:
2233- تقول وقد مال الغَبيط بنا معاً * عَقَرْتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزِلِ
تريد: جَرَحْتَه بثقلك وتمايُلِكَ. والعُقْر والعَقْر بالفتح، والضم الأصل، ومنه عَقَرْتُه أي: أصبت عَقْره يعني أصلَه كقولهم: كَبَدْتُه ورَأَسْتُه أي: أصبت كَبِده وراسه، وعَقَرْتَ النخل: قطعته من أصله. والكلب العَقُور منه. والمرأة عاقر، وقد عُقِرَت. والعُقْر بالضم آخر الولد وآخر بيضة، يقال: عُقِر البَيْض. والعَقار: - بالفتح - المِلْك من الأبنية ومنه "ما غُزي قوم في عُقْر دارهم إلا ذلُّوا" وبعضهم يَخُصُّه بالنخل. والعُقار - بالضمِّ - الخمر لأنها كالعاقِرة للعقل ورَفَعَ عَقِيْرَته أي: صوتَه، وأصلُه أن رجلاً عَقَر رِجْلَه فَرفَع صوته فاستُعير لكل صائح. والعُقْر بالضم أيضاً: المَهْر.
(7/179)
---(1/2790)
وقوله: {وَعَتَوْاْ} العُتُوّ والعُتِيُّ: النُّبُوُّ أي: الارتفاع عن الطاعة يقال منه: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّاً وعُتِيَّاً، بقلب الواوين ياءين، والأحسنُ فيه إذا كان مصدراً تصحيحُ الواوين كقوله: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً}. وإذا ك ان جمعاً الإِعلالُ نحو: قوم عُتِيٌّ لأن الجمعَ أثقلُ، قياسُه الإِعلالُ تخفيفاً. وقوله: {أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً}. وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} أي: حالةً تتعذَّر مداواتي فيها وهو كقوله:
2234- ................. * ومن العَناءِ رياضَةُ الهَرِمِ
وقيل: العاتي: الجاسي أي اليابس. ويقال: عَثَا يَعْثُو عُثُوَّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى لأنه يقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيَّاً وعثا يَعْثُو عُثُوَّاً، فهو في إحدى لغتيه يشاركه "عتا" بالمثناة وزناً ومعنى، ويقاربه في حروفه. والعَيْثُ أيضاً - بتقديم الياء من أسفل على الثاء المثلثة - هو الفساد، فيحتمل أن يكونَ أصلاً وأن يكون مقلوباً فيه. وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المُدْرَك حسَّاً والعِثِيّ في المُدْرَك حكماً وقد تقدم لك طرف من هذا.
وقوله: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا} يجوز لك على رواية مَنْ يُسَهِّل الهمزة وهو ورش والسوسي أن تُبْدِلَ الهمزة واواً، فتلفظ بصورة يا صالحُ وْتِنا في الوصل خاصة، تُبْدِل الهمزة بحركة ما قبلها وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى. وقرأ عاصم وعيسى بن عمر: أُوْتنا بهمزٍ وإشباعِ ضم، ولعله عاصم الجحدري لا ابن النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلط لأن همزة الوصل في هذا النحوِ مكسورةٌ فمن أين جاءت ضمةُ الهمزة إلا على التوهُّم؟
وقوله: {بِمَا تَعِدُنَآ} العائدُ محذوفٌ أي: تَعِدُناه، ولا يجوز أن تقدر "تَعِدُنا" متعدياً إليه بالياء، وإن كان الأصلُ تعديتَه إليه بها؛ لئلا يلزمَ حذفُ العائدِ المجرور بحرفٍ من غير اتحادِ متعلَّقهما، لأنَّ "بما" متعلِّقٌ بالإِتيان، و "به" متعلِّقٌ بالوعد.(1/2791)
(7/180)
---
* { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدة يقال: رَجَفَتِ الأرضُ تَرْجُف رَجْفاً ورَجِيْفاً ورجَفاناً. وقيل: الرَّجْفَةُ: الطامَّةُ التي يتزعزعُ لها الإِنسانُ ويضطرب، ومنه قيل للبحر: رَجَّاف لاضطرابه. وقيل: أصلُه مِنْ رجَفَ به البعيرُ إذا حرَّكه في سَيْره، قال ابن أبي ربيعة:
2235- ولَمَّا رَأَيْتُ الحجَّ قد حان وقتُه * وظَلَّتْ جِمال القومِ بالحيِّ تَرْجُفُ
والإِرجاف: إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجمعُه الأراجيف ومنه "الأراجيف ملاقيح الفِتَنِ". وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} كقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ومنه:
2236- تُحْيي العظام َالراجفاتِ من البِلى * وليس لداءِ الرُّكبتين طبيبُ
والجُثُوم: اللُّصوقُ بالأرض مِنْ جُثُوم الطائر والأرنب، فإنه يَلْصِقُ بطنَه / بالأرض، ومنه رجلٌ جُثَمَة وجَثَّامة، كناية عن النؤوم الكَسْلان، وجُثْمان الإِنسان شخصُه قاعداً. وقال ابو عبيد: "الجُثُوم للناس والطيرِ كالبُروك للإِبل. وأنشد لجرير:
2237- عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ منها * مَطايا القِدْر كالحِدَأ الجُثُومِ
قال الكرماني: "حيث ذُكِرت الرَّجْفةُ وُحِّدت الدار، وحيث ذُكرت الصيحةُ جُمِعَتْ، لأنَّ الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكبرُ وأبلغُ من الزلزلة، فَذَكَرَ كلَّ واحدٍ بالأليق به. وقيل في دارهم: أي بلدهم. وقيل: المرادُ بها الجنسُ. والفاء في طفَأَخَذَتْهم" للتعقيب. ويمكن أن تكونَ عاطفةً على الجملة من قوله "فَأْتِنا" وذلك على تقديرِ قربِ زمان الهلاك من زمان طلب الإِتيان. ويجوز أن يُقَدَّر ما يَصِحُّ العطفُ عليه بالفاء، و التقدير: فوعدهم العذابَ بعد ثلاث فانقضت فأَخَذَتْهم.
(7/181)
---(1/2792)
ولا يُلتفت إلى ما ذكره بعضُ الملاحدةِ في قوله "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ" وفي موضعٍ آخرَ: "الصيحة"، وفي موضع آخر "بالطاغية" واعتقد ما لا يجوز، إذ لا منافاةَ بين ذلك، فإن الرَّجْفَةَ مترتبةٌ على الصيحة، لأنه لمَّا صِيح بهم رَجَفَتْ قلوبُهم فماتوا، فجاز أن يُسْنَدَ الإِهلاكُ إلى كلٍ منهما. وأمَّا "بالطاغية" فالباء للسببية. والطاغية: الطُّغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للمَلِكِ الجبار طاغية، فمعنى "أُهْلِكوا بالطاغية" أي بطغيانهم كقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} أي: بسبب طُغْيانهم.
وقوله "فأصبحوا" يجوز أن تكونَ الناقصةَ، فجاثمين خبرُها، و "في ديارهم" متعلِّقٌ به، ولا يجوزُ أن يكونَ الجارُّ خبراً و "جاثمين" حال لعدمِ الفائدة بقولك "فأصبحوا في دارهم" وإن جاز الوجهان في قولك: "أصبح زيد في الدار جالساً"، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ أي: دخلوا في الصباح، و "جاثمين" حال، والأولُ أظهرُ.
* { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
وقوله تعالى: {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ}: قيل: "كان" محذوفة هنا لأنه حكايةُ حالٍ ماضية أي: ولكن كنتم لا تحبون.
* { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {وَلُوطاً}: فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بأَرْسَلْنا الأول، و "إذا" ظرفٌ للإِرسال. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار "اذكر". وفي العامل في الظرفِ حينئذٍ وجهان، أحدهما: - وهو قول الزمخشري - أنه بدلٌ من "لوطاً" قال: "بمعنى: واذكر وقتَ إذ قال لقومه" وهذا على تسليمِ تصرُّفِ "إذ". والثاني: أن العاملَ فيها مقدَّرٌ تقديرُه: واذكر رسالةَ لوطٍ إذ قال. فإذ منصوب برسالة. قاله أبو البقاء، والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمال.
(7/182)
---(1/2793)
قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب. وعلى الاستئنافِ يُحتمل أن تكونَ جواباً لسؤال وأَنْ لا تكونَ. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما موضعُ هذه الجملة؟ قلت: لا مَحَلَّ لها لأنها مستأنفة، أنكر عليهم أولاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ثم وبَّخهم عليها فقال: أنتم أولُ مَنْ عَمِلَها. أو تكونُ جواباً لسؤال مقدَّر، كأنهم قالوا: لِمَ لا تأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحدٌ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقوا به".
والباء في "بها" فيها وجهان، أظهرهُما: أنها حاليةٌ أي: ما سَبَقكمْ أحدٌ مصاحِباً لها أي: ملتبساً بها. والثاني: أنها للتعديةِ. قال الزمخشري: "الباءُ للتعدية مِنْ قولك: "سَبَقْته بالكُرة" إذا ضربْتَها قبله. ومنه قوله عليه السلام: "سبقك بها عُكاشة". قال الشيخ: "والتعديةُ هنا قلقةٌ جداً؛ لأنَّ الباءَ المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجَعْل المفعولِ الأولِ يَفْعل ذلك الفعلَ بما دَخَلَتْ عليه الباءُ فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنك إذا قلت: "صَكَكْتُ الحجرَ بالحجر" كان معناه: أَصْكَكْت الحجرَ أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دَفَعْتُ زيداً بعمرو عن خالد، معناه:؛ أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي: جَعَلْتُ زيداً يدفع عمراً عن خالد، فللمفعول الأول تأثيرٌ في الثاني، ولا يصحُّ هذا المعنى هنا إذ لا يَصِحُّ أن يقدَّر: أَسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جَعَلْتُ زيداً يَسْبِق الكرة إلا بمجازٍ متكلِّف، وهو أن تجعلَ ضربَك للكرة أولَ جَعْلٍ ضربةً قد سبقها أي تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا". و "مِنْ" الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض.
الوجه الثاني من وجهَيْ الجملة: أنها حال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: هو الفاعل أي: أتأتون مبتدئين بها. والثاني: هو المفعول أي: / أتأتونها مُبْتَدَأً بها غيرَ مسبوقةٍ من غيركم.
(7/183)
---(1/2794)
* { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }
قوله تعالى: {أإنكم}: قرأ نافع وحفص عن عاصم: "إنكم" على الخبر المستأنف وهو بيانٌ لتلك الفاحشةِ. وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتوبيخ.
قوله: {شَهْوَةً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ الاشتهاء، لا حاملَ لكم عليه إلا مجردُ الشهوة لا غير. والثاني: أنها مصدرُ واقعٌ موقعَ الحال أي: مشتهين أو باقٍ على مصدريته، ناصبه "أتَأْتُون" لأنه بمعنى أتشتهون. ويقال: شَهِيَ يَشْهى شَهْوة، وشَها يَشْهو شهوة قال:
2238- وأَشْعَثَ يَشْهى النومَ قلت له ارتحِلْ * إذا ما النجومُ أعرضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.
قوله: {مِّن دُونِ النِّسَآءِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "الرجال" أي: أتأتونهم منفردين عن النساء. والثاني: أنه متعلِّقٌ بشهوة قاله الحوفي. وليس بظاهرٍ أن تقولَ: "اشتهيت من كذا"، إلا بمعنىً غيرِ لائق هنا. والثالث: أن يكونَ صفةً لشهوة اي: شهوةً كائنة من دونهن.
قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ} "بل" للإِضرابِ، والمشهور أنه إضراب انتقالٍ من قصة إلى قصة إلى قصة، فقيل: عن مذكور، وهو الإِخبارُ بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشةِ أو عن توبيخهم وتقريرِهم والإِنكارِ عليهم. وقيل: بل للإِضراب عن شيء، محذوف. واختُلِفَ فيه: فقال ابو البقاء: "تقديره ما عَدَلْتُم بل أنتم". وقال الكرماني: "بل" رَدٌّ لجوابٍ زعموا أن يكونَ لهم عُذْراً أي: لا عذرَ لكم بل". وجاء هنا بصفة القوم اسمَ الفاعل وهو "مُسْرفون"؛ لأنه أدلُّ على الثبوت ولموافقة رؤوسِ الآيِ فإنها أسماء. وجاء في النمل "تَجْهَلُون" دلالةً على أنَّ جهلَهم يتجدَّد كلَّ وقتٍ ولموافقةِ رؤوس الآي فإنها أفعال.
(7/184)
---(1/2795)
* { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوااْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ}: العامَّةُ على نصب "جواب" خبراً للكون، والاسمُ "أنْ" وما في حَيِّزها وهو الأفصحُ، إذ فيه جَعْلُ الأعرفِ اسماً. وقرأ الحسن "جوابُ" بالرفع، وهو اسمُهها، والخبر "إلا أَنْ قالوا" وقد تقدَّمَ ذلك. وأتى هنا بقوله "وما"، وفي النمل والعنكبوت "فما"، والفاء هي الأصلُ في هذا الباب لأنَّ المرادَ أنهم لم يتأخر جوابُهم عن نصيحته. وأمَّا الواوُ فالتعقيبُ أحدُ محاملها، فتعيَّن هنا أنها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السورتين المذكورتين لأنها اقتضَتْ ذلك بوضعها.
* { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ}: استثناء من أهله المُنْجَيْن. وقوله: {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} جوابُ سؤالٍ مقدر. وهذا كما تقدم في البقرة وفي أول هذه السورة في قصة إبليس.
والغابر: المُقيم. هذا هو مشهورُ اللغة، وأنشدوا قول أبي ذؤيب الهذلي:
2239- فَغَبَرْتُ بعدهمُ بعيشٍ ناصِبٍ * وإخالُ أني لاحقٌ مُسْتَتْبَعُ
ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيَّته في الضَّرْع، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً، قال ابو كبير الهذلي، ويُروى لتأبَّط شراً:
2240- ومُبَرَّأً من كل غُبَّرِ حَيْضَةٍ * وفَسادِ مُرْضِعَةً وداءٍ مُعْضِلِ
ومعنى "من الغابرين" في الآية أي: مِن المقيمين في الهلاك. وقال بعضهم: "غَبَر بمعنى مَضَى وذهب" ومعنى الآية يساعده، وأنشد للأعشى:
2241- عَضَّ بما أَبْقى المَواسِيْ له * مِنْ أُمِّه في الزمن الغابر
(7/185)
---(1/2796)
أي: الزمن الماضي. وقال بعضهم: غَبَر أي غاب، ومنه قولهم: "غير عنا زماناً" وقال أبو عبيدة: "غَبَرَ: عُمِّر دهراً طويلاً حتى هَرِم، ويدل له: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ}. والحاصلُ أن الغُبور مشتركٌ كعسعس أو حقيقةٌ ومجازٌ وهو المرجح. والغبار: لما يَبْقى من التراب المُثار. ومنه {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} تخييلاً لتغيرها واسودادها. والغَبْراء الأرض. قال طرفة:
2242- رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني * ولا أهلَ هذاكَ الطرافِ المُمُدَّدِ
* { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا}: قال أبو عبيد: "يقال: مُطِر في الرحمة، وأُمْطِر في العذاب" وقال أبو القاسم الراغب: "ويقال: مُطِر في الخير، وأُمْطِر في العذاب، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} وهذا مردودٌ بقوله تعالى: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} فإنهم إنما عَنَوا بذلك الرحمة، وهو مِنْ أَمْطَر رباعياً. ومَطَر وأمْطَر بمعنى واحد يتعديان لواحد يقال: مَطَرتهم السماء وأَمْطرتهم، وقوله تعالى هنا "وأَمْطَرْنا" ضُمِّن معنى طأرسلنا" ولذلك عُدِّي بـ "على"، وعلى هذا فـ "مَطَراً" مفعول به لأنه يُراد به الحجارة، ولا يُراد به المصدرُ أصرً، إذ لو كان كذلك/ لقيل: أمطار. ويوم مطير. أي: مَمْطور. ويوم ماطِر ومُمْطِر على المجاز كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه. ومطير بمعنى مُمْطِر قال:
2243- حَمامةَ بطنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي * سقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادي مطيرها
فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السحاب يُمْطِرُ غيرها. ونكَّر "مطراً" تعظيماً.
(7/186)
---(1/2797)
* { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ}: اختُلِف في مَدْين فقيل: أعجمي فمنعُه للعجمة والعَلَميَّة، وهو مَدْين بن خليل الرحمن، فسُمِّيت به القبيلة. وقيل: هو عربيٌّ اسمُ بلد قاله الفراء وأنشد:
2244- رهبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ * يبكون مِنْ حَذَرِ العذابِ قُعودا
لو يَسْمعون كما سمعتُ كلامَها * خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا
فمنعُه للعَلَمِيَّة والتأنيث، ولا بد حينئذ من حذف مضاف أي: وإلى أهل مَدْيَن، ولذلك أعاد الضمير في قوله "أخاهم" على الأهل، ويجوز أن يُراد بالمكان ساكنوه، فروعي ذلك بالنسبة إلى عود الضمير عليه. وعلى تقدير كونه عربياً قالوا: فهو شاذ، إذ كان من حقِه الإِعلالُ كمتاع ومقام، ولكنهم شَذُّوا فيه كما شَذُّوا في مَرْيَم ومَكْوَزَة، وليس بشاذ عند المبرد لعدم جريانه على الفعل، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه.
شُعَيْب: يجوز أن يكون تَصْغير شِعْب أو شَعب هكذا قالوا، والأدب ألاَّ يُقالَ ذلك، بل هذا موضوعٌ على هذه الزِّنَة وأمَّا أسماءُ الأنبياء فلا يَدْخل فيها تصغيرٌ البتةَ إلا ما نَطَق به القرآن على صيغةٍ تشبهه كشعيب عليه السلام وهو عربيٌّ لا أعجمي.
قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ} قد تقدَّم معنى هذه اللفظة في قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}، وهو يتعدَّى لاثنين وهما: الناسَ وأشياءَهم أي: لا تُنْقصوهم أشياءهم.
(7/187)
---(1/2798)
* { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوااْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
قوله تعالى: {بِكُلِّ صِرَاطٍ}: يجوز أن تكونَ الباءُ على حالها من الإِلصاقِ أو المصاحبةِ، أو تكونَ بمعنى في. و "تُوْعِدون" و "تَصُدُّون" و "تبغون" هذه الجملُ أحوالٌ أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغين. ولم يذكر المُوْعَد به لتذهب النفسُ كلَّ مذهب. ومفعول "تصدُّون" "مَنْ آمن"، قال أبو البقاء: "مَنْ آمن" مفعول "تصدُّون" لا مفعول "توعدون" إذ لو كان مفعولاً للأول لقال "تَصُدُّونهم". يعني أنه لو كان كذلك لكانت المسألة من التنازع، وإذا كانت من التنازع وأَعْمَلْتَ الأول لأضمرْتَ في الثاني فكنت تقول: تَصُدُّونهم، لكنه ليس القرآن كذا، فدلَّ على أن "توعدون" ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أن تكون المسألةُ من التنازع - ويكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحَذَف من الأول - وألاَّ تكونَ وهو الظاهر.
وظاهرُ كلام ِالزمخشري أنها من التنازع، وأنه من إعمال الأول، فإنه قال: "فإن قلت: إلام يَرْجِعُ الضمير في "مَنْ آمن به"؟ قلت: إلى كل صراط، تقديره: تُوْعِدون مَنْ آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظاهر الذي هو "سبيل الله" موضعَ المضمر زيادةً في تقبيح أمرهم".
قال الشيخ: "وهذا تعسُّف وتكلُّف مع عدم الاحتياج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مضمر، إذ الأصلُ خلافُ ذلك كلِّه، ولا ضرورةَ تدعو إليه، وأيضاً فإنَّه من غعمال الأول وهو مذهبٌ مرجوح، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمر في الثاني وجوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورةِ شعرٍ عند بعضِهم كقوله:
(7/188)
---(1/2799)
2245- بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْـ * نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُه فأعمل "يُعْشي" ورفع به "شعاعُه" وحَذَفَ الضمير مِنْ "لمحوا" تقديره: لمحوه. وأجازه بعضُهم بقلةٍ في غير الشعر. والضمير في "به": إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن أبي القاسم، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك لأنه يذكَّر ويؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال "به" فذكَّر، وقال: "وتَبْغُونها عِوَجاً" فأنَّثَ، ومثلُه: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِيا}. وقد تقدم نحو قوله: "تَبْغونها عِوَجاً" في آل عمران فأغنى عن إعادته.
قوله: {وَاذْكُرُوااْ}: إمَّا أن يكون مفعولُه محذوفاً، فيكونَ هذا الظرفُ معمولاً لذلك المفعولِ أي: اذكروا نعمتَه عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن تجعلَ نفسَ الظرفِ مفعولاً به. قاله الزمخشري. وقال ابنُ عطية: "إن الهاء في "به" يجوز أن تعود على / شعيب عند مَنْ رأى أن القعودَ على الطرقِ للردِّ عن شعيب" وهو بعيدٌ لأنَّ القائل "ولا تَقْعدوا" هو شعيب، وحينئذ كان التركيب "مَنْ آمن بي" والادِّعاءُ بأنه من بابِ الالتفات بعيدٌ جداً؛ إذ لا يَحْيُن أن يُقال: "يا هذا أنا أقول لك: لا تُهِنْ مَنْ أَكْرَمَه" أي: مَنْ أكرمني.
قوله: "كيف" وما في َحيِّزها معلِّقَةٌ للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. والنظرُ هنا التفكُّرُ، و"كيف" خبر كان، واجبُ التقديم.
* { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِيا أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
(7/189)
---(1/2800)
قوله تعالى: {وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ}: عطف على "طائفة" الأولى، فهي اسم كان و "لم يؤمنوا" معطوفٌ على "آمَنوا" الذي هو خبر كان عَطَفَتْ اسماً على اسم وخبراً على خبر، ومثله لو قلت: "كان عبدُ الله ذاهباً وبكر خارجاً" عَطَفْتَ المرفوعَ على مثله وكذلك المنصوب. وقد حذف وَصْفَ "طائفة" الثانية لدلالة وَصْفِ الأولى عليه، إذ التقدير: وطائفةٌ منكم لم يؤمنوا، وحَذَفَ أيضاً متعلَّق الإِيمان في الثانية لدلالة الأول عليه، إذ التقديرُ: لم يؤمنوا بالذي أُرْسِلْتَ به، والوصفُ بقوله "منكم" الظاهر أو المقدر هو الذي سَوَّغ وقوعَ "طائفة" اسماً لـ "كان" من حيث إن الاسم في هذا الباب كالمبتدأ، والمبتدأ لا يكون نكرةً إلا بمسوغٍ تقدَّم التنبيه عليه.
قوله: {فَاصْبِرُواْ} يجوز أن يكونَ الضميرُ للمؤمنين من قومه، وأن يكونَ للكافرين منهم، وأن يكونَ للفريقين، وهذا هو الظاهرُ، أُمِر المؤمنون بالصبر ليحصُل لهم الظفرُ والغَلَبَةُ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقولِه تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} أو على سبيلِ التنازع معهم أي: اصبروا فستعلمون مَنْ ينتصر ومن يَغْلب، مع علمه بأن الغلبةَ له. و "حتى" بمعنى "إلى" فقط، وقوله: "بيننا" غَلَّب ضميرَ المتكلمِ على المخاطب، إذ المرادُ: بيننا جميعاً مِنْ مؤمنٍ وكافرٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ معطوفٍ تقديره: بيننا وبينكم.
* { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: عطفٌ على الكاف، و "يا شعيبُ" اعتراضٌ بين المتعاطفَيْن.
(7/190)
---(1/2801)
قوله: "أو لَتَعُودُنَّ" عَطَفَ على جواب القسم الأول، إذ التقدير: واللهِ لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ. فالعَوْدُ مسندٌ إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه. و "عاد" لها في لسانهم استعمالان: أحدهما - وهو الأصلُ - أنه الرجوعُ إلى ما كان عليه من الحال الأول. والثاني استعمالُها بمعنى صار، وحينئذ ترفعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبر، فلا تكتفؤ بمرفوعٍ وتفتقر إلى منصوب، وهذا عند بعضهم. ومنهم مَنْ منع أن تكون بمعنى صار، فمِنْ مجيئها بمعنى صار عند بعضهم قولُ الشاعر:
2246- وَرَبَّيْتُه حتى إذا ما تركتُه * أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُهْ
وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطا * إذا قام ساوى غاربَ الفحل غاربُهْ
فرفع بـ "عاد" ضميرَ الأول ونَصَبَ بها "جَعْداً"، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً، ولكن استشكلوا على كونِها بمعناها الأصلي أنَّ شعيباً صلى الله عليه وسلم لم يكنْ قطُّ على دينهم ولا في مِلَّتِهِمْ. فكيف يَحْسُن أن يُقال "أو لتعودُنَّ" أي: لَتَرْجِعُنَّ إلى حالتكم الأولى، والخطابُ له ولأتباعه؟ وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا القولَ مِنْ رؤسائهم قصدوا به التلبيسَ على العوام والإِبهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ. الثاني: أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالةِ سكوتِه قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفى إيمانه وهو ساكتٌ عنهم، يَرَى مِنْ معبودهم غيرَ الله. الثالث: تغليبُ الجماعةِ على الواحدِ لأنهم لمَّا صحبوه في الإِخراج سحبوا عليه وعليهم حكمَ العُوْد في الملَّة تغليباً لهم عليه. وأما إذا جَعَلْناها بمعنى صيَّر فلا إشكال في ذلك، إذ المعنى: لَتَصِيرُنَّ في ملَّتنا بعد أن لم تكونوا، / ففي مِلَّتنا حالٌ على الأول، خبر على الثاني، وعدَّى "عاد" بـ "في" الظرفيةِ كأن المِلَّةَ لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم.
(7/191)
---(1/2802)
قوله: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الاستفهامُ للإِنكار تقديره: أيوجدُ منكم أحدُ هذين الشيئين: أعني الإِخراج من القرية والعَوْد في الملَّة على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك؟ وقال الزمخشري: "الهمزةُ للاستفهام، والواوُ واو الحال تقديره: أتُعيدوننا في ملَّتكم في حال كراهتنا". قال الشيخ: "وليست هذه واوَ الحال بل واوُ العطف عَطَفَتْ هذه الحالَ على حالٍ محذوفة كقوله عليه السلام: "رُدُّوا السائل ولو بظِلْفٍ مُحْرَق" ليس المعنى: رُدُّوه حالَ الصدقة عليه بظِلْف مُحْرَق، بل معناه: رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف محرق. قلت: وقد تقدَّمتْ هذه المسألةُ وأنه يَصِحُّ أن تُسَمَّى واوَ الحال وواوَ العطف وتحريرُ ذلك، ولولا تكريرُه لما كرَّرْته. وقال أبو البقاء: "ولو هنا بمعنى "إنْ" لأنها للمستقبل، ويجوزُ أن تكونَ على أصلها، ويكون المعنى: لو كنَّا كارهين في هذه الحال. قوله "لأنها للمستقبل" ممنوع.
* { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ }
قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا}: شرطٌ جوابه محذوف عند الجمهور أي: فقد افترَيْنا، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه، وعند أبي زيد والمبرد والكوفيين هو قولُه: "فقد افترَيْنا"، وهو مردودٌ بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء. وقال أبو البقاء: "قد افترَيْنا بمعنى المستقبل لأنه لم يقع وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب "إنْ عُدْنا" وساغَ دخولُ "قد" هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراءَ عند العَوْد منزلةَ الواقع فَقَرنوه بقد، وكأنَّ المعنى: قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعَوْد".(1/2803)
(7/192)
---
وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها استئنافُ إخبارٍ فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري كأنه قيل: ما أَكْذَبَنا على الله إن عُدْنا في الكفر. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف حُذِفَت اللامُ منه، والتقديرُ: واللهِ لقد افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً. وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد:
2247- بَقَّيْتُ ما لي وانحرَفْتُ عن العُلَى * ولَقِيْتث أضيافي بوجهِ عبوس
قال: "كما تقول" افتريْتُ على الله إن كلَّمت فلاناً" ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيتَ الذي بعد هذا وهو محلًُّ الفائدة لأنه مشتملٌ على الشرط وهو:
إنْ لم أَشُنَّ على ابنِ هندٍ غارةً * لم تَخْلُ يوماً من نهابِ نفوسِ
قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا} منصوبٌ بـ "نعود" أي: ما يكون ولا يستقيمُ لنا عَوْدٌ بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} في هذا الاستثناء وجهان، أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطعٌ. ثم القائلون بالاتصال مختلفون فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأوقات العامة والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقتٍ من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصورٌ في حَقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياءَ لا يشاء الله ذلك لهم لأنه عَصَمهم. ومنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأحوال العامة. والتقدير: ما يكونُ لنا أن نعودَ فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى. وقال ابن عطية: "ويُحتمل أن يريدَ استثناءَ ما يمكن أن يَتَعَبَّد الله به المؤمنين ممَّا تفعلُه الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنَّا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يُتَعَبَّد الله بشيءٍ من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودةٌ إلى مِلَّتِنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أ، يُتَعَبَّدَ به".
(7/193)
---(1/2804)
قال الشيخ: "وهذا الاحتمالُ لا يَصِحُّ لأن قوله: "بعد إذ نجَّانا اللهُ منها" إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البِرِّ". قلت: قد حكى ابن الأنباري هذا القولَ عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإِرادة ثم قال: "وهذا القول مُتَنَاوَلُهُ بعيد، لأنَّ فيه تبعيضَ الملة" وقيل: هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب. قال ابن عطية: "ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبالِ الاستثناء، ولو كان الكلام "إلا إنْ شاء" قوي هذا التأويل". وهذا الذي قاله سهوٌ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد "إنْ" الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له بأَنْ المصدرية.
وقيل: الضمير في قوله "فيها" ليس عائداً على المِلَّة بل عائدٌ على الفِرْية، والتقدير: وما يكون أن نعودَ في الفِرْية إلا أن يشاءَ ربنا. وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه. وكرَّر هنا قوله "بيننا وبين قومنا" بخلاف / قوله {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} زيادةً في تأكيد تمييزه ومَنْ تبعه مِنْ قومه. وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حِمْير، وقيل بلغة مُراد وأنشد:
2248- ألا أبلغْ بني عُصْمٍ رَسُولاً * بأنِّي عن فَتَاحَتِكُمْ غنيُّ
قوله: "عِلْماً" نصبٌ على التمييز وهو منقولٌ من الفاعلية، تقديره: وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
}.
* { وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ }
(7/194)
---(1/2805)
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}: إذن حرفُ جوابٍ وجزاء، وقد تقدَّم الكلامُ عليها مُشْبعاً وخلافُ الناس فيها. وهي هنا معترضةٌ بين الاسم والخبر. وقد توهَّم بعضُهم فجعل "إذاً" هذه "إذا" الظرفية في الاستقبال نحو قولك: "أُلْزِمُك إذا جئتني" أي وقتَ مجيئك. قال: "ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافةُ هي إليها، والأصل: إنكم إذا ابتعتموه لخاسرون، فإذا ظرفٌ والعاملُ فيه "لخاسرون"، ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافُ إليها وهي اتبعتموه، وعُوِّضَ منها التنوين، فلما جيء بالتنوين وهو ساكنٌ التقى بمجيئه ساكنان هو والألفُ قبلَه، فحُذِفَت الألفُ لالتقاءِ الساكنين فبقي اللفظ "إذاً" كما ترى. وزم هذا القائل أن ذلك جائزٌ بالحَمْل على "إذا" التي للمضيّ في قولهم: "حينئذ" و "يومئذ" فكما أن التنوينَ هناك عوضٌ عن جملة عند الجمهور كذلك هنا. ورَدَّ الشيخ هذا بأنه لم يُثْبُتْ هذا الحكمُ لـ "إذا" الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه". قلت: وهذا ليس بلازمٍ إذ لذلك القائلِ أنْ يقولَ: قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قولُه تعالى: {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ
}. وقد رأيت كلام الشيخ شهاب الدين القرافي في قوله صلى الله عليه وسلم لَمَّا سألوه عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال: أينقص الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن: أن "إذن" هذه هي "إذا" الظرفية، قال: كالتي في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} فحُذِفَتِ الجملةُ، وذكره إلى آخره. وكنت لمَّا رأيته تعجَّبْتُ غاية العجب كيف يَصْدُر هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه، فذهب تعُّبني منه، فإن لم يكنْ ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في المسألة سَلَفٌ، وإلاَّ فقد اتَّحَدَ الأصل، والظاهرُ أنه غيره.
(7/195)
---(1/2806)
وقوله: "إنكم" هو جواب والقسم الموطَّأ له باللام. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما جواب القسم الذي وَطَّأَتْه اللامُ في قوله "لئن اتبعتم شعيباً" وجوابُ الشرط؟ قلت: قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} سادُّ مسدَّ الجوابين" قال الشيخ: "والذي قاله النحويون إنَّ جواب الشرط محذوفٌ لدلالةِ جواب القسم عليه، ولذلك وَجَبَ مُضِيُّ فعلِ الشرط. فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذِكْرِ جواب الشرط فهو قريبٌ. وإن عَنَى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم؛ لأن الجملة يمتنع أن لا يكون لها محل من الإِعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإِعراب". قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألة مِراراً واعتراضُ الشيخ عليه، وتقدَّم الجوابُ عنه فلا أُعيده اكتفاءً بما تقدم. ويعني الشيخُ بقوله "لأنَّ الجملة يمتنع أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب إلى آخره أنها من حيث كونُها جواباً للشرط يَسْتدعي أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب وهو الجزم، ومن حيث كونُها جواباً للقسم يستدعي أن لا يكونَ لها محلٌّ؛ إذ الجملةُ التي هي جوابُ القسم لا محلَّ [لها] لأنها من الجمل المستانفة المبتدَأ بها، وقد تقرَّر أن الجملةَ الابتدائية لا محلَّ [لها].
* { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ }
(7/196)
---(1/2807)
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً}: فيه خمسة أوجه، أحدُها: أن هذا الموصولَ في محل رفع بالابتداءِ وخبرُه الجملةُ التشبيهية بعده. قال الزمخشري: "وفي هذا الابتداءِ معنى الاختصاص كأنه قيل: الذين كَذَّبوا شُعَيْباً هم المخصوصون بأن أُهْلِكوا واسْتُؤْصلوا، كأنْ لم يُقيموا في دارهم، لأنَّ الذين اتَّبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى". قلت: قوله "يفيد الاختصاص" هو معنى قولِ الأصوليين: "يفيد الحصر" على خلاف بينهم في ذلك، غذا قلت: "زيد العالم"، والخلافُ في قولك "العالم زيد" أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ.
الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الموصول الثاني وخبره، / فإن الموصول الثاني مبتدأ، والجملةُ من قوله {كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ} في محل رفع خبراً له، وهو وخبرهُ خبر الأول، و {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ}: إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل "كذَّبوا". الثالث: أن يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعد خبرٍ عن الموصول الأول، والخبرُ الأولُ الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم. الرابع: أن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبلُ {الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} كأنه قال: "وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً" وقوله: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً} معمولٌ للقول فليس بأجنبي. الخامس: أنه صفةٌ له أي: للذين كفروا مِنْ قومه. هذه عبارةُ أبي البقاء، وتابعه الشيخ عليها. والأحسنُ أن يُقال: بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له، لأنه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل "كذَّبوا".
(7/197)
---(1/2808)
وأما الموصولُ الثاني فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً باعتبارين: أعني كونَه أولَ أو ثانياً، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل "يَغْنَوا" أو منصوباً بإضمار "أعني" أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً بنفسها. وعلى هذا الوجهِ ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداءَ يفيد الاختصاص قال: "أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دونَ أتباعه، وقد تقدَّم موضحاً.
وقوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} يَغْنَوْن: بمعنى يُقيمون يقال: غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً، وقيَّده بعضُهم بالإِقامة في عيشٍ رغد فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة. قال الأسود بن يعفر:
2249- ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ * في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ
وقيل: معنى الآيةِ هنا من الغِنى الذي هو ضد الفقر، قاله الزجاج فقال: "وغَنِي في مكان كذا: إذا طالَ مَقامُه فيه مُسْتَغْنياً به عن غيره".
* { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ }
قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى}: "كيف" هنا مثل "كيف" في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ}، وتقدَّم الكلامُ على "أَسي" وبابه. وقرأ ابن وثاب وابن مصرف والأعمش "إيسَى" بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعةٍ وقد تقدَّم أنها لغةُ بني أَخْيَل وحكاية ليلى الأخيلية في الفاتحة. ولزم من ذلك قَلْبُ الفاءِ بعدها ياءً؛ لأن الأصل: أَأْسى بهمزتين.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }
(7/198)
---(1/2809)
قوله تعالى: {إِلاَّ أَخَذْنَا}: هذا استثناءُ مفرَّغٌ، وأَخَذْنا في محلِّ نصب على الحال. والتقدير: وما أَرْسَلْنا إلا آخذين أهلها، والفعل الماضي لا يقع بعد "إلا" إلا بأحد شرطين: إمَّا تقدُّمِ فعلٍ كهذه الآية، وإمَّا أن يصحب "قد" نحو: ما زيد إلا قد قام، فلو فُقِد الشرطان امتنع فلا يجوز: ما زيد إلا قام.
* { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}: في "مكان" وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ به لأظرفٌ، والمعنى: بدَّلنا مكان الحال السيئة الحالَ الحسنة، فالحسنةُ هي المأخوذةُ الحاصلة، ومكان السيئة هو المتروكُ الذاهب، وهو الذي تَصْحبه الباءُ في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بعمرو، فزيد هو المأخوذ وعمرو المتروك، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة في موضعَيْن أوَّلهما: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} والثاني: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} فمكان والحسنة مفعولان، إلا أنَّ أحدهما وَصَلَ إليه الفعلُ بنفسه وهو الحسنة، والآخر بحذف حرف الجر وهو "مكان". والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، و التقدير: ثمَّ بَدَّلْنا في مكان السيئة الحسنة، إلا أن هذا ينبغي أن يُرَدَّ لأن "بَدَّلَ" لا بُدَّ له من مفعولين أحدهما على إسقاط الباء.
(7/199)
---(1/2810)
قوله: {حَتَّى عَفَوْاْ} "حتى" هنا غاية، وتقدير مَنْ قَدَّرها بـ إلى فإنما يريد تفسير المعنى لا الإِعراب، لأن "حتى" الجارة لا تباشرُ إلا المضارعَ المنصوبَ بإضمار "أن" لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ "أنْ" معه، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جر داخلةٌ على "أن" المصدرية أي: حتى أَنْ عَفَوا، وهذا الذي يَنْبغي أن يُحْمَلَ عليه قولُ / أبي البقاء: "حتى عَفَوا: إلى أنْ عفوا".
ومعنى "عَفَوا" هنا كَثُروا، مِنْ عفا السعر: إذا كَثُرَ، ومنه "واعْفُوا اللِّحى" يقال: عَفَاه وأَعْفاه ثلاثياً ورباعياً. قال زهير:
2250- أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ * عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ
وفي الحديث: "إذا عَفا الوَبَر وبَرأ الدبر فقد حلَّت العمرة لمن اعتمر" وأنشد الزمخشري على ذلك قول الحطيئة:
2251- بمستأسِدِ القُرْيان عافٍ نباتُه * ......................
وقول لبيد:
2252- ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها * بأسْوُقِ عافياتِ الشحم كُومِ
وهذا المادة قد تقدَّم تحقيقُها في البقرة.
قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} قال أبو البقاء: "هو عطفٌ على "عَفَوا". يريد: وما عطف عليه أيضاً، أعني أن الآخذ ليس متسَبِّباً عن العَفاء فقط، بل عليه وعلى قولهم تلكا لمقالةَ الجاهلية؛ لأنَّ المعنى ليس أنه لمجردِ كثرتِهم ونموّ أموالهم آخَذهم بغتةً بل بمجموعِ الأمرين، بل الظاهرُ أنه بقولهم ذلك فقط.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال أيضاً، وهي في قوة المؤكدة لأن "بغتة" تفيدُ إفادتَها، سواءً أَعْرَبْنا "بغتة" حالاً أم مصدراً.
* { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
(7/200)
---(1/2811)
وقد تقدَّم أن ابن عامر يقرأ "لفتَّحنا" بالتشديد، ووافقه هنا عيسى بن عمر الثقفي وأبو عبد الرحمن السلمي.
* { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ }
قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ}: قال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما المعطوف عليه، ولِمَ عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوفُ عليه قوله: "فَأَخَذْناهم بعتةً"، وقوله "ولو أنَّ أهل القرى إلى "يكسبون" وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عَطَفَتْ بالفاء لأن المَعْنى: فَعَلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة، أَبَعْدَ ذلك أَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً، وأَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضُحى". قال الشيخ: "وهذا الذي ذكره رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة، وذلك أن مذهبَه في الهمزة المصدرةِ على حرف العطف تقديرُ معطوف عليه بين الهمزة وحرفِ العطف،و مذهبُ الجماعة أن حرفَ العطف في نية التقدم، وإنما تأخَّر وقتدَّمَتْ عليه همزة الاستفهام لقوة تصدُّرها في أول الكلام"، وقد تقدَّم تحقيق هذا غيرَ مرة،و الزمخشري هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله "فأخذناهم بغتة".
قوله {بَيَاتاً" تقدَّم أولَ السورة أنه يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً.
قوله: {وَهُمْ نَآئِمُونَ} جملةٌ حالية، والظاهرُ أنها حال من الضمير المستتر في "بَيَاتاً" لأنه يتحمَّلُ ضميراً لوقوعه حالاً فتكون الحالان متداخلتين.
* { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }
(7/201)
---(1/2812)
قوله تعالى: {ضُحَىً}: منصوبٌ على الظرف الزماني، ويكون متصرفاً وغير متصرف، فالمتصرِّفُ ما لم يُرَدْ به وقتُه من يومٍ بعينه نحو: "ضُحاك ضحىً مبارك". فإن قلت: "أتيتك يوم الجمعة ضحىً" فهذا لا يَتَصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية، وهذه العبارةُ أحسنُ من عبارة الشيخ حيث قال: "ظرفٌ متصرف إذا كان نكرةً، وغيرَ متصرف إذا كان من يوم بعينه لأنَّه تَوَهَّم متى كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التعريف فإنه لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك، قال تعالى: {وَالضُّحَى} فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معرفة بأل، وقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} جرَّه بحرف القسم أيضاً مع أنه معرَّفٌ بالإِضافة، وهو امتداد الشمس وامتداد النهار.
ويقال: ضُحى وضَحاء، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وإذا فتحت مَدَدْتَ. وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقصرِ لأولِ ارتفاع الشمس، والضَّحاء بالفتح والمدّ لقوة ارتفاعها قبل الزوال. والضُّحى مؤنث، وشذُّوا في تصغيره على ضُحَيٌّ بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحاء أيضاً طعامُ الضحى كالغَداء طعام وقت الغُدْوَة يقال منهما: يُضَحِّي ضَحاءٌ وتَغَدَّى غَداءٌ. وضَحِيَ يَضْحَى إذا برز للشمسِ وقت الضحى، ثم عُبِّر به عن إصابة الشمس مطلقاً ومنه قولُه {وَلاَ تَضْحَى} أي لا تبرز للشمس. ويقال: ليلة أُضْحِيانَةٌ بضم الهمزة وضَحْياء بالمد أي: مضيئة إضاءة الضحى، والأُضْحِيَة / وجمعها أَضاحٍ، والضَّحيَّة وجمعها ضحايا، والأَضْحاة وجمعها أضْحَىً هي المذبوحُ يوم النحر، سُمِّيَتْ بذلك لذَبْحها ذلك الوقتَ لقوله عليه السلام: "مَنْ ذبح قبل صلاتِنا هذه فَلْيُعِدْ" وضواحي البلد نواحيه البارزة.
(7/202)
---(1/2813)
وقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ، وهذا يقوِّي أن "بياتاً" ظرف لا حال، لتتطابق الجملتان، فيصير في كل منهما وقتٌ وحال، وأتى بالحال الأولى متضمنةً لاسم فاعل لأنه يدلُّ على ثبات واستقرار وهو مناسب للنوم، وبالثانية متضمنةً لفعل؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث وهو مناسب لِلَّعب والهزل.
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير "أو" بسكون الواو والباقون بفتحها. ففي القراءة الأولى تكون "أو" بجملتها حرفَ عطف ومعناها حينئذ التقسيم. وزعم بعضهم أنها للإِباحة والتخيير. وليس بظاهر، وفي الثانية هي واو العطف دخلَتْ عليها همزةُ الاستفهام مقدمةً عليها لفظاً، وإن كانت بعدها تقديراً عند الجمهور. وقد عُرِف مذهب الزمخشري في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا التوبيخ والتقريع. وقال بعضهم: "إنه بمعنى النفي" كأبي شامة وغيره.
* { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
وكررت الجملة في قوله تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ}: "أفأمِنُوا" توكيداً لذلك، وأتى في الجملة الثانية بالاسم ظاهراً، وحَقُّه أن يضمر مبالغةً في التوكيد. ومعنى "مكر الله" أي إضافة المخلوق إلى الخالق كقولهم: ناقة الله وبيت الله، والمراد به فعلٌ يُعاقَبُ به الكفرة، وأُضيف إلى الله لَمَّا كان عقوبةَ الذنب، فإن العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نصٌّ في قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} قاله ابن عطية. قلت: وهو تأويل حسن، وقد تقدم لك في قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} أنه من باب المقابلة أيضاً. والفاءُ في قوله "فلا يأمَنُ" للتنبيه على أن العذاب يَعْقُب أَمْنَ مكرِ الله.
* { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }
(7/203)
---(1/2814)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ}: قرأ الجمهور "يَهْدِ" بالياء من تحت. وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه المصدر المؤول من "أنْ" وما في حَيِّزها، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير: أو لم يَهْدِ أي: يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك، فقد سَبَكْنا المصدر من "أنْ" ومن جواب لو. الثاني. أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي: أو لم يبيِّن الله، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ "نَهْدِ" بالنون. الثالث: أنه ضميرٌ عائد على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي: أو لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقة كقولهم: "إذا كان غداً فَأْتني" أي: إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق. وعلى هذين الوجهين فـ "أنْ" وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير: أو لم يُبَيِّن ويوضح الله أو ما جَرَى للأمم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.
وقرأ مجاهد "نَهْدِ" بنون العظمة و "أنْ" مفعول فقط، و "أنْ" هي المخففةُ من الثقيلة، "ولو" فاصلةٌ بينها وبين الفعل، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ. و "نشاء" وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً؛ لأنَّ "لو" الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ. وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنه قال في "ونطبعُ": "هذا فعلٌ مستأنف ومنقطع مما قبله، لأنَّ قولَه "أَصَبْنا" ماضٍ و "نَطْبع" مستقبل ثم قال: "ويجوز أن يكونَ معطوفاً على "أَصَبْنا" إذ كان بمعنى نُصيب، والمعنى: لو يشاء يصيبهم ويطبع، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى: {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ} أي يجعل، بدليل قوله "ويجعل لك". قلت: فهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ "لو" هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ له أيضاً، وسيأتي تحقيق ذلك عد قوله "ونطبع".
(7/204)
---(1/2815)
وقال الفراء: "وجاز أن تَرُدَّ "يَفْعل" على فَعَلَ في جواب "لو" كقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} قوله: "فَنَذَرُ" مردودٌ على "لقُضِي". قلت: وهذا هو قول الجمهور، ومفعولُ "يشاء" محذوفٌ لدلالة جواب "لو" عليه، والتقدير: لو يشاء تعذيبَهم أو الانتقامَ منهم. وأتى / جوابُها بغير لام وإن كان مبنيَّاً على أحد الجائزين، وإن كان الأكثرُ خلافَه، كقوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً
} . قوله: {وَنَطْبَعُ} في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها نسقٌ على "أَصَبْناهم" وجاز عطفُ المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أنَّ "لو" تُخَلِّصُ المضارع للمضيِّ، ولما حكى الشيخ كلامَ ابن الأنباري المتقدِّم قال: "فجعل "لو" شرطيةً بمعنى "إنْ" ولم يجعلها التي هي "لِما" كان سيقعُ لوقوع غيره، ولذلك جعل "أَصَبْنا" بمعنى نُصيب. ومثال وقوعِ "لو" بمعنى "إنْ" قوله:
2253- لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا * خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما
وهذا الذي قاله ابن الأنباري رَدَّه الزمخشري من حيث المعنى، لكن بتقديرِ أنْ يكونَ "ونطبعُ" بمعنى طَبَعْنا، فيكون قد عَطَفَ المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابنُ الأنباري جَعَلَ التأويل في "أَصَبْنا" الذي هو جوابُ "لو نشاء"، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ عليه وهو جوابُ "لو نشاء"، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ ورَدَّه إلى المُضِيِّ، وأنتج ردُّ الزمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يَصِحُّ".
(7/205)
---(1/2816)
قال الزمخشري: "فإن قلت: هل يجوز أن يكون "ونطبع" بمعنى طبَعْنا، كما كان "لو نشاء" بمعنى لو شِئْنا، ويعطف على "أَصَبْناهم"؟ قلت: لا يساعد على المعنى، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها". قال الشيخ: "وهذا الردُّ ظاهرهُ الصحةُ، وملخصه أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ سواء تأوَّلنا المعطوفَ عليه أم المعطوفَ، وجوابُ "لو" لم يقع بعدُ، سواءً كانت حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى "إنْ" الشرطية، والإِصابةُ لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقع فلا يَصحُّ أن تَعْطِفَ على الجواب. فنْ تُؤَوِّل "ونطبع" على معنى: ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعدُ وإن كان الطبع قد وقع". قلت: فهذا الوجه الأول ممتنع لِما ذكره الزمخشري.
الوجه الثاني: أنْ يكون "نطبع" مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي: ونحن نطبع. وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة.
الوجه الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "يرثون الأرض" قاله الزمخشري. قال الشيخ: "وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و "يرثون" صلةٌ للذين، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبين فإن قوله "أنْ لو نشاء": إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ".
(7/206)
---(1/2817)
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى "أو لم يهد لهم" كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخ: "وهو ضعيفٌ؛ لأنه إضمار لا يُحتاج إليه، إذ قد صَحَّ عطفُه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوفٌ على مجموع الجملة المصدَّرة بأداة الاستفهام، وقد قاله الزمخشري وغيره".
قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أتى بالفاء هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم.
* { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ}: قال الزمخشري: قَالَتْ {وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً} في كونه مبتدأ وخبراً وحالاً" يعني أن "تلك" مبتدأٌ مشارٌ بها إلى ما بعدها، و "القرى" خبرها، و "نقصُّ" حال أي قاصّين كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما معنى "تلك القرى" حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيد ولكن بالصفة في قولك: "هو الرجلُ الكريم". قلت: يعني أن الحالَ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب، كما تلزم الصفة في قولك: "هو الرجل الكريم" ألا ترى أنك لو اقتصرت على "هو الرجل" لم يكن مفيداً، ويجوز أن تكون "القرى" صفةٌ / لتلك، و "نقصُّ" الخبر، ويجوز أن يكون "نَقُصُّ" خبراً بعد خبر. و "نقصُّ" يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي: قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب. وفي قوله "القرى" بأل تعظيمٌ كقوله تعالى: "ذلك الكتابُ"، وقول الرسول عليه السلام: "أولئك الملأ من قريش". وقول أمية:
(7/207)
---(1/2818)
2254- تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ * شِيبا بماءٍ فاعدا بعدُ أبوالا
و "مِنْ" للتبعيض كما تقدَّم، لأنه إنما قَصَّ عليه عليه السلام ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما.
قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ} الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقال يمان بن رئاب: "إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في "كذَّبوا" لأسلافهم". وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي: فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْؤَ الفعل معها أبلغ. و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر "به" ون كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلِّق.
وقال هنا {بِمَا كَذَّبُواْ} فلم يذكر متعلق التكذيب،وفي يونس ذكره فقال: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ}، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله "ولكن كذَّبوا" استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فناسب ذكرَه موافقةٌ. قال معناه الكرماني.
قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} أي: مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم.
* { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ }
(7/208)
---(1/2819)
قوله تعالى: {لأَكْثَرِهِم}: الظاهر أنه متعلِّقٌ بالوِجْدان كقولك: ما وَجَدْت له مالاً أي: ما صادَفْتُ له مالاً ولا لَقِيْتُه. الثاني: أن يكون حالاً من "عهد" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها نُصِب على الحال، والأصل: وما وَجَدْنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره. وعلى هذين الوجهين فـ "وجد" متعدية لواحد وهو "مِنْ عهد"، و "مِنْ" مزيدة فيه لوجودِ الشرطين. الثالث: أنه في محل نصب مفعولاً ثانياً لوجد إذ هي بمعنى عِلْمية، والمفعول هو "من عهد". وقد يترجَّح هذا بأن "وَجَد" الثانيةَ عِلْمية لا وِجْدانية بمعنى الإِصابة، وسيأتي دليل ذلك. فإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكونَ الأولى كذلك مطابقةً للكلام ومناسبة له. ومَنْ يرجِّح الأولَ يقول: إنَّ الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر.
قوله: {وَإِن وَجَدْنَآ} "إنْ" هذه هي المخففة، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها. وقال الزمخشري: "وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا" فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر والشأن. وقد صَرَّح أبو البقاء هنا بأنها معملةٌ وأن اسمَها محذوفٌ، إلا أنه لم يقدِّره ضميرَ الحديث بل غيرَه. فقال: "واسمُها محذوفٌ أي: إنَّا وجدنا" وهذا مذهب النحويين أعني اعتقادَ إعمالِ المخففِ من هذه الحروفِ في "أنْ" المفتوحة على الصحيح وفي "كأنْ" التشبيهية، وأما "إنْ" المخففةُ المكسورةُ فلا. وقد تقدَّم ذلك بأوضح من هذا.
(7/209)
---(1/2820)
ووجد هنا متعديةٌ لاثنين أولهما "أكثرهم"، والثاني "لَفاسقين". قال الزمخشري: "والوجودُ بمعنى العلم من قولك: "وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ" بدليل دخول "إنْ" المخففة،واللامُ الفارقة،ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما" يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له،وهذا مذهب الجمهور، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش: أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك. واللام فارقةٌ. وقيل: هي عوضٌ من التشديد. قال مكي: "ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد". والمحذوفُ الأول. وتقدَّم / الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون "إنْ" نافيةً، واللامَ بمعنى "إلا" في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً
} .
* { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
(7/210)
---(1/2821)
قوله تعالى: {فَظَلَمُواْ بِهَا}: يجوز أن يُضَمَّن "ظلموا" معنى كفروا فيتعدَّى بالباء كتعديته. ويؤيِّده وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. ويجوز أن تكون الباءُ سببيةٌ، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: فظلموا أنفسَهم، أو ظلموا الناس بمعنى صَدُّوهم عن الإِيمان بسبب الآيات. وقوله "لأكثرهم" و "أكثرهم" و "مِنْ بعدهم": إن جعلنا هذه الضمائرَ كلَّها للأممِ السالفة فلا اعتراض، وإن جَعَلْنا الضميرَ في "لأكثرهم" و "أكثرهم" فعمومِ الناس والضميرَ في "من بعدهم" للأمم السالفة كانت هذه الجملةُ - أعني "وما وجدنا" - اعتراضاً. كذا قاله الزمخشري، وفيه نظر: لأنه إذا كان الأولُ عاماً ثم ذُكِر شيء يندرج فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصَّين. وأيضاً فالنحويون إنما يُعَرِّفون الاعتراض فيما اعتُرض به بين متلازِمَيْن، إلا أنَّ أهلَ البيان عندهم الاعتراضُ أعمُّ من ذلك، حتى إذا أُتي بشيء بين شيئين مذكورَيْن في قصة واحدة سَمَّوْه اعتراضاً.
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} "كيف" خبرٌ لكان مقدَّمٌ عليها واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ، و "عاقبة" اسمها، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ حرف الجر إذ التقديرُ: فانظر إلى كذا.
* { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ }
(7/211)
---(1/2822)
قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ}: قرأ العامة "على أَنْ" بـ "على" التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها. ونافع قرأ "عليَّ" بـ "على" التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها. ونافع قرأ "عليَّ" بـ "على" التي هي حرف جر داخلة على ياء المتكلم. فأمَّا قراءةُ العامة ففيها ستة أوجه، ذكر الزمخشري منها أربعة، قال رحمه الله: "وفي المشورة إشكالٌ، ولا يخلو من وجوه، أحدها: أن تكون مِمَّا قُلب من الكلام كقوله:
2255- .................... * وتَشْقى الرماحُ بالضَّياطرة الحُمْرِ
معناه: وتشقى الضياطرةُ بالرماح. قال الشيخ: "وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه". قلت: وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفصيلُ: بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ، أو لا فيمتنعَ، وقد تقدَّم إيضاحهُ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز. وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل: قولُ الحق حقيقٌ عليَّ، فقلبَ اللفظَ فصار: أنا حقيقٌ على قَوْل الحق". قال: "والثاني: أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق أي لازماً له، والثالث: أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن "هَيَّجني" معنى ذكَّرني في بيت الكتاب، الرابع: أن تكون "على" بمعنى الباء". قلت: وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي. قالوا: إنَّ "على" بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي: على كل. وقال الفراء: "العربُ تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة. إلا ن الأخفشَ قال: "وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت: ذهبت على زيد تريد: بزيدٍ لم يجز". قلت: ولأنَّ مذهب البصرييين عدمُ التجوُّز في الحروف، وعَنَى بالبيت قولَ الشاعر:
(7/212)
---(1/2823)
2256- إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني * ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار
وبالكتاب كتابَ سيبويه فإنه عَلَمٌ بالغلبة عند أهل هذه الصناعة. الخامس: - وهو الأَوْجَهُ والأَدْخَلُ في نُكت القرآن - أن يُغْرِق موسى عليه السلام في وصفِ نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى: إني رسولٌ من رب العالمين قال له: كَذَبْت، فيقول: أنا حقيقٌ على قولِ الحق أي: واجبٌ عليَّ قولُ الحق أن أكونَ أنا قائلَه، والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به". قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ هذا الوجهُ إلا إنْ عَنَى أنه يكون "أن لا أقول" صفةٌ له كما تقول: أنا على قول الحق أي: طريقتي وعادتي قول الحق. السادس: أن تكون "على" متعلقةً بـ "رسول". قال ابن مقسم: / "حقيقٌ من نعت "رسول" أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلَتُ على أنْ أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق "على" برسول، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا بـ "حقيق".
قال الشيخ: "وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في "على" "أرسلت" وقال أخيراً: "لأنهم غَفَلوا عن تعليق "على" بـ "رسول". فأمَّا هذا الأخيرُ فلا يجوز عند البصريين لأنَّ "رسولاً" قد وُصِف قبل أن يأخَذَ معمولَه، وذلك لا يجوز، وأمَّا تعليقُه بأرسلت مقدَّراً لدلالةِ لفظ "رسول" عليه فهو تقديرٌ سائغ. ويُتَأَوَّل كلامه أنه أراد بقوله تُعَلَّقُ "على" بـ "رسول" أنه لمَّا كان دالاً عليه صَحَّ نسبةُ التعلُّق له" قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم: "والأوجهُ الأربعة التي للزمخشري. ولكن هذه وجوه متعسِّفة،و ليس المعنى إلا على ما ذكرته أولاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ من إعمالِ اسم الفاعلِ أو الجاري مَجْراه وهو موصوف.
(7/213)
---(1/2824)
وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه "حقيق"، و "عليَّ" خبر مقدم، و "أنْ لا أقول" مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل: عليَّ عدمُ قول غير الحق أي: فلا أقول إلا الحق. الثاني: أن يكون "حقيق" خبراً مقدَّماً، و "أن لا أقول" مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه. الثالث: "أَنْ لا أقول" فاعِلٌ بـ "حقيق" كأنه قيل: يحقُّ ويجب أن لا أقول، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق "عليَّ" بـ "حقيق" لأنك تقول: "حَقَّ عليه كذا". قال تعالى: "أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ". وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة.
وأمَّا رفع "حقيق" فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون خبراً مقدماً، ويجوزُ أن يكونَ صفةً لـ "رسول"، وعلى هذا فيضعف أن يكون "مِنْ رب" صفةً لئلا يلزمَ تقديمُ الصفةِ غيرِ الصريحة على الصريحة، فينبغي أن يكونَ متعلَّقاً بنفس "رسول"، وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية مجازاً ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ويجوز أن يكونَ مبتدأً وما بعدَه الخبرُ على قراءةِ مَنْ شَدَّدَ الياء، وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرة حينئذ تَعَلُّقُ الجارِّ بها.
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجه، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ الظاهرُ أنه يحتمل الأمرين مطلقاً، أعني على قراءة نافع وعلى قراءة غيره. وقال الواحدي ناقلاً عن غيره: "إنه مع قراءة نافعٍ مُحتمل للأمرين، ومع قراءة العامة بمعنى مفعول فإنه قال: "وحقيق على هذا القراءة - يعني قراءة نافع - يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، قال شمر: تقولُ العرب: "حَقَّ عليّ أن أفعل كذا". وقال الليث: حقَّ الشيء معناه وَجَبَ، ويحق عليك أن تفعلَه، وحقيقٌ عليَّ أن أفعله، فهذا بمعنى فاعل" ثم قال: "وقال الليث: وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تقول: فلان مَحقوقٌ عليه أن يفعل. قال الأعشى:
(7/214)
---(1/2825)
2257- لمَحْقوقَةٌ أن تستجيبي لِصَوْتِه * وأن تعلمي أنَّ المُعَانَ مَوَفَّقٌ
وقال جرير:
2258- ..................... * قَصِّرْ فإنك بالتقصيرِ محقوقُ
ثم قال: "وحقيق على هذه القراءة - يعني قراءة العامة - بمعنى محقوق" انتهى.
وقرأ أُبَيٌّ "بَأَنْ لا أقول" وهذه تُقَوِّي أنَّ "على" بمعنى الباء. وقرأ عبد الله والأعمش "أنْ لا أقول" دون حرف جر، فاحتمل أن يكونَ ذلك الجارُّ "على" كما هو قراءة العامة، وأن يكون الجارُّ الباءَ كما هو قراءة أبيّ.
و"الحقَّ" يجوز أن يكون مفعولاً به لأنه يتضمَّن معنى حَمَّله، وأن يكونَ منصوباً على المصدر أي: القول الحقَّ، والاستثناءُ مفرغ.
* { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ}: "إذا" فجائية. وقد تقدَّم أن فيها ثلاثةَ مذاهب: ظرفُ مكان/ أو زمان أو حرف. قال ابن عطية: "وإذا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبراً عن جثة، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرفٌ زمان في كل موضع". قلت: المشهورُ عند الناس قولُ المبرد وهو مذهبُ سيبويه. وأمَّا كونُها زماناً فهو مذهب الرياشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً. وقوله "من حيث كانت خبراً عن جثة" ليست هي هنا خبراً عن جثة، بل الخبرُ عن "هي" لفظُ "ثعبان" لا لفظ "إذا".
(7/215)
---(1/2826)
والثُّعْبان هو ذَكَر الحَيَّاتِ العظيم. واشتقاقهُ مِنْ ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرتُه بالماء، شُبِّه في انسيابه بانسياب الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماء فجَّرْتُه فانثعب. ومنه مَثْعَبُ المطر. وفي الحديث: "جاء يومَ القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دماً". وهنا سؤالٌ وجوابُه، وَصَفَها تارة بكونها ثعباناً وهو العظيم الهائل الخَلْق، وفي موضع آخر بقوله {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} والجانُّ من الحيَّات الخفيفُ الضئيلُ الخَلْقِ" فكيف يُجْمَعُ بين هاتين الصفتين؟ وقد أجاب الزمخشري في غيرِ هذا المكان بجوابين، أحدهُما: أنه جَمْعٌ لها بين الشيئين: أي كِبَرِ الجثة كالثعبان و بين خفةِ الحركة وسرعةِ المشي كالجانّ. والثاني: أنها في ابتداء أمرها تكون كالجانِّ ثم تتعاظم وتتزايد خَلْقُها إلى أن تصيرَ ثعباناً.
* { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ }
قوله تعالى: {لِلنَّاظِرِينَ}: متعلِّقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لبيضاء. وقال الزمخشري: "فإن قلت: بم تُعَلِّق للناظيرن؟ قلت: يتعلَّقُ بـ "بيضاء" والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظَّارة، ولا تكون بيضاءَ للنَّظارة غلا إذا كان بياضُها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ، يجتمعُ الناسُ للنظر إليه كما تجتمع النَّظارة للعجائب". وهذا الذي ذكره أبو القاسم تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعراب، وكيف يريدُ تفسيرَ الإِعراب؟ وإنما أراد التعلُّقَ المعنويَّ لا الصناعي، كقولهم: هذا الكلامُ يتعلَّق بهذا الكلام. أي إنه من تتمَّةِ المعنى له. وقال في هذه السورة:
* { قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
* {قَالَ الْمَلأُ}
(7/216)
---(1/2827)
: فأسند القولَ إليهم. وفي الشعراء: "قال للملأ" فأسند إلى فرعون. وأجاب الزمخشري عن ذلك بثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ هذا الكلامُ صادراً منه ومنهم، فحكى هنا عنهم وفي الشعراء عنه. والثاني: أنه قاله ابتداءً وتلقَّنه عنه خاصَّته فقالوه لاعقابهم. والثالث: أنهم قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما يفعل الملوكُ، يَرَى الواحدُ منهم الرأيَ فيبلِّغه الخاصة ثم يبلغوه لعامتهم. وهذا الثالث قريبٌ من الثاني في المعنى.
وقرأ الأخوان هنا وفي يونس: "بكل سَحَّارٍ" والباقون: "بكل ساحر". ولا خلافَ أن الذي في الشعراء "بكل سَحَّارٍ". وساحر وسَحَّار مثل عالم وعَلاَّم، وقد عُرِف أن فعَّالاً مثال مبالغة. ويُرَجِّح "سَحَّار" أنه مجاوزٌ لعليم، وكلاهما مثال مبالغة. ويرجح "ساحر" أنه تقدَّم مثلُه في قوله "إنَّ هذا لساحر" وهذا مناسب له.
* { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }
وفي الشعراء: "بسحره" وهنا بدون "ذلك". قالوا: لأنَّ أولَ هذه الآيةِ مبنيٌّ على الاختصار.
(7/217)
---(1/2828)
قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} قد تقدَّم الكلامُ على "ماذا" مُسْبَقاً في أول هذا التصنيف. والجمهور على "تأمرون" بفتح النون. وروى كردم عن نافع كسرَها. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكونَ "ماذا" كلُّه اسماً واحداً في محل نصب على أنه مفعول ثان لـ "تأمرون" بعد حَذْفِ الياء، ويكون المفعول الأول لـ "تأمرون" محذوفاً وهو ياءُ المتكلم، والتقديرُ: بأيِّ شيء تأمرونني؟ وعلى قراءة نافع لا تقول: إن المفعولَ الأولَ محذوفٌ بل هو في قوة المنطوق به؛ لأن الكسرةَ دالةٌ عليه، فهذا الحذفُ غيرُ الحذفِ في قراءة الجماعة. ويجوز أن تكونَ "ما" استفهاماً في محلِّ رفعٍ بالابتداء و "ذا" موصول، وصلتُه "تأمرون"، والعائدُ محذوفٌ، والمفعولُ الأولُ أيضاً محذوف على قراءة الجماعة، وتقدير العائد منصوبُ المحل غيرُ مُعَدَّى إليه بالباء فتقديره: فما الذي تأمرونيه؟
وقدَّره ابن عطية: "تأمروني به"، وردَّ عليه/ الشيخ بأنه يلزم من ذلك حَذْفُ العائد المجرور بحرفٍ لم يُجَرَّ الموصولُ بمثله، ثم اعتَذَر منه، بأنه أراد التقدير الأصلي، ثم اتُّسِعَ فيه بأنْ حُذِف الحرف فاتصل الضميرُ بالفعل. وهذه الجملةُ هل هي من كلام الملأ، ويكونون قد خاطبوا فرعون بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطَبُ الملوك بصيغة الجمع، أو يكونون قالوه له ولأصحابه، أو يكون من كلام فرعون على إضمار قولٍ أي: فقال لهم فرعونُ فماذا تأمرون، ويؤيِّد كونَها من كلام فرعون قولُه تعالى: "قالوا: أرْجِهْ".
وهل "تأمرون" من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقولٌ عن ابن عباس. وقال الزمخشري: "هو مِنْ أمَرْتُه فأمرني بكذا أي: شاورته فأشار عليَّ برأي".
* { قَالُوااْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ }
(7/218)
---(1/2829)
قوله تعالى: {أَرْجِهْ}: في هذه الكلمة هنا والشعراء ست قراءات في المشهور المتواتر، ولا التفاتَ إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمَنْ أنكر على راويها. وضبطُ ذلك أن يقال: ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه، فأمَّا لاثلاث التي مع الهمز فأوّلُها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أَرْجِئْهو بهمزةٍ ساكنة وهاء متصلة بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو. الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أَرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة مِنْ غير صلة. وأمَّا الثلاثُ التي مع غير الهمز فأوَّلها قراءة عاصم وحمزة: أَرْجِهْ بكسرِ الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً. الثانية قراءة الكسائي: أَرْجِهي بهاء متصلة بياء. الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء.
فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلغتان مشهورتان يقال: أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قُرِئ قوله تعالى: {تُرْجي من تشاء} بالهمز وعدمِه. وهذا كقولهم: توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ. وهل هما مادتان أصليتان أم المبدلُ فرع الهمز؟ احتمالان.
وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسيُّ: "ضمُّ الهاءِ مع الهمز لا يجوزُ غيرُه، وروايةُ ابن ذكوان عن ابن عامر غلطٌ". وقال ابن مجاهد: "وهذا لا يجوز، لأن الهاءَ لا تُكسَرُ إلا بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة". وقال الحوفي: "ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهمز وليس بجيد". وقال أبو البقاء: "ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمزِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ فليس قبلَ الهاءِ ما يقتضي الكسر".
(7/219)
---(1/2830)
قلت: وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدُهما: أن الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ، وله شواهدُ مذكورةٌ في موضعها، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَت الجيمَ المكسورةَ فلذلك كُسِرت. الثاني:أن الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأ عليها التغييرُ، وهي هنا في مَعْرِض أن تُبْدلَ ياءً ساكنة لسكونِها بعد كسرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنة فلذلك كُسِرَتْ.
وقد اعترض أبو شامةَ على هذين الجوابين بثلاثة أوجه. الأول: أن الهمزَ معتدٌّ به حاجزاً بإجماع في {أَنبِئْهُمْ} و {نَبِّئْهُمْ}، والحكمُ واحدٌ في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم. الثاني: أنه كان يلزمُهُ صلةُ الهاء إذ هي في حكمٍ كأنها قد وَلِيت الجيم. الثالث: أن الهمزَ لو قُلِبَ ياءً لكان الوجهُ المختارُ ضمُّ الهاء مع صريح الياء نظراً إلى أنَّ أصلَها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاءَ مع صريح الهمزة. وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام، فضمُّ الهاء مع الهمزة هو الوجه.
(7/220)
---(1/2831)
واستضعف أبو البقاء قراءةَ ابن كثير وهشام فإنه قال: "وأَرْجِئْه" يُقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد، وبالإِشباع وهو ضعيف؛ لأن الهاء خفيَّة، فكأن الواوَ التي بعدها تتلو الهمزةَ، وَهو قريبٌ من الجمع بين الساكنين، ومن ههنا ضَعُف قولُهم: "عليهي مال" بالإِشباع". قلت: وهذا التضعيفُ ليس بشيء لأنها لغةٌ ثابتةٌ عن العرب أعني إشباعَ حركةِ الهاء بعد ساكن مطلقاً،وقد تقدَّم أن هذا أصلٌ لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللفظة، بل قاعدتُه: كلُّ هاءِ كنايةٍ بعد ساكن أن يُشْبع حركتَها حتى يتولَّد منها حرفُ مَدٍّ نحو: "مِنْهو وأرجِئْهو" إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنين نحو: "مِنْهو وعَنْهو وأرجِئْهو" إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءش الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو {عَنْهُ تَلَهَّى} بتشديد التاء، وكذلك استضعف الزجاج قراءة حمزة وعاصم. قال بعدما أنشد قول الشاعر/:
2259- لمَّا رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ * مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ
"هذا شعرٌ لا يُعرف قائلُه ولا هو بشيءٍ، ولو قاله شاعرٌ مذكور لقيل له: أخطأت، لأن الشاعر يجوز أن يخطئ، وهذا مذهبٌ لا يُعَرَّج عليه". قلت: قد تقدَّم أن تسكينَ هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدَّم شواهدها فلا حاجةَ إلى إعادة ذلك.
وقوله "وأخاه" الأحسنُ أن يَكون نسقاً على الهاء في "أَرْجِهْ"، ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة لإمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي.
(7/221)
---(1/2832)
قوله: {فِي الْمَدَآئِنِ} متعلقٌ بأَرْسِلْ، و "حاشرين" مفعول به، ومفعولُ "حاشرين" محذوفٌ أي: حاشرين السحرة بدليل ما بعده. والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الصحيح - أن وزنها فَعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة، مشتقة مِنْ مدَن يمدُن مُدوناً أي: أقام. واستُدِلَّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن، ولو كانت مَفْعِلة لم تُهْمَزْ نحو: معيشة ومعايش، ولأنهم جمعوها أيضاً على مُدُن كقولهم: سفينة وسُفُن وصحيفة وصُحُف. قال الشيخ: "ويَقْطع بأنها فَعيلة جَمْعُهم لها على فُعُل قالوا: مُدُن، كما قالوا: صحف في صحيفة".
قلت: قد قال الزجاجي: "المدن في الحقيقة جمع المَدِين، لأن المدينة لا تُجمع على مُدُن، ولكن تجمع على المدائن ومثل هذا: سُفُن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سُفُن". ولا أدري ما حَمَله على جَعْل مُدُن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطِّراد فُعُل في فعيلة لا بمعنى مَفْعولة، اللهم إلا أن يكونَ قد لَحَظَ في مدينة أنها فعيلة بمعنى مفعولة لأنَّ معنى مدينة أن يُمْدَن فيها أي: يُقام، ويؤيد هذا ما سيأتي من أن مدينة وزنُها في الأصل مَدْيُوْنة عند بعضهم.
القول الثاني: أن وزنها مَفْعِلة مِنْ دانه يَدينه أي: ساسه يَسُوسه فمعنى مدينة أي: مملوكة ومَسُوسة أي: مسوسٌ أهلُها، مِنْ دانهم مَلِكُهم إذا ساسهم، وكان ينبغي أن يُجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب.
الثالث: أن وزنها مَفْعولة وهو مذهب أبي العباس. قال: "هي مِنْ دانه يَدينه إذا ملكه وقَهَره، وإذا كان أصلُها مَدْيونة فأُعِلَّت كما يُعَلُّ مَبِيع اسمَ مفعول من البيع، ثم يجري الخلافُ في المحذوف: هل هو الياءُ الأصلية أو الواو الزائدة؟ الأول قول الأخفش، والثاني قولُ المازني وهو مذهب جماهير النحاة. والمدينة معروفةٌ وهي البقعة المُسَوَّرة المستولي عليها مَلِكٌ.
(7/222)
---(1/2833)
* { وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوااْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }
قوله تعالى: {قَالْوااْ إِنَّ لَنَا}: في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها لامحلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر، ولذلك لم تُعْطَفْ بالفاء على ما قبلها. قال الزمخشري: "فإن قلت: هلاقيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا. قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقوله: قالوا أإن لنا لأجراً"، وهذا قد سبقه إليه الواحدي، إلا أنه قال: "ولم يقل فقالوا، لأن المعنى لما جاؤوا قالوا، فلم يَصِحَّ دخولُ الفاءِ على هذا الوجه". والوجه الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "جاؤوا" قاله الحوفي.
وقرأ الحَرَمِيَّان وحفص عن عاصم "إنَّ" بهمزة واحدة، والباقون بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمِه. فقراءةُ الحَرَمِيَّيْن على الإِخبار، وجوَّز الفارسي أن تكونَ على نية الاستفهام يدل عليه قراءة الباقين، وجَعَلوا ذلك مثلَ قولِه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} وقولِ الشاعر:
2260- أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرام وأنْ * .........................
وقول الآخر:
2261- .................... * ............وذو الشيب يلعبُ
وقد تقدم تحقيق هذا وأنه مذهب أبي الحسن. ونكَّر "أجراً" للتعظيم. قال الزمخشري: "كقولهم: إنَّ له لإِبلاً وإن له لغنماً".
قوله: {إِن كُنَّا} شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالة عليه عند الجمهور، أو ما تقدَّم عند / مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ الشرط عليه. و "نحن" يجوز فيه أن يكونَ تأكيداً للضمير المرفوع، وأن يكون فَصْلاً فلا محلَّ له عند البصريين، ومحلُّه الرفعُ عند الكسائي، والنصب عند الفراء.
* { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }
(7/223)
---(1/2834)
قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}: هذه الجملةُ نَسَقٌ على الجملة المحذوفةِ التي نابَتْ "نعم" عنها في الجواب، إذ التقدير: قال نعم إن لكم لأجراً وإنَّكم لمن المقربين.
* { قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ }
قوله تعالى: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}: "إمَّا" هنا للتخيير، ويُطْلق عليها حرفُ عطف مجازاً. وفي محل "أَنْ تلقي وإما أَنْ نكون" ثلاثة أوجه، أحدها النصبُ بفعلٍ مقدر أي: افعل إمَّا إلقائك وإمَّا إلقاءنا، كذا قدَّره الشيخ. وفيه نظر لأنه لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي: اختر إمَّا إلقاءك وإمَّا إلقاءنا. وقدَّره مكي وأبو البقاء، فقالا: "إمَّا أن تفعل الإِلقاء" قال مكي: "كقوله:
2262- قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا * ...............
إلا أنه جَعَلَ النصبَ مذهبَ الكوفيين. الثاني: الرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمر تقديرُه: أَمْرُك إمَّا إلقاؤك وإمَّا إلقاؤُنا. الثالث: أن يكون مبتدأً خبرُه محذوفٌ تقديرُه: إمَّا إلقاؤك مبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به، وإنما أتى هنا بـ "أَنْ" المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ} لأنَّ "أَنْ" وما بعدها هنا: إمَّا مفعولٌ وإمَّا مبتدأٌ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً، بل لا بد أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسم، وأمَّا آيةُ التوبة فالفعلُ بعد "إمَّا": إمَّا خبرٌ ثان لـ آخرون، وإمَّا صفةٌ له، والخبرُ والصفةُ يقعان جملةً فعليةً مِنْ غير حرف مصدري.
وحُذِف مفعولُ الإِلقاء للعلم بهِ والتقدير: إمَّا أَن تُلْقيَ حبالَكَ وعِصِيَّك، - لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفِعْلهم - أو نلقي حبالَنا وعِصِيَّنا.
(7/224)
---(1/2835)
* { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوااْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
قوله تعالى: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ استفعل فيه بمعنى أفعل، أي: أرهبوهم، وهو قريبٌ مِنْ قولهم: قرَّ واستقرَّ وعَظَّم واستعظم وهذا رأي المبرد. ويجوز أن تكون السينُ على بابها أي: استدعوا رهبةَ الناس منهم، وهو رأي الزجاج.
* { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }
قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ}: يجوزُ أن تكونَ المفسِّرة لمعنى الإِيحاء، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً، فتكون هي وما بعدها مفعولَ الإِيحاء.
قوله: {تَلْقَفُ} قرأ العامة "تَلَقَّفُ" بتشديدٍ، مِنْ تلقَّفَ يتلقَّفُ، والأصل: "تَتَلَقَّفُ" بتاءين فحذفت إحداهما: إمَّا الأولى وإما الثانية، وقد تقدَّم ذلك في نحو "تَذَكَّرون". والبزِّي على أصلِه في إدغامها فيما بعدها، فيقرأ {فإذا هي تَّلقَّفُ} بتاءين فحذفت إحداهما: إمَّا الأولى وإما الثانية، وقد تقدَّم ذلك في نحو {تَتَذَكَّرُونَ}. والبزِّي على أصلِه في إدغامها فيما بعدها، فيقرأ {فإذا هي تَّلقَّفُ} بتشديد التاء أيضاً، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ}. وقرأ حفص "تَلْقَف" بتخفيف القاف مِنْ لَقِفَ كـ عَلِم يعلم ورَكِب يركب، يقال: لَقِفْتُ الشيء أَلْقَلفُه لَقْفاً ولَقَفاناً، وتَلَقَّفْتُه أَتَلَقَّفُه تَلَقُّفاً إذا أخذتَه بسرعة فأكلته أو ابتلعته، وفي التفسير: أنها ابتلعَتْ جميعَ ما صنَعُوه، وأنشدوا على لَقِف يلقَف كـ عَلِم يَعْلَم قول الشاعر:
2263- أنت عصا موسى التي لم تَزَلْ * تَلْقَفُ ما يَصْنَعُه السَّاحر
ويقال: رجلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ وثقيف لقيف بَيِّنُ الثقافة واللَّقافة. ويقال: لَقِفَ ولَقِم بمعنى واحد قاله أبو عبيد. ويقال: لَقِف ولَقِم ولَهِم بمعنى واحد.
(7/225)
---(1/2836)
والفاء في "فإذا هي" يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ، ولا بد من حذف جملةٍ قبلها ليترتَّب ما بعد الفاء عليها، والتقدير: فألقاها فإذا هي، ومَنْ جَوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو "خرجت فإذا الأسدُ حاضر" جَوَّز زيادتَها هنا، وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أُوْحِيَتْ إلى موسى كالتي قبلها، وأمَّا على الأول - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه.
و "ما يأفِكون" يجوزُ في "ما" أن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ أي: الذي يأْفِكونه، ويجوز أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً، والمصدرُ حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، وهذا لا حاجةَ إليه.
* { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وكذلك قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: يجوزُ أنْ تكونَ بمعنى الذي، وأن تكونَ مصدريةً أي: وبَطَل الذي / كانوا يعملونه أو عَمَلُهم، وهذا المصدرُ يجوز أَنْ يكونَ على بابه وأن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعولِ به بخلاف "ما يَأفِكون" فإنه يَتَعَيَّن أن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعول به ليصِحَّ المعنى إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يَصِحُّ تسلُّطُه عليها. وقال الفراء في هذه الآيات: "كيف صَحَّ أن يأمرَهم موسى بقوله: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} مع أن إلقاءَهم سحر وكفر؟ وأجاب بأن المعنى: أَلْقوا إن كنتم مُحِقِّين، وأَلْقوا على ما يَصِحُّ ويجوز". انتهى. والظاهر إنما أَمَرَهم بذلك تعجيزاً لهم وقطعاً لشَغَبهم واستطالتهم، ولئلا يقولوا: لو تُرِكنا نفعل لَفَعَلْنا، ولأنَّ الأمرَ لا يستلزم الإِرادة.
* { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }
(7/226)
---(1/2837)
قوله تعالى: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ}: "هنالك يجوز أن يكونَ مكاناً، أي: غُلبوا في المكان الذي وَقَع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر. قيل: ويجوز أن يكونَ زماناً، وهذا ليس أصلَه، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى بقولِه تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}، ويقول الآخر:
2264- .................. * فهناك يَعْترفون أين المَفْزَعُ
ولا حُجًَّةَ فيهما؛ لأن المكان فيهما واضح.
قوله: {صَاغِرِينَ} حالٌ من فاعل "انْقَلبوا"، والضمير في "انقلبوا" يجوز أن يعودَ على قومِ فرعون، وعلى السَّحَرة إذا جعلنا الانقلابَ قبل إيمان السحرة، أو جعلنا انقلبوا بمعنى صاروا، كما فسَّره الزمخشري، أي: "صاروا أَذِلاَّء مَبْهوتين متحيِّرين" ويجوز أَنْ يعودَ عليهم دون السَّحَرة إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يُجعل "انقلبوا" بمعنى صاروا، لأنَّ الله لا يَصِفُهم بالصِّغار بعد إيمانهم.
* { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ }
قوله تعالى: {سَاجِدِينَ}: حالٌ أيضاً من "السحرة". وكذلك:
* { قَالُوااْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {قَالُوااْ}: أي: أُلْقُوا ساجدين قائلين ذلك. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في "ساجدين". وعلى كلا القولين هم متلبِّسُون بالسجود لله تعالى. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له. وجعله أبو البقاء حالاً من فاعل "انقلبوا" فإنه قال: "يجوز أن يكون حالاً، أي: فانقلبوا صاغرين قد قالوا". وهذا ليس بجيد للفصل بقوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
}.
* { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }
(7/227)
---(1/2838)
قوله تعالى: {رَبِّ مُوسَى}: يجوز أن يكون نعتاً لرب العالمين، وأن يكونَ بدلاً، وأن يكونَ عطفَ بيان. وفائدةُ ذلك نَفْيُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنَّ ربَّ العالمين قد يُطلق على غير الله تعالى، لقول فرعون {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}. وقدَّموا موسى في الذِّكْر على هرون وإن كان هرون أسنَّ منه لكبره في الرتبة، أو لأنه وقع فاصلةً هنا، ولذلك قال في سورة طه {بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} لوقوع موسى فاصلةً، أو تكون كلُّ طائفةٍ منهم قالت إحدى المقالتين فَنَسَبَ فِعْلَ بعضٍ إلى المجموع في سورةٍ وفِعْلَ بعضٍ آخرَ إلى المجموع في أخرى.
* { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {آمَنتُمْ}: اختلفَ القراء في هذا الحرف هنا وفي طه وفي الشعراء. فبعضهم جَرَى على قولٍ واحد، وبعضهم قَرَأَ في موضع بشيءٍ لم يَقْرأ به في غيره. فأقول: إن القرَّاء في ذلك على أربع مراتب:
الأولى: قراءةُ الأخوين وأبي بكر عن عاصم وهي: بتحقيق الهمزتين في السور الثلاثِ من غيرِ إدخالِ ألفٍ بينهما وهو استفهامُ إنكار، وأمَّا الألفُ الثالثةُ فالكلُّ يَقْرؤونها كذلك؛ لأنها هي فاء الكلمة أُبْدِلَتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أن أصل هذه الكلمة أَأَأْمَنْتم بثلاث همزات، الأولى للاستفهام والثانية همزة أفعل والثالثة فاء الكلمة، فالثالثة يجب قَلْبُها ألفاً لِما عرفته أول هذا الموضوع، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقة ليس إلا، وأمَّا الثانية فهي التي فيها الخلاف بالنسبة إلى التحقيق والتسهيل.
الثانية: قراءة حفص وهي "آمنتم" بهمزة واحدة بعدها الألف المشارُ إليها في جميع القرآن. وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمنَ للتوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِف لفهم المعنى ولقراءة الباقين.(1/2839)
(7/228)
---
الثالثة: قراءةُ نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة. وهو استفهامُ إنكارٍ كما تقدَّم.
الرابعة: قراءةُ قنبل عن ابن كثير وهي التفرقةُ بين السور الثلاث: وذلك أنه قرأ في هذه / السورة حالَ الابتداء بآمنتم بهمزتين، أولاهما مخفَّفة، والثانية مُسَهَّلة بين بين وألف بعدها كقراءة رفيقه البزي، وحالَ الوصل يقرأ: "قال فرعون وأمنتم" بإبدال الأولى واواً وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها: وذلك أن الهمزة إذا كانت مفتوحةَ بعد ضمة جاز إبدالُها واواً سواء كانت الضمةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدة نحو: جُوَن ويُؤاخذكم ومُوَجَّلاً أم في كلمتين كهذه الآية، وقد فعل مثل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وأَمِنتُمْ} فأبدل الهمزةَ الأولى واواً لانضمام ما قبلها حال الوصل، وأما في الابتداء فيخففها لزوالِ الموجب لقلبها، إلا أنه ليس في سورة الملك ثلاثُ همزات. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك في موضعه.
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص: أعني بهمزةٍ واحدةٍ بعدها ألفٌ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقِه البزي فإنه ليس قبلها ضمةٌ فيبدلها واواً في حال الوصل. وقد قرأتُ لقنبل أيضاً بثلاثة أوجه في هذه السورةِ وصلاً: وهي تسكينُ الهمزةِ بعد الواو المبدلةِ أو تحريكها أو إبدالُها ألفاً، وحينئذ ينطق بقَدْر ألفَيْن ولم يُدخل أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك مَنْ حقق أو سَهَّل؛ لئلا تجتمع أربعةُ متشابهات.
والضمير في "به" عائدٌ على الله تعالى لقوله: {قَالُوااْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ويجوزُ أن يعودَ على موسى وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله: "آمنتم له" فالضمير لموسى لقوله: "إنَّه لكبيرُكم".
قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حُذِفَ مفعولُ العلم للعلم به، أي: تعلمون ما يحلُّ بكم، ثم فَسَّر هذا الإِبهامَ بقوله:(1/2840)
(7/229)
---
* { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }
* {لأُقَطِّعَنَّ}
جاء به في جملةٍ قَسَمية تأكيداً لما يفعله. وقرأ مجاهد بن جبر وحميد المكي وابن محيصن: "لأقْطَعَنَّ" مخففاً مِنْ قَطَعَ الثلاثي، وكذا: "ولأَصْلُبَنَّكُمْ" من صلب الثلاثي، ورُوي ضمُّ اللام وكسرُها، وهما لغتان في المضارع يقال: صَلَبه يَصْلُبه ويَصْلِبه.
قوله: {مِّنْ خِلاَفٍ} يحتمل أن يكونَ المعنى: على أنه يقطع من كل شق طرفاً فيقطع اليدَ اليمنى والرِّجْل اليسرى وكذا هو في التفسير، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال كأنه قال: مختلفةً. ويُحتمل أن يكونَ المعنى: لأقطِّعَنَّ لأجل مخالفتكم إيَّاي فتكون "مِنْ" تعليليةً، وتتعلَّق على هذا بنفس الفعلِ وهو بعيدٌ. وأجمعين تأكيد، أي به دون "كل" وإن كان الأكثرُ سَبْقَه بـ كل. وجيء هنا بـ "ثم" وفي السورتين "ولآصلبنَّكم" بالواو، لأن الواوَ صالحةٌ للمهلة فلا تَنافِيَ بين الآيات.
* { قَالُوااْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ }
وقوله تعالى: {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}: جَوَّزوا في هذا الضميرِ وجهين، أحدهما: أنه يَخُصُّ السَّحَرة، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} فإن الضميرَ في "مِنَّا" يَخُصُّهم، وجَوَّزوا أن يعودَ عليهم وعلى فرعون، أي: إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلا أنه ليس من هذا اللفظ.
* { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }
(7/230)
---(1/2841)
وقوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ}: قد تقدَّم أنَّ فيه لغتين وكيفيةُ تعدِّيه بـ "من"، وأنه على التضمين، في سورة المائدة. وقوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} يجوز أن يكونَ في محلِّ نصب مفعولاً به، أي: ما تَعيب علينا إلا إيمانَنا. ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله، أي: ما تنال منَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلا لإِسماننا. وعلى كلا القولَيْن فهو استثناءٌ مفرغ.
قوله: {لَمَّا جَآءَتْنَا} يجوز أن تكونَ ظرفيةً كما هو رأي الفارسي وأحد قولي سيبويه. والعاملُ فيها على هذا "آمنَّا" أي: آمنَّا حين مجيء الآيات، وأن تكونَ حرفٍ وجوب لوجوب، وعلى هذا فلا بد لها من جوابٍ وهو محذوفٌ تقديرُه: لمَّا جاءَتْنا آمنَّا بها من غير توقُّفٍ.
* { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ}: قرأ العامَّةُ: "ويَذَرَك" بياء الغيبة ونصبِ الراء. وفي النصبِ وجهان: أظهرهما: أنه على العطف على "ليُفْسدوا". والثاني: أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام، كما يُنصب في جوابه بعد الفاء كقول الحطيئة:
2265- ألم أكُ جارَكُم ويكونَ بيني * وبينكمُ المودةُ والإِخاءُ
والمعنى: كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين وبين تركِهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي لا يمكنُ وقوعُ ذلك.
وقرأ الحسن في روايةٍ عنه ونعيم بن ميسرة "ويذرُك" برفع الراء. وفيها ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه نسقٌ على "أتذر" أي: أتطلق له ذلك. الثاني: أنه استئنافُ إخبار بذلك. الثالث: أنه حالٌ. ولا بدَّ من / إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُك.
(7/231)
---(1/2842)
وقرأ الحسن أيضاً والأشهب العقيلي: "ويذرْك" بالجزم وفيها وجهان، أحدهما: أنه جزم ذلك عطفاً على التوهم، كأنه توهَّم جَزْمَ "يُفْسدوا" في جواب الاستفهام فعطف عليه بالجزم كقوله: {فأصَّدَّق وأكنْ} بجزم "وأكن". الثاني: أنها تخفيفٌ كقراءةِ أبي عمرو "يَنْصُرْكم" وبابه.
وقرأ أنس بن مالك: "ونذرُك" بنون الجماعة ورفع الراء، تَوَعَّدوه بذلك، أو أنَّ الأمرَ يُؤول إلى ذلك فيكون خبراً محضاً. وقرأ عبد الله والأعمش بما يخالف السواد فلا حاجةَ إلى ذِكْره.
وقرأ العامَّة: "وآلهتكَ" بالجمع. وفي التفسير: أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}. وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة: "وإلاهتك". وفيها وجهان، أحدهما: أن "إلاهة" اسم للمعبود، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس، والشمس تسمَّى "إلاهةً" علَماً عليها، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث. والثاني: أن "إلاهة" مصدر بمعنى العبادة، أي: ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة، ويقرأ "وإلاهتك" وكان يقول: إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.
قوله: {سَنُقَتِّلُ} قرأ نافع وابن كثير: "سَنَقْتل" بالتخفيف، والباقون بالتضعيف للتكثير، لتعدُّد المجال. وسيأتي أن الجماعة قَرَؤوا "يُقَتِّلُون أبناءكم" بالتضعيف إلا نافعاً، فيخفف. فتلخص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف. وابن كثير يخفف "سنقتل" ويثقِّل "يقتلون"، والباقون يثقلونها.
* { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوااْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
(7/232)
---(1/2843)
قوله تعالى: {يُورِثُهَا}: في محلِّ نصبٍ على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: الجلالة أي: هي له حالَ كونه مُورِثاً لها من يشاؤه. والثاني: أنه الضميرُ المستتر في الجار أي: إنَّ الأرضَ مستقرة لله حالَ كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاء. ويجوز أن يكونَ "يورثها" خبراً ثانياً، وأن يكونَ خبراً وحدَه، و "له" هو الحال، ومَنْ يشاء مفعولٌ ثانٍ، ويجوزُ أن يكونَ جملةً مستأنفة.
وقرأ الحسن - ورُويت عن حفص - "يُوَرِّثُها" بالتشديد على المبالغة. وقرئ "يُوْرَثُها" بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل هو "مَنْ يشاء". والألفُ واللام في "الأرض" يجوز أن تكونَ للعهدِ وهي أرضُ مِصْر أو للجنس.
وقرأ ابن مسعود بنصب "العاقبة" نسقاً على "الأرض" و "للمتقين" خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم والخبر على الخبر فهو مِنْ عطفِ الجمل. قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ أُخْلِيَتْ هذه الجملةُ من الواو وأُدْخِلَتْ على التي قبلها؟ قلت: هي جملةٌ مبتدَأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا {وَقَالَ الْمَلأُ} فهي معطوفةٌ على ما سبقها مِنْ قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ
}.
* { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
(7/233)
---(1/2844)
قوله تعالى: {بِالسِّنِينَ}: جمعُ سَنَة. وفيها لغتان أشهرهما: إجراؤُه مُجْرى جمع المذكر السالم فيُرفع بالواو ويُنْصب ويُجَرُّ بالياء، وتُحْذَفُ نونُه للإِضافة. قال النحاة: إنما جرى ذلك المجرى جبراً له لشما فاته مِنْ لامه المحذوفة، وسيأتي في لامِه كلامٌ. واللغةُ الثانيةُ: أن يُجْعَلَ الإِعرابُ على النونِ ولكن مع الياءِ خاصَّةً. نَقَلَ هذه اللغةَ أبو زيد والفراء. ثم لك فيها لغتان أحدهما: ثبوتُ تنوينها، والثانيةُ عدمهُ. قال الفراء: "هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند بني تميم". ووجه حذف التنوين التخفيف، وحينئذ لا تُحْذف النون للإِضافة، وعلى ذلك جاء قولُه:
2266- دَعَانيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَه * لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنَا مُرْدا
وجاء الحديث "اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِني يوسف" و "سنيناً كسنينِ يوسف" باللغتين.
وفي لام "سَنَة" لغتان، أحدهما: أنها واو لقولهم: سنوات وسانَيْتُ وسُنَيَّة. والثانية: أنه هاءٌ لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهات وسُنَيْهَة. وليس هذا الحكمُ المذكور أعني جَرَيَانَه مَجْرى جمعِ المذكر أو إعرابَه بالحركات مقتصراً على لفظ سنين بل هو جارٍ في كل اسمٍ ثلاثي مؤنث حُذِفتْ لامُه وعُوِّضَ منها تاء التأنيث ولم يُجْمع جمع تكسير، نحو ثُبة وثبين، وقُلة وقُلين. وتَحَرَّزْتُ بقولي "حُذِفَتْ لامُه" ممَّا حُذِفَتْ فاؤه نحو: لِدة وعِدَة. وبقولي "ولم يُجْمع جمع تكسير" مِنْ "ظُبَة وظُبَى". وقد شذَّ قولهم "لِدُون" في المحذوف الفاء، وظِبون في المكسَّر قال/
2267- يرى الراؤون بالشَّفَراتِ منها * وُقودَ أبي حُباحبَ والظُّبينا
(7/234)
---(1/2845)
واعلم أن هذا النوعَ إذا جَرَى مَجْرى الزيدِيْنَ فإن كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ولم تُغَيَّر نحو: مئة ومئين، وفئة وفئين. وإن كان مفتوحَها كُسِرَتْ نحو سنين، وقد نُقِل فتحُها وهو قليلٌ جداً. وإن كان مضمومَها جاز ي فائهِ الوجهان: أعني السَّلامة والكسر نحو: ثُبين وقُلين.
وقد غَلَبت السَّنَة على زمانِ الجَدْب، والعام على زمان الخصب حتى صارا كالعلَم بالغلبة، ولذلك اشتقوا من لفظ السنة فقالوا: أَسْنَتَ القومُ. قال:
2268- عمروُ الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتونَ عجافُ
وقال حاتم الطائي:
2269- وإنَّا نُهيْنُ المالَ في غيرِ ظِنَّةٍ * وما يَشْتكينا في السنين ضريرُها
ويؤيِّد ما ذَكَرْتُ لك ما في سورة يوسف: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} ثم قال: {سَبْعٌ شِدَادٌ} فهذا في الجَدْب. وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}. وقوله: {مِّن الثَّمَرَاتِ} متعلق بـ "نَقْصٍ".
* { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلاا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}: أتى في جانب الحسنة بـ إذا التي للمحقق. وعُرِّفَتِ الحسنة لسَعة رحمة الله تعالى، ولأنها أمر محبوب، كلُّ أحدٍ يتمناه، وأتى في جانب السيئة بـ "إنْ" التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة لأنه أمرٌ كلُّ أحدٍ يَحْذره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال: "فإن قلتَ: كيف قيل {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} بـ "إذا" وتعريف الحسنة، و {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ "إن" وتنكير السيئة؟ قلت: لأنَّ جنسَ وقوعِه كالواجب واتساعه، وأمَّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها". انتهى. وهذا من محاسن علم البيان.
(7/235)
---(1/2846)
قوله: {يَطَّيَّرُواْ} الأصلُ: يتطيَّروا فَأُدْغمت التاء في الطاء لمقاربتها لهاز وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: "تطيَّروا" بتاءٍ من فوق على أنه فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورة، إذ لا يقع فعل الشرط مضارعاً والجزاء ماضياً إلا ضرورةً كقوله:
2270- مَنْ يَكِدْني بِسَيِّءٍ كنتُ منه * كالشَّجا بين حَلْقِه والوريد
وقوله:
2271- وإن يَرَوا سُبَّة طاروا بها فَرَحاً * مني وما سمعوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
وقد تقدَّم الخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته.
والتطيُّر: التشاؤم وأصله أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم، فيطير لكل أحدٍ حظُّه وما يخصُّه، ثم أُطْلق على الحظ والنصيب السَّيِّئ بالغلبة، وأنشدوا للبيد:
2272- تطير عَدائِدُ الأشراكِ شَفْعاً * ووِتْراً والزَّعامةُ للغلام
الأَشْراك: جمعُ شِرْك وهو النصيب، أي: طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ووِتْراً للأنثى. والزَّعامة: أي: الرئاسة للذكر، فهذا معناه تفرَّق، وصار لكل احد نصيبُه، وليس من الشؤم في شيءٍ، ثم غَلَبَ على ما ذكرت لك. ومعنى {طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي: حظهم وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم، أي: سبب شؤمِهم عند الله وهو ما يُنْزِلُه بهم.
* { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى:{مَهْمَا}: "مهما" اسمُ شرطٍ يجزم فعلين، كـ "إنْ". هذا قولُ جمهور النحاة، وقد يأتي للاستفهام، وهو قليلٌ جداً كقوله:
2273- مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ * أَوْدَى ينعلَيَّ وسِرْباليَهْ
يريد: ما لي الليلة ما لي؟ والهاء للسكت.
وزعم بعض النحويين أنَّ الجازمة تأتي ظرف زمان، وأنشد:
2274- وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه * وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا
وقول الآخر:
2275- * عوَّدْتَ قومَك أن كلَّ مُبَرَّرٍ * مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ
وقول الآخر:
(7/236)
---(1/2847)
2276- نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي * مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ
قال: "فـ مهما هنا ظرف زمان" والجمهور على خلافه. وما ذكره متأول، بل بعضُه لا يَظْهر فيه للظرفية معنى.
وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال: "وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحَرِّفها مَنْ لا بدَ له في علم العربية فيضعها غيرَ موضعها، ويحسب "مهما" بمعنى "متى" ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية، ثم يذهب فيفسر {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} بمعنى الوقت فيُلْحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يوجب الجثوَّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه". قلت: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيف لم يَقُلْ به إلا الطائفةُ الشاذَّةُ، وقد قال جمال الدين ابن مالك: "جميع النحويين يقولون إن "مهما" و "ما" مثل "مَنْ" في لزوم التجرُّد عن الظرف، مع أن استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار الفصحاء من العرب"، وأنشد بعض الابيات المتقدمة. قلت: وكفى بقوله "جميع النحويين" دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما.
وهي اسمٌ لا حرفٌ بدليل عَوْد الضمير عليها، ولا يعود الضمير على حرف كقوله {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} فالهاء في "به" تعود على "مهما"، وشَذَّ السهليُّ فزعم أنها قد تأتي حرفاً.
(7/237)
---(1/2848)
واختلف النحويون في "مهما": هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبة / مِنْ ماما، كُرِّرت "ما" الشرطية توكيداً فاستثقل توالي لفظين فأُبْدلت ألف "ما" الأولى هاء. وقيل: زيدت "ما" على "ما" الشرطية كما تُزاد على "إنْ" في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة. وقال قوم: "هي مركبة مِنْ مَهْ التي هي اسمُ فعلٍ بمعنى الزجر وما الشرطية، ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شيئاً واحداً". وقال بعضهم: "لا تركيبَ فيها هنا بل كأنهم قالوا له: مه، ثم قالوا: ما تَأْتِنا به" ويُعْزى هذان الاحتمالان للكسائي وهذا ليس بشيء؛ لأن ذلك قد يأتي في موضعٍ لا زَجْرَ فيه، ولأن كتابتها متصلة ينفي كونَ كلٍ منهما كلمةً مستقلة. وقال قوم: إنها مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية، بدليل قول الشاعر:
2277- أماوِيَّ مَهْ مَنْ يَسْتمعْ في صديقه * أقاويلَ هذا الناسِ ماوِيَّ يندمِ
فأُبْدِلَتْ نونُ "مَنْ" ألفاً، كما تبدل النونُ الخفيفة بعد فتحة، والتنوين ألفاً. وهذا ليس بشيء، بل "مَهْ" على بابها من كونها من انكفف ثم قال: من يستمع. وقال قوم: "بل هي مركبةٌ مِنْ مَنْ وما، فأُبْدلت نونُ مَنْ هاءً، كما أبدلوا من ألف "ما" الأولى هاء، وذلك لمؤاخاة "مَنْ" "ما" في أشياء وإن افترقا في شيء واحد". ذكره مكي.
(7/238)
---(1/2849)
ومحلُّها نصبٌ أو رفع، فالرفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ: هل الخبر فعلُ الشرط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً. والنصب من وجهين: أظهرهُهما على الاشتغال، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن اسم الشرط والتقدير: مهنا تُحْضِر تأتِنا به، فـ "تَأْتِنا" مفسِّر لـ "تُحضر" لأنه من معناه. والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم الردُّ على هذا القول. والضميران من قوله "به" و "بها" عائدان على "مهما" عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى، فإن معناها الآية المذكورة. ومثله قول زهير.
2278- ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ * وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ
ومثلُه في ذلك قولُه: {ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسَأْها نأْتِ بخيرٍ منها أو مثلها} فأعاد الضمير على "ما" مؤنثاً لأنها بمعنى الآية.
وقوله: {فَمَا نَحْنُ} يجوز أَنْ تكونَ "ما" حجازيةً أو تميمية، والراءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشرط فمحلها جزم.
* { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {الطُّوفَانَ}: فيه قولان أحدهما: أنه جمع طُوْفانة، أي: هو اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة. وقيل: بل هو مصدر كالنُّقْصان والرُّجْحان، وهذا قول المبرد في آخرين، والأول هو قول الأخفش قال: "هو فُعْلان من الطَّواف، لأنه يطوف حتى يَعُمَّ، وواحدته في القياس طُوْفانة، وأنشد:
2279- غَيَّرَ الجِدَّةَ من آياتها * خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المَطَرْ
والطُّوفان: الماء الكثير قاله الليث، وأنشد للعجاج:
2280- وعَمَّ طُوفانُ الظلامِ الأَثْأَبا
شبِّه ظلامَ الليل بالماء الذي يغشى الأمكنة. وقال أبو النجم.
2281- ومَدَّ طوفانٌ مبيدٌ مَدَدا * شهراً شآبيبَ وشهراً بَرَدا
(7/239)
---(1/2850)
وقيل: الطُّوفان من كلِّ شيءٍ ما كان كثيراً محيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كل جهة كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف، قاله ابو إسحاق. وقد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً وبأمرٍ من الله تارة، وتلا قولَه تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ}. وهذه المادة وإن كانت قد تقدَّمت في "طائفة" إلا أن لهذه البِنْية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة.
قوله: {وَالْجَرَادَ} جمع جَرادة، الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء. يقال: جرادة ذََكَرٌ وجرادة أنثى كنملة وحمامة. قال أهل اللغة: وهو مشتق من الجَرْد، قالوا: والاشتقاق في أسماء الأجناس قليلٌ جداً يقال: أرض جَرْداء أي: مَلْساء، وثوب جَرْد: إذا ذهبَ زِئْبَرُه.
قوله: {وَالْقُمَّلَ} قيل هي: القِرْدان وقيل: دوابُّ تشبهها أصغرَ منها. وقيل: هي السُّوس الذي يخرج من الحنطة. وقيل: نوع من الجراد أصغر منه. وقيل: الحِمْنان الواحدة حِمْنانة نوع من القِرْدان. وقيل: هو القُمَّل المعروف الذي يكون في بدن الإِنسان وثيابه. ويؤيد هذا قراءة الحسن "والقَمْل" بفتح القاف وسكون الميم فيكون فيه لغتان: القُمَّل كقراءة العامة، والقَمْل كقراءة الحسن البصري. وقيل: القمل: البراغيث. وقيل: الجِعلان.
قوله: {وَالضَّفَادِعَ}: جمع ضِفْدَع بزنة دِرْهم، ويجوز كسر دالِه فيصير بزنة زِبْرِج وقد تُبْدَلُ عينُ جمعه ياء / كقوله:
2282- ومَنْهَلٍ ليس له حَوازِق * ولِضفادي جَمِّه نقانِقُ
وشَذَّ جمعُه أيضاً على ضِفْدَعان، والضِّفدع مؤنث وليس بمذكر. فعلى هذا يُفَرَّق بين مذكَّره ومؤنثه بالوصف. فيقال: ضفدع ذَكَر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاءِ التأنيث نحو حمامة وجرادة ونملة.
قوله: {آيَاتٍ} منصوب على الحال من تلك الأشياء المتقدمة أي: أَرْسلْنا عليهم هذه الأشياءَ حالَ كونِها علاماتٍ مميَّزاً بعضها من بعض.
(7/240)
---(1/2851)
* { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ }
قوله تعالى: {بِمَا عَهِدَ}: يجوز في: هذه الباء وجهان أحدهما - وهو الظاهر -: أن يتعلق بـ ادْعُ أي: ادْعُه بالدعاء الذي عَلَّمك أن تدعوه به. والثاني: أنها باء القسم. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين فقال: "والباء إمَّا أن تتعلق بـ "ادْعُ" على وجهين أحدهما: أَسْعِفْنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته إياك بالنبوة، أو ادعُ الله لنا متوسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجاباً بـ "لنؤمِنَنَّ" أي: أقسمنا بعهد الله عندك.
* { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ }
(7/241)
---(1/2852)
قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ كَشَفْنا، وهذا هو المشهور عند المُعْرِبين. واستشكل عليه الشيخ، إشكالاً وهو أنَّ ما دخلت عليه "لمَّا" يترتب جوابُه على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليقَ على ابتداءِ الوقوع، فلا بدَّ مِنْ تعقُّل الابتداء والاستمرار حتى تتحقَّقَ الغايةُ، ولذلك لا تقع الغاية في الفعل غير المتطاول لا يُقال: لَمَّا قتلت زيداً إلى يوم الخميس جَرَى كذا"، ولا "لَمَّا وثبتُ إلى يوم الجمعة اتفق كذا". هذا كلامُه وهو حسنٌ. وقد يُجاب عنه بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا وقتُ إيمانهم وإرسالِهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ استمرارَ رَفْعِ الرجز، كأنه قيل: فلمَّا تمادَى كشَفْنا عنهم إلى أجَلْ. وأمَّا مَنْ فسَّر الأجل بالموت أو بالغرق فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُه: فلما كشَفْنا عنهم الرجزَ إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه، وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غَرَقِهم حصل منهم نكثٌ فكيف يُتَصَوَّر أن يكون النكثُ منهم بعد موتهم أو غرقهم.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على انه حال من "الرِّجز" أي: فلما كشفنا عنهم الرجزَ كائناً إلى أجل. والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً. قال الشيخ: "ويقوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب "لمَّا" جاء بـ "إذا" الفجائية أي: فلمَّا كَشَفْنا عنهم العذابَ المقرَّرَ عليهم إلى أجل فاجَؤُوا بالنكث، وعلى معنى تغييته الكشفَ بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلا على تأويلِ الكشفِ بالاستمرار المُغَيَّا فيمكن المفاجأة بالنكث إذ ذاك" انتهى.
قوله: {هُم بَالِغُوهُ} في محل جرٍ صفةً لأَجَل. والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ مِنْ وَصْفه بالمفرد لتكررِ الضمير المؤذن بالتفخيم.
(7/242)
---(1/2853)
وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} هذه "إذا" الفجائية وقد تقدَّم الكلامُ عليها قريباً، و "هم" مبتدأ و "ينكثون" خبره، و "إذا" جوابُ "لَمَّا" كما تقدَّم بالتأويل المذكور. قال الزمخشري: "إذا هو ينكُثون جواب "لَمَّا"، يعني فلمَّا كشَفْنا عنهم العذاب فاجؤوا النكث وبادروه، ولم يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نكثوا". قال الشيخ: لا ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير". انتهى. يعني فلا بد من تأويلِ الكشف بالاستمرار كما تقدَّم حتى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يدَّعي في "لَمَّا" أنها ظرفٌ، إذ لا بدَّ لها حينئذٍ من عامل. وما بعد "إذا" لا يعمل فيما قبلها. وقد تقدَّم ذلك محرَّراً في موضعه.
وقرأ أبو حيوة وأبو هاشم "تنكِثون" بكسر الكاف، والجمهورُ على الضم، وهما لغتان في المضارع. والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصلُه مِنْ نَكْثِ الصوف المغزول ليُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث نِكْثٌ كذِبْح ورِعْي والجمع أَنْكاث. فاستُعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه، كما في خيوط الأَكْسية إذا نُكِثَتْ بعدما أُبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات.
* { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }
قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا}: هذه الفاءُ سببيَّة اي تسبِّب عن النكثِ الانتقامُ. ثم إنْ أريد بالانتقام / نفسُ الإِغراق، فالفاء الثانية مفسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك، وإلا كان التقدير: فأرَدْنا الانتقامَ.
قوله: {فِي الْيَمِّ} متعلِّقٌ بـ "أَغْرَقْناهم". واليَمُّ: البحر. والمشهور أنه عربيٌّ. قال ذو الرمة:
2283- داوِيَّةٌ ودُجَى ليلٍ كأنهما * يَمٌّ تراطَنَ في حافاتِه الرومُ
(7/243)
---(1/2854)
وقال ابن قتيبة: "إنه البحر بالسُّريانية". وقيل: بالعبرانيَّة، والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص". وقال الهروي في عربيَّته: "واليَمُّ: البحر الذي يقال له إساف، وفيه غرق فرعون"، وهذا ليس بجيد لقوله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} والمراد به نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون.
قوله: "بأنهم" الباءُ للسببية أي: أغْرَقْناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا، وكونِهم غافلين عن آياتنا. فالضمير في "عنها" يعودُ على الآيات. وهذا هو الظاهر. وبه قال الزجاج وغيره. وقيل: يجوز أن يكونَ على النقمة المدلولِ عليها بانتقمنا. ويُعْزى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخيَّل أن الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لهم من حيث إن الغفلةَ ليست مِنْ كسب الإِنسان. وقال الجمهور: إنهم تعاطَوا أسبابَ الغفلة فُذُمُّوا عليها كما يُذَمُّ الناسِي على نِسْيانه لتعاطيه أسبابَه.
* { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِيا إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }
(7/244)
---(1/2855)
قوله تعالى: {وأَوْرَثْنَا}: يتعدَّى لاثنين لأنه قبل النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو: وَرِثْتُ أبي، فبالنقل اكتسب آخرَ، فأَوَّلُهما "القوم" و "الذين" وصلتُه في محل نصب نعتاً له. وأمَّا المفعولُ الثاني: ففيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}. وفي قوله {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} على هذا وجهان أحدهما: أنه نعتٌ لمشارق ومغارب. والثاني: أنه نعتٌ للأرض. وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوفِ بين الصفةِ والموصوف، وهو نظيرُ قولك: "قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ". وقال أبو البقاء هنا: "وفيه ضعفٌ؛ لأن فيه العطفَ على الموصوف قبل الصفة" وهذا سَبْقُ لسان أو قلم لأنَّ العطفَ ليس على الموصوف، بل على ما أُضيف إلى الموصوف.
الثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: أَوْرَثناه مالأرض التي بارَكْنا فيها. وفي قوله تعالى {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} وجهان، أحدهما: هو منصوب على الظرف بـ "يُسْتَضْعفون". والثاني: أن تقديره: يُستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، فلمَّا حُذِفَ الحرف وصلَ الفعلُ بنفسه فنصب. هكذا قال ابو البقاء. ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن فإن القولَ بالظرفية هو عينُ القول بكونه على تقدير "في"؛ لأن كل ظرف مقدَّرٌ بـ "في" فكيف يَجعل شيئاً واحداً شيئين؟
الوجه الثالث: أن المفعولَ الثاني محذوفٌ تقديره: أورثناهم الأرضَ أو الملكَ أو نحوه. و "يُستضعفون" يجوز أن يكون على بابه من الطلب أي: يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً، وأن يكون استفعل بمعنى وجده ذا كذا. والمرادُ بالأرض أرضُ الشام وقيل: أرض مصر.
(7/245)
---(1/2856)
وقرأ الحسن - ورويت عن أبي عمرو وعاصم - "كلمات" بالجمع. قال الزمخشري: "ونظيره {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، يعني في كونِ الجمع وُصِفَ بمفرد. قال الشيخ: "ولا يتعيَّن في "الكبرى" ما ذَكَر لجواز أن يكون التقدير: لقد رأى الآيةَ الكبرى، فهي وصفُ مفردٍ لا جمعٍ وهو أبلغُ". قلت: في بعض الأماكن يتعيَّن ما ذكره الزمخشري نحو {مَآرِبُ أُخْرَى} وهذه الآية، فلذلك اختارَ منها ما يتعيَّنَ في غيرها.
قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} متعلِّق بـ "تَمَّت"، والباءُ للسببية، و "ما" مصدريةٌ أي بسبب صبرهم. ومتعلَّقُ الصبرِ محذوفٌ أي: على أذى فرعون وقومه.
قوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} يجوز في هذا الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ "فرعون" اسمَ كان، و "يصنع" خبرٌ مقدم، والجملةُالكونية صلةُ "ما"، والعائدُ محذوف، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان فرعون يَصْنَعُه. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه فقال: "لأنَّ "يصنع" يَصْلُح أن يعملَ في فرعون فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقَدَّر تأخيرُ الفعل في قولك قام زيد". قلت: يعني أن قولك "قام زيد" يجب أن يكونَ من باب الفعل والفاعل، ولا يجوزُ أن يُدَّعى فيه أنَّ "قام" فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌّ، و "زيد" مبتدأ مؤخر، لأجل اللَّبْس بباب الفاعل، فكذا هنا لأنَّ "يصنع" يَصِحُّ ان يتسلَّطَ على فرعون فيرفعَه فاعلاً، فلا يُدَّعَى فيه التقديم. وقد سبقه إلى هذا مكي وقال: "ويلزم مَنْ يجيز هذا أن يُجيزَ "يقوم زيد" على الابتداء والخبر والتقديم والتأخير ولم يُجِزْه أحد"، وقد تقدَّمت هذه المسالة وما فيها، وأنه هل يجوز أن تكون من باب التنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان محيلاً في بادئ الرأي فإنه كباب / الابتداء والخبر. ولكن الجواب عن ذلك أن المانع في "قام زيد" هو اللَّبس وهو مفقود ههنا.
(7/246)
---(1/2857)
القثاني: أن اسم "كان" ضميرٌ عائد على "ما" الموصولة و "يصنع" مسندٌ لفرعونَ، والجملةُ خبرٌ عن كان، والعائدُ محذوف أيضاً، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث: أن تكون "كان" زائدةً و "ما" مصدرية، والتقدير: ودمَّرْنا ما يصنع فرعون أي: صُنْعَه. ذكره أبو البقاء. قلت: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً وإن كانت "ما" موصولة اسمية على أن العائد محذوف تقديرُه: ودمَّرْنا الذي يصنعه فرعون.
الرابع: أنَّ "ما" مصدرية أيضاً، و "كان" ليست زائدةً بل ناقصةٌ، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والجملةُ من قوله "يصنع فرعون" خبرُ كان فهي مفسِّرة للضمير. وقال أبو البقاء هنا: "وقيل: ليست "كان" زائدةً، ولكن "كان" الناقصة لا يُفصل بها بين "ما" وبين صلتها، وقد ذكرْنا ذلك في قوله {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وعلى هذا القول تحتاج "كان" إلى اسم. ويَضْعف أن يكونَ اسمُها ضميرَ الشأن؛ لأن الجملة التي بعدها صلةُ "ما" فلا تَصْلُح للتفسير فلا يحصُل بها الإِيضاحُ، وتمامُ الاسم والمفسِّر يجب أن يكون مستقلاً فتدعو الحاجةُ إلى أن تَجْعل "فرعون" اسمَ كان، وفي "يصنع" ضميرٌ يعود عليه". قلت: بعد فَرَض كونِها ناقصةً تلزم أن تكونَ الجملةُ من قوله "يصنع فرعون" خبراً لـ "كان"، ويمتنع أن تكونَ صلةً لـ "ما". وقوله: "فتدعو الحاجة" أي ذلك الوجهُ الذي بدأت به - واستضعفه هو - احتاج إليه في هذا المكان فراراً مِنْ جَعْل الاسمِ ضميرَ الشأن لما تخيَّله مانعاً.
والتدميرُ: الإِهلاك وهو مُتَعدٍّ بنفسه. فأما قوله {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فمفعولُه محذوفٌ أي: خرَّب عليهم منازلهم وبيوتَهم.
(7/247)
---(1/2858)
قوله: {يَعْرِشُونَ} قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النحل "يَعرُشون" بضم الراء، والباقون بالكسر فيهما. وهما لغتان: عَرَش الكرمَ يعرِشُه ويعرُشُه، والكسرُ لغة الحجاز. قال اليزيدي: "وهي أفصحُ". وقُرئ شاذاً بالغين المعجمة والسين المهملة مِن غَرْس الأشجار، وما أظنه إلا تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبلة "يُعَرِّشون" بضم الياء وفتحِ العين وكسرِ الراء مشددةً على المبالغة والتكثير.
* { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيا إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }
قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِيا إِسْرَآئِيلَ}: كقوله: {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} من كونِ الباء يجوز أن تكونَ للتعدية، وأن تكون للحالية كقوله:
2284- ................. * تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريبا
وقد تقدَّم ذلك. وجاوز بمعنى جاز. ففاعلَل بمعنى فَعَل. وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: جَوَّزنا بالتشديد، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر.
قوله: {يَعْكُفُونَ} صفة لـ "قوم". وقرأ الأخَوَان "يعكفون" بكسر العين، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً. والباقون بالضم، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون. وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة.
(7/248)
---(1/2859)
قوله: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً، أي: إلهاً مماثلاً لإِلههم. وفي "ما" ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ حرفية أي: تَتَأوَّل بمصدرٍ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة، وإذا حُذِفت صلة "ما" المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم: "لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه" أي: ما ثبت أن حراء مكانه. وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، فآلهة فاعل بـ "ثبت" المقدر. وقال ابو البقاء - في هذا الوجه-: "والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل". قلت: كلامُه على ظاهره ليس بجيد؛ لأن "ما" المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله:
2285- واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ * فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ
ولكنَّ مرادَه أَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل، وحينئذ تَؤُول إلى جملة فعلية أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.
الثاني: أن تكونَ "ما" كافَّةً لكاف التشبيه / عن العمل فإنها حرف جر. وهذا كما تُكَفُّ "رُبَّ"، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكاف وفي "رب" مع ما الزائدة بعدهما وجهان: العملُ والإِهمالُ، وعلى ذلك قول الشاعر:
2286- ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه * كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ
وقول الآخر:
2287- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ * وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى
يروى برفع "الناس" و "الجامل" وجرِّهما. هذا إذا أمكن الإِعمال. أمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أن تكونَ كافَّةً كهذه الآيةِ إذا قيل بأن "ما" زائدة.
(7/249)
---(1/2860)
الثالث: أن تكون "ما" بمعنى الذي، و "لهم" صلتها وفيه حينئذ ضكيرٌ مرفوعٌ مستتر، و "آلهة" بدل من ذلك الضمير. والتقدير: كالذي استقر هو لهم آلهة. وقال أبو البقاء - في هذا الوجه: "والعائد محذوف و "آلهة" بدلٌ منه تقديره: كالذي هو لهم" وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار.
* { إِنَّ هَاؤُلااءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّ هَاؤُلااءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}: "هؤلاء" إشارة لمَنْ عَكَفوا على الأصنام و "مُتَبَّر" فيه وجهان، أحدهما: أن يكون خبراً لـ إنَّ و "ما" موصولة بمعنى الذي، و "هم فيه" جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائدُه، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فيكون قد أَخْبَرْت بمفرد رفعت به شيئاً. والثاني: أن يكونَ الموصولُ مبتدأً، و "مُتَبَّر" خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ لـ إنَّ. قال الزمخشري: "وفي ارتفاع "هؤلاء" اسماً لـ "إنَّ"، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وَسْمٌ لعبارة الأصنام بأنهم هم المعرَّضون للتَّبار وأنه لا يَعْدوهم البتة، وأنه لهم ضربةُ لازم ليحذِّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبُّوا". قال الشيخ: "ولا يتعيَّن ما قاله من [أنه] قدَّم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً، لأنَّ الأحسنَ في إعراب مثل هذا أن يكون "مُتَبَّر" خبراً لـ إنَّ وما بعده مرفوعٌ" فذكر ما قَرَّرْتُه، ونظَّره بقولك: "إنَّ زيداً مضروب غلامه". قال: "فالأحسن أن يكون "غلامه" مرفوعاً بـ "مضروب".
(7/250)
---(1/2861)
ثم ذكر الوجه الثاني وهو أن يكون "مُتَبَّر" خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً وهو كما قال، لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكون مفردةً فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه. إلا أن الزمخشريَّ لم يَذْكر ذلك على سبيل التعيين بل على أحد الوجهين. وقد يكون هذا عنده أرجحَ مِنْ جهة ما ذكره من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظي ومُرَجِّح معنوي، فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظنُّ حَمَل الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.
وقوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ} كقوله {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما.
والتَتْبير: الإِهلاكُ، ومنه "التِّبْر" وهو كِسارة الذهب لتهالك الناس عليه. وقيل: التتبير: التكسير والتحطيم ومنه التِّبْر لأنه كِسارة الذهب.
* { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ}: الهمزةُ للإِنكار والتوبيخ. وفي نصب "غير" وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لـ "أبغيكم" على حَذْفِ اللام تقديره: أبغي لكم غيرَ الله، أي: أَطْلُبُ لكم. فلمَّا حذف الحرف وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاس. وفي "إلهاً" على هذا وجهان أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه تمييز لـ "غير". والثاني: أنه حالٌ، ذكره الشيخ وفيه نظر. والثاني من وجهي "غير": أنه منصوب على الحال من "إلهاً"، و "إلهاً" هو المفعول به لـ "أَبْغيكم" على ما تقرَّر، والأصل: أبغي لكم إلهاً غير الله، فـ "غير الله" صفةٌ لـ "إله" فلما قُدِّمَتْ صفةُ النكرةِ عليها نُصِبت حالاً. وقال ابن عطية: "وغير منصوبة بفعل مضمر، هذا هو الظاهر، ويجوز أن يكون حالاً"، وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ غليه، فإن أراد أنه على الاشتغال فلا يَصشحُّ؛ لأنَّ شرطَه أن يعمل المفسِّر في ضمير الأول أو سببيِّه.
(7/251)
---(1/2862)
قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ} يجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من "الله" وإمَّا من المخاطبين، لأن الجملةَ مشتملةٌ على كلٍ من ضميرَيْهما، ويجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها.
* { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلااءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }
قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ}: قرأه العامَّة / مسنداً إلى المُعَظِّم. وابن عامر: "أنجاكم" مسنداً إلى ضمير الله تعالى جرياً على قوله "وهو فَضَّلكم". وقُرِئ "نَجَّيناكم" مشدداً. وتقدم الخلاف في تشديدِ "يقتلون" وتخفيفِها قبل هذا بقليل. وتقدَّم في البقرة إعراب هذه الآيةِ بكمالها فلا حاجةَ إلى إعادته.
* { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ }
قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ}: تقدَّم الخلاف في وَعَدْنا وواعَدْنا. وأتى الظرف بعده مفعول ثان على حَذْفِ مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لفساد المعنى في البقرة فكذا هنا، أي: وَعَدْناه تمامَ ثلاثين، أو أثناءها أو مناجاتها.
قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} في هذا الضمير قولان، أحدهما: أنه يعودُ على المُواعدة المفهومةِ مِنْ "واعَدْنا"، أي: وأَتْمَمْنا مواعدته بعشر. والثاني: أنها تعودُ على ثلاثين قاله الحوفي. قال الشيخ: "ولا يَظْهر لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتمَّ بعشر". وحُذِف تمييز "عشر" لدلالة الكلام عليه، أي: وأَتْمَمْناها بعشرِ ليال. وفي مُصْحف أُبَيّ "تَمَّمناها" بالتضعيف، عَدَّاه بالتضعيف.
(7/252)
---(1/2863)
قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ} الفرق بين الميقات والوقت: أن المِيقات ما قُدِّر فيه عملٌ من الأعمال، وا لوقت وقت للشيء من غير تقديرِ عمل أو تقريره. وفي نصب "أربعين" أوجهٌ أحدها: أنه حال. قال الزمخشري: "وأربعين" نصب على الحال أي: تَمَّ بالغاً هذا العدد". قال الشيخ: "فعلى هذا لا تكونُ الحال "أربعين"، بل الحالُ هذا المحذوفُ فيُنافَى قوله". قلت: لا تنافيَ فيه لأن النحاة لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حَذْف عامله المنوبِ عنه، وله شواهد منها: "زيد في الدار أو عندك" فيقولون: الجارُّ والظرف خبر، والخبر في الحقيقة إنما هو الحَذَثُ المقدَّر العاملُ فيهما. وكذا يقولون: "جاء زيد بثيابه" "بثيابه" حال، والحال إنما هو العامل فيه، إلى غير ذلك. وقدَّره الفارسي بـ "معدوداً" قال: كقولك: "تمَّ القوم عشرين رجلاً" أي: معدودين هذا العدد" وهو تقدير حسن.
(7/253)
---(1/2864)
الثاني: أن ينتصب "أربعين" على المفعول به، قال أبو البقاء: "لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم: بَلَغَتْ أرضك جَرِيبَيْن"، أي يُضَمِّن "تَمَّ" معنى "بلغ". الثالث: أنه منصوبٌ على الظرف. قال ابن عطية: "ويصحُّ أن تكون "أربعين" ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة". وفي هذا نظر كيف يكون ظرفاً للتمام، والتمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوز بعيد: وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التمامُ. الرابع: أن ينتصب على التمييز. قال الشيخ: "والأصل: "فتمَّ أربعون ميقاتُ ربه" ثم أسند التمام إلى ميقات، وانتصب "أربعون" على التمييز، فهو منقولٌ من الفاعلية" يعني فيكون كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} وهذا الذي قاله وجَعَلَه هو الذي يظهر يُشكل بما ذكره هو في الردِّ على الحوفي، حيث قال هناك: "إن الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ" كذلك ينبغي أن يُقالَ هنا إن الأربعين لم تكن ناقصةً فتتمَّ، فكيف يُقَدِّر "فتمَّ أربعون ميقات ربه"؟ فإنْ أجابَ هنا بجواب فهو جوابٌ هناك لِمَنْ اعترض عليه.
وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ} في هذه الجملة قولان، أظهرهُما: أنها للتأكيد لأنَّ قولَه قبل ذلك "وأَتْمَمْناها بعشر" فُهِم أنها أربعون ليلةً. وقيل: بل هي للتأسيس لاحتمالِ أن يَتَوَّهم متوهِّم بعشر ساعات أو غير ذلك، وهو بعيدٌ جداً.
قوله: "ربِّه" ولم يقل: ميقاتنا جَرْياً على "واعَدْنا" لِما في إظهار هذا الاسم الشريف من الاعترافِ بربوبية الله له وإصلاحه له.
(7/254)
---(1/2865)
قوله "هرونَ" الجمهورُ على فتح نونه وفيه ثلاثة أوجه. الأول: أنه مجرورٌ بدلاً من "أخيه" الثاني: أنه عطفُ بيان له. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني. وقرئ شاذاًُ "هرونُ" بالضم وفيه وجهان أحدهما: أنه منادى حُذف منه حرفُ النداء، أي: يا هرون كقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ}. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو هرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار أعني فإنَّ كليهما قطع. وقال أبو البقاء: "ولو قرئ بالرفع" فذكرهما، كأنَّه لم يطَّلِعْ على أنها قراءة.
* { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيا أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {لِمِيقَاتِنَا}: هذه اللامُ للاختصاص وكذا في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} / وليست بمعنى "عند" كما وَهِمَ بَعضُهم.
قوله: {أَرِنِيا} مفعولُه الثاني محذوفٌ، والتقدير: أرني نفسَك أو ذاتك المقدسةَ وإنما حَذْفُه مبالغةٌ في الأدب، حيث لم يواجهْه بالتصريح بالمفعول. وأصل أَرِني: أَرْإني فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة. وقد تقدَّم تحريرُه.
(7/255)
---(1/2866)
قوله: {لَن تَرَانِي}: "لن" قد تقدَّم أنه لا يلزم مِنْ نفيِها التأبيدُ وإن كان بعضُهم فَهِم ذلك، حتى إن ابن عطية قال: "فلو بَقينا على هذا النفي بمجرده لتضمَّن أن موسى لا يَراه أبداً ولا في الآخرة، لكن وَرَدَ من جهة أخرى الحديثُ المتواتر: أنَّ أهلَ الجنةِ يَرَوْنه". قلت: وعلى تقدير أنَّ "لن" ليست مقتضيةً للتأبيد فكلامُ ابنِ عطية وغيرِه ممن يقول: إن نفي المستقبل بعدها يَعُمُّ جميعَ الأزمنة المستقبله صحيح لكن لِمَدْرك آخرَ: وهو أن الفعلَ نكرةً، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ، وللبحث فيه مجال.
والاستدراكُ في قوله "ولكن انظر" واضحٌ. وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف اتصلَ الاستدراكُ في قوله "ولكن انظر" [بما قبله]؟ قلت: اتصلَ به على معنى أن النظر إليَّ مُحالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر وهو أن تنظر إلى الجبل" وهذا على رأيه مِنْ أن الرؤية محالٌ مطلقاً في الدنيا والآخرة.
قوله: {جَعَلَهُ دَكّاً} قرأ الأخوان "دَكّاء" بالمدّ على وزن حَمْراء والباقون "دَكّاً" بالقصر والتنوين. فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين أحدهما: أنها مأخوذةٌ مِنْ قولهم: ناقةً دكَّاء، أي: منبسطة السَّنام غيرُ مرتفعتِه وإمَّا من قولهم: أرضٌ دكاء للناشزة. وفي التفسير: أنه لم يذهبْ كلُّه، بل ذهب أعلاه فهذا يناسبه. وأمَّا قراءة الجماعة فـ "دَكٌّ" مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، أي مدكوكاً أو مندَكّاً، على حذف مضاف، أي: ذا دَكٍّ. وفي انتصابه على القراءتين وجهان، المشهور: أنه مفعولٌ ثان لـ "جعل" بمعنى صيَّر. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنه مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّه دَكّاً.
(7/256)
---(1/2867)
وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط، أي: صَيَّره مثلَ ناقةٍ دكاء أو أرضٍ دكاء. والدكُّ والدقُّ بمعنى وهو تفتيت الشيء وسَحْقُه. وقيل: تسويتُه بالأرض. وقرأ ابن وثاب: "دُكَّا" بضم الدال والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد كحُمر في حمراء وغُرّ في غَرَّاء، أي جعله قِطَعاً.
قوله: "صَعِقاً" حالٌ مقارنةٌ، والخُرورُ السُّقوط، كذا أطلقه الشيخ، وقيَّده الراغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوتِ الماءِ والريح وغير ذلك ممَّا يَسْقُط من علوٍّ. والإِفاقة: رجوعُ الفهمِ والعقل إلى الإِنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ، ومنه إفاقة المريض وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحَلْب: وهي رجوع الدَّرِّ إلى الضَّرْع يُقال: استَفِقْ ناقَتَك، أي: اتركها حتى يعودَ لبنُها، والفُواق ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
* { قَالَ يامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: {بِرِسَالاَتِي}: أي: بسبب. وقرأ الحرميَّان: برسالتي بالإِفراد، والمراد به المصدر أي: بإرسالي إياك، ويجوز أن يكون على حَذْفِ مضاف، أي: بتبليغِ رسالتي. والرسالة: نفسُ الشيء المرسل به إلى الغير. وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواع، وقد تقدَّم ذلك في المائدة والأنعام. وقرأ العامة "وبكلامي" وهو محتملٌ أن يُراد به المصدرُ، أي: بتكليمي إياك، فيكون كقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقوله:
2288- .................. * فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
(7/257)
---(1/2868)
أي: بتكليمي إياها، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به التوراة وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن "كلام الله" تسميةً للشيء بالمصدر. وقَدَّم الرسالة على الكلام لأنها أسبقُ أو ليترقَّى إلى الأشرفِ. وكرر حرف الجرِّ تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء. وقرأ الأعمش: "برسالاتي وبكَلِمِي" جمع كلمة، ورَوَى عنه المهدوي أيضاً "وتكليمي" على زنة التفعيل، وهي تؤيد أن الكلامَ مصدرٌ. وقرأ أبو رجاء "برسالتي" بالإِفراد و "بكَلِمي" بالجمع، أي: وبسماع كلمي.
* { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ }
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً}: "أل" في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّة وأن تكونَ للعهد، لأنه يُروى في القصة أنه هو الذي قطعها وشقَّقها. وقال ابن عطية: "أل" عوض من الضمير، تقديره: "في ألواحه" وهذا كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، أي: مَأْواه". أمَّا كون "أل" عوضاً من الضمير فلا يَعْرفه البصريون. وأمَّا قولُه {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فإنَّا نحتاج فيه إلى رابطٍ يَرْبِط بين الاسم والخبر، فالكوفيون يجعلون أل عوضاً من الضمير، والبصريون يُقَدِّرونه، أي: هي المأوى له، وأما في هذه الآية فر ضرورةَ تدعو إلى ذلك.
(7/258)
---(1/2869)
وفي مفعول "كَتَبْنَا" ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه "موعظة"، أي: كتبنا له موعظة / وتفصيلاً. و "من كل شيء" على هذا فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بـ "كتبنا"، والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصلِ صفةٌلـ "موعظة"، فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً، و "لكلِّ شيء" صفةٌ لـ "تفصيلاً". والثاني: أنه "من كل شيء". قال الزمخشري: "من كل شيء" في محل النصب مفعول "كتبنا"، و "موعظة وتفصيلاً" بدل منه، والمعنى: كَتَبْنا له كلَّ شيء كان بنو إسرائيل يَحْتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام". الثالث: أن المفعولَ محلُّ المجرور. قال الشيخ - بعدما حكى الوجهَ الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري -: "ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مفعولُ "كَتَبْنا" موضع المجرور كما تقول: "أكلت من الرغيف" و "مِنْ" للتبعيض، أي: كتبنا له أشياء من كل شيء، وانتصب "مَوْعِظة وتفصيلاً" على المفعول من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظ وللتفصيل" قلت: والظاهر أن هذا الوجهَ هو الذي أراده الزمخشري فليس وجهاً ثالثاً.
قوله: "بقوة" حالٌ: إمَّا من الفاعل، أي: ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بقوة، أي: بقوة دلائلها وبراهينها، والأولُ أوضحُ. والجملةُ مِنْ قوله "فَخُذْها" يُحتمل أن تكونَ بدلاً من قوله "فخُذْ ما آتيتك" وعاد الضميرُ على معنى "ما" لا على لفظِها. ويحتمل أن تكونَ منصوبةً بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة "كتبنا" والتقدير: وكتبنا فقلنا: خُذْ ما. والضميرُ على هذا عائدٌ على الألواح، أو على التوراة، أو على الرسالات، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء.
(7/259)
---(1/2870)
قوله: {يَأْخُذُواْ} الظاهرُ أنه مجزومٌ جواباً للأمر في قوله "وَأْمُرْ". ولا بدَّ مِنْ تأويله لأنه لا يلزمُ مِنْ أمره إياهم بذلك أن يأخذوا، بدليلِ عصيانِ بعضِهم له في ذلك، فإنَّ شَرْط ذلك انحلال الجملتين إلى شَرْطٍ وجزاء. وقيل: انجزم على إضمار اللام تقديره: ليأخذوا، كقوله:
2289- محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ * إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا
وهو مذهبُ الكسائي، وابنُ مالك يرى جَوازه إذا كان في جواب "قل"، وهنا لم يُذكر "قل" ولكن ذُكِر شيءٌ بمعناه؛ لأن معنى "وَأْمُرْ" و "قل" واحد.
قوله: {بِأَحْسَنِهَا} يجوز أن يكونَ حالاً كما تقدم في "بقوة" وعلى هذا فمفعولُ "يأخذوا" محذوفٌ تقديرُه: يأخذوا أنفسهم. ويجوز أن تكونَ الباءُ زائدةً، و "أحسنُها" مفعولٌ به والتقدير: يأخذوا أحسنَها كقوله:
2290- ................. * سودُ المحاجر لا يَقْرأن بالسُّوَرِ
وقد تقدَّم ذلك محقَّقاً في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. و "أحسن" يجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، وأن لا تكونَ بل بمعنى حَسَنة كقوله:
2291- إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا * بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ
أي: عزيزةٌ طويلة.
(7/260)
---(1/2871)
قوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} جَوَّزوا في الرؤية هنا أن تكون بصَريةً وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني "دار". والثاني: أنها قلبيةٌ وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأُعْلِمُكُمْ سيرَ الأولين وما حلَّ بهم من النَّكال. وقيل: دار الفاسقين: ما دارَ إليه أمرُهم، وذلك لا يُعْلم غلا بالإِخبار والإِعلام. قال ابن عطية: - معترضاً على هذا الوجه - "ولو كان من رؤية القلب لتعدَّة بالهمزة إلى ثلاثةِ مفعولين. ولو قال قائل: المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى فهو مُقَدَّر، أي: مَذْمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال إنها جهنم - قيل له: لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعول. ولا الاقتصارُ دونَه لأنها داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّز لكان على قبحٍ في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى".
قال الشيخ: "وحَذْفُ المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائزٌ فيجوز في جواب: هل أعلمتَ زيداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف "منطلقاً" لدلالة الكلام السابق عليه". قلت: هذا مُسَلَّم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ؟ ثم قال: "وأمَّا تعليلُه بأنَّها داخلةٌ على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع، لأن خبرَ المبتدأ يجوزُ حَذْفُه اختصاراً، والثاني والثالث / في باب "أَعْلَمَ" يجوز حَذْفُ كلٍ منهما اختصاراً". قلت: حَذْفُ الاختصار لدليل، ولا دليلَ هنا. ثم قال: "وفي قوله لأنها - أي "سأريكم" - داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوُّزٌ" ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر.
(7/261)
---(1/2872)
وقرأ الحسن البصري: "سأُوْريكم" بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان، أحدهما - قاله الزمخشري-: "وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقال: أَوْرَني كذا وأَوْرَيْتُه، فوجهه أن يكون مِنْ أَوْرَيْتُ الزندَ فإن المعنى: بَيِّنْه لي وأَنِرْه لأستبينَه. والثاني: - ذكره ابن جني - وهو أنه على الإِشباع فيتولَّد منها الواو قال: "وناسب هذا كونَه موضعَ تهديدٍ ووعيد فاحتمل الإِتيان بالواو" قلت: وهذا كقول الآخر:
2292- اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا * يومَ اللقاء إلى أحبابنا صورُ
وأنني حيثما يثني الهوى بَصَري * من حيث ما سلكوا أَدْنُو فانظورُ
لكن الإِشباعَ بابُه الضرورة عند بعضِهم. وقرأ ابن عباس وقسامة ابن زيد: "سأُؤْرِيكم". قال الزمخشري: "وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ
}.
* { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }
قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال، أي: يتكبَّرون ملتبسين بغير الحق. والثاني: أن يتعلَّق بالفعل قبله أي: يتكبرون بما ليس بحق، والتكبُّر بالحق لا يكون إلا لله تعالى خاصة.
قوله: {وَإِن يَرَوْاْ} الظاهرُ أنها بَصَريَّة، ويجوز أن تكون قلبية، والثاني محذوفٌ لفَهْم المعنى كقول عنترة:
2293- ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه * مني بمنزلة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: فلا تظني غيره واقعاً مني، وكذا الآية الكريمة، أي: وإن يَرَوا كل آية جائية أو حادثة. وقرأ مالك بن دينار "يُرَوا" مبنياً للمفعول مِنْ أرى المنقول بهمزة التعدية.
(7/262)
---(1/2873)
قوله {الرُّشْدِ} قرأ الأخَوان هنا وأبو عمرو في قوله {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} خاصةً دون الأوَّلَيْن فيها بفتحتين، والباقون بضمة وسكون. واختلف الناس فيها: هل هما بمعنى واحد؟ فقال الجمهور: نعم لغتان في المصدر كالبُخْل والبَخَل والسُّقْم والسَّقَم والحُزْن والحَزَن. وقال أبو عمرو بن العلاء: "الرُّشْد بضمة وسكون الصَّلاح في النظر، وبفتحتين الدِّين" قالوا ولذلك أُجْمِع على قوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} بالضم والسكون، وعلى قوله {فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} بفتحتين. ورُوي عن ابن عامر "الرُّشُد" بضمَّتين وكأنه من باب الإِتباع كاليُسْر والعُسُر. وقرأ السلمي "الرَّشاد" بألف فيكون الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام. وقرأ ابن أبي عبلة "لا يتخذوها" و "يتخذوها" بتأنيث الضمير لأن السبيل يجوز تأنيثُها. قال تعالى: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِيا
}. قوله: {ذالِكَ} فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ خبره الجارُّ بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. والثاني: أنه في محلِّ نصب. ثم اختُلِف في ذلك: فقال الزمخشري: "صَرَفَهم الله ذلك الصَّرْفَ بعينه فجعله مصدراً. وقال ابن عطية: "فعلنا ذلك" فجعله مفعولاً به، وعلى الوجهين فالباء في "بأنهم" متعلقةٌ بذلك المحذوف.
قوله: {وَكَانُواْ} في هذه الجملةِ احتمالان، أحدهما: أنها نسقٌ على خبر "أنَّ"، أي: ذلك بأنهم كذبوا، وبأنهم كانوا غافلين عن آياتنا. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر الله تعالى عنهم بأنَّ مِنْ شأنهم الغفلةَ عن الآيات وتدبُّرِها.
* { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(7/263)
---(1/2874)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ}: في خبره وجهان أحدهما: أنه الجملة من قوله {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، و {هَلْ يُجْزَوْنَ} خبر ثان أو مستأنف. والثاني: أن الخبرَ "هل يُجْزون" والجملةُ من قوله "حَبِطَتْ" في محلِّ نصب على الحال، و "قد" مضمرة معه عند مَنْ يَشْترط ذلك، وصاحبُ الحال فاعلُ "كذَّبوا".
قوله: {وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ} فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف والتقدير: ولقائهم الآخرة. والثاني: أنه من باب إضافة المصدر للظرف، بمعنى "ولقاء ما وعد الله في الآخرة"، ذكرهما الزمخشري. قال الشيخ: "ولا يجيز جُلَّةُ النحويين الإِضافةَ إلى الظرف لأن الظرفَ على تقديرِ "في"، والإِضافةُ عندهم على تقدير اللام أو "مِنْ"، فإن اتُّسِع في العامل جازَ أن يُنْصَب الظرفُ / نَصْبَ المفعول، ويجوز إذ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظرفُ / نَصْبَ المفعول، ويجوز إذ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظرف المتَّسَع في عاملِه، وأجازَ بعض النحويين أن تكون الإِضافةُ على تقدير "في" كما يُفهِمُ ظاهرُ كلامِ الزمخشري".
قوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ} هذا الاستفهامُ معناه النفي، ولذلك دخلت "إلا" ولو كان معناه التقريرَ لكان موجِباً فيَبْعُد دخول "إلا" أو يمتنع. وقال الواحدي هنا: "لا بد من تقديرِ محذوفٍ، أي: إلا بما كانوا، أو على ما كانوا، أو جزاء ما كانوا". قلت: لأن نفسَ ما كانوا يَعْملونه لا يُجْزَوْنَه إنما يُجْزون بمقابله وهو واضح.
* { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ }
(7/264)
---(1/2875)
قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ}: أي: من بعد مضيِّه وذهابه إلى الميقات. والجارَّان متعلقان بـ "اتخذ"، وجاز أن يتعلَّقَ بعاملٍ حرفا جر متحدا اللفظِ لاختلافِ معنييهما؛ لأنَّ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. ويجوز أن يكون "من حُليِّهم" متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ من "عملاً" لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً فكان يقال: عجلاً مِنْ حليهم.
وقرأ الأخَوان: "حِليِّهم" بكسر الحاء، ووجهُها الإِتباع لكسرة اللام، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش، والباقون بضمَّ السلام، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشَيْبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع حَلْي كطيّ، فُجمع على فُعول كفَلْس وفُلوس، فأصلُه حُلُوي كثُدِيّ في ثُدُوْي فاجتمعت الياءُ والواو وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأَدْغمت، وكُسِرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحّ الياء، ثم لك فيه بعد ذلك وجهان: تَرْكُ الفاءِ على ضمِّها أو إتباعُها للعين في الكسرة، وهذا مُطَّرد في كل جَمْعٍ على فُعُول من المعتلِّ اللام، سواء كان الاعتلال بالياء كحُلِيّ وثُدِيّ أم بالواو نحو عُصِيّ ودُلِيّ جمعَ عصا ودَلْو. وقرأ يعقوب "حَلْيَهم" بفتح الحاء وسكون اللام، وهي محتملةٌ لأن يكون الحَلْي مفرداً أريد به الجمعُ أو اسمُ جنسٍ مفردة حَلْيَة على حَدِّ قمح وقمحة.
و "عِجْلاً" مفعولُ "اتَّخذ" و "مِنْ حُليِّهم" تقدَّمَ حكمه. ويجوز أن يكونَ "اتَّخذ" متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّر، فيكون "مِنْ حليِّهم" هو المفعولَ الثاني. وقال أبو البقاء: "هو محذوف، أي: إلهاً" ولا حاجة إليه.
(7/265)
---(1/2876)
و "جَسَداً" فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه نعت. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه بدلٌ قاله الزمخشري، وهو أحسنُ، لأن الجسدَ ليس مشتقاً فلا ينعت به إلا بتأويل، وعطفُ البيان في النكرات قليلٌ أو ممتنع عند الجمهور. وإنما قال "جسداً" لئلا يُتَوَهَّمَ أنه كان مخطوطاً أو مَرْقوماً. والجسد: الجثة. وقيل: ذات لحم ودم، والوجهان منقولان في التفسير.
قوله: {لَّهُ خُوَارٌ} في محل النصب نعتاً لـ "عِجْلاً"، وهذا يقوِّي كونَ "جسداً" نعتاً لأنه إذا اجتمع نعت وبدل قُدَّمَ النعتُ على البدل. والجمهور على "خُوار" بخاء معجمة وواو صريحة وهو صوتُ البقر خاصةً، وقد يُستعار للبعير. والخَوَر الضَّعْفُ، ومنه: أرضٌ خَوَّارة ورُمْحٌ خَوَّار، والخَوْران مجرى الرَّوْث وصوت البهائم أيضاً. وقرأ علي رضي الله عنه وأبو السَّمَّال "جُُؤَار" بالجيم والهمز وهو الصوت الشديد.
قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} إنْ قلنا: إنَّ "اتخذ" متع
ية لاثنين، وإن الثاني محذوف تقديره: واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً إلهاً فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاء حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإِنكارُ، وإن قلنا إنها متعدية لواحد بمعنى صنع وعمل، أو متعدية لاثنين، والثاني هو "من حليِّهم" فلا بدَّ مِنْ حَذْفِ جملة قبل ذلك ليتوجَّه عليها الإِنكار، والتقدير: فعبدوه. و "يَرَوا" يجوز أن تكون العِلْمية وهو الظاهر، وأن تكون البصَريةَ، وهو بعيد.
قوله: {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} يجوز فيها وجهان، أظهرهما: أنها استئنافية، أَخْبَرَ عنهم بهذا الخبرِ وأنه دَيْدَنهم وشأنهم في كلِّ شيء فاتِّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك. ويجوز أن تكون حالاً، أي: وقد كانوا أي: اتخذوه في هذه الحالِ المستقرةِ لهم.
* { وَلَمَّا سُقِطَ فِيا أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(7/266)
---(1/2877)
قوله تعالى: {سُقِطَ فَيا أَيْدِيهِمْ}: / الجارُّ قائم مقام الفاعل. وقيل: القائمُ مقامَ [الفاعل] ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط أي: سُقِط السقوط في أيديهم. ونقل الشيخ عن بعضهم أنه قال: "وسقط تتضمَّن مفعولاً وهو ههنا المصدر، أي: الإِسقاط كقولك: "ذُهب بزيد". قال: "صوابه: وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط، لأنَّ "سقط" ليس مصدرُهُ الإِسقاط، ولأن القائمَ مقامَ الفاعل ضميرُ المصدر لا المصدر". وقد نقل الواحدي عن الأزهري أن قولهم "سُقِط في يده" كقول امرئ القيس:
2294- دَعْ عنك نَهْباً صِيح في حُجُراتِه * ولكنْ حديثاً ما حديث الرواحلِ
في كون الفعل مسنداً للجا ركأنه قيل: صاح المنتهبُ في حجراته، وكذلك المراد: "سُقِط في يده"، أي: سَقَطَ الندم في يده" قلت: فقوله: "أي: سقط الندم" تصريحٌ بأن القائمَ مقامَ الفاعل حرفُ الجارِّ لا ضميرُ المصدر. ونَقَل الفراء والزجاج أنه يُقال: سُقِط في يده وأُسقط أيضاً، إلا أن الفراء قال: "سَقَط - أي الثلاثي - أكثر وأجودُ". وهذه اللفظةُ تُستعمل في التندُّم والتحيُّر.
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ أهل اللغة في أصلها فقال أبو مروان ابن سراج اللغوي: "قولُ العرب: سُقِط في يده مما أَعْياني معناه". وقال الواحدي: "قد بان من أقوال المفسرين وأهلِ اللغة أن "سُقِط في يده" نَدِم، وأنه يُستعمل في صفة النادم". فأمَّا القول في أصله وما حَدُّه فلم أر لأحدٍ من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه إلا ما ذكر الزجاجي فإنه قال: "قوله تعالى: "سُقِط في أيديهم" بمعنى ندموا، نَظْمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولم تَعْرفه العرب، ولم يوجدْ ذلك في أشعارهم، ويدلُّ على صحة ذلك أن شعراء الإِسلام لَمَّا سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وَجْهُ الاستعمال، لأن عادتَهم لم تَجْرِ به فقال أبو نواس:
2295- ونشوةٌ سُقِطْتُ منها في يدي
(7/267)
---(1/2878)
وأبو نواس هو العالِمُ النِّحْرِيْر فأخطأ في استعمال هذا اللفظ لأن فُعِلْتُ لا يُبْنى إلا من فعلٍ متعدٍ و "سَقَط" لازم لا يتعدى إلا بحرف الصفة، لا يقال: "سُقطت" كما لا يُقال: رُغبت وغُضِبت إنما يقال: رُغِب في، وغُضِب على. وذكر أبو حاتم [أن] "سُقِط فلان في يده" بمعنى ندم وهذا خطأ مثلُ قول ابي نواس، ولو كان الأمر كذلك لكان النظم "ولما سُقطوا في أيديهم" و "سُقِط القومُ في أيديهم". وقال أبو عبيدة: "يُقال لمن ندم على أمر وعجز عنه: سُقِط في يده".
وقال الواحدي: "وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للذي يَحْصُل وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد: "قد حَصَل في يده مكروهٌ" يُشَبِّه ما يحصُل في النفس وفي القلب بما يُرى بالعين، وخُصَّت اليدُ بالذِّكر لأنَّ مباشرة الذنوب بها، فاللائمةُ تَرْجِع عليها لأنها هي الجارحة العظمى، فيُسْنَدُ إليها ما لم تباشِرْ كقوله: {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وكثير من الذنوب لم تقدِّمْه اليد. الوجه الثاني: أن الندم حَدَثٌ يحصلُ في القلب، وأثرهُ يظهر في اليد لأن النادمَ يَعَضُّ يدَه ويَضْرب إحدى يديه على الأخرى كقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} فتقليبُ الكف عبارةٌ عن الندم، وكقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} فلمَّا كان أثرُ الندم يحصُل في اليدِ مِن الوجه الذي ذكرناه أُضيف سقوطُ الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فِعْلِ النادم هو تقليبُ الكفِّ وعَضُّ الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يَسْتشعره الإِنسان والذي يظهر من حالة الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه".
(7/268)
---(1/2879)
وقال الزمخشري: "ولمَّا سُقِط في أيديهم": ولما اشتدَّ ندمهم، لأنَّ مِنْ شأن مَنْ اشتدَّ ندمُه وحسرته أن يَعَضَّ يده غَمَّاً فتصيرَ يدهُ مسقوطاً فيها لأنَّ فاء قد وقع فيها". وقيل: مِنْ عادة النادم أن يُطَأطِئ رأسه ويضع ذَقَنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئة لو نُزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليدَ مسقوط فيها. ومعنى "في": "على"، فمعنى "في أيديهم": على / أيديهم كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. وقيل: هو مأخوذ من السِّقاط وهو كثرة الخطأ، والخاطِئُ يندم على فِعْله. قال ابن أبي كاهل:
2296- كيف يَرْجُون سِقاطي بعدما * لَفَّع الراسَ بياضٌ وصَلَعْ
وقيل: هو مأخوذٌ من السَّقيط، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجليد يشبه الثلج؛ يقال منه: سَقَطَت الأرض كما يقال: ثَلَجت، والسَّقْطُ والسَّقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يَبْقى، ومَنْ وقع في يده السَّقِيط لم يحصل منه على شيءٍ فصار هذا مثلاً لكل مَنْ خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل.
واعلم أن "سُقِطَ في يده" عَدَّه بعضُهم في الأفعال التي لا تتصرَّف كنِعْمَ وبئس. وقرأ ابن السَّمَيْفع "سَقَط في أيديهم" مبنيَّاً للفاعِل، وفاعلُه مضمر، أي: سقط الندمُ، هذا قولُ الزجاج. وقال الزمخشري: "سقط العَضُّ". وقال ابن عطية: "سَقَط الخسران والخيبة" وكل هذه أمثلةٌ. وقرأ ابن أبي عبلة "أُسْقِط" رباعياً مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنها لغةٌ نقلها الفراء والزجاج.
قوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ} هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذه إلى تقديمٍ وتأخير كما زعمَه بعضُهم قال: "تقديره: ولما رأوا أنهم قد ضلُّوا وسُقِط في أيديهم". قال: "لأنَّ الندمَ والتحسُّر إنما يقعان بعد المعرفة".
(7/269)
---(1/2880)
قوله: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا} قرأ الأخَوان: "ترحمنا وتغفر" بالخطاب، "ربَّنا" بالنصب. وهي قراءةُ الشعبي وابن وثاب وابن مصرف والجحدري والأعمش، وأيوب، وباقي السبعة بياء الغيبة فيهما، "ربُّنا" رَفْعاً، وهي قراءة الحسن ومجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر. فالنصبُ على أنه منادى وناسبه الخطاب، والرفعُ على أنه فاعل، فيجوز أن يكون هذا الكلامُ صَدَرَ من جميعهم على التعاقب، أو هذا من طائفة وهذا من طائفة، فَمَنْ غلب عليه الخوفُ وقَوِي على المواجهة خاطب مستقبلاً من ذنبه، ومَنْ غلب عليه الحياء أخرج كلامه مُخْرج المُسْتحيي من الخطاب، فأسند الفعل إلى الغائب.
* { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيا أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {غَضْبَانَ أَسِفاً}: حالان من موسى عند مَنْ يجيز تعدُّدَ الحال، وعند مَنْ لا يجيزه يَجْعَلُ "أَسِفاً" حالاً من الضمير المستتر في "غضبان" فتكون حالاً متداخلةً، أو يجعلها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لعُسْر إدخالِه في أقسام البدل، وأقربُ ما يقال: إنه بدلُ بعضٍ من كل إن فسَّرنا الأسِفَ بالشديد الغضبِ، أو بدلُ اشتمال إن فسَّرناه بالحزين. يقال: أسِف يأسَفُ أَسَفاً، اي: اشتدَّ غضبُه. قال تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ويقال: بل معناه حَزِن ومنه قوله:
2297- غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ * ينقضي بالهمِّ والحزن
فلما كانا متقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليةُ على ما ذكرته لك، ويدلُّ على مقاربة ما بينهما - كما قال الواحدي - قولُه:
(7/270)
---(1/2881)
2298- ............... * فحزنُ كلِّ أخي حُزْنٍ أخو الغضبِ
وقال الأعشى:
2299- أرى رجلاً منكمْ أسِفاً كأنما * يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفَّاً مُخْضَّبا
فهذا بمعنى غضبان. وفي الحديث: "إنَّ أبا بكر رجلٌ أسيف"، أي حزين، ورجلٌ أَسِف: إذا قُصِد ثبوتُ الوصف واستقراره، فإن قُصِد به الزمان جاء على فاعِل.
قوله: {قَالَ بِئْسَمَا} هذا جوابُ "لمَّا" وتقدَّم الكلامُ على "بئسما"، ولكنَّ المخصوصَ بالذم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يفسِّره "ما خَلَفْتموني" والتقدير: بئس خلافةً خَلَفْتمونيها خلافتُكم.
قوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} في "أَمْرَ" وجهان أحدهما: أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه، والأصل: أَعَجِلْتُمْ عن أمر ربكم. قال الزمخشري: "يقال: عَجِل عن الأمر: إذا تركه غير تامَّ، ونقيضه تَمَّ، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى سبق فيتعدَّى تعديتَه فيقال: عَجِلْتُ الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم". والثاني: أنه متعدٍّ بنفسه غيرَ مضمَّنٍ معنى فعل آخر. حكى يعقوب "عَجِلْتُ الشيء سبقته" وأعجلت الرجل استعجلته، أي: حملتُه على العَجَلة".
قوله: {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن الجملةَ حالٌ من ضمير موسى المستتر في "أخذ"، أي: أخذ جارَّاً إليه. الثاني: أنها حال من "رأس" قاله أبو البقاء وفيه نظرٌ لعدم الرابط. الثالث: أنها حال من "أخيه" قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ يعني من حيث / إن الحال من المضاف غليه يَقِلُّ مجيئُها أو يمتنعُ عند بعضهم. قلت: وقد تقدم غيرَ مرة أن بعضَهم يُجَوّزه في صورٍ هذه منها، وهو كونُ المضافُ جزءاً من المضاف إليه.
(7/271)
---(1/2882)
قوله: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها. فأمَّا قراءة الفتح ففيها مذهبان: مذهبُ البصريين أنهما بُنيا على الفتح لتركُّبهما تركيب خمسة عشر، فعلى هذا فلي "ابن" مضافاً لـ "أم" بل مركَّب معها فحركتُهما حركةُ بناء. والثاني: مذهب الكوفيين وهو أن "ابن" مضاف لـ "أُمّ" و "أم" مضافة لياء المتكلم، وياء المتكلم قد قلبت ألفاً كما تقلب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو: يا غلاماً، ثم حُذِفَتْ الألفُ واجْتُزِئ عنها بالفتحة كما يُجْتَزَأُ عن الياء بالكسرة، فحينئذ حركة "ابن" حركةُ إعراب وهو مضاف لـ "أُمَّ" فهي في محلِّ خفضٍ بالإِضافة.
(7/272)
---(1/2883)
وأما قراءةُ الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى أنَّا أَضَفْنا هذا الاسمَ المركب كلَّه لياء المتكلم فكُسِر آخرُه، ثم اجتُزِئ عن الياء بالكسرة فهو نظير: يا أحَدَ عشري ثم: يا أحد عَشرِ بالحذف، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإِضافة إذ لم يَجُزْ حَذْفُ الياء لأن الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضافٌ إليه المُنادى فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه. وعلى رأي الكوفيين يكون الكسرُ كسرَ إعراب وحُذِفت الياءُ مجتَزَأً عنها بالكسرة كما اجتزِئَ عن ألفها بالفتحة. وهذان الوجهان يَجْربان في "ابن أم" و "ابن عم" و "ابنة أم" و "ابنة عم". فاعلم أنه يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خمسُ لغات، فُصْحاهُنَّ: حَذْفُ الياء مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قَلْبُ الياءِ ألفاً فَيَلْزَمُ قَلْبُ الكسرةِ فتحةً، ثم حَذْفُ الألف مجتزَأً عنها بالفتحة، ثم إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلة الأربعة ممَّا أُضيف إلى مضاف إلى ياء المتكلم في النداء فإنه لا يجوزُ فيه إلا ما يجوزُ في غير باب النداء لأنه ليس منادى نحو: يا غلامَ أبي ويا غلام أمي، وإنما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصةً هذا المجرى تنزيلاً للكلمتين منزلةَ كلمةٍ واحدة ولكثرة الاستعمال.
وقُرئ "يابن أمي" بإثباتِ الياء ساكنةً، ومثلُه قوله:
2300- يابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّق نفسي * أنت خَلَّفْتَني لدهرٍ شديدِ
وقول الآخر:
2301- يا بنَ أمي فَدَتْكَ نفسي ومالي * ...............
وقُرئ أيضاً: "ابن إمِّ" بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ. ومِنْ قَلْبِ الياءِ ألفاً قولُه:
2302- يا بنة عَمَّا لا تَلُومي واهْجَعي
وقوله:
2303- كُنْ لي لا عَليَّ يا بن عَمَّا * نَدُمْ عَزِيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا
(7/273)
---(1/2884)
قوله: {فَلاَ تُشْمِتْ} العامَّة على ضم التاء وكسر الميم وهو مِنْ أَشْمت رباعياً، "الأعداء" مفعول به. وقرأ ابن محيصن "فلا تَشْمِتْ" بفتح التاء وكسر الميم، ومجاهد بفتح التاء أيضاً وفتح الميم، "الأعداءَ" نصب على المفعول به. وفي: هاتين القراءتين تخريجان، أظهرهما: أن شمِت أو شَمَت بكسر الميم أو فتحها متعدٍّ بنفسه كأشمت الرباعي، يقال: شمت بي زيدٌ العدوَّ، كما يقال: أَشْمَتَّ بي العدو. والثاني: أنَّ "تَشْمت" مسندٌ لضمير الباري تعالى، أي: فلا تَشْمت يا رب، وجاز هذا كما جاز {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} ثم أضمر ناصباً للأعداء كقراءة الجماعة قاله ابن جني، ولا حاجةَ غلى هذا التكلف لأنَّ "شمت" الثلاثي يكون متعدِّياً بنفسه، والإِضمارُ على خلاف الأصل. وقال أبو البقاء - في هذا التخريج-: "فلا تشمت أنت" فجعل الفاعلَ ضميرَ موسى، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى. وأمَّا تنظيرُه بقوله {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} فإنما جاز ذلك للمقابلة في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وكقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} ولا يجوز ذلك في غير المقابلة.
وقرأ حميد بن قيس: "فلا تَشْمِت" كقراءة ابن محيصن، ومجاهد كقراءته فيه أولاً، إلا أنهما رفعا الأعداء على الفاعلية، جعلا شمت / لازماً فرفعا به "الأعداء" على الفاعلية، فالنهي في اللفظ للمخاطب والمرادُ به غيرُه كقولهم: "لا أُرَيَنَّك ههنا"، أي: لا يكنْ منك ما يقتضي أن تَشْمت بي الأعداء.
والإِشمات والشَّماتة: الفَرَح ببلِيَّة تنال عدوَّك قال:
2304- .................. * والموتُ دون شماتَةِ الأعداء
(7/274)
---(1/2885)
قيل: واشتقاقُها مِنْ شوامِتِ الدابة وهي قوائمُها؛ لأن الشماتةَ تَقْلِبُ قلبَ الحاسِد في حالَتَي الفرح والترح كتقلُّب شوامت الدابة. وتشميت العاطس وتَسْميته بالشين والسين الدعاء له بالخير، قال أبو عبيد: "الشينُ أعْلى اللغتين" وقال ثعلب: "الأصلُ فيهما السين مِنَ السَّمْت، وهو القصد والهَدْيُ". وقيل: معنى تشميتِ العاطس بالمعجمة أن يُثَبِّته الله كما يثبت قوائم الدابة. وقيل: بل التفعيل للسَّلْب، أي: أزال الله الشماتة به، وبالسين المهملة، أي: ردَّه الله غلى سَمْتِه الأولى أي هيئته لأنه يحصُل له انزعاج. وقال أبو بكر: "يقال: سَمَته وسَمَت عليه، وفي الحديث: "وسَمَّت عليهما
".
* { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}: أي: ومثلَ ذلك النيل من المعصية والذل نجزي المفترين.
* { وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوااْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ}: مبتدأ، وخبره قوله: "إن ربك" إلى آخره. والعائد محذوف والتقدير: غفورٌ لهم رحيم بهم كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي: منه.
قوله: {مِن بَعْدِهَا} يجوز أن يعود الضمير على "السيئات" وهو الظاهر، ويجوز أن يكونَ عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: "ثم تابوا"، أي: من بعد التوبة. قال الشيخ: "وهذا أَوْلَى، لأن الأولَ يلزمُ منه حَذْفُ مضافٍ ومعطوفِه، إذ التقدير: من بعد عَمَلِ السيئات والتوبة منها".
قوله: {وَآمَنُوااْ} يجوز أن تكونَ الواوُ للعطفِ فيقال: التوبة بعد الإِيمان فكيف جاءَتْ قبلَه؟ فيقال: الواو لا تُرَتِّبُ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحال، أي: تابوا وقد آمنوا.(1/2886)
(7/275)
---
* { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }
قوله تعالى: {وَلَماَّ سَكَتَ}: السُّكوت والسُّكات: قَطْعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة. قال الزمخشري: "هذا مَثَلٌ كأن الغضبَ كان يُغْرِيه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وأَلْقِ الألواحِ وجُرَّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وترك الإِغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يَس~تَفْصِحْها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شُعَب البلاغة، وإلا فما لِقراءة معاوية بن قرة "ولمَّا سكن" بالنون لا تجدُ النفسَ عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة؟".
وقيل: شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم. قال يونس: "سال الوادي ثم سكت" فهذا أيضاً استعارةٌ. وقال الزجاج: "مصدر سَكَتَ الغضبُ السكتة، ومصدر سَكَت الرجل السكوت" وهذا يقتضي أن يكون "سكت الغضب" فعلاً على حِدَته. وقيل: هذا من باب القلب والأصل: ولما سكت موسى عن الغضب نحو: أَدْخَلْتُ القلنسوة في رأسي، وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلاف الذي ذكرته لك غير مرة.
قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى}، هذه الجملة في محل نصب على الحال من الألواح أو من ضمير موسى، والأول أحسن.
قوله: {لِّلَّذِينَ} متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لـ "رحمة" أي: رحمة كائنة للذين. ويجوز أن تكونَ اللامُ لامَ المفعول من أجله كأنه قيل: هدى ورحمة لأجل هؤلاء، و "هم" مبتدأ، و "يرهبون" خبره، والجملةُ صلة الموصول.
(7/276)
---(1/2887)
قوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} في هذه اللامِ أربعة أوجه، أحدها: أن اللامَ مقويةٌ للفعل، لأنه لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد تقدم أن اللامَ تكونُ مقويةً حيث كان العامل مؤخراً أو فرعاً نحو: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، ولا تُزاد في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم كقوله:
2305- ولمَّا أن تواقَفْنا قليلاً * أَنَخْنا للكلاكل فارْتَمَيْنا
أو في قليل عند آخرين كقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم}. والثاني: أن اللامَ لامُ العلة، وعلى هذا فمفعولُ "يرهبون" محذوفٌ تقديره: يرهبون عقابَه لأجله، وهذا مذهب الأخفش. / الثالث: أنها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم، وهو قول المبرد، وهذا غير جارٍ على قواعد البصريين لأنه يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدر وإبقاءُ معموله وهو ممتنعٌ إلا في شعر، وأيضاً فهو تقديرٌ مُخْرِجٌ للكلام عن وجه فصاحته. الرابع: أنها متعلقةٌ بفعلٍ مقدر أيضاً تقديره: يخشعون لربهم. ذكره أبو البقاء وهو أولى ممَّا قبله.
* { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }
قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى}: "اختار" يتعدَّى لاثنين إلى أوَّلهما بنفسه وإلى ثانيهما بحرف الجر، ويجوز حَذْفُه، تقول: "اخترت زيداً من الرجال"، ثم تَتَّسِعُ فتحذف "مِنْ" فتقول: "زيداً الرجال" قال:
2306- اخْتَرْتُكَ الناسَ إذ رثَّتْ خلائِقُهُمْ * واعتلَّ مَنْ كان يُرجى عنده السُّؤلُ
وقال الراعي:
(7/277)
---(1/2888)
-2307 فقلْتُ له اخترها قَلوصاً سمينة * ونابٌ علينا مثل نابِكَ في الحيا
وقال الفرزدق:
2308- منا الذي اختير الرجالَ سماحةً * وجوداً إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السماع، حَصَره النحاة في ألفاظ وهي: اختار وأَمَر كقوله:
2309- أمرتك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به * فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ
واستغفر كقوله:
2310- أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ محصيَه * ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
وسمَّى [نحو:] سَمَّيْتُ ابني بزيد، وإن شئت: زيداً. و "دعا" بمعناه قال:
2311- دَعَتْني أمُّ عمرو أخاها ولم أكن * أخاها ولم أَرْضَعْ لها بلَبانِ
و "كَنَى" تقول: كَنَيْته بفلان، وإن شئت فلاناً. و "صَدَق" قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}. و "زوَّج" قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا}. ولم يزد الشيخ عليها. ومنها أيضاً "حدَّث وأنبأ ونبّأ وأخبر وخبَّر" إذا لم تُضَمَّن معنى أَعْلَمَ. قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا} وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ}. وتقول: حَدَّثْتك بكذا، وإن شئت: كذا، قال:
2312- لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادقاً * أَصُمْ في نهارِ القيظِ للشمس باديا
و "قومه" مفعولٌ ثانٍ على أوَّلهما، والتقدير: واختار موسى سبعين رجلاً من قومه. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أن "قومَه" مفعول أول و "سبعين" بدل، أي: بدل بعض من كل، ثم قال: "وأرى أن البدلَ جائزٌ على ضعف وأن التقدير: سبعين رجلاً منهم". قلت: إنما كان ممتنعاً أو ضعيفاً لأنَّ فيه حَذْفَ شيئين: أحدُهما المختار منه، فإنه لا بد للاختيار من مختارٍ ومختار منه، وعلى البدل إنما ذُكِر المختارُ دونَ المختار منه. والثاني: أنه لا بد من رابط بين البدل والمبدل منه وهو "منهم" كما قدَّره أبو البقاء، وأيضاً فإن ابلدلَ في نية الطَّرْح.
(7/278)
---(1/2889)
وأصل اختار: اختَيَرَ افتعل من لفظ الخير كاصطفى من الصفوة. و "لميقاتنا" متعلقٌ به أي: لأجل ميقاتنا. ويجوز أن يكونَ معناها الاختصاصَ، أي: اختارهم مخصصاً بهم الميقات كقولك: اختير لك هذا.
قوله: {لَوْ شِئْتَ} مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شِئْتَ إهلاكنا، و "أهلكتهم" جواب لو، والأكثر الإِتيانُ باللام في هذا النحو، ولذلك لم يَأْتِ مجرداً منها إلا هنا، وفي قوله {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} وفي قوله: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}. ومعنى "من قبل" أي: قبل الاختيار وأَخْذ الرجفة.
قوله: {وَإِيَّايَ} قد يتعلَّق به مَنْ يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يمكنُ أن يُقال: أهلكتنا، وهو تعلُّقٌ واهٍ جداً لأن مقصودَه صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كلٍ على حِدَتِه تعظيماً للأمر، وأيضاً فإن موسى لم يتعاطَ ما يقتضي إهلاكَه بخلاف قومه، وإنما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطَف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقدم لك - فهذه من هذا - في قوله {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} وقوله {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ
}. قوله: {أَتُهْلِكُنَا} يجوز فيه أن يكون على بابه، أي: أتَعُمُّنا بالإِهلاك أم تخصُّ به السفهاءَ منا؟/ ويجوز أن يكونَ بمعنى النفي، أي: ما تُهْلِك مَنْ لم يُذنب بذنب غيره، قاله أبو بكر بن الأنباري، قال: "وهو كقولك: أتُهين مَنْ يكرمك؟ وعن المبرد: هو سؤالُ استعطاف. و "منا" في محل نصب على الحال من "السفهاء" ويجوز أن تكون للبيان.
قوله: {تُضِلُّ بِهَا} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. والثاني: أن تكون حالاً من "فتنتك" أي: حالَ كونها مُضِلاً بها. ويجوز أن تكون حالاً من الكاف لأنها مرفوعةٌ تقديراً بالفاعلية، ومنعه أبو البقاء قال: "لعدم العامل فيها" وقد تقدَّم البحث معه فيه غير مرة.
(7/279)
---(1/2890)
* { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيا أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {هُدْنَآ}: العامَّةُ على ضم الهاء، مِنْ هاد يهود بمعنى مال، قال:
2313- قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها * أني مِنَ الله لها هائدُ
أو تاب، مِنْ قوله:
2314- إني امرؤٌ مما جَنَيْتُ هائِدُ * ...............
ومن كلامِ بعضهم: "يا راكبَ الذنب هُدْهُدْ، واسجد كأنك هُدْهُد". وقرأ زيد بن علي وأبو وَجْزة "هِدْنا" بكسر [الهاء] من هاد يَهيد أي حرَّك. وقد أجاز الزمخشري في هُدنا وهِدْنا بالضم والكسر أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كل منهما بمعنى مِلْنا أو أمالنا غيرُنا، أو حرَّكْنا نحن أنفسَنا أو حرَّكَنا غيرُنا وفيه نظر، لأن بعض النحويين قد نصَّ على أنه متى أُلبس وَجَبَ أن يؤتى بحركةٍ مزيلةٍ لِلَّبس فيقال في "عقتُ" من العَوْق إذا عاقك غيرك: "عِقت" بالكسر فقط أو الإِشمام، وفي بعتَ يا عبد إذا قصد أن غيرَه باعه: "بُعْت" بالضم فقط أو الإِشمام، ولكن سيبويه جوَّز في قيل وبيع ونحوهما الأوجهَ الثلاثة من غير احتراز.
و "هي" ضميرٌ يفسِّره سياقُ الكلام إذ التقدير: إنْ فتنتُهم إلا فتنتُك. وقيل: يعود على مسألة الإِراءة من قوله: {أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} أي: إنْ مسالة الرؤية.
(7/280)
---(1/2891)
قوله: {عَذَابِيا أُصِيبُ} مبتدأ وخبره. والعامَّةُ على "مَنْ أشاء" بالشين المعجمة. وقرأ زيد بن علي وطاوس وعمرو بن فائد: "أساء" بالمهملة من الإِساءة. قال الداني: "لا تَصِحُّ هذه القراءة عن الحسن ولا عن طاوس، وعمرو بن فائد رجل سَوْء، وقرأها يوماً سفيان بن عيينة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقرئ فصاح به وأسمعه فقال سفيان: "لم أَفْطِنْ لما يقولُ أهل البدع". قلت: يعني عبدالرحمن أن المعتزلةَ تعلَّقوا بهذه القراءة في أن فعلَ العبدِ مخلوقٌ له، فاعتذر سفيان عن ذلك.
* { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيا أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(7/281)
---(1/2892)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ}: في محله أوجه، أحدها: الجر نعتاً لقوله "الذين يتقون". الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه منصوبٌ على القطع. الرابع: أنه مرفوع على خبر ابتداء مضمر وهو معنى القطع أيضاً. الخامس: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ وجهان، أحدهما: أنه الجملةُ الفعلية من قوله "يأمرهم بالمعروف". والثاني: الجملةُ الاسمية من قوله "أولئك هم المفلحون" ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه ضعف، بل مَنْعٌ، كيف يجعل "يأمرهم" خبراً وهو من تتمة وَصْفِ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على أنه معمولٌ للوجدان عند بعضهم كما سيأتي التنبيهُ عليه، وكيف يَجْعَلُ "أولئك هم المفلحون" خبراً لهذا الموصول، والموصولُ الثاني وهو قوله {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} يطلبه خبراً، لا يتبادَرُ الذهنُ إلى غيره ولو تبادر لم يكن مُعْتبراً.
قوله: {الأُمِّيَّ} العامَّةُ على ضم الهمزة نسبةً: إمَّا إلى الأُمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديثُ: "إنَّا أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب"، وإمَّا نسبةً إلى الأَمّ وهو مصدر أَمَّ يَؤُمُّ، أي: قصد يقصد، والمعنى على هذا: أن هذا النبيَّ الكريم مقصود لكل أحدٍ. وفيه نظر، لأنه كان ينبغي أن يقال: الأَمِّيّ بفتح الهمزة. وقد يقال: إنه من تغيير النسب. وسيأتي أن هذا قراءةٌ لبعضهم، وإما نسبةً إلى أمِّ القرى وهي مكة، وإمَّا نسبة إلى الأُمّ كأن الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادتِه من أمه.
وقرأ يعقوب "الأَمِّيّ" بفتح الهمزة، وخرَّجها بعضهم على أنه من تغيير النسب، كما قالوا في النسب إلى أُمَيَّة: أَمَوي /. وخرَّجها بعضهم على أنها نسبةٌ إلى الأَمّ وهو القصد، أي: الذي هو على القصد والسَّداد، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك أيضاً في القراءة الشهيرة. فقد تحصَّل أن كلاً من القراءتين يحتمل أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى.
(7/282)
---(1/2893)
قوله: "تجدونه" الظاهر أن هذه متعديةٌ لواحد لأنها اللُّقْبَة، والتقدير: تَلْقَوْنه، أي تَلْقَوْن اسمَه ونعته مكتوباً، لأنه بمعنى وُجْدان الضالَّة فيكون "مكتوباً" حالاً من الهاء في "تجدونه". وقال أبو علي: "إنها متعدية لاثنين أولهما الهاء، والثاني "مكتوباً". قال: "ولا بد من حذف هذا المضاف، أعني قوله "ذكره أو اسمه". قال سيبويه: "تقول إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو وهذا ذِكْر عمرو قال: "وهذا يجوزُ على سَعة الكلام".
قوله: {عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} هذا الظرف وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ بـ "تَجدون"، ويجوز - وهو الأظهر - أن يتعلَّقا بـ "مكتوباً"، أي: كُتِبَ اسمُه ونعته عندهم في تَوْراتهم وإنجيلهم.
قوله: {يَأْمُرُهُم} فيه ستةُ أوجه، أحدها: أنه مستأنف، فلا محلَّ له حينئذ وهو قول للزجاج. والثاني: أنه خبر لـ "الذين". قاله أبو البقاء، وقد ذُكِرَ، قلت: وقد ذكر ما فيه ثَمَّة. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في "تجدونه" ولا بد من التجوز بها، ذلك بأن تُجْعَلَ حالاً مقدرة. وقد منع أبو علي أن تكون حالاً من هذا الضمير قال: "لأن الضميرَ للاسم والذِّكْرِ، والاسم والذِّكر لا يأمران" يعني أن الكلام على حَذْفِ مضافٍ كما مرَّ، فإن تقديره: تجدون اسمه أو ذِكْره، والذكرُ والاسمُ لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمَّى. الرابع: أنه حال من "النبيّ". الخامس: أنه حال من الضمير المستكن في "مكتوباً". السادس: أنه مفسِّر لـ "مكتوباً"، أي لِما كُتِب، قاله الفارسي. قال: "كما فَسَّر قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} بقوله: {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، وكما فسَّر المَثَل في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} بقوله {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
(7/283)
---(1/2894)
}. وقال الزجَّاج هنا: "ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرُهم بالمعروف، وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف وما ذُكِر معه مِنْ صفته التي ذُكِرت في الكتابين". واستدرك أبو علي عليه هذه المقالةَ فقال: "لا وجهَ لقوله "يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف" إن كان يعني أن ذلك مرادٌ، لأنه لا شيءَ يَدُلُّ على حَذْفِه، ولأنَّا لا نَعْلَمهم أنهم صَدَقُوا في شيء، وتفسير الآية أنَّ "وجدت" فيها تتعدى لمفعولين" فَذَكر نحو ما قدَّمته عنه. قلت: وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه، لأنه أراد تفسيرَ المعنى وهو تفسير حسن.
قوله: "إصراهم" قرأ ابن عامر: "آصارهم" بالجمع على صيغة أفْعال، فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفاً لسَبْقِها بمثلها، والباقون بالإِفراد فهي جمع باعتبار متعلَّقاته وأنواعه، وهي كثيرة. ومَنْ أفرد فلأنه اسمُ جنسٍ. وقرأ بعضهم: "أَصرهم" بفتح الهمزة، وبعضُهم "أُصْرهم" بضمها. وقد تقدم تفسير هذه المادة في أواخر البقرة.
والأغلال جمع غُلّ، وهو هنا مَثَل لِما كُلِّفوه. وقد تقدَّم تفسير المادة أيضاً في آل عمران: "وما كان لنبي أن يَغُلَّ"، وكذا تقدم تفسير التعزير في المائدة.
والعامَّة على تشديد "وعزَّروه". وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وسليمان التيمي بتخفيفها، وجعفر بن محمد: "وعَزَّزوه" بزايين معجمتين.
(7/284)
---(1/2895)
قوله: {أُنزِلَ مَعَهُ} قال الزمخشري: "فإن قلت: ما معنى "أُنْزِلَ معه"، وإنما أُنْزِل مع جبريل؟ قلت: معناه أُنزل مع نبوته؛ لأن اسْتِنْباءَه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يتعلَّق بـ "اتَّبعوا"، أي: واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبيّ وبالعمل بسنته وبما أَمَرَ به ونَهَى عنه، أو واتَّبعوا القرآنَ كما اتَّبعه مصاحبين له في اتَّباعه" يعني بهذا الوجهِ الأخير أنه حالٌ من فاعل "اتبعوا". / وقيل: "مع" بمعنى "على"، أي: أُنْزِلَ عليه. وجوَّز الشيخ أن يكون "معه" ظَرْفاً في موضعِ الحال. قال: "والعاملُ فيها محذوف تقديره: أُنْزِلَ كائناً معه، وهي حال مقدَّرة كقولهم: "مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً" فحالةُ الإِنزال لم يكن معه، لكنه صار معه بعدُ، كما أن الصيدَ لم يكن وقتَ المرور".
* { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {إِلَيْكُمْ}: متعلقٌ بـ "رسول"، و "جميعاً" حال من المجرور بـ إلى.
قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ} يجوز فيه الرفع والنصب والجر، فالرفعُ والنصبُ على القطع وقد مرَّ غيرَ مرة. والجرُّ من وجهين: إمَّا النعتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها. قال الزمخشري: "ويجوز أن يكون جَرّاً على الوصفِ وإن حِيل بين الصفة والموصوف بقوله "إليكم جميعاً". وقد استضعف أبو البقاء هذا ووجهَ البدل فقال: "ويَبْعُدُ أن يكونَ صفة لله أو بدلاً منه لِما فيه من الفصل بينهما بـ "إليكم" وبحالٍ، وهو متعلِّق بـ "رسول".
(7/285)
---(1/2896)
قوله: {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب، إذ هي بدلٌ من الصلةِ قبلها، وفيها بيانٌ لها، لأنَّ مَنْ مَلَكَ العالَم كان هو الإِلهَ على الحقيقة. وكذا قوله "يحيي ويميت" هي بيانٌ لقوله {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} سِيْقَتْ لبيان اختصاصه بالإِلهية لأنه لا يَقْدِرُ على الإِحياءِ والإِماتةِ غيرُه، قال ذلك الزمخشري. قال الشيخ: "وإبدالُ الجملِ من الجمل غيرِ المشتركة في عاملٍ لا نعرفه". وقال الحوفي: "إنَّ "يحيي ويميت" في موضع خبر "لا إله". قال: "لأن الإِله في موضع رفع بالابتداء، و "إلا هو" بدلٌ على الموضع" قال: "والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم الله". قلت: يعني بالجملة قولَه {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ويعني باسم الله، أي الضمير في "له مُلْك"، أي: استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإِلهية. وقال الشيخ: "والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإِعراب، وإن كان متعلقاً بعضُها ببعض من حيث المعنى". وقال في إعراب الحوفي المتقدم: "إنه متكلِّفٌ" وهو كما قال.
وقرأ مجاهد وعيسى "وكلمة" بالتوحيد، والمراد بها الجنس كقوله: "أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد"، ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم لك شرح هذا.
قوله: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال الزمخشري: "فإن قلت: هَلاَّ قيل: فآمنوا بالله وبي بعد قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}. قلت: عَدَل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه، ولِما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليُعْلِم أنَّ الذي يجب الإِيمان به واتِّباعه هو هذا الشخص المستقلّ بأنه النبيُّ الأميُّ الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً مَنْ كان أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة وتفادياً من العصبية لنفسه".
(7/286)
---(1/2897)
* { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوااْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}: الظاهر أن "قطعناهم" متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين، فعلى هذا يكون "اثنتي" حالاً من مفعول "قطَّعناهم"، أي: فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد. وجوَّز ابو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن "اثنتي" مفعولٌ ثانٍ، وجزم الحوفي بذلك.
وتمييز "اثنتي عشرة" محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و "أسباطاً" بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل "أسباطاً" بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل "أسباطاً" هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا - كما رأيت - جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: "فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه:
2315- بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ
(7/287)
---(1/2898)
قال الشيخ: "وما ذهب إليه من أن كل / قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناش: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط]، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله "بين رماحَيْ مالك ونهشل" ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط - وإن كان جمعاً - معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد".
وقال الحوفي: "يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون "أسباطاً" نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال:
2316- ثلاثة أنفس ......... * ..................
يعني رجلاً. [وقال:]
2317- ................ عشرُ أَبْطُنْ * ................
بالنظر إلى القبيلة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر:
2318- فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً * سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ
فوصف "حلوبة" وهي مفردةٌ لفظاً بـ "سُوْداً" وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع".
وقال الفراء: "إنما قال "اثنتي عشرة" والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً" واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر:
2319- وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ * وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر.
(7/288)
---(1/2899)
وقال الزجاج: "المعنى: "وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً"، وجوَّز أيضاً أن يكون "أسباطاً" بدلاً من "اثنتي عشرة" وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
وقال بعضهم: "تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد "درهم" لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: "وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة".
وقوله: {أُمَماً}: إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: "بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد" وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ماتَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف" انتهى. وقد تقدَّم القول في الأسباط.
وقرأ أبان بن تغلب "وَقَطَعْناهم" بتخفيف العين، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان "عَشِرة" بكسر الشين، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز.
(7/289)
---(1/2900)
قوله: {أَنِ اضْرِب} يجوز في "أَنْ" أن تكون المفسِّرة للإِيحاء، وأن تكونَ المصدرية. وقوله: "فانبجسَتْ" كقوله: {فَانفَجَرَتْ} إعراباً وتقديراً ومعنىً، وقد تقدم جميعُ ذلك في البقرة. وقيل: الانبِجاسُ: العَرَق. قال أبو عمرو بن العلاء: / "انبجست: عَرِقَتْ، وانفجرت: سالَتْ" ففرَّق بينهما بما ذُكر، وفي التفسير أن موسى عليه الصلاة والسلام كان إذا ضَرَبَ الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثم يَسيل، وهما قريبان من الفَرْق المذكور في النضخ والنضح. وقال الراغب: "يقال: بَجَس الماءُ وانبجَسَ انفجر، لكن الانبجاسَ أكثرُ ما يُقال فيما يَخْرج من شيءٍ ضيق، والانفجاء يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، ولذلك قال تعالى: {فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}، وفي موضعٍ آخرَ {فَانفَجَرَتْ}، فاستُعْمل حيث ضاق المخرج اللفظتان" يعني ففرَّق بينهما بالعموم والخصوص، فكلُّ انبجاسٍ انفجارٌ من غير عكس. وقال الهروي: "يقال: انبجسَ وتَبَجَّس وتَفَجَّر وتفتَّق بمعنى واحدٍ"، وفي حديث حذيفة: "ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُر غيرَ رَجُلَيْن" يعني عمر وعلياً رضي الله عنهم. الآمَّة: الشجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مَثَل يعني أن الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يُقْدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمِبْضَع فعبَّر عن زَلَلِ الإِنسان بذلك، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها.
(7/290)
---(1/2901)
قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ} قد تقدَّم الوعدُ في البقرة بالكلام على لفظة "أناس" هنا. قال الزمخشري: "الأناس: اسم جمع غير تكسير نحو: رُخال وتُناء وتُؤام وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة كما أُبدلت في نحو سُكارَى وغُيارَى من الفتحة". قال الشيخ: "ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنه لم يُنْطَقْ بـ "إناس" بكسر الهمزة فيكون جمعَ تكسيرٍ حتى تكونَ الضمةُ بدلاً من الكسرة بخلاف سُكارى وغيارى فإن القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة، وهو مسموع فيهما. والثاني: أن سُكارى وغُيارى وعُجالى وما ورد من نحوها ليست الضمةُ فيه بدلاً من الفتحة، بل نَصَّ سيبويه في "كتابه" على أنه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، كما أن فَعالى جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، وإن كان لا ينقاس الضمُّ كما ينقاس الفتح.
قال سيبويه في حَدِّ تكسيرِ الصفات: "وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالىى وذلك قول بعضِهم "عُجالى وسُكارى". وقال سيبويه في الأبنية أيضاً: "ويكونُ فُعالى في الاسم نحو: حُبارَى وسُمانى ولُبادى ولا يكون وصفاً إلا أن يُكَسَّر عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعجالى" فهذان نَصَّان من سيبويه على أنه جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسيرٍ أصلً لم يَسْغُ أن يُدَّعى أن أصلَه فَعالَى وأنه أُبْدلت الحركة فيه. وذهب المبرد إلى أنه اسمُ جمع أعني فُعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير، فالزمخشري لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيبويه، ولا إلى ما ذهب إليه المبرد، لأنه عند المبرد اسمُ جمعً، فالضمة في فائه أصلٌ ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً" انتهى.
(7/291)
---(1/2902)
قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} قد تقدَّم الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلها، وما بعدها في البقرة، وكأن هذه القصةَ مختصرةٌ مِنْ تِيْكَ، فإن تِيْكَ أشبعُ من هذه. قال الزمخشري: "التقديمُ والتأخيرُ في "وقولوا وادخلوا" سواء قَدَّموا الحِطَّة على دخول الباب أو أخَّروها، فهم جامعونَ في الإِيجادِ بينهما" قال الشيخ: "وقولُه: سواءٌ قَدَّموا أو أخَّروها تركيبٌ غير عربي، وإصلاحهُ: سواء أقدَّموا أم أخَّروا كما قال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} قلت: يعني كونه أتى لفظُ "سواء" بأو دون أم، ولم يأت بهمزة التسوية بعد سواء، وقد تقدم أن ذلك جائزٌ وإن كان الكثيرُ ما ذكره، وأنه قد قرئ {سواء عليهم أأنذرتهم أو لم تُنْذِرْهم} والردُّ بمثل هذا غيرُ طائلٍ.
وقرأ عيسى الهمذاني "ما رَزَقْتُكم" بالإِفراد، وسيأتي خلافٌ بين السبعة في مثل هذا في سورة طه.
قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قد تقدَّم الخلاف في "يغفر" وأما "خطاياكم" فقرأها ابنُ عامر "خطيئتكم" بالتوحيد والرفع على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والفرض أنه يقرأ "تُغْفَر" بالتاء من فوق. ونافع قرأ "خطيئاتكم" بجمعِ السَّلامة رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه يقرأ "تُغْفَر" كقراءةِ ابن عامر، وأبو عمرو قرأ: "خطاياكم" جمعَ تكسير، ويَقرأ "نغفر" بنونِ العظمة، والباقون: نَغْفر كأبي عمرو، "خطيئاتكم" بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو / "خطاياهم" بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح. وقرأ ابن هرمز "تُغْفَر" بتاء مضمومة مبنياً للمفعول كنافع، "خطاياكم" كأبي عمرو. وعنه أيضاً: طيَغْفر" بياء الغيبة، وعنه: "تَغْفِر" بفتح التاء من فوق، على معنى أن الحِطَّة سببٌ للغفران فنسب الغفرانَ إليها.
(7/292)
---(1/2903)
* { وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
قوله تعالى: {عَنِ الْقَرْيَةِ}: لا بد من مضافٍ محذوفٍ، أي: عن خبر القرية، وهذا المضافُ هو الناصبُ لهذا الظرف وهو قوله: "إذ يعدون" وقيل: بل هو منصوبٌ بـ "حاضرة". قال أبو البقاء: "وجوَّز ذلك أنها كانت موجودةً ذلك الوقتَ ثم خَرِبَتْ". وقدَّر الزمخشري المضاف "أهل"، أي: عن أهل القرية، وجعل الظرفَ بدلاً من "أهل" المحذوف فإنه قال: "إذ يَعْدون" بدل من القرية، والمرادُ بالقرية أهلُها، كأنه قيل: وسَلْهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو مِنْ بدل الاشتمال.
قال الشيخ: "وهذا لا يجوزُ، لأنَّ "إذ" من الظروف التي لا تتصرَّف، ولا يَدْخل عليها حرفُ جر، وجَعْلُهاه بدلاً يُجَوِّز دخول "عن" عليها لأنَّ البدلَ هو على نية تكرار العامل، ولو أَدْخَلْت "عن" عليها لم يَجُزْ، وإنما يُتَصَرَّفُ فيها بأنْ تُضِيْفَ إليها بعضَ الظروفِ الزمانية نحو "يوم إذ كان كذا"، وأمَّا قولُ مَنْ ذهب إلى أنها تكونُ مفعولةً بـ "اذكر: فقولُ مَنْ عَجَز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً".
وقال الحوفي: "إذ متعلقةٌ بـ "سَلْهم". قال الشيخ: "وهذا لا يُتَصور، لأن "إذ" لِما مضى، و "سَلْهم" مستقبلٌ، ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ العادِين وهم أهل القرية مفقودون، فلا يمكن سؤالُهم فالمسؤول غير أهل القرية العادين".
(7/293)
---(1/2904)
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك: "يَعَدُّون" بفتح العين وتشديد الدال، وهذه تشبه قراءةَ نافع في قوله "لا تَعَدُّوا في السبت" والأصل "تَعْتَدُّوا" فأدغم التاءَ في الدال لمقاربتها لها. وقُرئ "تُعِدُّون" بضمِ التاء وكسرِ العين وتشديد الدال من أعدَّ يُعِدُّ إعداداً: إذا هَيَّأ آلائِه. وفي التفسير: أنهم كانوا مأمورين في السبت فيتركونها ويُهَيِّئون آلاتِ الصيد.
قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ} العاملُ فيه "يَعْدُون"، أي: إذ عَدَوا إذ أَتَتْهم، لأنَّ الظرفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيّ. وقال الزمخشري: "وإذ تأتيهم بدلٌ من إذْ يَعْدُون بدلاً بعد بدل" يعني أنه بدلٌ ثانٍ من القرية على ما تقرَّر عنه. وقد تقدَّم ردُّ الشيخ عليه هناك وهو عائدٌ هنا.
و "حِيْتان" جمع حُوت، وإنما أُبدلت الواو ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلَها. ومثلُه: نون ونينان. والنونُ: الحوت.
قوله: {شُرَّعاً} حالٌ من "حِيتانهم" وشُرَّعٌ جمعُ شارع. وقرأ عمر ابن عبد العزيز "يوم إسْباتهم" وهو مصدرٌ "أسبت" إذا دخل في السَّبْت. وقرأ عاصم بخلافٍ عنه وعيسى بن عمر: لا يَسْبُتون بضم الباء. وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه "يُسْبِتون" بضم الياء وكسرِ الباء مِنْ أَسْبت، أي: دَخَل في السبت. وقرئ: "يُسْبَتُون" بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشري عن الحسن قال: "أي: لا يُدار عليهم السَّبْت ولا يُؤْمرون بأن يَسْبِتُوا".
والعاملُ في "يوم لا يَسْبتون" قوله "لا تَأْتيهم" أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبتون، وهذا يدلُّ على جواز تقديم معمول المنفي بـ "لا" عليها. وقد قدَّمْتُ فيه ثلاثةَ مذاهب: الجوازَ مطلقاً كهذه الآية، المنعَ مطلقاً، التفصيلَ: بين أن يكون جوابَ قسم فيمتنعَ أو لا فيجوز.
(7/294)
---(1/2905)
قوله: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} ذكر الزجاج وابن الأنباري في هذه الكاف ومجرورِها وجهين، أحدهما: قال الزجاج: "أي: مثلَ هذا الاختبار الشديد نختبرهم، فموضعُ الكاف نصب بـ "نَبْلوهم". قال ابن الأنباري: "ذلك" إشارةٌ إلى ما بعدَه، يريد: نَبْلوهم بما كانوا يفسُقون كذلك البلاءَ الذي وقع بهم في أَمْرِ الحِيتان، وينقطع الكلام عند قوله "لا تأتيهم".
الوجه الثاني: قال الزجاج: "ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكونَ: ويومَ لا يَسْبِتُون لا تأتيهم كذلك، أي: لا تأتيهم شُرَّعاً، ويكون نَبْلوهم مستأنفاً". قال أبو بكر: "وعلى هذا الوجهِ: "كذلك" راجعةٌ إلى الشُّروع في قوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} والتقدير: ويوم لا يَسْبِتون لا تأتيهم كذلك الإِتيانَ بالشروع، وموضعُ الكاف على هذا نصبٌ بالإِتيان على الحال، أي: لا تأتي مثلَ ذلك الإِتيان".
(7/295)
---(1/2906)
وقوله: {بِمَا كَانُوا} الباء سببيةٌ، و "ما" مصدريةٌ أي: نَبْلُوهم بسببِ فِسْقِهم، ويَضْعُفُ أن تكونَ بمعنى الذي لتكلُّفِ حَذْفِ العائد على التدريج. وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النحاة لا تعلُّق لها بهذا الموضع فقال: "وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليومَ السبتُ، واليومَ الجمعة، فَتُنْصَبَ "اليوم" على الظرف وتُرْفَعَ مع سائر الأيام فتقول: اليومَ الأحد، واليومَ الأربعاء، لأنه لا معنى للفعل فيهما، فالمبتدأ هو الخبر فترفع". قلت: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النحويين، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفعَ لأنه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليوم الثاني. وأجاز الفراء وهشام النصب قالا: "لأن اليوم بمنزلة الآن، فالآن أعم من الأحد والثلاثاء، فكأنه قيل: الآن الأحد، الآن الانان"، أي: إنهما واقعان في الآن، وليست هذه المسألةُ مختصةً بالجمعة والسبت، بل الضابطُ فيها أنه إذا ذُكر "اليوم" مع ما يتضمن عملاً وحدثاً جاز النصب والرفع نحو قولهم: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى، كذانك قلت: اليوم يَحْدُث اجتماع وفطر وأُضْحية.
* { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
(7/296)
---(1/2907)
قوله تعالى: {مَعْذِرَةً}: قرأ العامة "معذرة" رفعاً على خبر ابتداء مضمر، أي موعظتنا معذرة. وقرأ حفص عن عاصم وزيد ابن علي وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: "معذرةً" نصباً. وفيها ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنها منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي: وعَظْناه لأجلِ المعذرة. قال سيبويه: "ولو قال رجلٌ لرجل: معذرةً إلى الله وإليك من كذا انتصب". الثاني: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدرٍ مِنْ لفظِها تقديرُه: نعتذر معذرةً. الثالث: أن ينتصبَ انتصابَ المفعولِ به لأنَّ المعذرةَ تتضمَّن كلاماً، والمفردُ المتضمنُ لكلامٍ إذا وقع بعد القول نُصِبَ نَصْبَ المفعول به كقلت خطبة. وسيبويه يختار الرفع قال: "لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً، ولكنهم قيل لهم: لِمَ تَعِظُون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة". والمَعْذِرة: اسمُ مصدر وهو العُذْر. قال الأزهري: "إنها بمعنى الاعتذار" والعُذْر: التنصُّل من الذنب.
* { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُواءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
قوله تعالى: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}: الضمير في "نَسُوا" للمنهيين. و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، أي: فلمَّا نَسُوا الوعظَ الذي ذكَّرهم به الصالحون. قال ابن عطية: "ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكْرُ نفسُه، ويُحتمل أن يرادَ به ما كان فيه الذكر" قال الشيخ: "ولا يَظْهر لي هذان الاحتمالان" قلت: يعني ابن عطية بقوله "الذكر نفسه"، أي: نفسُ الموصول مرادٌ به المصدر كأنه قال: فلما نَسُوا الذكر الذي ذُكِّروا به، وبقوله "ما كان فيه الذكر" نفسُ الشيء المُذَكَّر به الذي هو متعلَّق الذكر، لأن ابن عطية لمَّا جَعَل "ما" بمعنى الذي قال: "إنها تحتملُ الوقوعَ على هذين الشيئين المتغايرين".
(7/297)
---(1/2908)
قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة: "بِيْسٍ" بياء ساكنة. وابن عامر بهمزة ساكنة، وفيهما أربعة أوجه، أحدها: أن هذا في الأصل فعلٌ ماضٍ سُمِّي به فأُعْرِب كقوله عليه السلام: "أنهاكم عن قيلٍ وقال" بالإِعراب والحكاية، وكذا قولهم: "مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ" و "مُذْ شَبٍّ إلى دَبٍّ" فلمَّا نُقِل إلى الاسمية صار وَصْفاً كـ نِضْو ونِقْض. والثاني: أنه وصف وُضِع على فِعْل كحِلْف. الثالث: أن أصلَه بَئيس كالقراءة المشهورة، فخفَّف الهمزة، فالتقت ياءان ثم كَسَر الباء إتباعاً كرِغيف وشِهيد، فاستثقل توالي ياءين بعد ك سرة، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بِئْسٍ، وهو تخريج الكسائي. الرابع: أن اصله "بَئِس" بزنة كَتِف ثم أُتْبعت الباءُ للهمزة في الكسر، ثم سُكِّنت الهمزة ثم أُبدلت ياء. وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً كحِلْف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم "بَيْئَسٍ" بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف/. وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي:
2320- كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً * يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا
وقرأ باقي السبعة بَئِيْسٍ بزنة رئيس. وفيه وجهان، أحدهما: أنه وصف على فَعِيل كشديد وهو للمبالغة وأصله فاعل. والثاني: أنه مصدرٌ وُصف به أي: بعذابٍ ذي باس بئيس، مصدر مثل النذير والنكير والعذير، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الإِصبع العدواني:
2321- حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى * ليَ منهما شَرَّاً بئيساً
وهي أيضاً قراءةُ علي وأبي رجاء.
وقرأ يعقوبٌ القارئ: بَئِسَ بوزن شَهِدَ، وقرأها أيضاً عيسى بن عمر وزيد بن علي. وقرأ نصر بن عاصم: بَأَس بوزن ضَرَب فعلاً ماضياً.
وقرأ الأعمش ومالك بن دينار: بَأْس فعلاً ماضياً، واصله بئِس بكسرِ الهمزة فسَكَّنها تخفيفاً كشَهْد في قوله:
2322- لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ(1/2909)
(7/298)
---
وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بِئِسٍ بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيَّن: هل الهمزةُ مكسورةٌ أو ساكنة؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بَيْسٍ بفتح الباء وسكون الياء مثل كَيْل وأصله بَيْئَس مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزةَ بقلبها ياءً وإدغامِ الياء فيها، ثم خَفَّفه بالحذف كمَيْت في مَيّت.
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية: بَيْئِسٍ كقراءة أبي بكر عنه إلا أنه كسر الهمزة. وهذه قد رَدَّها الناسُ لأن فَيْعِلاً بكسر العين في المعتلِّ، كما أن فَيْعَلاً بفتحها في الصحيح كسيِّد وضَيْغَم. على أنه قد شذَّ: صَيْقِل بالكسر، وعَيَّل بالفتح.
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه "بَأَسٍ" بفتح الباء والهمزة وجَرِّ السين بزنة جَبَل.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف "بِئَسٍ" مثل كَبِد وحَذِر قال عبيد الله بن قيس:
2323- ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في * خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ
وقرأ نصر بن عاصم في رواية "بَيِّسٍ" بتشديد الياء كميّت، وفيها تخريجان، أحدهما: أنها من البؤس ولا أصلَ لها في الهمز، والأصل: بَيْوِس كمَيْوِت ففُعِل به ما فُعِل به. والثاني: أن أصلَه الهمزةُ فأبدلها ياءً ثم أدغم الباء في الياء.
وقرأ أيضاً في روايةٍ "بَأَّس" بهمزةٍ مشددة، قالوا: قَلَبَ الياءَ همزةً وأدغمها في مثلها ماضياً كشَمَّر.
وطائفة أخرى: بَأَسَ" كالتي قبلها إلا أن الهمزةَ خفيفةٌ.
وطائفة: "باسٍ" بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة.
وقرأ أهلُ المدينة: "بِئيس" كرئيس، إلا أنهم كسروا الباءَ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو: بِعير وشعير وشهيد سواء أكان اسماً أم صفة.
وقرأ الحسن والأعمش: "بِئْيَسٍ" بياءٍ مكسورة ثم همزةٍ ساكنة ثم ياءٍ مفتوحةٍ بزنة حِذْيَم وعِثْيَر.
وقرأ الحسن: بِئْسَ بكسرِ الباء وسكون الهمزة وفتح السين، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو: بئس الرجل زيد، ورُوِيت عن أبي بكر.
(7/299)
---(1/2910)
وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه بياءٍ صريحة، وتخريجُها كالتي قبلها وهي مرويَّ’ٌ عن نافع. وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنه لا يُقال: "مررت برجلٍ بئس" حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلاً. قال النحاس: "وهذا مردودٌ - يعني قولَ أبي حاتم - حكى النحويون: "إن فعلتَ كذا وكذا فبها وتعمَتْ"، أي: ونِعَمتِ الخَصْلة، والتقدير: بئس العذاب". قلت: أبو حاتم معذورٌ في [ردّ] القراءة فإن الفاعلَ ظاهراً غيرُ مذكور والفاعلُ عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكن قد ورد في الحديث: "من توضَّأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" ففاعل "نعمت" هنا مضمرٌ يفسَِّره / سياقُ الكلام. قال الشيخ: "فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتلخيص أنها قُرِئَتْ ثلاثيةَ اللفظِ ورباعيَّتَه: فالثلاثي اسماً: بِيْسٍ، بِئْسٍ، بَيْسٍ، بَاْسٍ، بَأَسٍ، بِئِسٍ، بَئِسٍ. وفعلاً: بِئْسَ، بِيْسَ، بَئِسَ، بَأَسَ، بَأْسَ، بَيَسَ. والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، بِيْئِسٍ، بَيْئِسٍ، بَيِّسٍ، بَئِيْسٍ. بِئَيْسٍ، بِئْيَسٍ. وفعلاً: بَأَّسَ.
قلت: وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِسٍ بباء مفتوحة وياءٍ مكسورةٍ. قال: "وأصلُها همزة مكسورة فأبدلَتْ ياء، وبَيَس بفتحهما، قال "وأصلها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مفتوحة، إلا أن حركةَ الهمزةِ أُلْقِيَتْ على الياء وحُذِفَتْ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأن حركتَها عارضةٌ". وبَأْيَسٍ بفتح الباءِ وسكونِ الهمزة وفتح الياء، قال: "وهو بعيد إذ ليس في الكلام فَعْيَل". وقرئ بَيْآس على فَيْعال وهو غريب. فهذه ستٌّ وعشرون قراءة في هذه اللفظة، وقد حرَّرْتُ ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى.
* { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُواءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(7/300)
---(1/2911)
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ}: تَأَذًّن: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بمعنى آذَنَ أي: أَعْلَمَ. قال الواحديُّ: "وأكثرُ أهل اللغة على أنَّ التأذُّن بمعنى الإِيذان وهو الإِعلامُ. قال الفارسي: "آذن" أَعْلَمَ، وأذَّن: نادى وصاح للإِعلام ومنه قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ}. قال: "وبعض العرب يُجْري آذَنْتُ مجرى تأذَّنْتُ، فيجعل آذن وتأذَّن بمعنى، فإذا كان أذَّن أعلم في لغة بعضهم فأذَّن: تفعَّل مِنْ هذا. وقيل: إن معناه حَتَّم وأوجب". وقال الزمخشري: "تأذَّن: عَزَم ربك، وهو تَفَعَّل من الإِيذان وهو الإِعلامُ، لأن العازمَ على الأمر يحدِّث به نفسَه ويُؤْذِنُها بفعله، وأُجْري مُجْرى فعل القسم كـ عَلِمَ الله وشهد الله، ولذلك اُجيب بما يُجاب به القسم وهو: "ليبعثَنَّ". وقال الطبري وغيرُه: "تَأَذَّن معناه أَعْلَمَ" وهو قلقٌ مِنْ جهة التصريف إذ نسبةُ "تأذَّن" إلى الفاعلِ غيرُ نسبة أعلم، وبين ذلك فرقٌ بين التعدي وغيره.
قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيه وجهان أحجُهما: أنه متعلقٌ بـ "يَبْعَثَنَّ" وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنه متعلقٌ بـ "تأذَّن" نقله أبو البقاء. ولا جائزٌ أن يتعلق بيُسومهم لأن مَنْ: إمَّا: موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف.
* { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
قوله تعالى: {أُمَماً}: إمَّا حالٌ من مفعول "قطَّعناهم"، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ قَطَّعَ تضمَّن معنى صَيَّر. و "منهم" الصالحون" صفةٌ لأمم. وقال أبو البقاء: "أو بدل منه، أي: من أمم" يعني أنه حالٌ من مفعول "قَطَّعناهم" أي: فَرَّقناهم حال كونهم منهم الصالحون.
(7/301)
---(1/2912)
قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ}. "منهم" خبرٌ مقدم، و "دونَ ذلك" نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك. قال الزمخشري: "معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عَنِ الصلاح، ونحوه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} بمعنى: ما منا أحدٌ إلا له مقامٌ معلومٌ" يعني في كونه حُذِف الموصوفُ وأقيم الجملةُ الوصفية مُقامَه، كما قام مَقامَه الظرفُ الوصفي. والتفصيل بـ "مِنْ" يجوز فيه حَذْفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مُقامه كقولهم: "منا ظَعَن ومنَّا أقام". وقال ابن عطية: "فإن أريدَ بالصَّلاح الإِيمانُ فـ "دون" بمعنى "غير" يُراد به الكفرة". قال الشيخ: "إن اراد أنَّ "دون" ترادِفُ غيراً فليس بصحيحٍ، وإن أرادَ أنه يلزم أنَّ مَنْ كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح".
و "ذلك" إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح، وإما أَنْ يُشار به إلى الجماعة، فإن أُشير به إلى الصلاح فلا بد من حذف مضاف ليصِحَّ المعنى تقديرُه: ومنهم دونَ أهلِ ذلك الصلاح ليعتدل التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة أي: ومنهم دونَ أولئك الصالحين فلا حاجة إلى تقدير / مضاف لاعتدال التقسيم بدونه. وقال أبو البقاء: "ودون ذلك ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}. وفيه نظرٌ من حيث إن "دون" ليس بخبر.
* { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
(7/302)
---(1/2913)
قوله تعالى: {وَرِثُواْ}: في محلِّ رفع نعتاً لـ "خَلْفٌ" و "يأخذون" حال من فاعل "ورثوا". والخَلْف والخَلَف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد، أي: يُطلق كل منهما على القَرْن الذي يَخْلُف غيره صالحاً كان أو طالحاً، أو أن الساكن اللام في الطالح والمفتوحها في الصالح؟ خلافٌ مشهور بين اللغويين. قال الفراء: "يُقال للقَرْن: خَلْف - يعني ساكناً - ولمن استخلفته: خلَفاً - يعني متحرك اللام-". وقال الزجاج: يُقال للقَرْن يجيء بعد القرن خَلْف". وقال ثعلب: "الناس كلهم يقولون: "خَلَف صدق" للصالح و "خَلْف سوء" للطالح، وأنشد:
2324- ذهب الذين يُعاشُ في أكنافِهم * وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجرب
وقالوا في المثل: "سكت أَلْفاً ونطق خَلْفاً"، ويُعزى هذا أيضاً إلى الفراء وأنشدوا:
2325- خَلَّفْتَ خَلْقاً ولم تَدَعْ خَلفَا * ليت بهم كان لا بك التَّلَفَا
وقال بعضهم: "قد يجيء في الرديء خَلَف بالفتح، وفي الجيد خَلْف
بالسكون، فمِنْ مجيء الأول قوله:
2326- ...................... * إلى ذلك الخَلَفِ الأعور
ومِنْ مجيء الثاني قول حسان:
2327- لنا القَدَمُ الأُوْلى عليهم وخَلْفُنا * لأولِنا في طاعة الله تابعُ
وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
2328- إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنا بِئْسَ الخَلَفْ * عبداً إذا ما ناء بالحِمْل وَقَفْ
فاستعمل الساكنَ والمتحركَ في الرديء، ولهذا قال النضر: "يجوز التحريكُ والسكونُ في الرديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط"، ووافقه جماعةُ أهل اللغة إلا الفراءَ وأبا عبيد فإنهما أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح.
والخَلْف - بالسكون - فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدر، ولذلك لا يثنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّث وعليه ما تقدَّم من قوله:
إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ
(7/303)
---(1/2914)
وإمَّا اسم جمع خالِف كرَكْب لراكب وتَجْر لتاجر، قاله ابن الأنباري. وردُّوه عليه بأنه لو كان اسم جمع لم يَجْرِ على المفرد وقد جرى عليه. واشتقاقُه: إمَّا من الخلافة، أي: كلُّ خَلَفٍ يَخْلُفُ مَنْ قبله، وإمَّا مِنْ خَلَفَ النبيذ يخلُف، أي: فسد، يقال: خَلَفَ النبيذُ يَخْلُف خَلْفاً إذا فسد، خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذا الفم إذا تغيَّرت رائحتُه. ومن ذلك الحديث: "لَخَلُوف فم الصائم". وقرأ الحسن البصري: "وُرِّثوا" بضم الواو وتشديد الراء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه. ويجوز أن يكون "يأخذون" مستأنفاً، أخبر عنهم بذلك. وتقدَّم الكلامُ على لفظ "الأدنى" واشتقاقه.
قوله: {وَيَقُولُونَ} نسق على "يأخذون" بوجهيه و "سيُغْفَر" معموله. وفي القائم مَقام فاعِله وجهان، أحدهما: الجارُّ بعده وهو "لنا". والثاني: أنه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله: "يأخذون"، أي: سيفغر لنا أَخْذُ العَرض الأدنى.
قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} هذه الجملةُ الشرطية فيها وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، والثاني: أن الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها. قال الزمخشري: "الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذنوبِ لا يَصِحُّ إلا بالتوبة، والمُصِرُّ لا غفران له" انتهى. وإنما جَعَل الواو للحال لهذا الغرذ الذي ذكره من أن الغفران شرطُه التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأمَّا أهل السنة فيجوز مع عدم التوبة لأنَّ الفاعلَ مختار.
قوله: {عَرَضَ} العرض - بفتح الراء - ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العَرَض المقابل للجوهر. وقال أبو عبيدة: "العَرَض - بالفتح - جميعُ مَتَاع الدنيا غيرَ النَّقْدَيْن". والعَرْض بالسكون هو الدراهم والدنانير التي هي قيم المُتْلَفات ورؤوسُ الأموال. وعلى الأول قيل: الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر.
(7/304)
---(1/2915)
قوله: {أَن لاَّ يِقُولُواْ} فيه [أوجه] / أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من "ميثاق" لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب. والثاني: أنه عطفُ بيان له، وهو قريب من الأول. و الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله. قال الزمخشري: "وإن فُسِّر ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكرُه كان "أن لا يقولوا" مفعولاً من أجله، ومعناه: لئلا يقولوا" وكان قد فَسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: مَنْ ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يُغفر له إلا بالتوبة. و "أنْ" مفسرةٌ لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول. و "لا" ناهية وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال [الأول] "لا" نافية والفعل منصوبٌ بـ "أنْ" المصدرية. و "الحق" يجوز أن يكون مفعولاً به وأن يكونَ مصدراً، وأُضيف الميثاقُ للكتاب لأنه مذكورٌ فيه.
قوله: "دَرَسُواْ" فيه ثلاثة أوجه، أظهرها ما قال الزمخشري وهو كونُه معطوفاً على قوله "ألم يُؤْخَذْ" لأنه تقرير، فكأنه قيل: أُخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، وهو نظيرُ قوله تعالى {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} معناه: قد ربَّيْناك ولَبِثْتَ. والثاني: أنه معطوف على "وَرِثوا". قال أبو البقاء: "ويكون قولُه "ألم يُؤْخَذْ" معترضاً بينهما، وهذا الوجهُ سبقه إليه الطبري وغيره.
الثالث: أنه على إضمار قد، والتقدير: وقد درسوا. قلت: وهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية أي: يقولون: سيُغْفر لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكونَ حالاً من فاعل "يأخذوه"، أي: يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشا. وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري: "أن لا تقولوا" بتاء الخطاب وهو التفات حسن. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه وأبو عبدالرحمن السلمي "وادَّارسوا" بتشديد الدال والأصل: تدارسوا، وتصريفُه كتصريف {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} وقد تقدَّم تحريرُه.
(7/305)
---(1/2916)
قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غيرَ مرة. وقرأ ابن عامر ونافع وحفص "تعملون" بالخطاب والباقون بالغيبة، فالخطاب يحتمل وجهين، أحدهما: أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالضمائر حينئذ شيءٌ واحد. والثاني: أن الخطابَ لهذه الأمة، أي: أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعجَّبون من حالهم. وأمَّا الغيبة فجرى على ما تقدَّم من الضمائر. ونقل الشيخ أن قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهلِ مكة، وقراءةَ الخطاب للباقين.
* { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ [أوجه]، أحدُهما: الجملة من قوله: "إنَّا لا نُضيع أَجْرَ المُصْلحين" وفي الرابط حينئذ أقوال، أحدها: أنه ضميرٌ محذوفٌ لفَهْم المعنى. والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين وقواعد الكوفيين تقتضي أن أل قائمةٌ مَقام الضمير تقديره: أَجْر مصلحيهم كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، أي: مَأْواه، وقوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ}، أي أبوابها، وقوله: {فِيا أَدْنَى الأَرْضِ}، أي أرضهم، إلى غير ذلك. والثاني: أن الرابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه نحو: زيد قام أبو عبد الله وهو رأيُ الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول نحو: أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدريّ، والحجَّاج الذي رأيت ابنُ يوسف، وقد قدَّمْت من ذلك شواهد كثيرة. الثالث: أن الرابطَ هو العمومُ في "المُصْلحين" قاله أبو البقاء، قال: "وإن شِئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنياً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير". قلت: العمومُ رابطٌ من الروابط الخمسة وعليه قولُه:
2329- ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ * سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا
ومنه "نِعْم الرجل زيد" على أحدِ الأوجه.
(7/306)(1/2917)
---
والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره: والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه، وقوله: "إنَّا لا نضيع" جملةٌ اعتراضية، قاله الحوفي، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه.
الثاني من وجهي "والذين يُمْسكون": أنه في محل جر نسقاً على "للذين يتقون"، أي: ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين، قاله الزمخشري، إلا أنه قال: "ويكون قوله "إنَّا لا نُضيع اعتراضاً". وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين / شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ: ويكون على هذا مستأنفاً.
وقرأ العامَّة: "يُمَسِّكون" بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم - ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية: "يُمْسِكون" بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك، وهما لغتان يقال: مَسَكْت وأَمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله:
2330- ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ * إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ
ولكن أمسك متعدّ. قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ} فعلى هذا مفعولُه محذوفٌ تقديرُه: "يُمْسِكون دينَهم وأعمالهم بالكتاب"، فالباءُ يجوز أن تكونَ للحال وأن تكونَ للآلة، أي: مصاحبين للكتاب، أي لأوامره ونواهيه. وقرأ الأعمش وهي قراءة عبد الله "استمسكوا". وأُبَيّ "تَمَسَّكوا" ماضيَيْن.
* { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوااْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
(7/307)
---(1/2918)
قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ}: فيه وجهان: أحدهما: هو متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الجبل، وهي حالٌ مقدرة لأن حالةَ النَّتْق لم تكن فوقَهم، لكنه بالنَّتْق صار فوقهم. والثاني: أنه ظرفٌ لنَتَقْنا. قاله الحوفي وأبو البقاء. قال الشيخ: "ولا يمكن ذلك إلا أن يُضَمَّن معنى فِعْلٍ يمكن أن يعمل في "فوقهم"، أي: رفعنا بالنَّتْقِ الجبلَ فوقهم فيكون كقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
}. والنَّتْق: اختلفَتْ فيه عبارات أهل اللغة. فقال أبو عبيدة: "هو قَلْعُ الشيءِ من موضعه والرَّمْيُ به، ومنه "نَتَق ما في الجِراب" إذا نقضه ورمى ما فيه. وامرأة ناتق ومِنْتاق: إذا كانت كثيرةَ الولادة. وفي الحديث: "عليكم بزواج الأبكار فإنهن أَنْتَقُ أَرْحاماً وأطيبُ أفواهاً وأرضى باليسير". وقيل: النتق: الجَذْب بشدة. ومنه "نَتَقْتُ السِّقاء" إذا جَذَبْتَه لتقتلعَ الزُّبْدة من فمه". وقال الفراء: "هو الرفع" وقال ابن قتيبة: "الزعزعة" وبه فسَّر مجاهد. وقال النابغة:
2331- لم يُحْرَموا حُسْنَ الغِذاءِ وأمُّهُمْ * طَفَحَتْ عليك بناتقٍ مِذْكار
وكلُّ هذه مَعانٍ متقاربة. وقد عَرَفْت أن "فوقهم" يجوز أن يكون منصوباً بـ "نَتَق" لأنه بمعنى رفع وقلع.
قوله: "كأنه ظُلَّة" في محلِّ نصبٍ على الحال من "الجبل" أيضاً فتتعدَّد الحال. وقال مكي: "هي خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو كأنه ظُلَّة" وفيه بُعْدٌ.
قوله: {وَظَنُّوااْ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه في محل جَرٍّ نسقاً على "نَتَقْنا" المخفوض بالظرف تقديراَ. والثاني: أنه حال، و "قد" مقدرةٌ عند بعضهم، وصاحب الحال: إمَّا الجبل، أي: كأنه ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعُه بهم. ويضعف أن يكون صاحبه "هم" في "فوقهم". والثالث: أنه مستأنف فلا محل له. والظنُّ هنا على بابه، ويجوز أن يكون بمعنى اليقين، والباء على بابها أيضاً. قيل: ويجوز أن تكون بمعنى "على".
(7/308)
---(1/2919)
قوله: {وَاذْكُرُواْ} العامَّة على التخفيف أمراً مِنْ ذكر يَذْكُر. والأعمش: "واذَّكِروا" بتشديد الذال من الاذّكار والأصل: اذْتَكِرُوا والاذتكار، وتقدم تصريفه. وقرأ ابن مسعود: تذكَّروا مِن} تذكَّر بتشديد الكاف. وقرئ: وتَذَّكَّروا بتشديد الذال والكاف، والأصلُ: وَلْتَتَذَكَّروا، فأدغمت التاء في الذال وحُذِفَتْ لامُ الجر كقوله:
2332- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ * ...........
* { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيا ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ }
قوله تعالى: {مِن ظُهُورِهِمْ}: بدلٌ من قوله "من بني آدم" بإعادة الجارِّ كقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ} {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ}. وهل هو بدلُ اشتمال أو بدل بعض من كل؟ قولان، الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك: ضربت زيداً ظهرَه، وقطعتُه يدَه، لا يُعْرِب أحد هذا بدلَ اشتمالز
(7/309)
---(1/2920)
و {ذُرِّيَّتَهُمْ} مفعول به. وقرأ الكوفيون وابن كثير "ذريتهم" بالإِفراد، والباقون "ذُرِّيَّاتهم" بالجمع. قال الشيخ: "ويحتمل في قراءة الجمع أن يكونَ مفعولُ "أخذ" محذوفاً لفهمِ المعنى، و "ذريَّاتهم" بدلٌ من ضميرِ "ظهورهم"، كما أنَّ "من ظهورهم" بدلٌ من "بني آدم"، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً} قال: "وتقديرُ الكلام: وإذ أَخَذَ ربُّك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر، كأن الميثاق لصعوبته، والارتباطَ به شيءٌ ثقيل يُحمل على الظهر". وكذلك قرأ الكوفيون وابن كثير في سورة يس وفي / الطور في الموضعين: "ذريتهم" بالإِفراد، وافقهم أبو عمرو على ما في يس، ونافع وافقهم في أول الطور وهي "ذريتهم بإيمان" دونَ الثانية وهي "أَلْحَقْنا بهم ذريَّاتِهم" فالكوفيون وابن كثير جَرَوا على منوالٍ واحدس وهو الإِفراد، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين كما بَيَّنْتُ لك.
قال الشيخ في قراءة الإِفراد في هذه السورة: "ويتعيَّن أن يكونَ مفعولاً بـ "أخذ" وهو على حَذْف مضاف، أي: ميثاق ذريتهم" يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في "ذرياتهم" من أنه بدل والمفعول محذوف، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ "ذريتهم" بالإِفراد لم يَقْرأه إلا منصوباً، ولو كان بدلاً مِنْ "هم" في "ظهورهم" لكان مجروراً بخلافِ "ذرياتهم" بالجمع، فإن الكسرةَ تَصْلُح أن تكون عَلَماً للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم.
(7/310)
---(1/2921)
قوله: {بَلَى} جوابٌ لقوله "أَلَسْتُ" قال ابن عباس: "لو قالوا: نعم لكفروا" يريد أن النفيَ إذا أُجيب بـ نعم كانت تصديقاً له، فكأنهم أقرُّوا بأنه ليس بربِّهم. هكذا ينقلونه عن انب عباس رضي الله عنه، وفيه نظرٌ إنْ صَحَّ عنه، وذلك أن هذا النفيَ صار مقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنما المانع من جهة اللغة: وهو أن النفيَ مطلقاً إذا قُصِد إيجابه أُجيب بـ بلى، وإن كان مقرَّراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنما ك ان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب ِالمعنى إلا في شعر كقوله:
2333- أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ * وإيانا فذاك بنا تَدانى
نعم وترى الهلالَ كما أراه * ولعلوها النهار كما علاني
فأجاب قوله "أليس" بـ نعم مراعاةً للمعنى لأنه إيجاب.
قوله: {شَهِدْنَآ} هذا من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام الملائكة. وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة. وقيل: من كلام الذرية. قال الواحدي: "وعلى هذا لا يَحْسُن الوقفُ على قوله "بلى" ولا يتعلَّقُ "أَنْ تقولوا" بـ "شَهِدْنا" ولكن بقوله "وأَشْهَدَهُمْ".
قوله: {أَن تَقُولُواْ} مفعولٌ مِنْ أجله، والعامل فيه: إمَّا شهدْنا، أي: شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا، هذا تأويل البصريين، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية، تقديره: لئلا تَقولوا، كقولِه {أَن تَمِيدَ بِكُمْ}، وقول الآخر:
2334- رَأَيْنا ما رأى البُصَراء فياه * فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا
(7/311)
---(1/2922)
أي: أن لا تُباع، وأمَّا "وأشهدهم"، أي: أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهةَ أَنْ تقولوا. وقد تقدَّم أن الواحديَّ قد قال: "إنَّ شَهِدْنا إذا كان من قولِ الذرية يتعيَّن أن يتعلَّقَ "أن تقولوا" بـ "أَشْهَدَهُم" كأنه رأى أن التركيب يصير: شَهِدْنا أن تقولوا سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب، والشاهدون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن. وهذا غيرُ لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعضُ الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك. وذكر الجرجانيُّ لبعضهم وجهاً آخر وهو أن يكون قوله "وإذْ أخَذَ ربك" إلى قوله: "قالوا بلى" تمامَ قصة الميثاق، ثم ابتدأ عز وجل خبراً آخر بِذِكْرِ ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى: "شَهِدْنا" بمعنى نشهد كما قال الحطيئة:
2335- شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه * ...................
أي: يشهد، فيكون تأويله "يَشْهد أن تقولوا".
وقرأ أبو عمرو "يقولوا" في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ "شَهِدْنا" مُسْندٌ لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق "أَنْ يقولوا" بأشهدهم، ويكون "قالوا شهدنا" معترضاً بين الفعلِ وعلَّته، والخطابُ على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد. وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأَنْ مَسَح عليه فخرجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشهدوا الكلُّ بأنه ربهم، فالمؤمنون قالوه حقيقةً في الأَزَل والمشركون قالوه تقيَّةً، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة، أو من باب التمثيل، قاله جماعة منهم الزمخشري، وجعله كقوله تعالى: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}، وقولِ الشاعر:
2336- إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي
وقول الآخر:
2337- قالت له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ
إلى غير ذلك.
* { وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
(7/312)
---(1/2923)
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ}: أي: ومثلَ ما بَيَّنَّا أَخْذَ الميثاق المتقدم وفصَّلناه نبيِّن ونفصِّل الآيات. وقرأت فرقة "يُفَصّل" بياء الغيبة وهو الله تعالى.
* { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيا آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ }
قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ}: الجمهورُ على "أَتْبعه" رباعياً وفيه وجهان أحدهما: أنه متعدٍّ لواحدٍ بمعنى أَدْركه ولحقه وهو مبالغةٌ في حقه، / حيث جُعِل إماماً للشيطان. ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين لأنه منقولٌ بالهمزة مِنْ تَبع، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديره: أتبعه الشيطان خطواتِهِ، أي: جعله تابعاً لها. ومِنْ تعدِّيه لاثنين قولُه تعالى: {وأَتْبعناهم ذرياتهم بإيمان". وقرأ الحسن وطلحة - بخلافٍ عنه - "فاتَّبعه" بتشديد التاء. وهل تبعه واتَّبعه بمعنى أو بينهما فرق؟ قيل بكلٍ منهما/ وأبدى بعضهم الفرق بأنَّ تَبِعه مشى في أثره، واتَّبعه إذا وازاه في المشي. وقيل: اتَّبعه بمعنى استتبعه.
والانسلاخ: التعرِّي من الشيء، ومنه: انسلاخ جلد الحية. وليس في الآية قَلْبٌ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم، وأن أصلَه: فانسلختْ منه.
* { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
(7/313)
---(1/2924)
قوله تعالى: {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}: الضميرُ المنصوبُ الظاهرُ عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرورُ عائد على الآيات. وقيل: المنصوبُ يعودُ على الكفر المفهوم مِمَّا سبق، والمجرور على الآيات أيضاص، أي: لَرَفَعْنا الكفر بما ترى من الآيات. وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على "الذي". والمراد بالرَّفْع الأخذُ كما تقول: رُفِع الظالمُ، أي قُلِعَ وأُهْلِكَ، أي: لأهلكناه بسبب المعصية. وهذه أقوال بعيدة، وإن كانت مرويةً عن مجاهد وغيره ولا يظهر الاستدراك إلا على الوجه الأول. ومعنى أخلد، أي: ترامى بنفسه. قال أهل العربية: "وأصله من الإِخلاد وهو الدوامُ واللزوم، فالمعنى: لَزِم المَيْلَ إلى الأرض، قال مالك بن نويرة:
2338- بأبناء حَيٍّ مِنْ قبائل مالك * وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلدوا
(7/314)
---(1/2925)
قوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} هذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال، أي: لاهثاً في الحالتين. قال بعضهم: "وأما الجملة الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضعَ الحال فلا يقال: "جاء زيد إنْ يَسْأَل يُعط" على الحال، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبراً عن ضمير ما أريد جَعْلُ الحال منه فيقال: جاء زيد وهو إن يسأل يُعط، فتكون الجملة الاسمية في الحال. نعم قد أوقعوا الجملة الشرطية موقعَ الحال، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط، وتلك الجملة لا تخلو: مِنْ أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يُعطف، فالأول يستمرُّ فيه تَرْكُ الواو نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يَبْقَيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، والثاني لا بد فيه من الواو نحو: أتيتك وإن لم تأتني، لأنه لو تركْتَ الواوَ فقيل: أتيتُك إن لم تأتِني لالتبس. إذا عُرِف هذا فقوله {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} من قبيل النوع الأول لأنَّ الحَمْل عليه والترك نقيضان".
والكلب: يجمع في القلة على أكْلُب، وفي الكثرة على كِلاب، وشذُّوا فجمعوا أكلباً على أكالب، وكِلاباً على كِلابات، وأمَّا كَلِيب فاسم جمع كفريق لا جمع قال طرفة:
2339- تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها * رجالٌ فبذَّت نبلَهم وكليبُ
(7/315)
---(1/2926)
وتقدَّمت هذه المادة في المائدة. ويقال: لَهَثَ يَلْهَث بفتح العين في الماضي والمضارع لَهَثَاً ولُهْثاً بفتح اللام وضمها وهو خروجُ لسانه في حال راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان فلا يَلْهَثُ إلا إذا أعيا أو عطش. و الذي يَظْهر أن هذه الجملةَ الشرطيةَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مفسِّرة للمثَل المذكور، وهذا معنى واضح كما قالوا في قوله تعالى {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} فإنَّ الجملةَ من "خَلَقَه من تراب" مفسرةٌ لقولِه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
}. قوله: {ذَّلِكَ مَثَلُ} يجوز أن يُشارَ بـ "ذلك" إلى صفةِ الكلب، ويجوز أن يُشارَ به إلى المنسلخِ من الآيات أو إلى الكلب. وأداةُ التشبيهِ محذوفةٌ من ذلك، أي: صفة المنسلخ أو صفة الكلب مثل الذين كذَّبوا. ويجوز أن تكون المحذوفةُ من مثَل القوم، أي: ذلك الوصف وهو وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل القوم.
* { سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ }
(7/316)
---(1/2927)
قوله تعالى: {سَآءَ مَثَلاً}: "ساء" بمعنى بئس، وفاعلها مضمر فيها و "مثلاً" تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين. وتقدَّم أن "ساءَ" أصلُها التعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز /، والتمييز مفسِّر للفاعلِ فهو هو، فلزم أن يَصْدُقَ الفاعلُ والتمييز والمخصوصُ على شيءٍ واحد. إذا عُرِف هذا فقوله "القوم" غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل، فلا جَرضمَ أنه لا بد من تقدير محذوف: إمَّا من التمييز، وإمَّا من المخصوص، فالأولُ يقدَّر: ساء أصحاب مَثَل، أو أهل مثل القوم، والثاني يُقَدَّر: ساء مَثَلاً مثلُ القوم، ثم حُذِف المضاف في التقديرين وأقيم المضاف إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للتي قبلها.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر: "ساء مثلُ القوم" برفع "مثل" مضافاً للقوم. والجحدري رُوِي عنه كذلك، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم. وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون "ساء" للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم: "لقَضُو الرجل"، و "مثل القوم" فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثلَ القوم، والموصولُ على هذا في محلِّ جرٍ نعتاً لقوم. والثاني: أنها بمعنى بئس، ومَثَلُ القوم فاعل، والموصولُ على هذا في محل رفعٍ لأنه المخصوصُ بالذمِّ، وعلى هذا فلا بد مِنْ حَذْف مضاف ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحد. والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين. وقَدَّر الشيخ تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظرٌ، إذ لا يحتاج إلى تمييز إذا كان الفاعلُ ظاهراً حتى جَعَلوا الجمع بينهما ضرورةً كقوله:
2340- تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا * فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا
(7/317)
---(1/2928)
وفي المسألة ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفصيل: فإن كان مغايراً للفظِ ومفيداً فائدةً جديدة جاز نحو: نعم الرجل شجاعاً زيد، وعليه قوله:
2341- تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه * فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي
قوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} مفعول لـ "يظلمون"، وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديم العامل غالباً. وقلت "غالباً" لأن ثَمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} فاليتيم مفعول بـ "تقهر" ولا يجوز تقديم "تقهر" على جازِمِه، وهو محتملٌ للبحث.
وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي "كَذَّبوا بآياتنا". والثاني: أن تكون مستأنفة، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّمَ المفعولُ ليفيدَ الاختصاص، وهذا على طريق الزمخشري وأنظاره.
* {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قوله تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}: راعَى لفظ مَنْ فأفرد، وراعى معناها في قوله "أولئك هم الخاسرون" فجمع. وياء "المهتدي" ثابتةٌ عند جميع القراء لثبوتها في الرسم، وسيأتي لك خلافٌ في التي في الإِسراء وبحثها. وقال الواحدي: "فهو المهتدي: يجوز إثباتُ الياءِ على الأصل، ويجوزُ حَذْفُها استخفافاً كما قيل في بيت الكتاب:
2342- فَطِرْتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلات * دوامي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّريحا
ومنه:
2343- كنَواحِ ريشِ حَمامةٍ نَجْديةِ * ومَسَحْتَ باللِّثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ
قال ابن جني: "شَبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء".
(7/318)
---(1/2929)
* { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ}: يجوز في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لامَ العاقبة لقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة، فكيف تكون هذه العلةُ أيضاً؟ وأوردوا من ذلك قول الشاعر:
2344- لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب * ..............
وقول الآخر:
2345- ألا كلُّ مولودٍ فللموتِ يُوْلَدُ * ولستُ أرى حَيّاً لحيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر:
2346- فللموتِ تَغْذُو الوالداتُ سِخالَها * كما لخرابِ الدور تُبْنَى المساكنُ
والثاني: أنها للعلةِ وذلك أنهم لمَّا كان مآلُهم إليها جعل ذلك سبباً على طريق المجاز.
وقد ردَّ ابن عطية على مَنْ جعلها لامَ العاقبة فقال: "وليس هذا بصحيح، ولامُ العاقبة إنما تُتَصَوَّر إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصد مصيرُ الأمر إليه، وأما هنال فالفعل قُصِد به ما يصير الأمر [إليه] مِنْ سُكْناهم لجهنم"، واللام على هذا متعلقة بـ "ذَرَأْنا". ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من "كثيراً" لأنه في الأصل صفة لها لو تأخر. ولا حاجة إلى ادعاء قلب وأن الأصل: ذَرَأْنا جهنم لكثير لأنه ضرورةٌ أو قليلٌ.
(7/319)
---(1/2930)
و {مِّنَ الْجِنِّ} صفة لـ "كثيراً". "لهم قلوب" جملة في محل نصب: إمَّا صفة لكثير ايضاً، وإمَّا حالاً من "كثيراً" وإن كان نكرة لتخصُّصِه بالوصف، أو من الضمير المستكن في "من الجن" لأنه يَحْمل / ضميراً لوقوعِه صفةً. ويجوز أن يكون "لهم" على حِدَته هو الوصف أو الحال، و "قلوب" فاعل به فيكون من باب الوصفِ بالمفرد وهو أولى. وقوله: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} وكذلك الجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ النعت لما قبلها، وهذا الوصفُ يكاد يكونُ لازماً لو ورد في غير القرآن لأنه لا فائدةَ بدونه لو قلت: "لزيد قَلْبٌ وله عينٌ" ويَكَتَّ لم يظهر لذلك كبيرُ فائدةٍ.
* { وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيا أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {الْحُسْنَى}: فيها قولان، أظهرهما: أنها تأنيث "أحسن"، والجمع المكسَّرُ لغير العاقل يجوز أن يُوْصَفَ بما يوصف به المؤنث نحو: مآرب أخرى، ولو طُوبق به لكان التركيب الحَسَن كقوله: {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. والثاني: أن الحسنى مصدر على فُعْلَى كالرُّجْعَى والبُقْيَا قال:
2347- ولا يَجْزون مِنْ حُسْنى بسوءٍ * ................
و "الأسماء" هنا: الألفاظُ الدالَّةُ على الباري تعالى كالله والرحمن. وقال ابن عطية: "المرادُ بها التسمياتُ إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره، وفيه نظرٌ لأنَّ التسمية مصدرٌ، والمصدر لا يُدْعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أن معنى "فادعوه" نادوه بها، كقولهم: يالله يا رحمان يا ذا الجلال والإِكرام اغفرْ لنا. وقيل: سمُّوه بها كقولك: "سَمَّيْت ابني بزيد".
(7/320)
---(1/2931)
قوله: {يُلْحِدُونَ} قرأ حمزة هنا وفي النحل وحم السجدة: يَلْحدون بفتح الياء والحاء مِنْ لحد ثلاثياً. والباقون بضم الياء وكسرِ الحاء مِنْ أَلْحد. فقيل: هما بمعنى واحد، وهو المَيْل والانحراف. ومنه لَحْد القبر لأنه يُمال، بحفره إلى جانبه، بخلاف الضريح فإنه يُحْفر في وسطه، ومن كلامهم "ما فعل الواجد؟ قالوا لَحَدَه اللاحد". وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السِّكِّيت وقال: "هما العدول عن الحق". وأَلْحد أكثر استعمالاً مِنْ لَحَدَ قال:
2348- ليس الإِمام بالشحيح المُلْحِدِ
وقال غيره: "لَحَدَ بمعنى رَكَنَ وانضوى، وألحد: مال وانحرف" قاله الكسائي. ونُقل عنه أيضاً: أَلْحَدَ: أعرض، ولحد: مال. قالوا: ولهذا وافق حمزة في النحل إذ معناه: يميلون إليه.
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي: "ألحد: مارى وجادل، ولحد: حاد ومال. ورُجِّحت قراءةُ العامة بالإِجماع على قوله "بإلحاد". وقال الواحدي: "ولا يكاد يُسْمع من العرب لاحد". قلت: فامتناعُهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلَّته وقد قَدَّمْتُ من كلامهم "لحده اللاحِد". ومعنى الإِلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون: اللات من لفظ الله، والعزَّى من لفظ العزيز، ومناة مِنْ لفظ المَنَّان، ويجوز أن يُراد سَمَّوه بما لا يليق بجلاله.
* { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ}: "مَنْ" يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و "يَهْدون" صفة لـ "أمة". وقال بعضهم: "في الكلام حَذْفٌ تقديره: ومِمَّن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمُقابِلهِمْ، وهو قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
}.
* { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }
(7/321)
---(1/2932)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ}: يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ وخبره الجملة الاستقبالية بعده. والوجه الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُه: سنستدرج الذين كذَّبوا والاستدراج: التقريبُ منزلةً منزلةً والأخذ قليلاً قليلاً، من الدَّرَج لأن الصاعد يرقى درجةً درجة وكذلك النازل. وقيل: هو مأخوذ من الدَّرْج وهو الطيّ ومنه: "دَرَجَ الثوبَ": طواه، و "دَرَجَ الميتَ" مثله. والمعنى: تُطوى آجالهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب: "سَيَسْتَدْرِجُهم" بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعلُ الباريَ تعالى، وهو التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعلُ ضميرَ التكذيب المفهوم مِنْ قوله "كذَّبوا". وقال الأعشى في الاستدراج:
2349- فلو كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً * ورُقِّيْتَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
ويقال: "دَرَجَ الصبيُّ": إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم: مات بعضهم إثرَ بعض.
* { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
قوله تعالى: {وَأُمْلِي}: جَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأنا أُملي، وأن يكون َمستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على "سنستدرج". وفيه نظر إذ كان من الفصاحة لو كان كذا [لكان] "ونُمْلي" بون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريباً من الالتفات. والإِملاء: الإِمهالُ والتطويل. والمتين: القوي. ومنه المَتْنُ وهو الوسط لأنه أقوى ما في الحيوان. وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتانةً، أي: قَوِيَ. وقرأ العامَّة: "إنَّ كيدي" بالكسر على الاستئناف المُشْعر بالغلبة. وقرأ ابن عامر في روايةِ عبد الحميد "أنَّ كيدي" بفتحِ الهمزة على العلة.
* { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }
(7/322)
---(1/2933)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ}: يجوز في "ما" أوجه، أحدُها: أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر "بصاحبهم" أي: أيُّ شيء استقر بصاحبهم من الجنون؟ فالجِنَّة مصدرٌ يُراد بها الهيئة كالرِّكبة والجِّلسة. وقيل: المراد بالجِنَّة الجنُّ كقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ولا بد حينئذ مِنْ حذف مضاف أي: مَسِّ جنة أو تخبيط جنة.
والثاني: أن "ما" نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين: أعني الاستفهاميةَ أو المنفية فيهما وجهان، أظهرهما: أنها في محل نصب بعد إسقاطِ الخافض لأنهما عَلَّقا التفكُّر لأنه من أفعال القلوب. والثاني: أن الكلامَ تمَّ عند قوله: "أو لم يتفكروا" ثم ابتدأ كلاماً آخر: إمَّا استفهامَ إنكار وإمَّا نفياً. وقال الحوفي: "إنَّ "ما بصاحبهم" معلقةٌ لفعلٍ محذوف دلَّ عليه الكلامُ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم". قال: "وتفكَّر" لا يُعَلَّقُ لأنه لم يدخل على جملة". وهذا ضعيفٌ، لأنهم نَصُّواعلى أن فعلَ القلب المتعدِّي بحرفِ جر أو إلى واحد إذا عُلِّق هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنين؟
الثالث: أن تكون "ما" موصولة بمعنى الذي تقديره: أو لم يتفكروا في الذي بصاحبهم، وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم. وعلى قولنا إنها نافية يكون "من جنة" مبتدأ و "مِنْ" مزيدةٌ فيه و "بصاحبهم" خبره أي: ما جِنَّةٌ بصاحبهم.
* { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
(7/323)
---(1/2934)
قوله تعالى: {وَأَنْ عَسَى}: "أنْ" فيها وجهان أحدهما: - وهو الصحيح - أنها المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن. و "عسى" وما في حيِّزها في محل الرفع خبراً لها، ولم يُفْصل هنا بين أنْ والخبر وإن كان فعلاً؛ لأن الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبه الأسماء، ومثله {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ} في قراءة نافع لأنه دعاء. وقد وقع خبرُ "أَنْ" جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين فإنَّ "عسى" للإِنشاء، و "غضب الله" دعاء.
والثاني: أنها المصدرية، قاله أبو البقاء يعني التي تنصب المضارع الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيد؛ لأن النحاةَ نَصُّوا على أنَّ "أَنْ" المصدرية لا تُوصل إلا بالفعل المتصرِف مطلقاً أي ماضٍ ومضارع وأمر و "عسى" لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ و "أنْ" على كلا الوجهين في محل جرٍّ نَسَقاً على "ملكوت"، أي: وألم ينظروا في أن الأمر والشأن عسى أن يكون. و "أن يكون" فاعل عسى، وهي حينئذٍ تامَّةٌ لأنها متى رفعت أَنْ وما في حيزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك أوشك واخلولق. وفي اسم "يكون" قولان، أحدُهما: هو ضمير الشأن، ويكون "قد اقترب أجلهم" خبراً لها. والثاني: أنه "أجلُهم" و "قد اقترب" جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير "أجلهم" ولكن قَدَّم الخبر - وهو جملة فعلية - على اسمها، وقد تقدَّم ذلك والخلاف فيه: وهو أن ابن مالك يجيزه، وابن عصفور يمنعه، عند قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
(7/324)
---(1/2935)
}. قوله: {فَبِأَيِّ} متعلِّقٌ بـ يُؤْمنون" وهي جملةٌ استفهامية سِيقَتْ للتعجب، أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يُؤْمنون بغيره؟ والهاء في "بعده" تحتمل العَوْدَ على القرآن وأن تعودَ على الرسول، ويكون الكلامُ على حَذْف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على "أجلهم"، أي: إنهم إذا ماتوا وانقضى أجلُهم فكيف ي}منون بعد انقضاء أجلهم؟ قال الزمخشري: "فإن قلت: بم تُعَلِّق قوله: "فبأي حديث بعده يؤمنون"؟ قلت: بقوله "عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم". كأنه قيل: لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون [إلى] الإِيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق، وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا"؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح.
قوله: "ويَذَرهم" قرأ الأخَوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ورفع الفعل، ونافع وابن كثير و ابن عامر بالنون ورفع الفعل أيضاً. وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ وهو الاستئناف أي: وهو يَذَرُهم، أو: ونحن نذرهم على حسب القراءتين. / وأمَّا السُّكون فيحتمل وجهين أحدهما: أنه جزم نسَقاً على محلِّ قوله "فلا هادي له" لأن الجملَة المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزمٍ فَعَطَف على مَحَلِّها وهو كقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ} بجزم "يكفر"، وكقول الشاعر:
2350- أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ * وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ
وأنشد الواحدي أيضاً قول الآخر:
2351- فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي * أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا
(7/325)
---(1/2936)
قال: "حمل "أستدرج" على موضع الفاء المحذوفة من قوله "فلعلي أصالحكم". والثاني: أنه سكونُ تخفيف كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} و {يُشْعِرُكُمْ} ونحوه. وأما الغيبة فَجَرْياً على اسم الله تعالى، والتكلم على الالتفات من الغيبة إلى التكلم تعظيماً.
* { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}: فيه وجهان أحدهما: أن "أيان" خبر مقدم، و "مُرْساها" مبتدأ مؤخر. والثاني: أن "أيان" منصوب على الظرف بفعل مضمر، ذلك الفعل رافع لـ "مرساها" بالفاعلية، وهو مذهب أبي العباس. وهذه الجملةُ في محل نصب لأنها بدل من "الساعة" بدلُ اشتمال، وحينئذ كان ينبغي ألاَّ تكون في محل جر لأنها بدل من مجرور. وقد صرَّح بذلك أبو البقاء فقال: "والجملةُ في موضع جر بدلاً من "الساعة" تقديره: يسألونك عن زمان حلول الساعة"، إلا أنه مَنَع مِنْ كونها مجرورةَ المحل أن البدل في نيَّة تكرار العامل، والعامل هو "يَسْالونك" والسؤال يعلق بالاستفهام وهو متعدٍّ، يعني فتكون الجملة الاستفهاميةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض كأنه قيل: يسألونك أيان مُرْسى الساعة، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع "عن الساعة" لأن موضع المجرور نصب، ونظيره في البدل على أحسن الوجوه فيه: عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو.
و "ايان" ظرف زمان مبني لتضمُّنه معنى الاستفهام ولا يتصرف، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف "متى" فإنها يليها النوعان. وأكثرُ ما تكون "أيَّان" استفهاماً كقول الشاعر:
2352- أيَّان تَقْضي حاجتي أيَّانا * أما تَرى لفِعْلها إبَّانا(1/2937)
(7/326)
---
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين. قال الشاعر:
2353- أيَّان نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غيرَنا وإذا * لم تُدْرِكِ الأمنَ منَّا لم تزلْ حَذِرا
وقال آخر:
2354- إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتت بقَفْرةٍ * فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الريحُ تَنْزِلِ
والفصيحُ فتحُ همزتها وهي قراءةُ العامة. وقرأ السُّلمي بكسرها وهي لغة سُلَيْم. واختلف النحويون في "أيَّان": هل هي بسيطةٌ أم مركبة؟ فذهب بعضُهم إلى أن أصلَها: أيّ أوانٍ فحُذِفَت الهمزةُ على غيرِ قياس ولم يُعَوَّضُ منها شيء، وقُلبت الواوُ ياء على غير قياس، فاجتمع ثلاثُ ياءات فاسْتُثْقِل ذلك فَحُذِفت إحداهن، وبُنيت الكلمةُ على الفتح فصارت أيان. واختلفوا فيها أيضاً: هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبو الفتح إلى أنها مشتقة مِنْ أَوَيْتُ إليه، لأن البعض آوْ إلى الكل، والمعنى: أيّ وقت وأي فعلٍ، ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللغتين، ومنع أن يكون وزنه فَعَّالاً مشتقةً مِنْ "أين"، لأنَّ أين ظرف مكان وأيان ظرف زمان.
ومُرْساها يجوز أن يكون اسمَ مصدر وأن يكون اسم زمان، قال الزمخشري: "مُرْساها" إرساؤُها أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها". قال الشيخ "وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ، لأن "أيَّان" استفهام عن الزمان فلا يَصِحُّ أن يكونَ خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها" وهو كلام حسن، ويقال: رسا يرسو: ثَبَتَ، ولا يقال إلا في الشيء الثقيل نحو: رَسَت السفينةُ تَرْسُو، وأَرْسَيْتها.
قوله: {عِلْمُهَا} مصدرٌ مضاف للمفعول والظرف خبره. وقوله: "في السموات" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون "في" بمعنى على، أي: على أهل السموات أو هي ثقيلة على نفس السموات والأرض لانشقاق هذه وزلزال ذي. و الثاني: أنها على بابها من الظرفية، والمعنى: حَصَل ثِقَلُها وهو شِدَّتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.
(7/327)
---(1/2938)
قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} هذه الجملة التشبيهية في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ مفعولِ "يسالونك". وفي "عنها" وجهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بيسألونك وكأنك حَفِيٌّ معترض، وصلتها محذوفة تقديره: حَفِيٌّ بها.
وقال أبو البقاء: "في الكلام تقديمٌ وتأخير، ولا حاجةَ إلى ذلك لأن هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل فإنَّ قولَه: / "كأنك حفيٌّ" حال كما تقدم. والثاني أنَّ "عن" بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى عن كقوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} لأن حَفِي لا يتعدَّى بـ "عن" بل بالباءِ كقوله: {كَانَ بِي حَفِيّاً} ويُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى بـ "عن"، أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها.
والحَفِيُّ: المستقصي عن الشيء، المهتبل به، المعتني بأمره قال:
2355- سؤال حفيٍّ عن أخبه كأنه * بذُكْرَتِهِ وَسْنانُ أو مُتَواسِنُ
وقال آخر:
2356- فلمَّا التقينا بَيَّن السيف بيننا * لسائلةٍ عنا حَفِيٍّ سؤالُها
وقال الأعشى:
2357- فإنْ تَسْأَلي عني فيا رُبُّ سائلٍ * حَفِيٍّ عن الأعشى به حيث أَصْعَدا
والإِحْفاءُ: الاستقصاء ومنه "إحفاء الشوارب" والحافي، لأنه حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّير. والحفاوة: البرُّ واللطف.
وقرأ عبدالله "حَفِيٌّ بها" وهي تَدُلُّ لمن ادَّعى أن "عَنْ" بمعنى الباء. وحَفِيٌّ فعيل بمعنى مفعول أي: محفوٌّ. وقيل: بمعنى فاعل أي: كأنك مبالِغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى عِلْمِ مجيئها.
* { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّواءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
(7/328)
---(1/2939)
قوله تعالى: {لِنَفْسِي}: فيه وجهان، أحدهما: أنها متعلقة بأملك. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف على أنها حال من "نفعاً" لأنه في الأصل صفةٌ له لو تأخر. ويجوز أن يكون "لنفسي" معمولاً بـ "نفعاً"، واللامُ زائدةٌ في المفعول به تقويةً للعامل لأنه فرع، إذ التقدير: لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضرَّها. وهو وجهٌ حسن.
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} في هذا الاستثناء وجهان، أظهرهما: أنه متصل، أي: إلا ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه. والثاني - وبه قال ابن عطية، وسبقه إليه مكيّ -: أنه منقطعٌ، ولا حاجةَ تدعو إليه أنه منقطع.
قوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّواءُ} عطف على جواب "لو" وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللام في جواب "لو" المثبت وإن كان يجوزُ غيرُه، وقد تقدَّم، وحَذَف اللامَ من المنفيّ لأنه يمتنع ذلك فيه. وقال الشيخ: "ولم تصحب "ما" النافيةَ - أي اللام-، وإن كان الفصيحُ أن لا تصحبَها كقوله: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ}. وفيه نظرٌ لأنهم نصُّوا على أن جوابَها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللام عليه.
قوله: {لِّقَوْمٍ} هذه من باب التنازع فيُختار عند البصريين تعلُّقُه بـ "بشير" لأنه الثاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه، ويجوز أن يكونَ المتعلَّق بالنذارة محذوفاً، أي: نذير للكافرين، ودَلَّ عليه ذِكْرُ مقابله، وهو قريب من حذف المعطوف كقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ
}.
* { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
(7/329)
---(1/2940)
قوله تعالى: {حَمْلاً}: المشهور أن الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس [غير] شجرة. وحكى أبو سعيد في حمل المرأة: حِمْل وحَمْل. وحكى يعقوب في حمل النخلة الكسرة. والحمل في الآية يجوز أن يرادَ به المصدرُ فينتصبَ انتصابَه، وأن يُراد به نفسُ الجنين، وهو الظاهر، فينتصبَ انتصابَ المفعول به كقولك: حَمَلْت زيداً.
قوله: {فَمَرَّتْ} الجمهورُ على تشديد الراء ومعناه: استمرت به، أي: قامَتْ وقعدت. وقيل: هو على القلب، أي: فمرَّ بها، أي استمر ودام.
وقرأ ابن عباس وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب "فَمَرَتْ" خفيفةَ الراء، وفيها تخريجان، أحدهما: أن أصلها التشديد، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مكرر فتركوه، وهذا كقراءة "وقَرْن" بفتح القاف إذا جَعَلْناه من القرار. والثاني: أنه من المِرْية وهو الشك، أي: فشكَّتْ بسببه أهو حَمْل أم مرض؟
وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري: "فمارَتْ" بالف وتخفيف الراء. وفيها أيضاً وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مار يمور، أي جاء وذهب، ومارَتِ الريح، أي: جاءت وذهبَتْ وتصرَّفَتْ في كل وجه، ووزنه حينئذ فَعَلَتْ والأصل مَوَرَتْ، ثم قُلبت الواو ألفاً فهو كطافَتْ تطوف. والثاني: أنها من المِرْية أيضاً قاله الزمخشري وعلى هذا فوزنه فاعَلَت والأصل: مارَيَتْ كضارَبَتْ، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين فهو كبارَتْ ورامت.
وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك "فاسْتَمَرَّتْ به" وهي واضحة. وقرأ أُبَيّ "فاستمارَتْ" وفيها الوجهان المتقدمان في "فمارَتْ"، أي: أنه يجوز / أن يكون من المِرْية، والأصل "اسْتَمْرَيَتْ"، وأن يكون من المَوْر والأصل: استَمْوَرَتْ.
(7/330)
---(1/2941)
قوله: {أَثْقَلَتْ}، أي: صارت ذا ثِقل كقولهم: أَلْبَنَ الرجل وأَتْمَرَ، أي: صار ذا لينٍ وتمرٍ. وقيل: دخلت في الثقل، كقولهم: أصبح وأمسى، أي: دخلَتْ في الصباح والمساء. وقرئ "أُثْقِلَتْ" مبنياً للمفعول.
قوله: {دَّعَوَا اللَّهَ} متعلَّقٌ الدعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسمية عليه، أي: دَعَواه في أن يُؤتيَهما ولداً صالحاً.
وقوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا} هذا القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفسِّرٌ لجملة الدعاء كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ كان دعاؤهما كيت وكيت، ولذلك قلت: إن هذه الجملةَ دالَّةٌ على متعلق الدعاء. والثاني: أنه معمول لقول مضمر تقديره: فقالا: لئن آتيتنا. و "لنكونَنَّ" جوابُ القسم، وجواب الشرط محذوفٌ على ما تقرَّر. و "صالحاً" فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولداً صالحاً. والثاني - وبه قال مكي -: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: إيتاءً صالحاً. وهذا لا حاجةَ إليه لأنه لا بد مِنْ تقدير الموتى لهما.
* { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ}: قيل: ثَمَّ مضاف، أي: جعل له أولادُهما شراكاء، وإلا فحاشا آدم وحواء من ذلك، وإن جُعِل الضمير ليس لآدم وحواء فلا حاجة إلى تقديره. وقيل في الآية أقوال تقتضي أن يكون الضميرُ لآدم وحواء من غيرِ حَذْفِ مضاف بتأويل ذُكر في التفسير.
(7/331)
---(1/2942)
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم "شِرْكاً" بكسر الشين وتسكين الراء وتنوين الكاف. والباقون بضمَّ الشين وفتح الراء ومدِّ الكافِ مهموزةً من غير تنوين، جمع شريك، فالشِرْك مصدرٌ ولا بد من حَذْف مضاف، أي: ذوي شِرْك بمعنى إشراك، فهو في الحقيقة اسمُ مصدر. وقيل: المرادُ بالشرك النصيبُ، وهو ما جعلاه مِنْ رزقهما له يأكله معهما، وكانا يأكلان ويشربان وحدَهما. فالضمير في "له" يعود على الولد الصالح. وقيل: الضمير في "له" لإِبليس ولم يَجْرِ له ذِكْر. وهذان الوجهان لا معنى لهما. وقال مكي وأبو البقاء وغيرهما: إن التقدير يجوز أن يكون: جَعَلا لغيره شِرْكاً. قلت: هذا الذي قدَّروه هؤلاء قد قال فيه أبو الحسن: "كان ينبغي لمَنْ قرأ "شِرْكاً" أن يقول: المعنى: جعلا لغيره شِرْكاً [فيما أتاهما] لأنهما لا يُنْكِران أن الأصل لله، فالشرك إنما لجعله لغيره".
قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: هذه جملةٌ استئنافية، والضميرُ في "يشركون" يعود على الكفار، والكلامُ قد تَمَّ قبله. وقيل: يعودُ على أدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإِشراك تسميتهُما لولدٍ ثالث بعبد الحرث، وكان أشار بذلك إبليس، فالإِشراك في التسمية فقط. وقيل: لم يكن آدمُ عَلِم، ويؤيد الوجهَ الأولَ قراءةُ السلمي "عَمَّا تشركون" بتاء الخطاب، وكذلك "أَتُشرِكون" بالخطاب أيضاً وهو التفات.
* { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
قوله تعالى: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}: يجوز أن تعود على "ما" من حيث المعنى، والمراد بها الأصنام، وعَبَّر عنهم بـ "هم" لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدون في العقلاء، أو لأنهم مختلطون بمَنْ عُبِد من العقلاء كالمسيح وعُزَير، أو يعود على الكفار، أي: والكافرون مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا.
* { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }(1/2943)
(7/332)
---
قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ}: الظاهرُ أن الخطاب للكفار وضميرَ النصب للأصنام، والمعنى: وإن تدعوا آلهتكم إلى طَلَب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مُرادكم. ويجوز أن يكونَ الضميرُ للرسول والمؤمنين والمنصوب للكفار: وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإِيمان. ولا يجوز أن يكونَ "تَدْعوا" مسنداً إلى ضمير الرسول فقط، والمنصوبُ للكفار أيضاً، لأنه كان ينبغي أن تُحْذف الواو لأجل الجازم، ولا يجوز أن يُقال قَدَّر حَذْفَ الحركة وثبت حرف العلة كقوله:
2358- هَجَوْت زَبَّان ثم جِئْتَ مُعْتذراً * مِنْ هَجْو زبَّانَ لم تهجو ولم تَدَعِ
ويكون مثلَ قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} {فَلاَ تَنسَى} {لا تَخَفْ دَرَكاً ولا تخشى} لأنه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك، وقد مضى منه جملة.
قوله: "لا يَتَّبِعكم" قرأ نافع بالتخفيف وكذا في الشعراء "يَتْبَعُهم"، والباقون بالتشديد، فقيل: هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم: {فَمَن تَبِعَ}، في موضع آخر {اتَّبَعَ}. وقيل: تبع: اقتفى أثره، واتَّبعه - بالتشديد - اقتدَى به. والأول أظهر.
قوله: {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} هذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفت على أخرى فعلية لأنها في معنى الفعلية، والتقدير: أم صَمَتُّم. وقال أبو البقاء: "جملةٌ اسمية في موضعِ الفعلية والتقدير: أدعوتموهم أم صَمَتُّم". وقال ابن عطية: "عَطَفَ الاسمَ على الفعل إذ التقدير: أم صَمَتُّم، ومثله قول الشاعر:
2359- سواءُ عليك الفقرُ أم بِتَّ ليلةً * بأهل القباب مِنْ نميرِ بن عامرِ
قال الشيخ: "وليس من عَطْفِ الفعلِ على الاسم، إنما هو من عَطْفِ الفعليةِ على اسمٍ مقدَّرٍ بالفعلية إذ الأصل: سواء عليك أفتقرْتَ أم بِتَّ، وإنما أَتَى في الآية بالجملة الثانية اسمية لأن الفعلَ يُشعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة".
(7/333)
---(1/2944)
والصَّمْتُ: السكون، يقال منه: صمَت يصمُت: بالفتح في الماضي والضم في المضارع. ويقال: صَمِت بالكسر يصمَت بالفتح، والمصدر: الصَّمْت والصُّمات. و "إصْمِت" بكسر الهمزة والميم اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة. وقد رَدَّ بعضهم هذا بأنه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزتُه همزةَ وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمُه مضمومةً إن كان مِنْ يَصْمُت، أو مفتوحةً إن كان من يَصْمَت، ولأنه كان ينبغي ألاَّ يؤنث بالتاء وقد قالوا إصْمِتة. والجواب أن فعلَ الأمر يجبُ قَطْعُ همزتِهِ إذا سُمِّي به نحو "إشرب" لأنه ليس لنا من الأسماء ما همزته للوصل إلا أسماءٌ عشرة [ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة] وهو قليلٌ فالإِلحاق بالكثر أولى، وأما كسر الميم فلأنَّ التغييرَ يُؤْنِسُ بالتغيير، وكذلك الجوابُ عن تأنيثِه بالتاء.
* { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ}: العامَّة على تشديد إنَّ فالموصولُ اسمُها وعبادٌ خبرها. وقرأ سعيد بن جبير بتخفيف "إنْ" ونصب "عباد" و "أمثالكم". وقد خَرَّجها أبو الفتح ابن جني وغيره أنها "إنْ" النافيةُ، وهي عاملةٌ عملَ "ما" الحجازية، وهذا مذهب الكسائي وأكثرُ الكوفيين غيرَ الفراء، وقال به من البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن إعمالَها لغةٌ ثابتة نظماً ونثراً وأنشدوا:
2360- إنْ هو مستولياً على أحد * إلا على أَضْعف المجانين
(7/334)
---(1/2945)
ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم، والقراءة الشهيرة تُثْبت ذلك، ولا يجوز التناقض في كلام الله تعالى. وقد أجابوا عن ذلك بأن هذه القراءة تُفْهم تحقيرَ أمرِ المعبود من دون الله وغباوةَ عابدِه، وذلك أن العابدين أتمُّ حالاً وأقدرُ على الضرِّ والنفع من آلهتهم فإنها جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك فكيف يَعْبُد الكاملُ مَنْ هو دونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأَوْلى.
وقد ردَّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه، أحدها: مخالفتُها لسواد المصحف. الثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر "إنْ" المخففة فيقول: "إنْ زيد منطلق" لأن عَمَلَ "ما" ضعيف و "إنْ" بمعناها فهي أضعف منها. الثالث: أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى "ما" إلا أن يكون بعدها إيجاب. وما ردَّ به النحاس ليس بشيء لأنها مخالَفَةٌ يسيرة. قال الشيخ: "ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالِفَةً للسواد". وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك. وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له. وخرَّج الشيخ القراءة على أنها "إنْ" المخففة قال: "وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة "وإنْ كلاً"، ثم إنها قد ثبت لها صب الجُزْأَين، وأنشد:
2361- ................ * ............... إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا
قال: "وهي لغة ثابتة" ثم قال: "فإن تأوَّلنا ما ويد من ذلك نحو:
2362- يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعا
(7/335)
---(1/2946)
أي: تُرى رواجعا / فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم". قلت: فيكون هذا التخريج مبنياً على مذهبين أحدهما: إعمال المخففة وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنه أقل من الإِهمال، وعبارة بعضهم "إنه قليل" ولا أرتضيه لوروده في المتواتر. والثاني: أن "إنَّ" وإخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح. وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه: كون "إنْ" نافيةً عاملةً، أو المخففة الناصبة للجزأين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.
وقرأ بعضهم "إنْ" مخففة، "عباداً" نصباص، "أمثالُكم" رفعاً، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أُهملت، و "الذين" مبتدأ، و "تدعون" صلتها، والعائد محذوف، و "عبادٌ" حال من ذلك العائد المحذوف، و "أمثالكم" خبره. والتقدير: إن الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يُعبدون؟ ويَضْعُف أن يكون الموصول اسماً منصوبَ المحل لأن إعمالَ المخففة كما تقدَّم قليلٌ.
وحكى أبو البقاء أيضاً قراءةً رابعةً وهي بتشديد "إنَّ"، ونصب "عباد"، ورفع "أمثالكم"، وتخريجها على ما تقدم قبلها.
* { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ }
قوله تعالى: {يَبْطِشُونَ}: العامة على كسر الطاء من بطش يبطِش. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في رواية عنه: "يَبْطُشون" بضمها وهما لغتان. والبطش: الأخذ بقوة.
(7/336)
---(1/2947)
قوله: {ثم كيدوني} قرأ أبو عمرو: "كيدوني" بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وهشام بإثباتها في الحالين. والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشام خلافٌ مشهور. وقال الشيخ: "وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه "فكيدوني" بإثبات الياء وصلاً ووقفاً" قلت: أبو عمرو لا يثبتها وقفاً البتة، فإن قاعدَته [في] الياءات الزائدة ما ذكره لك. وفي القراءة "فكيدوني" ثلاثةُ ألفاظٍ: هذه وقد عُرف حكمُها، وفي هود {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أثبتها القُرَّاء كلهم في الحالين، وفي المرسلات: {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} حَذَفَها الجميعُ في الحالين، وهذا نظير ما مرَّ بك من لفظة {وَاخْشَوْنِي} فإنها في البقرة ثابتةٌ للكل وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أول المائدة، ومختلف فيها في ثانيتها.
* { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}: العامة على تشديد "وليي" مضافاً لياء المتكلم المفتوحة وهي قراءة واضحة. أضاف الوليّ إلى نفسه.
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه: "إن وليَّ" بياء واحدة مشددة مفتوحة، وفيها تخريجان أحدهما: قال أبو علي: "إن ياء فعيل مدغمةٌ في ياء المتكلم، وإن الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ، ومنع من العكس. والثاني: أن يكون "وليَّ" اسمها وهو اسمٌ نكرةٌ غيرُ مضاف لياء المتكلم والأصل: إن ولياً الله، فولياً اسمُها واللهُ خبرها، ثم حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
2363- فالفيته غيرَ مُسْتَعْتِبٍ * ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وكقراءة من قرأ: {قل هو الله أحدُ الله الصمد}. ولم يبق إلا الإِخبارُ عن نكرةٍ بمعرفة وهو واردٌ، قال الشاعر:
2364- وإنَّ حراماً أن أَسُبَّ مجاشعاً * بآبائي الشمِّ الكرام الخضارم
(7/337)
---(1/2948)
وقرأ الجحدري في رواية: "إن وليِّ الله" بكسر الياء مشددة، وأصلُها أنه سَكَّن ياء المتكلم فالتقت مع لام التعريف، فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو: إنَّ غلامِ الرجلُ. وقرأه في رواية أخرى: "إن وليَّ الله" بياء مشددة والجلالة بالجر، نقلها عنه أبو عمرو الداني، أضاف الوليّ إلى الجلالة. وذكر الأخفش وأبو حاتم هذه القراءة عنه، ولم يذكرا نصب الباء. وخرَّجها الناس على ثلاثة أوجه، الأول - قولُ الأخفش - وهو أن يكون وليّ الله اسمها، والذي نزَّل الكتاب خبرها، والمراد بالذي نزَّل الكتاب جبريل، يدلُّ عليه قولُه تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} إلا أن الأخفش قال في قوله "وهو يتولى الصالحين" هو مِنْ صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل، وفي تَحَتُّم ذلك نظرٌ. والثاني: أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى، والمراد بالموصول النبي صلى الله عليه وسلم ويكون ثَمَّ عائدٌ محذوف لفهم المعنى، و التقدير: إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نَزَّل الله الكتاب عليه، فحذف "عليه" وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف لكنه قد جاء قليلاً كقوله: /
2365- وإن لساني شُهْدةٌ يُشْتفى بها * وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ
أي: صَبَّه الله عليه. وقال آخر:
2366- فأصبح من أسماء قيسٍ كقابضٍ * على الماء لا يدري بما هو قابضُ
أي: بما هو قابض عليه. وقال آخر:
2367- لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أن يَرُدَّني * إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قادرُهْ
أي: أَصْعَدْتني به. وقال آخر:
2368- ومِنْ حَسَدٍ يجورُ عليَّ قومي * وأيُّ الدهر ذو لم يحسُدوني
وقال آخر:
2369- فقلت لها لا والذي حَجَّ حاتمٌ * أخونُكِ عهداً إنني غيرُ خَوَّانِ
أي: حجَّ إليه. وقال آخر:
2370- فَأَبْلِغَنَّ خالدَ بنَ عَضْلَةٍ * والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بلومِ مَنْ يثقْ
(7/338)
---(1/2949)
أي: يثق به، وإذا ثَبَتَ أن الضميرَ يُحْذف في مثل هذه الأماكن وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة في التخريج المذكور أسوة بها. والثالث: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: إن وليَّ الله الصالحُ أو مَنْ هو صالح، وحُذف لدلالة قوله "وهو يتولَّى الصالحين" وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ}، أي: معذَّبون، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ
}.
* { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
والنَّزْغُ: أدنى حركة تكون، وأكثر ما يُسْند للشيطان لأنه أسرعُ في ذلك. وقيل: النَّزْغ: الدخول في أمرٍ لإِفساده وقال الزمخشري: "والنزغ والنَّسْغ الفَرْزُ والنَّخْس، وجعل النزغ نازغاً كما قيل: "جَدَّ جَدُّه" يعني قصد بذلك المبالغة.
* { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }
قوله تعالى: {طَائِفٌ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "طَيْفٌ" والباقون "طائف" بزنة فاعل. فأمَّا طَيْف ففيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مصدرٌ مِنْ طاف يَطيف كباع يبيع، وأنشد أبو عبيدة:
2371- أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ * ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ
(7/339)
---(1/2950)
والثاني: أنه مخففٌ من فَيْعِل، والأصل: طَيِّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميّت مَيْت وفي ليّن ليْن وفي هيّن هيْن. ثم طَيّف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون مِنْ طاف يطيف أو من طاف يطوف، والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم وهذا قول أبي بكر بن الأنباري. والثالث: أن أصله طَوْف من طاف يطوف، فقلبت الواو ياءً. قال أبو البقاء: "قلبت الواو ياءُ وإن كانت ساكنة كما قلبت في أَيْد وهو بعيد" قلت: وقد قالوا أيضاً في حَوْل: حَيْل، ولكن هذا من الشذوذ بحيث لا يُقاس عليه. وقوله "وإن كانت ساكنة" ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء بل كان ينبغي أن يُقال: وإن كان ما قبلها غيرَ مكسورٍ.
وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل، يُحْتمل أن يكون مِنْ طاف يطوف فيكون كقائم وقائل، وأن يكونَ مِنْ طاف يطيف فيكون كبائع ومائل. وقد زعم بعضُهم أنَّ طَيْفاً وطائفاً بمعنى واحد ويُعزى للفراء، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً لطَيْف فيجعلهما مصدرين. وقد جاء فاعِل مصدراً كقولهم: "أقائماً وقد قعد الناس" وأن يَرُدَّ طيفاً لطائف، أي: فيجعله وَصْفاً على فَعْل.
وقال الفارسي: "الطيف كالخَطْرة، والطائف كالخاطر" ففرَّق بينهما. وقال الكسائي: "الطَّيْف: اللَّمَم، والطائف ما طاف حول الإِنسان". قال ابن عطية: "وكيف هذا وقد قال الأعشى:
2372- وتُصْبح مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنما * ألمَّ بها من طائفًِ الجنِّ أولقُ
ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله "ما طافَ حول الإِنسان" مقيَّداً بالإِنسان، وهذا قد جعله طائفاً بالناقة، وهي سَقْطة لأن الكسائي إنما قاله اتفاقاً لا تقييداً. وقال أبو زيد الأنصاري: "طافَ: أقبل وأدبر يَطُوف طَوْفاً وطَوَافاً، وأطاف: استدار القومُ من نواحيهم. وطاف الخيالُ: أَلَمَّ، يَطيف طَيفاً" فقد فرَّق أبو زيد بين ذي الواو وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى. وفرَّق ايضاً بين فعل وأفعل كما رأيت.
(7/340)
---(1/2951)
وزعم السُّهَيْلي أنه لا يُسْتعمل مِنْ "طاف الخيال" اسم فاعل قال: "لأنه تخيُّلٌ لا حقيقة له". قال: "فأمَّا قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} فلا يقال فيه طَيْف لأنه اسمُ فاعل حقيقةً. وقال حسان:
2373- جِنِّيَّةٌ أرَّقَني طيفُها * تَذْهَبُ صُبْحاً وتُرى في المنامْ
وقال السدِّي: "الطَّيْفُ: الجنون، والطائف: الغضب"، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - هما بمعنى واحد وهو النَّزْغ.
* { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }
قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}: في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أن الضميرَ في "إخوانهم" يعود على الشياطين لدلالةِ لفظ الشيطان عليهم، أو على الشيطان نفسه لأنه لا يُراد به الواحدُ بل الجنس. والضمير المنصوب في "يَمُدُّونهم" يعود على الكفار، والمرفوع يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم. و التقدير: وإخوان الشياطين يَمُدُّهم الشياطين، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير مَنْ هو له في المعنى، ألا ترى أن الإِمداد مسند إلى الشياطين في المعنى، وهو في اللفظ خبر عن "إخوانهم"، ومثله:
2374- قوم إذا الخيلُ جالُوا في كواثبها * ..............
وقد تقدم لك في هذا كلامٌ وبحثٌ مع مكي وغيره من حيث جَرَيانُ الفعلِ على غير مَنْ هوله ولم يَبْرُزْ ضمير، وهذا التأويل الذي ذكرته هو قول الجمهور عليه عامَّة المفسرين. قال الزمخشري "هو أَوْجَهُ لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا".
(7/341)
---(1/2952)
الثاني: أن المرادَ بالإِخوان الشياطين، وبالضمير المضافِ إليه الجاهلون أو غيرُ المتَّقين؛ لأن الشيء يَدُلُّ على مقابله. والواو تعود على الإِخوان، والضميرُ المنصوب يعود على الجاهلين أو غير المتقين، والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المتقين في الغَيِّ، والخبرُ في هذا الوجه جارٍ على مَنْ هوله لفظاً ومعنى وهذا تفسير قتادة.
الثالث: أن يعودَ الضمير المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإِخوان وهم الكفار. قال ابن عطية: "ويكون المعنى: وإخوان الشياطين في الغيِّ بخلافِ الإِخوة في الله يَمُدُّون [الشياطين]، أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التأويل على أن يتعلق في الغيّ بالإِمداد: لأن الإِنس لا يُغْوون الشياطين"ز قلت: يعني يكون في "الغيّ" حالاً من المبتدأ أي: وإخوانهم حال كونهم مستقرين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسن أن يتعلق بما تضمَّنه إخوانهم من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث للشيخ.
قال الشيخ: "ويمكن أن يتعلَّق "في الغيّ" على هذا التأويل بـ "يمدُّونهم" على جهة السببيّة، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم نحو: "دخلت امرأة النار في هرة"، أي: بسبب هرةٍ"، ويُحتمل أن يكون "في الغيّ" حالاً فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائنين في الغيّ، فيكون "في الغيّ" في موضعه، ولا يتعلَّق بإخوانهم، وقد جَوَّز ذلك ابن عطية. وعندي في ذلك نظرٌ، فلو قلت: "مُطْعِمُك زيدٌ لحماً" تريد: مطعمك لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جوازه نظر؛ لأنك فَصَلْتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ". قلت: ولا يظهر منعُ هذا البتةَ لعدم أجنبيَّته.
(7/342)
---(1/2953)
وقرأ نافع: "يُمِدونهم" بضم الياء وكسر الميم مِنْ أمدَّ، والباقون بفتح الياء وضم الميم مِنْ مدَّ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المادة، وهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل هذا الموضوع. وقرأ الجحدري "يُمادُّونهم" مِنْ مادَّهُ بزنة فاعَلَه.
وقرأ العامة "يُقْصِرُون" مِنْ أَقْصَرَ، قال الشاعر:
2375- لعَمْرك ما قلبي إلى أهله بحُرّْ * ولا مُقْصِرٍ يوماً فيأتيني بقُرّْ
وقال امرؤ القيس:
2376- سما لك شوقٌ بعدما كان أَقْصَرا * وحَلَّتْ سُلَيْمى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعرا
أي: ولا نازع عمَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعدما كان قد نزع وأقلع. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة "ثم لا يَقْصُرون" بفتح الياء وضم الصاد مِنْ قصر، أي: ثم لا يَنْقُصون من إمدادهم. وهذه الجملة - أعني "وإخوانهم يمدُّونهم" زعم الزجاج أنها متصلة بالجملة من قوله {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} وهو تكلف بعيد.
وقوله {فِي الْغَيِّ}: قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو بإخوانهم، أو بمحذوف على أنه حال: إمَّا من إخوانهم، وإمَّا مِنْ واو "يمدُّونهم"، وإمَّا مِنْ مفعوله.
* { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
والإنصاتُ: السُّكون للاستماع، قاله الفراء. ويقال: نَصَتَ وأنصت بمعنى واحد، وقد جاء أنصت متعدياً، قال الكميت:
2377- أبوك الذي أجْدَى عليك بنصره * فأنصت عني بعده كلَّ قائل
وقوله: {هَاذَا بَصَآئِرُ} جمع بصيرة، وأطلق على القرآن بصائر: إمَّا مبالغةً، وإمَّا لأنه سبُب البصائر، وإمَّا على حَذْف مضاف، أي: ذو بصائر. و "لعل" يجوز أن تكونَ للترجي بحسب المخاطبين، وأن تكون للتعليل.
* { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }(1/2954)
(7/343)
---
قوله تعالى: {لَهُ}: متعلَّقٌ بـ استمعوا، على معنى لأجله، والضمير للقرآن. وقال أبو البقاء: "يجوزُ أن يكون بمعنى لله، أي: لأجله"، فأعاد الضميرَ على "الله" وفيه بُعْدٌ، وجَوَّز أيضاً أن تكونَ اللامُ زائدةً، أي: فاستمعوه، وقد عَرَفْتَ أن هذا لا يجوز عند الجمهور إلا في موضعين: إمّا تقديمِ المعمولِ أو كونِ العامل فرعاً. وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ولا حاجة إليه.
والاجتباء: افتعال مِنْ جَبَاه يَجْبيه، أي: جمعه مختاراً له، ولهذا غلب: اجتبيتُ الشيء، أي: اخترته. وقال الزمخشري: "اجتبى الشيء: بمعنى جَبَاه لنفسه، أي: جمعه / كقولك: اجتمعه أو جُبِيَ إليه فاجتباه، أي: أخذه كقوله: جَلَيْتُ إليه العروس فاجتلاها، والمعنى: هلا اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: "إنْ هذا إلا إفْكٌ افتراه".
* { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ }
قوله تعالى: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}: في نصبهما وجهان، أظهرهما: أنهما مفعولان من أجلهما لأنه يتسبَّب عنهما الذِّكْر. والثاني: أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي: متضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة. وقرئ "وخفية" بتقديم الفاء. وقيل: وهما مصدران للفعل مِنْ معناه لا من لفظه، ذكره أبو البقاء وهو بعيد.
قوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ} قال أبو البقاء: "معطوف على "تضرُّع" والتقدير: ومقتصدين". وهذا ضعيف لأن "دون" ظرف لا يتصرَّف على المشهور، فالذي ينبغي أن يُجْعَل صفةٌ لشيء محذوف، ذلك المحذوف هو الحال كما قدَّره الزمخشري فقال: "ودونَ الجهر: ومتكلماً كلاماً دون الجهر؛ لأن الإِخفاءَ أَدْخَلُ في الإِخلاص وأقربُ إلى حسن التفكر".
(7/344)
---(1/2955)
قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} متعلق باذكر، أي: اذكره في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن الليل والنهار. قال أبو البقاء: "بالغُدُوِّ" متعلق بـ "ادعوا" وهو سَبْقُ لسانٍ وقلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا.
والغُدُوّ: إمَّا جمع غُدْوة كقمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع المعنوي. وقيل: هو مصدرٌ فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتى يتقابل زمان مجموع بمثله، تقديره: بأوقات الغدو. والآصال: جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهو جمع الجمع. ولا جائزٌ أن يكونَ جماً لأصيل؛ لأن فعيلاً لا يُجْمع على أفعال. وقيل: بل هو جمعٌ لأصيل، وفعيل يُجمع على أفعال نحو: يمين وأيمان. وقيل: آصال جمع لـ "أُصُل" وأُصُل مفرد، ثبت ذلك مِنْ لغتهم وهو العشيُّ، وفُعُل يُجمع على أَفْعال قالوا: عُنُق وأعناق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوى أنه جمع الجمع، ويُجْمع على أُصلان كرَغيف ورُغْفان، ويُصَغَّر على لفظه كقوله:
2378- وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها * عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
واستدلُّ الكوفيون بقولهم "أُصَيْلان" على جواز تصغير جمع الكثرة بهذا البيت، وتأوَّله البصريون على أنه مفرد، وتُبدل نونه لاماً، ويُروى أصيلالاً.
وقرأ أبو مجلز - واسمُه لاحق بن حميد السدوسي البصري - "والإِيصال" مصدرُ آصَل، أي: دخل في الأصيل.(1/2956)
سورة الأنفال
* { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}: فاعل "يَسْأل" يعود على معلوم، وهم مَنْ حَضَرَ بَدْراً. و "سأل" تارةً تكونُ لاقتضاء معنى في نَفْسِ المسؤول فتتعدَّى بـ "عن" كهذه الآية، وكقول الشاعر:
2379- سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ * فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ
(7/345)
وقد تكون لاقتضاء مالٍ ونحوه فتتعدى لاثنين نحو: "سألت زيداً مالاً". وقد ادَّعى بعضُهم أن السؤالَ هنا بهذا المعنى، وزعم أن "عَنْ" زائدةٌ، والتقدير: يسألونك الأنفالَ، وأيَّد قولَه بقراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وزيدٍ ولدِه ومحمد الباقر ولدِه أيضاً وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء: "يسألونك الأنفالَ" دون "عن". والصحيحُ أن هذه القراءةَ على إرادةِ حرفِ الجر. وقال بعضهم: "عن" بمعنى "مِنْ". وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه.
وقرأ ابنُ محيصن: "عَلَّنْفَال". والأصل: أنه نقل حركةَ الهمزة إلى لام التعريف، ثم اعتدَّ بالحركة العارضة فأدغم النونَ في اللام كقوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم}، وقد تقدَّم ذلك في قوله {عَنِ الأَهِلَّةِ
}. والأنفال: جمع نَفَل وهي الزيادة على الشيء الواجب وسُمِّيَتْ / الغنيمة نَفَلاً لزيادتِها على حِماية الحَوزة. قال لبيد:
2380- إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ * وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ
وقال أخر:
2381- إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نَرْوي القَنا * ونَعِفُّ عند مَقاسِمِ الأنفالِ
وقيل: سُمِّيت "الأَنْفال" لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم. وقال الزمخشري: "والنَّفَل: ما يُنْفَلُه الغازي، أي يُعْطاه زيادةً على سهمه من المَغْنم".
قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ}: قد تقدَّمَ الكلامُ على "ذات" في آل عمران. وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره: وأَصْلِحوا أحوالاً ذاتَ افتراقِكم وذاتَ وَصْلِكم، أو ذاتَ المكانِ المتصلِ بكم، فإنَّ "بين" قد قيل إنه يُراد به هنا الفراقُ أو الوصل أو الظرف. وقال الزجاج وغيره: "إنَّ "ذات" هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه" وقد أوضح ذلك ابن عطية. والتفسير ببيان هذا أولى.
(7/346)
---(1/2957)
وقال الشيخ: "والبَيْنُ: الفِراق، و "ذات" نعت لمفعول محذوف أي: وأَصْلِحوا أحوالاً ذات افتراقكم، لمَّا كانت الأحوالُ ملابِسةً للبَيْن أُضِيْفَتْ صفتُها إليه، كما تقول: اسْقِني ذا إنائك أي: ماءً صاحبَ إنائك، لَمَّا لابس الماءُ الإِناءَ وُصِفَ بـ "ذا" وأُضيف على الإِناء. والمعنى: اسقِني ما في الإِناء من الماء".
* { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
قوله تعالى: {وَجِلَتْ}: يُقال: وَجِلَ بالكسر في الماضي يَوْجَلُ بالفتح، وفيه لُغَيَّةٌ أخرى، قرئ بها في الشاذ: وَجَلَتْ بفتح الجيم في الماضي وكَسْرِها في المضارع فَتَنْحَذِف الواو كوَعَد يَعِدُ. ويُقال في المشهورة: وَجِل يَوْجَل. ومنهم مَنْ يقول: ياجَلُ بقلب الواو ألفاً، وهو شاذٌّ لأنه قَلْبُ حرفِ العلة بأحد السببين: وهو انفتاحُ ما قبلَ حرفِ العلة دون تحركه وهو نظير "طائي" في النسب إلى طيِّئ. ومنهم من يقول: يِيْجَلُ بكسر حرف المضارعة فتنقلبُ الواوُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها. وقد تقدَّم في أول هذا الموضوع أنَّ من العرب مَنْ يكسِرُ حرف المضارعة بشروطٍ منها: أن لا يكونَ حرفُ المضارعة ياءً إلا في هذه اللفظة وفي أَبَى يِئْبَى. ومنهم مَنْ ركَّب من هاتين اللغتين لغةً أخرى وهي فتحُ الياء وقلبُ الواو ياءً فقال: يَيْجَلُ، فأخذ قلبَ الواو ممَّن كسرَ حرفَ المضارعة، وأخذ فتحَ الياءِ مِنْ لغة الجمهور.
(7/347)
---(1/2958)
وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: قال ابن عطية: "وجوابُ الشرط المتقدم في قوله: "وأطيعوا"، هذا مذهب سيبويه، ومذهب المبرد أن الجواب محذوف متأخر، ومذهبه في هذا الاَّ يتقدَّمَ الجوابُ على الشرط". قلت: وهذا الذي ذكره أبو [محمد] نقل الناسُ خلافَه، نقلوا ذلك - أعني جوازَ تقديمِ جوابِ الشرط عليه - عن الكوفيين وأبي زيد وأبي العباس، فالله أعلم أيُّهما أثبت. ويجوز أن يكون للمبرد قولان وكذا لسيبويه، فنقل كلُّ فريق عن كلٍ منهما أحد القولين.
* { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ}: يجوز في هذا الموصول أن يكن مرفوعاً على النعت للموصول، وعلى البدل، أو على البيان له، وأن يكون منصوباً على القطع المُشْعِر بالمدح. وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} التقديمُ يفيدُ الاختصاصَ أي: عليه لا على غيره. وهذه الجملةُ يُحتمل أن يكون لها محلٌّ من الإِعراب وهو النصبُ على الحال مِنْ مفعول "زادَتْهم" ويُحتمل أن تكونَ مستأنفةً، ويحتمل أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها فتدخلَ في حَيِّزِ الصلاتِ المتقدمةِ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ لها من الإِعراب.
* { أُوْلاائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
قوله تعالى: {حَقّاً}: يجوز أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوف أي: هم المؤمنون إيماناً حقاً. ويجوز أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولك: هو عبدالله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي: أحقُّه حقاً. ويجوز - وهو ضعيف جداً - أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي "لهم درجات" ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله "هم المؤمنون" ثم ابتدئ بـ "حقاً" لهم درجات". وهذا إنما يجوز على رأيٍ ضعيف، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد / لمضمون جملة عليها.
(7/348)
---(1/2959)
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} يجوز أن يكونَ متعلقاً بـ "درجات" لأنها بمعنى "أُجُورٌ"، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لـ "درجات" أي: استقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به "لهم" من الاستقرار.
* { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }
قوله تعالى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ}: فيه عشرون وجهاً: أحدها: أن الكافَ نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: الأنفالُ ثابتةٌ لله ثبوتاً كما أخرجك أي: ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك بالحق، يعني أنه لا مِرْيَةَ في ذلك. الثاني: أن تقديره: وأصلحوا ذاتَ بينكم إصلاحاً كما أخرجك. وقد التفت من خطابِ الجماعةِ إلى خطاب الواحد. الثالث: تقديرُه: وأطيعوا اللهَ ورسولَه طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك أي: كما أن إخراج الله إياك لا مِرْيَةَ فيه ولا شبهة. الرابع: تقديرُه: يتوكلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربك. الخامس: تقديره: هم: المؤمنون حقاً كما أخرجك فهو صفة لـ "حقاً".
السادس: تقديره: استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك. السابع: أنه متعلقٌ بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك. الثامن: تقديرُه: لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي: إن هذين الشيئين: الجدالَ والكراهيةَ ثابتان لا محالة، كما أن إخراجك ثابت لا محالة. التاسع: أن الكافَ بمعنى إذ، و "ما" مزيدة. التقدير: اذكر إذ أخرجك. وهذا فاسدٌ جداً إذ لم يَثْبُتْ في موضعٍ أن الكاف تكون بمعنى إذ، وأيضاً فإنَّ "ما" لا تُزادُ إلا في مواضعَ ليس هذا منها.
(7/349)
---(1/2960)
العاشر: أن الكاف بمعنى واو القسم و "ما" بمعنى الذي، واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله: {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا} {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله "يجادلونك" جوابَ القسم. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّ الناس عليه قاطبةً. وقالوا: كان ضعيفاً في النحو، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن "يجادلونك" لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان: اللام وإحدى النونين، نحو {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً}، وعند الكوفيين: إمَّا اللامُ وإمَّا إحدى النونين، و "يجادلونك" عارٍ عنهما.
الحادي عشر: أن الكاف بمعنى على، و "ما" بمعنى الذي والتقدير: امْضِ على الذي أخرجَك. وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى "على" البتةَ إلا في موضعٍ يحتمل النزاع كقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي على هدايته إياكم. الثاني عشر: أن الكافَ في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله، كأنه ابتداءٌ وخبر. قال ابن عطية: "وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر، وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر".
الثالث عشر: أنها في موضعِ رفعٍ أيضاً والتقدير: لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك. وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر، ولو صَرَّح بذلك لم يلتئم التشبيهُ ولم يَحْسُنْ. الرابع عشر: أنها في موضع رفعٍ أيضاً. والتقدير: وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم كما أخرجك، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف. وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله: "وأَصْلِحوا" وبين قوله "كما أَخْرَجَك".
(7/350)
---(1/2961)
الخامس عشر: أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى: أنه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه، فقال: "يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحالُ كحالِ إخراجك. يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم للحرب" وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء - وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم مِن الألفاظ - فإن الفراء قال: "هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال".
السادس عشر: أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره. والتقدير: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً. السابع عشر: أنَّ التشبيه وقع بين إخراجين أي: إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كارهٌ لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإِخراج النصرَ والظفرَ كإخراجه إياك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ، يكون عقيبَ ذلك الخروجِ الظفرُ والنصر والخير كما كانت عقيبَ ذلك الخروجِ الأول.
(7/351)
---(1/2962)
الثامن عشر: أن تتعلق الكاف بقوله "فاضربوا". وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب هذا الوجه: الكاف للتشبيه على سبيل المجاز، كقول القائل لعبده: "كما رَجَعْتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه، وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان، كأنه يقول: قد أَزَحْتُ عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. وهذا الوجه بَعْدَ طوله لا طائل تحته لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل.
التاسع عشر: أن التقدير: كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي: بسبب إظهار دين الله وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآيات. وهذا الوجهُ استحسنه الشيخ، وزعم أنه لم يُسْبق به، ثم قال: "ويظهر أن الكافَ ليست لمحضِ التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نصَّ النحويون على أنها للتعليل، وخرَّجوا عليه قولَه تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، وأنشدوا:
2382- لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ
أي: لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشائع: "كما تطيع الله يدخلك الجنة" أي: لأجل طاعتك الله يدخلك، فكذا الآية، والمعنى: لأنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك وأَمَدَّك بالملائكة".
(7/352)
---(1/2963)
العشرون: تقديرُه: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة خيرٌ لكم، كما كان إخراجُك خيراً لهم. وهذه الأقوال - مع كثرتها - غالبُها ضعيف، وقد بَيَّنْت ذلك. قوله: {بِالْحَقِّ} فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل أي بسبب الحق أي: إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على أعداء الله. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول "أَخْرَجَكَ" أي: ملتبساً بالحق. قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً} الواو للحال، والجملة في محل نصب، ولذلك كُسِرت "إنَّ". ومفعول "كارهون" محذوف أي: لكارهون الخروج، وسببُ الكراهة: إمَّا نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال، وإمَّا لعدم الاستعداد.
* { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ }
قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ}: يُحتمل أن يكونَ مستأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلة. ويُحتمل أن يكونَ حالاً ثانية أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك. ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في "لكارهون" أي: لكارهون في حال جدال. والظاهر أن الضمير المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم، ومعنى المجادلة قولهم: كيف نقاتل ولم نعتَدَّ للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفار وجدالُهم ظاهر. قوله: "بعدما تبيَّن" منصوب بالجدال و "ما" مصدرية أي: بعد تبيُّنِه ووضوحِه، وهو أقبحُ من الجدال في الشيء قبل اتِّضاحه. وقرأ عبد الله "بُيِّن" مبنياً للمفعول مِنْ بَيَّنْتُه أي أظهرته.
قوله: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حالٌ من مفعول "يُساقُون".
* { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }
(7/353)
---(1/2964)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}: "إذ" منصوب بفعل مقدر أي: اذكر إذ. والجمهور على رفع الدال لأنه مضارع مرفوع. وقرأ / مسلم ابن محارب بسكونها على التخفيف لتوالي الحركات. وقرأ ابن محيصن "يعدكم الله احدى" بوصل همزة "إحدى" تخفيفاً على غير قياس، وهي نظير قراءة مَنْ قرأ: "إنها لاحدى" بإسقاط الهمزة، أجرى هممة القطع مُجْرى همزة الوصل. وقرأ أيضاً "أحد" بالتذكير، لأن الطائفة مؤنث مجازي. وقرأ مسلم بن محارب "بكلمته" على التوحيد، والمراد به اسم الجنس، فيؤدي مؤدَّى الجمع.
* { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }
قوله تعالى: {لِيُحِقَّ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بما قبله أي: ويقطع ليحق الحق. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: ليحقَّ الحق فَعَل ذلك أي: ما فعله إلا لهما وهو إثباتُ الإِسلام وإظهارُه وزوالُ الكفر ونحوه.
قال الزمخشري: "ويجب أن يُقَدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيدَ الاختصاص وينطبقَ عليه المعنى". قلت: وهذا على رأيه، وهو الصحيح.
قوله: "أَنَّها لكم" منصوبُ المحل على البدل من "إحدى" أي: يَعِدُكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم أي: تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلاَّكِ فهي بدلُ اشتمال.
* { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلاائِكَةِ مُرْدِفِينَ }
(7/354)
---(1/2965)
قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ}: فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه منصوب باذكر مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي: إنه مقتطعٌ عما قبله. الثاني: أنه منصوب بيحقُّ أي: يحقُّ الحق وقت استغاثتكم. وهو قول ابن جرير. وهو غلط، لأنَّ "ليحقَّ" مستقبل لأنه منصوب بإضمار "أَنْ"، و "إذ" ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ الثالث: أنه بدلٌ من "إذ" الأولى، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وكان قد قَدَّموا أن العامل في "إذا" الأولى "اذكر" مقدراً. الرابع: أنه منصوب بـ "يعدكم" قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري. الخامس: أنه منصوب بقوله "تَوَدُّون" قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل.
و "استغاث" يتعدى بنفسه وبالباء. ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله. وقد أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر:
2383- حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له * من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه * ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ * خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره.
قوله: {أَنِّي} العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر - ويُروى عن أبي عمرو أيضاً - "إني" بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على غضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه.
(7/355)
---(1/2966)
قوله: {بِأَلْفٍ} العامَّة على التوحيد. وقرأ الجحدري: "بآلُفٍ" بزنة أفْلُس. وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال. وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور: أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم في هاتين القراءتين. أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات.
قوله: {مُرْدِفِينَ} قرأ نافع - ويُروى عن قنبل أيضاً - "مُرْدَفين" بفتح الدال والباقون بكسرها. وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له. فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلقهم، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ "مُرْدِفين" - يعني بالكسر - محذوفاً أي: مُرْدِفين أمثالهم. وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي: جُعِلوا رِدْفاً للأوائل. ويُطلب جوابٌ عن كيفية الجمع / بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران، حيث قال هناك "بخمسة"، وقال هنا "بأَلْف" والقصة واحدة. والجواب: أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك الخمسة فيكون المحموعُ ستةَ آلاف، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة "مُرْدِفين" بكسر الدال.
(7/356)
---(1/2967)
وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي: ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكة. وقال الفارسي: "مَنْ كسر الدال احتمل وجهين، أحدهما: أن يكونوا مُرْدِفين مثلَهم كما تقول: "أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي" فيكون المفعولُ الثاني محذوفاً، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ. والوجه الآخر: أن يكونوا جاؤوا بعد المسلمين. وقال الأخفش: "بنو فلان يَرْدِفوننا أي: يجيئون بعدنا"، وقال أبو عبيدة: "مُرْدِفين: جاؤوا بعدُ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد". قال الفارسي: "هذا الوجه كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، قولُه "مُرْدِفين" أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم. ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على: أُرْدِفوا الناسَ أي: أُنْزِلوا بعدهم".
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل "مُرَدِّفين" بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ مشدَّدة، والأصل: مُرْتَدِفين فأدغم. وقال أبو البقاء: "إن هذه القراءة مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة كأَفْرَحْتُه وفرَّحته" وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم كقولهم: مُخُضِم بضم الخاء، وقد قُرِئ بها شذوذاً.
وقُرئ "مُرِدِّفين" بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً. وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين: إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع. قال ابن عطية: "ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء، ولا أحفظه قراءة"، قلت: وكذلك الفتحة في "مُرَدِّفين" في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين. أحدهما: - وهو الظاهر - أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء - حين قصد إدغامَها - إلى الراء. والثاني: أنها فُتِحَتْ تخفيفاً، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به. وقُرِئ "مِرْدِفين" بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء.
(7/357)
---(1/2968)
والوَجَل: الفَزَعُ. وقيل: استشعار الخوف يُقال منه: وَجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً، فهو وَجِل. والشَّوْكَة: السلاح كسِنان الرُّمْح والنَّصْل والسيف، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان، يُقال منه: رجلٌ شائكٌ، فالهمزةُ من واو كقائم، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه، فيقال: "شاكٍ"، فيصير كغازٍ، ووزنُه حينئذ فالٍ - قال زهير:
2384- لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ * له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ
ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال: رجلٌ شاكٌ وشاكٍ، وسلاحٌ شاكٌ وشاكٍ. فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة، ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ صافٌ أي: صَوِف، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ. ويُحتمل أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ ووزنُه على هذا فال. وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم. ومِنْ وصف السلاح بالشاك قوله:
2385- وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي * سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا
(7/358)
---(1/2969)
فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف. ويُقال أيضاً: هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع، نقله الهروي والراغب. والاستغاثة: طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل: الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقت الحاجة. وقيل: هي الاستجارةُ. ويقال: غَوْثٌ وغُواث وغَواث، والغيث من المطر والغَوْث من النصرة، فعلى هذا يكونُ "استغاث" مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل فيقال: استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث، وغاثَني مِن الغَيْث. والإِردافُ: الإِتباع والإِركاب وراءك. قال الزجاج: "أَرْدَفْتُ الرجل إذا جئت بعده". ومنه {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}، ويقال: رَدِف وأَرْدَف. واختلف اللغويون فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قولُ ابنِ الأعرابي نقله عنه ثعلب، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال: "يُقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه"، وأنشد: 2386- إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا * ظنَنْتُ بآل فاطةَ الظُّنونا
(7/359)
---(1/2970)
أي جَاءَتْ على رِدْفِها. وقيل: بل بينهما فرقٌ، فقال الزجاج: "يقال: رَدِفْتُ الرجلَ: رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه: أركبتُه خلفي" وهذا يناسِبُ قولَ مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في "مُرْدِفين" بكسرِ الدال، وأَرْدَفْتُه" إذا جِئْتَ بعده أيضاً، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين. وقال شمر: "رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما / بغيرك فَأَرْدَفْتُ لا غير". وقوله: {مُرْدِفِينَ} بفتح الدالِ فيه وجهان، أظهرهما: أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض. والثاني: أنه حالٌ من ضمير المخاطبين في "يمدُّكم" قال ابن عطية: "ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي: أُرْدِفوا بالملائكة" وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني. وقال الزمخشري: "وقرئ "مُرْدِفين" بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك: رَدِفه إذا تبعه، ومنه قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم}، أي: رَدِفَكم، وأَرْدَفْتُه إياه إذا تَبِعْتَه، ويقال: أَرْدَفته كقولك: اتَّبَعْته إذا جئت بعده، فلا يخلُو المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين. فإن كان بمعنى مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً، أو مُتْبِعين بعضهم لبعض، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة. ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران {بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين} {بِخَمْسَةِ آلاافٍ مِّنَ الْمَلاائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}، ومن قرأ "مُرْدَفين" بالفتح فهو بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين". قلت: وهذا الكلامُ على طوله شرحُه أنَّ "أَتْبع" بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين، و "اتَّبع" بالتشديد يتعدى لواحدٍ، وأَرْدَف قد جاء بمعناهما،(1/2971)
(7/360)
---
ومفعولُه - أو مفعولاه - محذوفٌ لفهم المعنى، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به. إلا أنَّ الشيخ عابَ عليه قوله "مُتْبِعين إياهم المؤمنين وقال: "هذا ليس من مواضعِ فَصْلِ الضمير بل مما يتصل وتُحْذف له النون، لا يقال: هم كاسون إياك ثوباً، بل كاسوك، فتصحيحه أن يقول: متبعيهم المؤمنين أو مُتْبعين أنفسَهم المؤمنين".
* { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ}: الهاء تعود على الإِمداد أي: وما جعل اللهُ الإِمدادَ. ثم هذا الإِمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ}، إذ المعنى: فاستجاب بإمدادكم. ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله "مُمِدُّكم" كما دلَّ عليه فِعْلُه في قوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ}. وهذا الثاني أَوْلى لأنه مُتَأَتٍّ على قراءة الفتح والكسر في "إني" بخلاف الأول فإنه لا يتجه عَوْدُه على الإِمداد على قراءة الكسر إلا بتأويلٍ ذكره الزمخشري وهو أنه مفعولُ القول المضمر فهو في معنى القول. وقيل يعود على المَدَد قاله الزجاج. قال الواحدي: "وهذا أَوْلَى لأنَّ بالإِمداد بالملائكة كانت البشرى". وقال الفراء: "إنه يعودُ على الإِرداف المدلول عليه بمردفين". وقيل: يعودُ على الألف. وقيل: على الوعد المدلول عليه بـ "يَعِدُكم". وقيل: على جبريل أو على الاستجابة، لأنها مؤنث مجازي، أو على الإِخبار بالإِمداد. وهي كلُّها محتملة وأرجحها الأولُ، والجَعْل هنا تصييرٌ.
* { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }
(7/361)
---(1/2972)
قوله تعالى: {إذ يَغْشاكم}: في "إذ" وجوه أحدها: أنه بدل من "إذ" في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}. قال الزمخشري: "إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من "إذ يَعِدكم". قوله: "ثان" لأنه أبدل منه "إذ" في قوله "إذ تَسْتغيثون" ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء. الثاني: أنه منصوبٌ بالنصر. الثالث: بـ "ما عند الله" من معنى الفعل. الرابع: بـ "ما جعله الله". الخامس: بإضمار "اذكر". ذكر ذلك الزمخشري. وقد سبقه إلى الرابع الحوفيُّ.
وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها: أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ المقرون بأل قال: "وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل. الثاني من الأوجه المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله: "إلا من عند الله"، ولو قلت: "ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً" لم يَجُزْ. الثالث: أنه عَمل ما قبل "إلا" فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها، لأنه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له. وقد جوَّز الكسائي والأخفش إعمالَ ما قبل "غلا" فيما بعدها مطلقاً، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته.
وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً / بهذا الظرفِ، والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت. وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ بهذا النصرِ نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف. وضعَّف الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل "إلا".
السادس: أنه منصوبٌ بقوله: "ولتطمئنَّ به" قاله الطبري. السابع: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه "عزيز حكيم" قاله أبو البقاء. ونحا إليه ابن عطية قبله.
(7/362)
---(1/2973)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "يَغْشاكم النعاسُ". نافع: "يُغْشِيكم" بضم الياء وكسر الشينِ خفيفةً. "النعاسَ" نصباً. والباقون "يُغَشِّيكم" كالذي قبله، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى، و "النعاس" فاعل. وفي الثانية مِنْ "أغشى"، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة مِنْ "غَشَّى" بالتشديد. و "النعاس" فيهما مفعول به، وأغشى وغشَّى لغتان.
قوله: "أَمَنَةً" في نصبِها ثلاثةُ [أوجه] أحدُها: أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي: فَأَمِنْتُم أَمَنةً. الثاني: أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال: إمَّا من الفاعل، فإن كان الفاعلُ "النعاس" فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ، وإن كان الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ، وإمَّا من المفعولِ على المبالغة أي: جَعْلهم نفسَ المنة، أو على حَذْفِ مضاف أي: ذوي أمنة. الثالث: أنه مفعولٌ من أجله وذلك: إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ من الله تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول له. وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل "يغشى" النعاسُ، وفاعل "الأمنة" الباري تعالى. ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز.
(7/363)
---(1/2974)
وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: "وأَمَنَةً" مفعولٌ له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت: بلى ولكن لمَّا كان معنى "يَغْشاكم النعاسُ" تَنْعَسون انتصب "أَمَنةً" على معنى: أنَّ النعاسَ والأَمَنَة لهم، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً". ثم قال: "فإن قلت: هل يجوزُ ان ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي يغشاكم أي: يَغْشاكم النعاسُ لأمنة، على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن لا يُقَدَّمَ على غشيانكم، وإنما غَشَّاكُم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل". قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، وقد ألمَّ به من قال:
2387- يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً * تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ
وقوله: {مِنْه} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "أَمَنَة"، والضمير في "منه" يجوزُ أن يعودَ على الباري تعالى، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً.
وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر "أَمْنَةً" بسكون الميم. ونظير أَمِنَ أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً.
(7/364)
---(1/2975)
قوله: {مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ} العامَّةُ على "ماءً" بالمد. و "ليطهركم" متعلِّقٌ بـ "يُنَزِّل". وقرأ الشعبي "ما ليطهركم" بألفٍ مقصورة، وفيها تخريجان أظهرهما - وهو الذي ذكره ابن جني وغيره - أنَّ "ما" بمعنى الذي، و "ليطهِّرَكم" صلتُها، وقال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم، فقدَّر الجارَّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلة لـ "ما". وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن لامَ "كي" لا تقعُ صلةً. والثاني: أن "ما" هو ماء بالمد، ولكن العرب قد حَذَفَتْ همزتَه فقالوا: "شربت ماً" بميم منونة، حكاه ابن مقسم، وهذا لا نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد. إذا عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى الوقف. ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ / وهذه الألفُ بدلٌ مِنَ الواو التي في "مَوَهَ" في الأصل، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو "مُرٍ" اسم فاعل مِنْ أرى يُري.
قوله: "ويُذْهِبَ" نسقٌ على "ليطهِّركم". وقرأ عيسى بن عمر "ويُذْهِبْ" بسكون الباء، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً. والعامة على "رِجز" بكسرِ الراء والزاي. وقرأ ابن محيصن بضم الراء، وابنُ أبي عبلة بالسين. وقد تقدَّم الكلامُ على كل واحد منها. ومعنى "رجز الشيطان" هنا ما ينشأُ عن وسوسته.
* { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }
(7/365)
---(1/2976)
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ ثالث من قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} . والثاني: أن ينتصب بقوله "ويثبِّتَ"، قالهما الزمخشري، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير. وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله "به"، فقال: "العاملُ في "إذ" العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله "ويُثَبِّتَ" على تأويل عَوْده على الرَّبط، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل "ويثبت" في إذ"، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال.
(7/366)
---(1/2977)
قوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} مفعول بـ "يوحي"، أي: يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر. وقرأ عيسى بن عمر - بخلافٍ عنه - "إني معكم" بكسرِ الهمزة. وفيه وجهان، أحدهما: أن ذلك على إِضمارِ القول، وهو مذهب البصريين. والثاني: إجراء "بوحي" مُجْرى القول لأنه بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. قوله: {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} فيه أوجه، أحدها: أن "فوق" باقيةٌ على ظرفيتها، والمفعولُ محذوفٌ أي: فاضربوهم فوق الأعناق، عَلَّمَهم كيف يضربونهم. والثاني: أن "فوق" مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل: فاضربوا رؤوسَهم. وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف. وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول: فوقُك رأسُك برفع "فوقك"، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: "فوق الأعناق: أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل". الثالث: - وهو قول أبي عبيدة - أنها بمعنى على أي: على الأعناق، ويكون المفعول محذوفاً تقديره: فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول. الرابع: قال ابن قتيبة: "هي بمعنى دون". قال ابن عطية: "وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، أي: فما دونها، وليست "فوق" هنا بمعنى دون، وإنما المرادُ: فما فوقها في القلة والصغر. الخامس: أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن، وهذا عند الجمهورِ خطأ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز.
قوله: {مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يجوز أن يتعلَّق "منهم" بالأمر قبله أي: ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم. ويجوز أ، يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ "كلِّ بنان"؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء: "ويَضْعُف أن يكون حالاً من "بنان" إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف" فكأن المعنى: اضربوهم كيف ما كان. قال الزمخشري: "يعني ضَرْبَ الهام" قال:
(7/367)
---(1/2978)
2388- ................. * وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ
وقال:
2389- غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ * عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا
وقال ابن عطية: "ويُحتمل أن يريد بقوله: "فوق الأعناق" وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات العنقِ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق، ودون عظم الرأس"، ثم قال: "منه قوله:
2390- جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه * وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا"
وقيل: هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة:/
2391- عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما * خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم
والبَنان: قيل الأصابع، وهو اسمُ جنسٍ، الواحد بَنانة قال عنترة:
2392- وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما * وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني
وقال أبو الهيثم: "البنان: المفاصِلُ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة". وقيل: البَنان: الأصابعُ من اليدين والرجلين. وقيل: الأصابع من اليدين والرِّجلين وجمعي المَفَاصل من جميع الأعضاء، وأنشد لعنترة:
2393- وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها * ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ
وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً. قال رؤبة:
2394- يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ * وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ
* { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ}: مبتدأ وخبر؟ والإِشارةُ إلى الأمر بضَرْبهم، والخطابُ يجوز أن يكون للرسول، ويجوز أن يكونَ للكفار، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً. كذا قال الشيخ وفيه نظر لوجهين أحدهما: أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد وهو ممتنعٌ أو قليل، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة. والثاني: أن بعده "بأنهم شاقُّوا" فيكون التفتَ من الغَيْبة إلى الخطاب في كلمة واحدة، ثم رَجَع إلى الغَيْبة في الحال وهو بعيد.
(7/368)
---(1/2979)
قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ} "مَنْ" مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها أو الجملة الواقعة جزاءً أو مجموعهما. ومَنْ التزم عَوْدَ ضميرٍ مِنْ جملةِ الجزاء على اسم الشرط قدَّره هنا محذوفاً تقديرُه: فإنَّ الله شديدُ العقاب له. واتفق القراءُ على فَكِّ الإِدغام هنا في "يُشاقِق" لأن المصاحفَ كَتَبَتْه بقافين مفكوكَتَيْن، وفكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز، والإِدغامُ بشروطه لغة تميم.
* { ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }
قوله تعالى: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ}: يجوز في "ذلكم" أربعةُ أوجه أحدها: أن يكونَ مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي: العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم. الثاني: أن يرتفعَ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي: ذلكُ العقابٌ. وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه "فذوقوه" لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب. والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله: "فذوقوه"، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا، وأما غيرُه فلا يُجيز زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير مرة. واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر:
2395- وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ * وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا
(7/369)
---(1/2980)
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه خولان. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده، ويكون من باب الاشتغال. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون نصباً على "عليكم ذلكم" كقوله: زيداً فاضربه". قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ "علينكم" من أسماء الأفعال، وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، فتشبيهُه بقولك: "زيداً فاضرِبْه" ليس بجيد، لأنهم لم يُقَدِّروه بـ "عليك زيداً فاضربه" وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال"، قلت: يجوز أن يكون نحا الزمخشري نَحْوَ الكوفيين، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً، وكذلك يُعْملونه متأخراً نحو: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
}. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: ذوقوا ذلكم، ويُجْعَلَ الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: باشروا ذلكم فذوقوه لتكون الفاءُ عاطفةً". قلت: ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
(7/370)
---(1/2981)
}. قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} الجمهور على فتح "أنَّ" وفيها تخريجات، أحدها: أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين. والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم / أو الواجب أن للكافرين، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار. الثالث: أن تكون عطفاً على "ذلكم" في وجهَيْه، قاله الزمخشري، ويعني بقوله "في وجهيه"، أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما. الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري: "أو نصب على أن الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع الآجل الي لكم في الآخرة، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر" يعني بقوله "وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر" أن أصلَ الكلام: فذوقوه وأن لكم، فوضع "للكافرين" موضعَ "لكم"، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة. الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار اعلموا، قال الشاعر:
2396- تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً * ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا
أي: وترى لليدين بَدَداً، فأضمر "ترى"، كذلك فذوقوه: واعلموا أنَّ للكافرين. وأنكره الزجاج أشدًَّ إنكارٍ وقال: "لو جاز هذا لجاز: "زيد قائم وعمراً منطلقاً"، أي: وترى عمراً منطلقاً، ولا يُجيزه أحد".
وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.
* { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ }
(7/371)
---(1/2982)
قوله تعالى: {زَحْفاً}: فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وذلك الناصب له في محل نصب على الحال، والتقدير: إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفاً، أو يزحفون زحفاً. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ثم اختلفوا في صاحبِ الحال فقيل: الفاعل، أي: وأنتم زَحْف من الزحوف، أي: جماعة، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً على حَسَب ما يُفَسَّر به الزَّحْف وسيأتي. وقيل: هو المفعول أي: وهم جمٌّ كثير أو يمشون إليكم. وقيل: هي حالٌ منهما أي: لقيتموهم متزاحِفين بعضَكم إلى بعض.
والزَّحْفُ: الدنوُّ قليلاً قليلاً يقال: زَحَف يَزْحَف إليه بالفتح فيهما فهو زاحفٌ زَحْفاً، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحف وأَزْحَفَ لنا عدوُّنا أي: دَنَوا لقتالنا. وقال الليث: "الزَّحْفُ: الجماعة يمشون إلى عدوِّهم، قال الأعشى:
2397- لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ * مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ تَجْدِفُ
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين. والزَّحْفُ: الدبيب أيضاً مِنْ "زَحَفَ الصبيُّ"، قال امرؤ القيس:
2398- فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ * فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ
ويجوز جمعُه على زُحوف ومَزاحِف، لاختلاف النوع، قال الهذلي:
2399- كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه * قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ ومَزاحِف جمع مَزْحَف اسمَ المصدر.
قوله: "الأَدْبار" مفعول لـ "تُوَلُّوهم".
* { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وكذا {دُبُرَه} مفعول ثان لـ {يُوَلِّهم}: وقرأ الحسن بالسكون كقولهم "عُنْق" في عُنُق، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك. وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع كنايةً وليس بشيء.
(7/372)
---(1/2983)
قوله: {إلا مُتَحرِّفاً} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه حال. والثاني: أنه استثناء. وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: "فإن قلت: بمَ انتصبَ "إلا متحرِّفاً"؟ قلت: على الحال، و طإلا" لغوٌ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين، أي: ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً". قال الشيخ: "لا يريد بقوله "إلا لغوٌ" أنها زائدة، بل يريد أن العامل وهو "يُوَلِّهم" وَصَلَ لِما بعدها كقولهم في نحو "جئت بلا زاد" إنها لغو، وفي الحقيقة هي التثناءٌ من حال محذوفة والتقدير: ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً باية حال إلا في حال كذا، وإن لم تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ "إلا" لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ "إلا" فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات، لأنه استثناءٌ مفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي، أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل"، قلت: قوله: "لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات" لا حاجةَ إليه؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد "إلا" فَضْلَةً أم عمدةً، فَذِكْرُ الفَضْلةِ والمفعول / يوهم جوازَه في غيرهما.
وقال ابن عطية: "وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم "مَنْ" فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء. وقال جماعة: إن الاستثناء من أنواع التولِّي. وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ: إلا تحيُّزاً أو تحرُّفاً.
(7/373)
---(1/2984)
والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ: الانضمام. وتحوَّزَت الحَيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشيء: ضَمَنْتُه. والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ. ووزنُ متحيِّز: مُتَفَيْعِل، والأصل: مُتَحَيْوِز. فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت. ولا يجوز أن يكون مُتَفَعِّلاً لأنه لو ك ان كذا لكان متحوُّزاً، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل.
* { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلااءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}: في هذه الفاء وجهان أحدهما - وبه قال الزمخشري-: أنها جوابُ شرطٍ مقدر أي: إن افتخرتم بقَتْلهم فَلضمْ تقتلوهم"، قال الشيخ: "وليست جواباً بل لرَبْطِ الكلام بعضِه ببعض".
قوله: {وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} قرأ الأخَوان وابن عامر "ولكن الله قَتَلهم" "ولكن الله رمى" بتخفيف "لكن" ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة. وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ}. وجاءت هنا "لكن" أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفى عنه الرميَ وأثبته له، وذلك باعتبارين: أي: ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب. وقوله: "وما رَمَيْتَ" هذه الجملة عطفٌ على قوله "فلم تقتلوهم" لأنَّ المضارع المنفي بـ لم في قوة الماضي المنفي بـ "ما"، فإنك إذا قلت: "لم يَقُم" كان معناه ما قام. ولم يقل هنا: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، كما قال: "إذ رَمَيْت" مبالغةً في الجملة الثانية.
(7/374)
---(1/2985)
قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ}، متعلِّقٌ بمحذوف أي: وليبليَ فَعَلَ ذلك. أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة أي: ولكن الله رَمَى ليمحق الكفار وليُبْلي المؤمنين. والبلاء في الخير والشر. قال زهير:
2400- ................ * وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو
والهاءُ في "منه" تعود على الظفر بالمشركين. وقيل: على الرمي قالهما مكي. والظاهر أنها تعود على الله تعالى.
* { ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {ذالِكُمْ}: يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي: ذلكم الأمر، والخبرُ محذوف قاله الحوفي، و الأحسنُ أن يُقَدَّر الخبر: ذلكم البلاءُ حقٌّ وَحَتْمٌ. وقيل: هو خبر مبتدأ، أي: الأمر ذلكم وهو تقدير سيبويه. وقيل: محلُّه نصب بإضمار فِعْلٍ أي: فَعَل ذلك. والإِشارةُ بـ "ذلكم" إلى القتل والرمي والإشبلاء. وقوله "بلاءً" يجوز أن يكونَ اسمَ مصدر أي إبلاء، ويجوز أن يكون أريد بالبلاء نفسُ الشيء المبلوِّ به.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} يجوز أن يكون معطوفاً على "ذلكم" فيُحكم على محلِّه بما يُحْكَمُ على محلِّ "ذلكم" وقد تقدَّم، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أن الله، وقد تقدَّم ما في ذلك. وقال الزمخشري: "إنه معطوفٌ على "وليُبْلي"، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين".
وقرأ ابن عامر والكوفيون "مُوْهِن" بسكون الواو وتخفيف الهاء مِنْ أوهن كأكرم. ونَوَّن "موهن" غيرُ حفص. وقرأ الباقون "مُوَهِّن" بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. فـ "كيد" منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص، ومخفوضٌ في قراءةِ حَفْص، وأصلُه النصب. وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر لأن ما عينُه حرفُ حلقٍ غيرَ الهمزة تعديتُه بالهمزة، ولا يُعَدَّى بالتضعيف إلا كَلِمٌ محفوظة نحو: وهَّنْتُه وضَعَّفْتُه.
(7/375)
---(1/2986)
* { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَلَن تُغْنِيَ}: قرأ الجمهور بالتاء من فوق لتأنيث الفئة. وقرئ "ولن يُغْني" بالتاء من تحت لأن تأنيثه مجازي وللفصلِ أيضاً. "ولو كَثُرَت" هذه الجملةُ الامتناعية حالية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح والباقون بالكسر. فالفتح من أوجه أحدها: أنه على لام العلة تقديره: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت. والثاني: أنَّ التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله مع المؤمنين. وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَوَلَّوْا}: الأصل: تَتَوَلَّوا / فحذف إحدى التاءين. وقد تقدَّم الخلاف في أيهما المحذوفة.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية، والضمير في "عنه" يعود على الرسول؛ لأن طاعته من طاعة الله. وقيل: يعود على الله وهذا كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}. وقيل: يعود على الأمر بالطاعة.
* { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }
وقوله تعالى: {الصُّمُّ}: إنما جُمِع "الصُمُّ" وهو خبر "شر" لأنه يُراد به الكثرةُ، فجُمع الخبر على المعنى، ولو كان الأصم لكان الإِفرادُ على اللفظ، فالمعنى على الجمع.
وقوله: {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} يجوز رفعُه أو نصبه على القطع.
(7/376)
---(1/2987)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
قوله تعالى: {بَيْنَ الْمَرْءِ}: العامَّةُ على فتح الميم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرِها على إتباعها لحركة الهمزة وذلك أن في "المَرْء" لغتين أفصحُهما على فَتْح الميم مطلقاً. والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب، فتقول: هذا مُرْءٌ بضم الميم ورأيت مَرْءاً بفتحها، ومررت بمِرْءٍ بكسرها. وقرأ الحسن والزهري بفتح الميم وتشديد الراء. وتوجيهُها أن يكون نَقَلَ حركة الهمزة إلى الراء، ثم ضَعَّف الراء وأجرى الوصل مُجْرى الوقف.
قوله: "وأنه" يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعودَ على الله تعالى، وهو الأحسنُ لقوله "الله".
* { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {لاَّ تُصِيبَنَّ}: في "لا" وجهان، أحدهما أنها ناهيةٌ، وعلى هذا فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً لـ "فتنة"؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون معمولة لقول، ذلك القولُ هو الصفةُ أي: فتنةً مقولاً فيها: لا تصيبنَّ. والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا أي: لا تتعطاوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ ظالمَكم. ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها. ونظيرُ إضمار القولِ قولُه:
2401- جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ
أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن "لا" نافية، والجملةُ صفةٌ لـ "فتنة" وهذا واضحٌ من هذه الجهة، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يَجْري النفيُ بـ "لا" مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله:
(7/377)
---(1/2988)
2402- فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها * ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ
وقال آخر:
2403- فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه * وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى
ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبوسه فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى
فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ بـ "لا" مع انفصاله فلأَنْ يؤكِّد المنفيُّ غيرُ المفصولِ بطريق الأَوْلى. غلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة.
وزعم الفراء أنَّ "لا تصيبَنَّ" جواب للأمر نحو: "انزلْ عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك"، أي: إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك، ومنه قوله {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ}، أي: إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم، فدخلت النونُ لِما فيه من معنى الجزاء. قال الشيخ: "وقوله: لا يَحْطِمَنَّكم وهذا المثالُ ليس نظيرَ "فتنةً لا تصيبنَّ الذين" لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ وجزاءٌ كما قَدَّر، ولا ينتظم ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إنْ تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى".
قال الزمخشري: "لا تصيبنَّ": لا يخلو: إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة. فإذا كانت جواباً فالمعنى: إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة، بل تَعُمُّكم"، قال الشيخ: "وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه"، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال: "فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو "اتقوا"، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع "اتقوا" فقال: المعنى: إن أصابَتْكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفراء: انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك، وفي قوله: {ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ}، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [يُقَدَّر] ما كان جواباً للأمر".
(7/378)
---(1/2989)
وقيل: "لا تصيبنَّ" جوابُ قسمٍ محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي: فتنة واللهِ لا تصيبنَّ. ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ. وقال: أبو البقاء: "ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ"، وظاهرُ هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ، وليس كذلك.
وقيل: إن اللامَ لامُ التوكيد، والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنما مُطِلت اللام، أي: أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً، فدخول النون فيها قياسٌ./ وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة "لتصيبَنَّ" وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وَجَّه ذلك ابن جني. و العجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة، فقال: "ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من "لا" يعني حُذِفَتْ ألفُ "لا" تخفيفاً، واكتُفي بالحركة"، قال: "كما قالوا: أمَ والله يريدون: أما والله". قال المهدوي: "كما حُذِفت مِنْ "ما" وهي أختُ "لا" في نحو "أما والله لأفعلنَّ" وشبهه. قوله "أخت لا" ليس كذلك لأن "أما" هذه للاستفتاحِ كـ "ألا"، وليست مِنَ النافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي غلى التعمية.
وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة: "لا تصيبنَّ": "إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله "فتنة" وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة. والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة".
(7/379)
---(1/2990)
قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: "وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة".
وقال علي بن سليمان "هو نَهْيٌ على معنى الدعاء، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي بـ لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ". وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديرَيْه، والدعاء بتقديريْه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونِها صفةً بتقدير القول.
قوله: {مِنْكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها للبيان مطلقاً. والثاني: أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ، وللبيان على تقدير آخر فقال: "فإن قلت: ما معنى "مِنْ" في قوله "الذين ظلموا منكم"؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأول، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس". قلت: يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان.
(7/380)
---(1/2991)
قوله: {خَآصَّةً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: - وهو الظاهر - أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله: "لا تصيبنَّ"، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره: إصابةً خاصة. الثاني: أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره: لا تصيبنَّ الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم. والثالث: أنه حالٌ من فاعل "ظلموا" قاله ابن عطية. قال الشيخ: "ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ". قلت: ولا أدري ما عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى: واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم غيرُهم، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة، وهذا معنًى واضح.
* { وَاذْكُرُوااْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أوضحها: أنه ظرف ناصبه محذوف تقديره: واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلَّتكم، قاله ابن عطية. والثاني: أنه مفعول به. قال الزمخشري: "نصبٌ على أنه مفعولٌ به مذكورٌ لا ظرفٌ / أي: اذكروا وقتَ كونِكم أقلةً أذلةً. وفيه نظر لأن "إذ" لا يُتَصَرَّف فيها إلا بما ذكرته فيما تقدم، وليس هذا منه. الثالث: أن يكون ظرفاً لـ "اذكروا" قاله الحوفي وهو فاسدٌ، لأن العاملَ مستقبلٌ، والظرفُ ماضٍ، فكيف يتلاقيان؟
قوله: {تَخَافُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه خبرٌ ثالثٌ. والثاني: أنه صفةٌ لـ "قليل" وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة. و الثالث: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في "مُسْتَضْعَفُون".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوااْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(7/381)
---(1/2992)
قوله تعالى: {وَتَخُونُوااْ}: يجوز فيه أن يكونَ منصوباً بإضمار "أَنْ" على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الجنايتين كقوله:
2404- لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه * عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ
والثاني: أن يكونَ مجزوماً نسقاً على الأول، وهذا الثاني أَوْلى؛ لأنه فيه النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله، فإنه نهيٌ عن الجمع بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} أولَ البقرة.
و "أماناتِكم" على حَذْف مضاف أي: أصحابَ أماناتكم. ويجوز أن يكونوا نُهوا عن جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً. وقرأ مجاهد - ورُوِيت عن أبي عمرو - "أمانتكم" بالتوحيد والمرادُ الجمع.
"وأنتم تعلمون" ملة حالية، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي: تعلمونَ قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها. ويجوز ألاَّ يُقَدَّر أي: وأنتم من ذوي العلم. والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى العرفان.
* { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
وتقدَّم الكلامُ على "الفرقان" أول البقرة والمراد به هنا المُخْرج من الضلال، أو الشيء الفارق بين الحق والباطل، قال مزرد ابن ضرار:
2405- بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا * أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا
وقال آخر:
2406- ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ * بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا
وقال آخر:
2407- وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي * وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ
* { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
(7/382)
---(1/2993)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ}: هذا الظرفُ معطوفٌ على الظرف قبله، و "ليُثْبتوك" متعلِّقٌ بـ "يَمْكُرُ". والتثبيتُ هنا الضربُ حتى لا يبقى للمضروبِ حركةٌ قال:
2408- فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ * قالوا الخليفةُ أمءى مُثْبَتاً وجِعا
وقرأ ابن وثاب "لِيُثَبِّتوك" فعدَّاه بالتضعيف. وقرأ النخعي "ليُبَيِّتُوك" من البيات.
* { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَهُمْ}: قد تقدَّم الكلامُ على هذه اللام المسماة لام الجحود. والجمهورُ على كسرها. وقرأ أبو السمال بفتحها قال ابن عطية عن أبي زيد: "سمعت من العرب مَنْ يقول: "لَيعذبهم" بفتح اللام، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن"، قلت: يعني في المشهور منه ولم يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال". وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فتحَ كلِّ لامٍ / عن بعض العرب إلا في "الحمد لله". وروى عبد الوارث عن أبي عمرو فَتْحَ لامِ الأمرِ من قوله {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
}. وأتى بخبر "كان" الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية، فإنه: إمَّأ أن يكونَ محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي: ما كان الله مُريداً لتعذيبهم، وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجوده عليه السلام فيهم وبين استغفارِهم.
(7/383)
---(1/2994)
وقوله: {وَأَنتَ فِيهِمْ} حال، وكذلك {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. والظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل: الضمير في "يُعَذِّبهم" و "مُعَذِّبهم" للكفار، والضمير من قوله "وهم" للمؤمنين. وقال الزمخشري: "وهم يستغفرون" في موضع الحال، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي: ولو كانوا ممَّن يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ولكنهن لا يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم" وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير.
* { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوااْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
(7/384)
---(1/2995)
قوله تعالى: {أن لا يُعَذِّبَهُمُ}: في "أن" وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنها مصدريةٌ، وموضعها: إمَّا نصبٌ أو جرٌّ لأنها على حذف حرف الجر؛ إذ التقدير: في أن لا يعذبهم. وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّق به "لهم" من الاستقرار. والتقدير: أيُّ شيء استقرَّ لهم في عدم تعذيبِ اللهِ إياهم، بمعنى لا حظَّ لهم في انتفاء العذاب. والثاني: أنها زائدةٌ وهو قول الأخفش. قال النحاس: "لو كانت كما قال لَرَفع "يُعَذِّبهم". يعني النحاس فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موقعَ الحال كقوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ}، ولكن لا يلزم من الزيادة عدمُ العمل، ألا ترى أن "مِنْ" والباء تعملان وهما مزيدتان. وقال أبو البقاء: "وقيل: هو حال وهو بعيد؛ لنَّ "أَنْ" تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال". والظاهر أن "ما" في قوله "وما لهم" استئنافية، وهو استفهامٌ مناه التقرير أي: كيف لا يُعَذَّبون وهم متصفون بهذه الحال؟ وقيل: "ما" نافية فهي إخبارٌ بذلك أي ليس عدمُ التعذيب، أي: لا ينتفي عنهم التعذيبُ مع تلبُّسِهم بهذه الحال.
قوله: {وَمَا كَانُوااْ أَوْلِيَآءَهُ} في هذه الجملةِ وجهان أحدهما: أنه استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي "وهم يَصُدُّون" والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن: صَدِّهم عن المسجد الحرام وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله.
* { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}: أي: ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية، أي: إن كان لهم صلاةٌ فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر:
(7/385)
---(1/2996)
2410- وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه * أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء.
والمُكاء: مصدر مَكا يمكو، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه، قال الأصمعي: "قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة:
2411- وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً * تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ
يقال: مَكَتِ الفَريصة، أي: صَوَّتَتَ بالدم. ومكت اسْتُ الدابة، أي: نفخت بالريح. وقال مجاهد: المُكَّاء: صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال الشاعر:
2412- إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ * فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات
المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة. قال أبو عبيدة: "يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً: صَفَر، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ. قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء.
(7/386)
---(1/2997)
والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما: أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة، والمراد بها هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه قراءته. وهذا مناسبٌ لقوله: {لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}/. وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدضة وهي الضجيج ولاصِّياحُ والتصفيق، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} في قراءة مَنْ كسر الصاد أي: يضجُّون ويَلْغَطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: "إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من المضعَّف"؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال: "قد ثبت أنَّ يَصُدُّون مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه، وتَصْدِية تَفْعِلَة"، ثم ذكر كلاماً كثيراً. والثاني: انها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل: تَصْدِدَة بدالين أيضاً، فأُبْدِلت ثانيتهما ياءً. ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ "يَصُدُّون" بالضم أي: يمنعون.
وقرأ العامَّةُ "صلاتُهم" رفعاص، "مُكاءً" نصباً، وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلافٍ عنهما "وما كان صلاتَهم" نصباً، "مكاءٌ" رفعاً. وخطَّأ الفارسي هذه القراءةَ وقال: "لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول حسان:
2413- كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ * يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
(7/387)
---(1/2998)
وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس، يعني أنهما مصدران قال: "واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة، كما يُوصف به النكرة كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}، وقولِ الآخر:
2414- ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني
وقال بعضهم: "وقد قرأ أبو عمرو "إلا مُكاً" بالقصر والتنوين، وهذا كما قالوا: بكاء وبُكى بالمد والقصر. وقال الشاعر فجمع بين اللغتين.
2415- بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها * وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ
* { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ}: قد تقدَّم الخلافُ فيه في آل عمران. وقوله: "وثَجْعل": يحتمل أن تكون تصييريةً فتنصبَ مفعولين، وأن تكونَ بمعنى الإِلقاء فتتعدَّى لواحد، وعلى كلا التقديرين فـ "بعضه" بدلُ بعضٍ من كل، وعلى القول الأول يكون "على بعض" في موضع المفعول الثاني، وعلى الثاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل نحو قولك: "ألقيْتَ متاعك بعضَه على بعض". وقال أبو البقاء بعد أن حكم عليها بأنها تتعدَّى لواحد: "وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديرُه: ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض".
واللام في "ليميز" متعلقة بيُحْشَرون. ويقال: مَيَّزته فتميَّزَ، ومِزْتُه فانماز. وقرئ شاذاً "وانمازوا اليوم"، وأنشد أبو زيد:
2416- لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه * وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران.
(7/388)
---(1/2999)
قوله: {فَيَرْكُمَهُ} نسقٌ على المنصوب قبله. والرَّكْمُ: جَمْعُك الشيءَ فوق الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً، كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ}. والمُرْتَكم: جادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه، أي: ازدحام السَّابلة وآثارهم. و "جميعاً" حال. ويجوز أن يكونَ توكيداً عند بعضهم.
* { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ }
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ}: في هذه اللام الوجهان المشهوران: إمَّا التبليغُ، أَمَرَ أن يبلِّغهم معنى هذه الجملةِ المحكيةِ بالقول، وسواءً أوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍ لمعناها. والثاني: أنها للتعليل وبه قال الزمخشري ومنع أن تكون للتبليغ فقال: "أي: قل لأجلهم هذا القولَ إن ينتهوا، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تَنْتَهوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود، ونحوه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ} خاطبوا به غيرَهم [لأجلهم] ليسمعوه".
وقرئ "يَغْفر" مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى.
* { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله تعالى:/ "{وَيَكُونَ}: العامةُ على نصبِه نسقاً على المنصوب قبله. وقرأه الأعمشُ مرفوعاً على الاستئناف. وقرأ الحسن ويعقوب وسليمان بن سلام "بما تَعْملون" بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة.
* { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
(7/389)
---(1/3000)
قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى}: يجوز في "مولاكم" وجهان، أظهرُهما: أنَّ "مولاكم" هو الخبر و "نِعْم المولى" جملةٌ مستقلة سِيْقَتْ للمدح. والثاني: أن تكون بدلاً من "الله" والجملةُ المَدْحِيَّةُ خبر لـ "أن" والمخصوصُ بالمدح محذوف أي: نِعْم المولَى اللهُ أو ربكم.
* { وَاعْلَمُواا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(7/390)
---(1/3001)
قوله تعالى: {وَاعْلَمُواا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}: الظاهرُ أن "ما" هذه موصولةٌ بمعنى الذي، وكان مِنْ حقها أن تُكتب منفصلةً من "أنَّ" كما كُتِبَتْ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} منفصلةً ولكن كذا رُسِمت. و "غَنِمْتم" صلتُها، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي: غَنِمْتموه. وقوله: {فأنَّ الله" الفاءُ مزيدةٌ في الخبر، لأن المبتدأ ضُمِّن معنى الشرط، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه لأنه لم يغيِّرْ معناه وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ} ثم قال: "فلهم". والأخصفش مع تجويزه زيادةً الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلَتْ عليه "إنَّ" المكسورة، وآيةُ البروج حجَّةٌ عليه. وإذا تقرَّر هذا فـ "أنَّ" وما عَمِلَتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فواجبٌ أن لله خُمُسَه، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر لـ "أنَّ". وظاهر كلام الشيخ أنه جَعَلَ الفاءَ داخلةً على "أن لله خُمُسَه" من غير تقديرِ أن تكونَ مبتدأ وخبرها محذوف، بل جَعَلَها بنفسها خبراص، وليس مرادُه ذلك، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ بل على جملةٍ، والذي يُقَوِّي إرادَته ما ذكرتُه أنه حكى قولَ الزمخشري أعني كونَه قَدَّره أنَّ "أنَّ" وما في حَيِّزها مبتدأٌ محذوفُ الخبر، فَجَعَله قولاً زائداً على ما قدَّمه.
ويجوز في "ما" أن تكونَ شرطيةً، وعاملُها "غَنِمْتُم" بعدها، واسمُ "أنَّ" حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء. إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله:
2417- إنَّ مَن، يدخلِ الكنيسةِ يوماً * يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ
وقول الآخر:
2418- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا * نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ
(7/391)
---(1/3002)
وقيل: الفاءُ زائدةً و "أن" الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وقال مكي: "وقد قيل: إن الثانيةَ مؤكدةٌ للأولى، وهذا لا يجوز لأن "أنَّ" الأولى تبقى بغير خبرٍ، ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد، وزيادتُها لا تَحْسُن في مثل هذا". وقيل: "ما" مصدريةٌ والمصدر - بمعنى المفعول أي: أنَّ مَغْتومكم - [هو] المفعول به، أي: واعلموا أنَّ غُنْمكم، أي مغنومكم.
قوله: {مِّن شَيْءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر، والمعنى: ما غنمتموه كائناً من شيء أي: قليلاً أو قليلاً أو كثيراً. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو: "فإن لله" بكسر الهمزة. ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي "فللَّه خمسُه" فإنها استئناف. وخرَّجها أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً لـ "أنَّ" الأولى.
وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو "خُمْسَه" وهو تخفيفٌ حسن. وقرأ الجعفي "خِمْسَه"، قالوا: وتخريجها أنه أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها، وهي هاء الجلالة مِنْ كلمة أخرى مستقلة قالوا: وهي كقراءة مَنْ قرأ "والسماء ذاتِ الحِبُك" بكسر الحاء إتباعاً لكسرةِ التاء من "ذات" ولم يَعْتَدُّوا بالساكن وهو لامُ التعريف لأنه حاجزٌ غيرُ حصين. ليت شعري وكيف يَقْرأ الجعفي والحالةُ هذه؟ فإنَّه إنْ قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقلِ لخروجه مِنْ كسرٍ إلى ضم، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو أو عن عاصم، ولكن الذي قرأ "ذاتِ الحِبك" يُبْقي ضمَّة الباء فيؤدي إلى فِعُل بكسر الفاء وضمِّ العين وهو بناءٌ مرفوض، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر الباء لَما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإِتباع لأنَّ في "الحبك" لغتين: ضمَّ الحاء والباء أو كسرَهما، حتى زعم / بعضُهم أن قراءة الخروج مِنْ كسرٍ إلى ضمٍ من التداخل.
(7/392)
---(1/3003)
والغنيمة اصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً. قال علقمة بن عبدة:
2419- ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه * أنَّى توجَّه والمحرومُ محرومُ
وقال آخر:
2420- لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى * رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب
قوله: {إِن كُنتُمْ} شرطٌ جوابه مقدرٌ عند الجمهور لا متقدمٌ، أي: إن كنتم آمنتم فاعلموا أن حكمَ الخُمْس ما تقدَّم، أو فاقبلوا ما أُمِرتم به.
قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا} "ما" عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف. وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه، وهو قوله "فنِعْم المَولى" وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين.
قوله {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون منصوباً بـ "أَنْزلنا" أي: أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصبَ بقوله "آمنتم"، أي: إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان. ذكره أبو البقاء. والثالث: أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ. قال الزجاج: "أي ما غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا". قال ابن عطية: "وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ". قلت: وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه، وذلك أن "ما": إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء، وإمَّا موصةلة، فعلى الأول يؤدِّ] إلى الفصل بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها، وعلى الثاني يؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر "أنَّ".
(7/393)
---(1/3004)
قوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الظرفِ قبله. والثاني: أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل: يومَ فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاءِ الجمعين. وقرأ زيد بن علي "عُبُدنا" بضمتين وهو جمع عَبْد، وهذا كما قرئ {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} والمراد بالعُبُدِ في هذه القراءة هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعه من المؤمنين.
* { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ}: في هذا الظرفِ أربعةُ أوجهٍ أحدها: أنه منصوبٌ بـ "اذكروا" مقدراً وهو قول الزجاج. الثاني: أنه بدل من "يوم الفرقان" أيضاً. الثالث: أنه منصوبٌ بـ "قدير"، وهذا ليس بواضحٍ، إذ لا يتقيَّد اتصافُه بالقدرة بظرفٍ من الظروف. الرابع: أنه منصوبٌ بالفرقان أي: فَرَقَ بين الحق والباطل إذ أنتم بالعُدْوة.
قوله: {بِالْعُدْوَةِ} متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ، والباء بمعنى "في" كقولك": زيد بمكة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما. والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته. قال الشاعر:
2421-عَدَتْني عن زيارتها العَوادي * وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ
(7/394)
---(1/3005)
وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح، وهي كلُّها لغاتٌ بمعنى واحد. هذا هو قولُ جمهورِ اللغويين. على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ ووافقه الأخفش فقال: "لم يُسْمَعْ من العرب إلا الكسرُ". ونقل أبو عبيد اللغتين إلا أنه قال: "الضمُّ أكثرهما". وقال اليزيدي: "الكسر لغة الحجاز" وأنشد قولَ أوس بن حجر:
2422- وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه * وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال
بالكسر والضم، وهذا هو الذي ينبغي أن يُقال فلا وجهَ لإِنكار الضمِّ ولا الكسر لتواتر كلٍ منهما. ويُحْمل قول أبي عمرو على أنه لم يَبْلُغْه. ويُحتمل أن يُقال في قراءةِ مَنْ قرأ بفتح / العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان.
وقُرئ شاذّاً "بالعِدْية" بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها، ولا يُعْتبر الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا: "هو ابن عمي دِنيا" بكسر الدال وهو من الدنو، وكذلك قِنْية وصِبْية، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة والصِّفْوة والرِّبوة. وقوله: "الدنيا" قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة مسبقاً.
(7/395)
---(1/3006)
قوله: {الْقُصْوَى} تأنيث الأقصى. والأقصى: الأبعد. والقَصْوُ: البعد. وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو: إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ لامُها ياءً، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وهذه صفاتٌ لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا أنها جَرَتْ مجرى الجوامد. قالوا: وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على حالها نحو: الحُلْوى تأنيث الأحلى، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت لغة الحجاز، وأن القُصْيا قياسٌ، وهي لغة تميم. وممَّن نصَّ على شذوذ القصوى يعقوب بن السكيت. وقال الزمخشري: "وأما القصوى فكالقَوَد في مجيئه على الأصل، وقد جاء القُصْيا إلا أنَّ استعمالَ القُصْوى أكثر، كما كثر استعمال "استصوب" مع مجيء "استصاب" وأَغْيلت مع أغالَتْ" انتهى. وقد قرأ زيد بن علي "بالعُدْوَة والقُصْيا" فجاء بها على لغة تميم، وهي القياسُ عند هؤلاء.
والعبارة الثانية - وهي المغلوبَةُ القليلةُ - العكس، أي: إن كانَْ صفةً أُبْدِلت نحو: العُليا والدنيا والقُصْيا، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو: حُزْوَى كقوله:
2423- أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً * فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وعلى هذا فالحُلْوى شاذة لإِقرار لامها مع كونها صفةً، وكذا القُصوى أيضاً عند هؤلاء لأنها صفة.
(7/396)
---(1/3007)
وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن "قُصْوى" على خلافِ القياس فيهما، وأن "قُصْيا" هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء، وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم قبلبونها أيضاً ياءً، وإنما يَظْهر الفرقُ في الحُلْوى وحُزْوى: فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً، والحُزْوَى عكسُها: فإن الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات، والآخرون عكسُهم. وهذا موضعٌ حَسَنُ يختلط على كثير من الناس فلذلك نَقَّحْته. ونعني بالشذوذِ شذوذَ القياسِ لا شذوذَ الاستعمال، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى.
قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} الأحسنُ في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على "هم" أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على "أنتم" لأنها مَبْدأُ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم. ويجوز أن تكونا واوَيْ حال. و "أسفل" منصوبٌ على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي: والركب مكاناً أسفلَ من مكانكم. وقرأ زيد بن علي "أسفلُ" بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع، جعل الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً. وقال مكي: "وأجاز الفراء والأخفش والكسائي "أسفلُ" بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي: موضعُ الركب أسفلُ". والتخريجُ الأولُ أبلغُ في المعنى.
والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله:
2424- بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا * أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا
فصَغَّره على لفظه، ولو كان جمعاً لَما صُغِّر على لفظه.
قوله: {وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ} "ليَقْضي" متعلِّقٌ بمحذوف، أي: ولكن تلاقَيْتُم ليقضيَ. وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال: "أي: ليقضيَ الله أمراً كان واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك".
(7/397)
---(1/3008)
و "كان" يُحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، وأن تكونَ بمعنى صار، فتدلَّ على التحوُّل أي: صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك.
قوله: {لِّيَهْلِكَ} فيه أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله "ليقضيَ" بإعادة العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول. الثاني: أنه متعلقٌ بقوله "مفعولاً"، أي: فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به "ليقضيَ" على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف تقديره: وليهلك، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً. وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه. الرابع: أنه متعلِّقٌ بـ "يَقْضي" ذكره أبو البقاء. وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم "ليهلَكَ" بفتح اللام، وقياسُ ماضي هذا "هَلِك" بالكسر. والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ} {حَتَّى إِذَا هَلَكَ
}. قوله: {مَنْ حَيَّ} قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير بالإِظهار، والباقون بالإِدغام. والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حَيِي وعَيِيَ. ومن الإِدغام قولُ المتلمس:
2425- فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه * ...............
وقال آخر:
2426- عَيُّوا بأمرِهِمُ كما * عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ
(7/398)
---(1/3009)
فأدغم "عيُّوا"، ويُنْشَدُ: عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام. فَمَنْ أظهر فلأنه الأصلُ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّ] إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في ذاته، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور، وذلك في مضارع هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا، فَحُمِل الماضي عليه طَرْداً للبابِ، ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو: حَييت وبابه، ولأنَّ الحركتين مختلفتان، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا: ولذلك قالوا: لَحِحَت عينه وضَبِبَ المكان وأَلِلَ السِّقاء ومَشِئَتْ الدابة. قال سيبويه: "أخبرَنا بهذه اللغة يونس" يعني بلغة الإِظهار. قال: "وسمعت بعض العرب يقول: أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر" وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع عُروضها أَوْلى. ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهرِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ حركةَ الثانية لازمةٌ لأنها حركةُ بناء، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ، كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو: حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ، ولذلك قُيِّد به بالماضي، أمَّا إذا كانت حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له: يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ.
قوله: {عَن بَيِّنَةٍ}: متعلقٌ بـ "يَهْلِكَ" و "يَحْيَا". والهلاكُ والحياةُ عبارةٌ عن الإِيمان والكفر. والمعنى: ليصدرَ كفرُ مَنْ كفر عن وضوحٍ وبيان لا عن مخالجةِ شبهة، وليصدرَ إسلامُ مَنْ أسلم عن وضوحٍ لا عن مخالجة شبهة.
* { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
(7/399)
---(1/3010)
قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}: الناصب لـ "إذ" يجوز أن يكون مضمراً أي: اذكر، ويجوز أن يكون "عليم" وفيه بُعْدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقت. ويجوز أن تكون "إذ" هذه بدلاً من "إذ" قبلها.
والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ: هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول. فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول، و "هم" مفعول ثان. و "قليلاً" حال، وعلى الثاني يكون "قليلاً" نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي من غيرِ دليلٍ تقول: أراني الله زيداً في منامي، ورأيته في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل.
* { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيا أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيا أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }
قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ}: الإِراءةُ هنا بَصَرية والإِتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ لاتصالها بضمير. ولا يجوز التسكينُ ولا الضمُّ من غير واو. وقد جوَّز يونس ذلك فيقول: أنتم ضَرَبْتُمه في "ضربتموه" بتسكين الميم وضمها. وقد يتقوَّى بما رُوي عن عثمان رضي الله عنه: "أراهُمُني / الباطل شيطاناً". وفي هذا الكلام شذوذٌ من وجهٍ آخرَ: تقديم الضمير غيرِ الأخص على الأخصِّ مع الاتصال.
* { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوااْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
(7/400)
---(1/3011)
قوله تعالى: {فَتَفْشَلُواْ}: يحتمل وجهين، أحدهما: نصبٌ على جواب النهي. والثاني: الجزم عطفاً على فعل النهي قبله، وقد تقدَّم تحقيقهما في "وتَخُونوا" قبل ذلك. ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عمر "ويَذْهَبُ" بياء الغيبة وجزمه. ونقل أبو البقاء قراءةَ الجزم ولم يُقَيِّدها بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة "ويَذْهَبَ" بياء الغيبة ونصبِه. وقرأ الحسن: فَتَفْشِلوا بكسر الشين. قال أبو حاتم: "هذا غيرُ معروف" وقال غيره: إنها لغةٌ ثانية.
* { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
قوله تعالى: {بَطَراً وَرِئَآءَ}: منصوبان على المفعول له، ويجوز أن يكونا مَصْدرين في موضع نصبٍ على الحال من فاعل "خرجوا" أي: خَرَجُوا بَطِرين ومُرائين. و "رئاء" مصدرٌ مضاف لمفعولِه.
قوله: {وَيَصُدُّونَ} يجوز أن يكونَ مستأنفاً، وأن يكون عطفاً على "بطراً" ورئاء" لأنه مُؤوَّل بالحال أي: بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ، وحُذِفَ المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه.
* { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِياءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيا أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيا أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ}: أي: اذكر وقت تزيين و "قال" يجوز أن تكون عطفاً على "زَيَّن"، ويجوز أن تكون الواو للحال، و "قد" مضمرةٌ بعد الواو عند مَنْ يَشْترط ذلك.
(7/401)
---(1/3012)
قوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ} "لكم" خبر "لا" فيتعلَّق بمحذوف و "اليوم" منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر. ولا يجوز أن يكون "لكم أو الظرف متعلقاً بـ "غالب" لأنه يكونُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً.
قوله: {مِنَ النَّاسِ} بيان لجنس الغالب. وقيل: هو حال من الضمير في "لكم" لتضمُّنه معنى الاستقرار. ومنع أبو البقاء أن يكون "من الناس" حالاً من الضمير في "غالب" قال: "لأن اسم "لا" إذا عمل فيما بعده أُعْرِب" والأمر كذلك.
قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله "لا غالبَ لكم" فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ. ويجوز أن تكونَ الواو للحال. وألف "جار" من واو لقولهم "تجاوروا" وقد تقدم تحقيقه. و "لكم" متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لـ "جار"، ويجوز أن يتعلق بـ "جار" لما فيه من معنى الفعل".
و "الريح" في قوله "ريحكم" كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال:
2427- إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها * فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا
ورواه أبو عبيد "ركوداً". وقال آخر:
2428- أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ * أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي
وقال:
2429- قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم
وقيل: الريح: الهيبة، وهو قريبٌ من الأول كقوله:
2430- كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ * والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن عَدَدِ
قوله: "نَكَص" جواب "لمَّا" والنُّكوص: قال النضر بن شميل: "الرجوع قهقرى هارباً". قال بعضهم: هذا أصلُه، إلا أنه قد اتُّسِع فيه حتى استُعْمل في كل رجوع وإن لم يكن قَهْقَرى قال الشاعر:
2431- هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا * لا يَنْكُصُون إذا ما استُلْحِموا لَحِموا
وقال المؤرِّج: "النُّكوص: الرجوعُ بلغة سُلَيْم" وقال الشاعر:
2432- ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً * إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ
(7/402)
---(1/3013)
فهذا إنما يريد به مُطْلَق الرجوع لأنه كنايةٌ عن الفِرار، وفيه نظر؛ لأن غالب الفِرار في القتال إنما هو كما ذُكِر رجوعُ القَهْقَرى. و "على عَقِبيْه" حال: إمَّا مؤكدةٌ عند مَنْ يَخُصُّه بالقهقرى، أو مؤسَّسةٌ عند مَنْ يَسْتعمله في مطلق الرجوع.
* { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَاؤُلااءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {إذ يقولُ}: العامل في "إذ" إمَّا "زَيَّن"، وإمَّا "نكص"، وإمَّا "شديد العقاب، وإمَّا اذكروا. و "غرَّ هؤلاءِ دينَهم" منصوبُ المحل بالقول.
* { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
قوله تعالى: {يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ}: قرأ ابن عامر والأعرج "تتوفَّى" بتاء التأنيث في "تتوفَّى" لتأنيث الجماعة. والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان: أظهرهما: - لموافقة قراءة مَنْ تقدم - أن الفاعل الملائكة وإنما ذُكِّر للفصل؛ لأن التأنيث مجازي. والثاني: أن الفاعل ضمير الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه، و "الملائكةُ" مبتدأ و "يَضْربون" خبره. وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان أحدُهما: أنها حالٌ من المفعول. و الثاني: أنها استئنافيةٌ جواباً لسؤالٍ مقدر، وعلى هذا فيوقف على "الذين كفروا" بخلاف الوجهين قبله. وضعَّف ابنُ عطية وجهَ الحال بعدم / الواو، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من واو نظماً ونثراً. وعلى كون "الملائكة" فاعلاً يكون "يَضْربون" جملةً حاليةً سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير. وجوابُ "لو" محذوفٌ للدلالة عليه أي: لرأيت أمراً عظيماً.
(7/403)
---(1/3014)
قوله: {وَذُوقُواْ} هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا. وقيل: الواو في "يَضْربون" للمؤمنين، أي: يَضْربونهم حالَ القتال وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} عطفٌ على "ما" المجرورة بالياء أي: ذلك بسببِ تقديم أيديكم، وبسبب أنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد.
* { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله تعالى: {كَدَاْبِ آلِ}: قد تقدَّم نظيره في آل عمران.
* { ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّ}: مبتدأ وخبر أيضاً كنظيره، أي: ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أن الله. وقوله: "وأنَّ الله سميعٌ" الجمهورُ على فتح "أنَّ" نَسَقاً على "أنَّ" قبلها، أي: وسبب أن الله سميع عليم. ويُقْرأ بكسرِها على الاستئناف.
* { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ }
(7/404)
---(1/3015)
قوله تعالى: {كَدَأْبِ}: قال قومٌ: "هو تكريرُ للأول". وقال قوم: كُرِّر لغير تأكيد لوجوهٍ منها: أن الأول دَأْبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا، وهذا دَأْبٌ في أَنْ لم يغير الله نعمتهم حتى غَيَّروها هم، قاله ابن عطية. ومنها: أن الثاني جارٍ مجرى التفصيل الأول فإن الأولَ متضمِّنٌ لذِكْرِ إجرامهم والثاني متضمِّنٌ لذكر إغراقهم، وفي الأولى ما يَنْزِل بهم حالَ الموت من العقوبة، وفي الثاني ما يَحُلُّ بهم من العذاب في الآخرة، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة. وفي الثاني بآيات ربهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ رَبَّاهم وأحسنَ إليهم. وقال الكرماني: "يُحتمل أن يكون الضمير في "كفروا" في الآية الأولى عائداً على قريش، والضمير في "كذَّبوا" في الثانية عائداً على آلِ فرعون ومَنْ ذُكِر معهم".
قوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} جُمِع الضميرُ في "كانوا" وجُمع "ظالمين" مراعاةً لمعنى "كل"؛ لأنَّ "كلاً" متى قُطعت ن الإِضافة جاز مراعاةُ لفظِها تارةً ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ، ولو رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً: وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل.
* { الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ }
(7/405)
---(1/3016)
قوله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَّ}: يجوز فيه أوجه، أحدها: الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه او على النعت له، أو على عطف البيان، أو النصبُ على الذم، أو الرفعُ على الابتداء، والخبرُ قولُه: "فإمَّا تَثْقَفَنَّ" بمعنى: مَنْ تعاهد منهم - أي من الكفار - ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية. و "منهم" يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف إذ التقدير: الذي عاهدتهم أي: كائنين منهم، فـ "مِنْ" للتبعيض. وقيل: هي بمعنى مع. وقيل: الكلامُ محمولٌ على معناه، أي: أَخَذْتَ منهم العهدَ. وقيل: زائدةٌ أي: عاهَدْتَهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ.
* { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
قوله تعالى: {فَشَرِّدْ}: العامَّةُ على الدال المهملة والتشريدُ: التطريد والتفريقُ والتسميع، وهذه المعاني كلُّها لائقة بالآية. وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه بالذال المعجمة. قال الشيخ: "وكذا هي في مصحف عبد الله". قلت: وقد تقدم أن النَّقْط والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ أحدثه يحيى بن يعمر فكيف يُوْجَد ذلك في مصحف ابن مسعود؟ قيل: وهذه المادة أعني الشين والراء والذال المعجمة مهملةٌ في لغة العرب. وفي هذه القراءةِ أوجه أحدها: أن الذالَ بدلٌ من مجاورتها كقولهم: لحم خراديل وخراذيل. الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ شذر من قولهم: تفرقوا شَذَر مَذَر، ومنه الشَّذْر المُلْتَقَطُ من المعدن لتفرُّقِه، قال:
2433- غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة * يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا
الثالث: أنه مِنْ "شَذَر في مقاله" إذا أكثر فيه، قاله أبو البقاء، ومعناه غير لائق هنا. وقال قطرب: "شرذ" بالمعجمة: التنكيل، وبالمهملة التفريق، وهذا يقوِّي قول مَنْ قال: إن هذه المادة ثابتةٌ في لغة العرب.
(7/406)
---(1/3017)
قوله: "مَنْ خَلْفَهم" مفعولُ "شَرِّد". وقرأ الأعمش - بخلافٍ عنه - وأبو حيوة "مِنْ خلفِهم" جاراً ومجروراً. والمفعولُ على هذه القراءةِ محذوفٌ أي: فَشَرِّدْ أمثالَهم من الأعداء أو ناساً يعملون بعملهم. والضميران في "لعلهم يَذَّكَّرون" الظاهر عَوْدُهما على "مَنْ خلفهم"، أي إذا رَأَوا ما / حَلَّ بالناقِضين تذكَّروا. وقيل: يعودان على المُنْقِضين، وليس له معنى طائل.
* { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ }
قوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}: مفعولُه محذوف، أي: انبِذْ إليهم عهودَهم، أي: اطرَحْها ولا تكترِثْ بها. و "على سواء" حال إمَّا: من الفاعِل أي: انبذها وأنت على طريقٍ قَصْدٍ، أي: كائناً على عدل فلا تَبْغَتْهُمْ بالقتال، بل أَعْلِمْهم به، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً، أي: كائنين على استواء في العلم أو في العداوة. وقرأ العامة بفتح السين، وزيد بن علي بكسرِها، وهي لغةٌ تقدَّمَ التنبيهُ عليها أولَ البقرة.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامُهم، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذِمِّ مَنْ خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَقَضَ عهده.
* { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوااْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ}: قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم "يَحْسَبَنَّ" بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله "لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [في الأرض]" كذلك خلا حَفْصاً. والباقون بتاء الخطاب.
(7/407)
---(1/3018)
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون "الذين كفروا" مفعولاً أولَ، و "سبقوا" جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً. وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى "الذين كفروا" ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، فـ "هم" مفعول أول، و "سَبَقوا" في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل "أن" الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت "أن" الموصولة وبقيت صلتها كقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ}، أي: أن يريكم وقولهم: "تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه" وقوله:
2434- ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى * ................
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله "أنهم سبقوا". وقال قوم: "بل "سبقوا" في محلِّ نصبٍ على الحال، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين "أنهم لا يعجزون" في قراءة مَنْ قرأ بفتح "أنهم" وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون "لا" مزيدةً ليصح المعنى".
(7/408)
---(1/3019)
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: "وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة". وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبدالرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ "لا يحسبَنَّ" واقع على "أنهم لا يُعْجِزون" وتكونُ "لا" صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني "لا يَحْسَبَنَّ" وقولهم "أنهم لا يعجزون" حتى نُلْزِمه ما ذكر.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و "الذين كفروا" مفعولٌ أولُ، والثاني "سبقوا"، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ "أنْ" الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون "الذين كفروا" فاعلاً، و "مُعْجزين" مفعول أول و "في الأرض" الثاني. أي: لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك.
وقرأ الأعمش: "ولا يَحْسَبَ الذين كفروا" بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر:
2435- لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ * كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
(7/409)
---(1/3020)
أي: لا تهينَنَّ. ونقل بعضهم: "ولا تحسَبِ الذين" من غير توكيدٍ البتة. وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل الاتقاء الساكنين.
قولهم: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان.
وقال أبو البقاء: "إنه متعلقٌ بتحسب: / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من "سَبَقوا"، وعلى كلا الوجهين تكون "لا" زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول "حَسِب" إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت "إنَّ" فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر".
قوله {لاَ يُعْجِزُونَ} العامَّ’ُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن محيصن "يُعْجِزوني" بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية أو نون الرفع. وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في {أَتُحَاجُّوانِّي}. قال الزجاج: "الاختيارُ الفتحُ في النون، ويجوز كسرُها على أن المعنى: لا يُعْجزونني، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة:
2436- تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً * يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
وقال متمم بن نويرة:
2437- ولقد عِلشمْتِ ولا محالةَ أنني * للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ
قال الأخفش في هذا البيت: "فهذا يجوز على الاضطرار".
وقرأ ابن محيصن أيضاً "يُعْجِزونِّ" بنون مشددة مكسورةٍ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة. وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون، مِنْ "عَجَّز" مشدَّداً. قال أبو جعفر:
(7/410)
---(1/3021)
"وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما: أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره، والآخر: كان يجب أن يكون بنونين" قلت: أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب، بل هو جائز، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها. وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين. وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً.
* { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
(7/411)
---(1/3022)
قوله تعالى: {مِّن قُوَّةٍ}: في محلِّ نصبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: أنه الموصولُ. والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقدير: ما استطعتموه حال كونه بعضَ القوة. ويجوز أن تكون "مِنْ" لبيان الجنس. و "رباط" جوَّزوا فيه أن يكون جمعاً لـ "رَبْط" مصدر رَبَط يَرْبُط نحو: كَعْب وكِعاب، وكلب وكِلاب، وأن يكون مصدراً لـ "رَبَط" نحو: صاح صِياحاً قالوا: لأن مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكونَ مصدرَ "رابط". ومعنى المفاعلة أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطية. قال الشيخ: "قوله "مصادرُ الثلاثي غيرِ المزيد لا تنقاس" ليس بصحيح، بل لها مصادرُ منقاسةٌ ذكرها النحويون" قلت: في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإِجماعَ على عَدَمِ القياس حتى يَرُدَّ عليه بالخلاف، فإنه قد يكون اختار أحدَ المذاهب وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر. وقال الزمخشري: "والرِّباط: اسم لخيل التي تُرْبَطُ في سبيل الله، ويجوز أن يُسَمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكونَ جمعَ رَبيط، يعني بمعنى مربوط كفَصِيل وفِصال". والمصدر هنا مضافٌ لمفعول له.
(7/412)
---(1/3023)
قوله: "تُرْهبون" يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل "أعِدُّوا" أي: حَصِّلوا لهم هذا حالَ كونكم مُرْهِبين، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي: أعِدُّوه مُرْهَباً به، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما، هذا إذا أَعَدْنا الضمير من "به" على "ما" الموصولة. أمَّا إذا أَعَدْناه على الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا، أو على الرِّباط، أو على القوة بتأويل الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول. ويجوز أن يكون حالاً من ضمير "لهم" كذا نقله الشيخ عن غيره فقال: "وتُرْهبون قالوا: حال من ضمير "أعِدُّوا" أو من ضمير "لهم" ولم يَتَعَقَّبْه بنكير، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير في "لهم" ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة "تُرْهبون" لأَخْذِه معمولَه.
وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو "تُرَهِّبون" مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف لأن الفعل قبل لانقل بالهمزة / أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو: رَهَّبْتُك، والتقدير: تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم. وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف "يُرْهبون" وهي قراءة واضحة، فإن الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير "لهم"، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا مَنْ وراءهم.
وقرأ الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار "ومن رُبُط" بضمتين، وعن الحسن أيضاص رُبْط بضم وسكون، وذلك نحو كتاب وكُتُب. قال ابن عطية: "وفي جَمْعِه وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ". قلت: لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر، بل حكى أبو زيد أن "رِباطاً" الخَمْسُ من الخيل فما فوقَها وأن جمعها "رُبُط"، ولو سُلِّم أنه مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنه لم تختلف أنواعُه، وقد تقدَّم أن "رباطاً" يجوز أن يكون جمعاً لرَبْط المصدر، فما كان جواباً هناك فهو جوابٌ هنا.
(7/413)
---(1/3024)
قوله: {عَدْوَّ اللَّهِ} العامَّة قرؤوه بالإِضافة، وقرأه السلميُّ منوناً، و "لله" بلام الجر، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله. قال صاحب "اللوامح": "وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ بالإِضافة غلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أُضيف غلى المعارف، وأمَّا "وعدوَّكم" فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره، ومثله: "رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم". يعني أن "عدوَّاً" يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا يُلْمَحَ فيتعرَّفَ.
قوله: {وَآخَرِينَ} نسقٌ على "عدو الله" و "من دونهم" صفةٌ لـ "آخرين". قال ابن عطية: "من دونهم" بمنزلة قولك "دون أن يكون هؤلاء" فـ "دون" في كلام العرب و "من دون" تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول، ومنه المثل: "وأُمِرَّ دون عُبَيْدَةَ الوَذَمُ" يعني أن الظرفيةَ هنا مجازية، لأن "دون" لا بد أن تكونَ ظرفاً حقيقةً أو مجازاً.
قوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} في هذه الآية قولان، أحدهما: أنَّ "علم" هنا متعديةٌ لواحدٍ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد. والثاني: أنها على بابها فتتعدى لاثنين، والثاني: محذوف، أي: لا تَعْلَمونهم قارعين أو محاربين. ولا بد هنا من التنبيه على شيء: وهو أن هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله "الله يَعْلمهم"، بل يجب أن يقال: إنها المتعدية إلى اثنين، وإن ثانيهما محذوف، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة، منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك - أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ - على الله تعالى.
* { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(7/414)(1/3025)
---
قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ}: الجُنوح: المَيْل، وجَنَحت الإِبلُ: أمالَتْ أعناقها، قال ذو الرمة:
2438- إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه * بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ
ويقال: جَنَح الليلُ: أقبل. قال النضر بن شميل: "جَنَح الرجل إلى فلان ولفلان: إذا خضع له". والجُنوح: الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ، قال النابغة يصف طيراً يتبع الجيش:
2439- جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه * إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ
ومنه "الجوانح" للأضلاع لمَيْلِها على حَشْوة الشخص، والجناح من ذلك لميلانه على الطائر. وقد تقدَّم الكلام على شيء من هذه المادة في البقرة. وعلى "السِّلم".
وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين، وكذا في القتال: {وَتَدْعُوااْ إِلَى السَّلْمِ}. وافقه حمزة على ما في القتال. و "للسِّلْم" متعلق بـ "جَنَحوا" فقيل: يَتَعدَّى بها وبـ إلى. وقيل: هي هنا بمعنى إلى. وقرأ الأشهب العقيلي "فاجنُحْ" بضم النون وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم. والضمير في "لها" يعود على "السلم" لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ. ومن التأنيث قولُه:
2440- وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها * وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها
وقال آخر:
2441- السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به * والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون "مَنْ" مرفوعَ المحلِّ عطفاً على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون، وبهذا فسَّر الحسن البصري وجماعة، وهو الظاهر، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى، وإن كان بعضُ الناسِ استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآيةَ على ما سنذكره.
(7/415)
---(1/3026)
الثاني: أن "مَنْ" مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في "حَسْبُك" وهو رأيُ الكوفيين، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: معناه: وحسبُ مَن اتَّبعك. الثالث: أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة. قال الزمخشري: "ومَن اتبعك": الواو بمعنى مع، وما بعده منصوبٌ. تقول: "حَسْبُك وزيداً درهمٌ" ولا تَجُرُّ؛ لأن عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ. وقال:
2442- .................. * فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى: كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [اللهُ] ناصراً"، وقال الشيخ: "وهذا مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال: "حَسْبُك وزيداً درهمٌ" لَمَّا كان فيه معنى كفاك، وقَبُح أن يَخْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال: بحسبك ويُحْسِب أخاك [درهمٌ]"، ثم قال: "وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ، و النيةُ بالدرهم التقديمُ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل. ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه"ز قلت: وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلا أنه جَعَل "حسب" اسمَ فعلٍ فإنه قال: "حسبُ: اسمُ فعلٍ، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى مع" وعلى هذا يكون "اللهُ" فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في "ومَنْ" أن يكونَ معطوفاً على الكاف؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرورةٌ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف. ثم قال الشيخ: "إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ لدخولِ العواملِ على "حَسْب" نحو: بحَسْبك درهم"، وقال تعالى: "فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ"، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ فيُحْمل هذا عليه".
(7/416)
---(1/3027)
وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى: "فـ "مَنْ" في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على المعنى بـ "يكفيك" الذي سَدَّتْ "حَسبك" مَسَدَّه". قال الشيخ: "هذا ليس بجيد؛ لن "حَسْبك" ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست مِنْ نصب، و "حسبك" مبتدأ مضافٌ إلى الضمير، وليس مصدراً ولا اسم فاعل، إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم، كأنه تَوَهَّم أنه قيل: يكفيك الله أو كفاك الله، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ الشعبي وابنِ زيد أن تكون "مَنْ" مجرورةً بـ "حَسْب" محذوفةً لدلالة "حَسْبك" عليها كقوله:
2443- أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً * ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أي: وكلَّ نارٍ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور". قال ابن عطية: "وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ، بابُه ضرورةُ الشعر". قال الشيخ: "وليس بمكروهٍ ولا ضرورة، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام"، قلت: قوله: "بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب" فيه نظر لأن النحويين على أنَّ إضافةَ "حسب" وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به، فإن "حَسْبك" بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك، وقيد الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا: ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال: "مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ".
(7/417)
---(1/3028)
وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها: أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلا أنه قال: فيكون خبراً آخر كقولِك: "القائمان / زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ "حَسْبك" لأنه مصدرٌ. وقال قوم: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: "ما شاء الله وشئت". و "ثم" هنا أولى"، قلت: يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع، بل تأتي بـ طثم" التي تقتضي التراخي، و الحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه: وحسب مَنْ اتبعك. والثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومَن اتبعك كذلك أي: حسبهم الله.
وقرأ الشعبي "ومَنْ" بسكون النون" "أَتْبَعَك" بزنة أَكْرمك.
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوااْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوااْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
قوله تعالى: {حَرِّضِ}: أي حُضَّ وحُثَّ. يقال: حَرَّض وحَرَّش وحَرَّك بمعنىً واحد. وقا لالهروي: "يقال حارَضَ على الأمر وأَكَبَّ وواكب وواظب وواصَبَ بمعنًى قيل: وأصله مِن الحَرَض وهو الهلاك قال:
2444- إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني * حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم
(7/418)
---(1/3029)
قال أبو إسحاق: "تأويل التحريض في اللغة أن يُحَثَّ الإِنسانُ على شيءٍ حتى يُعْلَمَ منه أنه حارضٌ، والحارضُ المقارِبُ للهلاك"، واستبعد الناسُ هذا منه. وقد نحا الزمخشري نحوه فقال: "التحريضُ: المبالغَةُ في الحثِّ على الأمر، من الحَرَض، وهو أن يَنْهكه المرض ويتبالغَ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرَضاً وتقول: ما أراك إلا حَرَضاً".
قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآيات: أثبت في الشرط الأول قيداً وهو الصبُ وحَذَفَ من الثاني، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن الكفرة وحَذَف من الأول. والتقدير: مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة، فحذف من كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة.
وقرأ الكوفيون: {وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا} {فإن يكنْ منكم مئة صابرة" بتذكير "يكن" فيهما. ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين، وفي الثانية كالباقين. فَمَنْ ذَكذَرَ فللفَصْل بين الفعل وفاعله بقوله "منكم"؛ ولأن التأنيث مجازي، إذ المراد بالمئة الذُّكور. ومن أنَّث فلأجلِ الفصلِ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل. وأمَّا أبو عمرو فإنما فرَّق بين الموضعين فَذَكَّر في الأول لِما ذكرن ولأنَّه لجَظَ قولَه "يَغْلبوا"، وأنَّث في الثاني لقوة التأنيث بوصفِه بالمؤنث في قوله "صابرة".
وأمَّا "إنْ يكنْ منكم عشرون" "ون يكنْ منكم أَلْفٌ"، فبالتذكير عند جميع القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى "عشرون".
(7/419)
---(1/3030)
وقرأ الأعمش: "حَرِّصْ" بالصاد المهملة وهو من الحِرْص، ومعناه مقاربٌ لقراءة العامة. وقرأ المفضل عن عاصم: "وعُلِم" مبنياً للمفعول، و "أن فيكم ضعفاً" في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى. و "يكن" في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ فـ "منكم": إمَّا حالٌ من "عشرون" لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً، وأن تكونَ الناقصةَ، فيكون "منكم" الخبرَ، والمرفوعُ الاسمَ وهو "عشرون" و "مئة" و "ألف".
قوله: "ضعفاً" قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث: {اللهُ الذي خَلَقكم مِنْ ضعف، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً} بفتح الضاد، والباقون بضمها، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً. وقرأ عيسى بن عمر "ضُعُفاً" بضم الفاء والعين، وكلُّها مصادرُ. وقيل: الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل، والضم في البدن، وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن الثعالبي قال: "هذا القول تردُّه القراءة". وقيل: هما بمعنى واحد، لغتان: لغةُ الحجاز الضمُّ، ولغة تميم الفتح، نقله أبو عمرو فيكونان كالفَّقْر والفُّقر، والمَكْث والمُكث، والبُخْل والبَخَل. وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر: ضُعَفاء جمعاً على فُعَلاء كظَريف وظُرَفاء. وقد نَقَلْت عن القرَّاء كلاماً كثيراً في هذا الحرف في شرح "حرز الأماني" فإنه أليقُ به من هذا فعليك به.
* { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(7/420)
---(1/3031)
قوله تعالى: {أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}: قرأ أبو عمرو "تكون" بالتأنيث مراعاةً لمعنى الجماعة. والباقون/ بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع. والجمهورُ هنا على "أَسْرى" وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالاَّ على أنه كجريح وجَرْحى. وقرأ ابن القعقاع والمفضَّل عن عاصم "أُسَارى" شبَّهوا "أسير" بكَسْلان فجمعوه على فُعالَى ككُسالى، كما شبَّهوا به "كسلان" فجمعوه على كَسْلى. وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة محققاص.
وقوله: {يُثْخِنَ} قرأ العامة "يُثْخن" مخففاً عدَّوه بالهمزة، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر "يُثَخِّن" بالتشديد، عَدَّرْه بالتضعيف وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلْظ و الكثافة في الأجسام، ثم يُستعار ذلك في كثرة القتل والجراحات فيقال: أَثْخَنَتْه الجراح أي: أثقلته حتى أَثْبَتَتْه، ومنه {حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ}. وقيل: حتى تقهر. والإِثخان: القهر. أنشد المفضل:
2445- تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ * وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا
كذا أنشده الهرويُّ شاهداً على القهر وليس فيه معنى، إذ المعنى على الزيادة والمبالغةِ المناسِبةِ لأصل معناه وهي الثَّخانة ويقال منه: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانةً فهو ثَخِين، كظَرُف يَظْرُف ظَرافةً فهو ظريف.
قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} الجمهور على نصب "الآخرة"، وقرأـ سليمان بن جماز المدني بجرها، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه. وقدَّره بعضهم: عَرَض الآخرة، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال "يعني ثوابها". وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب. وجعله أبو البقاء كقول الآخر:
................. * ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
(7/421)
---(1/3032)
وقدَّر المضاف "عَرَضَ الآخرة". قال الشيخ: "ليست الآيةُ مثلَ البيت فإنه يجوز ذلك إذا لم يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يُفصل بـ "لا" نحو: "ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك"، أمَّا إذا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل".
* { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {مِمَّا غَنِمْتُمْ}: يجوز أن تكون مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ. ويجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف.
قوله: {حَلاَلاً} نصبٌ على الحال: إمَّأ من "ما" الموصولة أو مِنْ عائدِها إذا جعلناها اسميةً. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي: أكلاً حلالاً.
قوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} قال ابن عطية: "وجاء قوله: "واتقوا الله" اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول، لأنَّ قولَه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} متصلٌ بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيا أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {مِّنَ الأَسْرَى}: قرأه أبو عمرو بزنة فُعالى، والباقون بزنة فَعْلَى وقد عُرِفَ ما فيهما. ووافق أبا عمروٍ قتادةُ ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر. واختُلف عن الجحدري والحسن. وقرأ ابن محيصن "مِنْ أَسْرى" منكِّراً.
قوله: {يُؤْتِكُمْ} جواب الشرط. وقرأ الأعمش: "يُثِبْكم" من الثواب. وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد "ممَّا أَخَذَ" مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى.
* { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
(7/422)
---(1/3033)
قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ}: الضمير يعود على الأَسْرى لأنهم أقربُ مذكور. وقيل: على الجانحين. وقيل: على اليهود. وقيل: على كفار قريش.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوااْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}: مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ "على" تُشْعِرُ بالوجوب. وكذلك قدَّره الزمخشري وشبَّهه بقوله:
2446- على مُكْتريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم * وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ
(7/423)
---(1/3034)
قوله: {مِّن وَلاَيَتِهِم} قرأ حمزة هنا وفي الكهف: "الولاية لله" هو والكسائي بكسر الواو. والباقون بفتحها فقيل: لغتان. وقيل: بالفتح مِن المَوْلَى، يقال/ مَوْلى بيِّن الوَلاية، وبالكسر مِنْ وِلاية السلطان، قاله أبو عبيدة. وقيل: بالفتح مِنَ النُّصْرَة والنسب، وبالكسر من الإِمارة قاله الزجاج. قال: "ويجوز أكسرُ لأنَّ في تَوَلِّي بعضِ القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ مثل الخِياطة والقِصارة. وقد خَطَّأ / الأصمعيُّ قراءةَ الكسرِ، وهو المُخْطِئُ لتواترها. وقال أبو عبيد: "والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين، لأنَّ معناهما مِنَ الموالاة في الدين". وقال الفارسي: "الفتحُ اَجْود لأنها في الدين"، وعَكَس الفراء هذا فقال: "يُريد مِنْ مواريثهم، بكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها، لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة، وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنيين جميعاً". وقرأ السلمي والأعرج "والله بما يعملون" بالياء للغيبة، وكأنه التفات أو إخبار عنهم.
* { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }
قوله تعالى: {إِنْ لا تَفْعَلُوهُ}: الهاءُ تعود: إمَّا على النصر أو الإِرث أو الميثاق أي: حِفْظه، أو على جميع ما تقدَّم ذِكْرُه، وهو معنى قول الزمخشري "إنْ لا تَفْعلوا ما أَمَرْتُكم به". والعامة قرؤوا [كبير] بالباء الموحدة. وقرأ االكسائي فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي: "كثير" بالثاء المثلثة، وهذا قريبٌ ممَّا في البقرة وهو يقرؤها كذلك.
(7/424)
---(1/3035)
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوااْ أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ}: زعم بعضهم أن هذه الجملة تكرارٌ للتي قبلها، وليس كذلك، فإن التي قبلها تضمَّنَتْ ولايةَ بعضِهم لبعض، وتقسيمَ المؤمنين إلى ثلاثة أقسام، وبيان حكمهم في ولايتهم وتناصرهم، وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص، وما آل إليه حالُهم من المغفرة والرزق الكريم.
قوله في: "كتاب" يجوز أن يتعلَّق بنفس "أَوْلَى" أي: أحقّ في حكم الله أو في القرآن أو في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هذا الحكمُ المذكور في كتاب. وما أحسنَ ما جيء بخاتمتها بقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.(1/3036)
سورة برآءة
* { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }
الجمهورُ على رفع "براءة" وفيه وجهان، أحدهما: أنها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قولُه: "إلى الذين". وجاز الابتداءُ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بالوصفِ بالجارِّ بعدها. والثاني: أنها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هذه الآياتُ براءةٌ. ويجوز في: "من الله" أن يكون متعلقاً بنفس "براءة" لأنها مصدرٌ، وهذه المادةُ تتعدَّى بـ"مِنْ" تقول: بَرِئت مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَراءة أي: انقطعت العُصْبَةُ بيننا. وعلى هذا فيجوز أن يكونَ المسَوِّغُ للابتداء بالنكرة في الوجه الأول هذا. و "إلى الذين" متعلقٌ بمحذوف على الأول لوقوعِه خبراً، وبنفس "بَراءة" على الثاني. ويقال: بَرئْتُ وبَرَأت من الدين بالكسر والفتح. وقال الواحدي: "ليس فيه إلا لغةٌ واحدة: كسرُ العين في الماضي، وفتحُها في المستقبل" وليس كذلك، بل نَقَلَهما أهلُ اللغة.
وقرأ عيسى بن عمر "براءةً" بالنصب على إضمار فعل أي: اسمعوا براءةً. وقال ابن عطية: "أي، الزموا براءةً، وفيه معنى الإِغراء".
وقُرىء "مِنِ الله" بكسر نون" مِنْ على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على الإِتباع لميم "مِنْ" وهي لُغَيَّةٌ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف وكَسْرُها مع غيرها نحو: "مِنِ ابنك" وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف.
* { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوااْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {فَسِيحُواْ}: هذا على إضمار القول أي: قيل: سيحوا. وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب. يقال: ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي: انساب كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة. قال طرفة:
2447 - لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَنِي * حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ
(7/426)
---(1/3037)
و "أربعةَ أشهرٍ" ظرف لـ"سِيْحوا". وقرىء {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} بنصب الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً. وقد تقدَّم تحريرُه.
* { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِياءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوااْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله تعالى: {وَأَذَانٌ}: رفع بالابتداء، و "مِن الله": إمَّا صفةُ أو متعلقٌ به. و إلى الناس" الخبر. ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في "براءة". قال الشيخ: "ولا وجهَ لقولِ مَنْ قال إنه معطوف على "براءة"، كما لا يُقال "عمرو" معطوف على "زيد" في "زيد قائم وعمرو قاعد". وهو [كما قال]، وهذه عبارة [الزمخشري بعينها]
وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل: "وإذْن" بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال. وقرأ العامَّةُ: "أنَّ الله" بفتح الهمزة على أحدِ وجهين: إمَّا كونِه خبراً لـ"أذان" أي: الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين - وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم يذكر تضعيفَه - وإمَّا على حَذْفِ الجر أي: بأن الله. ويتعلَّقُ هذا الجارُّ إمَّا بنفس المصدرِ، بمحذوفٍ على أنه صفتُه. و "يومَ" منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله: "إلى الناس". وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ بـ"أذانٌ" وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفٌ المصدرِ قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ.
وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة، وفيه المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ / الأذانِ مُجْرى القول.
(7/427)
---(1/3038)
قوله: {مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} متعلقٌ بنفس "بريء" كما يقال: "بَرِئْتُ منه"، وهذا بخلاف {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ} فإنها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكونَ صفةً لـ"براءة".
قوله: {وَرَسُولِهِ} الجمهورُ على رَفْعِه، وفيه ثلاثة أوجه، أحجها: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: ورسولُه بريءٌ منهم، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية. الثالث: أنه معطوفٌ على محل اسم "أنَّ"، وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة. قال ابن عطية: "ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن الباذش - على مقتضى كلامِ سيبويه أن لا موضعَ لِما دخلَتْ عليه "أنَّ"؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل، وأنه لا فرقَ بين "أَنَّ" وبين "ليت"، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه". قال الشيخ: "وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ "أنَّ" لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس ظهورَ عملِ بدليل: "ليس زيد بقائم" و "ما في الدار مِنْ رجل" فإنه ظهر عملُ العامل ولهما موضع، وقولُه: "بالإِجماع" - يريد أن "ليت" لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه بالإِجماع - ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ "ليت" وأخواتِها جميعِها حكمَ "إنَّ" بالكسر". قلت: قوله: "بدليل ليس زيدٌ بقائم" إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ معه بخلاف "أنَّ" بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه قولُه: "وأن لا فرقَ بين "أنَّ" وبين "ليت"، فإنَّ الفرقَ قائمٌ، وذلك أن حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن معناه معهما باقٍ.
(7/428)
---(1/3039)
وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق "ورسولَه" بالنصب. وفيه وجهان، أظهرُهما: انه عطفٌ على لفظ الجلالة. والثاني: أنه مفعولٌ معه، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن "ورسولِه" بالجر وفيها وجهان، أاحدهما: أنه مقسمٌ به أي: ورسولِه إن الأمر كذلك، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجِوار، كما أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار، وقد تقدَّم تحقيقُه. وهذه القراءةَ يَبْعُد صحتُها عن الحسن للإِبهام، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ "ورسولِه" بالجر. فقال الأعرابي: إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ، فحينئذ أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية. ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود الدؤلي. قال أبو البقاء: "ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر". وهذا من الوضحات.
(7/429)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 8 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
* { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوااْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }(1/3040)
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع. والتقدير: لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ فإنه قال: "فإن قلت: مِمَّ استثنى قولَه {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم؟} قلت: وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} لأن الكلامَ خطابٌ للمسلمين، ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم: سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم. والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين: ولكن الذين لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم".
الثاني: أنه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره: اقتلوا المشركين المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم. وفيه ضعفٌ.
الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لأنَّ الفاءَ تزاد في غير موضعها، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً. والأَوْلَى أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
(8/1)
---(1/3041)
قوله: { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} الجمهور "يَنْقُصوكم" بالصاد مهملةً، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين. ويجوز ذلك فيه هنا، فـ"كُمْ" مفعولٌ، و "شيئاً": إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو لا قليلاً و [لا] كثيراً النقصان. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع / وأبو زيد "يَنْقُضوكم" بالضاد المعجمة، وهي على حَذْلإِ مضاف أي: ينقضوا عهدكم، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. قال الكرماني: "وهي مناسِبة لِذِكْرِ العهد" أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ، وهي قريبة من قراءة العامة؛ فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها التمام.
* { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {الأَشْهُرُ}: يجوز أن تكون الألف واللام للعهد، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، والعربُ إذا ذكرت نكرةً، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً، تت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: "رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل" لم تُرِد بالثاني الأولَ، وإن وَصَفْتَه بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك: "فأكرمت الرجل المذكور"، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة. ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد، والوجهان مقولان في التفسير.
(8/2)
---(1/3042)
والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات، وقد بَيَّن ذلك أبو الهثيم فقال: "يُقال: "أَهْلَلنا شهرَ كذا" أي: دَخَلَْنا فيهن فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً غلى أن ينقضي وينسلخ، وأنشد:
2448 - إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه * كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي
قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} في انتصابه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني. قال الزجاج: "نحو: ذهبت مذهباً". وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث غنه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة "في"، نحو: صَلَّيْتُ في الطريق، وفي البيت، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة:
2449 - لَدْنٌ بهَزَّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ * فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ أتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص.
قال الشيخ: "إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى "واقعدوا" لا يُراد به حقيقةُالقعود، وإنما يُراد: ارصُدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول: جلست مجلسَ القاضي، وقعدت مجلسَ القاضي، والآيةُ من هذا القبيل".
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو "على" أي: على كلِّ مَرْصَد، وهذا قول الأخفش، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر:
2450 - تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ * وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني
(8/3)
---(1/3043)
وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} أي: على صراطك، اتفق الكل على أنه على تقدير "على". وقال بعضُهم: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد، نقله أبو البقاء: وحينئذٍ تكون الباء بمعنى "في" فينبغي أن تُقَدَّرَ "في" لأن المعنى عليها، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر:
2541 - نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً * ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي: رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر، قال عامر بن الطفيل:
2452 - ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا * أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ
والمِرْصاد: المكانُ المختص بالترصُّد، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على المرصود، وقولُه تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يَحْتمل كلَّ ذلك، وكأنه في الأصل مصدرٌ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير.
* { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ}: كقوله: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ} في كونِه من باب الاشتغال / عند الجمهور.
(8/4)
---(1/3044)
قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ} "حتى" يجوز أن تكونَ هنا للغاية، وأن تكونَ للتعليل، وعلى كلا التقديرين يتعلَّقُ بقوله: "فَأَجِرْهُ"، وهل يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنه يجوزُ من حيث المعنى أن تُعَلَّق "حتى" بقوله: "استجارك" أو بقوله: "فَأَجِرْهُ" إذ يجوز تقديرُه: وإن استجارك أحدٌ حتى يسمعَ كلام الله فَأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور لأمرٍ لفظي - من جهة الصناعة - لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التنازع، وأَعْمَلَنا الأول مثلاً لاحتاج الثاني إليه مضمراً على ما تقرر، وحينئذٍ يلزم أنَّ "حتى" تجرُّ المضمر، و "حتى" لا تجرُّه إلا في ضرورة شعر كقوله:
2453 - فلا واللَّهِ لا يَلْقَى أُناسٌ * فتى حَتَّاك يا ابنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند مَنْ يُجيز أن تجرَّ المضمر فلا يمتنع ذلك عنده، ويكون من إعمال الثاني لحذفِه، ويكون كقولك: "فرحت ومررت بزيد" أي: فرحت به، ولو كان من إعمال الأول لم تَحْذِفْه من الثاني.
وقوله: {كَلاَمَ اللَّهِ} من باب إضافة الصفة لموصوفها لا من باب إضافةِ المخلوق للخالق. و "مَأْمَنَه" يجوز أن يكون مكاناً أي مكان أَمْنِه، وأن يكونَ مصدراً أي: ثمَّ أَبْلِغْه أَمْنَه.
* { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
(8/5)
---(1/3045)
قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ}: في خبر "يكون" ثلاثةُ أوجه أظهرُها: أنه "كيف"، و "عهدٌ" اسمُها، والخبر هنا واجبُ التقديمِ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام وهو الاستفهام، و "للمشركين" على هذا متعلقة: إمَّا بـ"يكون" عند مَنْ يُجيز في "كان" أن تعمل في الظرفِ وشبهه، وإمَّا بمحذوف لأنها صفةٌ لعهد في الأصل، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً، و "عند" يجوز أن تكون متعلقةً بـ"يكون" أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ"عَهْد" أو متعلقةً بنفس "عهد" لأنه مصدر. الثاني: أن يكون الخبر "للمشركين" و "عند" على هذا فيها الأوجهُ المتقدمة. ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوز أن يكونَ ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به "للمشركين". والثالث: أن يكون الخبرُ "عند الله" و "للمشركين" على هذا: إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ بـ"يكون" عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم، وإمَّا حال من "عهد"، وإمَّا متعلقٌ بـ"يكون" عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم، وإمَّا حال من "عهد"، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر. ولا يُبالَى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر. و "كيف" على هذين الوجهين الأخيرين مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحال كما تقدَّم تحقيقه في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً وكان ينبغي أن يكونَ هو الأظهر - وهو أن يكونَ الكونُ تاماً بمعنى: كيف يوجد عهدٌ للمشركين عند الله؟، والاستفهامُ هنا بمعنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء بـ"إلا"، ومِنْ مجيئه بمعنى النفي أيضاً قولُه:
2454 - فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بنَ مالكٍ * كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضاربُ
أي: ليس ضاربٌ بالسيف.
(8/6)
---(1/3046)
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} فيه وجهان أحداهما: أنه استثناءٌ منقطع أي: لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت. والثاني: أنه متصلٌ وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدهما: أنه منصوبٌ على أصل الاستثناء من المشركين. والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدمِ نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا. فقياسُ قولِ أبي البقاء فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله "فما استقاموا" خبرُه.
قوله: {فَمَا} يجوز في "ما" أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً، وهي في محلِّ نصبٍ على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم. ويجوز أن تكونَ شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم. ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}. والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوالُ المشهورة، و "فاستقيموا": جوابُ الشرط. وهذا نحا إليه الحوفي، ويحتاج إلى / حذفِ عائد أي: أيُّ زمانٍ استقاموا لكم فيه، فاستقيموا لهم. وقد جوَّز الشيخ جمال الدين ابنُ مالك في "ما" المصدرية الزمانية أن تكونَ شرطيةً جازمة، وأنشد على ذلك:
2455 - فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ * فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ أجمعا
ولا دليل فيه لأنَّ الظاهرَ الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدرية وزمانٍ، قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى، إذ يصير المعنى: استقيموا لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم".
* { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }
(8/7)
---(1/3047)
قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا}: المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه فقدَّره أبو البقاء: "كيف تَطْمئنون أو: كيف يكونُ لهم عهدٌ". وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم. والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقوى، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدّضم منه قولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا}، وقال الشاعر:
2456 - وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى * فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟، وقال الحطيئة:
2457 - فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ * على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي: كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ: "وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد "كيف" بقوله: "كيف تطمئنون"، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم". قلت: ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه.
قوله: {وَإِن يَظْهَرُوا} هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. و "لا يرقُبوا" جوابُ الشرط. وقرأ زيد بن علي: "وإن يُظْهَروا" ببنائِه للمفعول، مِنْ أظهره عليه أي: جعله غالباً له.
قوله: {إِلاًّ} مفعولٌ به بـ"يرقُبوا" أي: لا يَحْفظوا. وفي "الإِلِّ" أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي، ومنه قول الشاعر:
2458 - لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ * ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف. وقال آخر:
2459 - وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ * وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر:
2460 - أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا * قطعُوا الإِلَّ وعراقَ الرِّحِمْ
(8/8)
---(1/3048)
وفي حديث أمِّ زرع: "بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلّ، بَرودُ الظلّ" أي: وفيُّ العهد.
الثاني: ان المرادَ به القَرابة، وبه قال الفراء، وأنشد لحسان رضي الله عنه:
2461 - لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ * كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله:
2462 - ................. * قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث: أن المرادَ به الله تعالى أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله -: "إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ" أي: الله عز وجل. ولم يرتضِ هذا الزجاج قال: "لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ افعلْ لي كذا.
الرابع: أن الإِلَّ الجُؤَار، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً، ومنه قول أبي جهل:
2463 - لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه * متينٍ قُواه غيرِ نتكثِ الحبلِ
الخامس: أنه مِنْ "ألَّ البرقُ" أي: لَمَع. قال الأزهري: "الأَلِيل: البريق، يقال: ألَّ يَؤُلُّ أي: صفا ولمع". وقيل: الإِلُّ مشن التحديد ومنه "الأَلَّةُ" الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها. وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك، فقال الزجاج: "حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء، فَمِنْ ذلك: الأَلَّةُ: الحَرْبَةُ، وأُذُن مُؤَلَّلَة، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار من هذا، فإذا قلت في العهد: "بينهما إلٌّ" فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ العهود، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة. وقال الراغب: "الإِلُّ: كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي:تَلْمَع، وألَّ الفَرَسُ: أسرع، والأَلَّةُ: / الحَرْبَةُ اللامعة"، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم فتح مكة:(1/3049)
(8/9)
---
2464 - إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ * هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ
وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ
قال: "وقيل: الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله تعالى، وليس ذلك بصحيحٍ، والألَلاَن صفحتا السكين" انتهى. ويُجمع الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ، والأصل: أأْلُل بزنة أَفْلُس، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأُدْغمت اللامُ في اللام. وفي الكثرة على إلال كذِئْب وذِئاب. والأَلُّ - بالفتح - قيل: شدَّة القنوط. قال الهروي في الحديث:
"عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم" قال أبو عبيد: "المحدِّثون يقولنه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتْحُها، وهو أشبهُ بالمصادر، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم، ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاء، ومنه يقال: له الويل والأَلِيل، ومنه قولُ الكميت:
2465 - وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ * إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُ
انتهى. وقرأت فرقة: "ألاً" بافتح، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة: "إيلاً" بكسرِ الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، ويه ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنه اسمُ الله تعالى، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى علد الله. والثاني: أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة. وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلَبِتْ ياءً كريح. الثالث: أنه هو الإِلُّ المضعف، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم: أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته. قال: الشاعر:
2466 - يا ليتَما أمَّنا شالَْ نَعَمَتُها * أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ
(8/10)
---(1/3050)
قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} الذِّمَّة: قيل العهد، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ لفظِه إذا قلنا: إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} وقوله:
2467 - ................... * وأَلْقى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقوله:
2468 - ................. * وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ
وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي أي: في شماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين، ويقال: "له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة، وهي الذِّمُّ". قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحرث:
2469 - يُصَيِّح بالأَسْحار في كل صَارَة * كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقال الراغب: "الذِّمام: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة" - يعني بالفتح والكسر - وقيل: لي مَذَمَّةٌ فا تَهْتكها. وقال غيره: "سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة"، وتُجْمع على ذِمّ كقوله:
2470 - ................... * كما ناشد الذِّمَّ ...........
وعلى ذِمَم وذِمَام. وقال أبو زيد: "مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من الذَّمٍِّ" وقال الأزهري: "الذِّمَّة: الأمان"، وفي الحديث: "ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم" قال أبو عبيد: "الذمَّة الأمانُ ههنا، يقول: إذا أعطى أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع العسكر". وقال الأصمعي: "الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى".
قوله: {يُرْضُونَكُم} فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أن حالهم كذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل "لا يَرْقُبوا"، قال أبو البقاء: "وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون المؤمنين".
(8/11)
---(1/3051)
قوله: {وَتَأْبَى} يقال: أَبَى يَأْبَى إبىً أي: اشتد امتناعُه: فكلُّ إباءٍ امتناعُ مِنْ غير عكس قال:
2471 - أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه * فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ
وقال آخر:
2472 - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه * عليه فَأَقْضى والسيوفُ مَعَاقِلُه
فليس مَنْ فسَّره بمطلق / الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ، ومثله قَلَى يَقْلَى في لغة.
* { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: يجوز أن تكون [ساء] على بابِها مِنَ التصرُّف والتعدِّي ومفعولها محذوفٌ أي: ساءهم الذي كانوا يَعْملونه أو عَمَلُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى بئس، فتُحَوَّل إلى فَعُل بالضم، ويمتنع تصرُّفها، وتصير للم، ويكون المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كما تقرر ذلك غير مرة.
* { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ}: خبرُ مبتدأ محذوف أي: فهم إخوانُكم، والجملةُ الاسميةُ في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط. و "في الدين" متعلِّقٌ بإخوانكم لِما فيه من معنى الفعل.
* { وَإِن نَّكَثُوااْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوااْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ }
(8/12)
---(1/3052)
قوله تعالى: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}: قرأ. نافع وابن كثير وأبو عمرو "أئمة" بهمزتين ثانيتهما مُسَهَّلة بينَ بينَ ولا ألفَ بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتخفيفهما من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك إلا أنه أَدْخَلَ بينهما ألفاً. هذا هو المشهور بين القراء السبعة. وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى. ونقل الشيخ عن نافع ومَنْ معه، أنهم يُبْدلون الثانية ياء صريحة، وأنه قد نُقِلَ عن نافع المدُّ بينهما، أي بين الهمزة والياء.
فأما قراءةُ التحقيق وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعة من النحويين.
كأبي علي الفارسي وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً مَنْ ضَعَّفَ التحقيقَ مع روايتِه له، وقراءتِه به لأصحابه. ومنهم مَنْ أنكر التسهيلَ بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرؤوا بياءٍ خفيفةٍ الكسرِ، نصُّوا على ذلك في كتبهم.
(8/13)
---(1/3053)
وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعةُ، لأنَّ النطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزةُ بين بين بزنة المخففة. والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لحناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين قال: "فإن قلت: كيف لفظ "أسمة"؟ قلت: بهمزةٍ بعدها همزةُ بين بين أي: بين مخرجِ الهمزةِ والياء، وتحقيق الهمزتين قراءةٌ مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين. وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوز أن تكون، ومَنْ قرأ بها فهو لاحِنٌ مُحَرِّف". قال الشيخ: "وذلك دأبُه في تلحين المقرئين، وكيف تكون لحناً، وقد قرأ بها رأسُ النحاة البصريينن أبو عمرو بن العلاء، وقارىءُ أهلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافع؟". قلت: لا يُنْقَم على الزمخشري شيءٌ فإنه إنما قال إنها غير مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يَقْبلها، غاية ما في الباب، أنه نَقَل عن غيره. وأمَّا التصريحُ بالياء، فإنه معذورٌ فيه لأنه كما قَدَّمْتُ لك، إنما اشْتُهِر بين القراء التسهيلُ بين بين لا الإِبدال المحض، حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة.
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءةَ التسهيلِ بينَ بينَ فقال: "ولا يجوز هنا أن تُجعل بينَ بينَ، كما جُعلت همزةُ "أئذا"؛ لأن الكسرةَ هنا منقولةٌ وهناك أصليةٌ، ولو خُفِّفَت الهمزةُ الثانية [هنا] على القياس لقُلِبت ألفاً لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ لتتحركَ بحركةِ الميم في الأصل". قلت: قوله "منقولةٌ" لا يُفيد لأنَّ النقلَ هنا لازم، فهو كالأصل. وقوله: "ول خُفِّفَتْ على القياس إلى آخره" لا يفيد أيضاً لأن الاعتبار بالإدغام سابقٌ على الاعتبار بتخفيف الهمزة. ولذلك موضعٌ يضيق هذا الموضع عنه.
(8/14)
---(1/3054)
ووزن أَئِمَّة: أَفْعِلة؛ لأنها جمع غمام، كحمار وأَحْمِرة، والأصل أَأْمِمة، فالتقى ميمان فأُريد إدغامُها فنُقلت حركةُ الميم الأولى للساكن قبلَها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة: فالنحويون البصريون يوجبون إبدالَ الثانية ياء، وغيرُهم يحقق أو يسهِّل بينَ بينَ. ومَنْ أَدْخَلَ الألفَ فللخِفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ حينئذٍ أن يكونَ ذلك في التحقيق كما قرأ هشام. وأمَّا ما رواه الشيخ عن نافع مِنْ المدّ مع نَقْلِه عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة.
قوله: {لاَ أَيْمَانَ} قرأ ابن عامر: "لا إيمان" بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن يُؤْمن إيماناً، وهل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان أحدهما: أنهم لا يُؤْمنون في أنفسهم أي: لايُعْطون أماناً بعد نُكثِهم وطَعْنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك. والثاني: الإِخبار بأنهم لا يُوفون لأحدٍ بعهدٍ يَعْقِدونه له. أو من التصديق أي: إنهم لا إسلامَ لهم. واختار مكي التأويلَ الأول لِما فيه من تجديد فائدة لم يتقدَّمْ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ وَصْفَهم بالكفر وعدمِ الإِيمان قد سَبَقَ وعُرِف.
وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين، وهذا مناسب للنكث، وقد أُجْمع على فَتْح الثانية. ومعنى نفي الأيمان عن الكفارِ، أنهم لا يُوفون بها، وإن صَدَرَتْ منهم وَثَبَتَتْ. وهذا كقول الآخر:
2473 - وإنْ حَلَفَتْ لا تَنْقُضُ الدهرَ عهدَها * فليس لمخضوبِ البَنانِ يمينُ
وبذلك قال الشافعي. وحمله أبو حنيفة على حقيقته: أن يمين الكافر لا تكون يميناً شرعياً، وعند الشافعي يمينٌ شرعية.
* { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوااْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ }
(8/15)
---(1/3055)
قوله تعالى: {أَوَّلَ مَرَّةٍ}: نصبٌ على ظرفِ الزمان، وأصلُها المصدر مِنْ مَرَّ يَمُرُّ. وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} الجلالةُ مبتدأ،وفي الخبر أوجهٌ، أحدها: أنه "أحقُّ" و "أن تَخْشَوه" على هذا بدلٌ من الجلالة بدلُ اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛ / فخشية الله أحقُّ مِنْ خشيتهم. الثاني: أَنَّ "أحقُّ" مبتدأ و "أَنْ تَخْشَوه" مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة. الثالث: أن "أحقُّ" مبتدأ و "أن تَخْشَوه" خبرُه، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة. قاله ابن عطية. وحَسُنَ الابتداءُ بالنكرة لأنها أفعلُ تفضيل. وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه. الرابع: أن "أنْ تَخْشَوه" في محلِّ نصبٍ، أو جر بعد إسقاطِ حرفِ الخفض، إذ التقدير: أحقُّ بأن تَخْشَوه.
وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} شرطٌ حُذِفَ جوابُه، أو قُدِّم، على حسب الخلاف.
* { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَيَشْفِ}: قرأ الجمهور بياء الغَيْبَة رَدَّاً على اسم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي: "نَشْفِ" علي: "نَشْفِ" بالنون وهو التفاتُّ حسن. وقال: "قوم مؤمنين" شهادةً للمخاطبين بالإِيمان، فهو من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهرِ مُقام المضمر، حيث لم يَقُل: "صدوركم".
* { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
(8/16)
---(1/3056)
قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ}: الجمهورُ على ضم الياء وكسرِ الهاء مِنْ أَذْهب. و "غَيْط" مفعول به. وقرأ طائفةٌ: "ويَذْهَبْ" بفتح الياء والهاء، جَعَله مضارعاً لذهب، "غيط" فاعل به. وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه رفع الفعل مستأنفاً ولم ينسقْه على المجزومِ قبلَه، كما قرؤوا: "ويتوبُ" بالرفع عند الجمهور. وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو - في رواية - ويعقوب: "ويتوبَ" بالنصب.
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ كثيرون. قال الزجاج وأبو الفتح: "وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا، ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في "قاتِلوهم". يَعْنيان بالشرط ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية.
وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر من طريقِ المعنى. وفي توجيهِ ذلك غموضٌ: فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ، صار ذلك العملُ جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة. قلت: فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم. وقال آخرون في توجيه ذلك: إنَّ حصولَ الظفر وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.
(8/17)
---(1/3057)
وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً: "يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التبوةَ يُراد بها هنا [أنَّ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو تبوةٌ لكم أيُّها المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال". قال الشيخ: "وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر، وهو بالنسبة للمؤمنين الذين أُمِرُوا بقتال الكفار. والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، والمعنى: على مَنْ يشاء من الكفار، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم، قد يكونُ سبباً لإِسلام كثير. ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً، كابن أبي سرح وغيره". قلت: فيكون هذا توجيهاً رابعاً، ويصيرُ المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي: يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم.
* { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ}: يجوز في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلاة لعطفِها عليها أي: الذين عاهدوا ولم يتَّخذوا. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحال من فاعل "جاهدوا" أي: جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متخذين وَلِيْجَةً.
(8/18)
---(1/3058)
و "وَلِيجة" مفعول. و {مِن دُونِ اللَّهِ}: إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التصيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ إن كان على بابه. والوَليجة: فَعِيلة مِنَ الوُلوج وهو الدخول. والوليجة: مَنْ يُداخِلك في باطن أمورك. وقال أبو عبيدة: "كُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليس منه فهو وليجة، والرجلُ في القوم وليس منهم، يقال له وَليجة"، ويُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع. وقد يُجمع على وَلائج ووُلُج كصحيفة وصحائف وصُحُف. وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي:
2474 - وَلائِجُهُمْ في كل مَبْدَى ومَحْضَرٍ * إلى كلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتَخَوفُ
وقرأ الحسن "بما يَعْملون" بالغَيْبةِ على الالتفات، وبها قرأ يعقوب في رواية سَلاَّم.
* { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}: "أن يَعْمروا" اسم كان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "مسجد الله" بالإِفراد / وهي تحملُ وجهين: أن يُراد به مسجدٌ بعينه، وهو المسجد الحرام لقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وأن يكون اسمَ جنسٍ فتندرجَ فيه سائرُ المساجد، ويدخل المسجد الحرام دخولاً أَوَّلِيَّاً. وقرأ الباقون "مساجد" بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين. ووجه الجمع: إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يُقال لها مسجدٌ، وإمَّا لأنه بقبلهُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
(8/19)
---(1/3059)
قوله: {شَاهِدِينَ} الجمهور على قراءةه بالياء نصباً على الحال مِنْ فاعل "يَعْمُروا". وقرأ زيد بن علي "شاهدون" بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ أيضاً. وقرأ ابن السَّمَيْفع "يُعْمروا" بضم الياء وكسرِ الميم مِنْ أَعْمَرَ رباعياً، والمعنى: أان يُعينوا على عمارته.
قوله: {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الجمهورُ على "أنفسهم" جمعَ نَفْس. وقُرىء "أَنْفَسهم" بفتح الفاء، ووجهُها أن يُراد بالأنْفَس - وهو الأشرفُ الأجلُّ، من النَّفاسة - رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم. قيل: لأنه ليس بَطْنٌ مِنْ بطون العرب إلا وله فيهم وِلدة. وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح.
قوله: {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} هذه جملةٌ مستأنفة، و "في النار" متعلقٌ بالخبر، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة. وقال أبو البقاء: "أي: وهم خالدون في النار، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف". قلت: فيه نظرٌ من حيث إنه يُوهم أن هذه الجملةَ معطوفةٌ على ما قبلها عَطْفَ المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك بل هيس متأنفةٌ، وإذا كان مستأنفةً، فلا يُقال فيها فَصَلَ الظرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنما ذلك في المتعاطَفْين المفردين أو في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} وفي قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وقرأ زيد بن علي: "خالدين" بالياء نصباً على الحال من الضمير المستتر في: الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك: "في الدار زيد قاعداً"، فقد رفع زيد بن علي "شاهدين"، ونصب "خالدون عكسَ قراءةِ الجمهور فيها.
(8/20)
---(1/3060)
* { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}: جمهورُ القراء من السبعة وغيرهم على الجمع. وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإِفراد. والتوجيهُ يُؤْخذ مما تقدم. والظاهر هنا أن الجمعَ هنا حقيقةٌ، لأن المرادَ جميع المؤمنين العائدين لجميع مساجد أقطار الأرض.
قوله: ْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ} الجمهور على قراءتهما مصدرين على فِعالة، كالصِّيانة والوِقاية والتِّجارة، ولم تُقْلب الياء همزة، لتحصُّنها بتاء التأنيث بخلاف رِداء، وعَباءة لطُروء تاء التأنيث فيها، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِن حذف مضاف: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني ليتصادقَ المجعولان، والتقدير: أجعلتمْ أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعِمارةَ المسجد الحرام كمَنْ آمن، أو أَجَعَلْتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمن، أو كعملِ مَنْ آمن.
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو وَجْرة "سُقاة" و "عَمَرَة" بضم السين وبعد الألف تاء التأنيث، وعَمَرة بفتح العين والميم دون ألف. وهما جمع ساقٍ وعامر كما يُقال: قاضٍ وقُضَاة ورَام ورُماة وبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة. والأصل: سُقَيَة، فَقُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور.
وقرأ سعيد بن جبير كذلك إلا أنه نَصَبَ "المسجد الحرام" بـ"عَمَرَة" وحَذَفَ التنوينَ لالتقاء الساكنين كقوله:
(8/21)
---(1/3061)
2475 - .................. * ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
وقوله: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} وقرأ الضحاك "سُقاية" بضم السين و "عمرة"، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع "ساقٍ" على فُعالة نظرٌ لا يَخْفى. والذي ينبغي أن يُقالَ ولا يُعْدَلَ [عنه] أن يُجعل هذا جمعاً لسِقْي، والسِّقْي هو الشيء المَسْقِيّ كالرِّعْي والطِّحْن، وفِعْل يُجمع على فُعال، قالوا: ظِئْر ظُؤار، وكان مِنْ حقه أن لا تدخلَ عليه تاءُ التأنيث كما لم تدخل في "ظُؤَار"، ولكنه أنَّث الجمعَ كما أنَّث في قولهم حِجارة وفُحولة. ولا بد حينئذٍ من تقديرِ مضافٍ أي: أجعلتم أصحابَ الأشياءِ المَسْقِيَّة كمَنْ آمن.
قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ} في وجهان / أظهرهما: أنها مستأنفة، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين. والثاني: ان يكونَ حالاً من المفعولين للجَعْل والتقدير: سوَّيْتُهم بينهم في حال تفاوتهم.
* { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ }
وقد تقدَّم اختلافُ القرَّاء في "يبشرهم" وتوجيه ذلك في آل عمران، وكذلك الخلافُ في {وَرِضْوَانٌ}. وقرأ الأعمش "رضوان" بضمِّ الراء والضاد، ورَدَّها أبو حاتم وقال: "لا يجوز"، وهذا غيرُ لامٍ للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب قالوا: السُّلُطان بضمّ السين واللام.
(8/22)
---(1/3062)
قوله: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ صفةً لـ"جنات"، وأن تكونَ صفةً لـ"رحمة"؛ لأنهم جَوَّزوا في هذه الهاءِ أن تعودَ للرحمة وأن تعودَ للجنات. وقد جَوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: "يُبَشِّرهم"، كأنه قيل: لهم في تلك البشرى، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوز أن يكون "نعيم" فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أَوْلى لأنه يَصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوز أن يكونَ مبتدأً، وخبرُ الجار قبله. وقد تقدَّم تحقيق ذلك غيرَ مرة. و "خالدين" حالٌ من الضمير في "لهم".
* { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
قوله تعالى: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ}: "آباؤكم" - وما عُطِف عليه - اسم كان، و "أحبَّ" خبرها فهو منصوب. وكان المتفاصح الحجاجُ ابن يوسف يَقْرؤها بالرفع، ولَحَّنه يحيى بن يعمر فنفاه. قال الشيخ: "إنما لَحَّنه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقَلَة وإلا فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في "كان" اسماً، وهو ضميرُ الشأن ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملةُ خبراً عن "كان". قلت: فيكون كقول الشاعر:
2476 - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفان * شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ
هذا في أحد تأويلَي البيت. والآخر: أنَّ "صنفان" خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحرث ومَنْ وافقهم.
(8/23)
---(1/3063)
والحكاية التي أشار إليها الشيخُ مِنْ تلحين يحيى للحجاج، هي أن الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هي تجدني ألحن؟، فقال: الأمير أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزَمْتُ عليك إلا ما أخبرتني وكان يُعَظّمون عزائم الأمراء. فقال: نعم. فقال: في أي شيء؟، فقال: في القرآن. فقال: ويلك!! ذلك أقبحُ بي. في أيِّ آية؟، قال: سَمِعْتك تقرأ: قل إن كان آباؤكم، إلى أن انتهيت إلى "أحبُّ" فرفعتَها. فقال: إذن لا تسمعني أَلْحَنُ بعدها، فنفاه إلى خراسان، فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً وفيه: "وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصَعِدنا عُرْعُرَة الجبل". فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟، فقيل له: إنَّ يحيى هناك. فقال: إذن ذلك.
وقرأ الجمهور: "عشيرتكم" بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم: "عشيراتكم" جمعَ سلامة. ووجهُ الجمع، أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرةً فَحَسُن الجمع. وزعم الأخفش أن "عشيرة" لا تجمع بالألف والتاء إنما تُجْمع تكسيراً على عشائر. وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءةُ أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي رجاء. وقرأ الحسن "عشائركم" قيل: وهي أكثر مِنْ عشيراتكم.
والعَشِيرة: هي الأهلُ الأَدْنَون. وقيل: هم أهل الرجلِ الذين يَتَكثَّر بهم أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أن العشيرَة هي العدد الكامل، فصارت العشيرة اسماً لأقارب الرجل الذي يَتَكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرةَ أم فوقها. وقيل: هي الجماعة المجتمعة ينسَبٍ أو عَقْدٍ أو وِداد كعقد العِشْرة.
* { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }
(8/24)
---(1/3064)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}: فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه عطفٌ على محلِّ قوله "في مواطنَ"، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة "في" على ظرفِ المكان المجرورِ بها. ولا غَرْو في نسف ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول: "سرت أمامك يوم الجمعة" إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله. الثاني: زعم ابن عطية أنه يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ "مواطن" بتقدير: وفي، فحذف حرفَ الخفض. وهذا لا حاجةَ إليه. الثالث: قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف عطفَ الزمانَ على المكان، وهو "يوم حنين" على "مواطن"؟، قلت: معناه: وموطن يوم حنين أو في أيام مواطنَ كثيرة ويوم حنين". الرابع: أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ، فحينئذٍ إنما عُطِف زمانٌ على زمان. قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه: "ويجوز أن / يُراد بالمواطن الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون "يومَ حنين" منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه: "إذا أعجبتكم" بدلٌ من "يوم حنين"، فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلاً خاصاً به". قلت: لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل المواطن بالوقت ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟
وأمَّا قولُه: "على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره" كلامٌ حسن، وتقديره أن الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان، فإذا جعلنا "إذ" بدلاً من "يوم" كان معمولاً له؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة. إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل: في جميع المواطن حتى يلزم ما قال، ويمكن أن يكونَ أراد بالكثرة الجميعَ، كما يُراد بالقلة العدمُ.
(8/25)
---(1/3065)
قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} "ما" مصدريةٌ أي: رَحْبها وسَعَتها. وقرأ زيد ابن علي في الموضعين: "رَحْبَت" بسكون العين، وهي لغة تميم، يَسْلُبون عين فَعُل فيقولون في شَرُف: شَرْف.
والرُّحْب بالضم: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع. يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: "رَحْبَتْكم الدار" فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم.
وحُنَيْن اسمُ واد، فلذلك صَرَفَه. وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه في قوله:
2477 - نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه * بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال
وهذا كما قال الآخر في "حراء" اسمِ الجبل المعروف اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله:
2478 - ألسنا أكبر الثَّقَلَيْتنِ رَحْلاً * وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا
والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد قال:
2479 - وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى * بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ مُنْهوي
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}: على المبالغة، جُعِلوا نفسَ النَّجَس أو على حذف مضاف. وقرأ أبو حيوة "نِجْسٌ" بكسر النون وسكون الجيم، ووجهُه أنه اسمُ فاعل في الأصل على فَعِل مثل كَتِف وكَبِد، ثم خُفِّفَ بسكون عَيْنِه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مَقامه أي: فريق نجس أو جنس نجس. وقرأ ابن السميفع "أنجاس" بالجمع، وهي تحتمل أن تكونَ جمعَ قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة.
(8/26)
---(1/3066)
* { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ}: بيانٌ للموصول قبلَه. والجِزْية: فِعْلَة لبيان لاهيئة كالرِّكْبَة لأنها مِنَ الجزاء على ما أُعْطُوه من الأمر. و "عن يدٍ" حالٌ أي: يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء. وكذلك "وهم صاغرون".
* { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
قوله تعالى: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}: قرأ عاصم والكسائي بتتنوين "عُزَيْرٌ" والباقون من غير تنوين. فأمَّا القراءة الأولى فيُحتمل أن يكونَ اسماً عربيّاً مبتدأً، و "ابنُ" خبره، فتنوينه على الأصل. ويُحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللفظِ كنوح ولوط، فصُرِفَ لخِفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني أنه تصغيرُ "عَزَر" فحكمُه حكمُ مُكَبَّرة. وقد رُدَّ هذا القولُ على أبي عبيد بأنه ليسَ بتصغيرٍ، إنما هو أعجمي جاء على هيئة التصغيرِ في لسانِ العربِ، فهو كسليمان جاء على مثال عثيمان وعُبَيْدان.
(8/27)
---(1/3067)
وأمَّا القراءة الثانية فَيَحتمل حَذْفُ التنوينِ ثلاثةَ أوجه أحدها: أنه حُذِفَ لالتقاء الساكنين مرفوعٌ بالابتداء و "ابن" خبره. الثاني: أن تنوينَه حُذِفَ لوقوع الابن صفة له، فإنه مرفوعٌ بالابتداء و "ابن" صفته، والخبرُ محذوفٌ أي: عزيرٌ ابن الله نبيُّنا أو إمامنا أو رسولنا، وكان قد تقدَّم أنه متى وقع الابنُ صفةً بين علمين غيرَ مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حُذِفَتْ ألفُه خطاً وتنوينُه لفظاً، ولا تَثْبت إلا ضرورة، وتقدَّم الإِنشادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون "عزير" خبقر مبتدأ مضمر أي: نبيُّنا عُزَيْر و "ابن" صفةٌ له أو بدل أو عطف بيان. الثالث: أنه إنما حُذف لكونِه ممنوعاً من الصرف للتعريف والعجمة، ولم يُرْسم في المصحف إلا ثابت الألف، وهي تَنْصُرُ مَنْ / يجعلُه خبراً.
وقال الزمخشري: "عزير ابن: مبتدأ وخبره، كقوله: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} . و "عُزَيْر" اسم أعجمي كعزرائيل وعيزار، ولعجمته وتعريفه امتنع مِنْ صرفه، ومَنْ صرفه جعله عربياً، وقول مَنْ قال: سقوطُ التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ}، أو لأنَّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوفاً وهو "معبودنا" فتمحُّلٌ عند مَنْدوحة.
(8/28)
---(1/3068)
قوله: {يُضَاهِئُونَ} قرأ العامة: "يضاهئُون" بضم الهاء بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة بعدها همزةٌ، بعدها واو. فقيل: هما بمعنى واحد وهو المشابهة وفيه لغتان: ضاهَأْتُ وضاهَيْت، بالهمزة والياء، والهمزُ لغة ثَقيف. وقيل: الياء فرع عن الهمز كما قالوا: قرأ وقَرَيْت وتوضَّأت وتوضَّيْت، وأَخْطَأْت وأَخْطَيْت. وقيل: بل يضاهِئُون بالهمز مأخوذ من يضاهِيَوْن، فلمَّا ضُمَّت الهاءُ قُلِبَتْ همزةً. وهذا خطأ لأن مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضعِ حتى تُقْلَبَ همةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذفِ الياء نحو "يُرامُون" من الرمي و "يُماشُون" من المشي. وزعم بعضُهم أنه مأخوذٌ من قولهم: امرأة ضَهْيَا بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، و التي لا تَحيض، سُمِّيت بذلك لمشابهتها الرجال. يقال: امرأة ضَهْياً بالقصر وضَهْيَاء بالمد كحمراء، وضَهْياءَة بالمدِّ وتاءِ التأنيث ثلاث لغات، وشذَّ الجمع بين علامتَي تأنيث في هذه اللفظة. حكى اللغة الثالث الجرمي عن أبي عمرو الشيباني. قيل: وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين، فإن الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصليه.
فإن قيل: لِمَ يُدَّعَ أن همزةَ ضهياء أصلية وياؤها زائدة؟، فالجواب أن فَعْيَلاً بفتح الياء لم يَثْبت. فإن قيل: فلِمَ لم يُدَّع أن وزنَها فَعْلَل كجعفر؟، فالجواب أنه قد ثبتت زيادة الهمزة في ضَهْياء بالمدِّ فَلْتَثْبت في اللغة الأخرى، وهذه قاعدةٌ تصريفية.
والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره: يُضاهي قولُهم قول الذين، فَحُذِف المضاف، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ.
(8/29)
---(1/3069)
والجمهور على الوقف على "أفواههم" ويَبْتدئون بـ"يضاهئون" وقيل: الباءُ تتعلَّق بالفعل بعدها. وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ. واستعضف أبو البقاء قراءةَ عاصم وليس بجيدٍ لتواترها.
* { اتَّخَذُوااْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوااْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوااْ إِلَاهاً وَاحِداً لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}: عطف على "رُهْبانَهم" والمفعول الثاني محذوف، إذ التقدير: اتخذ اليهود أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أرباباً، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في "اتخذوا" وإن كان مقسماً لليهود والنصارى، وهذا مراد أبي البقاء في قوله: "أي واتخذوا المسيحَ ربّاً، فحذف الفعل وأحد المفعولين، وجَوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعَبَدوا المسيح ابن مريم".
* { هُوَ الَّذِيا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }
(8/30)
---(1/3070)
قوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ}: {إِلاَّ أَن يُتِمَّ} مفعول به، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي، فقال الأخفش الصغير: "معنى يَأْبَى يمنع". وقال الفراء: "دَخَلَتْ "إلا" لأنَّ في الكلام طَرَفاً من الجحد". وقال الزمخشري: "أَجْرى "أبى" مُجرى "لم يُرِدْ"، ألا ترى كيف قُوبل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: "ويأبى الله"، و [كيف] أوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يتُتِمَّ نوره". وقال الزجاج: "إن المستثنى منه محذوف تقديره: ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره". وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره، فجعلهما مذهباً واحداً فقال: "يأبى بمعنى يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لِما فيه من معنى النفي، والتقدير: يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ}: يحتمل أن يكون متعدياً أي: يصدون / الناس، وأن يكون قاصراً، كما قال الشيخ. وفيه نظر لأنه متعدٍّ فقط، وإنما يُحْذف مفعولُه، ويراد أو لا يراد كقوله: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الجمهورُ على قراءته بالواو. وفيه تأويلان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ، و "الذين" مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط؛ ولذلك دَخَلَتْ الفاءُ في خبره. والثاني: أنه من أوصافِ الكثيرِ من الأحبار الرهبان، وهو قول عثمان ومعاوية، ويجوز أن يكونَ "الذين" منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يفسِّره "فَبَشِّرْهم" وهو أرجحُ [لمكان الأمر]
(8/31)
---(1/3071)
وقرأ طلحة بن مصرف "الذين" بغير واو، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين، ولكنَّ كونَها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرهبان أظهرُ مِنَ الاستئناف عكسَ التي بالواو.
والكَنْزُ: الجمع والضم، ومنه ناقة كِناز أي: منضمَّة الخَلْق، ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما وإن غلب عليهما قال:
2480 - لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ جائِعَهُمْ * قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي البُرُّ مَكْنوزُ
وقال آخر:
2481 - على شديدٍ لحُمُه كِنازِ * باتَ يُنَزِّيني على أَوْفازِ
قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} تقدَّم شيئان وعاد الضمير [على] مفرد فقيل: إنه نم بابِ ما حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يَكْنزون الذهب ولا يُنْفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات ودل على هذا جُزْؤه المذكورٌ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدَيْن وغيرِهم، فلمَّا ذَكَر الجزءَ دلَّ على الكل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار، ونظيره قول الآخر:
2482 - ولو حَلَفَتْ بين الصَّفا أمُّ عامرٍ * ومَرْوَتِها بالله بَرَّتْ يمينها
أي: ومروة مكرة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤُها وهو الصفا. كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمال، وهو أن يكون الضمير عائداً على الصَّفا، وأُنِّثَ حَمْلاً على المعنى، إذ هو في معنى البقعة والحَدَبة. وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب لأن تأنيثه أشهر، ويكون قد حُذِفَ بعد الفضة أيضاً. وقيل: يعودُ على النفقة المدلول عليها بالفعل كقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ}. وقيل: يعودُ على الزَّكاة أي: ولا ينفقون زكاةَ الأموال. وقيل: يعودُ على الكنوز التي يدل عليها الفعل.
* { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }
(8/32)
---(1/3072)
قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى}: منصوبٌ بقوله: "بعذاب أليم"، وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه عذاب أي: يُعَذَّبون يوم يُحمى، أو اذكر يومَ يُحْمى. وقيل: هو منصوبٌ بأليم. وقيل: الأصل: عذاب يوم، وعذاب بدل مِنْ عذاب الأول، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامَه. وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر وسيأتي بيانُه.
و "يُحمى" يجوز أن يكونَ مِنْ حَمَيْتُ أو أَحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً. يقال: حَمَيْتُ الحديدة وأَحْمَيْتها أي: أَوْقَدَتْ عليها لتَحْمَى. والفاعلُ المحذوفُ هو النارُ تقديرُه: يوم تُحمى النار عليها، فلما حُذِفَ الفاعل ذهبت علامةُ التنيث لذَهابِه، كقولك: "رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير"، ثم تقول: "رُفع إلى الأمير". وقيل: المعنى: يَحْمَى الوقود.
وقرأ الحسن: "تَحْمَى" بالتاء من فوق أي:النار وهي تؤيد التأويل الأول. وقرأ أبو حيوة: "يَكوى" بالياء من حت، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ. والجمهور "جباهُهم" بالإِظهار، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم: {سَلَكَكُمْ} {مَّنَاسِكَكُمْ}، ومثل: جباههم: "وجوههم" المشهور الإِظهار.
قوله: {هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} معمولٌ لقول محذوف أي: يُقال لهم ذلك يومَ يحمى. وقوله: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ المكنوزَ لا يُذاق. و "ما" يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكونَ مصدرية. وقرىء "تَكْنُزون" بضم عين المضارع، وهما لغتان يقال: كَنَزَ يَكْنِز، وكَنَزَ يَكْنُز.
* { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
(8/33)
---(1/3073)
قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ}: العِدَّة: مصدر بمعنى العَدَ. و "عند الله" منصوبٌ به، أي في حَكْمه. و "اثنا عشر" خبرُ إنَّ. وقرأ هبيرة عن حفص - وهي قراءةُ أبي جعفر - اثنا عْشَرَ بسكون العين مع ثبوتِ الألِف قبلَها، واستُكْرِهَتْ من حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما كقولهم: "التقت / حَلْقتا البِطان" بإثباتِ الألفِ من "حَلْقتا". وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حُمِل عشر في المذكر على عشرة في المؤنث.
و "شَهْراً" نصبٌ على التمييز، وهو مؤكِّد لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: "عندي من الدنانير عشرون ديناراً". والجمع متغاير في قوله: "عدَّة الشهور"، وفي قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} لأن هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة.
قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} يجوز أن يكونَ صفةً لاثنا عشر، ويجوز أن يكونَ بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ؛ لأنه يلزمُ منه أن يُخْبر عن الموصول قبل تمامِ صلتِه؛ فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيلِ البدلية، وعلى تقدير صحةِ ذلك من جهة الصناعة، كيف يَصِحُّ من جهة المعنى؟، ولا يجوز أن يكون {فِي كِتَابِ اللَّهِ} متعلقاً بـ"عدة" لئلا يلزمَ الفصلَ بين المصدر ومعمولِه بخبره، وقياس مَنْ جوَّز إبدالَه من الظرف أن يجوِّزَ هذا. وقد صَرَّح بجوازه الحوفيُّ.
قوله: {يَوْمَ خَلَقَ} يجوز فيه أن يتعلَّق بـ"كتاب" على أنه يُرادُ به المصدر لا الجثة.ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو {}، ويكون الكتابُ جثةً لا مصدراً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ متعلقاً بـ"عدة"، وهو مردودٌ بما تقدَّم.
(8/34)
---(1/3074)
قوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ صفةً لـ"اثنا عشر". الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار. الثالث: أن تكونَ مستأنفةً. والضمير في "منها" عائدٌ على {اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} لأنه أقربُ مذكورٍ لا على "الشهور". والضمير في "فيهنَّ" عائدٌ على "الاثنا عشر" أيضاً. وقال الفراء وقتادة يعودُ على الأربعةِ الحُرُم، وهذا أحسنُ لوجهين، أحدهما: أنها أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملةَ جمع القلةِ غيرِ العاقل معاملة جماعةِ الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس: "الأجذاع انكسَرْن" و "الجذوع انكسرت" ويجوز العكس.
قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحال: إمَّا مِن الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن "كافَّة" لا يُتَصَرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنها لا تدخلُها أل وأنها لا تُثَنَّى ولا تُجْمع، وكذلك "كافة" الثانية.
* { إِنَّمَا النَّسِياءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِياءُ}: في "النسِيْء" قولان أحدهما: أنه مصدرٌ على فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر. وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: "النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر"، وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله: "وزيادة" واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة". قلت: لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه الزيادة.
(8/35)
---(1/3075)
الثاني:أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول، مِنْ نَسَأه أي أخَّره، فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل، وإلى ذلك نحا أبو حاتم والجوهري. وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى: إنما المؤخَّر زيادة، والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه على حذف المضاف: إمَّا من الأول أي: إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني أي: إنما المُنْسَأ ذو زيادة.
وقرأ الجمهور "النَّسيء" بهمزة بعد الياء. وقرأ ورش عن نافع "النَّسِيّ" بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها. ورُويت هذه عن أبي جعفر والزهري وحميد، وذلك كما خَفَّفوا "برية" و "خطية". وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل: "النَّسْء" بإسكان السين. وقرأ مجاه والسلمي وطلحة أيضاً: "النَّسُوء" بزنة فَعُول بفتح الفاء، وهو التأخير، وفَعول في المصادر قليل، قد تقدَّم منه أُلَيْفاظ في أوائل البقرة، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال:
2483 - ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ * شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما
وقال الآخر:
2484 - نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها * مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ
(8/36)
---(1/3076)
وقوله: {يُضَلُّ بِهِ} قرأ الأخوان وحفص: "يُضَلُّ" مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب وعمرو بن ميمون: "يُضِلُّ" مبنياً للفاعل مِنْ أضل. وفي الفاعل وجهان أحدهما: ضمير الباري تعالى أي: / يُضِلُّ الله الذين كفروا. والثانيك أن الفاعل "الذين كفروا" وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: يُضل الذين كفروا أتباعهم. وقرأ أبو رجاء "يَضَلُّ" بفتح الياء والضاد، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام أضَلُّ بفتحها، والأصل: أَضْلَلُ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لإجل الإِدغام. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب: "نُضِلُّ" بضم نون العظمة و "الذين" مفعول، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمي الله في قراءة ابن مسعود.
قوله: {يُحِلُّونَهُ} فيه وجهان أحدهما: أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال، والثاني: أنها حاليةٌ.
قوله: {لِّيُوَاطِئُواْ} في هذه اللامِ وجهان: أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه. وهذا مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين. والثاني: أن يتعلَّقَ بيُحِلُّونه، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه. وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ.
وقرأ أبو جعفر "ليوطِيُوا" بكسر الطاء وضم الياء الصريحة. والصحيح أنه يَنْبغي أن يُقْرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو.
والمُواطأة: المُوافَقَةُ والاجتماع يقال: تواطَؤُوا على كذا أي: اجتمعوا عليه، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً}، وقُرىء وِطاءً. وسيأتي إن شاء الله.
(8/37)
---(1/3077)
وقرأ الزهري "ليواطِيُّوا" بتشديدِ الياء. هكذا ترجمعوا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى قال بعضهم: "فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخلصيها مِنَ الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها". وهو كما قال.
قوله: "زُيِّنَ" الجمهورُ على "زُيِّن" مبنياً للمفعول، والفاعلُ المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضاً، و "سوء" مفعوله.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }
قوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ}: أصلُه تثاقلتم، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ فاجتُلب همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في {فَادَّارَأْتُمْ}، والأصل: تدارأتم. وقرأ الأعمش "تثاقلتم" بهذا الأصل، و "ما" في قوله "مالكم" استفهامية وفيها معنى الإِنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول.
و "أثَّاقلتم" ماضي اللفظ مضارع المعنى أي: يتثاقلون، وهو في موضع الحال، وهو عاملٌ في الظرف أي: مالكم متثاقلين وقت القول. وقال أبو البقاء: "اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: مالكم تثاقلون وهو في موضع نصب أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل: هو في موضع حال" قال الشيخ: "وهذا ليس بجيدٍ، لأنه يلزمُ منه حذفُ "أَنْ"، لأأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من حرفٍ مصدري والفعل، وحَذْفُ "أَنْ" في نحو هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة، وإذا كان التقديرُ: "في التثاقل" فلا يمكن عملُه في "إذا"، لأنَّ معمول المصدرِ الموصول لا يتقدَّم عليه، فيكون الناصب لـ"إذا" والمتعلَّق به "في التثقال" ما تعلَّق به "لكم" الواقعُ خبراً لـ"ما".
(8/38)
---(1/3078)
وقرىء "أَثَّاقَلْتم" بالاستفهام الذي معناه الإِنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يَعْمل في "إذا"؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكون العاملَ في هذا الظرف: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في "لكم"، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللفظ. والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم. وإليه نحا الزمخشري. والظاهر أن يُقَدَّر: ما لكم تثاقلون إذا قيل، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله: {إِلَى الأَرْضِ} ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد. وقوله: "من الآخرة" تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ "مِنْ" بمعنى بدل كقوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} أي: بدلكم، ومثلُه قولُ الآخر:
2485 - جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا * ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا
وقول الآخر:
2486 - فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً * مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
/ إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك والتقديرُ هنا: اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها. وقال أبو البقاء: "مِن الآخرة في موضع الحال أي: بدلاً من الآخرة"، فقدَّرالمتعلَّقَ خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى.
قوله: {فِي الآخِرَةِ} متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة. فـ"محسوباً" حالٌ مِنْ "متاع". وقال الحوفي: "إنه متعلق بـ"قليل وهو خبر المبتدأ". قال: "وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله المقرونِ بـ"إلا" لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال. ولو قلت: "ما زيدٌ عمراً إلا يَضْرب" لم يَجُزْ".
(8/39)
---(1/3079)
* { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ}: هذا الشرط جوابُه محذوف لدلالة قولِه: "فقد نصره" عليه، والتقديرُ: إنْ لا تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشري فيه وجهين، أحدهما ما تقدم، والثاني: قال: "إنه أَوْجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلن يُخْذَلَ مِنْ بعده". قال الشيخ: "وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشرط لأنَّ إيجابَ النصرةِ له أمرٌ سَبَق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل فالذي يَظْهر الوجهُ الأول".
قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} منصوبٌ على الحال مِنْ مفعول "أخرجه" وقد تقدَّم معنى الإِضافة في نحو هذا التركيب عند قوله {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}. وقرأ جماعة "ثاني اثنين" بسكون الياء. قال أبو الفتح: "حاكها أبو عمرو" ووجهُها أن يكونَ سَكَّن الياءَ تشبيهاً لها بالألفِ، وبعضُهم يخصُّه بالضرورة.
قوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}: بدلُ مِنْ "إذ" الأولى فالعاملُ فيها "فقد نَصَره"، قال أبو البقاء: "ومَنْ مَنَع أن يكونَ العاملُ في البدلِ هو العامل في المبدل منه قَدَّرَ عاملاً آخر، أي: نصره "إذ هما في الغار".
و "الغار" نَقْبٌ يكونُ في الجبلِ، ويُجمع على غِيران ومثله: تاج وتِيْجان، وقاع وقِيعان. والغارُ أيضاً نَبْتٌ طيبٌ الريح، والغارُ أيضاً الجماعة، والغاران البطن والفرج. ألف الغار عن واو.
(8/40)
---(1/3080)
قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ ثانٍ من "إذ" الأولى. وقال أبو البقاء: "إنَّ إذ هما في الغار، وإذ يقول ظرفان لثاني اثنين"، والضمير في "عليه" يعود على أبي بكر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السيكنة دائماً. وقد تقدم القول في {السَّكِينَةَ}. والضمير في "أيَّده" للنبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ مجاهد "وأَيَدَه". بالتخفيف. و "لم تَرَوْها" صفة لجنود.
قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} الجمهورُ على رفع "كلمة" على الابتداء، و "هي" يجوزُ أَنْ تكونَ مبتدأ ثانياً، و "العُلْيا" خبرها، والجملة خبر الأول، ويجوز أن تكونَ "هي" فصلاً و "العليا" الخبر". وقُرِىء "وكلمةَ الله" بالنصب نسقاً على مفعولَيْ جَعَلَ، أي: وجعل كلمة الله هي العليا. قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ لثلاثة أوجه، أحدها: وَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر، إذ الوجهُ أن تقولَ: وكَلِمَتُه. الثاني: أن فيه دلالةً على أنَّ كلمة الله كانت سُفْلى فصارت عليا، وليس كذلك. الثالث: أن توكيدَ مثلِ ذلك بـ"هي" بعيد، إذ القياسُ أن يكونَ "إياها". قلت: أما الأولُ فلا ضعفَ فيه لأنَّ القرآنَ ملآنَ من هذا النوع وهو مِنْ أحسنِ ما يكون لأن فيه تعظيماً وتفخيماً. وأمّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر وهو أن يكون الشيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدل التصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة. وأمَّا الثالث فـ"هي" ليست تأكيداً البتة إنما "هي" ضمير فصل على حالها، وكيف يكون تأكيداً وقد نَصَّ النحويون على أن المضمر لا يؤكد المظهر؟
* { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
وانتصب {خِفَافاً وَثِقَالاً}: على الحال من فاعل "انفروا".
(8/41)
---(1/3081)
* { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً}: اسمُ كان ضميرٌ يعود على دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتُهم إليه. وقرأ عيسى بن عمر والأعرج "بَعِدَت" بكسر العين. وقرأ عيسى "الشِّقَّة" بكسر الشين أيضاً. قال أبو حاتم: "هما لغةُ تميم".
والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ اشتقاقاً مِنَ الشِّق أو المَشَقَّة.
قوله: {بِاللَّهِ} متعلقٌ بـ"سَيَحْلِفُون"، وقال الزمخشري: "بالله" متعلقٌ بـ"سَيَحْلِفُون"، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سيَحْلِفون، يعني المتخلِّفين عند رجوعِك متعذِّرين يقولون: باللَّهِ لو استطعنا، أو وسَيحلفون بالله يقولون: لو اسْتَطَعْنا، وقوله "لَخَرَجْنا" سدَّ مَسَدَّ جواب القسم و "لو" جميعاً". قال الشيخ: "قوله: لخَرَجْنا سدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم و "لو" جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في نحو هذا مذهبان، أحدُهما: أنَّ "لَخَرَجْنا" جواب القسم، وجوابُ "لو" محذوفٌ على قاعدة اجتماع القسم والشرط، إذ تقدَّم القسم على الشرط، وهذا اختيارٌ أبي الحسن ابن عصفور. والآخر: أنَّ "لَخَرَجْنا" جوابُ "لو"، و "لو" وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابنِ مالك، أمَّا أنَّ "لَخَرَجْنا" سادٌّ مَسَدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذَهَبَ إلى ذلك. ويحتمل أن يُتَأول كلامُه على أنَّه لمَّا حُذِف جواب "لو" ودَلَّ عليه جوابُ القسم جُعِل كأنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم وجوابِ لو".
(8/42)
---(1/3082)
وقرأ الأعمش وزيد بن علي "لوُ اسْتَطَعْنا" بضم الواو، كأنهما فرَّا من الكسرة على الواو، وإن كان الأصلَ، وشبَّها واوَ "لو" بواو الضمير كما شبَّهوا واوَ الضمير بواو "لو"، حيث كسَرُوها نحو {اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن "اشْتَرَوا الضلالة"، و "لوَ استطعنا" بفتح الواو تخفيفاً.
قوله: {يُهْلِكُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها حالٌ من فاعل "سَيَحْلِفُون"، أي: سَيَحْلفون مُهْلِكين أنفسَهم. والثاني: أنها بدلٌ من الجملةِ قبلها وهي "سَيَحْلِفون". الثالث: أنها حالٌ من فاعل "لَخَرَجْنا". وقد ذكر الزمخشري هذه الأوجه الثلاثة، فقال: "يُهْلِكون: إمَّا أنَ يكونَ بدلاً من "سيحلفون" أو حالاً بمعنى مُهْلكين. والمعنى: أنهم يُوْقِعُون في الهلاكِ أنفسَهم بحلفهم الكاذب. ويحتمل أن يكونَ حالاً من فاعل "خَرَجْنا"، أي: لَخَرَجْنا وإنْ أهلكْنا أنفسنا. وجاء بلفظ الغائب لأنه مُخْبِرٌ عنهم، ألا ترى أنه لو قيل: سَيَحْلِفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً، يقال: حَلَفَ بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبةُ على حكم الإِخبار، والتكلمُ على الحكاية". قال اشليخ: "أمَّا كونُ "يُهْلِكون" بدلاً مِنْ "سَيَحلِفون" فبعيدٌ؛ لأنَّ الإِهلاكَ ليس مُرادِفاً للحَلف ولا هو نوع منه، ولا يُبدل فِعْلٌ من فعل إلا إنْ كان مرادفاً له أو نوعاً منه" قلت: يَصِحُّ البدل على معنى أنه بدلُ استمال؛ وذلك لأنَّ الحَلْفَ سببٌ للإِهلاك فهو مشتملٌ عليه، فأبدل المُسَبَّب مِنْ سببِه لاشتمالِه عليه، وله نظائرُ كثيرةٌ منها قولُه:
2487 - إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايعها * تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تجيءَ طائعاً
(8/43)
---(1/3083)
فـ"تُؤْخَذ" بدلٌ مِنْ "تبايع" بدلُ اشتمالٍ بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوعاً من الآخر. ثم قال الشيخ: "وأمَّا كونُه حالاً من قوله "لخرجنا" [فالذي يظهرُ أن ذلك لا يجوز لأنَّ قولَه "لخَرَجْنا"] فيه ضمير المتكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم، فلو كان حالً من فاعل "لخَرَجنا" لكان التركيب: نُهْلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا. وأمَّا قياسُه ذلك على "حَلَفَ زيد ليفعلن" و "لأفعلنَّ" فليس بصحيحٍ؛ لأنَّه إذا أَجْراه على ضمير الغيبة لا يَخْرُجُ منه إلى ضمير المتكلم، لو قلت: "حَلَفَ زيد ليفعلن وأنا قائم" على أن يكون "وأنا قائم" حالاً من ضمير "ليفعلن" لم يجز، وكذا عكسُه نحو: "حَلَفَ زيدٌ لأفعلن يقوم" تريد: قائماً لم يجز. وأمَّا قولُه "وجاء به على لفظِ الغائب لأنه مُخْبَرٌ عنهم" فمغالطة، ليس مخبراً عنهم بقوله {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا}، بل هو حاكٍ لفظَ قولِهم. ثم قال: "ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره" كلامٌ صحيحٌ لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةُ، والحالُ من جملةِ كلامِهم المحكيّ، فلا يجوزُ / أن يخالفَ بين ذي الحال وحالِه لاشتراكهما في العامل. لو قلت: "قال زيد خرجت يضرب خالداً" تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: "قالت هند: خرج زيد اضربْ خالداً" تريد: خرج زيد ضارباً خالداً لم يجز" انتهى.
الراب: أنها جملةٌ استئنافيةٌ أخبر الله عنهم بذلك.
* { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }
(8/44)
---(1/3084)
قوله تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}: "لِمَ" و "لهم" كلاهما متعلقٌ بـ أَذِنْتَ. وجاز ذلك لأنَّ معنى اللامين مختلف، فالأولى للتعليلِ، والثانيةُ للتبليغ، وحُذِفَتْ ألفاً ما الاستفهاميةِ لانجرارِها. وتقديمُ الجارِّ الأول واجبٌ لأنه جرَّ ما له صدرُ الكلام. ومتعلَّقُ الإِذْنِ محذوفٌ، يجوز أن يكونَ القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق مِن اعتذارهم عن تَخَلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوز أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج لأنَّ خروجَهم فيه مفسدةٌ مِنَ التحذيل وغيرشه يدل عليه {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} "حتى" يجوز أن تكون للغاية، ويجوزُ أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ: إمَّا بمعنى إلى وإمَّا اللام، و "أَنْ" مضمرةٌ بعدها ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ. قال أبو البقاء "تقديره: هلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يتبيَّنَ أو ليتبيَّن. وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدلُّ على المحذوف، ولا يجوزُ أن تتعلَّقَ "حتى" بـ"أَذِنْتَ" لأن ذلك يوجب أن يكونَ أَذِن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبيين، وذلك لا يُعاتَبُ عليه". وقال الحوفي "حتى غاية لَمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم حتى يتبيَّنَ له العُذْر". قلت: وفي هذه العبارةِ بعَضُ غضاضة.
* { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {أَن يُجَاهِدُواْ}: فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلَّقُ الاستئذانن أي: لا يستأذنوك في الجهاد، بل يَمْضون فيه غير مترددين. والثاني: أن متعلق الاستئذان محذوف و "أن يُجاهدوا" مفعولٌ من أجله تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه.
(8/45)
---(1/3085)
* { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }
قوله تعالى: {لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}: العامَّةُ على "عُدّة" بضم العين وتاء التأنيث وهي الزّضادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية "عُدَّةُ" كذلك إلا أنه جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج. واختُلِف في تخريجِها فقيل: أصلُها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين. وجعل الفراء من ذلك قولَه تعالى: {وَإِقَامَ الصَّلاَة}، ومنه قولُ زهير:
2488 - إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا * وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعدُوا
يريد: عِدَّة الأمرِ. وقال صاحب "اللوامح": لمَّا أضافَ جعل الكناية ناسبةً عن التاء فأسقطها؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في الوجه". وقال أبو حاتم: "هو جمع عُدَّة كـ بُرّ جمع بُرّة، ودُرّ جمع دُرَّة، والوجهُ فيه عُدَد، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف.
وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان "عِدَّةُ" بكسر العين مضافةً إلى هاءِ الكناية. قال ابن عطية: "وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ. وقُرىء أيضاً "عِدَّة" بكسر العين وتاء التأنيث، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح مشتقاً من العَدَد.
(8/46)
---(1/3086)
قوله: {وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ} الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل؛ ولذلك قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلت: لمَّا كان قولُه {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ} معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: ولكنْ كره الله [انبعاثُهم]، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم، كما [تقول: ما] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ" انتهى. يعني أن ظاهر الآية يقتضي أنَّ ما بعد "لكن" موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا بين ضدين أو نقيضين أو خلافين - على / خلاف في هذا الأخير - فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال الشيخ: "وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني: ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء، لأن المثالَ واقعٌ فيه "لكن" بين [ضدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها "لكن" بين] متفقين من جهة المعنى"، قلت: مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن كانا يتلاقيان في المعنى، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً.
والتَّثْبيطُ: التَّعْويق. يقال: ثَبَّطْتُ زيداً أي: عُقْتُه عَمّضا يريده من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير. والمراد بقوله "اقعدوا" التَّخْلية وهو كنايةٌ عن تباطُئِهم، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزَّمْنى وذوي الأعذار، وليس المراد قعوداً كقوله:
2489 - دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها * واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ الكاسي
* { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم}: أي: في جيشكم وفي جمعكم. وقيل: "في" بمعنى مع، أي: معكم. وتقدَّم تفسير "الخبال" في آل عمران.
(8/47)
---(1/3087)
وقوله: {إِلاَّ خَبَالاً} جَوَّزوا فيه أن يكون استثناء متصلاً وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ "زاد" يتعدى لاثنين. قال الزمخشري: "المستثنى منه غيرُ مذكور، فالاستثناءُ من أعمِّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلاً فإن الخَبال بعضُ أعمِّ العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً". وجَوَّز فيه أن يكونض منقطعاً والمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدةً ولكنْ خبالً، وهذا يجيءُ على قول مَنْ قال إنه لم يكن في عَسْكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خَبال، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العَسْكر خبالٌ أصلاً فكيف يُستثنى شيءٌ لم يكنْ ولم يُتوهَّم وجوده؟
قوله: {خِلاَلَكُمْ} منصوبٌ على الظرفِ. والخِلال: جمع خَلَل وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين ويُستعار في المعاني فيُقال: في هذا الأمر خَلل.
والإِيُضاع: الإِسْراع يُقال: أَوْضَعَ البعيرُ، أي: أسرع في سَيْره قال امرؤ القيس:
2490 - أرانا مُوضِعينَ لأَمْرِ غيبٍ * ونُسْحَرُ بالطعامِ والشراب
وقال آخر:
2491 - يا لَيْتَني فيها جَذَعْ * أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ومفعول "أوضعوا" محذوف"، أي: أوضعوا ركائبهم لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي. ويُقال: وَضَعَتْ الناقةُ تَضَعُ: إذا أَسْرعت، وأوضعتها أنا. وقرأ ابن أبي عبلة {ما زادَكم إلا خَبالاً}، أي: ما زادكم خروجهم. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: "ولأَوْفَضوا" وهو الإِسراع أيضاً من قوله تعالى: {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}، وقرأ الزبير "ولأَرْفَضُوا" بالراء والفاء والضاد المعجمة مِنْ رَفَضَ، أي: أٍرع أيضاً، قال حسان:
2492 - بزجاجةٍ رَقَصَتْ بما في جَوْفِها * رَقْصِ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ
وقال:
2493 - ................ * والراقصاتِ إلى مِنَىً فالغَبْغَبِ
يُقال: رَفَضَ في مِشْيته رَفْضاً ورَفَضاناً.
قوله: {يَبْغُونَكُمُ} في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "أَوْضَعوا"، أي: لأَسْرَعوا فيما بينكم حالَ كونهم باغين، أي: طالبين الفتنةَ لكم.(1/3088)
(8/48)
---
قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول "يَبْغُونكم" أو مِنْ فاعله، وجاز ذلك لأن في الجملة ضميريهما. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم مَنْ يَسْمع لهم ويُصْغِي لقولِهم. ويجوز أن يكونَ المرادُ: وفيكم جواسيسُ منهم يسمعون لهم الأخبارَ منكم، فاللامُ على الأول للتقوية لكون العاملِ فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم.
ورُسِم في المصحف {ولا أَوْضَعُوا خلالكم} بألف بعد "لا"، قال الزمخشري: "كانت الفتحة تُكْتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك أثرٌ في الطباع فكتبوا صورةَ الهمزةِ ألفاً وفتحتَها ألفاً أخرى، ونحوه، {أو لا أذبحنَّه} يعني في زيادة ألف بعد "لا"، وهذا لا يجوزُ القراءة به، ومَنْ قرأه متعمداً يكفر.
* { لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }
وقرأ مسلمة بن محارب "وقَلَبوا" مخففاً. وقوله "وهم كارهون" حالٌ والرابطُ الواو.
* { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }
(8/49)
---(1/3089)
قوله تعالى: {مَّن يَقُولُ ائْذَن}: كقوله {يَاصَالِحُ ائْتِنَا} من أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واواً لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةُ من كلمةٍ أخرى. / وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت دَرْجاً. قال أبو جعفر. "إذا دخلت الواو والفاء على "ائذن" فهجاؤها ألفٌ وذال ونون بغير ياء، أو "ثم" فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون. والفرقُ أنَّ "ثم" يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما". قلت: يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب "فَأْذَنْ، وَأْذَنْ"، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ الهمزة التي هي فاءُ الكلمة. وإذا دخلت عليها "ثم" كُتِبَتْ كذا: {ثُمَّ ائْتُواْ}، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة. قلت: وكأنَّ هذا الحكمَ الذي ذَكره مع "ثم" يختصُّ بهذه اللفظة، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة همزة وصلِه خَطَّاً فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع "ثم" هكذا: "نعم أتُوا" وكان القياسُ على "ثمَّ ائْذَنْ": "ثم ائتوا" وفيه نظر.
وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه ابن مجاهد: "ولا تُفْتِينِّي" بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعياً. قال أبو حاتم: "هي لغة تميم". وقيل: أفتنه: أدخله فيها. وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال:
2494 - لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتتنتْ * سعيداً فأمسى قد قلا كلَّ مسلم
ومتعلق الإِذن القعود، أي: ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك.
* { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
(8/50)
---(1/3090)
قوله تعالى: {لَّن يُصِيبَنَآ} قال عمرو بن شقيق: "سمعت أَعْيُنَ قاضي الري يقرأ "لن يُصيبَنَّا" بتشديد النون"، قال أبو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النونَ لا تدخل مع "لن"، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجاز، لأنها مع "هل" قال الله تعالى: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}، قلت: يعني أبو حاتم أنَّ المضارعَ يجوز توكيده بعد أداةِ الاستفهامِ، وابن مصرف يقرأ "هل" بدل "لن"، وهي قراءة ابن مسعود.
وقد اعتُذِر عن هذه القراءة: فإنها حملت "لن" على "لم" و "لا" النافيتين، و "لم" و "لا" يجوزُ توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما. أمَّا "لا" فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال، وأمَّا "لم" فقد سُمع ذلك وأنشدوا:
2495 - يَحْسَبُه الجاهل ما لم يَعْلما * شيخاً على كرسيِّه مُعَمَّمَا
أراد "يَعْلَمَنْ" فأبدل الخفيفةَ ألفاً بعد فتحة كالتنوين.
وقرأ القاضي أيضاً وطلحة: "هل يُصَيِّبُنا" بتشديد الياء. قال الزمخشري: "ووجههُ أن يكونَ يُفَيْعِل لا يُفَعِّل لأنه من بنات الواو لقولهم: الصواب، وصاب يصوب، ومصاوب في جمع مصيبة، فَحَقُّ يُفَعِّل منه يُصَوِّب. ألا ترى إلى قولهم: صَوَّب رأيه، إلا أَنْ يكونَ من لغة من يقول: صاب السهمُ يَصيب كقوله:
2496 - أَسْهُمِيَ الصائِبات والصُّيُبْ
يعني أنه أصله صَوْيِب فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقُلبت الواو ياءً وأدغم فيها، وهذا كما تقدم لك في تحيَّز أن أصله تَحَيْوَز. وأما إذا أخذناه مِنْ لغةِ مَنْ يقول: صاب السهم يَصيب فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة فَعَّل.
* { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوااْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ }
(8/51)
---(1/3091)
قوله تعالى: { إِلاَّ إِحْدَى}: مفعول التربُّص، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصن "إلا أحدى" بوصل ألف "احدى" إجراء لهمزة القطع مُجْرى همزة الوصل فهو كقول الشاعر:
2497 - إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعا
وقول الآخر:
2498 - يابا المغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ * فَرَّجْتُه بالمكر مِنِّي والدَّهَا
وقوله {أَن يُصِيبَكُمُ} مفعول التربُّص.
* { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
قوله تعالى: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}: مصدران في موضع الحال، أي: طائعين أو كارهين. وقرأ الأخوان "كُرْهاً" بالضم وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء.
وقال الشيخ هنا: "قرأ الأعمش وابن وثاب "كُرْهاً" بضم الكاف". وهذا يُوهم أنها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري "هو أمرٌ في معنى الخبر كقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً} ومعناه: لن يُتقبَّل منكم: أنفقتم طَوْعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}. وقوله - يعني كثيِّر عَزَّة -: /
2499 - أسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلُومَةٌ * ......................
أي: لن يغفر الله لهم استغفرت أو لم تستغفر، ولا نلومك أحسنتِ إلينا أو أَسَأْتِ، وفي معناه قول القائل:
2500 - أخوك الي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً * لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ
(8/52)
---(1/3092)
وقال ابن عطية: "هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، وهذا مستمر في كل أمرٍ معه جزاء والتقدير: إن تنفقوا لن يُتقبَّل منكم، وإما إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشرط" قال الشيخ: "ويَقْدح في هذا التخريجِ أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب لجواب الشرط فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب: "لن يتُقبل" بالفاء لأنَّ "لن" لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضُمِّن معناه، ألا ترى جزمَه الجوابَ في نحو: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليك". قلت: إنما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يَجْهَلُ مثل هذه الواضحات. وأيضاً فلا يلزمُ لأن يُعْطى الأمرُ التقديري حكمَ الشيء الظاهر من كل وجه.
وقوله: {إِنَّكُمْ} وما بعد جحارٍ مَجْرى التعليل.
* { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }
قوله تعالى: {أَن تُقْبَلَ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ لـ"منع": أمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يُقْبل وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه، لأنك تقول: منعتُ زيداً حَقَّه ومِنْ حقهِ والثاني: أنه بدلٌ من "هم" في مَنْعِهم، قاله أبو البقاء كأنه يريد بدلَ الاشتمال. ولا حاجَة إليه.
وفي فاعل "منع" وجهان، أحدهما - وهو الظاهر - أنه {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ}، أي: ما منعهم قبولَ نفقتهم إلا كفرُهم. والثاني: إنه ضمير الله تعالى، أي: وما منعهم الله، ويكون "لا أنهم" على إسقاط حرف الجر، أي: لأنهم كفروا.
(8/53)
---(1/3093)
وقرأ الأخَوان: "أن يُقْبَلَ" بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وهما واضحتان لأنَّ التأنيثَ مجازي، وقرأ زيد بن علي كالأخوين، إلا أنه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج: "تُقْبل" بالتاء من فوق، "نفقتُهم" بالإِفراد. وقرأ السُّلمي: "يَقبل" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. وقرىء: "نَقْبل" بنون العظمة، "نفقتهم" بالإِفراد.
قوله: {إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى}، {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} كلتا الجملتين حالٌ من الفاعل قبلها.
* { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
قوله تعالى: {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بـ"تعجبك" ويكون قول {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} جملةَ اعتراض والتقدير: فلا تعجبك في الحياة. ويجوز أن يكونَ الجارُّ حالاً من أموالهم. وإلى هذا نحا ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة قالوا: في الكلام تقديمٌ وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد ليعذبهم بها في الآخرة. قال الشيخ: "إلا أنَّ تقييدَ الإِعجابِ المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فيبقى ذلك كأنه زيادة تأكيد، بخلاف التعذيب فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديمَ والتأخيرَ يخصُّه أصحابنا بالضرورة". قلت: كيف يُقال مع نَصِّ مَنْ قَدَّمْتُ ذكرَهم: "أصحابنا يخصُّون ذلك بالضرورة" على أنه ليس من التقديم والتأخير الذي يكون في الضرورة في شيءٍ إنما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير بالاصطلاح الذي يُخَصُّ بالضرورة، وتسميتهم - أعني ابن عباس ومن معه رضي الله عنهم - إنما يريدون فيه الاعتراضَ المشارَ إليه لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة.
(8/54)
---(1/3094)
والثاني: أن "في الحياة" متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ مصائبُ الدنيا ورزاياها، أو ما لزمهم من التكاليف الشاقة، فإنهم لا يرجون عليها ثواباً. قاله ابن زيد، أو ما فُرِض عليهم من الزكوات قاله الحسن، وعلى هذا فالضمير في "بها" يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على الأولاد والأموار.
* { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }
قوله تعالى: {مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ}: المَلْجَأُ: الحِصْن. وقيل: المَهْرب. وقيل: الحِرْز وهو مَفْعَل مِنْ لجأ إليه يلجأ، أي: انحاز يقال: ألجأته إلى كذا، أي: اضطررته إليه فالتجأ. والملجأ يَصْلُح للمصدر والزمان والمكان، والظاهر منها هنا المكان. والمَغارات جمع مغارة وهي مَفْعَلة مِنْ غار يغور فهي كالغار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب في الأرض كنفق اليربوع. والغار النَّقْبُ في الجبل.
والجمهور على فتح ميم "مغارات" وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بالضم وهو مِنْ أغار / وأغار يكون لازماً، تقول العرب: أغار بمعنى غار، أي: دخل، ويكون متعدياً تقول: أَغَرْتُ زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون مِنْ أغار المتعدي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يُغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبونها.
(8/55)
---(1/3095)
والمُدَّخل: مُفْتَعَلِ مِنَ الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل مُدْتَخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادَّان من الدَّين. وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش مُدَّخَّلاً بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهُها أن الأصل: مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدخَّل بالتضعيف، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ مُدَّخَّلاً نحو مُدَّيَّن. وقرأ الحسن أيضاً ومسلمة بن محارب وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية "مَدْخَلاً" بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة مِنْ دخل. وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضَمَّ الميم جعله مِنْ أدخل.
وهذا من أبرع العلم: ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغَيْران التي يُختفى فيها في أعلى الأماكن في الجبال، ثم الأماكن التي يُختفى فيها في الأماكن السافلة وهي السُّروب وهي التي عبَّر عنها بالمُدَّخل.
وقال الزجاج: "يصح أن تكون المَغَارات مِنْ قولهم: حَبْل مُغار، أي: مُحْكم الفتل، ثم يُستعار ذلك في الأمر المحكم المبرَم فيجيء التأويل على هذا: لو يَجدون نصرة أو أموراً مسددة مرتبطة تعصِمهم منكم. وجعل المُدَّخَل أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم.
وقرأ أُبَيّ مُنْدَخَلاً بالنون بعد الميم مِنْ اندخل قال:
2501 - .................... * ولا يدي في حَمِيتِ السَّمْنِ تَنْدَخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال: "إنما هي بالتاء". قلت وهو معذورٌ لأن انفعل قاصر لا يعدى فكيف بُني منه اسمُ مفعول؟
وقرأ الأشهب العقيلي: "لَوَاْلَوا"، أي: بايعوا وأسرعوا، وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده - وكانت له صحبة - من الموالاة. وهذا ممَّا جاء فيه فَعَّل وفاعَل بمعنى نحو: ضَعَّفْتُه وضاعَفْتُه، قال سعيد بن مسلم أظنها "لَوَأَلُوا" بهمزة مفتوحة بعد الواو مِنْ وَأَلَ، أي: التجأ، وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء:
(8/56)(1/3096)
---
2502 - جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها * كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُؤْقَدِ
وقال آخر:
2503 - إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليه * أَشَظَّ كأنه مَسَدٌ مُغَارُ
وقال آخر:
2504 - وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ * حتى رأيتُ ذوي أحسابِهم جَهَزوا
وقرأ أنس بن مالك والأعمش "يَجْمِزُون"، قال ابن عطية: "يُهَرْوِلُون في مَشْيهِم". قيل: يَجْمِزُون ويَجْمَحون ويشتدُّون بمعنى". وفي الحديث: "فلما أَذْلَقَتْه الحجارة جَمَزَ"، وقال رؤبة:
2505 - إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمَزِ * قارَبْتُ بين عَنَقي وجَمْزي
وهذا أصلُه في اللغة.
وقوله: {إِلَيْهِ}، عاد الضميرُ إلى الملجأ أو على المُدَّخل؛ لأن العطف بـ أو"، ويجوز أن يعودَ على "المَغَارات" لتأويلها بمذكر.
قوله: {مَّن يَلْمِزُكَ} قرأ العامة "يلمزك" بكسر الميم مِنْ لَمَزه يَلْمِزه، أي: عابه، وأصله الإِشارة بالعين ونحوها. قال الأزهري: "أصلُه الدفع، لَمَزْته: دفعته"، وقال الليث: "هو الغَمْز في الوجه ومنه هُمَزَةٌ لُمَزَة، أي: كثيرُ هذين الفعلين.
وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو جراء - ورُويت عن ابي عمرو - بضمها وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش يُلْمِزُك مِنْ أَلْمز رباعياً. وروى حماد بن سلمة: "يُلامِزُك" على المفاعلة من واحدٍ كسافرَ وعاقَب.
وقد تقدَّم الكلام على "إذا" الفجائيةِ مراراً والعامل فيها: قال أبو البقاء: "يَسْخَطون" لأنه قال: إنها ظرفُ مكان، وفيه نظر تقدَّم في نظيره.
* { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ }
(8/57)
---(1/3097)
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ}: الظاهر أن جواب "لو" محذوفٌ تقديره: لكان خيراً لهم. وقيل: جوابُها "وقالوا"، والواوُ مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وقوله "سيُؤْتينا" إنَّا إلى الله راغبون" هاتان الجملتان كالشرح لقولهم: حسبُنا الله، فلذلك يم يتعاطَفا لأنهما كالشيءِ الواحد، فشدَّة الاتصال منعت العطف.
* { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {فَرِيضَةً}: في نصبها وجهان أحدهما: أنها مصدر على المعنى، لأن معنى إنما الصدقات للفقراء في قوة: فرض الله ذلك. والثاني: أنها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني وأبو البقاء، يَعنْيان / من الضمير المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً، أي: إنما الصدقاتُ كانت لهم حال كونها فريضةً، أي: مفروضة. ويجوز أن تكون "فريضة" حينئذ بمعنى مفعولة، وإنما دخلت التاء لجريانها مجرى الأسماء كالنَّطيحة. ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإِيذان بأنهم أرسخُ في استحقاق التصدُّق عليهم مِمَّن سَبَق ذكرُه؛ لأن "في" للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات ويُجعلوا مَظِنَّةً لها ومَصَبَّاً"، ثم قال: "وتكرير "في" في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فيه فضلُ ترجيحٍ لهذين على الرقاب والغارمين".
ونُقِل عن سيبويه أن "فريضة" منصوبٌ بفعلها مقدراً، أي: فرض الله ذلك فريضة. ونُقل عن الفراء أنها منصوبة على القطع.
وقرىء "فريضةٌ" بالرفع على: تلك فريضة.
(8/58)
---(1/3098)
والغُرْم أصله لُزوم شيءٍ شاق ومنه قيل للعشق غرام، ويُعَبَّر به عن الهلاك في قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}، وغَرامَةُ المال فيها مشقة عظيمة.
* { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}: "أُذُن" خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أُذُنُ خيرٍ. والجمهور على جرِّ "خيرٍ" باإِضافة. وقرأ الحسن ومجاهد وزسد بن علي وأبو بكر عن عاصم "أُذنٌ" بالتنوين، "خيرٌ" بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: أنها وصف لـ"أُذُن". والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر. و "خير" يجوز أن تكون وصفاً من غير تفضيل، أي: أُذُنُ ذو خيرٍ لكم، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، أي: كثر خير لكم. وجوَّز صاحب "اللوامح" أن يكونَ "أذن" مبتدأ و "خير" خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذنٌ لا يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم.
ويقال: رَجُلٌ أُذُنٌ، أي: يسمع كل ما يقال. وفيه تأويلان أحدهما: أنه سُمِّي بالجارحة لأنها آلة السماع، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة: عين. وقيل: المرادُ بالأذن هنا الجارحة، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف، أي: ذو أذن. والثاني: أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُللن يقال: أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن، قال:
2506 - وقد صِرْتَ أُذْناً للوُشاة سَميعةً * ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما نالوا
(8/59)
---(1/3099)
قوله: {وَرَحْمَةٌ}، قرأ الجمهور: "ورحمة"، رفعاً نسقاً على "أذن ورحمة"،فيمن رفع "رحمة". وقال بعضهم: هو عطف على "يؤمن"؛ لأن يؤمن" في محل رفع صفة لـ"أذن" تقديره: أذن مؤمنٌ ورحمةٌ. وقرأ حمزةُ والأعمش: "ورحمة" بالجر نسقاً على "خير" المخفوض بإضافة "أذن" إليه. والجملة على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين تقديره: أذن خير ورحمة. وقرأ ابن أبي عبلة: "ورحمةً نصباً على أنه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ}.
والباءُ واللام في "يؤمن بالله" "ويؤمن للمؤمنين" مُعَدِّيتان قد تقدَّم الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع. وقال الزمخشري: "قصد التصديقَ بالله الذي هو نقيض الكفر فعدَّى بالباء، وقصد الاستماعَ للمؤمنين، وأن يُسَلِّم لهم ما يقولون فعدَّى باللام، ألا ترى إلى قوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}. ما أنباه عن الباء، ونحوه: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى} {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} {آمَنتُمْ لَهُ}. وقال ابن قتيبة: "هما زائدتان والمعنى: يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين" وهذا قولٌ مردودٌ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ الحرف الزائد، فلو لم يُقْصَدْ مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد: "هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين". وقيل: يقال: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ، ومنه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}. وعندي أن هذه اللامَ في ضمنها "ما" فالمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به. وقال أبو البقاء: "واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين "يؤمن" بمعنى يُصَدِّق، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان".
* { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }
(8/60)
---(1/3100)
قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}: إنما أفرد الضمير في "يُرْضوه"، وإن كان الأصل في العطف بالواو المطابقةَ لوجوهٍ أحدُها: أنَّ رضا الله ورسولِه شيء واحد: مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع [الله]، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، فلذلك جَعل الضميرين ضميراً واحداً مَنْبَهة على ذلك. والثاني: أن الضميرَ عائد على المثنى بلفظ الواحد بتأويل "المذكور" كقول رؤبة:
2507 - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ * كأنه في الجلد تَوْلِيْعُ البَهَقْ
أي: كأن ذاك المذكور. وقد تقدَّم لك بيان هذا في أوائل البقرة. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخير تقديره: والله أحقُّ أن يُرْضوه ورسولُه. قلت: وهذا على رأي مَنْ يدَّعي / الحَذْفَ من الثاني. الرابع: وهو مذهب سيبويه أنه حَذَفَ خبر الأول وأبقى خبر الثاني. وهو أحسن من عكسه وهو قولُ المبردِ، لأن فيه عدمَ الفصل بين المبتدأ أو خبره، ولأن فيه أيضاً الإِخبار بالشيء عن الأقرب إليه، وأيضاً فهو متعيَّنٌ في قول الشاعر:
2508 - نحن بما عندنا وأنت بما * عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
(8/61)
---(1/3101)
أي: نحن راضُون، حَذَفَ "راضون" لدلالةِ خبر الثاني عليه. قال ابن عطية: "مذهبُ سيبويهِ أنهما جملتان حُذِفَت الأولى لدلالةِ الثانيةِعليها" قال الشيخ: "إن كان الضمير في "أنهما" عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين فكيف يقول "حُذفت الأولى" والأُوْلى لم تُحْذَفْ، إنما حُذِفَ خبرُها، وإن كان عائداً على الخبر وهو {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فلا يكونُ جملةُ إلا باعتقاد أن يكون "أن يُرْضُوه" مبتدأً وخبره "أحقُّ" مقدَّماً عليه، ولا يتعيُنُ هذا الاقولُ إذ يجوزُ أن يكونَ الخبرُ مفرداً بأن يكونَ التقدير: أحقُّ بأَنْ تُرْضُوه". قلت: إنما أراد أبو محمد التقديرَ الأول وهو المشهورُ عند المُعْربين، يجعلون "أحق" خبراً مقدماً، و "أن يرضوه" مبتدأ مؤخراً [أي]: واللَّهُ ورسولُه إرضاؤُه أحقُّ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا قريباً في قوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} و {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
* { أَلَمْ يَعْلَمُوااْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوااْ}: الجمهورُ: على "يَعْلموا" بياء الغيبة رَدَّاً على المنافقين. وقرأ الحسن والأعرج: "تَعْلموا" بتاء الخطاب فقيل: هو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين. وقيل الخطابُ للنبي عليه السلام، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله:
2509 - وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم * ......................
وقيل: الخطابُ للمؤمنين، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام: فعلى الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالث يكون للتقرير.
(8/62)
---(1/3102)
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ "أَنْ" مسدَّ مفعولَيْن عند سيبويه، ومسدَّ أحدِهما والأآخرُ محذوفٌ عند الأخفش، وأن يكونَ بمعنى العرفان فتسدَّ "أنَّ" مسدَّ مفعول. و "مَنْ" شرطية و {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} جوابُها، وفتحت "أنَّ" بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبرِ "أنَّ" الأولى.
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري: "ويجوز أن يكونَ "فأنَّ له" معطوفاً على "أنه" على أنَّ جوابَ "مَنْ" محذوفٌ تقديره: ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ له". وقال الجرمي والمبرد: "أنَّ" الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير: فله نارُ جهنم، وكُرِّرت "أنَّ" توكيداً. وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّواءَ}، ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} قال: "والفاءُ على هذا جوابُ الشرط".
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً بـ"لم"، والجوابُ على قولِه محذوفٌ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ بـ لم"، وأيضاً فإنَّا نجدُ الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره".
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال: "الثانيةُ بدلٌ من الأولى"، وهذا لا يَصِحُّ عن سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع. وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين، أحدهما: أنَّ الفاءَ تمنعُ من ذلك، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب سقوط جواب "مَنْ" مِن الكلام". وقال ابن عطية: "وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى، والُولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط، وتلك الجملةُ هي الخبر. وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، [وأيضاً] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل".
(8/63)
---(1/3103)
وقال بعضهم: "فجيب على تقدير اللام أي: فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره: فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم".
وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها، فَالأَولَى ما تقدم ما ذكره: وهو أن يكونَ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ، وينبغي أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي: فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم وقدَّره غيرُه متأخراً أي: فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ. كذا قدَّره الخفش. ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء بـ"أنَّ" المفتوحةِ من غير تقديمِ خبر، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ تقدُّمِ "أمَّا" نحو: "أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي" أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو: "عندي / أنَّك مُنْطَلق". وقيل: فإن له" خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ له. وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط.
وقرأ أبو عمرو - فيما رواه أبو عبيدة - والحسن وابن لأبي عبلة "فإنَّ" بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنه قرأ [بها] بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهُها.
والمُحَادَّة: المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة. قيل: مشتقةٌ مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد. وقيل: من الحدّ الذي هو الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم: شاقَّه أي: كان في شقٍ غيرِ شقِّ صاحبه. وعاداه: أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته.
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار، ولم يُروَ قولُه:
2510 - فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني * وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ
إلا بالكسرِ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين. و "خالداً" نصبٌ على الحال.
(8/64)
---(1/3104)
* { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوااْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }
قوله تعالى: {أَن تُنَزَّلَ}: مفعولٌ به ناصبُه يحذر، فإن "يَحْذَر" متعدٍّ بنفسِه لقوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لولا أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولاً ثانياً، ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه:
2511 - حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ * ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ
وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع، وهو فاسد أتقنت حكايته في "شرح السهيل" وقال المبرد: "إنَّ" حَذِر لا يتعدى" قال: لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع، وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ "تُنَزَّل" عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أَنْ تُنَزَّل. وقوله "تُنَبِّئهم" في موضع الرفع صفةً لـ"سورة".
* { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ }
(8/65)
---(1/3105)
قوله تعالى: {أَبِاللَّهِ}: متعلقٌ بقوله: "تسهئزون" و "تستهزئون" خبرُ كان. وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل، وقد تقدم معمول الخبر على "كان" فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى. وفيه بحث: وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} قال: "فاليتيم والسائل قد تَقَدَّما على "لا" الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها، ولا يجوز تقديم ما بعد "لا" الناهية عليها لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ حيث لا يتقدَّم العامل. ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} والاعتذار: التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّر المنازل أي: دُرِسَت وأمَّحى أثرها، قال ابن أحمر:
2512 - قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ * أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ
فالمعتذر يزاول محو ذنبه. وقيل: أصله من العَذْر وهو القطع، ومنه العُذْرة لأنها تُقْطع بالافتراع. قال ابن الأعرابي: "يقولون: اعتذرت [المياه أي: انقطعت، وكأن المعتذر يحاول] قطع الذمّ عنه.
* { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }
(8/66)
---(1/3106)
قوله تعالى: {إِن نَّعْفُ}: قرأ عاصم "نَعْفُ" بنون العظمة، "نُعَذِّب" كذلك أيضاً، "طائفةً" نصباً على المفعولية، وهي قراءاتُ أَبي عبد الرحمن السلمي وزيد بن علي. وقرأ الباقون "يُعفَ" في الموضعين بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول ورفع "طائفةٌ" على قيامِها مَقام الفاعل. والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل الأولِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدري: "إن يَعْفُ" بالياء من تحت فيهما مبنياً للفاعل وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب "طائفة" على المفعول به، وقرأ مجاهد "تَعْفُ" بالتاء من فوق فيهما مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ "طائفةً" على المفعول به. وقرأ مجاهد: "تُعفَ" بالتاء من فوق فيهما مبنياً للمفعول روفع "طائفة" لقيامها مَقامَ الفاعل.
وفي القائم مقامَ الفاعل في الفعل الأول وجهان أحدهما: أنه ضمير الذنوب. والثاني: أنه الجارُّ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ حَمْلاً على المعنى. قال الزمخشري: "الوجه التذكير، لأنَّ المسنَد إليه الظرفُ، كما تقول: "سِيْرَ بالدابة" ولا تقول: سِيْرت بالدابة ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن تُرحَمْ طائفة، فأنَّث لذلك وهو غريبٌ".
* { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ}: هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مفسرةٌ لقوله {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} وكذلك ما عُطِف على "يَأْمرون".
* { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }
(8/67)
---(1/3107)
قوله تعالى: {خَالِدِينَ}: حالٌ من المفعول الأول للوعد وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنْ الوعد، وقوله: "هي حَسْبُهم" لا محلَّ لهذه الجملةِ الاستئنافية. وقوله: "هي حسبهم" لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية.
* { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوااْ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}: فيه أوجه أحدها: هذه الكافَ / في محلِّ رفعٍ تقديرُه: إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف الثاني: أنها في محل نصب. قال الزجاج: "المعنى: وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم، فهو متعلقٌ بـ"وَعَدَ". قال ابن عطية: "وهذا قَلِقٌ". وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بـ"يَسْتهزئون". وفي هذا بُعْدٌ كبير.
وقوله: {كَانُواْ أَشَدَّ} تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم. وجعل القراءُ محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال: "التشبيهُ من جهة الفعل أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم" فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاء: "الكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه "وعداً كوعد الذين". وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب:
2513 - ................... * كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا
بإضمار: لم أر.
قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين.
(8/68)
---(1/3108)
قوله: كَالَّذِي خَاضُوااْ} الكافُ كالتي قبله. وفي "الذي" وجوهٌ أحدُها: أن المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع. وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول، وعائدُ الموصول تقديرثه: خاضوه، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنه يتعدَّى بـ"في" فاتُّسع فيه، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بافعل فساغ حَذْفُه، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرذَ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف، وأن يتحدَ المتعلَّق، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم.
الثاني: أنَّ "الذي" صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي: وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا. والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ.
الثالث: أنَّ "الذي" من صفةِ المصدرِ والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه. وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه.
الرابع: أن "الذي" تقعُ مصدريةً، والتقدير: وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله:
2514 - فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ * في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا أي: كنَصْرهم. وقول الآخر:
2515 - يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً * رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
(8/69)
---(1/3109)
أي: ككونِه. وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: أيُّ فائدة في قوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ}، وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} "كالذي خاضوا" [عن أن يقال: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا]؟ قلت: فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتي ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمرَ الراضي به، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم. وأمَّا "وخُضْتُمْ كالذي خاضوا" فمعطوفٌ على ما قبله، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة" يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا.
وفي قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ: وهو أن كانَ الأصلُ: فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى: {لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً} وكقوله قبل ذلك: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ثم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير.
* { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوااْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ}: بدلٌ من الموصول قبلَه وهو ويَحْتمل أن يكونَ بدلَ كل من كل إن كان المرادُ بالذين ما ذُكِر بعده خاصة، وأن يكونَ بدلٌ بعضً مِنْ كل إنْ أريد به أعمَّ من ذلك.
(8/70)
---(1/3110)
والمُؤْتَفكات أي: المُنْقَلبات يُقال: أَفَكْتُه فانتفك أي: قَلَبْته فانقلب، والمادةُ تدل على التحوُّل والتصرف ومنه {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي: يُصْرَف. والضمير في "أَتَتْهم" يجوز أن يعودَ على مَنْ تقدَّم، وخَصّضه بعضُهم بالمؤتفكات.
* { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقوله تعالى: {[بَعْضُهُمْ] أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}: وقال في المنافقين {مِّن بَعْضٍ} إذ لا ولايةَ بين المنافقين. وقوله "يَأْمُرون" كما تقدم في نظيره. والسين في "سيرحمهم الله "للاستقبال، إذ المراد رحمة خاصةٌ وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادَّعَى الزمخشري أنها تفيد وجوبَ الرحمةِ وتوكيدَ الوعيد والوعيد نحو: سأنتقم منك.
* { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ}: حالٌ مقدرة كما تقدم. والعَدْن: الإِقامة يُقال: عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عَدْناً أي ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه المَعْدِن لمُسْتَقَرِّ الجواهر ويُقال: عَدَن عُدُوناً فله مصدران، هذا أصلُ هذه اللفظة لغةً، وفي التفسير ذكروا لها معانيَ كثيرةً. وقال الأعشى في معنى الإِقامة:
2516 - وإن يَسْتضيفوا إلى حِلْمِهِ * يُضافُوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ
أي: ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه "عَدَن" لمدينة باليمن لكثرة المقيمين بها.
(8/71)
---(1/3111)
قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، التكثير يفيد التعليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم مِنَ الجنَّات ومساكنها.
* { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: قال أبو البقاء: "إن قيل: كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة. أحدُها: أن الوَاوَ واو الحال والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم، وتلك الحال حال كفرهم ونفافهم. والثاني: أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهاً على إرادة فعلٍ محذوف تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم. الثالث: أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى، والمعنى: أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم"، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه، بل هذه جملةٌ استئنافية.
* { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوااْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، أي: وما كَرِهوا وعابُوا إلا إغناءَ الله إياهم، وهو من بابِ قولِهم: ما لي عندك ذنبٌ إلا أَنْ أَحْسَنْت إليك، أي: إن كان ثَمَّ ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم، كقوله:
2517 - ولا عيبَ فينا غيرُ عِرْقٍ لمعشرٍ * كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النمل
وقول الآخر:
2518 - ما نقِموا من بني أميةَ إلا * أنهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا
(8/72)
---(1/3112)
وأنهم سادةُ الملوكِ ولا * يَصْلحُ إلا عليهم العَرَبُ
والثاني: انه مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعول به محذوف تقديره: وما نقموا منهم الإِيمان إلا لأجلِ إغناء الله إياهم. وقد تقدّضم الكلامُ على نَقِم.
* { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ }
قوله تعالى: {مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ}: فيه معنى القسم فلذلك أُجيب بقوله: "لنصَّدَّقَنَّ"، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالة هذا الجوابِ عليه، وقد عَرَفْتَ قاعدة ذلك. واللام للتوطئة. ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللام الموطئة له. وقال أبو البقاء؛ "فيه وجهان أحدهما: تقديره فقال: لئن آتانا.
والثاني: أنْ يكونَ "عاهد" بمعنى "قال" فإنَّ العهد قول". ولا حاجة إلى هذا الذي ذكره.
قوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة، والأعمش بالخفيفة.
* { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ }
والجمهور قرؤوا "يَكذبون" مخففاً. وأبو رجاء مثقلاً.
* { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
والجمهورُ على "يَعْلموا" بالياء من تحت. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والسُّلَمي بالخطاب التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين.
* { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(8/73)
---(1/3113)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ}: فيه أوجه، أحدهما: أنه مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أي: هم الذين. الثاني: أنه في محل رفع بالابتداء و "من المؤمنين" حالٌ مِن "الموطَّوِّعين"، و "في الصدقات" متعلق بـ"يَلْمِزون". و {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على "المطَّوِّعين" أي: يَعيبون المياسير والفقراء.
وقال مكي: "والذين" خفضٌ عطفاً على "المؤمنين"، ولا يَحْسُن عَطْفُه على "المطَّوِّعين"، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد، لأن "فيسخرون" عطف على "يَلْمِزُون" هكذا ذكره النحاس في "الإِعراب" له، وهو عندي وهمٌ منه". قلت: الأمر فيه كما ذكر فإن "المطَّوِّعين" قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره.
وقوله: {فَيَسْخَرُونَ} نسقٌ على الصلة، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا. وقيل: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على "الذين يَلْمزون"، ذكره أبو البقاء. وهذا لا يجوزُ؛ لأنه يلزمُ الإِخبارُ عنهم، بقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وهذا لا يكون إلا بأَنْ كان الذين لا يَجِدون منافقين، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟ وقيل: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على المؤمنين، قاله أبو البقاء. وقال الشيخ: "وهو بعيدٌ جداً"، قلت: وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغيرة فكأنه قيل: يَلْمِزون المطَّوِّعين من هذين الصنفين: والمؤمنين والذين لا يجدون، فيكون الذين لا يجدون مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين.
وقال أبو البقاء: "في الصدقات" متعلق بـ"يَلْمِزون"، ولا يتعلق بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي"، وهذا الردُّ فيه نظر، إذ قولُه: "من المؤمنين" حال، والحال ليست / بأجنبي، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن "يطَّوَّع" إنما يتعدى بالباء لا بـ"في"، وكونُ "في" بمعنى الباء خلافُ الأصل.
(8/74)
---(1/3114)
وقيل: {فَيَسْحَرُونَ} خبرُ المبتدأ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى المبتدأ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم: "سيد الجارية مالكها".
الثالث: أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} مِنْ طريقِ المعنى نحو: عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم. الرابع: أَنْ ينتصبَ على الشتم. الخامس: أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في "سِرَّهم ونجواهم".
وقرىء "يُلْمزون" بضم الميم، وقد تقدَّم أنها لغة.
وقوله: {يَلْمِزُونَ} يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً. وقرأ الجمهور "جُهدهم" بضم الجيم. وقرأ ابن هرمز وجماعة "جَهْدهم" بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل:؛ المفتوحُ المشقَّة، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي. وقيل: المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به، والمفتوحُ العملُ.
* { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
قوله تعالى: {سَبْعِينَ مَرَّةً}: منصوبٌ على المصدر كقولك: "ضربتُه عشرين ضربةً" فهو لعددِ مراته. وقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، قد تقدَّم الكلامُ على هذا بُعَيْدَ قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} وأنه نظيرُ قوله:
2519 - أَسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلومةٌ * لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
(8/75)
---(1/3115)
* { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوااْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ }
قوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ}: متعلقٌ بـ"فرح"، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه ومكانِه، والمرادُ به ههنا المصدرُ، أي: بقعودهم وإقامتها بالمدينة.
قوله: {خِلاَفَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصنوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله: "مَقْعدهم"، لأنه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني: أنَّ "خلاف" مفعولٌ من أجله، والعامل فيه: إمَّا فرح، وإما مَقْعد، أي: فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد وتَخَلَّفوا هم عنه، أوبقعودِهم لمخالفَتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج ومؤرِّج، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ "خُلْف" بضم الخاءِ وسكون اللام، والثالث: أنْ ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله. يُقال: "أقام زيد خلاف القوم"، أي: تخلف بعد ذهابهم، و "خلافَ" يكون ظرفاً قال:
2520 - عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما * بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا
وقال الآخر:
2521 - فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مَضَى * تَهَيَّأْ لأُخْرى مِثلها وكأنْ قَدِ
وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون "خَلْفَ" بفتح الخاء وسكون اللام.
* { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
(8/76)
---(1/3116)
قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً}: قليلاً وكثيراً فيهما وجهان أظهرهما: أنهما معطوفان على المصدرِ، أي: ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً فحذفَ الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوفِ وإقامةُ الصفةِ مُقامَه. والثاني: أنهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي: زماناً قليلاً وزماناً كثيراً، والأول أَوْلى؛ أن الفعلَ يدل على المصدر بشيئين بلفظهِ ومعناه، بخلاف ظرف الزمان، فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه بل بهيئتهِ الخاصةِ بلفظه.
قوله: {جَزَآءً}، [فيه وجهان، الأول: أنه] مفعولٌ لأجله، أي: سبب الأمر بقلة الضحكِ وكثرةِ البكاء جزاؤُهم بعملهم. و "بما" متعلق بجزاء لتعديته به ويجوز أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفتُه. والثاني: أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: يُجزون جزاء. وفي معنى قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} قوله:
2522 - مَسَرَّةَ أحقابٍ تَلَقَّيْتُ بعدَها * مساءةَ يومٍ أَرْيُها شَبَهُ الصَّابِ
فكيف بأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ ساعةٍ * وراءَ تَقَضِّيها مَساءةُ أَحْقابِ
* { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ }
قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ}: "رجع" يتعدى، كهذه الآية الكريمة، ومصدرُه الرَّجْع، كقوله: {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}، ولا يتعدى نحو: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، في قراءة مَنْ بناه للفاعل، والمصدر الرجوع كالدخول.
(8/77)
---(1/3117)
قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ}، قد تقدَّم ذلك. وقال أبو البقاء: "هي ظرفٌ"، قال الشيخ: "ويعني ظرفَ زمان وهو بعيد". / لأن الظاهرَ أنها منصوبةٌ على المصدر، وفي التفسير: أولَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رسول الله، فالمعنى: أولَ مرة من الخروج. قال الزمخشري: "فإن قلت "مرة" نكرة وُضِعَتْ موضع من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: "هند أكبرُ النساء وهي أكبرُهن"، ثم إنَّ قولَك: "هي كبرى امرأة"، لا تكاد تعثر عليه، ولكن "هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة".
قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} هذا الظرفُ يجوز أن يكونَ متعلقاً بـ"اقعدوا"، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل "اقعدوا". والخالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم. وقيل: الخالف: الفاسد. "مَنْ خَلَفَ"، أي: فَسَد، ومنه "خُلوف فم الصائم"، والمراد بهم النساءُ والصبيانُ والرجالُ العاجزون، فلذلك جاز جمعُه للتغليب. وقال قتادة: "الخالِفُون: النساء"، وهو مردودٌ لأجل الجمع. وقرأ عكرمة ومالكُ بن دنيار "مع الخَلِفين" مقصوراً مِنَ الخالِفين كقوله:
2523 - مثل النَّقَا لَبَّده بَرْدُ الظِّلَلْ
وقوله:
2524 - ...................عَرِدا * ..................بَرِدا
يريد:الظلال وعارِداً بارداً.
* { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {مِّنْهُم}: صفةٌ لـ"أحد"، وكذلك الجملة من قوله: "مات". ويجوز أن يكون "منهم" حالاً من الضمير في "مات"، أي: مات حال كونِه منهم، مُتَّصفاً بصفةِ النفاق كقولهم: "أنت مني"، يَعْني على طريقتي. و "أبداً" ظرف منصوب بالنهي.
* { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
(8/78)
---(1/3118)
قوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ}: قيل: هذه تأكيد للأآية لاسابقة. وقال الفارسي: "ليست للتأكيد لأن تِيْكَ في قوم، وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظاً الاثنتين فههنا "ولا" بالواو لمناسبة عطفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَه في قوله: "ولا تُصَلِّ، ولا تَقُمْ، ولا تُعْجبك"، فناسب ذلك الواو، وهناك بالفاءِ لمناسبةِ تعقيبِ قولِه: ولا يُنْفِقون إلا وهم كارهون" ، أي: للإِنفاقِ فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ فنهاه عن الإِعجاب بفاء التعقيبِ. وهنا "وأولادهم" دون "لا" لأنه نهيٌ عن الإِعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادةِ "لا" لأنه نهيٌ عن كل واحد واحد فَدَلَّ مجموعُ الاثنين على النهي بهما مجتمعَيْن ومنفردين. وهنا "أنْ يُعَذِّبهم" وهناك "ليُعَذِّبهم"، فأتى باللام مُشْعرةً بالغلبة، ومفعولُ الإِرادةِ محذوفٌ، أي: إنما يريد الله اختبارَهم بالأموال والأولاد، وأتى بـ"أن" لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التعذيبُ، أي: أنما يريد الله تعذيبَهم. فقد اختلف متعلَّقُ الإِرادة في الآيتين. هذا هو الظاهر وإن كان يُحتمل أن تكونَ اللامُ زائدة، وأن تكونَ "أَنْ" على حذف لام علة. وهناك "في الحياة الدنيا" وهنا سقطت "الحياة"، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تُسَمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكِرَت بعد ذِكر موتِ المنافقين فناسَبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة.
* { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ }
قوله تعالى: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ}: "إذا" لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه:
2525 - إذا وجدْتُ أواراَ الحُبِّ في كَبِدي * .......................
وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع "إذا" له.
(8/79)
---(1/3119)
قوله: {أَنْ آمِنُواْ}، فيه وجهان، أحدهما: أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر، أي: بأنْ آمنوا. وفي قوله: "اسْتَأْذَنَكَ"؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب، وذلك أنه قد تقدَّم لفظُ "رسوله" فلو جاء على الأصل لقيل: استأذنه.
* { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }
قوله تعالى: {مَعَ الْخَوَالِفِ}: الخَوَالِفُ: جمع خالفة من صفة النساء، وهذه صفةُ ذَمّ كقول زهير:
2526 - وما أَدْري وسوف إخالُ أَدْري * أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
فإنْ تكنِ النساءُ مُخَبَّآتٍ * فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وقال آخر:
2527 - كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا * وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ
وقال النحاس: "يجوز أن تكونَ "الخوالِف" من صفة الرجال، بمعنى أنها جمع خالفة. يقال: "رجل خالِفَة"، أي: لا خير فيه، فعلى هذا تكونُ جمعاً للذكور باعتبار لفظهِ". وقال بعضهم: إنه جمع خالف، يقال: رجلٌ خالفٌ، أي: لا خير فيه، / وهذا مردودٌ؛ فإن فواعل لا يكونُ جمعاً لـ فاعل وَصْفاً لعاقل إلا ما شذَّ من نحو: فوارس ونواكس وهوالك.
* { لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
والخَيْرات: جمع خَيْرة على فَعْلة بسكون العين وهو المستحسَنْ من كل شيء، وغَلَبَ استعمالُه في النساء، ومنه قوله تعالى: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وقول الشاعر:
2528 - ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ * رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةٍ الملَكاتِ
* { وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(8/80)
---(1/3120)
قوله تعالى: {الْمُعَذِّرُونَ}: قُرىء بوجوهٍ كثيرة، فمنها قراءة الجمهور: فَتْحُ العين وتشديدُ الذال. وهذه القراءة تحتمل وجهين: أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفاً، ومعنى التضعيف فيه التكلف، والمعنى: أنه تَوَهَّم أن له عُذْراً، ولا عُذْرَ له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل والأصل: اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ قُلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جبير "المعتذرون" على الأصل وإليه ذهب الأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج.
وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس أيضاً ويعقوب والكسائي "المُعْذِرون" بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم.
وقرأ مسلمة "المُعَّذَّرون" بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: "أراد المتعذرون، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج، وهي غلطٌ منه أو عليه".
قوله: {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} متعلقٌ بـ"جاء" وحُذِفَ الفاعلُ وأٌيم الجارُّ مُقَامه للعلمِ به، أي: ليأذن لهم الرسول. وقرأ الجمهور "كَذَبوا" بالتخفيف، أي: كذبوا في إيمانهم. وقرأ الحسن - في المشهور عنه - وأُبَيٌّ وإسماعيل "كذَّبوا" بالتشديد، أي: لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره.
* { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقرأ أبو حيوة: "نصحوا اللَّهَ" بدون لام، وقد تقدم أن "نَصَح" يتعدَّى بنفسِه وباللام.
وقوله: {مِن سَبِيلٍ} فاعل بالجارِّ لاعتماده على النفي، ويجوز أن يكونَ مبتدأً والجارُّ قبلَه خبرُه، وعلى كلا القولين فـ"مِنْ" مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل.
(8/81)(1/3121)
---
قال بعضُهم: وفي هذه الآيةِ نوعٌ من البديع يسمى التمليح وهو: أن يُشارَ إلى قصةٍ مشهورة أو مثلٍ سائرٍ أو شعر نادر في فحوى كلامك من غير ذِكْره، ومنه قوله:
2529 - اليومَ خمرٌ ويبدو بعده خَبَرٌ * والدهرُ مِنْ بين إنعامٍ وإبْآسِ
يشير لقول امرىء القيس لَمَّا بلغه قَتْلُ أبه: "اليومَ خمرٌ وغداً أمره"، وقول الآخر:
2530 - فواللَّهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ * أَلَمَّت بنا أم كان في الركب يوشَعُ
يُشير إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس. وقول الآخر:
2531 - لعَمْروٌ مع الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي * أرقُّ وأَحْفَى منكَ في ساعة الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور:
2532 - المستجيرُ بعمروٍ عند كُرْبته * كالمستجير مِنَ الرَّمْضاءِ بالنار
وكأن هذا الكلامَ وهو "ما على المحسنين من سبيل" اشتهُر ما هو بمعناه بين الناس، فأشار إليه مِنْ غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر الشيخ التمليح لم يُقَيِّده بقوله "بغير ذكره" ولا بد منه، لأنه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.
* { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ }
(8/82)
---(1/3122)
قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ}: فيه أوجه، أحدها: أن يكون معطوفاً على "الضعفاء"، أي: ليس على الضعفاء ولا على الذين إذا ما أَتَوْك، فيكونون داخلين في خبر ليس، مُخبراً بمتعلقهم عن اسمِها وهو "حَرَج". الثاني: أن يكون معطوفاً على "المحسنين" فيكونون داخلين فيما أَخْبره به عن قوله "من سبيل"، فإنَّ "مِنْ سبيل" يحتمل أن يكون مبتدأً، وأن يكون اسمَ "ما" الحجازية، و "مِنْ" مزيدةٌ في الوجهين. الثالث: أن يكون {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ} خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخرِ الصلةِ حرجٌ أو سبيل، وحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً عنه، إذ قد قَدَّر شيئاً يقومُ مقامَه هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ يحتمل أن يكونَ مندرجاً في قوله {وَلاَ عَلَى / الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وذُكِروا على سبيل نفي الحرج عنهم وأن يكونوا مندرجين، بأن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقون، إلا أنهم لم يجدوا مَرْكوباً.
وقرأ معقل بن هرون "لنَحْملهم" بنونِ العظمة. وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيبِ: قلت لا أجدُ ما يَحْملكم عليه الله.
(8/83)
---(1/3123)
قوله: "قلت" فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ "إذا" الشرطية، و "إذا"، وجوابُها في موضعِ الصلة، وقعت الصلةُ جملةً شرطيةً، وعلى هذا فيكون قوله "تَوَلَّوا" جواباً لسؤالٍ مقدرٍ، كأن قائلاً قال: "ما كان حالُهم إذا أُجيبوا بهذا الجواب؟ فأُجيب بقوله "تولُّوا". الثاني: أنه في موضع نصب على الحال من كاف "أَتَوْك"، أي: إذا أَتَوْك وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و "قد" عند مَنْ يشترط ذلك في الماضي الواقع حالاً كقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} في أحد أوجهه، كما تقدم تحقيقه، وإلى هذا نحا الزمخشري. الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الشرط، فيكونَ في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النَّسَق، وحُذِفَ حرفُ العطفِ، والتقدير: وقلت: وقد تقدم لك كلامٌ في هذه المسألةِ وما استشهد الناس به عليها. وإلى هذا ذهب الجرجانيُّ، وتبعه ابن عطية، إلا أنه قدَّر العاطفَ فاءً، أي: فقلت. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هل يجوزُ أن يكونَ قولُه "قلت لا أجد" استئنافاً مثله" يعني مثل {قُلْتَ لاَ أَجِدُ} كأنه قيل: إذا ما أَتَوْك لتحملهم تَوَلَّوا، فقيل: ما لهم تَوَلَّوا باكين [فقيل] قلت: لا أحد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسطٌ بين الشرطِ والجزاء كالاعتراض. قلت: نعم ويَحْسُن" انتهى.
(8/84)
---(1/3124)
قال الشيخ: "ولا يجوزُ ولا يَحْسُن في كلام العرب فكيف في كلام الله؟ وهو فَهْمُ أعجميٍّ". قلت: وما أدري ما سَبَبُ منعه وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنى؟ وذلك لأن تولِّيَهم على حاله، فيصير الدمع ليس مترتباً على مجردِ مجيئهم له عليه السلام ليحملَهم، بل على قوله لهم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ}، وإذا كان كذلك فقوله عليه السلام لهم ذلك سببٌ في بكائهم، فَحَسُن أن يُجْعَلَ قوله {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} جواباً لمَنْ سأل عن علِة تَوَلِّيهم وأعينُهم فائضةٌ دمعاً، وهو المعنى الذي قَصَدَه أبو القاسم. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة التي قَدَّمتها في "قلت" يكون جوابه قوله "تولَّوا"، وقوله "لتحملَهم" علةٌ لـ"أَتَوْك". وقوله "لا أجد" هي المتعديةُ لواحدٍ لأنها من الوُجْد. و "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً.
قوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "تَوَلَّوا"، قال الزمخشري: "تفيضُ من الدمع" كقولك: تفيض دمعاً، وقد تقدَّم هذا في المائدة مستوفىً عند قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} وأنه جعل "من الدمع" تمييزاً، و "مِنْ" مزيدةً، وتقدَّم الردُّ عليه في ذلك هناك فعليك بالالتفات إليه.
(8/85)
---(1/3125)
قوله: {حَزَناً} في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله والعاملُ في "تفيض" قاله الشيخ. لا يُقال إن الفاعلَ هنا قد اختلف، فإن الفَيْضَ مسند للعين والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وَجَبَ جرُّه بالحرف لأنَّا نقول: إن الحزنَ يُسْنَدُ للأعين أيضاً مجازاً يقال: عين حزينةٌ وسخينة، وعين مسرورةٌ وقريرة في ضدِّ ذلك. ويجوز أن يكونَ الناصب له "تَوَلَّوا" وحينئذٍ يتحد فاعلا العلةِ والمعلول حقيقةً. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تَوَلَّوا حزينين أوتفيض أعينُهم حزينةً على ما تقدَّم من المجاز. الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ مِنْ لفظِه، أي: يحزنون حزناً قاله أبو البقاء. وهذه / الجملةُ التي قدِّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من فاعل "تَوَلَّوا" وإمَّا من فاعل "تفيض".
قوله: {أَلاَّ يَجِدُواْ} فيه وجهان، أحدهما: وأنه مفعولٌ من أجله، والعامل فيه "حَزَناً" إنْ أعربناه مفعولاً له أو حالً، وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا، لأن المصدر لا يعمل إذا كان مؤكداً لعامِله، وعلى القول بأنَّ "حَزَناً" مفعول من أجله يكون "أن لا يَجِدوا" علةً العلة، يعني أنه يكون عَلَّلَ فيْضَ الدمع بالحزن، وعَلَّل الحزن بعدم وُجْدان النفقة، وهذا واضحٌ، وقد تقدَّم لك نظيرُ ذلك في قوله {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ}. والثاني: أنه متعلق بـ"تفيض". قال الشيخ: "قال أبو البقاء: "ويجوز أن يتعلَّق بـ"تفيض". ثم قال الشيخ: " ولا يجوز ذلك على إعرابه "حزناً" مفعولاً له، والعامل فيه "تفيض"، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل.
* { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
(8/86)
---(1/3126)
قولُه تعالى: {رَضُواْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ كأنه قال قائل: ما بالُهم استأذنوا في القعود وهم قادرون على الجهاد؟ فَأُجيب بقوله "رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِفِ". وإليه مال الزمخشري. والثاني: أنه في محل نصبٍ على الحال و "قد" مقدرةٌ في قوله ["رَضُوا"].
وقوله: {وَطَبَعَ} نسقٌ على "رضُوا" تنبيهاً على أن السببَ في تخلُّفهم رضاهم بقعودهم وطَبْعُ الله على قلوبهم.
وقوله {إِنَّمَا السَّبِيلُ} فأتى بـ"على" وإن كان قد يَصِل بـ"إلى" لفَرْقٍ ذكروه: وهو أنَّ "على" تدل على الاستعلاء وقلة مَنَعَة مَنْ تدخل عليه نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيلَ لي عليك، بخلافِ "إلى". فإذا قلت: "لا سبيل عليك" فهو مغايرٌ لقولِك: لا سبيلَ إليك. ومن مجيء "إلى" معه، قوله:
2533 - ألا ليت شِعْري هل إلى أمِّ سالمٍ * سبيلٌ فأمَّا الصبرُ عنها فلا صبرا
وقوله:
2534 - هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها * أم من سبيل إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ
* { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}: فيها وجهان، أحدهما: أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهمنا "نا"، والثاني: قوله "مِنْ أخباركم". وعلى هذا ففي "مِنْ" وجهان، أحدهما: أنها غيرُ زائدةٍ، والتقدير: قد نَبَّأنا اللَّهُ أخباراً مِنْ أخباركم، أو جملةً من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف. والثاني: أن "مِنْ" مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها شيئاً. والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
(8/87)
---(1/3127)
الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها متعديةٌ لثلاثة كـ أعلم، فالأولُ والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوف اختصاراً للعلم به والتقدير: نَبَّأنا الله مِنْ أخباركم كَذِباً ونحوه. قال أبو البقاء:"قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفان، تقديره: أخباراً مِنْ أخباركم مُثْبَتَة، و "مِنْ أخباركم" تنبيه على المحذوف وليست "مِنْ" زائدة، إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث. وقيل: "مِنْ" بمعنى عن". قلت: قوله: "إنَّ حذف الثالث خطأ" إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم، وإن عَنَى حَذْفَ الاختصار فممنوعٌ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس.
* { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
قوله تعالى: {جَزَاءً}: يجوز أن ينتصبَ على المصدر بفعل مِنْ لفظه مقدرٍ، أي: يُجْزَوْنَ جزاء، وأن ينتصب بمضمونِ الجملة السابقة لأنَّ كونَهم يَأْوُوُن في جهنم في معنى المجازاة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.
* { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {الأَعْرَابُ}: صيغة جمعٍ وليس جمعاً لعرب قاله سيبويه؛ وذلك لئلا يلزمَ أن يكونَ الجمعُ أخصَّ من الواحد، فإن العرب هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم سكن القرى، وأما الأعرابُ فلا يُطْلق إلى على مَنْ يَسْكن البواديَ فقط. وقد تقدّضم لك في أوائل هذا الموضوع عند قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولهذا الفرقِ نُسِب إلى الأعراب على لفظه فقيل: أعرابيّ. ويُجْمع / على أعاريب.
(8/88)
---(1/3128)
وقوله: {وَأَجْدَرُ}، أي: أحقُّ وأَوْلى، يقال: هو جديرٌ وأجدر وحقيق وأحقّ وقيمن وأَوْلى وخليق بكذا، كلُّه بمعنى واحد. قال الليث: "جَدَر يَجْدُر جَدارةً فهو جديرٌ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمع قال الشاعر:
2535 - بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ * جديريون يوماً أن يَنَالوا وَيَسْتَعْلوا
وقد نبَّه الراغب على أصلِ اشتقاقِ هذه المادة وأنها من الجِدار أي الحائط، فقال: "والجديرُ: المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاءَ الشيء إلى الجدار" والذي يظهر أن اشتقاقَه مِنَ الجَدْر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجَدرْ في قولك "جدير بكذا".
قوله: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ}، أي: بأن لا يَعْلموا فحذف حرفَ الجر فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي مع سيبويه والفراء.
* { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً}: "مَنْ" مبتدأ وهي: إمَّا موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ. ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ "اتخذ" هنا بمعنى صَيَّر. والمَغْرَمُ: الخُسْران، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ، ومنه {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}. وقيل: أصلُه الملازمةُ ومنه "الغَريمُ" للزومه مَنْ يطالبه.
قوله: {وَيَتَرَبَّصُ} عطفٌ على "يَتَّخِذ" فهو: إمَّا صلة وإمَّا صفة. والتربُّصُ: الانتظار. والدوائر: جمعُ دائرة، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ مصيبة ونكبة، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها. وأصلها داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور، أي: أحاط. ومعنى "تربُّص الدوائر"، أي: انتظار المصائب قال:
2536 - تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها * تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
(8/89)
---(1/3129)
قوله: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا "السُّوء" وكذا الثانية في الفتح بالضم، والباقون بالفتح. وأما الأولى في الفتح وهي "ظنَّ السَّوْ" فاتفق على فتحها السبعة. فأما المفتوح، فقيل: هو مصدر. قال الفراء: "يقال: سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية، وبالضم الاسم" قال أبو البقاء: "وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة". قلت: يعني أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: "مَنْ فتح السينَ فمعناه الفساد والرداءة، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر". وظاهر هذا أنهما اسمان لِما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر. وقال غيرُه: الضموم: العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنه أْجُمع على فتح {ظَنَّ السَّوْءِ} وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين.
وقال الزمخشري فأحسن: "المضموم: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة، كقولك: "رجلُ سَوْ" في نقيض "رجل عدل"، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها" يعني أنها من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}. قال الشيخ: "وقد حُكي بالضم" وأنشد:
2537 - وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً * بصاحبه يوماً أحال على الدَّم
وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما: أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة. وقال الفارسي: "إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية".
وقوله: {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} فيه وجهان، أظهرهُما: أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها. والثاني: أنها حالٌ من "الدوائر" قاله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، وعلى هذا فيتعلَّقُ / بمحذوف على ما تقرر غير مرة.
(8/90)
---(1/3130)
* { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {قُرُبَاتٍ}: مفعولٌ ثان ليتخذ كما مرَّ في "مَغْرَما". ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضم الراء من "قُرُبات" مع اختلافهم في راء "قربة" كما سيأتي، فيحتمل أن تكون هذه جمعاً لقُرُبة بالضم كما هي قراءة ورش عن نافع، ويحتمل أن تكون جمعاً للساكنها، وإنما ضُمَّت اتباعاً لـ"غرفات" وقد تقدم التنبيه على هذه القاعدة وشروطها عند قوله تعالى {فِي ظُلُمَاتٍ} أولَ البقرة.
قوله: {عِندَ اللَّهِ} في هذا الظرفِ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلقٌ بـ"يَتَّخذ". والثاني: أنه ظرف لـ"قربات" قاله أبو البقاء، وليس بذاك. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لـ"قربات".
قوله: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} فيه وجهان أظهرهما: أنه نسق على "قربات" وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: "والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصور القربات عند الله "وصلوات الرسول" لأنه كان يدعو للمتصدِّقين بالخير كقوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى". والثاني: - وجَوَّزَه ابن عطية ولم يذكر أبو البقاء غيره - أنها منسوقةٌ على "ما ينفق"، أي: ويتخذ بالأعمال الصالحة وصلوات الرسول قربة.
قوله: {أَلاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} الضمير في "إنها" قيل: عائد على "صلوات" وقيل: على النفقات أي المفهومة من "يُنفقون".
(8/91)
---(1/3131)
وقرأ ورش "قُرُبَة" بضم الراء، والباقون بسكونها فقيل: لغتان. وقيل: الأصل السكون ولاضمة إتباع، وهذا قد تدقم لك فيه خلاف بين أهل التصريف: هل يجوز تثقيل فُعْل إلى فُعُل؟ وأن بعضَهم جعل عُسُراً يُسُراً بضم السين فَرْعين على سكونها. وقيل: الأصل قُرُبة بالضم، والسكون تخفيف، وهذا أَجْرى على لغة العرب إذ مبناها الهرب مِنَ الثّقَل إلى الخفة.
وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرَها بحرفَيْ التنبيه والتحقيق المُؤْذنين بثبات الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه، قال معناه الزمخشري: قال: "وكذلك سيُدْخلهم، وما في السين من تحقيق الوعد".
* { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه الجملة الدعائية من قوله: "رضي الله عنهم". والثاني: أن الخبر قوله: "الأوَّلون" والمعنى: والسابقون أي بالهجرة [هم] الأوَّلون مِنْ أهل هذه المِلّضة، أو السابقون إلى الجنة الأولون من أهل الهجرة. الثالثك أن الخبرَ قولُه: {الأَوَّلُونَ} والمعنى فيه الإِعلام بأن السَّابقين من هذه / الأمة من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاء، وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ.
الثاني من وجهي "السابقين": أن يكون نَسَقاً على {مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي: ومنهم السابقون. وفيه بُعْدٌ.
(8/92)
---(1/3132)
والجمهورُ على جَرِّ "الأنصار" نسقاً على المهاجرين. يعني أن السابقين من هذين الجنسين. وقرأ جماعة كثيرة أَجِلاَّء: عمر بن الخطاب وقتادة والحسن وسلام وسعيد بن أبي سعيد وعيسى الكوفي وطلحة ويعقوب: "والأنصارُ" برفعها. وفيه وجهان أحدهما: أنه مبتدأ، وخبرُه "رضيَ الله عنهم". والثاني: عطف على "السابقون". وقد تقدم ما فيه فيُحكم عليه بحكمه.
قوله: {بِإِحْسَانٍ} متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل "اتَّبعوهمط. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن الواوَ ساقطةٌ من قوله: "والذين اتبعوهم" ويقول: إن الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيد بن ثابت إنها بالواو فقال: ائتوني بأُبَيّ. فأتَوه به فقال له: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}، وأوسط الحشر: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ}، وآخر الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ}. ورُوِي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال: مَنْ أقرأك؟ قال: أُبَيّ. فدعاه فقال: أَقْرَأنيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإنك لتبيع القَرَظ بالبقيع. قال: صَدَقْتَ وإن شئت قل: شهدنا وغِبْتم، ونَصَرْنا وخَذَلْتم، وآوَْنا وطَرَدْتم. ومن ثَمَّ قال عمر: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغها أحدٌ بعدنا.
وقرأ ابن كثير: {تجري من تحتها} بـ"مِنْ" الجارة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكة. والباقون "تحتها" بدونها، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم، وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءة ابن كثير هنا: {تجري مِنْ تحتها} في غير موضع.
* { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
(8/93)
---(1/3133)
قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ}: خبر مقدم. و "منافقون" مبتدأ، و "مَنْ" يجوز أن تكون الموصولةَ والموصوفة، والظرف صلة أو صفة.
وقوله: {مِّنَ الأَعْرَابِ} لبيان الجنس. وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} يجوز أن يكونَ نسقاً على "مَنْ" المجرورة بـ"مِنْ" فيكونَ المجروران مشتركَيْن في الإِخبارِ عن المبتدأ وهو "منافقون"، كأنه قيل: المنافقون من قومٍ حولَكم ومِنْ أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات إذ عَطَفَتْ خبراً على خبر، وعلى هذا فيكون قوله "مَرَدُوا" مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله "منافقون"، ويكون قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} خبراً مقدماً، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مَقامه / وحَذْفُ الموصوفِ وإقامةُ صفتِه مُامَه - وهي جملة - مطردُ مع "مِنْ" التبعيضية وقد مَرَّ تحريره نحو "منا ظَعَن ومنا أقام" والتقدير: ومن أهلِ المدينة قومٌ أو ناسٌ مردوا، وعلى هذا فهو من عطفِ الجمل. ويجوز أن يكون "مَرَدُوا" على الوجه الأول صفةً لـ"مافقون"، وقد فُصِل بينه وبين صفته بقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ}. والتقدير: وممَّن حولَكم ومِنْ أهلِ المدينة منافقون ماردون. قال ذلك الزجاج، وتبعه الزمخشري وأبو البقاء أيضاً. واستبعده الشيخ للفصلِ بالمعطوف بين الصفة وموصوفها، قال: "فيصير نظيرَ: "في الدار زيدٌ وفي القصرِ العاقلُ" يعني فَفَصَلْتَ بين زيد والعاقل بقولك: "وفي القصر". وشبَّه الزمخشري حَذْفَ المبتدأ الموصوف في الوجه الثاني وإقامة صفته مُقامَه بقولِه:
2538 - أنا ابنُ جلا .............. * .............................
قال الشيخ: "إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع "مِنْ" مطردٌ، وقوله: "أنا ابن جلا" ضرورة كقوله:
2539 - يَرْمِي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البشَرْ
قلت: البيتُ المشار إليه هو قوله:(1/3134)
(8/94)
---
2540 - أنا ابن جَلا وطَلاَّعُ الثَّنايا * متى أَضَعِ العِمامةَ تعرفونِي
وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات، أحدها: ما تقدم. والآخر: أن هذه الجملة محكية لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل، فإنَّ "جلا" فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّيَ بها وحُكِيَتْ كما قالوا: "شاب قَرْناها" و "ذرَّى حَبَّا" وقوله:
2541 - نُبِّئْتُ أخوالي بني يزيدُ * ظُلْماً علينا لهمُ فَدِيدُ
والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير، وإنما لم يُنَوَّنْ لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي بضرب وقتل مَنَعَهما. أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو جَمَل وجَبَل.
و "مَرَدوا" أي: مَهَروا وتمرَّنوا. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء عند قوله: {شَيْطَاناً مَّرِيداً} قوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفة لـ"منافقون" ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي: لا نعلمهم منافقين، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين، ولأن النافقاَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه. وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبو البقاء. وأمَّا "نحن نعلمهم" فلا يجوز أن تكون إلا على بابها لبحثٍ ذكرتُه لك في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في "إيضاحه" صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذورٌ لِما عرفته.
(8/95)
---(1/3135)
وقوله: {مَّرَّتَيْنِ} قد تقدَّم الكلام في نصب "مرة" وأنه من وجهين: إمَّا المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا. وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر، واختلفوا في تفسيرهما، وأن لا يراد بها التثنية الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى: {ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي: كَرَّاتٍ، بدليل قوله: "ينقلبْ إليك البصرْ خاسئاً وهو حسير" أي مزدجرً وهو كليلٌ، ولا يصيبُه ذلك " إلا بعد كَرَّات، ومثلُه. لَبَّيْك وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ.
وروى عباس عن أبي عمرو: "سنعذِّبْهم" بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ توالي الحركات كينصركم وبابه / وإن كان باب "ينصركم" أحسنَ تسكيناً لكونِ الراءِ حرفَ تكرار، فكأنه توالي ضمَّتان بخلافن غيره. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقال الشيخ: "وفي مصحفِ أنس: "سيعذبهم" بالياء". وقد تقدم أن المصاحف كانت مهملةً من النَّفْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟
* { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ}: نسقٌ على "منافقون" أي: وممن حولكم آخرون، أو ومن أهلِ المدينة آخرون. ويجوز أن يكون مبتدأ و "اعترفوا" صفتَه، والخبر قولُه "خلطوا".
(8/96)
---(1/3136)
قوله: {وَآخَرَ} نسقٌ على "عملاً". قال الزمخشري: "فإن قلت: قد جُعِل كلُّ واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به، لأن المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر كقولك: "خَلَطْتُ الماء واللبن" تريد: خَلَطْتُ كلَّ واحد منهما بصاحبه، فيه ما ليس في قولك: "خَلَطْتُ الماءَ باللبن" لأنك جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبن مخلوطاً به. وإذا قلته بالواو جَعَلءتَ الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خَلَطْتُ الماء باللبن واللبن بالماء". ثم قال: "ويجوز أن يكونَ مِنْ قولهم: "بِعْتُ الشاء: شاةً ودرهماً" بمعنى: شاة بدرهم" قلت: لا يريد أن الواو بمعنى الباء، وإنما هذا تفسيرُ معنى. وقال أبو البقاء: "ولو كان بالباء جاز أن تقول: خلطْتُ الحِنْطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشعير".
قوله: {عَسَى اللَّهُ} يجوز أن تكون الجملةُ مستنفةً، ويجوز أن تكونَ في محل رفع خبراً لـ"آخرون"، ويكون قولُه: "خلطوا" في محلِّ نصبٍ على الحال، و "قد" معه مقدرةٌ أي: قد خلطوا. فتلخَّص في "آخرون" أنه معطوفٌ على "منافقون"، أو مبتدأٌ مبخر عنه بـ"خلطوا" أو الجملةِ الرجائية.
* { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ"خُذْ" و "مِنْ" تبعيضية. والثاني: أن تتعلق بمحذوف لأنها حالٌ مِنْ "صدقة" إذ هي في الأصل صفةٌ لها فلمَّا قُدِّمت نُصِبَتْ حالاً.
(8/97)
---(1/3137)
قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} يجوز أن تكونَ التاء في "تُطَهِّرهم" خطاباً للنبي عليه السلام، وأن تكون للغَيْبة، والفاعل ضمير الصدقة. فعلى الأولِ تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "خذ". ويجوز أيضاً أن تكونَ صفةً لـ"صدقةً"، ولا بد حينئذ من حذف عائد تقديره تطهِّرهم بها. وحُذِف "بها" لدلالة ما بعده عليه. وعلى الثاني تكون الجملة صفةً لصدقة ليس إلا. وأما "وتُزكّيهم" فالتاءُ فيه للخطاب لا غير لقوله "بها" فإن الضميرَ يعود على هذا فتكون الجملةُ حالاً مِنْ فاعل "خُذْ" على قولنا إنَّ "تُطَهِّرهم" حال منها وإن التاء فيه للخطاب. ويجوز أيضاً أن تكون صفة إن قلنا إن "تطهِّرهم"، صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ.
وجَوَّز مكي أن يكون "تُطَهِّرهم" صفةً لصدقة على أن التاء للغيبة، و "تُزكِّيهم" حالاً من فاعل "خُذْ" على أن التاء للخطاب. وقد رَدُّوه عليه بأن الواوَ عاطفةٌ أي: صدقةً مطهِّرةً ومُزَكَّيَاً باهن ولو كان بغير واوٍ جاز. قلت: ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ فإن الواوَ مُشَرِّكَةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت "وتزكيهم" عطفاً على "تُطَهِّرهم" لَلَزِمَ أن تكونَ صفةً كالمعطوف عليه، إذ لا يجوز اختلافُهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن "تزكِّيهم" خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحال تقديره: وأنت تزكِّيهم. وفيه ضعفٌ لقلةِ نظيرِه في كلامهم.
فتلخَّص من ذلك أن الجملتين يجوز أن تكونا حالَيْن من فاعل "خُذْ" على أن تكونَ التاءُ للخطاب، وأن تكونا صفتين لصدقة، على أن التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن تكون "تطهِّرهم" حالاً أو صفةً، و "تزكِّيهم" حالاً على ما جَوَّزه مكي، وأن تكونَ "تزكِّيهم" خبرَ مبتدأ محذوف، والواوُ للحال.
وقرأ الحسن: "تُطْهِرهم" مخفَّفاً مِنْ "أطهر" عَدَّاه بالهمزة.
(8/98)
---(1/3138)
قوله: {إِنَّ صَلَاوتَك} قرأ الأخوان وحفص: "إنَّ صلاتَكَ"، وفي هود: "أصلاتك تأمُرك" بالتوحيد، والباقون: "إنَّ صلواتك" "أصلواتُك" بالجمع فيهما وهما واضحتان، إلا أنَّ الصلاةَ هنا الدعاء وفي تِيْكَ العبادة.
والسَّكَنُ: الطمأنينة قال:
2542 - يا جارةَ الحيِّ ألاَّ كنتِ لي سَكَناً * إذ ليس بعضٌ من الجيران أَسْكَنني
ففَعَل بمعنى مفعول كالقَبْض بمعنى المقبوض والمعنى: يَسْكنون إليها. قال أبو البقاء: "ولذلك لم يؤنَّثْه" لكن الظاهر أنه هنا بمعنى فاعل / لقولِه "لهم"، ولو كان كما قال لكان التركيب "سكنٌ إليها" أي مَسْكون إليها، فقد ظهر أن المعنى: مُسَكِّنة لهم.
* { أَلَمْ يَعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: {هُوَ يَقْبَلُ}: "هو" مبتدأ، و "يَقْبَلُ" خبره والجملةُ خبر أنَّ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول. ولا يجوز أن يكونَ "هو" فصلاً لأنَّ ما بعده لا يوهم الصوفيَّة، وقد تحرَّر مِنْ ذلك فيما تقدم.
وقرأ الحسن - قال الشيخ: وفي مصحف أُبي - "ألم تعلموا" بالخطاب. وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها هؤلاء؟ و [الثاني]: أن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ التائبون. و [الثالث]: أن يكون على إضمارِ قولٍ أي: قل لهم يا محمد ألم تعلموا.
(8/99)
---(1/3139)
قوله: {عَنْ عِبَادِهِ} متعلقٌ بـ"يَقْبَل"، وإنما تعدَّى بـ"عن" فقيل: لأنَّ معنى "مِنْ" ومعنى "عن" متقاربان. قال ابن عطية: ,كثيراً ما يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو "لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني"، و "فعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره، وعن أَشَره وبَطَره". وقيل: لفظه "عن" تُشعر ببُعْدٍ ما، تقول: "جلس عن يمين الأمير" أي مع نوعٍ من البعد. الظاهرُ أنَّ "عن" هنا للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت: "أخذت العلم عن زيد"، فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت: منه فمعناه ابتداء الغاية.
قوله: {هُوَ التَّوَّابُ} يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه.
* { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {مُرْجَوْنَ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم "مُرْجَؤُون" بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. والباقون "مُرْجَوْن" دون تلك الهمزة، وهذا كقراءتهم في الأحزاب: "تُرْجِيىء" بالهمزة، والباقون بدونه. وهما لغتان يقال: أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْنُه كأَعْطيته. ويحتمل أن يكونا أصلين بنفسِهما، وأن تكونَ الياءُ بدلاً من الهمزة، ولأنه قد عُهِد تحقيقُها كثيراً كقَرَأْت وقَرَيْتُ، وتوضَّأْت وتوضَّيْت.
قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل رفع خبراً، و "مُرْجَوْن" يكون على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكونَ في محل نصبٍ على الحال أي: هم مُؤَخَّرون: إمَّا معذَّبين وإمَّا متوباً عليهم. و "إمَّا" هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب، وإمَّا للإِبهام بالنسبة إلى أنه أَبْهَمَ على المخاطبين.
(8/100)
---(1/3140)
* { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ}: قرأ نافع وابن عامر: "الذين اتخذوا" بغير واو، والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. و "الذين" على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ "آخرون" قبلها. وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضَراراً، لا يُقال في حَقِّهم إنهم مُرْجَوْن لأمر الله، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي عامر الراهب.
الثاني: أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها: أنه "أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه" والعائد محذوفٌ تقديره: بنيانَه منهم. الثاني: أنه "لا يزال بنيانُهم" قاله النحاس والحوفي، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل. الثالث: أنه "لا تقمْ فيه" قاله الكسائي. قال ابن عطية: "ويتجه بإضمارٍ: إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها بتقدير: لا تقم في مسجدهم". الرابع: أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه: معذَّبون ونحوه، قاله المهدوي.
الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص. وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو.
(8/101)
---(1/3141)
وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ "آخرون" لأجل العاطف. وقال الزمخشري: "فإن قلت: "والذين اتخذوا" ما محلُّه من الإِعراب؟ قلت: محلُّه النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} وقيل: هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه: فيمَنْ وَصَفْنا الذين اتخذوا، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، قلت: يريد على مذهب سيبويه فإن تقديره: فيما يُتْلى عليكم السارق، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه الآية.
قوله: {ضِرَاراً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه مفعولٌ من أجله أي: مُضَارَّةً لإِخوانهم. الثاني: أنه مفعولٌ ثان لـ"اتَّخذ" قاله أبو البقاء. الثالث: أنه مصدر في موضع الحال من فاعل "اتخذوا" أي: اتخذوه مضارِّين لإِخوانهم، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضَراراً، ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي: ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله.
قوله: {مِن قَبْلُ} فيه وجهان، أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره - أنه متعلقٌ بقوله: "اتخذوا" أي: اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء. والثاني: أنه متعلقٌ بـ"حارب" أي: حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد.
(8/102)
---(1/3142)
قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} لَيَحْلِفْنَّ: جوابُ قسم مقدر أي: والله ليحلِفُنَّ. وقوله: "إن أَرَدْنا" جوابٌ لقولِه: "ليحلِفُنَّ" فوقع جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله: "إنْ أَرَدْنا". "إنْ" نافية ولذلك وقع بعدها "إلا". و "الحُسْنى" صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي: إلا الخصلة الحسنى إو إلا الإِرادةَ الحسنى. وقال الزمخشري: "ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد إلا الخَصْلة الحسنى، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة". قال الشيخ: "كأنه في قوله: "إلا الخصلة الحُسْنى" جعله مفعولاً، وفي قوله: "أو لإِرادة الحسنى" جعله علةً فكأنه ضَمَّن "أراد" معنى قَصَد أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإِرادة الحسنى" قال: "وهذا وجهٌ متكلف".
* { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }
قوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ}: فيه وجهان أحدهما: أنها لام الابتداء. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف، وعلى التقديرين فيكون "لَمَسْجِدٌ" مبتدأ، و "أُسِّس" في محل رفع نعتاً له، و "أحقُّ" خبره، والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف أي: أُسس بناينه.
"مِنْ أولِ" متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أن "مِنْ" تكون لابتداء الغاية في الزمان، واستدلوا أيضاً بقوله:
2543 - مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعُ الشمسُ لا تَرى * من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
وقوله:
2544 - تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ * إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ التجاربِ
(8/103)
---(1/3143)
وتأوَّله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصبح، ومن مجيء أزمان يوم. وقال أبو البقاء: "وهذا ضعيفٌ، لأن التأسيس المقدر ليس بمكانٍ حتى تكون "مِنْ" لابتداء غايته. ويدلُّ على جواز ذلك قوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}، وهو كثير في القرآن وغيره"، قلت: البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي علي فيها كلام طويل. وقال ابن عطية: "ويَحْسُنُ عندي أن يُسْتغنى عن تقدير، وأن تكون "مِنْ" تجرُّ لفظة "أول" لأنها بمعنى البداءة كأنه قال: مِنْ مبتدأ الأيام، وقد حُكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو".
وقوله: {أَحَقُّ} ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق، إذ لا مفاضلةَ بين المسجدَيْن، و "أن تقوم" أي: بأن تقوم، والتاء لخطاب الرسول عليه السلام، و "فيه" متعلقٌ به.
قوله: {فِيهِ رِجَالٌ} يجوز أن يكونَ "فيه" صفةً لمسجد، و "رجال" فاعل، وأن يكونَ حالاً من الهاء في "فيه"، و "رجالٌ" فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إن الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد. ويجوز أن يكون "فيه" خبراً مقدماً، و "رجال" مبتدأ مؤخر. وفيه هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه، أحدها: الوصفُ، والثاني: الحالُ على ما تقدم، والثالث: الاستئنافُ.
وقرأ عبد الله بن زيد "فيهِ" بكسر الهاء، و "فيهُ" الثانية بضمها وهو الأصل، جَمَعَ بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفعُ توهُّمِ التوكيد، ورفعُ توهُّمِ أن "رجالاً" مرفوع بـ"تقوم".
وقوله: {يُحِبُّونَ} صفة لـ"رجال" وأن [يتطهروا] مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش "يَطَّهَّرُوا" بالإِدغام، وعلي بن أبي طالب "المتطهِّرين" بالإِظهار، عكس قراءات الجمهور في اللفظتين.
(8/104)
---(1/3144)
* { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}: قرأ نافع وابن عامر: "أُسِّس" مبنياً للمفعول، "بنيانُه" / بالرفع لقيامه مقام الفاعل. والباقون "أَسَّاس" مبنياً للفاعل "بنيانه" مفعول به، والفاعل ضمير مَنْ. وقرأ ه عمارة ابن عائذ الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و "بنيانُه" مرفوع على على الأولى ومنصوب على الثانية لِما تقدم. وقرأ نصر بن علي ونصر بن عاصم "أُسُسُ بنيانِه". وقرأ أبو حيوة والنصران أيضاً "أَساسُ بنيانِه" جمع أُسّ، وروي عن نصر بن عاصم أيضاً "أَسُّ" بهمزة مفتوحة وسين مشددة مضمومة. وقرىء "إساس" بالكسر وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء "أساس" بفتح الهمزة، و "أُسّ" بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. ونقل صاحب كتاب "اللوامح" فيه "أَسَسُ" بالتخفيف ورفع السين، "بنيانِه" بالجر، فَأَسَسٌ مصدر أسَّ يؤسُّه أَسَسَاً وأسَّاً فهذه عشر قراءات.
والأُسُّ والأَساس القاعدة التي بُني عليها الشيء، ويقال: "كان ذلك على أُسِّ الدهر" كقولهم: "على وجه الدهر"، ويقال: أَسَّ مضعَّفاً أي: جَعَلَ له أساساً، وآسَسَ بزنة فاعَل.
والبُنْيان فيه قولان، أحدهما: أنه مصدر كالغفران والشكران، وأُطْلِق على المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق. والثاني: أنه جمعٌ وواحدُه بُنْيانة قال الشاعر:
2545 - كبُنْيانةِ القاريِّ مَوْضِعُ رَحْلِها * وآثارُ نَسْعَيْها مِنَ الدَّقِّ أَبْلَقُ
يعنون أنه اسم جنس كقمح وقمحة.
(8/105)
---(1/3145)
قوله: {عَلَى تَقْوَى} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنه متعلعٌ بنفس "أَسِّس" فهو مفعوله في المعنى. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالُ من الضميرِ المستكنِّ في "أَسَّسَ" أي: قاصداً ببنيانه التقوى، كذا قدَّره أبو البقاء.
وقرأ عيسى بن عمر "تقوىً" منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يَرْتَضِها الناسُ لأنَّ ألفَها للتأنيث فلا وَجْهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكونَ ألفُها للإِلحاق، قال ابن جني: "قياسُها أن تكونَ ألفُها للإلحاق كأَرْطى".
قوله: {خَيْرٌ} خبرُ المبتدأ. والتفضيل هان باعتبار معتقدِهم. و "أم" متصلة، و "من" الثانية عطف على "مِنْ" الأولى، و "أَسَّس بنيانه" كالأول.
قوله: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} كقوله: "على تقوى" في وجهيه. والشَّفا تقدم في آل عمران. وقرأ حمزة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم "جُرْفٍ" بسكون الراء والباقون بضمها، فقيل: لغتان. وقيل: الساكن فرعٌ على المضموم نحو: عُنْق في عُنُق وطُنْب في طُنُب. وقيل بالعكس كعُسُر ويُسُر. والجُرُف: البِئْر التي لم تُطْوَ. وقيل: هو الهُوَّةُ وما يَجْرُفُه السًّيْلُ من الأودية قاله أبو عبيدة. وقيل: هو المكان الذي يأكله الماء فيَجْرُفه أي يَذْهب به. ورَجُلّ جِرَاف أي: كثير النكاح كأنه يَجْرُفُ في ذلك العَمَلِ. قاله الراغب.
قوله: {هَارٍ} نعت لجُرُفٍ. وفيه ثلاثة أقوال، أحدها: - وهو المشهور - أنه مقلوبٌ بتقديمِ لامه على عينه، وذلك أنَّ أصلَه: هاوِرٌ أو هايِرٌ بالواو والياء لأنه سُمع فيه الحرفان. قالوا: هار يَهُور فانْهارَ، وهار يَهير. وتَهَوَّر البناء وتَهَيَّر، فقُدِّمت اللام وهي الراء على العين - وهي الواو أو الياء - فصار كغازٍ ورامٍ، فأُعِلَّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالِع، ثم تَزِنُه بعد الحذف بـ فالٍ.
(8/106)
---(1/3146)
الثاني: أنه حُذِفَتْ عينُه اعتباطاً أي لغير موجَبٍ، وعلى هذا فيجري بوجوه الإِعراب على لامه، فيُقال: هذا هارٌ ورأيت هاراً ومررت بهارٍ، ووزنُه أيضاً فال.
والثالث: انه لا قلبَ فيه ولا حذف وأنَّ أصله هَوِر أو هَيِر بزنة كَتِف، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقُلِب ألفاً فصار مثل قولهم: كبشٌ صافُ، أي: صَوِف أو يومٌ راحٌ، أي: رَوِحز وعلى هذا فتحرَّك بوجوه الإِعراب أيضاً كالذي قبله كما تقول: هذا باب ورأيت باباً ومررت ببابٍ. وهذا أعدل الوجوه لاستراحة من ادِّعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل، لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف. ومعنى "هار"، أي: ساقط متداعٍ مُنْهار.
قوله: {فَانْهَارَ} فاعلُه: إمَّا ضميرُ البنيان - والهاء في به على هذا ضمير المؤسس الباني، أي: فسقط بنيان الباني على شفا جُرُفٍ هار - وإما ضمير الجُرُف، أي فسقط الشَّفا أو سَقَطَ الجُرُف. والهاء في "به" للبنيان. ويجوز أن / يكون للباني المؤسس، والأَوْلى أن يكون الفاعلُ ضميرَ الجرف، لأنه يلزم مِنْ انهيارِه الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزم من انهيارِهما أو انهيارِ أحدهما انهيارُه. والباء في "به" يجوز أن تكونَ المعدِّيةَ، وأن تكونَ التي للمصاحبة. وقد تقدَّم لك خلافٌ أولَ هذا الموضوع: أن المعدِّيَةَ عند بعضهم تَسْتلزم المصاحبةَ. وإذا قيل إنها للمصاحبة هنا فتتعلقُ بمحذوفٍ لأنها حال، أي: فانهار مصاحباً له.
* { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
(8/107)
---(1/3147)
وقوله تعالى: {بُنْيَانُهُمُ}: يحتمل أن يكونَ مصدراً على حاله، أي: لا يزال هذا الفعل الصادر منهم. ويحتمل أن يكونَ مراداً به المبني، ويحينئذٍ يُضْطَرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم لأن المبنيَّ ليس ريبةً، و يُقَدَّر الحذف من الثاني، أي: لا يزال مبنيُّهم سببَ ريبة. وقوله: "الذي بَنَوا" تأكيدٌ دَفْعاً لوَهْم مَنْ يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة وإنما دَبَّروا أموراً، مِنْ قولهم: "كم أبني وتهدمُ"، وعليه قوله:
2546 - متى يبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه * إذا كنت تَبْنِيه وغيرك يَهْدِم
قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} المستثنى منه محذوفٌ والتقدير: لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل وقت إلا وقتَ تقطيعِ قلوبهم، أو في كل حال إلا حالَ تقطيعها. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص "تَقَطَّع" بفتح التاء، والأصل: تتقطع بتاءَيْن فحُذفت إحداهما. وقرأ الباقون "تُقَطَّع" بضمِّها، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع بالتشديد. وقرأ أُبَيّ "تَقْطَع" مخففاً مِنْ قطع. وقرأ الحسن ومجاهد وقادة ويعقوب "إلى أن" بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك. وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلا أن أبا حيوة قرأ "تُقَطِّع" بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً، والفاعلُ ضميرُ الرسول. "قلوبَهم" نصباً على المفعول، والمعنى بذلك أن يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير الرِّيبة، أي: إلى أن تَقْطَع الرِّيبةُ قلوبَهم. وفي مصحف عبد الله "ولو قُطِّعَتْ" وبها قرأ أصحابُه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس.
(8/108)
---(1/3148)
* { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى: {بِأَنَّ لَهُمُ}: متعلقٌ بـ"اشترى"، ودخلت الباءُ هنا على المتروك على بابها، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض. وقرأ عمر بن الخطاب "بالجنة".
قوله: "يُقاتِلُون" يجوز أن يكونَ مستأنفاً، ويجوز أن يكونَ حالاً. وقال الزمخشري: "يقاتلون" فيه معنى الأمر، كقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}. قلت: وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأن الطلب لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في "فيَقتلون ويُقتلون" في آل عمران.
قوله: {وَعْداً} منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى "اشترى" معنى وعدهم بذلك فهو نظير "هذا ابني حقاً". ويجوز أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وفيه ضعف. و "حقاً" نعت له، و "عليه" حالٌ مِنْ "حقاً" لأنه في الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ.
قوله: {فِي التَّوْرَاةِ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ"اشترى" وعلى هذا فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المُنَزَّلة. وقال الزمخشري في أثناءِ كلامه: "لا يجوز عليه قبيحٌ قط"، قال الشيخ: "استعمل "قط" في غير موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله: "لا يجوز عليه" و "قط" ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه إلا الماضي"ن قلت: ليس المراد هنا زمناً بعينه.
(8/109)
---(1/3149)
وقوله: {فَاسْتَبْشِرُواْ} فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم، واستعفل هنا ليس للطلب، بل بمعنى أفعل كاستوقد ووقد. وقوله: {الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} توكيدٌ كقوله: {الَّذِي بَنَوْاْ} لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه.
* { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {التَّائِبُونَ}: فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أنهم مبتدأٌ، وخبره "العابدون"، وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة عند مَنْ يرى ذلك. الثاني: أنَّ الخبر قوله: "الآمرون". الثالث: أنَّ الخبر محذوف، أي: التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، ويؤيده قولُه: "وبَشِّر المؤمنين"، وهذا عند مَنْ يرى أن هذه الآية منقطعةٌ مما قبلها، وليست شرطاً في المجاهدة، وأمَّا مَنْ زعم أنها شرط في المجاهدة كالضحاك وغيره فيكون إعراب التائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النعوت، وذلك أن هذه الأوصافَ عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: ["اشْتَرَى] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} / ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ وابن مسعود والأعمش "التائبين" بالياء. ويجوز أن تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً، فيكونَ منصوباً بفعل مقدر. وقد صَرَّح الزمخشري وابن عطية بأن التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ. الخامس: أن "التائبون" بدل من الضمير المتصل في "يقاتلون".
(8/110)
---(1/3150)
ولم يذكر لهذه الأوصافِ متعلَّقاً، فلم يَقُلْ: التائبون مِنْ كذا، ولا العابدون لله لفَهْمِ ذلك إلا صيغتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك، ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضَها إلا في صيغتي الأمر والنهي لتبايُن ما بينهما، فإن الأمرَ طلبُ فعل والنهيَ طلبُ تَرْكٍ أو كفٍّ، وكذا "الحافظون" عَطفَه وذَكَر متعلَّقه. وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نَظْمٍ وهو ظاهر بالتأمُّل، فإنه قَدَّم التوبةَ أولاً ثم ثَنَّى بالعبادة إلى آخره. وقيل: إنما دخلت الواوُ لنها واوُ الثمانية، كقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لَمَّا كان للجنة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. وقال أبو البقاء: "إنما دخلت الواو في الصفة الثامنة إيذاناً بأن السبعة عندهم عددٌ تام، ولذلك قالوا: "سبع في ثمانية"، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبار، وإنما دَلّت الواوُ على ذلك لأن الواو تُؤْذن بنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دَخَلَت في باب عطفِ النَّسق"، قلت: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا تحقيقَ له.
* { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوااْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوااْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوااْ أُوْلِي قُرْبَى}: كقوله: "أَعْطوا السائلَ ولو على فرس"، وقد تقدَّم ما في ذلك، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة.
* { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }
(8/111)
---(1/3151)
قوله تعالى: {وَعَدَهَآ إِيَّاهُ}: اختُلِف في الضمير المروفع والمنصوبِ المنفصل فقيل: - وهو الظاهر - إن المرفوع يعود على إبراهيم، والمنصوبَ على أبيه، يعني أن إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفرَ له. ويؤيد هذا قراءةُ الحسن وحماد الرواية وابن السَّميفع وأبي نهيك ومعاذ القارىء "وعدها أباه"، بالباء الموحدة. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لإِبراهيم، وفي التفسير أنه كان وَعَدَ إبرايهمَ أنه يؤمن، فبذلك طَمِع في إيمانه.
والأَوَّاه. الكثير التأَوُّه، وهو مَنْ يقول: أَوَّه، وقيل: مَنْ يقول أوَّه، وهو أَنْسَبُ لأن أَوَّهَ بمعنى أتوجع، فالأَوَّاه فعَّال، مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعلِه أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة إنما تَطَّرد في الثلاثي. وقد حكى قطرب فعله ثلاثياً فقال: يقال آهَ يَؤُوه كقام يقوم، أَوْهاً. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يُقال مِنْ أَوَّه بمعنى الوَجَع فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأَوْيهاً، وتَأَوَّه تَأَوُّهاً. قال الراجز:
2547 - فأَوَّه الراعي وضَوْضَى أَكْلبُه
وقال المثقب العبدي:
2548 - إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بليلٍ * تأوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
وقال الزمخشري: "أَوَّاه فَعَّال مِنْ أَوَّه كـ لأَل من اللؤلؤ، وهو الذي يُكثر التأوُّه"، قال الشيخ: "وتشبيهه أوَّاه مِنْ كـ لأَّل من اللؤلؤ ليس بجيدٍ، لأنَّ مادةَ أوَّه موجودة في صورة أواه، ومادة "لؤلؤ" مفقودةٌ في لأل لاختلاف التركيب إذ "لأل" ثلاثي، و "لؤلؤ" راعي، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية". قلت: لاَّل ولؤلؤ كلاهما من الرابعي المكرر، أي: أن الأصل لام وهمزة، ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنه اجتمع الهمزتان في لآَّل فأُدْغمت أولاها في الأخرى، وفُرِّق بينهما في: "لؤلؤ".
(8/112)
---(1/3152)
* { لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {اتَّبَعُوهُ}: يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه اتِّباعٌ حقيقي، ويكون عليه السلام خَرَج أولاً وتبعه أصحابه، وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرَه ونَهْيَه، وساعةُ العُسْرة عبارةٌ عن وقتِ الخروج إلى الغزو، وليس المرادُ حقيقةَ الساعة بل كقولهم: يوم الكُلاب، وعشيةَ قارعْنَا جُذام، فاستعيرت السَّاعة لذلك كام استيعر الغداة والعشية في قوله:
2549 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بكرُ بنُ وائلٍ * .......................
[وقوله]:
2550 - ................... * عشية قارَعْنا جُذَام وحميرا
[وقوله]:
2551 - إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى * .........................
(8/113)
---(1/3153)
قوله: {كَادَ يَزِيغُ}، قرأ حمزة وحفص عن عاصم "يزيغ" بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكونَ اسمُ "كاد" ضميرَ الشأن، و "قلوب" مرفوعٌ بيزيغ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمُها ضميرَ القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذِكْرُ المهاجرين والأنصار، ولذلك قَدَّره أبو البقاء وابنُ عطية: "من بعد كاد القوم"، وقال الشيخ في هذه القراءةِ: "فيتعيَّن أن يكون في "كاد" ضميرُ الشأن وارتفاعُ "قلوب" بيزيغ لامتناعِ أن يكون "قلوب" اسمَ كاد، و "يزيغ" في موضع الخبر، لأنَّ النيةَ به التأخير، / ولا يجوز: مِنْ بعد كاد قلوب يزيغ بالياء". قلت: لا يتعين ما ذكر في هذه القراءة لِما تقدَّم لك من أنه يجوز أن يكونَ اسمُ كاد ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملةُ الفعلية خبرها، ولا محذور يمنع من ذلك. وقوله: "لامتناع أن يكون "قلوب" اسم كاد"، يعني أنَّا لو جَعَلْنا "قلوب" اسمَ "كاد" لَزِم أن يكون "يزيغ" خبراً مقدماً فيلزم أن يرفعَ ضميراً عائداً على "قلوب"، ولو كان كذلك لَلَزِم تنيثُ الفعل لأنه حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأن جمعَ التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازاً.
(8/114)
---(1/3154)
وأمَّا قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في "كاد"، ضميرُ الشأن، كما تقدم، و "قلبقو" مرفوعٌ بتزيغ، وأُنِّث لتأنيث الجمع، وأن يكون "قلوب" اسمَها، و "تزيغ" خبر مقدم ولا محذورَ في ذلك، لأن الفعلَ قد أُنِّث. قال الشيخ: "وعلى كلِّ واحدٍ من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علمِ النحو مِنْ خبرَ أفعالِ المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها، فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير "عسى" من أفعال المقاربة، ولا يكون سببَّاً، وذلك بخلاف "كان" فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان، فإذا قدَّرْنا فيها ضميَ الشأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبر، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم "كاد" بل ولا سببّاً لهز وهذا يلزم في قراء التاء أيضاً. وأمَّا توسيط الخبرِ فهو مبنيٌّ على جواز مثل هذا التركيب في مثل "كان يقوم زيد" وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجهُ الأخير فضعيف جداً من حيث أضمر في "كاد" ضميراً ليس له على مَنْ يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر "كاد" رافعاً سبباً".
قلت: كيف يقول: "والصحيح المنعُ" وهذا التركيب موجود في القآن كقولِه تعالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ}، و {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا}، وفي قول امرىء القيس:
2552 - وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ * .........................
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالةَ، وإنما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر أم لا؟ فَمَنْ مَنَعَلأنه كباب المبتدأ والخبر، والخبرُ الصريح متى كان كذلك امتنع تقديمُه على المبتدأ لئلا يلتبسَ بباب الفاعل، فكذلك بعد نَسْخِه. ومن أجاز فلأَمْنِ اللبس.
(8/115)
---(1/3155)
ثم قال الشيخ: "ويُخَلِّصُ من هذه الإِشكالات اعتقادُ كونِ "كاد" زائدة، ومعناها مرادٌ، ولا عملَ لها إذ ذاك في اسمٍ ولا خبر، فتكون مثل "كان" إذا زِيْدَتْ، يُراد معناها ولا عملَ لها، ويؤيد هذا التأويلَ قراءةُ ابن مسعود "من بعد ما زاغَتْ"، بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، مع تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما بعدها، فأحرى أن يُدَّعى زيادتُها وهي ليسَتْعاملةً ولا معمولة". قلت: زيادتُها أباه الجمهور، وقال به من البصريين الأخفش، وجَعَلَ منه {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وتقدم الكلامُ على ذلك في أوائلِ هذا الكتاب.
وقرأ الأعمش والجحدري "تُزيغ" بضم التاء وكأنه جَعَلَ "أزاغ" و "زاغ" بمعنى. وقرأ أُبَيّ "كادَتْ" بتاء التأنيث.
* { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوااْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوااْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ}: يجوز أن يُنْسِق على "النبيّ"، أي: تاب على النبي وعلى الثلاثة، وأن يُنسقَ على الضمير في "عليهم"، أي: ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّر حرفُ الجر.
(8/116)
---(1/3156)
وقرأ جمهور الناس: "خُلِّفوا"، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه. وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام. وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء: "خَلَفوا"ن مبنياً للفاعل مخففاً مِنْ خَلَفَه، والمعنى: الذين خلفوا، أي: فَسَدوا، مِنْ خُلوف فم الصائم. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم خلفوا الغزين في المدينة. وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام. وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: "خالفوا"، بألف، أي: لم يوافقوا الغازين في الخروج. قال الباقر: "ولو خُلِّفوا لم يكن لهم"، والظن هنا بمعنى العلم كقوله:
2553 - فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ * سَرَاتُهمُ كالفارِسي المُسَرَّدِ
وقيل: هو على بابه.
قوله: {أَن لاَّ مَلْجَأَ} أنْ هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و "لا" وما في حيِّزها الخبرُ، و "من الله" خبرها. ولا يجوز أن تكونَ تتعلقُ بـ"مَلْجَأ"، ويكون "إلا إليه" الخبر لأنه كان يلزم إعرابه، لأنه يكون مطولاً. وقد قال بعضهم: إنه يجوزُ تشبيهُ الاسمِ المُطَوَّل بالمضاف فيُنْتَزَعُ ما فيه مِنْ تنوينٍ ونون كقوله:
2554 - أراني ولا كفرانَ لله أيَّةً * ..........................
وقوله: "لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل" برفع "يوم" وقد تقدَّم القولَ في ذلك. وقوله: "إلا إليه" استثناءٌ من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا مَلْجَأَ إلى أحدٍ إلا إليه كقوله: لا إله إلا الله.
(8/117)
---(1/3157)
* { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
والظَّمأُ: العطش، يُقال: ظَمِىء يَظْمَأُ ظَمَأً، فهو ظمآنُ وهي / ظَمْأَى، وفيه لغتان: القصر والمدُّ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد، نحو: سَفِه سَفاهاً، والظِّمْءُ ما بين الشَّرْبَتَيْن.
و "مَوْطِئاً" مَفْعِل مِنْ وَطِىءَ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الوَطْء، وأن يكون مكاناً، والأول أظهر، لأن فاعل "يغيظ" يعود عليه من غير تأويل بخلاف كونه مكاناً فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِىءُ.
وقرأ زيد بن علي: "يُغيظ" بضم الياء وهما لغتان: غاظَة وأغاظه.
والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقعَ المفعول به، وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر وهو المناولة، يقال: نِلْتُه أَنُوْله، أي: تناولته ونِلْتُه أنيله، أي: أَدْرَكْته.
* { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(8/118)
---(1/3158)
والوادي: قال الزمخشري: "الوادي: كل منفرَجٍ من جبال وآكام يكون مَنْفذاً للسيل، وهو في الأًل فاعِل مِنْ وَدَى إذا سال، ومنه الوَدِيّ، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض". وجُمع على أودية وليس بقياس، كان قياسُه الأَوادي كأَواصل جمع واصل، والأصل: وَوَاصِل، قُلبت الواو الأولى همزة. قال النحاس: "ولا أعرف فاعلاً وأفْعلِة سواه"، وقد استُدْرك هذا عليه فزادوا: نادٍ وأندية وأنشدوا:
2555 - وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ * وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ
والنادي: المجلس. وقال الفراء: إنه يُجمع على أَوْداء كصاحب وأصحاب وأنشد لجرير:
2556 - عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوداءِ رَسْماً * مُحيلاً طال عهدُكَ مِنْ رسومِ
قلت: وقد زاد الراغب في فاعل وأَفْعِلة: ناجٍ وأنْجِيَه، فقد كَمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظ في فاعل وأَفْعِلة، ويقال: وَدَاه، أي: أهلكه كأنهم تصوَّروا منه إسالة الدم، وسُمِّيت الدِّيَةُ دِيَةً لأنها في مقابلة إسالة الدم، ومنه الوَدْيُ وهو ماءُ الفحل عند المداعبة وماءٌ يخرج عند البول، والوَدِيُّ بكسر الدال والتشديد في الياء: صغار النحل.
وقوله: {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ}، مبتدأ وخبر، والإِشارة إلى ما تضمَّنه انتفاءُ التخلُّف مِنْ وجوب الخروج معه.
وقوله: {إِلاَّ كُتِبَ}، هذه الجملةُ في محل نصب على الحال مِنْ "ظَمَأ" وما عُطِف عليه، أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأَفْرد الضمير في "به" وإن تقدَّمه أشياء إجراء له مُجْرى اسمِ الإِشارة، أي:كُتب لهم بذلك عَمَلٌ صالح. والمضمرُ يُحتمل أن يعودَ على العمل الصالح المتقدم، وأن يعودَ على أحد المصدرين المفهومين في "ينفقون" و "يقطعون"، أي: إلا كُتِب لهم بالإِنفاقِ أو القَطْعِ.
وقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ} متعلقٌ بـ"كُتِب". وفي هذه الجملة من البلاغةِ والفصاحةِ ما لا يَخْفى على متأمَّله لا سيما لمن تدرَّب بما تقدَّم في هذا الموضوع.
(8/119)
---(1/3159)
* { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوااْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ}: "لولا" تحضيضية والمرادُ به الأمر. و "منهم" يجوز أن يكون صفةً لـ"فرقة" وأن يكون حالاً من "طائفة" لأنها في الأصل صفة لها، وعلى كلا التقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يُقال: إنَّ "من كل فرقة" حالٌ من طائفة، و "منهم" صفة لفرقة، ويجوز أن يكونَ "من كل" متعلقاً بـ"نَفَرَ.
وقوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} في هذا الضمير قولان، أحدهما: أنه للطائفة النافرة على أن المرادَ بالنفور: النفور لطلب العلم، وهو ظاهر. وقيل: الضمير في "ليتفَّقهوا" عائد على الطائفة القاعدة، وفي "رَجَعوا" عائدٌ على النافرة، والمراد بالنفور نفورُ الجهاد، والمعنى: أن النافرين للجهاد إذا ذهبوا بقيت إخوانهم يتعلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقه، فإذا رَجَع الغازون أنذرهم المُعَلِّمون، أي: علَّموهم الفقه والشَّرْع.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {وَلِيَجِدُواْ}: وهو من باب "لا أُرَيَنَّك ههنا" وتقدَّم شرحه.
قوله: {غِلْظَةً} قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد. وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب والمفضل - كلاهما عن عاصم - "غَلْظة" بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان - في رواية عنهما - "غُلظة" بالضم وهي لغة تميم. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث. والغِلظة: أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلُّد.
(8/120)
---(1/3160)
* { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
قوله تعالى: {زَادَتْهُ}: الجمهور على رفع "أيُكم" بالابتداء وما بعده الخبر. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالنصب على الاشتغال، ولكن يُقَدَّر الفعل متأخراً عنه من أجلِ أن له صدرَ الكلام والنصبُ عند الأخفش في هذا النحوِ أحسنُ من الرفع؛ لأنه يُجري اسم الاستفهام مُجرى الأسماءِ المسبوقةِ بأداة الاستفهام نحو: "أزيداً ضربته" في ترجيح إضمار الفعل.
* { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }
قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ}: قرأ حمزة "ترون" بتاء الخطاب وهو خطابٌ للذين آمنوا، والباقون بياء الغيبة رجوعاً على {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً /.
* { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }
قوله تعالى: {هَلْ يَرَاكُمْ}: في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم. وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و "مِنْ أحد" فاعلٌ.
* { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ}: صفةٌ لرسول، أي: من صميم العرب. وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي ويعقوب من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء، أي: مِنْ أَشْرَفِكم، من النَّفاسة.
(8/121)
---(1/3161)
وقوله: {عَزِيزٌ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون "عزيز" صفةً لرسول، وفيه أنه تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح، وقد يُجاب بأنَّ "من أنفسكم" متعلقٌ بـ"جاء"، و "ما" يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي، وعلى كلا التقديرين فهي فاعل بعزيز، أي: يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه، أي: عَنَتُهم يُسيئه، فحذفَ العائدَ على التدريج، وهذا كقوله:
2557 - يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي * وكان ذهابُهنَّ له ذهاباً
أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون "عزيز" خبراً مقدماً، و "ما عضنِتُّم" مبتدأ مؤخراً، والجملةُ صفةٌ لرسول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ "عزيز" مبتدأ، و "ما" عنتُّم خبره، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى العنت. والأرجح أن يكونَ "عزيز" صفةً لرسول؛ لقوله بعد ذلك "حريصٌ" فلم يُجعلْ خبراً لغيره، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجةَ إليه.
و "بالمؤمنين" متعلقٌ برؤوف. ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز: "زيداً ضربتُ وشتمته" على التنازع، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال الثاني لا الأولِ لما عُرِف: أنه متى أُعمل الأول أُضمِرَ في الثاني من غير حذف.
"بالمؤمنين" متعلقٌ برؤوف. ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز: "زيداً ضربتُ وشتمته" على التنازع، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال الثاني لا الأولِ لما عُرِف: أنه متى أُعمل الأول أُضمِرَ في الثاني من غير حذف.
* { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }
(8/122)
والجمهورُ على جَرِّ الميم من "العظيم" صفةً للعرش. وقرأ ابن محيصن برفعها، جَعَلَه نعتاً للرب، ورُويت هذه قراءةً عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصمُّ: "وهذه القراءة أعجبُ إليّ لأنَّ جَعْلَ العظيم صفةً لله تعالى أَوْلَى مِنْ جعله صفةً للعرش".(1/3162)
سورة يونس
* { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }
قد تقدَّم الكلامُ على الحروف المقطعة في أوائل هذا الموضوع، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ وهي: را، وطا، وها، وياء، وحا. فأمال "را" من جميع سورها إمالةً محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمر وأبن عامرز وأمال الأخَوَان وأبو بكر "طا" من جميع سُوَرِها نحو: طس، طسم، وطه، و "يا" من يس. وافقهم ابنُ عامر والسوسي على "يا" من كهيعص، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخَوان وأبو عمرو وورش وأبو بكر "ها" من طه، وكذلك أمالها من كهيعص أبو عمرو والكسائي وأبو بكر دون حمزةَ وورش. وأمال أبو عمرو وورش والأخَوَان وأبو بكر وابن ذكوان حا من جميع سورها السبع. إلا أن أبا عمروٍ ووَرْشاً يُميلان بين بين، [وللقراء في هذا عمل كثير] بيَّنْتُه في "شرح القصيد".
و "الحكيم": يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، أي: الحاكم، وأن يكونَ بمعنى مفعول، أي: مُحْكَم، قال الأعشى:
2558 - وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً * قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
* { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوااْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }
(8/123)
---(1/3163)
قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ}: الهمزة للإِنكار و "أن أوحينا" اسمُها. و "عجباً" خبرها. و "للناس" متعلق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ "عَجَباً" لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ بـ"عَجَباً"، ولا يَضُرُّ كونُه مصدراً لأنه يُتِّسع في الظرف وعديلهِ ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأن "عجباً" مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معمولِه. وقيل: هو متعلق بـ"كان" الناقصة، وهذا على رأيِ مَن يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة "كان" الناقصة على الحدث، فإن قلنا: إنها تدلُّ على ذلك فيجوز وإلا فلا وقيل: هو متعلقٌ بمحذوفٍ على التبين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم عجباً لهم. و "منهم" صفة لـ"رجل".
وقرأ رؤبة "رَجْل" بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنون فَعُلاً نحو: سَبُع وعَضُد. وقرأ عبد الله بن مسعود "عَجَبٌ". وفيها تخريجان، أظهرهما: أنها التامة، أي: أَحَدَثَ للناس عجب، و "أنْ أَوْحَيْنا" متعلق بـ"عَجَب" على حَذْف لامِ العلة، أي: عَجَبٌ لأَنْ أوحينا، أو يكون على حَذْف "مِنْ"، أي: مِنْ أَنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمَها النكرةَ وخبرَها المعرفةَ، على حَدِّ قوله:
2559 - ..................... * يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال الزمخشري: "والأجودُ أن تكونَ التامةَ، و "أنْ أَوْحَيْنا" بدلٌ من "عجب". يعني به بدلَ اشتمال أو كل من كل؛ لأنه جُعِل هذا نفسَ العَجَب مبالغةً. والتخريج الثاني لابن عطية.
قوله: {أَنْ أَنذِرِ} يجوز أن تكونَ المصدرية، وأن تكونَ التفسيريةَ. ثم لك في المصدرية اعتباران، أحدهما: أن تجعلَها المخففةَ مِن الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف. كذا قال الشيخ، وفيه نظر من حيث إن أخبارَ هذه الأحرف لا تكون جملةً طلبية، حتى لو ورد ما يُوهم ذلك يُؤوَّل على إضمار القول كقوله:(1/3164)
(8/124)
---
2560 - ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ * إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ
وقول الآخر:
2561 - إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ * لا تحسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وأيضاً فإن الخبرَ في هذا البابِ إذا وقع جملةً فعلية فلا بد من الفصلِ بأشياءَ ذكرتُها في المائدة، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ. والثاني: أنها التي بصدد أن / تنصِبَ الفعلَ المضارعَ، وهي تُوصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً نحو: "كتب إليه بِأَنْ قم". وقد تقدَّم لنا في ذلك بحث أيضاً ولم يُذْكر المُنْذَرُ به، وقد ذكر المُبَشَّرَ به كما سيأتي لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك.
قوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ} "أنَّ" وما في حَيِّزها هي المبشَّرُ بها، أي: بَشِّرهم باستقرارِ قَدَمِ صِدْق، فَحُذفت الباء، فَجَرى في محلِّها المذهبان. والمرادُ بقدَمِ صِدْقٍ السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرفيعة. وإليه ذهب الزجاج والزمخشري ومنه قولُ ذي الرمة:
2562 - لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنها
مع الحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ على البحر
لمَّا كان السعي والسَّبْقُ بالقدم سُمِّي السَّعْيُ المحمود قَدَماً، كما سُمِّيت اليدُ نِعْمة لمَّا كانت صادرةً عنها، وأُضيف إلى الصدق دلالةً على فضلِه، وهو من باب رجلُ صدقٍ ورجلُ سوءٍ. وقيل: هو سابقةُ الخير التي قَدَّموها، ومنه قول وضَّاح اليمني:
2563 - مالك وضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ * أَلَسْتَ تخشى تقارُبَ الأَجَلِ
صَلِّ لذي العرشِ واتَّخِذْ قَدَماً * تُنْجيك يوم العِثارِ والزَّلَلِ
وقيل: هو التقدُّمُ في الشرف، ومنه قول العجاج:
2564 - ذَلَّ بنو العَوَّامِ مِنْ آل الحَكَمْ * وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي قَدَمْ
أي: ذي تقدُّمٍ وشرفٍ. و "لهم" خبر مقدم، و "قَدَمَ" اسمُها، و "عند ربهم" صفةٌ لـ"قَدَم". ومن جَوَّز أن يتقدَّمَ معمولُ خبرِ "أنَّ" على اسمها إذا كان حرف جر كقوله:
(8/125)
---(1/3165)
2565 - فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها * أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ
قال: فـ"بحبها" متعلقٌ بـ"مُصاب"، وقد تقدَّم على الاسم فكذلك "لهم" يجوز أن يكونَ متعلقاً بـ"عند ربهم" لِما تَضَمَّنَ من الاستقرار، ويكونُ "عند ربهم" هو الخبر.
وقرأ نافعٌ وأبو عمرو وابن عامر "لَسِحْرٌ" والباقون "لَساحر"، فـ"هذا" يجوزُ أن يكونَ إشارةً للقرآن، وأن يكونَ إشارة للرسول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: إن المشار إليه هو النبي عليه السلام، أي: ذو سحر أو جعلوه إياه مبالغةً. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للرسولِ عليه السلام فقط.
* { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لـ"إنَّ". الثاني: أنه حالٌ. الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب.
* { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ}: منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ، لأنَّ معنى "إليه مَرْجِعُكُمْ": وَعَدَكم بذلك
وقوله: {حَقّاً} مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقاً. وقيل: انتصب "حقاً" بـ"وَعْدَ" على تقدير "في"، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التشبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: "التقدير: وقتَ حق" وأنشد:
(8/126)
---(1/3166)
2566 - أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً * ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ
قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ} الجمهورُ على كسر الهمزة للأستئناف. وقرأ عبد الله وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها. وفيها تأويلاتٌ، أحدها: أن تكونَ فاعلاً بما نصب "حقاً"، أي: حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق، ثم إعادتُه، كقوله:
2567 - أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً * ............................
البيت. وهو مذهبُ الفراء فإنه قال: "والتقدير: يحقُّ أنه يبدأ الخلق. الثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ "وعد الله" أي: وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه. الثالث: أنه على حَذْف لام الجر أي: لأنه، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره. الرابع: أنه بدلٌ من "وَعْدَ الله" قاله ابن عطية: الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس "حقاً" أي: بالمصدر المنون، وهذا إنما يتأتَّى على جَعْل "حقاً" غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه، وفيه بحثٌ. السادس: أن يكونَ "حقاً" مشبهاً بالظرف خبراً مقدماً و "أنَّه" في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم: أحقاً أنك ذاهب قالوا: تقديره: أفي حقٍ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة: "حَقٌّ أنه" برفع [حق] وفتح "أنَّ" على الابتداء والخبر. قال الشيخ: "وكونُ "حق" خبرَ مبتدأ، و "أنه" هو المبتدأ هو الوجه في الإِعراب، كما تقول: "صحيحٌ أنك تخرج" لأن [اسم] "أنَّ" / معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة". قلت: فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب "إنَّ" كقوله:
2568 - وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً * بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
وقوله:
2569 - وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل
على جَعْل "أنْ سفحتُها" بدلاً من "عبرة". وقد أخبر في "كان" عن نكرةٍ مبعرفةٍ كقوله:
(8/127)
---(1/3167)
2570 - ................... * ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا
وقوله:
2571 - .................... * يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال مكي: "وأجاز الفراء رفع "وعد"، يجعله خبراً لـ"مرجعكم". وأجاز رفعَ "وعد" و "حق" على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد". قلت: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد، وأمَّا رفعُ "حق" وحده فقد تقدم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهُه. ولا يجوز أن يكون "وعدَ الله" عاملاً في "أنه" لأنه قد وُصِف بقوله "حقاً" قاله أبو الفتح.
وقرىء "وَعَدَ اللَّهُ" بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون "أنه يَبْدَأ" معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح "أنه".
والجمهور على "يَبْدأُ" بفتح الياء مِنْ بدأ، وابن أبي طلحة "يُبْدِىء" مِنْ أَبْدا، وبَدَأ وأبدأ بمعنى.
قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله "ثم يُعيده"، و "بالقساطِ" متعلقٌ بـ"يَجْزي". ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا من الفاعلِ او المفعول أي: يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به. والقِسْط: العدل.
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ بعده [خبره]. الثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه، وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم. و "شراب" [يجوز أَنْ] كونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، [والأولُ أَوْلَى].
قوله: {بِمَا كَانُواْ} الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا. وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين - ولم يذكر غيرهما - الأول: أن يكونَ صفةً أخرى لـ"عذاب". والثاني: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول.
(8/128)
---(1/3168)
* { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {ضِيَآءً}: إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ للتصيير، وإمّضا حالٌ على أنه بمعنى الإِنشاء. والجمهورعلى "ضياء" بصريح الياء قبل الألف، وأصلُها واو لأنه من الضوء. وقرأ قنبل عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص "ضِئاءً" بقلب الياء همزة، فتصير ألف بين همزتين. وأُوِّلت على أنه مقلوبٌ قُدِّمت لامُه وأُخِّرت عينه فوقعت الياء طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حَدِّ "رداء". وإن شئت قلتَ: لمَّا قُلِبت الكلمة صار "ضياواً" بالواو، عادت العين إلى أصلها مِن الواو لعدم موجِبِ قَلْبِها ياءً وهو الكسرُ السابقُها، ثم أُبْدلت الواوُ همزةً على حَدِّ كساء. وقال أبو البقاء: "إنها قُلبت ألفاً ثم قُلِبت الألفُ همزةً لئلا تجتمعَ ألفان".
واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إن اللغةَ مبنيَّة على تسهيلِ الهمزِ فكيف يَتَخَيَّلون في قَلْب الحرفِ الخفيف إلى أثقلَ منه؟ قلت: لا غَرْو في ذلك، فقد قلبوا حرف العلةِ الألف والواو والياء همزة في مواضع لا تُحصرُ إلا بعُسْرٍ، إلا أنه هنا ثقيلٌ لاجتماع همزتين. قال أبو شامة: "وهذه قراءة ضعيفةٌ، فإن قياسَ اللغة الفِرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يُتَخَيَّل بتقديم وتأخيرٍ يؤدي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللغة .".
(8/129)
---(1/3169)
وقال أبو بكر ابن مجاهد - وهو ممَّن على قنبل -: "ابنُ كثير وحدَه "ضِئاء" بهمزتين في كل القرآن: الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قَرضأْتُ على قنبل وهو لغط، وكان أصحاب البزي وابن فليح يُنْكرون هذا ويَقْرؤون "ضياء" مثلَ الناس". قلت: كثيراً ما يتجرأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمُّر بمواضعُ من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يضمنع أن يتكلَّمَ فيه أحد.
وقوله في جانب الشمس "ضياء" لأن الضوء أقوى من النور، وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة. و "ضياء ونوراً" يُحْتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغةً، أو على حَذْف مضاف أي: ذات ضياء وذا نور. وضياء يحتمل أن يكونَ جمع "ضوء" كسَوْط وسِياط، وحَوْض حياض.
و "منازل" نُصِب على ظرف المكان، وجعله الزمخشري على حذف مضاف: إمَّا من الأول أي: قَدَّره مَسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّره ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون "منازل بالتقدير. وقال الشيخ بعد أن ذكرَ التقديرين، ولم يَعْزُهما للزمخشري: "أو قدَّر له منازل، فحذفَ، وأوصل الفعل إليه فانتصب بحسب هذه التقاديرِ عل الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: {وَالْقَمَرَ / قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} وقد سبقَه إلى ذلك أبو البقاء أيضاً.
والضمير في "قَدَّرناه" يعود على القمر وحده؛ لأنه هو عمدةُ العربِ في تواريخهم. وقال ابن عطية: "ويُحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرَّفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتُزِىءَ بذِكْر أحدهما كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وكما قال الشاعر:
2572 - رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي * بريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رماني
* { إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ }
(8/130)
---(1/3170)
قوله تعالى: {لِتَعْلَمُواْ }: متعلق بـ"قَدَّره". وسُئل أبو عمرو عن الحساب: "أتنصِبُه أم تجرُّه؟ فقال: "ومَنْ يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سُئل: هل تعطفه على "عَددَ" فتنصبَه أم على "السنين" فتجرَّه؟ فكأنه قال: لا يمكنُ جَرُّه؛ إذ يقتضي ذلك أن يُعلم عدد الحساب، ولا يقدر أحد أَنْ يعلمَ عددَه. و "ذلك" إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحق فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإما من المفعول. وقيل: الباء بمعنى اللام أي: للحق، ولا حاجة إليه.
وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو "يُفَصِّل" بياء الغيبة جَرْياً على اسم الله تعالى، والباقون بنون العظمة التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلّثم للتعظيم.
* { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ }
قوله تعالى: {وَاطْمَأَنُّواْ}: يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ الواوُ للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وقوله: "والذين هم" يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعون بين عدم رجال لقاءِ الله وبين الغَفْلة عن الآيات، وأن يكون هذا الموصولُ غيرَ الأول، فيكونَ عطفاً على اسم "إن" أي: إن الذين لا يَرْجُون، وإن الذين هم.
* { أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
و: {أُوْلَائِكَ}: مبتدأ و "مَأْواهم" مبتدأ ثانٍ، و "النار" خبرُ هذا الثاني، والثاني وخبره خبر "أولئك"، و "أولئك" وخبره خبر "إن الذين". و "بما كانوا" متعلقٌ بما تضمَّنته الجملة من قوله: "مَأْواهم النار" والباءُ سببيةٌ، و "ما" مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرارِ ذلك في كل زمان. وقال أبو البقاء: "إن الباء تتعلَّق بمحذوف أي: جُوزوا بما كانوا".
(8/131)
---(1/3171)
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}: يجوز أن يكونَ حالاً من مفعول "يَهْديهم"، وأن يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على ما قبله، حُذِف منه حرفُ العطف. قوله "في جنات" يجوز أن يتعلَّق بـ"تَجْري" وأن يكون حالاً من "الأنهار"، وأن يكونَ خبراً بعد خبر لـ"إنَّ"، وأن يكون متعلِّقاً بـ"يَهْدي".
* { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ}: مبتدأٌ و "سبحانَك" معمول لفعلٍ مقدر لا يجوز إظهارُه هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفس المبتدأ، والمعنى: أن دعاءَهم هذا اللفظُ، فـ"دعوى" يجوز أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه "اللهم" لأنه نداء في معنى يا الله، ويجوز أن يكون هذا الدعاءً هنا بمعنى العبادة، فـ"دَعْوى" مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إنْ شِئْتَ أن تجعلَ هذا من باب الإِسناد اللفظي أي: دعاؤهم في الجنة هذا اللفظُ، فيكون نفسُ "سبحانك" هو الخبرَ، وجاء به مَحْكياً على نصبه بذلك الفعل، وإن شِئْتَ جَعَلْتَه من باب الإِسناد المعنوي فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظَ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جميع صفات التنزيهِ والتقديس، وقد تقدم لك نظيرُ هذا عند قولِه تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ}، فعليك بالالتفات إليه.
(8/132)
---(1/3172)
و "تحيَّتُهم" مبتدأٌ، و "سَلامٌ" خبرُها، وهو كالذي قبله، والمصدرُ هنا يحتمل أن يكونَ مضافاً لفاعله أي: تحيتهم التي يُحَيُّون بها بعضَهم سلامٌ، ويُحتمل أن يكونَ مضافاً لمفعوله أي: تحيتهم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلام، ويدلُّ له {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ}. و "فيها" في الموضعين متعلقٌ بالمصدرِ قبل" يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده فيتعلَّقَ بمحذوف، وليس بذاك. وقال بعضُهم: "يجوز أن يكون "تحيتهم" مِمَّا أضيف فيه المصدرُ لفاعله ومفعوله معاً؛ لأنَّ المعنى: يُحَيِّي بعضُهم بعضاً، ويكون كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} حيث أضافَه لداود وسليمان وهما الحاكمان، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألةٍ أخرى وهو أنه: هل يجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ أم لا؟ فإن قلنا: نعم، جاز ذلك لأن إضافةَ المصدرِ لفاعله حقيقةٌ ولمفعوله مجاز، ومَنْ منع ذلك أجاب بأن أَقَلَّ الجمعِ اثنان فلذلك قال: / "لحكمهم".
قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} مبتدأ، و "أَنْ" هي المخففة من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن حُذِف، والجملةُ الاسميةُ بعدَها في محلِّ الرفع خبراً لها كقول الشاعر:
2573 - في فتية كسيوفِ الهند قد علموا * أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَحفى ويَبْتَعِلُ
و "أنْ" واسمُها وخبرها في محلَّ رفعٍ خبراً للمبتدأ الأول. وزعم الجرجانيُّ أن "أَنْ" هنا زائدة والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله، وهي دعوى لا دليلَ عليها مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويين. وزعم المبرد أيضاً أن "أَنْ" المخففة يجوز إعمالُها مخففةً كهي مشددةً، وقد تقدم ذلك.
وتخفيفُ "أَنْ" ورفعُ "الحمد" هو قراءةُ العامة. وقرأ عكرمة وأبو مجلز وأبو حيوة وقتادة ومجاهد وابنُ يعمر وبلال بن أبي بردة وابن محيصن ويعقوب بتشديدها ونصبِ دال "الحمد" على أنه اسمُها. وهذه تؤيدُ أنها المخففةُ في قراءة العامةِ، وتردُّ على الجرجاني.(1/3173)
(8/133)
---
* { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ}: هذا الامتناعُ نفي في المعنى تقديره: لا يُعَجِّلُ لهم الشرَّ. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيفَ اتَّصل به قولُه: "فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا وما معناه؟ قلت: قولُه: "ولو يُعَجِّل" متضمَّنٌ معنى نفي التعجيل كأنه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشرِّ ولا نَقْضي إليهم أجلَهم".
قوله: {اسْتِعْجَالَهُمْ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدرِ التشبيهيِّ تقديرُه: استعجالاً مثلَ استعجالِهم، ثم حَذَفَ الموصوفَ وهو "استعجال" وأقامَ صفتَه مُقامه وهي "مثل" فبقي: ولو يعجل اللَّهُ مثل استعجالِهم، ثم حَذَفَ المضافَ وأقام المُضاف إليه مُقامه. قال مكي: "وهذا مذهبُ سيبويه" قلت: وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ أن مذهبَ سيبويه في مثل هذا أنه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْرِبين غيرَه، ففي نسبةِ ما ذكرته أولاً لسيبويه نظرٌ.
الثاني: أن تقديرَه: تعجيلاً مثلَ استعجالهم، ثم فُعِل به ما تقدَّم قبلَه وهذا تقديرُ أبي البقاءن فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلَه، فإنَّ "تعجيلاً" مصدر لـ"عَجَّل" وما ذكره مكي موافقٌ للمصدر الذي بعده، والذي يظهر ما قدَّره أو البقاء لأن موافقةَ الفعلِ أولَى، ويكون قد شبَّه تعجيلَه تعالَى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكي فإنه لا يظهر، إذ ليس "استعجال" مصدراً لـ"عجَّل".
(8/134)
---(1/3174)
وقال الزمخشري: أصلُه: ولو يُعَجِّل الله للناسِ الشرَّ تعجيلَه لهم الخير، فوضع "استعجالهم بالخير" موضعَ "تعجيله لهم الخيرَ" إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافِه بطلبهم، كأنَّ استعجالَهم بالخير تعجيلٌ لهم". قال الشيخ: "ومدلولُ "عَجَّل" غيرُ مدلولِ "استعجل" لأنَّ "عَجَّل" يدلُّ على الوقوع، و "استعجل" يدلُّ على طلب التعجيل، وذلك واقعٌ من الله، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون التقدير: تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التعجيلَ بالاستعجال؛ لأن طلبَهم [للخير] ووقوعَ تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كل شيء. والثاني: أن يكون ثَمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدرُ تقديرُه: ولو يعجِّل اللَّهُ للناسِ الشرَّ إذا استعجلوا به استعجالَهم بالخير، لأنهم كانوا يستعجلون بالشرِّ ووقوعِه على سبيل التهكم كما كانوا يتسعجلون بالخير". الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاط كافِ التشبيهِ، والتقدير: كاستعجالهم. قال أبو البقاء. "وهو بعيدٌ، إذ لو جاز ذلك لجاز "زيد غلامَ عمرو" أي: كغلام عمرو" وبهذا ضَعَّفه جماعةٌ وليس بتضعيفٍ صحيحٍ، إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدى بنفسه عند حذف الجار، وفي الآيةِ فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك وهوقوله "يُعَجِّل". وقال مكي: "وَيَلْزَمُ مَنْ يُجَوَّز حَذْفَ حرفِ الجر منه أن يجيز "زيدُ الأسدُ" أي: كالأسدِ" قلت: قوله "ويلزم إلى آخره" لا ردَّ فيه على هذا القاتل إذ يلتزمه، وهو التزام صحيح سائغ، إذ لا ينكر أحد "زيد الأسدُ" على معنى "كالأسد"، وعلى تقدير التسليمِ فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء أي: إن الفعل يطلب مصدراً مشبَّهاً فصار مدلولاً عليه. وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم، نقله مكي، فلمَّا حُذِفت "في" انتصبَ، وهذا لا معنى له.
(8/135)
---(1/3175)
قوله: {لَقُضِيَ} / قرأ ابن عامر "لقضى" بفتح الفاء والعين مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، "أجلهم" نصباً. والباقون "لقُضِيَ" بالضم والكسر مبنياً للمفعول، "أَجَلُهم" رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ الأعمش "لقَضَيْنا" مسنداً لضمير المعظِّم نفسَه، وهي مؤيدةٌ لقراءةِ ابن عامر.
قوله: {فَنَذَرُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على قوله {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} على معنى أنه في قوة النفي، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سؤال الزمخشري وجوابِه فيه. إلا أن أبا البقاء ردَّ عطفه على "يُعَجِّل" فقال: "ولا يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على "يُعَجِّل" إذ لو كان كذلك لدَخَلَ في الامتناع الذي تقتضيه "لو" وليس كذلك، لأنَّ التعجيلَ لم يقع، وتَرْكَهم في طغيانهم وقع". قلت: إنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان معطوفاً على "يُعَجِّل" فقط باقياً على معناه، وقد تقدَّم أن الكلامَ صار في قوةِ { } فيكون "فَنَذَرُهم" معطوفاً على جملة النفي لا على الفعلِ الممتنع وحدَه حتى يلزمَ ما قال. والثاني: أنه معطوفٌ على جملةٍ مقدرة: "لا نعجِّل لهم الشرَّ فَنَذَرُهم" قاله أبو البقاء. والثالث: أن تكون جملةً مستأنفةً، أي: فنحن نَذَرُ الذين. قاله الحوفي.
* { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(8/136)
---(1/3176)
قوله تعالى: {لِجَنبِهِ}: في محلِّ نصبٍ على الحال، ولذلك عَطَفَ الحالَ الصريحة، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقِياً لجَنْبه. واللامُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم أنها بمعنى "على"، ولا حاجةَ إليه. واختُلف في ذي الحال، فقيل: الإِنسان، والعامل فيها "مَسَّ" قاله ابن عطية. ونَقَله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من جهين، أحدهما: أن الحالَ على هذا واقعةٌ بعد جواب "إذا" وليس بالوجهِ. قلت: كأنه يعني أنه ينبغي ألاَّ يجابَ الشرطُ إلا إذا استوفى معمولاتِه، وهذه الحالُ معمولة للشرط وهو "مَسذَ"، وقد أُجيب قبل أن يَسْتوفي معموله. ثم قال: "والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائِه في كل أحواله لا على أن الضرَّ يصيبه في كل أحوالِه، وعليه جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن.
قال الشيخ: "وهذا الثاني يلزم فيه - مِنْ مَسِّه الضرُّ في هذه الأحوالِ - دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جوابُ ما ذُكِرت فيه هذه الأأحوال [فالقيد في الشرط قيدٌ في الجواب كما تقول: "إذا جاءنا زيدٌ فقيراً فقد أَحْسَنَّا إليه" فالمعنى:] أَحْسَنَّا إليه في حال فقرِه".
وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في "دعانا" وهو واضحٌ، أي: دعانا في جميع أحواله لأن هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإِنسان عن واحدة منها. ثم قيل: المراد بالإِنسان الجنسُ، وهذه الأحوالُ بالنسبة إلى المجموع، أي: منهم مَنْ يدعو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعو قائماً، أو يُراد به شخصٌ واحد جَمَع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسبِ الأوقاتِ، فيدعو في وقتٍ على هذه الحال، وفي وقت على أخرى.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ} قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا عند قوله: {لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ}. قال الزمخشري: "فَحَذفَ ضميرَ الشأن كقوله:
2574 - .................. * كأنْ ثَدْياه حُقَّانِ"
(8/137)
---(1/3177)
يعني على روايةِ مَنْ رواه "ثَدْيان" بالألف، ويُروى "كأنْ ثَدْيَيْه" بالياءِ على أنها أُعملت في الظاهر وهو شاذٌّ، وصدر هذا البيت:
وصَدْرٍ مُشْرقِ النَّحْرِ * ..........................
وهذه الجملةُ التشبيهيةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "مرَّ"، أي: مضى على طريقته مشبهاً مَنْ لم يَدْعُ إلى كشف ضر. و "مَسَّه" صفةٌ لـ"ضُرّ"، قال صاحب النظم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ} وَصْفُه للمستقبل، و "فلمَّا كشفنا" للماضي، فهذا النَّظْم يدلُّ على معنى الآية أنه كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون مما يُستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل".
والكافُ مِنْ "كذلك زُيِّن" في موضع نصب على المصدر، أي: مثلَ ذلك التزيين والإِعراض عن الابتهال. وفاعل "زُيِّن" المحذوف: إمَّا الله تعالى وإمَّا الشيطان. و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. و "ما" يجوزُ أن تكون مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي.
* { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {مِن قَبْلِكُمْ}: متعلقٌ بـ"أَهْلكنا"، ولا يجوز أن يكونَ حالاً من "القرون" لأنه ظرف زمان فلا يقع حالاً عن الجثة كما لا يقع خبراً عنها. وقد تقدَّم تحقيق هذا في أول البقرة، وقد تقدَّم الكلامُ على "لمَّا" أيضاً.
(8/138)
---(1/3178)
قوله: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم} يجوز أن يكون معطوفاً على "ظلموا" فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحله الجر عند غيره، لأنه عطف على ما هو في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلُهم بالحُجَج والشواهد على صدقهم و "بالبينات" يجزُ أن يتعلَّق بـ"جاءتهم"، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "رسلهم" [أي:] جاؤوا ملتبسين بالبينات مصاحبين لها.
قوله: {وَمَا كَانُواْ} الظاهرُ عَطْفه على "ظلموا". وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ / اعتراضاً قال: "واللامُ لتأكيد فني إيمانهم، ويعني بالاعتراض كونَه وقع بين الفعل ومصدرهِ التشبيهي في قوله "كذلك نَجزي". والضميرُ في "كانوا" عائد على "القرون". وجَوَّز مقاتل أن يكونَ ضميرَ أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً إذ فيه خروجٌ من ضمير الخطاب في قوله "قبلكم" إلى الغَيْبة، والمعنى: وما كنتم لتؤمنوا، و "كذلك" نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي مثلَ ذلك الجزاء نجزي. وقُرِىء "يَجْزي" بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من التكلم في قوله "أَهْلكنا" إلى الغَيْبة.
* { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {لِنَنظُرَ}: متعلق بالجَعْل. وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة وتشديد الظاء. وقال يحيى: "هكذا رأيته في مصحف عثمان" يعني أنه رآها بنون واحدة، ولا يعني أنه رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشكل وهو رديءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال فيه: إنه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النون الساكنة فظنَّه السامع إدغاماً، ورؤيتُه له بنونٍ واحدة لا يدلُّ على قراءته إياه مشددَ الظاء ولا مخفَّفَها. قال الشيخ: "ولا يدلُّ" على حَذْفَ النون من اللفظ". وفيه نظرٌ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟
وقوله: {كَيْفَ} منصوبٌ بـ"تعلمون" على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملون، وهي معلِّقة للنظر.
(8/139)
---(1/3179)
* { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيا إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّيا أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
قوله تعالى: {أَوْ بَدِّلْهُ}: يحتمل التبديلُ في الذات والتبديلُ في الصفات، يعني أجعلْ آيةَ عذاب مكانَ آية رحمة. فإن قيل: يلزمُ على الأولِ التكرار في قوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ}، فالجوابُ أن معنى الأول: ائت بقرآن غيره مع بقائه، أو بَدِّله بأنْ تُزيل ذاتَه بالكلية، فيتغاير المطلوبان.
و "تِلْقاء" مصدرٌ على تِفْعال، ولم يجيء مصدر بكسر التاء إلا هذا والتِّبْيان. وقرىء شاذاً بفتح التاء، وهو قياسُ المصادر الدالة على التكرار كالتَّطْواف والتَّجوال. وقد يُسْتعمل التِّلقاء بمعنى قبالتك، فينتصبُ انتصابَ الظروف المكانية.
* { قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}: أي: ولا أَعْلمكم الله به، مِنْ دَرَيْتُ، أي: علمتُ. ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأَدْرَيْتك بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في "علمت به" فَتَضَمَّن العلمُ معنى الإِحاطة فتعَدَّى تَعْدِيَتَها.
(8/140)
---(1/3180)
وقرأ ابنُ كثير - بخلاف عن البزي - "ولأَدْراكم" بلام داخلة على "أَدْراكم" مثبتاً. والمعنى: ولأُعْلِمَكم به من غير وساطتي: إمَّا بوساطة مَلَكٍ أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنه خَصَّني بهذه الفضيلة. وقراءةُ الجمهور "لا" فيها مؤكدةٌ؛ لأنَّ لا يَصِحُّ نفيُ الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جواب، ولو قلت: "لو كان كذا لا كان كذا" لم يَجُزْ، بل تقول: "ما كان كذا". وقرأ ابن عباس والحسن وابن سيرين وأبو رجاء: {ولا أَدْرَأْتُكم به} بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الراء. وفي هذه القراءةِ تخريجان، أحدهما: أنها مُبْدَلةٌ من ألف، والألف منقلبةٌ عن ياءٍ لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعُقَيْلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: "قَلَبَ الحسنُ الياءَ ألفاً، كما في لغة بني الحرث يقولون: عَلاَك وإلاك، ثم هَمَزَ على لغة من قال في العامل: العَأْلَم، وقيل: بل أُبْدلت الهمزة من نفس الياء نحو: "لَيَأْتُ بالحج" و "رثَأْت فلاناً"، أي: لبَّيْتُ ورَثَيْتُ. والثاني: أن الهمزة أصلية وأن اشتقاقه مِنَ الدَّرْء وهو الدّفْع كقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ}، ويقال: أَدْرأته، أي: جَعَلْته دارِئاً، والمعنى: ولأَجْعَلَنَّكم بتلاوته خُصَماء تَدْرَؤُونني بالجدال. قال أبو البقاء: "وقيل: هو غل"، لأنَّ قارِئَها ظَنَّ أنها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ. وقيل: ليس بغلطٍ والمعنى: لو شاء اللَّه لدَفَعَكم عن الإِيمان به".
وقرأ شهر بن حوشب والأعمش: "ولا أَنْذَرْتُكم" من الإِنذار، وكذلك / هي في حرف عبد الله.
والضمير في "قبله" عائد على القرآن. وقيل: على النزول. وقيل: على وقت النزول. و "عُمُراً" مشبهٌ بظرف الزمان فانتصبَ انتصابَه، أي: مدة متطاولة. وقيل: هو على حَذْلإ مضاف، أي: مقدار عُمُر. وقرأ الأعمش "عُمْراً" بسكون الميم كقولهم: "عَضْد" في "عَضُد".
(8/141)
---(1/3181)
* { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلااءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ}: "ما" موصولة، أو نكرةٌ موصوفةٌ وهي واقعةٌ على الأصنام، ولذلك راعى لفظهان فأفرد في قوله {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} ومعناها فجمع في قوله "هؤلاء شفعاؤنا".
قوله: {أَتُنَبِّئُونَ} قرأ بعضهم: "أتُنْبِئون" مخففاً مِنْ أبنأ، يقال: أنبأ ونبَّأ كأخبرَ وخبَّر. وقوله: {بِمَا لاَ يَعْلَمُ} "ما" موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة كالتي تقدمت. وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف، أي: يعلمه. والفاعل هو ضمير الباري تعالى، والمعنى: أتنبِّئوون الله بالذي لا يعلمه الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً استحال وجودُ ذلك الشيء، لأنه تعالى لا يَعْزُب عن علمه شيء، وذلك الشيء هو الشفاعة، فـ"ما" عبارة عن الشفاعة.
والمعنى: أن الشفاعةَ لو كانَتْ لَعَلِمَهَا الباري تعالى. وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} تأكيدٌ لنفيه، لأنَّ كل موجود لا يَخْرج عنهما. ويجوزُ أن تكونَ "ما" عبارةً عن الأصنام. وفاعل "يعلمُ" ضميرٌ عائد عليها. والمعنى: أَتُعَلِّمون اللَّهَ بالأصنامِ التي لا تَعْلَم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثَبَتَ أنها لا تعلم فكيف تشفع؟ والشافع لا بد وأن يعرفَ المشفوعَ عنده، والمشفوعَ له، هكذا أعربه الشيخ، فجعل "ما" عبارة عن الأصنام لا عن الشفاعة، له، هكذا أرعبه الشيخ، فجعل "ما" عبارة عن الأًصنام لا عن الشفاعة، والأول أظهر. و "ما" في "عَمَّا يشركون" يُحتمل أن تكونَ بمعنى الذي، أي: عن شركائهم الذي يُشْركونهم به في العبادة. أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيره.
(8/142)
---(1/3182)
وقرأ الأخَوان هنا "عَمَّا يُشْركون"، وفي النحل موضعين، الأول: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلاائِكَةَ}، والثاني: {بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وفي الروم: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالخطاب. والباقون بالغَيْبة في الجميع. والخطاب والغيبة واضحتان.
وأتى هنا بـ"يُشْركون" مضارعاً دون الماضي تنبياهً على استمرار حالِهم كما جاؤوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
* { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيا آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا}: شرطيةٌ جوابُها "إذا الفجائيةُ في قوله: {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ}، والعاملُ في "إذا" الفجائيةِ الاستقرارُ الذي في "لهم" وقد تقدَّم لك خلافٌ في "إذا" هذه: هل هي حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها أو ظرفُ مكان؟ وقال أبو البقاء: "وقيل: "إذا" الثانية زمانيةٌ أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى". وهذا الذي حكاه قولٌ ساقط لا يُفهم معناه.
(8/143)
---(1/3183)
وقوله: {فِيا آيَاتِنَا} متعلقٌ بـ"مَكْر" جعل الآيات مَحَلاًّ للمكر والمبالغة، ويَضْعف أن يكون الجارُّ صفةً لـ"مكر". وقوله: "مكراً" نصبٌ على التمييز. لصَحَّ أن يُقال: "سَرُع مَكْرُه" وأيضاً فإنَّ شرطَ جوازِ الخفضِ صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التفضيل نحو: "زيدٌ أحسنُ فقيه". و "أَسْرَعُ" مأخوذٌ مِنْ سَرُع ثلاثياً، حكاه الفارسي. وقيل: بل مِنْ أسرع، وفي بناء أفعل وفعلي التعجب مِنْ أفعل ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفضيلُ: بين أن تكونَ الهمزةُ للتعدية فيمتنعَ، أو لا فيجوزَ، وتحريرُها في كتب النحاة. وقال بعضُهم: "أَسْرع هنما ليست للتفضيل" وهذا ليس بشيءٍ إذ السياق يردُّه. وجعله ابن عطية: - أعني كونَ أسرع للتفضيل - نظيرَ قوله: "لهي أسودُ مِنَ القار". قال الشيخ: "وأما تنظيره "أسود من القار" بـ"أسرع" ففاسد / لأن "أسود" ليس فعلُه على وزِن أَفْعَل، وإنما هو على وزن فَعِل نحن: سَوِدَ فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين مِنْ سَوِدَ وحَمِرَ وأِدِمَ إلا لكونه لوناً. وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السوادن والبياض فقط"، قلت: تنظيره به ليس بفاسد، لأنَّ مرادَه بناءُ أفعل مما زاد على ثلاثة أحرف وإن لم يكن على وزن أَفْعَل، وسَوِد وإن كان على ثلاثةٍ لكنه في معنى الزائد على ثلاثة، إذ هو في معنى أسود، وحَمِرَ في معنى أحمر، نصَّ على ذلك النحويون،وجعلوه هو العلةَ المانعةَ من التعجب في الألوان.
وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد والأعرج ونافعٌ في روايةٍ: "يَمْكرون" بياء الغيبة جَرْياً على ما سَبَق. والباقون بالخطابِ مبالغةً في الإِعلام بمكرهم والتفاتاً لقوله: "قل الله"، إذ التقديرُ: قل لهم، فناسَبَ الخطابَ. وفي قوله: "إنْ رسلَنا" التفاتٌ أيضاً، إذ لو جَرَى على قوله: "قل الله"، لقيل: إنَّ رسله.
(8/144)
---(1/3184)
* { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: {يُسَيِّرُكُمْ}: قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم. وقرأ الحسن: "يُنْشِركم" مِنْ أَنْشَر، أي: أَحْيا وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضاً. وقرأ بعض الشاميين "يُنْشِركم" مِنْ أَنْشَر، أي: للتكثير مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار. وقرأ الباقون "يُسَيِّركم" من التَّسْيير، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول: سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا. وقال الفارسي: "هو تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ، لأنَّ العربَ تقول: "سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته"، ومنه قول الهذلي:
2575 - فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها * فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها
وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ "سار" قاصرٌ، فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذاً من الكثير أَوْلَى. وقال ابنُ عطية: "وعلى هذا البيتِ اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ، كما تقول: "سِرْتُ الطريق". قال الشيخ: "وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول: "سِرْتَ الطريقَ" فهذا لا يجوزُ عند الجمهور، لأنَّ "الطريقَ" عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ - غيرَ "دخلت" عند سيبويه، و "انطلقت" و "ذهبت" عند الفراء - إلا بوساطة "في" إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميرُه أَحْرى أَنْ لا يَتَعَدَّى إليه الفعل". وزعم ابن الطرواة أنَّ "الطريق" ظرفٌ غيرُ مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباه النحاة.
(8/145)
---(1/3185)
قوله: {حَتَّى إِذَا} "حتى" متعلقةٌ بـ"يُسَيِّركم". وقد تقدَّم الكلامُ على "حتى" هذه الداخلةِ على "إذا" وما قيل فيها. قال الزمخشري: "كيف جَعَلَ الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في الفُلْك؟ قلت: لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد "حتى" بما في حيَّزها كأنه قال: يُسَيِّيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإِنجاء".
وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء "في الفُلْكيّ" بياء النسب. وتخريجُها يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْزري الفُلْكُ إلا فيه، كأنه قيل: كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ، ويكونُ الضمير في "جَرَيْنَ" عائداً على الفلك لدلالةِ "الفلكي" عليه لفظاً ولزوماً. والثاني: أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم: "أَحْمَريّ" كقوله:
2576 - أَطَرَباً وأنت قِنَّسْرِيُّ * والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ
وكنِسْبَتهم إلى العَلَم في قولهم: "الصَّلَتَانيّ" كقوله:
2577 - أَنَا الصَّلَتَانِيُّ الذي قد عَلِمْتُمُ * .....................
فزاد ياءَي النسبِ في اسمه.
قوله: {وَجَرَيْنَ} يدجوز أن يكونَ نسقاً على "كنتم"، وأن يكونَ حالاً على إضمار "قد". والضميرُ عائدٌ على "الفلك"، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم أنه مكسرَّر، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ "بُدْن"، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش.
(8/146)
---(1/3186)
وقوله: {بِهِم} فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري: / "فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح". وقال ابن عطية:"بهم" خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: {كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن" انتهى. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} تقديره: أو كذي ظلمات" وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: "والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق"
قوله: {بِرِيحٍ} متعلقٌ بـ"جَرَيْنَ"، فيقال: كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ إلى معمولَيْن بحرفِ جرٍ متحدٍ لفظاً ومعنى؟ . فالجوابُ أن الباءَ الأولى للتعدية كهي في "مررت بزيدُ" والثانية للسبب فاختلف المعنيان، فلذلك تعلَّقا بعاملِ واحدٍ. يجوز أن تكونَ الباءُ الثانيةُ للحالِ للتعلقَ بمحذوف، والتقدير: جَرَيْنَ بهم ملتبسةً بريح، فتكونُ الحالُ من ضمير الفلك.
قوله: {وَفَرِحُواْ بِهَا}، يجوز أن تكون هذه الجملةُ نَسَقاً على "جَرَيْنَ"، وأن تكونَ حالاً، و "قد" معها مضمرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحوا، وصاحبُ الحال الضمير في "بهم".
(8/147)
---(1/3187)
قوله: {جَآءَتْهَا} الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب "إذا"، وأن الضميرَ في "جاءَتْها" ضميرُ الريح الطيبة، أي: جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفَتْها. وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفراء وجَوَّزَ أن يكونَ الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه.
قوله: {وَظَنُّوااْ} يجوز أن يكونَ معطوفاً على "جاءتها" الذي هو جوابُ "إذا"، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على "كنتم" وهو قولُ الطبريّ ولذلك قال: "وظنُّوا" جوابُه "دَعَوا الله". قال الشيخ: "ظاهره العطف على جواب "إذا" لا أنَّه معطوفٌ على "كنتم" لكنه محتمل كما تقول: "إذا زارك فلانٌ فأكرمه، وجاءك خالد فأحسِنْ إليه" وأنَّ أداةَ الشرط مذكورة". وقرأ زيدان علىيّ "حِيط" ثلاثياً.
قوله: {دَعَوُاْ اللَّهَ}، قال أبو البقاء: "هو جواب ما اشتمل عليه المعنى مِنْ معنى الشرط، تقديره: لما ظَنُّوا أنهم أُحيط بهم دَعَوُا الله"، وهذا كلامٌ فارغ. وقال الزمخشري: "هي بدلٌ مِنْ "ظنُّوا" لأنَّ دعاءهم مِنْ لوازم ظنَّهم الهلاكَ فهو متلبسٌ به". ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جوابٌ لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا كان حالُهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوُا الله". و "مخلصين" حال. و "له" متعلقٌ به. و "الدين" مفعوله.
قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} اللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوف، و "لنكونَنَّ" جوابه، والقسمُ وجوابهُ في محل نصب بقول مقدر، وذلك القولُ المقدرُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والتقدير: دَعَوا قائلين: لئن أَنْجَيْتنا من هذه لنكوننَّ. ويجوزُ ان يُجْرَى "دَعَوا" مُجرى "قالوا"، لأن الدعاء بمعنى القول، إذ هو نوعٌ مِنْ أنواعه، وهو مذهب كوفي.
(8/148)
---(1/3188)
* { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ}: جوابُ "لمَّا"، وهي "إذا الفجائية. وقوله: "بغير الحق" حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحق. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى قوله: "بغير الحق" والبغيُ لا يكونُ بحق؟ قلت: بلى وهو استيلاء المسلمين على أرضِ الكفار وهَدءمُ دورِهم وإحراقُ زروعِهم وقَطْعُ أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة"، وكان قد فَسَّر البغيَ بالفسادِ والإِمعان فيه، مِنْ "بَغَى الجرحُ: إذا ترامى للفساد". ولذلك قال الزجاج: "إنه الترقّي في الفساد"، وقال الأصمعيُّ أيضاً: "بَغَى الرجحُ: تَرَقَّى إلى الفساد، وبَغَت المرأة: فَجَرَت"، قال الشيخ / "ولا يَصِحُّ أن يُقال في المسلمين إنهم باغُون على الكفرة، إلا إنْ ذُكر أنَّ صلَ البغيِ هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفسادَ، فحينئذ ينقسم إلى طلبٍ بحق وطلب بغير حق"، قلت: وقد تقدَّم أنَّ هذه الآية تَرُدُّ على الفارسي أنَّ "لمَّا" ظرف بمعنى حين؛ لأن ما بعد "إذا" الفجائية لا يَعْمل فيما قبله، وإذ قد فَرَضَ كونَ "لمَّا" ظرفاً لزمَ أن يكونَ لها عاملٌ.
(8/149)
---(1/3189)
قوله: {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ} قرأ حفص "متاعَ" نصباً، ونصبُه على خمسة أوجه، أحدُها: أنه منصوب على الظرف الزماني نحو "مَقْدَم الحاج"، أي: زَمَن متاع الحياة. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتَمتعين. والعاملُ في هذا الظرف وهذه الحالِ الاستقرار الذي في الخبر، وهو "عليكم". ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلا بعد تمامِ صلته. والثالث: نصبُه على المصدرِ المؤكِّد بفعلٍ مقدر، أي: يتمتعون متاع الحياة. الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يبغون متاعَ الحياة. ولا جائزٌ أن ينتصِبَ بالمصدر لِما تقدم. الخامس: أن ينتصب على المفعولِ مِنْ أجله، أي: لأجلِ متاع والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في "عليكم"، وإمَّا فعلٌ مقدر. ويجوز أن يكونَ الناصبُ له حالَ جعله ظرفاً أو حالاً او مفعولاً من أجله نفسَ البغي لا على جَعْل "على أنفسكم" خبراًبل على جَعْله متعلقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ لطول الكلام، والتقدير: إنما بَغْيُكم على أنفسكم متاعَ الحياة مذومٌ أو مكروهٌ أو منهيٌّ عنه.
(8/150)
---(1/3190)
وقرأ باقي السبعة "متاعُ" بالرفع. وفيه أوجه، أحدُها: - وهو الأظهر - أنه خبرُ "بَغْيكم" و "على أنفسِكم" متعلقٌ بالبغي. ويجوز أن [يكونَ] "عليكم" خبراً، و "متاع" خبراً ثانياً، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع. ومعنى "على أنفسكم"، أي: على بعضِكم وجنسِكم كقوله {وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَنْفُسَكُمْ} {وَلاَ تَلْمِزُوااْ أَنفُسَكُمْ}، أو يكونُ المعنى: إنَّ وبالَ البغي راجعٌ عليكم لا يتعدَّاكم كقولِه: {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} وقرأ ابنُ أبي إسحاق "متاعاً الحياة" بنصب "متاعاً" و "الحياةَ" فـ"متاعاً" على ما تقدَّم. وأما "الحياة" فيجوز أن تكونَ مفعولاً بها، والناصب لها المصدر، ولا يجوز والحالةُ هذه أن يكونَ "متاعاً" مصدراً مؤكداً لأنَّ المؤكِّد لا يعمل. ويجوزُ أَنْ تنتصبَ "الحياة" على البدل من "متاعاً" لأنها مشتملةٌ عليه.
وقُرىء أيضاً "متاعِ الحياة" بجرِّ "متاع"، وخُرِّجت على النعت لأنفسكم، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذ تقديرُه: على أنفسكم ذواتِ متاع الحياة، كذا خرَّجه بعضهم. ويجوز أن يكونَ ممَّا حُذِف منه حرفُ الجر وبقي عملُه، أي: إنما بَغْيُكم على أنفسِكم لأجِل متاع، ويدلُّ على ذلك قراءةُ النصب في وجه مَنْ يجعله مفعولاً من أجله، وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ عملِه قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ بمعنى اسم الفاعل، أي: متمتعات" يعني أنه يَجْعل المصدرَ نعتاً لـ"أنفسكم" من غيرِ حَذْفِ مضافٍ بل على المبالغة أو على جَعْلِ المصدر بمعنى اسم الفاعل. ثم قال: "ويَضْعُفُ أن يكونَ بدلاً إذا أمكن أن يُجْعَلَ صفةً"، قلت: وإذا جَعِل بدلاً على ضعفه فمِنْ أيِّ قبيل البدلِ يُجعل؟ والظاهر أنه مِنْ بدل الاشتمال، ولا بد من ضميرٍ محذوفٍ حنيئذ، أي: متاع الحياة الدنيا لها.
وقرىء "فيُنَبِّئَكُم" بياءِ الغَيْبة، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى.
(8/151)(1/3191)
---
* { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ}: هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر. قال الزمخشري: "وهذا مِنْ / التشبيهِ المركب، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضَّيها وانقراضِ نعيمِها بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه"، قلت: التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد:
2578 - كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا * وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهُ
وذلك انه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه، وإمَّا أن يكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب. وتقسيماتُه في غير هذا الموضع.
(8/152)
---(1/3192)
وقوله: {كَمَآءٍ} هو خبرُ المبتدأ، و "أنزلناه" صفةٌ لـ"ماء"، و "من السماء" متعلقٌ بـ"أَنْزلناه" ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب. وقوله: "فاختلطَ به" في هذه الباءِ وجهان، أحادهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: "فاتشبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً"، وقال ابن عطية،: "وَصَلَتْ فِرْقَةٌ "النباتَ" بقوله: "فاختلط"، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء". والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: "فاختلط" على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء {بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} على الابتداء والخبر. والضمير في "به" على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: "الوقف على قوله: "فاختلط" لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد".
قوله: {مِمَّا يَأْكُلُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ"اختلط" وبه قال الحوفي. والثاني: أنه حالٌ من "النبات" وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل. ولو قيل "مِنْ" لبيان الجنس لجاز. وقوله: "حتى" غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها - وهو "اختلط" لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.
فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في "فاختلط" بمعنى: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و "ذا" بعد "حتى" هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.
(8/153)
---(1/3193)
قوله: {وَازَّيَّنَتْ} قرأ الجمهور "ازَّيَّنَتْ" بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ "وتَزَيَّنت" فلمَّا أريد إدغامُالتاء في الزاء بعدها قُلبت زاياً وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار "ازَّيَّنت" كما ترى، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش "وتَزَيَّنَتْ" على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار غليه. وقرأ سعد بن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: وأَغَدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال: أَزَانَتْ، كأَنَابت فَتُعلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه: "أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة"، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: {اسْتَحْوَذَ} وقياسُه استحاذَ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النهدي - وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة - "وازْيَأَنَّتْ" بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة، / بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة. قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة "الضألّين" و "جَأَنْ" وعليه قولهم: "احمأرَّت" بالهمز وأنشد:
2579 - ..................... * إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ
وقد تقدم ذلك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: "وازْيأنَّتْ" بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرىء "وازَّايَنَتْ" والأصلُ: تزاينت فأدغم.
(8/154)
---(1/3194)
وقوله: {أَهْلُهَآ}، أي: أهل نباتها. و "أتاها" هو جوابُ "إذا فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ.
و "ليلاً ونهاراً" ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.
قوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول "جَعَلْناها" الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر. وقرأ مروان ابن الحكم "تتغَنَّ" بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشى:
2580 - ..................... * طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ
وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة {كأن لم يَغْنَ} بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور.وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
و "بالأمس" المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك، فهو كقول زهير:
2581 - وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه * ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ
لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمَسَيْن أن الذي يراد به قبل يومك مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف.
وقوله: {كَذالِكَ نُفَصِّلُ} نعت مصدر محذوف، أي: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل.
* { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(8/155)
---(1/3195)
قوله تعالى: {وَلاَ يَرْهَقُ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ، وهو "للذين" لوقوعه خبراً عن "الحسنى" قاله أبو البقاء، وقدّره بقوله: "استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة"، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى وقع حالاً منفيَّاً بـ"لا" امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن وَرَدَ ما يُوهم ذلك يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة. والثالث: أنه في محلَّ رفع نسقاً على "الحسنى"، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رَهقِهم، فلمَّا حُذِفت "أن" رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من مواضع إضمار "أنْ" ناصبة وهذا كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ}، أي: أن يُرِيَكم، وقوله: "تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه"، وقوله:
2582 - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى * ..................................
أي: أن أحضر. رُوي برفع "أحضر" ونصبه. ومنع أبو البقاء هذا الوجه، فقال: "ولا يجوز أن يكون معطوفاً على "الحسنى" لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج إلى "أَنْ" ذِكْراً أو تقديراً، و "أنْ" غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع"، فقوله: "وأَنْ غيرُ مقدرةٍ، لأن الفعل مرفوع" ليس بجيد لأن قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} معه "أنْ" مقدرة مع أنه مرفوع، ولا يَلْزم من إضمار "أنْ" نصب المضارع، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت "أن" في غير المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ، ولنصبُ قليلٌ جدا.
(8/156)
---(1/3196)
والرَّهَق: الغِشْيان. يقال: رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا، أي: غَشِيَهُ بسرعة، ومنه {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} يقال: رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأَرْدَفْتُه، فَفَعلَ وأَفْعل بمعنىً، ومنه: "أَرْهَقْت الصلاةَ" إذا أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهَق، أي: يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: "الرَّهَق" اسمٌ من الإِرهاق، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما لا يُطيق، ويقال: "أَرْهَقْتُه عن الصلاة"، أي: أَعْجَلْتُه عنها. وقال بعضهم. أصلُ الرَّهَق: المقاربة، ومنه غلامٌ مراهِق، أي: قارب الحُلُم، وفي الحديث: "ارهَقُوا القِبلة"، أي: اقرُبوا منها، ومنه "رَهِقَتِ الكلابُ الصيدَ"، أي: لحقته.
والقَتَر والقَتَرة: الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق:
2583 - مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه * موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا
أي: غبار العسكر. وقيل: القَتَرُ: الدخان، ومنه "قُتار القِدْر". وقيل: القَتْر: التقليل ومنه "قُتار القِدْر"، وقيل: القَتْر: التقليل ومنه {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ}، ويقال: قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته، أي: قَلَّلْته، ومنه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}، وقد تقدم. والقُتْرَةُ: ناموس الصائد. وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس:
2584 - رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ * مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ
أي: في حفرته التي يَحْفرها. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش "قَتْرٌ" بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر كقَدْر وقَدَر.
* { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(8/157)
---(1/3197)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ}: فيه سبعةُ أوجه: أحدُها: "أن يكونَ "والذين" نسقاً على "للذين أحسنوا"، أي: للذين أحسنوا الحسنى، واللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها، فيتعادل التقسيم كقول: "في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ"، وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين. وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفراء. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: "في الدار زيد والحجرةِ عمرو"، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: "إن زيداً في الدار وعمراً القصر"، أي: وإن عمراً في القصر. وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى: {وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ . . . لآيَاتٍ} بنصب "آيات" في قراءة الأخوين على ما سيأتي، وكقوله:
2585 - أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً * ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا
وقول الآخر:
2586 - أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً * بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا
وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن "الذين" مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره "بمثلها"، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله:
2587 - فلا تطمعْ - أبيت اللعنَ - فيها * ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع
أي: شيء يستطاع، كقول امرىء القيس:
2588 - فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها * فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب
(8/158)
---(1/3198)
أي:المجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية. الثالث: أن الباءَ ليست بزائدةٍ والتقدير: مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن الاول. الرابع: أن خبرَ "جزاء سيئة" محذوفٌ، فقدَّره الحوفي بقوله: "لهم جزاء سيئة" قال: ودَلَّ على تقدير "لهم" قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى} حتى تتشاكلَ هذه بهذه. وقدَّره أبو البقاء: جزاء سيئة بمثلها واقع، وهو وخبره أيضاً خبر عن الأول. وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء، لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء، قال تعالى: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟، قلت: على تقديرِ الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف / تقديرُه: جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ، نحو: السَّمْن مَنَوان بدرهم" وهو حَذْفٌ مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة.
الخامس: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله: {مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}، ويكون "مِنْ عاصم" إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله لاعماده على النفي، وإمَّا مبتدأً، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و "مِنْ" مزيدة فيه على كلا القولين. و "من الله" متعلقٌ بـ"عاصم". وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ. وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ عليه وما استدلَّ به عليه.
السادس: أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ}، و "كأنما" حرف مكفوف، و "ما" هذه زائدة تسمَّى كافّضةً ومهيِّئة، وتقدَّم ذلك. وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلأ بين المبتدأ وخبره بثلاثِ جملِ اعتراض.
(8/159)
---(1/3199)
السابع: أن الخبر هو الجملة من قوله: {أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}، وعلى هذا القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}، والثانية: "وتَرْهَقُهم ذلة"، والثالث: {مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}، الرابع: "كأنما أُغْشيت". وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ فضلاً عن أربع.
وقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ} فيها وجهان أحدهما: أنها في محل نصب على الحال. ولمم يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه. وفيه ضعفٌ لمباشرته الواو، إلا ان يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف. الثاني: أنها معطوفة على "كسبوا". قال أبو البقاء: "وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي. فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً". وقرىء: "ويَرْهقهم" بالياء من تحت، لأنَّ تأنيثَها مجازي.
قوله: {قِطَعاً} قرأ ابن كثير والكسائي "قِطْعاً" بسكون الطاء، والباقون بفتحها. فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها، فقال أهل اللغة: "القِطْع" ظلمة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: "بقِطْع من الليل" بسواد من الليل. وقال بعضهم: "طائف من الليل"، وأنشد الأخفش:
2589 - افتحي الباب فانظري في النجومِ * كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ "قِطْعة" نحو: دِمْنة وَدِمَن، وكِسْره وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب "مظلماً"، فإن على قراءةِ الائي وابن كثير يجوز أن يكونَ حالاً فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من "قِطْعاً"، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو "من الليل"، والثاني: أنه حالٌ من "الليل"، والثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
(8/160)
---(1/3200)
قال الزمخشري: "فإن قلت: إذا جعلت "مظلماً" حالاً من "الليل" فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ "أُغْشِيَتْ" من قِبل أنَّ "من الليل" صفةٌ لقوله: "قِطْعاً"، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في "من الليل". قال الشيخ: "أمَّا لوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأًلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في "من الليل" هو الاستقرار، و "أُغْشِيَتْ" عاملٌ في قوله: "قطعاً" الموصوف بقوله: "من الليل" فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعاً مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه". قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: "إنَّ العامل أُغْشيَتْ" إلا أنَّ الموصوفَ وهو "قِطْعاً" معمول لأُغْشيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي "من الليل" فهي معمولةٌ لـ"أُغْشِيَتْ"، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ "قِطْعاً" جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: "نَخْلٌ مُنْقَعِر" والتأنيث نحو: "نخل خاوية".
وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: "إنَّ "مظلماً" حال من "الليل" فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً لـ"قِطَعاً"، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في "من الليل"، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة". قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
(8/161)
---(1/3201)
وقرأ أُبَي / {تَغْشَى وجوهَهم قِطْعٌ} بالرفع، "مظلمٌ". وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ "مُظْلماً نعتاً لـ"قطعاً"، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح. قال ابن عطية: "فإذا كان نعتاً - يعني مظلماً نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ من الليل مظماً على نحو قوله: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}. قال الشيخ: "ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من الليل مظلماً". قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ ولو كان مقدَّراً بمفرد.
و "قطعاً" منصوبٌ بـ"أُغْشيَتْ" مفعولاً ثانياً.
* { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ }
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ}: "يوم" منصوب بفعلٍ مقدر، أي: خَوِّفْهم، أو ذكِّرْهم يوم. والضميرُ عائد على الفريقين، أي: الذين أحسنوا والذين كسبوا. و "جميعاً" حال. ويجوز أن تكون تأكيداً عند مَنْ عَدَّها مِنْ ألفاظ التأكيد.
قوله: {مَكَانَكُمْ}، "مكانكم" اسمُ فعل، ففسَّره النحويون بـ"اثبتوا" فيحمل ضميراً، ولذلك أُكِّد بقوله: "أنتم" وعُطِف عليه "شركاؤكم"، ومثله قول الشاعر:
2590 - وقَوْلِي كلما جَشَأَتْ وجاشَتْ * مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتريحي
(8/162)
---(1/3202)
أي: اثبتي، ويدلُّ على جزمُ جوابِه وهو "تُحْمَدي". وفسَّره الزمخشري بـ"الزموا" قال: "مكانكم"، أي: الزموا مكانكم، ولا تَبْرحوا حتى تنظروا ما يُفْعل بكم". قال الشيخ: "وتقديره له بـ"الزموا" ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنه، فإنَّ اسمَ الفعلِ يُعامل معاملةَ مسمَّاه، ولذلك لمَّا قدَّروا "عليك" بمعنى "الزم" عدَّوْه تعديتَه نحو: عليك زيداً. و [عند] الحوفي "مكانكم" نُصب بإضمار فعل، أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا". قلت: فالزمخشري قد سُبِق بهذا التفسير. والعذرُ لمَنْ فسَّره بذلك أنه قصد تفسير المعنى، وكذلك فَسَّره أبو البقاء فقال: "مكانكم" ظرفٌ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ الأمر، أي: الزموا".
وهذا الذي ذكره مِنْ كونه مبنياً فيه خلاف للنحويين: منهم مَنْ ذهب إلى ما ذَكَر، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيَّان على خلافٍ في أسماء الأفعال: هل لها محلّق من الإِعراب أو لا؟، فإن قلنا لها محلٌّ كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا: لا موضع لها كانت حركاتِ بناء. وأمَّا تقديرُه بـ"الزموا" فقد تقدَّم جوابه.
وقوله: {أَنتُمْ} فيه وجهان أحدهما: أنه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرفِ لقيامِه مقامَ الفاعلِ كما تقدَّم التنبيه عليه. والثاني: أجازه ابن عطية، وهو أن يكونَ مبتدأً، و "شركاؤكم" معطوف عليهن وخبرُه محذوفٌ قال: "تقديرُه: أنتم وشركاؤكم مُهاون أو مُعَذَّبون"، وعلى هذا فيُوقَفُ على قوله: "مكانكم" ثم يُبتدأ بقوله: "أنتم"، وهذا لا يَنْبغي أن يقال، لأن فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام وتبتيراً لنظمه من غير داعيةٍ إلى ذلك، ولأن قراءةَ مَنْ قرأ "وشركاءَكم" نصباً تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلا من الوجه الأول، ولقولِ: "فزيَّلْنا بينهم"، فهذا يدلُّ على أنهم أُمِروا هم وشركاؤهم بالثبات في مكانٍ واحدٍ حتى يحصلَ التَّزْيِيْلُ بينهم.
(8/163)
---(1/3203)
وقال ابن عطية أيضاً: "ويجوزُ أن يكون "أنتم" تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو "قفوا" ونحوه". قال الشيخ "وهذا ليس بجيدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمُه على الظرف، إذ الظرفُ لم يتحمَّلْ ضميراً على هذا القول فيلزمُ تأخيرُه [عنه] وهو غير جائز، لا تقول: "أنت مكانَك" ولا يُحْفظ من كلامهم. والأصحُّ أنه لا يجوز حَذْفُ المؤكَّد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيدَ ينافي الحذف، وليس من كلامهم: "أنت زيداً" لمَنْ رأيته قد شَهَرَ سَيْفاً، وأنت تريد: "اضرب أنت زيداً" إنما كلامُ العرب: "زيداً" تريد: اضرب زيداً". قلت: لم يَعْنِ ابنُ عطية أن "أنت" تأكيد لذلك الضمير في "قفوا" في / حيث إنهَّ الفعلَ مرادٌ غير منوبٍ عنه، بل لأنه نابَ عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصلِ قبل النيابة عنه بالظرف، وإنما قال: الذي هو "قفوا" تفسيراً للمعنى المقدر.
وقرأ فرقةُ "وشكركاءَكم" نصباً على المعية. والناصبُ له اسم الفعل.
قوله: {فَزَيَّلْنَا}، أي: فرَّقْنا كقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا}. واختلفوا في "زيَّل" هل وزنُه فَعَّل أو فَيْعَل؟ والظاهرُ الأول، والتضعيفُ فيه للتكثيرِ لا للتعديةِ لأنَّ ثلاثيَّه متعدٍّ بنفسِه. حكى الفراء "زِلْتُ الضَّأن من المَعِز فلم تَزِل"، ويقال: زِلْت الشيء مِنْ مكانه أَزيله، وهو على هذا من ذواتِ الياء. والثاني: أنه فَيْعَل كبَيْطَر وبَيْقَر وهو مِنْ زال يَزُول، والأصل: زَيْوَلْنا فاجتمعت الياء والواو وسَبَقَت إحداهما بالسكون فأُعِلَّت الإِعلالَ المشهورَ وهو قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياء فيها كميِّت وسَيّد في مَيْوِت وسَيْودِ، وعلى هذا فهو من مادة الواو. وإلى هذا ذهبَ ابن قتيبة، وتبعه أبو البقاء.
(8/164)
---(1/3204)
وقال مكي: "ولا يجوز أن يكون فَعَّلْنا مِنْ زال يزول لأنه [يلزم] فيه الواوُ فيكون زَوَّلنا"، قلت: هذا صحيحٌ، وقد تقدم تحريرُ ذلك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ}. وقد ردَّ الشيخ كونَ فيْعَل بأنَّ فعَّل أكثر من فَيْعَل، ولأن مصدره التزييل، ولو كان فَيْعَل لكان مصدرُه فَيْعَله كبَيْطَرة؛ لأن فَيْعَل ملحق بفَعْلَل، ولقولهم في معناه زايَل، ولم يقولوا: زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط". وحكى الفراء" "فزايَلْنا" وبها قرأ فرقة. قال الزمخشري: "مثل صاعَرَ خَدَّه وصَعَّره، وكالمتُه وكلَّمْته"، قلت: يعني أن فاعَل بمعنى فَعَّل. وزايَلَ بمعنى فارَقَ. قال:
2591 - وقال العَذَارَى إنَّما أنت عَمُّنا * وكان الشبابُ كالخليطِ نُزِايلُهْ
وقال آخر:
2592 - لعَمْري لَمَوْتٌ لا عقوبةَ بعده * لِذي البَثِّ أَشْفَى مِنْ هوىً لا يُزايلُهْ
وقوله: {فَزَيَّلْنَا} و "قال" هذان الفعلان ماضيان لفظاً مستقبلان معنىً لعطفِهما على مستقبل وهو "ويوم نحشرهم" وهما نظيرُ قولِه تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ}. و "إيَّانا" مفعولٌ مقدمٌ قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التقديمِ على ناصبِه لأنه ضميرٌ منفضل لو تأخر عنه لَزِمَ اتصالُه.
* { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ }
وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا مِنْ "كفى" و "إنْ" المخففة، واللام التي بعدها بما يُغْني عن إعادته.
* { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوااْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
(8/165)
---(1/3205)
قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ}: في "هنالك" وجهان، الظاهرُ بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقفِ الدَّحْض والمكان الدَّهِش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}، أي: في ذلك الوقت وكقوله:
2593 - وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ * فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ
وقرأ الأخَوان "تَتْلو" بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله:
2594 - إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا * كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالى: {ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}، وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} وقرأ الباقون: "تَبْلو" مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ "نبلو" بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و "كل" منصوب على المفعول به. وقوله: "وما أَسْلَفَتْ" على هذه القراءةِ يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله:
2595 - تمرّثون الديار ولم تعوجوا * كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من "كل نفس" ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون "نَبْلو" من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ.
و "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير / الأول والآخِر دون الثاني على المشهور.
(8/166)
---(1/3206)
وقرأ ابن وثاب "ورِدُّوا" بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: "قيل" و "بيع"، ومثله:
2596 - وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا * ........................
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا.
وقوله: {إِلَى اللَّهِ} لا بدَّ من مضاف، أي: إلى جزاء الله، أو موقفِ جزائه. والجمهور على "الحق" جَرَّاً. وقرىء منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطعِ، وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ "أمدح" كقولهم: الحمدُ للَّهِ أهل الحمد"، وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو {وَرُدُّوااْ إِلَى اللَّهِ} وإليه نحا الزمخشري، قال: "كقولك: "هذا عبد الله الحق لا الباطل" على التأكيد لقوله {وَرُدُّوااْ إِلَى اللَّهِ}. وقال مكي: "ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به"، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة.
وقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} "ما" تحتمل الأوجه الثلاثة.
* { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {مِّنَ السَّمَآءِ}: "مِنْ" يجوز أَنْ تكونَ لابتداء الغاية، وأن تكونَ للتبعيضِ، وأن تكونَ لبيان الجنس، ولا بد على هذين الوجهين من تقديرِ مضافٍ محذوف، أي: من أهل السماء.
قوله: {أَمْ} هذه "أم" المنقطعة لأنه لم تتقدَّمْها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تُقَدَّر هنا بـ"بل" وحدها دونَ الهمزة. وقد تقرَّر أن المنقطعةَ عند الجمهور تُقَدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّرْ هنا بـ"بل" والهمزةِ، لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح وهو "مَنْ"، فهو كقوله تعالى: {أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. والإِضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن أنه إضرابُ انتقالٍ لا إضرابُ إبطالٍ(1/3207)
(8/167)
---
* { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }
قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ}: يجوز أن يكونَ "ماذا" كلُّه اسماً واحداً لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإِشارة، وصار معنى الاستفهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده بـ"إلا"، ويجوز أن يكون "ذا" موصولاً بمعنى الذي، والاستفهام أيضاً مبعنى النفي، والتقدير: ما الذي بعد الحق إلا الضلال؟
* { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوااْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ}: الكافُ في محلِّ نصب نعتاً لمصدر محذوف، والإِشارةُ بـ"ذلك" إلى المصدرِ المفهوم مِنْ "تُصْرفون"، أي: مثلَ صَرْفِهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}. وقيل إشارةٌ إلى الحق. قال الزمخشري: "كذلك: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ كلمةُ ربك".
قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فيه أربعةُ أوجه، أنَّها في محلِّ رفعِ بدلاً من "كلمةُ"، أي: حَقَّ عليهم انتفاء الإِيمان. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانِهم. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الحرف الجارّ. الرابع: أنها في محلِّ جرٍّ على إعمالِه محذوفاً إذا الأصل: لأنهم لا يُؤْمنون. قال الزمخشري: "أو أراد بالكلمة العِدَة بالعذاب، و {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليل، أي: لأنهمط.
وقرأ أبو عمرو وابنُ كثير والكوفيون "كلمة" بالإِفراد، وكذا في آخر السورة. وقد تقدَّم ذلك في الأنعام. وقرأ ابن أبي عبلة {أَنهم لا يُؤْمنون} بكسر "إنَّ" على الاستئناف وفيها معنى التعليل، وهذه مقويِّةُ للوجه الصائر إلى التعليل.
* { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
(8/168)
---(1/3208)
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}: هذه الجملةُ جواب لقوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} وإنما أتى بالجواب جملةً اسميةً مُصَرَّحاً بجزأيها مُعَاداً فيها الخبر مطابقاً لخبر اسم الاستفهام للتأكيدِ والتثيبتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا لا مَنْدوحةَ لهم عن الاعتراف به جاءَت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جُزْأَيْها في قوله {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}، ولم يَحْتَجْ إلى التأكيد بتصريح جزأيها.
* { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيا إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }
قوله تعالى: {يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ}: قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ "هَدَى" يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللام أو بإلى، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفاً. وقد جُمع بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث بـ"إلى" والثاني باللام، وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة.
(8/169)
---(1/3209)
والتقدير: هل مِنْ شركائكم مَنْ يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى الحق. وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ "يهدي" الأولَ قاصرٌ، وأنه بمعنى اهتدى. وفيه نظر، لأن مُقابلَه وهو {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}. وقد أنكر المبرد أيضاً مقالة الكسائي والفراء وقال: "لا نَعْرِفُ هَدَى بمعنى اهتدى"، قلت: الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه، ولكن إنما ضَعُف ذلك هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي، وقد تقدَّم أن التعديةَ بـ"إلى" أو اللام من باب التفنُّن في البلاغة، ولذلك قال الزمشخري: "يقال: هَدَاه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين". وقال غيره: "إنما عَدَّى المسندَ إلى الله باللام / لأنها أَدَلُّ في بابها عل المعنى المرادِ من "إلى"؛ إذ أصلُها لإِفادةِ المُلْك، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى" وفيه نظر، لأن المراد بقوله: {أَفَمَن يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ} هو الله مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه بـ"إلى".
قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} خبرٌ لقوله: "أَفَمَنْ يَهْدي" و "أَنْ" في موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقديرُ هذا كله: "أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي". ذكر ذلك مكي ابن أبي طالب، فجعل "أحقّ" هنا على بابها من كونها للتفضيل. وقد منع الشيخ كونَها هنا للتفضيل فقال: "وأحق" ليست للتفضيل، بل المعنى: حقيقٌ بأن يُتَّبع". وجوَّز مكي أيضاً في المسألة وجهين آخرين أحدهما: أن تكون "مَنْ" مبتدأ أيضاً، و "أنْ" في محلِّ رفع بدلاً منها بدلَ اشتمال، و "أحقُّ" خبرٌ على ما كان. والثاني: أن يكون "أن يُتَّبع" في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "أحقُّ" خبرُه مقدَّم عليه. وهذه الجملةُ خبر لـ"مَنْ يَهْدي"، فَتَحَصَّل في السمألة ثلاثة أوجه.
(8/170)
---(1/3210)
قوله: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّيا} نسقٌ على "أفمن"، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث إنَّه قد فُصِل بين "أم" وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك: "زيدٌ قائم أم عمرو" ومثله: {أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ}. وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} وسيأتي هذا في موضعه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء "يهدي" وهائه. وحفص بكسر الهاء دون الياء. فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين، وذلك أن أصلَه يَهْتدي، فلما قُصِد إدغامُه سكنَتْ التاء، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين. وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر. وقال أبو حاتم في قراءة حفص "هي لغة سُفْلَى مُضَر"، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز "يِهْدي" ويجيز "تِهْدي ونِهْدي وإهدي"، قال: "لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء"، قلت: يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ المضارعة من هذا النحو نحو: تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك، ولم يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها. وهذا فيه غَضٌّ من قراءة أبي بكر، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول.
وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال، وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهاً على أن الهاءَ ليس أصلُها الحركةَ بل السكون. وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل. وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أًل التقاء الساكين، والختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم.
(8/171)
---(1/3211)
وقرأ أهلُ المدينة - خلاورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال. وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين. قال المبرد: "مَنْ رام هذا لا بد أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة". وقال أبو جعفر النحاس: "لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ بهط، قلت: وقد قال في "التيسير": والنصُّ عن قالون بالإِسكان"، قلت: ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ {نِعِمَّا} و {لاَ تَعْدُواْ} بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة في قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}، وسيأتي لك مثلُ هذا في {يَخِصِّمُونَ} وقرأ الأخَوان "يَهْدي" بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هَدَى يَهْدي وفيه قولان، أحدهما: أنَّ "هَدَى" بمعنى اهتدى. والثاني: أنه متعدٍّ، ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره. وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ المبرد عليهما. وقال ابن عطية: "والذي أقوال: قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: أَمْ مَنْ لا يهدي أحداً إلا أن يُهدى ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمّضا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها "أم لا يَهْتدي إلا أن يُهدَى" فيتجه المعنى على ما تقدَّم" ثم قال: "وقيل: ثمَّ الكلامُ عند قوله: "أم مَنْ لا يَهِدِّي، أي: لا يَهِدِّي غيره". ثم قال: {إِلاَّ أَن يُهْدَى} استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يُهْدَى كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يَسمع". انتهى. ويجوز أن يكونَ استثناءً متصلاً، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام. ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يُهْدَى بغيره.
(8/172)
---(1/3212)
وقوله: {فَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر. ومعنى الاستفهام هنا لإِنكارُ والتعجبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن يَهْدُوا غيرَهم؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا يتمُّ إلا بحالٍ بعده، نحو: "فما لَهم عند التذكرة مُعْرِضين" {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً لأنها استفهامية، والاستفهامية لا تقع حالاً. وقوله: "كيف تحكمون" استفهامٌ آخرُ، أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء؟.
* { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }
قوله تعالى: {لاَ يُغْنِي}: خبرُ "إن"، و "شيئاً" / منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإِغناء. و "من الحق" نصبٌ على الحال من "شيئاً" في الأصلِ صفةٌ له. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" بمعنى "بدل"، أي: لا يُغنْي بدلَ الحق. وقرأ الجمهور "يَفْعلون" على الغيبة. وقرأ عبد الله "تَفْعلون" خطاباً وهو التفاتٌ بليغ.
* { وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
(8/173)
---(1/3213)
قوله تعالى: {أَن يُفْتَرَى}: فيه وجهان أحدهما: أنه خبرٌ "كان" تقديرُه: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً، أو يكونُ بمعنى مُفْترى. والثاني: زعم بعضهم أنَّ "أنْ" هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليُفْترى، فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت "أن". وزعم أن اللامَ و "أنْ" يتعاقبان، فتُحْذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى. وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا القولِ يكون خبر "كان" محذوفاً، وأنْ وما في حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً. و "مِنْ دون" متعلقٌ بـ"يُفْتَرى" والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن.
قوله {وَلَاكِن تَصْدِيقَ} "تَصْديق" عطف على خبر كان، ووقعت "لكن" أحسنَ موقع إذ هي بين نقيضين: وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق. وقرأ الجمهور "تصديق" و "تفصيلَ" بالنصب وفيه أوجهٌ، أحدُها: العطف على خبر "كان" وقد تقدَّم ذلك، ومثله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ}. والثاني: أنه خبر "كان" مضمرة تقديره: ولكن كان تصديق، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج. وهذا كالذي قبله في المعنى. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يُفْترى، ولكن أُنزل للتصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر أيضاً. والتقدير: ولكن يُصَدِّق تصديقَ الي بين يديه من الكتب.
وقرأ عيسى بن عمر: "تَصْديقُ" بالرفع، وكذلك التي في يوسف. ووجهُه الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف، أي: ولكن هو تصديق، ومثله قوله الشاعر:
2597 - ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ * ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ
(8/174)
---(1/3214)
برفع "مِدْرَه" على تقدير: أنا مِدْره. وقال مكي: "ويجوز عندها - أي عند الكسائي والفراء - الرفع على تقدير: ولكن هو تصديق"، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت: "ولكن" بالواو آثَرَتْ تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ} {وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيه أوجه أحدها: أن يكون حالاً من "الكتاب" وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لنه مفعولٌ في المعنى. والمعنى: وتفصيل الكتاب منتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: انه معترضٌ بين "تصديق" وبين {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} إذ التقديرُ: ولكن تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين. قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتَّصَلَ قولُه {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}؟ قلت: هو داخلٌ في حَيَّز الاستدراك كأنه قيل: ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ كائناً من رب العالمين. ويجوز أن يراد به "ولكن كان تصديقاً من رب العالمين [وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك، فيكون من رب العالمين] متعلقاً بـ"تصديق" و "تفصيل" ويكون {لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراضاً كما تقول: زيدٌ لا شكَّ فيه كريم" انتهى.
(8/175)
---(1/3215)
قوله: {مِن رَّبِّ} يجوز فيه أوجهٌ أحدُها: أن يكونَ متعلقاً بـ"تصديق" أو بـ"تفصيل"، وتكون المسألة من باب التنازع؛ إذ يَصِحُّ أَنْ يتعلَّقَ بكلٍ من العاملين من جهة المعنى. وهذا هو الذي أراد الزمخشري بقوله: "فيكون "مِنْ رب" متعلِّقاً بـ"تصديق" و "تفصيل" يعني أنه متعلقٌ بكلٍ منهما من حيث المعنى. وأمَّا من حيث الإِعرابُ فلا يتعلَّق إلا بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعمل في ضميره كما تقدَّم تحريره غيرَ مرة، والإِعمالُ هنا حينئذ إنما هو للثاني بدليلِ الحَذْفِ من الأول. والوجه الثاني: أنَّ "مِنْ رب" حال ثانية. والثالث: إنه متعلقٌ بذلك الفعلِ المقدرِ، أي: أُنْزِل للتصديق من ربَّ العالمين؟
* { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ}: في "أم" وجهان أحدهما: أنها منقطعةٌ فتتقدر بـ"بل" والهمزة عند الجمهور: سيبويه وأتباعهِ، والتقديرُ: بل أتقولون، أنتقل عن الكلام الأول وأَخَذَ في إنكارِ قولٍ آخر. والثاني: أنها متصلةٌ ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ جملةٍ ليصِحَّ التعادلُ والتقدير: أيقرُّون به أم يقولون افتراه. وقال بعضُهم. / هذه بمنزلة الهمزةِ فقط. وعَبَّر بعضهم عن ذلك فقال: "الميمُ زائدة على الهمزة" وهذا قولٌ ساقط، إذ زيادة الميم قليلة جداً لا سيما هنا. وزعم أبو عبيدة أنها بمعنى الواو والتقدير: ويقولون افتراه.
(8/176)
---(1/3216)
قوله: {قُلْ فَأْتُواْ} جوابُ شرطٍ مقدر قار الزمخشري: "قل: إن كان الأمرُ كما تَزْعمون فَأْتوا أنتم على وجه الافتراءِ بسورةِ مثلِه في العربية والفصاحة والأَبْلغيَّة". وقرأ عمرو بن فائد "بسورة مثلِه" بإضافة "سورة" إلى "مثله" على حَذْف الموصول وإقامة الصفة مُقامَه، والقتدير: بسورةِ كتابٍ مثلِه أبو بسورةِ كلام مثله. ويجوز أن يكون التقديرُ: فَأْتوا بسورةِ بشرٍ مثلِه فالضمير يجوز أن يعودَ في هذه القراءةِ على القرآن، وأن يعودَ على النبي صلى الله عليه وسلم. وأمَّا في قراءة العامة فالضمير للقرآن فقط.
* { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ}: جملةٌ حالية من الموصول أي: سارعوا إلى تكذيبهِ حالَ عدم إتيان التأويل. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؟ قلت: معناه أنهم كذَّبوا به على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل"، ثم قال أيضاً: "ويجوز أن يكونَ المعنى: ولم تأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإِخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّنَ لهم أَكَذِبٌ هو أم صدق" انتهى. وفي وَضْعه "لم" موضعَ "لَمَّا" نظرٌ لِمَا عَرَفْت ما بينهما من الفرق. ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطة بـ"لم" وجملةُ إتيانِ التأويل بـ"لمَّا" لأن "لم" للنفي المطلق على الصحيح، و "لَمَّا" لنفي الفعل المتصل بزمن الحال، فالمعنى: أنَّ عَدَمَ التأويل متصل بزمن الإِخبار.
و "كذلك" نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر والتدبُّر.
(8/177)
---(1/3217)
وقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ} "كيف" خبر لـ"كان"، والاستفهامُ معلِّقٌ للنظر. قالابن عطية: "قال الزجاج: "كيف" في موضع نصب على خبر كان، ولا يجوز أن يعمل فيها "انظر" لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يَعْمل فيه، هذا قانونُ النحويين لأنهم عاملوا "كيف" في كل مكان معاملةَ الاستفهامِ المَحْض في قولك "كيف زيد" و لـ"كيف" تصرُّفاتٌ غيرُ هذا فتحلُّ محلَّ المصدرِ الذي هو "كيفية" وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكونَ منها. ومن تصرُّفاتها قولُهم: "كن كيف شئت" وانظر قول البخاري: "كيف كان بدء الوحي" فإنه لم يستفهم". انتهى. فقول الزجاج "لا يجوز أن تعمل "انظر" في "كيف" يعني لا تتسلَّط عليها ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحبِ عليها حكمُ الاستفهام وهكذا سبيلُ كلِّ تعليقٍ.
(8/178)
---(1/3218)
قال [الشيخ]: "وقولُ ابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخره ليس كما ذكر بل لـ"كيف" معنيان، أحدُهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة إلا أن يُعَلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يُستفهم بها إذا عُلِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط كقول العرب: "كيف تكونُ أكونُ". وقوله: "ولـ"كيف" تصرفات إلى آخره ليس "كيف" تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ "كيفية" هو مصدرٌ، إنما ذلك نسبةٌ إلى "كيف" تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ "كيفية" هو مصدر، إنما ذلك نسبةٌ إلى "كيف"، وقوله: "ويحتمل أن يكونَ هذا الموضعُ منها، ومِنْ تصرفاتها قولهم: "كن كيف شئت" لا يَحْتمل أن يكون منها؛ لأنه لم يثبتْ لها المعنى الذي ذكر مِنْ كونِ "كيف" بمعنى كيفية وادِّعاءُ مصدرية "كيفية". وأمَّا "كن كيف شئت" فـ"كيف" ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطيةٌ وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف، التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: "قم متى شئت" فـ"متى" اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه "قم" والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحُذِفَ الجوابُ لدلالة ما قبله عليه كقولِهم: "اضربْ زيداً إن أساء إليك"، التقدير: إن أساءَ إليك فاضرِبْه، وحُذِف "فاضربه" لدلالة "اضرِبْ" المتقدِّم عليه. وأمَّا قولُ البخاري: "كيف كان بدء الوحي" فهو استفهامٌ مَحْضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية كأن سائلا سأله فقال: كيف كان بَدْءُ الوحي، [وإما أن يكونَ من قوله هو، كأنه سأل نفسه: كيف كان بدء الوحي؟] فأجاب بالحيثِ الذي فيه كيفيةُ ذلك".
وقوله: {الظَّالِمِينَ} مِنْ وَضْعِ موضعَ المضمر، ويجوز أن يرادَ به ضميرُ مَنْ عاد عليه ضمير "بل كَذَّبوا"، وأن يُرادَ به {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}.
* { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ }
(8/179)
---(1/3219)
قوله تعالى: {مَّن يَسْتَمِعُونَ}: مبتدأ وخبرهُ الجار قبله وأعاد الضميرَ جمعاً مراعاة لمعنى "مَنْ"، والأكثرُ مراعاةُ لفظه.
* { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ }
* {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}
: قال ابن عطية: "جاء "ينظر" على لفظ "مَنْ"، وإذا جاء على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخرُ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن / يُعْطَفَ آخرُ على اللفظ لأنَّ الكلامَ يُلْبَسُ حينئذ". قال الشيخ: وليس كما قال، بل يجوز أن تراعيَ المعنى أولاً فتعيدَ الضميرَ على حسبِ ما تريد من المعنى مِنْ تأنيثٍ وتثنية وجمعٍ، ثم تراعي اللفظَ فتعيدُ الضميرَ مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيلٌ ذُكر في النحو"، قلت: قد تقدَّم تحريره أولَ البقرة.
* { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ}: يجوز أن ينتصب "شيئاً" على المصدر، أي: شيئاً من الظلم قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً لـ"يَظْلم" بمعنى: لا يُنْقِص الناسَ شيئاً من أعمالهم.
قوله: {وَلَاكِنَّ النَّاسَ} قرأ الأخَوان بتخفيف "لكن"، ومن ضرورة ذلك كسرُ النونِ لالتقاء الساكنين وَصْلاً ورفع "الناس"، والباقون بالتشديد ونصب "الناس" وتقدم توجيه ذلك في البقرة.
* { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
(8/180)
---(1/3220)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ}: منصوب على الظرف. وفي ناصبه أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ} الثاني: أنه منصوبٌ بـ"يتعارفون". والثالث: أنه منصوبٌ بمقدر، أي: اذكر يومَ. وقرأ الأعمش "يَحْشُرهم" بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدُّم اسمه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ}.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ} قد تقدَّم الكلامُ على "كأنْ" هذه. ولكن اختلفوا في محلِّ هذه الجملة على أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف وهو "يوم" قاله ابن عطية. قال الشيخ: "لا يَصِحُّ لأنَّ "يومَ يحشرُهم" معرفةٌ والجملَ نكرات، ولا تُنْعَتُ المعرفةُ بالنكرة، لا يقال: إن الجملَ التي يُضاف إليها أسماءُ الزمانِ نكرةٌ على الإِطلاق لأنها إن كانَتْ في التقدير تَنْحَلُّ إلى معرفة فإن ما أُضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تَنْحَلُّ إلى نكرة كان ما أُضيف إليها نكرةً، تقول "مررت في يوم قَدِم زيدٌ الماضي" فتصِفُ "يوم" بالمعرفة، و "جئت ليلةَ قَدِم زيدٌ المباركة علينا" وأيضاً فكأنَّ لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهةِ المعنى؛ لنَّ ذلك من وصف المحشورين لا مِنْ وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّفَ بعضُهم تقديرَ رابطٍ يُرْبطه فقدَّره "كأن لم يَلْبثوا قبله" فحذف "قبله"، أي: قبل اليوم، وحَذْفُ مثلِ هذا الرباطِ لا يجوز"، قلت: قوله: "بعضهم"، هو مكي ابن أبي طالب فإنه قال: "الكافُ وما بعدها مِنْ "كأنْ" صفةٌ لليوم، وفي الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ تقديرُه: كأنْ لم يَلْبثوا قبلَه، فحذف "قبل" فصارت الهاءُ متصلةً بـ"يَلْبثوا" فحُذِفَتْ لطولِ الاسم كما تُحْذَفُ من الصِّلات"، ونَقَل هذا التقدير أيضاً أبو البقاء ولم يُسَمِّ قائلَه فقال: "وقيل" فذكره.
(8/181)
---(1/3221)
والوجه الثاني: أن تكونَ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول "يَحْشُرهم"، أي: يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يلبث إلا ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري. وممَّنْ جَوَّز الحالية أيضاً ابنُ عطية ومكي وأبو البقاء، وجعله بعضُهم هو الظاهر.
الوجه الثالث: أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراتً كأنْ لم يَلْبَثُوا" ذكر ذلك ابن عطية وأبو البقاء ومكي. وقدّر مكي وأبو البقاء العائد محذوفاً كما قَدَّراه حالَ جَعْلِهما الجملةَ صفةً لليوم، وقد تقدَّم ما في ذلك.
الرابع: قال ابن عطية: "ويَصِحُّ أن يكونَ قوله {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ} كلاماً مجملاً" ولم يُبَيِّنْ الفعلَ الذي يتضمَّنه {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ}. قال الشيخ: "ولعلَّه أرادَ ما قاله الحوفي مِنْ أنَّ الكاف في موضعِ نصبٍ بما تضمَّنَتْه من معنى الكلام وهو السرعة" انتهى. قال: "فيكونُ التقدير: ويوم يحشرهم يُسْرعون كأنْ لم يَلْبثوا" قلت: فيكونُ "يسرعون" حالاً من مفعول "يَحْشرهم" ويكون {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوااْ} حالاً من فاعل "يُسْرعون"، ويجوز أن تكونَ "كأنْ لم" مفسرةً لـ"يُسْرعون" المقدرة.
(8/182)
---(1/3222)
قوله: {يَتَعَارَفُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن الجملةَ في محلٍ نصبٍ على الحال من فاعل "يَلْبثوا". قال الحوفي: "يتعارفون" فعل مستقبلٌ في موضع الحال من الضمير في "يلبثوا" وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، والمعنى اجتمعوا متعارفين". والثاني: أنها حالٌ من مفعول "يَحْشُرهم" أي: يَحْشُرهم متعارفين والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فَمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جوَّز أن تكونَ "كأَنْ لم" حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانية، ومَنْ مَنَعَ ذلك جَعَلَ "كأَنْ لم" على ما تقدم من غيرِ الحالية. قال أبو البقاء: "وهي حالٌ مقدرة لأنَّ التعارفَ لا يكونُ حالَ الحشر". والثالث: مستأنفةٌ، أخبر تعالى عنهم بذلك قال الزمخشري: "فإن قلت: :أن لم يَلْبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ قلت: أمَّا الأولى فحالٌ منهم أي: يَحْشُروهم مُشْبهين بمَنْ لم يَلْبث إلا ساعةً، وإمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلق بالظرف - يعني فتكون حالاً - وإما أن تكونَ مبينةً لقوله: كأن لم يَلْبثوا إلا ساعةً؛ لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً".
قوله: {قَدْ خَسِرَ} فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة أخبر تعالى بأن المكذِّبينَ بلقائِه خاسرون لا محالة، ولذلك أتى بحرفِ التحقيق. والثاني: أن يكونَ في محل نصبٍ بإضمارِ قولٍ أي: قائلين قد خسر الذين. ثم لك في هذا القول المقدر / وجهان، أحدهما: أنه حال مشنْ مفعول "يحشرهم" أي: يحشرهم قائلين ذلك والثاني: أنه حالٌ من فاعل "يتعارفون". وقد ذهب إلى الاستئناف والحالية مِنْ فاعل "يتعارفون" الزمخشري فإنه قال: "هو استئنافٌ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحشرهم" ثم قال: "قد خَسِر" على إرادة القولِ أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك"، وذهبَ إلى أنها حالٌ من مفعول "يحشرهم" ابن عطية.
(8/183)
---(1/3223)
قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على قولِه "قد خَسِر" فيكونُ حكمُه حكمَه. والثاني: أن تكونَ معطوفةً على صلةِ الذين، وهي كالتوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ مَنْ كذَّب بلقاء الله غيرُ مهتدٍ.
* { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ }
قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ}: "إمَّا" هذه قد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفىً. وقال ابن عطية: "ولأجلها أي: لأجل زيادةِ "ما" جاز دخولُ النونِ الثقيلة ولو كانَتْ "إنْ" وحدَها لم يَجُزْ" يعني أن توكيد الفعل بالنونِ مشروطٌ بزيادة "ما" بعد "إنْ"، وهو مخَالفٌ لظاهرِ كلامِ سيبويه، وقد جاء التوكيد في الشرط بغير "إنْ" كقوله:
2598 - مَنْ نثقفَنْ منهم فليس بآيبٍ * أبداً وقَتْل بني قتيبةَ شافي
قال ابن خروف: "أجاز سيبويهِ الإِتيانَ بـ"ما" وأن لا يُؤْتى بها، والإِتيانُ بالنون مع "ما" وأن لا يؤتى بها" والإِراءَةُ هنا من البصر؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنين بالهمزة أي: نجعلك رائياً بعضَ الموعودين".
(8/184)
---(1/3224)
قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ وخبرن وفيه وجهان أظهرهما: أنه جوابٌ للشرط وما عُطف عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك. وإلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية. والثاني: أنه جوابٌ لقوله "أو نتوفَيَنَّك"، وجواب الأول محذوف قال الزمخشري: "كأنه قيل: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذاك، أو نتوفينَّك قبل أن نريك فنحن نُريك في الآخرة". قال الشيخ: "فجعل الزمخشري في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجةَ إلى [تقدير] جواب محذوف لأنَّ قولهَ "فإلينا مَرْجعهم" صالحٌ لأن يكونَ جواباً للشرط والمعطوفِ عليه، وأيضاً فقولُ الزمخشري "فذاك" هو اسمٌ مفردٌ لا يَنْعقد منه جوابُ شرطٍ فكان ينبغي أن يأتي بجملةٍ يَصِحُّ منها جوابُ الشرط إذ لا يُفْهَمُ مِنْ قوله "فذاك" الجزء الذي حُذِف، المتحصَّل به فائدةُ الإِسناد". قلت: قد تقررَّ أنَّ اسمَ الإِشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر وهو بلفظِ الإِفرادن فكأنَّ ذاك واقعٌ موقعَ الجملة الواقعة جواباً، ويجوزُ أن يكونَ قد حُذِفَ الخبر لدلالة المعنى عليه إذ التقديرُ: فذاك المراد أو المتمنَّى أو نحوه. وقوله: "إذ لا يُفْهم الجزء الذي حُذِف" إلى آخره ممنوعٌ بل هو مفهومٌ كما رأيت، وهي شيءٌ يَتبارد إليه الذهن.
قوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} ليست هنا للترتيب الزماني بل هي لترتيبِ الأخبارِ لا لترتيبِ القصصِ في أنفسها. قال أبو البقاء: "كقولك زيدٌ عالم ثم هو كريم". وقال الزمخشري: "فإن قلت: اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون في الدارَيْن فما معنى ثم؟ قلت: ذُكِرَت الشهادة، والمراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب، كأنه قيل: ثم الله معاقِبٌ على ما يفعلونه".
(8/185)
---(1/3225)
وقرأ إبرهيم ابن أبي عبلة "ثَمَّ" بفتح الثاء جعله ظرفاً لشهادة الله، فيكون "ثَمَّ" منصوباً بـ"شهيد" أي: اللَّهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حَشْرِهم. ويجوز أن يكونَ ظرفاً لمَرْجِعهم أإي: فإلينا مَرْجِعُهم يعني رجوعهم في ذلك المكانِ الذي يُثاب فيه المُحْسِن ويُعاقَبُ فيه المسيءُ.
* { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ}: فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ متصل تقديرُه: إلا ما شاء الله أن أَمْلكه وأٌقْدِر عليه. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: "هو استثناءٌ منقطع أي: ولكنْ ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أَمْلك لكم الضررَ وجَلْبَ العذاب؟.
* { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ }
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ}: قد تقدَّم الكلام على / "أَرَأَيْتَ" هذه، وأنها تتضمَّن معنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملة استفهامية فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ كقولِهم: "أرأيتَك زيداً ما صنع" وتقدَّم مذاهبُ الناسِ فيها في سورة الأنعام فعليك باعتباره ثَمَّة. ومفعولُها الأول في هذه الآية الكريمة محذوفٌ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنه تنازع.
(8/186)
---(1/3226)
أرأيت وأتاكم في "عذاب"، والمسألةُ من إعمال الثاني، إذ هو المختار عند البصريين، ولمَّا أعمله أضمر في الأول وحَذَفَه، لأنَّ إبقاءَه مخصوصٌ بالضرورة، أو جائزُ الذكرِ على قلةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول لأضمرَ في الثاني؛ إذ الحذف منه لا يكون إلا في ضرورة أو في قليلٍ من كلام، ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم، أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يُسْتعجل به لمرارته وشدة إصابته فهو مُقْتَضٍ لنفورِ الطَّبَع منه. قال الزمخشري "فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ وأين جوابُ الشرط؟ قلت: تعلَّق بـ"أرأيتم" لأن المعنى: أخبروني ماذا يَسْتعجل منه المجرمون، وجوابُ الشرط محذوف وهو "تَنْدموا على الاستعجال" أو "تعرفوا الخطأ فيه". قال الشيخ: "وما قَدَّره غيرُ سائغ لأنه لا يُقَدَّر الجوابُ إلا ممَّا تقدَّمَه لفظاً أو تقديراً تقول: "أنت ظالمٌ إن فعلت" التقدير: إن فعلت فأنت ظالم، وكذلك: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} التقدير: إن شاءَ الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يُقَدَّر: إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون".
(8/187)
---(1/3227)
وقال الزمخشري أيضاً: "ويجوزُ أن يكونَ "ماذا يَسْتعجل منه المجرمون" جواباً للشرط كقولك: إنْ أَتَيْتك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ بـ"أرأيتم"، وأن يكونَ "أثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به". جواباً للشرط، و "ماذا يَسْتعجل منه المجرمون" اعتراضاً، والمعنى: إنْ أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حينَ لا ينفعكم الإِيمان". قال الشيخ: "أمَّا تجويزُه أن يكون "ماذا" جواباً للشرطك فلا يَصِح، لأن جوابَ الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء تقول: إنْ زارنا فلان فأيُّ رجل هو، وإن زارَنا فلانٌ فأيُّ يدٍ له بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو "إن أتيتك ما تُطْعمني؟" هو مِنْ تمثيلهِ لا من كلام العرب. وأمَّا قوله: "ثمَّ تتعلَّق الجملةُ بـ"أرأيتم" إن عنى بالجملة "ماذا تَسْتعجل" فلا يصحُّ ذلك، لأنه قد جعلها جواباً للشرط، وإن عَنَى بالجملة جملةَ الشرط فقد فسَّر هو "أرأيتم" بمعنى أخبروني، و "أخبرني" يطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشرط موقعَ مفعول أخبرني. وأمَّا تجويزُه أن يكون "أثم إذا ما وقع آمنتم به" جواباً للشرط و "ماذا يستعجل منه المجرمون" اعتراضاً فلا يَصِحُّ أيضاً لِما ذكرناه مِنْ أنَّ جملةَ الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً فـ"ثم" هان هي حرف عطفٍ تَعْطِفُ الجملةَ التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهامية معطوفةٌ، وإذا كانت معطوفة لم يَصِحَّ أن تقعَ جوابَ الشرط، وأيضاً فـ"أرأيتم" بمعنى "أخبروني" تحتاج إلى مفعول، ولا تقعُ جملةُ شرط موقعَه".
(8/188)
---(1/3228)
وكونُ "أرأيتم" بمعنى "أخبروني" هو الظاهر المشهور. وقال الحوفي: "الرؤيةُ مِنْ رؤية القلب التي بمعنى العلم لأنها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها التقرير، وجوابُ الشرط محذوفٌ، وتقديرُ الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إنْ أتاكم عذابه". انتهى، فهذا ظاهرق في أنَّ "أرأيتم" غيرُ مضمنةٍ معنى الإِخبار، وأن الجملةَ الاستفهامية سَدَّت مَسَدَّ المفعولين، ولكن المشهور الأول. /
قوله: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ} قد تقدَّم الكلام على هذه الكلمة ومذاهبِ الناس فيها. وجَوَّز بعضُهم هنا أن تكون "ما" مبتدأً و "ذا" خبره، وهو موصولٌ يعني الذي، و "يستعجل" صلتُه وعائدُه محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه أي من العذاب، أو من الله تعالى. وجوَّز آخرون كمكي وأنظارِه أن يكونَ "ماذا" كلُّه مبتدأً أي: يُجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحد، والجملةُ بعده خبره. وقال أبو علي: "وهو ضعيفٌ لخلوِّ الجملةِ من ضمير يعند على المبتدأ". وقد أجاب أبو البقاء عن هذا فقال: "ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في "منه" تعودُ على المبتدأ كقولك: "زيدٌ أَخَذْتُ منه درهماً". قلت: ومِثْلُ أبي علي لا يَخْفى عليه مثل ذلك، إلا أنه لا يَرَى عَوْدَ الهاءِ على الموصولِ لأن الظاهرِ عَوْدُها على العذاب. قال الشيخ: "والظاهرُ عَوْدُ الضمير في "منه" على العذاب، وبه يَحْصُل الربطُ لجملةِ الاستفهامِ بمفعول "أرأيتم" المحذوف الذي هو مبتدأٌ في الأصل". وقال مكي: "وإن شئت جعلت "ما" و "ذا" بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملةُ التي بعده الخبر، والهاءُ في "منه" تعود أيضاً على العذاب". قلت: فقد تُركَ المبتدأُ بلا رابطٍ لفظي حيث جَعَل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ فيكون العائدُ عند محذوفاً. لكنه قال بعد ذلك: "فإنْ جعلت الهاء في "منه" تعود على الله - جلَّ ذكره - والمعنى: أيَّ شيء يستعجل المجرمون من الله" فقوله هذا يؤذنَ بأن(1/3229)
(8/189)
---
الضميرَ لمَّا عاد على غير المبتدأ جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجهُ بعينه جائزٌ فيما إذا جُعل الضمير عائداً على العذاب. ووجهُ الرفعِ على الابتداء جائزٌ فيما إذا جُعِل المضير عائداً على الله تعالى إذ العائدُ الرابطُ مقدرٌ كما تقدم التنبيهُ عليه.
* { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }
قوله تعالى: {أَثُمَّ}: قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملةً بين همزة الاستفهام وحرف العطف. و "ثمَّ" حرفُ عطف، وقد قال الطبري ما لا يوافَق عليه فقال: "وأثُمَّ هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى العطف، وإنما هي بمعنى هنالك" فإن كان قَصَدَ تفسير المعنى وهو بعيدٌ فقد أبهم في قوله، لأن هذا المعنى لا يُعْرَفُ في "ثُمَّ" بضم الثاء، إلا أنه قد قرأ طلحة بن مصرف "أثَمَّ" بفتح الثاء، وحينئذ يَصِحُّ تفسيرها بمعنى هنالك.
قوله: {الآنَ} قد تقدَّم الكلام في "الآن". وقرأ الجمهور "ألآن" بهمزة استفهام داخلة على "الآن" وقد تقدم مذاهب القراء في ذلك. و "الآن" نصبٌ بمضمر تقديره: الآن آمنتم. ودلَّ على هذا الفعلِ المقدرِ الفعلُ الذي تقدَّمه وهو قولُه: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. ولا يجوز أن يعملَ فيه "آمنتم" الظاهرُ؛ لأنَّ ما قبلَ الاستفهام لا يَعْمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعدَه لا يعملُ فيما قبله لأنَّ له صدرَ الكلام، وهذا الفعلُ المقدر ومعمولُه على إضمار قول أي: قِيل لهم إذ آمنوا بعد وقوعِ العذابِ: آمنتم الآن به.
والقراءةُ بالاستفهامِ هي قراءةُ العامة، وقد عَرَفْتَ تخريجَها. وقرأ عيسى وطلحة "آمنتم به الآن" بوصل الهمزة من غيرِ استفهامٍ، وعلى هذه القراءةِ فـ"الآن" منصوبٌ بـ"آمنتم" هذا الظاهر.
(8/190)
---(1/3230)
قولُه: {وَقَدْ كُنتُم} جملةٌ حاليةٌ. قال الزمخشري: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يعني تُكَذِّبون، لأنَّ استعجالَهم كان على جهةِ التكذيبِ والإِنكارِ". قلت: فَجَعَله من باب الكناية لأنه دلالةٌ على لاشيءِ بلازِمِه نحو "هو طويلُ النِّجاد" كَنَيْتَ به عن طولِ قامتِه؛ لأنَّ طولَ نِجادِه لازمٌ لطول قامتِه وهو باب بليغ.
* { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }
وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: هذه الجملةُ على قراءةِ العامة عطفٌ على ذلك الفعلِ المقدَّرِ الناصبِ لـ"الآن"، وعلى قراءةِ طلحة هو استئنافُ إخبارٍ عَمَّا يُقال لهم يومَ القيامة، و "ذوقوا"، و "هل تُجْزَوْن" كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله "إلا بما" هو المفعولُ الثاني لـ"تُجْزَون"، والأولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، وهو استثناءٌ / مفرغ.
* { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيا إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ }
قوله تعالى: {أَحَقٌّ هُوَ}: يجوز أن يكونَ "حَقٌّ" مبتدأ و "هو" مرفوعاً بالفاعلية سدَّ مَسَدَّ الخبر، و "حق" وإن كان في الأصلِ مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول، لكنه في قوةِ "ثابت" فلذلك رَفَعَ الظاهرَ. ويجوز أن يكون "حَقٌّ" خبراً مقدماً و "هو" مبتدأً مؤخراً.
(8/191)
---(1/3231)
واختلف في "يَسْتَنْبِئُونك" هذه هل هي متعديةٌ إلى واحد أو إلى اثنين أو إلى ثلاثة؟ فقال الزمخشري: "ويَسْتَنْبِئونك فيقول: أحقٌّ هو" فظاهرُ هذه العبارةِ أنها متعديةٌ لواحد، وأن الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ بذلك القولِ المضمرِ المعطوفِ على "يَسْتَنْبِئُونك" وكذا فَهِم عنه الشيخ أعني تعدِّيَها لواحدٍ. وقال مكي: "أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضعِ المفعولِ الثاني إذا جَعَلْتَ "يستنبؤنك" بمعنى يَسْتَخْبِرونك، فإذا جَعَلْتَ "يسنبئونك" بمعنى يَسْتَعْلِمونك كان "أحقٌّ هو" ابتداءً وخبراً في موضع المفعولَيْن لأنَّ "أَنْبأ" إذا كان بمعنى أَعْلَم كان متعدياً إلى ثلاثةِ مفعولِيْن يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوزُ الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت "أنبأ" بمعنى أَخْبر تَعَدَّتْ إلى مفعولَيْن، لا يجوز الاكتفاءُ بواحد دون الثاني: وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ". وقال ابنُ عطية: "معناه يَسْتَخْبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر" فعلى ما قال تكون "يَسْتنبئونك" معلقة بالاستفهام، وأصل استنبأ أن يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما بـ"عن"، تقول: اسْتَنْبأت زيداً عن عمرو أي: طلبت منه أن يُنْبِئَني عن عمرو. ثم قال: "والظاهر أنها تحتاج إلى مفعولِين ثلاثةٍ أحدُهما الكافُ، والابتداءُ والخبرُ سَدَّ مَسَدَّ المفعولَيْن". قال الشيخ: "وليس كما ذكر لأن "استعلم" لا يُحْفظ كونُها متعديةً غلى مفاعيلَ ثلاثةٍ، لا يُحْفظ "استعملت زيداً عمراً قائماً" فتكونُ جملةُ الاستفهامِ سَدَّتْ مَسدَّ المفعولين، ولا يَلْزَمُ مِنْ كونها بمعنى "يَسْتعلمونك" أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ "استعلم" لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ كما ذكرنا".
(8/192)
---(1/3232)
قلت: قد سَبَقَ أبا محمد إلى هذا مكي بن أبي طالب كما قدَّمْتُ حكايته عنه، والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التعدي إلى ثالث قد حَصَلَ بالسين، لأنهم نَصُّوا على أن السين تُعَدّي، فيكونُ الأصلُ: "علم زيدٌ عمراً قائماً" ثم تقول: "استعلمْتُ زيداً عمراً قائماً"، إلا أنَّ النحويين نَصُّوا على أنه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلا "عَلِم" و "رَأَى" المنقولَيْن بخصوصيةِ همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنبأ ونَبَّأ وأخبر وخبَّر وحدَّث.
وقرأ الأعمش "آلحقُّ" بلامِ التعريف. قال الزمخشري: "وهو أَدْخَلُ في الاستهزاء لتضمُّنه معنى التعريض بأنه باطلٌ، ذلك أن اللامُ للجنس وكأنه قيل: أهو الحقُّ لا الباطلُ، أو: أهو الذي سَمَّيْتموه الحق".
قوله: {إِي} حرفُ جوابٍ بمعنى نعم ولكنها تختصُّ بالقسم أي: لا تُسْتعمل إلا في القسم بخلافِ نعم. قال الزمخشري: "وإي بمعنى نعم في القسم خاصةً كما كان "هل" بمعنى "قد" في الاستفهامِ خاصةً، وسَمِعْتهم يقولون في التصديق "إيْوَ" فَيَصِلُونه بواو القسم ولا يَنْطِقون به وحده". قال الشيخ: "لا حجَّةَ فيما سمعه لعدمِ الحُجة في كلامِ مَنْ سمعه لفسادِ كلامه وكلامِ مَنْ قبله بأزمانٍ كثيرة". وقال ابن عطية: "وهي لفظةٌ تتقدَّم القسمَ بمعنى نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ تقول: إي وربي، إي ربي".
(8/193)
---(1/3233)
قوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} يجوزُ أن تكونَ الحجازيةَ، وأن تكونَ التميميةَ، لخفاءِ النصبِ أو الرفع في الخبر. وهذا عند غيرِ الفارسي وأتباعِه، عني جوازَ زيادةِ الباء في خبر التميمية. وهذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكون معطوفةً على جوابِ القسم، فيكونَ قد أجاب القسم بجملتين إحداهما مثبتةٌ مؤكَّدةٌ بـ"إنَّ" واللام، والأخرى منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباء. والثاني: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للإِخبار بعَجْزهم عن التعجيز. و "مُعْجز" مِنْ أعجز فهو متعدٍّ لواحدٍ كقوله تعالى: {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} فالمفعول هنا محذوفٌ أي: بمعجزين الله. وقال الزجاج: "أي: ما أنتم مِمَّن يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبكم". ويجوز أن يكونَ استُعْمل استعمَال اللازم؛ لأنه قد كثُر فيه حَذْفُ المفعولِ حتى قالت العرب: "أعْجزَ فلانٌ": إذا ذهب في الأرض فلم يُقْدَرْ عليه.
* { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {لاَفْتَدَتْ بِهِ}: "افتدى" يجوز أن يكون متعدياً وأن يكونَ قاصراً، فإذا كان مطاوعاً لـ"فَدَى" كان قاصراً تقول: فَدَيْتُه فافتدى، ويكونُ بمعنى فيتعدى لواحد. الفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإنْ جعلنا متعدياً فمفعولُه محذوفٌ تقديرُه: لافتدَتْ به نفسَها، وهو في المجاز كقولِه: {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} وقوله: {وَأَسَرُّواْ} / قيل: "أسرَّ" مِنَ الأضداد، يُسْتعمل بمعنى أظهر، كقوله الفرزدق:
2599 - ولمَّا رأى الحجَّجَ جرَّد سيفَه * أسَرَّ الحَرُوريُّ الذي كانوا أضمرا
وقول الآخر:
2600 - فأسرَرْتُ الندامةَ يوم نادى * بِرَدِّ جِمالِ غاضِرةَ المُنادي
(8/194)
---(1/3234)
ويُسْتعمل بمعنى: "أخفى" وهو المشهورُ في اللغةِ كقوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وهو في الآيةِ يحتمل الوجهين. وقيل: إنه ماض على بابه قد وقع. وقيل: بل هو بمعنى المستقبل. وقد أبعدَ بعضُهم فقال: "أسرُّوا الندامةَ" أي: بَدَتْ بالندامة أسِرَّةُ وجوهِهم أي: تكاسيرُ جباهِهم.
و {لَمَّا رَأَوُاْ} يجوز أن تكونَ حرفاً، وجوابُها محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه، وهو المتقدمُ عند مَنْ يَرى تقديمَ جواب الشرط جائزاً. ويجوز أن تكونَ بمعنى حين والناصبُ لها "أسَرُّوا". وقوله: "ظلَمْت" في محل جرِّ صفةٍ لـ"نفس" أي: لكل نفس ظالمة. و {مَّا فِي الأَرْضِ} اسمُ أن، و "لكلٍ" هو الخبر.
وقوله: {وَقُضِيَ} يجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، وهوالظاهر، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على "رأوا" فيكونَ داخلاً في حَيِّز "لَمَّا" والضميرُ في "بينهم" يعودُ على "كل نفس" في المعنى. وقال الزمخشري: "بين الظالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذِكْرُ الظلم" وقال بعضُهم: إنه يعود على الرؤساء والأتباع. و "بالقسط" يجوز أن تكونَ الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكونَ للآلة.
* { هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: قدَّمَ الجارَّ للاختصاص أي: إليه لا إلى غيرِه تُرْجَعون ولأجل الفواصل. وقرأ العامَّةُ: "تُرْجَعون" بالخطاب. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر "يُرْجَعُون" بياء الغَيْبة.
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }
(8/195)
---(1/3235)
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ}: يجوز أن تكونَ "مِنْ" لابتداء الغاية فتتعلَّقَ حينئذ بـ"جاءَتْكم"، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكونَ للتبعيضِ فتتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفة لموعظة أي: موعظةٌ كائنةٌ مِنْ مواعظِ ربكم. وقوله: {مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} من باب ما عُطِف فيه الصفات بعضُها على بعض أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياءِ كلِّها.
و "شِفاء" في الأصلِ مصدرٌ جُعِل وَصْفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به أي: يُداوَى، فهو كالدواءِ لما يُداوى. و {لِّمَا فِي الصُّدُورِ} يجوزُ أن يكونَ صفةً لـ"شفاء" فيتعلَّقَ بمحذوف، وأن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأن العاملَ فرعٌ إذا قلنا بأنه مصدرٌ. وقوله: "للمؤمنين" محتملٌ لهذين الوجهين وهو من التنازع؛ لأنَّ كلاً من الهدى والرحمة يَطْلبه.
* { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
قوله تعالى: {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}: في تعلُّق هذا الجارِّ أوجهٌ، أحدُها: أنَّ "بفضل" و "برحمته" متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: بفضل الله وبرحمته ليَفْرحوا بذلك فَلْيفرحوا، فحذفَ الفعلَ الأولَ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان، ويدلُّ على ذلك قولُ الزمخشري: "أصلُ الكلام: بفضل الله وبرحمته فَلْفرحوا فبذلك والتكرير للتأكيد والتقريرِ وإيجابِ اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دونَ ما عَداهما من فوائدِ الدنيا، فحُذِفَ أحدُ الفعَلْين لدلالةِ المذكورِ عليه، والفاء داخلةٌ لمعنى الشرط كأنه قيل: إنْ فَرِحوا بشيءٍ فَلْيَخُصُّوهما بالفرح فإنه لا مفروحَ به أحقُّ منهما.
الثاني: أن الجارَّ الأولَ متعلقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السياقُ والمعنى، لا نفس الفعلِ الملفوظِ به والتقديرُ: بفضل الله وبرحمتِه فَلْيَعْتَنوا فبذلك فليفرحوا قاله الزمخشري.
(8/196)
---(1/3236)
الثالث: أن يتعلق الجارُّ الأول بجاءتكم" قال الزمخشري: "ويجوز أن يُراد "قد جاءَتْكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، أي فبمجيئِها فَلْيفرحوا". قال الشيخ: "أما إضمار "فليعتنوا" فلا دليلَ عليه" قلت: الدلالةُ عليه من السياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدلالةِ أن تكونَ لفظية.
وقال الشيخ: "وأمَّا تعلُّقه بقوله: "قد جاءتكم" فينبغي أن يقدَّرَ محذوفاً بعد "قل"، ولا يكونُ متعلِّقاً بـ"جاءتكم" الأولى للفصل بينهما بـ"قل". قلت: هذا إيرادٌ واضحٌ، ويجوزُ أن تكونَ "بفضل الله" صفةً لـ"موعظة" أي: موعظةٌ مصاحبةٌ أو ملتبسَةٌ بفضل الله.
الرابع: قال الحوفي: "الباءُ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه المعنى أي: قد جاءتكم الموعظةُ بفضل الله".
الخامس: أنَّ الفاءَ الأولى زائدةٌ، وأن قولَه "بذلك" بدلٌ مِمَّا قبله وهو {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} وأُشير بذلك إلى اثنين وهما الفضلُ والرحمةُ كقوله: / {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ}، وكقوله:
2601 - إنَّ للخيرِ وللشرِ مَدَى * وكِلا ذلك وَجْهُ وقَبَلْ
وفي هاتين الفاءَيْن أوجهٌ، أحدُهما: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم تحريرُه في الوجه الخامس. اثاني: أن الفاءَ الثانية مكررةٌ للتوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى. زائدةً، ويكونُ أصلُ التركيبِ: فبذلك ليفرحوا، وعلى القولِ الأول قبله يكون أصلُ التركيب: بذلك فَلْيفرحوا. الثالث: قال أبو البقاء: "الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: فليَعْجبوا بذلك فَلْيفرحوا كقولهم: "زيداً فاضربه أي: تَعمَّدْ زيداً فاضْرِبه".
والجمهورُ على "فَلْيفرحوا" بياء الغيبة. وقرأ عثمان بن عفان وأبيّ وأنس والحسن وأبو رَجاء وابن هرمز وابن سيرين بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: "وهو الأصلُ والقياسُ".
(8/197)
---(1/3237)
وقال الشيخ: "إنها لغةٌ قليلة" يعني أن القياسَ أن يُؤْمَرَ المخاطب بصيغة افعل، وبهذا الأصلِ قرأ أُبَيُّ "فافرحوا" وهي في مصحفِه كذلك، وهذه قاعدةٌ كليةٌ: وهي أن الأمر باللام يَكْثُر في الغائب والمخاطبِ المني للمفعول مثال الأول: "ليقم زيداً" وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: ليُعْنَ بحاجتي، ولتُضْرَبْ يا زيد. فإن كان مبنياً للفاعل كان قليلاً كقراءة عثمان ومن معه. وفي الحديث "لتأخذوا مصافَّكم" بل الكثيرُ في هذا النوع الأمرُ بصيغة افْعَلْ نحو: قم يا زيد وقوموا، وكذلك يَضْعُف الأمر باللام للمتكلم وحده أو ومعه غيره، فالأول نحو "لأقُمْ" تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله عليه السلام: "قوموا فلأصلّ لكم
" ومثالُ الثاني: لنقمْ أي: نحن وكذلك النهي، ومنه قول الشاعر:
2602 - إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ * بها أبداً ما دام فيها الجُراضِمُ
ونَقَل ابن عطية عن ابنِ عامر أنه قرأ "فَلْتَفْرحوا" خطاباً، وهذه ليست مشهورةً عنه. وقرأ الحسن وأبو التيَّاح "فَلِيفرحوا" بكسرِ اللام، وهو الأصل.
قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} "هو" عائدٌ على الفضل والرحمة، وإن كانا شيئين؛ لأنهما بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد، ولذلك أُشير إليهما بإشارة الواحد. وقرأ ابن عامر "تَجْمعون" بالتاء خطاباً وهو يحتمل وجهين أحدُهما: أن يكونَ من باب الالتفات فيكونَ في المعنى كقراءة الجماعة، فإن الضمير يُراد به مَنْ يراد بالضمير في قولِه: "فَلْيفرحوا". والثاني: أنه خطابٌ لقوله: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ}، وهذه القراءةُ تناسبُ قراءةَ الخطاب في قوله: "فَلْيفرحوا"، وقد تقدَّم أن ابنَ عطية نقله اعنه أيضاً.
* { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }
(8/198)(1/3238)
---
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ}: هذه بمعنى أخبروني. وقوله "ما أنزل" يجوزُ أن تكونَ "ما" موصولةً بمعنى الذي، والعائدُ محذوفُ أي: ما أنزله، وهي في محل نصبٍ مفعولاً أول، والثاني هو الجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} والعائدُ من هذه الجملةِ على المفعولِ الأول محذوفٌ تقديرُه: اللَّهُ أَذِن لكم فيه. واعتُرِضَ على هذه بأنَّ قولَه "قُلْ" يمنع من وقوع الجملةِ بعده مفعولاً ثانياً. وأُجيب عنه بأنه كُرِّر توكيداً. ويجوز أن تكونَ "ما" استفهامية منصوبةً المحلِّ بـ"أَنْزَلَ" وهي حينئذ مُعَلِّقَةٌ لـ"أَرَأَيْتم"، وإلى هذا ذهب الحوفي والزمخشري. ويجوز أن تكونَ "ما" الاستفهاميةُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم أي: أَذِن لكم فيه، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقَةٌ لـ"أَرَأَيتم"، والظاهرُ من هذه الوجهِ هو الوجهُ الأولُ، لأنَّ فيه إبقاءَ "أرأيت" على بابها مِنْ تَعذِّبها إلى اثنين، وأنها مؤثرةٌ في أولِهما بخلافِ جَعْلِ "ما" استفهاميةً لإنها معلقةٌ لـ"أرأيت" وسادَّةٌ مَسَدَّ المفعولين.
(8/199)
---(1/3239)
وقوله: {مِّن رِّزْقٍ} يجوزُ أن يكونَ حالاً من الموصول، وأن تكونَ "مِنْ" لبيان الجنس و "أنزل" على بابها وهو على حَذْف مضاف أي: أنزله من سببِ رزقٍ وهو المطر. وقيل: تُجُوِّز بالإِنزال عن الخلقِ كقولِه {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ} قوله: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} في "أم" هذه وجهان أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ / تقديرُه: أخبروني: آللَّهُ أَذِنَ لكم في التحليلِ والتحريم، فإنهم يفعلون ذلك بإذنه أم يَكْذِبون على الله في نسبة ذلك إليه. والثاني: أن تكونَ منقطعةً. قال الزمخشري: "ويجوز أن تكونَ الهمزةُ للإِنكار و "أم" منقطعةٌ بمعنى: بل أَتَفْترون على الله، تقريراً للافتراء". والظاهر هو الأول إذ المعادلةُ بين هاتين الجملتين اللتين بمعنى المفردين واضحةٌ، إذ التقدير، أيُّ الأمرينِ وَقَعَ: إذْنُ اللَّهِ لكم في ذلك أم افتراؤكم عليه؟
* { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ}: "ما" مبتدأةٌ استفهامية، و "ظنُّ" خبرُها، و "يومَ" منصوبٌ بنفس الظن، والمصدرُ مضافٌ لفاعلشه، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يَظُنُّ الذين يَفْترون يومَ القيامة أني فاعلٌ بهم أَأُنجيهم من العذاب أم أنتقمُ منهم؟
وقرأ عيسى بن عمر: "وما ظَنَّ الذين" جَعَلَه فعلاً ماضياً والموصولُ فاعلُه، و "ما" على هذه القراءة استفهاميةٌ أيضاً في محلِّ نصبٍ على المصدرِ، وقُدّمَتْ لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلام والتقدير: أيَّ ظنٍ ظنَّ المفترون، و "ما" الاستفهاميةُ قد تَنُوب عن المصدر، ومه قول الشاعر:
2603 - ماذا يَغيرُ ابنَتْي رَبْعٍ عويلُهما * لا تَرْقُدان ولا بؤسى لمَنْ رَقَدا
(8/200)
---(1/3240)
وتقول: "ما تَضْرب زيداً"، تريد: أيَّ ضربٍ تَضْربه، قال الزمخشري: أتى به فعلاً ماضياً، لأنه واقعٌ لا محالةَ، فكأنه قد وقع وانقضى" وهذا لا يستقيمُ هنا لأنه صار نصاً في الاستقبال لعملهِ في الظرف المستقبل وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي.
* { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلاا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ}: "ما" نافية في الموضعين، ولذلك عَطَفَ بإعادة "لا" النافية، وأَوْجب بـ"إلا" بعد الأفعال لكونها منفيةً. و "في شأن" خبر "تكون" والضميرُ في "منه" عائدٌ على "شأن" و "مِنْ قرآن" تفسير للضمير، وخُصَّ من العمومِ، لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شؤونه صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعودُ على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن لأنَّ كلَّ جزء منه قرن، وإنما أَضْمَرَ قبل الذكرِ تعظيماً له. وقيل: يعود على الله، أي: وما تتلو مِنْ عند الله من قرآنٍ. وقال أبو البقاء: "من الشأن"، أي: مِنْ أجله، و "من قرآن" مفعول "تتلو" و "مِنْ" زائدةٌ". يعني أنها زِيْدت في المفعول به، و "من" الأولى جارةٌ للمفعولِ مِنْ أجله، تقديره: وما تتْلو من أجل الشأن قرآناً، وزِيدَت لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ والمجرور نكرة. وقال مكي: "منه" الهاء عند الفراء تعود على الشأن على تقديرِ حَذْفِ مضافٍِ تقديرُه: وما تتلو من أجل الشأن، أي: يحدث لك شأنٌ فتتلو القرآن من أجله".
والشَّأْنُ مصدرُ شَأنَ يَشْأَنُ شَأَنَه، أي: قَصَد يَقْصِدُ قَصْدَه، وأصلُه الهمز، ويجوز تخفيفه. والشأن أيضاً الأمرُ، ويُجْمع على شُؤُون.
(8/201)
---(1/3241)
وقوله: {إِلاَّ كُنَّا} هذه الجملةُ حاليةٌ وهو استثناء مفرغ، وولي "إلا" هنا الفعلُ الماضي دون قد لأنه قد تقدَّمها فعلٌ وهو مُجَوَّز لذلك.
وقوله: "إذ" هذا الظرفُ معمولٌ لـ"شُهودا" ولمّضا كانت الأفعالُ السابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدائمةُ وتنسحب على الأفعالِ الماضيةِ كان الظرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، ولا عَمِلْتم، إلا كنا عليكم شهوداً، إلا أفضتم فيه. و "إذ" تُخَلِّصُ المضارعَ لمعنى الماضي.
قوله: {وَمَا يَعْزُبُ} قرأ الكسائي هنا وفي سبأ "يَعْزِب" بكسرِ العين، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع عَزَبَ، يقال: عَزَب يَعْزِب العين، ويَعْزُب، أي: غابَ حتى خفي، ومنه الروضُ العازِبُ. قال أبو تمام:
2604 - وقَلْقَلَ نَأْيٌ مِنْ خراسانَ جَأْشَها * فقلتُ اطمئنِّي أَنْضَرُ الروضِ عزِبُه
وقيل للغائب عن أهله: عازِب، حتى قالوا لمن لا زوجَ له: عازب. وقال الراغب: "العازِبُ: المتباعِدُ في طلب الكلأ. ويقال: رجل عَزَبٌ وامرأة عَزَبة، وعَزَب عنه حِلْمُه، أي: غاب، وقوم مُعَزَّبون، أي: عَزَبَتْ عنهم إبلُهم، وفي الحديث: "من قرأ القرآن في أربعين ويماً فقد عَزَب"، أي: فقد بَعُد عهدُه بالخَتْمة. وقال قريباً منه الهروي فإنه قال: / "أي: بَعُدَ عهدُه بما ابتدأ منه وأبطأ في تلاوتِه"، وفي حديث أم مَعْبد: "والشاءُ عازِبٌ حِيال"، قال: "والعازِب: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى. والحائلُ: التي ضَرَبَها
الفحلُ فلم تَحْمل لجُدُوبة السَّنة. وفي الحديث أيضاً:
"أصبحنا بأرضٍ عَزيبةٍ صحراءَ"، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمال الغائب: عازِب، وللحاضرِ عاهِن. والمعنى في الآية: وما يَبْعُد أو ما يَخْفى أو ما يَغيب عن ربك.
و "مِنْ مِثْقال" فاعل، و "مِنْ" مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ. والمثْقال هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرة.
(8/202)
---(1/3242)
قوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلاا أَكْبَرَ} قرأ حمزة برفع راء "أَصْغر" و "أكبر"، والباقون بفتحها. فأما الفتحُ ففيه وجهان، أحدهما: - وعليه أكثر المُعْربين - أنه جَرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ لأنه لا يَنْصَرف للوزن والوصف، ولاجرُّ لأجلِ عطفِه على المجرور وهو: إمَّا "مثقال"، وإمَّا "ذرة". وأمَّا الوجهُ الثاني فهو أنَّ "لا" نافيةٌ للجنس، و "أصغر" و "أكبر" اسمُها، فهما مَبْنيان على الفتح. وأمَّا الرفعُ فمن وجهين أيضاً، أشهرهُما عند المُعْربين: العطفُ على محل "مثقال" إذ هو مرفوعٌ بالفاعلية و "مِنْ" مزيدة فيه كقولك: "ما قام مِنْ رجل ولا امرأة" بجرِّ "امرأة" ورَفِعْها. والثاني: أنه مبتدأ، قال الزمخشري: "والوجهُ النصبُ على نفي الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسِه، وفي العطفِ على محل "مثقال ذرة"، أو على لفظ "مثقال ذرة" فتحاً في موضع الجرِّ لامتناع الصرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولَك: "لا يَعْزُب عنه شيءٌ إلا في كتاب مشكل" انتهى. وهذان الوجهان اختيار الزجاج، وإنما كان هذا مُشْكلاً عنده لأنه يصير التقدير: إلا في كتاب مبين فيعزبُ، وهو كلامٌ لا يصحُّ. وقد يزول هذا الإِشكالُ بما ذكره أبو البقاء: وهو أن يكون {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} استثناءٌ منقطعاً، قال: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، أي: إلا هو في كتاب، والاستثناءُ منقطع".
(8/203)
---(1/3243)
وقال الإِمام فخر الدين بعد حكايته الإِشكالَ المتقدم: "أجاب بعضُ المحققين مِنْ وجهين، أحدهما: أن الاستثناءَ منقطع، والآخر: أن العُزوبَ عبارةٌ عن مُطْلق البعد، والمخلوقاتِ قسمان، قسمٌ أوجده اللهُ ابتداءً مِنْ غير واسطةٍ كالملائكة والسمواتِ والأرض، وقسمٌ أوجده بواسطةِ القسم الأول مثلِ الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلةِ العِلِّيَّة والمعلولِيَّة عن مرتبة وجود واجبِ الوجود، فالمعنى: لا يَبْعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين، كتبه الله وأثبت فيه صورَ تلك المعلومات". قلت: فقد آل الأمرُ إلى أنه جَعَله استثناءً مفرغاً، وهو حال من "أصغر" و "كبر"، وهو في قوة الاستثناءِ المتصل، ولا يُقال في هذا: إنه متصل ولا منقطع، إذ المفرَّغُ لا يُقال فيه ذلك.
وقال الجرجاني: "إلا" بمعنى الواو، أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ "إلا" موضعَ واو النسق كقوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}. وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنه شيءٌ قال به الأخفش، ولم يَثْبُت ذلك بدليل صحيح. وقال الشيخ أو بشامةَ: "ويُزيل الإِشكالَ أن تُقَدِّر قبلَ قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} "ليس شيء من ذلك إلا في كتاب" وكذا تقدِّر في آية الأنعام.
(8/204)
---(1/3244)
ولم يُقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ يقول إنه معطوف على "مثقال" ويُبَيِّنه أن "مثقال" فيها بالرفع، إذ ليس قبله حرفُ جر. وقد تقدَّمَ الكلامُ على نظير هذه المسألة والإِشكالُ فيها في سورة الأنعام في قوله {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ}، إلى قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وأنَّ صاحبَ "النظم" الجرجانيَّ هذا أحال الكلامَ فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأن أبا البقاء قال: "لو جَعَلْناه كذا لفَسَدَ المعنى"، وقد بيَّنْتُ تقريرَ فسادِه والجوابَ عنه في كلام طويل هنا: فعليك باعتبارِه ونَقْلِ ما يمكن نَقْلُه إلى هنا.
* { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ}: في محلِّه أوجهٌ، أحدُها: أنه مرفوعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمر، أي: هم الذين آمنوا، أو على أنه خيرٌ ثانٍ لـ"إنَّ"، أو على الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ من قوله: "لهم البشرى"، أو على النعت على موضع "أولياء" لأنَّ موضعَه رفعٌ بالابتداء قبل دخول "إنَّ" أو على البدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكي. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين لأنهم يُجْرون التوابعَ كلَّها مُجرى عطفِ النسق في اعتبار المحل / محلِّ الجر بدلاً من الهاء والميم في "عليهم". وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً لـ"أولياء"، أو بدلاً منهم على اللفظ أو على إضمارِ فعلٍ لائقٍ وهو "أمدحُ"، فقذ تَحَصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنصبُ من ثلاثة. وإذا لم تجعلِ الجملةَ من قوله: "لهم البشرىَ"، خبراً للذين جاز فيها الاستئنافُ، أن تكونَ خبراً ثانياً لـ"إنَّ" أو ثالثاً.
* { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
(8/205)
---(1/3245)
قوله تعالى: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا}: يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدنيا، وفُسِّرت بالرؤيا الصالحةِ. والثاني: أنها حالٌ من "البشرى" فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في "لهم" لوقوعه خبراً. وقوله: "لا تبديلَ" جملةٌ مستأنفة. وقوله: "ذلك" إشارةُ للبشرى وإن كانت مؤنثةً لأنها في معنى التبشير. وقيل: هو إشارةٌ إلى النعيم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: "ذلك" إشارةٌ إلى كونهم مبشَّرين في الدارين".
* { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ}: العامَّةُ على كسرِ "إنَّ" استئنافاً وهو مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة. وقيل: هو جوابُ سؤالٍ مقدرٍ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولُهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً}، ليس لهم منها شيءٌ فكيف تبالي بهم وبقولهم؟.
والوقفُ على قولِه: {قَوْلُهُمْ} ينبغي أن يُعْتمد ويُقْصَدَ ثم يُبتدأ بقوله "إن العزَّة" وإن كان من المستحيلِ أن يتوهَّم أحد أن هذا مِنْ مقولهم، إلا مَنْ لا يُعْتَبَرُ بفهمه.
(8/206)
---(1/3246)
وقرأ أبو حيوة: "أنَّ العزة" بفتح "أنَّ". وفيها تخريجان، أحدهما: أنها على حَذْفِ لام العلة، أي: لا يَحْزنك قولهم لأجل أن العزة لله جميعاً. والثاني: أنَّ "أنَّ" وما في حيِّزها بدل من "قولهم" كأنه قيل: ولا يَحْزُنك أن العَّزة لله، وكيف يَظْهَرُ هذا التوجيهُ أو يجوز القول به، وكيف يَنْهى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في المعنى وهو لم يَتَعاطَ شيئاً من تلك الأسباب، وأيضاً فمِنْ أيِّ قبيٍ الإِبدالُ هذا؟ قال الزمخشري: "ومَنْ جعله بدلاً من "قولهم" ثم أنكره فالمُنْكَر هو تخريجُه لا ما أنكره من القراءة به"، يعني أن إنكارَه للقراءة مُنْكَرٌ؛ لأنَّ معناه صحيحٌ على ما ذَكَرْتُ لك مِنَ التعليلِ، وإنما المُنْكَر هذا التخريجُ.
وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ونَسَبُوها للغلَط ولأكثر منه. قال القاضي: "فَتْحُها شاذٌّ يُقارِبُ الكفر، وإذا كُسِرت كان استئنافاً وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإِعراب". وقال ابن قتيبة: "لا يجوز فتحُ "إنَّ" في هذا الموضعِ وهو كفرٌ وغلوٌّ"، وقال الشيخ: "وإنما قالا ذلك بناءً منهما على أن "أنَّ" معمولةٌ لـ"قولهم". قلت: كيف تكون معمولةً لـ"قولهم" وهي واجبةُ الكسرِ بعد الوقل إذا حُكِيَتْ به، كيف يُتَوَهَّم ذلك؟ وكما لا يُتَوَهَّم هذا المعنى مع كسرِها لا يُتَوَهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيح.
و "جميعاً" حال من "العِزَّة" ويجوز أن يكون توكيداً ولم يؤنَّثْ بالتاءِ، لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث لشبهه بالمصادرِ، وقد تقدَّم تحريرُه في قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وقوله: {قَوْلُهُمْ}، قيل: حُذِفَتْ صفتُه لِفَهْم المعنى، إذ التقديرُ: ولا يَحْزنك قولُهم الدالُّ على تكذيبك، وحَذْفُ الصفةِ وإبقاءُ الموصوفِ قليلٌ بخلافِ عكسِه. وقيل: بل هو عامٌّ أُريد به الخاص.
(8/207)
---(1/3247)
* { أَلاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }
وقوله تعالى: {مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ}: يجوزُ أن يُرادَ [به] العقلاءُ خاصةً، ويكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، وذلك أنه تعالى إذا كان يملك أشرفَ المخلوقات وهما الثَّقَلان العقلاءُ من الملائكة والإِنس والجن فَلأَنْ يملكَ ما سواهم بطريق الأَوْلى والأَحْرى، ويجوز أن يُرادَ العمومُ، وغَلَّبَ العاقلَ على غيرِه.
قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} يجوز في "ما" هذه أن تكون نافيةً وهو الظاهرُ. و "شركاء" مفعولُ "يَتَّبع"، ومفعولُ "يَدْعون" محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: وما يتبع الذين يَدْعُون مِنْ دون الله آلهةً شركاءَ، فآلهةً مفعول "يَدْعون" و "شركاءَ" مفعول "يتبع"، وهو قولُ الزمخشري، قال: "ومعنى وما يَتَّبعون شركاءَ: وما يتَّبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يُسَمُّونها شركاءَ؛ لأن شركةَ الله في الربوبيةِ مُحال، إن يتبعونَ إلا ظنَّهم أنها شركاءُ". ثم قال: "ويجوز أن تكون "ما" استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يَتَّبعون، و "شركاء" على هذا نُصِب بـ"يدعون"، وعلى الأول بـ"يَتَّبع" وكان حقُّه "وما يتبع الذين يَدْعُون من دون الله شركاءَ شركاءَ" فاقتصر على أحدهما للدلالة".
وهذا الذي / ذكره الزمخشري قد رَدَّه مكي ابن أبي طالب وأبو البقاء. أمَّا مكيٌّن فقال: "انتصَبَ شركاء بـ"يَدْعون" ومفعول "يَتَّبع" قام تَنْفي عنهم ذلك، والله قد أَخْبر به عنهم". وقال أبو البقاء: "ورشركاء مفعولٌ "يَدْعون" ولا يجوزُ أن يكونَ مفعول "يتبعون"؛ لأنَّ المعنى يَصير إلى أنَّهم لم يَتَّبعون شركاء، وليس كذلك.
(8/208)
---(1/3248)
قلت: معنى كلامِهما أنه يَؤُول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاءَ، والواقعُ أنهم قد اتَّبعوا الشركاء. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى أنهم وإن اتَّبعوا شركاءَ فليسوا بشركاءَ في الحقيقة؛ بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنهم لم يَتَّخذوا شركاءَ ولا اتَّبعوهم لسلب الصفة الحقيقية عنهم، ومثلُه قولُك: "ما رأيتُ رجلاً"، أي: مَنْ يستحقُّ أن يُسَمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم. ويجوز أن تكونَ "ما" استفهامية، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك. وقال مكي: "لو جعلتَ "ما" استفهاماً بمعنى الإِنكار والتوبيخ كانت اسماً في موضعِ نصبٍ بـ"يتَّبع". وقال أبو البقاء نحو.
ويجوزُ أنَ تكونَ "ما" موصولةً بمعنى الذي نسقاً على "مَنْ" في قوله {أَلاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات}، قال الزمخشري: "ويجوز أن تكونَ "ما" موصولةً معطوفةً على "مَنْ"، كأنه قيل: وللَّهِ ما يتَّبعه الذين يَدْعون من دونَ الله شركاء، أي: وله شركاؤكم".
ويجوز أن تكون "ما" هذه الموصولةَ في محل رفع بالابتداء، والخيرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي يَتَّبعه المشركون باطلٌ. فهذه أربعةُ أوجهٍ.
(8/209)
---(1/3249)
وقرأ السلمي "تَدْعُون" بالخطاب، وعزاها الزمخشري لعليّ ابن أبي طالب. قال ابن عطية: "وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة" قلت: قد ذكرِ توجيهَها أبو القاسم، فقال: "ووجهُه أن يُحْمل "وما يتَّبع" على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تَدْعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين، يعني أنهم يتَّبعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تَفْعلون مثلَ فعلِهم كقوله تعالى: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} "إنْ" نافية، و "الظن" مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ، ومفعولُ الظن محذوفٌ تقديرُه: إن يتبعون إلا الظنَّ انهم شركاءُ، وعند الكوفيين تكون أل عوضاً من الضمير تقديره: "إن يَتَّبعون إلا ظنَّهم أنهم شركاءُ. والأحسنُ أن لا يُقَدَّر للظن معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن لا اليقين.
وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} مَنْ قرأ "يَدْعُون" بياء الغيبة فقد جاء بـ"يَتَّبعون" مطابقاً له، ومَنْ قرأ "تدعون" بالخطاب فيكون "يتبعون" التفاتاً، إذا هو خروج من خطاب إلى غَيْبة.
* { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }
قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ}: . . . الآية. انظر إلى فصاحة هذه الآية، حيث حَذَفَ من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى، وذلك أنه ذكر علة جَعْل الليل لنا، وهي قوله "لتسكنوا" وحَذَفها مِنْ جَعْل النهار، وذَكَر صفةَ النهار وهي قوله "مُبْصِراً" وحَذَفَها من الليل لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جَعَل لكم الليل مُظْلماً لتَسْكُنوا فيه والنهارَ مُبْصِراً للتحرَّكوا فيه لمعاشِكم، فحذف "مُظْلماً" لدلالة "مبصراً" عليه، وحذف "لتتحَرَّكوا" لدلالة "لتسكنوا" وهذا أفصحُ كلامٍ.
(8/210)
---(1/3250)
وقوله: {مُبْصِراً} أسند الإِبصارَ إلى الظرف مجازاً كقولِهم "نهارُه صائم وليله قائم ونائم" قال:
2605 - .................. * ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائمِ
وقال قطرب: "يقال: أَظْلَمَ الليلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار: صار ذا ضياء، فيكون هذا من باب النسبِ كقولهم لابن وتامر، وقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، إلا أن ذلك إنما جاء في الثلاثي، وفي فعَّل بالتضعيف عند بعضِهم في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}، في أحد الأوجه.
* { قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ}: "إنْ" نافية و "عندكم" يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و "مِنْ سلطان" مبتدأ مؤخراً، ويجوز أن يكونَ "مِنْ سلطان" مرفوعاً بالفاعلية بالظرف قبلَه لاعتمادِه على النفي، و "مِنْ" مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلَّقَ بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان، وأن يتعلَّقَ بمحذوف صفةً له، فيُحكمَ على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفعِ على المحل؛ لأنَّ موصوفَه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلق بالاستقرار. قال الزمخشري: "الباءُ حقُّها أن تتعلَّقَ بقوله: "إنْ عندكم" على أن يُجْعَلَ القولُ مكاناً للسلطان كقولك: "ما عندكم بأرضِكم مَوْزٌ" كأنه قيل: إنْ عندكم / بما تقولون سُلْطان". وقال الحوفي: "وبهذا" متعلقٌ بمعنى الاستقرار"، يعني الذي تَعَلَّق به الظرف.
* { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
(8/211)
---(1/3251)
قوله تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا}: يجوز رفع "متاع" مِنْ وجهين، أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدر فهي استئنافيةٌ كأن قائلاً قال: كيف لا يَعْلمون وهم في الدنيا مُفْلحون بأنواعٍ ممَّا يتلذذون به؟ فقيل: ذلك متاع. والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ تقديرُه، لهم متاعٌ، و "في الدنيا" يجوز أن يتعلقَ بنفس "متاع"، أي: تَمَتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ لـ"متاع" فهو في محلِّ رفعٍ. ولم يُقرأ بنصبه هنا بخلاف قوله: "متاع الحياة" في أول السورة.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ} الباءُ للسببية، و "ما" مصدريةٌ، أي: بسببِ كونهم كافرين.
* { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوااْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوااْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ}: يجوز أن تكونَ "إذ" معمولةً لـ"نَبأ"، ويجوز أن تكونَ بدلاً مِنْ" نبأ" بدلَ اشتمال. وجوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من "نبأ" وليس بظاهرٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً بـ"اتلُ" لفساده، إذ "اتلُ" مستقبلٌ، و "إذا" ماض، و "لقومه" اللام: إمَّا للتبليغ وهو الظاهرُ، وإمَّا للعلة وليس بظاهرٍ.
وقوله: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} من باب الإِسناد المجازي كقولهم: "ثَقُل عليَّ ظلُّه".
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء "مُقامي" بضم الميم، و "المقام" بالفتح مكان القيام، وبالضم مكان الإِقامة أو الإِقامة نفسها. وقال ابن عطية: "ولم يُقرأ هنا بضم الميم" كأنه لم يَطَّلع على قراءةِ هؤلاء الآباء.
قوله: {فَعَلَى اللَّهِ} جواب الشرط.
(8/212)
---(1/3252)
وقوله: {فَأَجْمِعُوااْ} عطف على الجواب، ولم يذكر أبو البقاء غيرَه. واستُشْكِل عليه أنه متوكلٌ على الله دائماً كَبُر عليهم مقامُه أو لم يكبر. وقيل: جوابُ الشرط قوله "فأجمعوا" وقوله {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} جملةٌ اعتراضية بين الشرط وجوابه، وهو كقول الشاعر:
2606 - إمَّا تَرَيْني قد نَحَلْتُ ومَنْ يكنْ * غَرَضاً لأطراف الأَسِنَّة يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بادِنٍ * ضخمٍ على ظهر الجَوادِ مُهَبَّلِ
وقيل: الجوابُ محذوف، أي: فافعلوا ما شئتم.
وقرأ العامة: "فَأَجْمعوا" أمراً مِنْ "أَجْمع" بهمزة القطع يقال: أَجْمع في المعاني، وجَمَع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلزة:
2607 - أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا * أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ
وقال آخر:
2608 - يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ * هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وهل أَجْمَعَ متعدِّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعاً؟ فقال أبو البقاء: "مِنْ قولك "أجمعتُ على الأمر: إذا عَزَمْتُ عليه، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه. وقيل: هو متعدٍّ بنفسه في الأصل" وأنشد قولَ الحارث. وقال أبو فيد السدوسي: "أَجْمعت الأمر" أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه" وقال أبو الهثيم: "أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعاً بعدما كان متفرقاً" قال: "وَتفْرِقَتُه أن يقولُ مرةً افعل كذا، ومرة افعل كذا، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل بـ"على" فقيل: أَجْمَعْتُ على الأمر أي: عَزَمْتُ عليه، والأصل: أجمعت الأمر.
(8/213)
---(1/3253)
وقرأ العامَّةُ: "وشركاءَكم" نصباً وفيه أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على "أَمْرَكم" بتقدير حذف مضاف، أي: وأمر شركاءكم كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن "أَجْمع" للمعاني. والثاني: أنه عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف، قيل: لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق، أي: وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة. وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ "وادعوا" فأضمرَ فعلاً لائقاً كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}، أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومثلُه قولُ الآخر:
2609 - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها
وكقوله:
2610 - يا ليت زوجَك قد غدا * مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً
/ وقول الآخر:
2611 - إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً * وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
يريد: ومُعْتَقِلاً رُمْحاً، وكحَّلْنَ العيونا. وقد تقدم أن في هذه الأماكن غيرَ هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي: مع "شركائكم" قال الفارسي: "وقد يُنْصب الشركاء بواو مع، كما قالوا: جاء البردُ والطَّيالسةَ"، ولم يذكر الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي. قال الشيخ: "وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على أنه مفعول معه من الفاعل، وهو الضمير في "فَأَجْمعوا" لا من المفعول الذي هو "أَمْرَكُمْ" وذلك على أشهرِ الاستعمالين، لأنه يقال: "أجمع الشركاءُ أمرَهم، ولا يقال: "جَمَع الشركاء أمرهم" إلا قليلاً، قلت: يعني أنه إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل كان جائزاً بلا خلافٍ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم يَصِحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور، إذ لا يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله، إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جَمَعْت.
(8/214)
---(1/3254)
وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع "فأجْمَعُوا" بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع، و "شركاءَكم" على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحب "اللوامح": "أَجْمَعْتُ الأمر: أي: جَعَلْتُه جميعاً، وجَمَعْتُ الأموال جمعاً، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان، وقد يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر، وفي التنزيل: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} قلت: وقد اختلف القراء في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ}، فقرأ الستة بقطع الهمزة، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل: "إنَّ "أجمع" في المعاني. وقرأ أبو عمرو وحدَه "فاجمعوا" بوصل الألفِ، وقد اتفقوا على قولِه "فَجَمع كيدَه ثم أتى" فإنه مِن الثلاثي، مع أنه متسلِّطٌ على معنى لا عَيْنٍ. ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ "أجمع أمرَه" إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر:
2612 - يا ليت شعري والمُنى لا تَنْفَعُ * هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وقيل: المعنى: فاجْمَعوا على كيدكم، فحذف حرف الجر.
وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب "وشركاؤكم" رفعاً. وفيه تخريجان، أحدهما: أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله، وجاز ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف، والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبرن تقديرُه: وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم.
وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت: "وشركائكم" بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجروراً على حاله كقوله:
2613 - أكلَّ امرِىءٍ تحسبين أمرَأً * ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا
(8/215)
---(1/3255)
أي: وكل نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله، ومضنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في "أمركم" من غيرِ تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ إعادة الجارِّ في سورة البقرة.
قوله: {غُمَّةً} يقال: غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ. قال أبو الهيثم: "هو مِنْ قولهم: "غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر. قال طرفة ابن العبد.
2614 - لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ * نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ
وقال الليث: "يُقال: هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له.
قوله: {ثُمَّ اقْضُوااْ} مفعول "اقضوا" محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر / الذي تريدون إيقاعه كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} فعدَّاه لمفعولٍ صريح. وقرأ السَّرِيُّ "ثم أفْضُوا" بقطع الهمزة والفاء، مِنْ أفضى يُفْضي إذا انتهى، يقال: أَفْضِيْتُ إليك، قال تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فالمعنى: ثم افضُوا إلى سِرِّكم، أي: انتهوا به إليَّ. وقيل: معناه: أَسْرِعوا به إليَّ. وقيل: هو مِنْ أفضى، أي: خَرَج إلى الفضاء، أي: فأصحِروا به إليَّ، وأَبْرِزوه لي كقوله:
2615 - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَه * عليه فأَفْضَى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنه مِنْ فَضَا يَفْضُو، أي: اتِّسَع. وقوله: "لا تُنْظِرون"، أي: لا تُؤَخِّرون من النَّظِرة وهي التأخير.
* { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ }
(8/216)
---(1/3256)
وقوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بأَنْجَيْناه، أي: وقع الإِنْجاء في هذا المكان. والثاني: أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو "معه" لوقوعه صلةً، أي: والذين استقروا معه في الفلك.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ}، أي: صَيَّرناهم، وجُمع الضميرُ في "جَعَلْناهم" حَمْلا على معنى "مِنْ"، و "خلائف" جمع خَلِيفة، أي: يَخْلُفون الغارقين.
* { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ }
قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ}: أي: بعد نوح. "بالبينات" متعلقٌ بـ"جاؤُوهم"، أو بمحذوفٍ على أنه حال، أي: ملتبسين بالبينات. وقوله: "ليؤمِنوا" أتى بلام الجحود توكيداً. والضمير في "كَذَّبوا" عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في "كانوا" وهم قومُ الرسل. والمعنى: أنَّ حالَهم بعد بعثِ الرسل كحالِهم قبلها في كونهم أهلَ جاهلية، وقال أبو البقاء ومكي: "إن الضميرَ في "كانوا" يعود على قوم الرسل، وفي "كَذَّبوا" يعودُ على قوم نوح، والمعنى: فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذَّب به قومُ نوح، أي: بمثلِه. ويجوز أن تكونَ الهاءُ عائدةً على نوح نفسه من غير حَذْفِ مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرسلِ بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ، إذ لو آمنوا به لآمنوا بأنبيائهم. و "من قبل" متعلقٌ بـ"كَذَّبوا" أي من قبل بعثة الرسل. وقيل: الضمائرُ كلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنهم بادروا رسلَهم بالتكذيب، كلما جاءَ رسولٌ لَجُّوا في الكفرِ وتمادَوْا عليه فلم يكونوا لِيؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم من قبلِ لَجِّهم في الكفر وتمادِيهم.
(8/217)
---(1/3257)
وقال ابن عطية: "ويحتمل اللفظُ عند يمعنى آخر، وهو أن تكونَ "ما" مصدرية، والمعنى: فكذَّبوا رسلَهم فكان عقابهم من الله أَنْ لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم مِنْ قبل، أي: من سببه ومن جزائه، ويؤيِّد هذا التأويلَ "كذلك نطبع"، وهو كلامٌ يحتاج لتأمُّل". قال الشيخ: "والظاهرُ أنَّ "ما" موصولةٌ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} ولو كانت مصدريةً بقي الضميرُ غيرَ عائدٍ على مذكور، فتحتاج أن يتُكلَّفَ ما يعود عليه الضمير". قلت: الشيخ بناه على قولِ جمهورِ النحاة في عدمِ كونِ "ما" المصدرية اسماً فيعود عليها ضميرٌ، وقد نبَّهْتُك غيرَ مرةٍ أن مذهبَ الأخفش وابن السراج أنها اسمٌ فيعود عليها الضمير.
وقرأ العامَّةُ "نَطْبع" بالنون الدالة على تعظيم المتكلم. وقرأ العباس بن الفضل بياء الغيبة وهو الله تعالى، ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخرَ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ}. والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ على حسبش ما عرفته من الخلاف، أي: مثلَ ذلك الطَّبْع المُحْكمِ الممتنعِ زوالُه نطبع على قلوب المُعْتدين على خَلْق الله.
* { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوااْ إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ }
وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش "لساحر" اسم فاعل، والإِشارة بـ"هذا" حينئذٍ إلى موسى، أُشير إليه لتقدُّم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ المشارُ إليه الشيءُ الذي جاء به موسى من قَلْبِ العصا حَيذَةً وإخراج يده بيضاء كالشمس. ويجوز أن يُشارَ بـ"هذا" في قراءةِ ابن جبير إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً، حيث وَصَفوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ كقولهم: "شعرٌ شاعرٌ" و "جَدَّ جَدُّه".
* { قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ }
(8/218)
---(1/3258)
قوله تعالى: {أَتقُولُونَ}: في معمولِ هذا القولِ وجهان /، أحدهما: أنه مذكورٌ، وهو الجملةُ من قوله: "أسحرٌ هذا" إلى آخره، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبانِ به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون، كقولِ موسى - على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام - للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}. والثاني: أن معمولَه محذوفٌ، وهو مدلولٌ عليه بما تقدَّم ذكرُه، وهو: إن هذا لسحرٌ مبين. ومعمولُ القول يُحذف للدلالةِ عليه كثيراً، كما يُحذف نفسُ القولِ كثيراً، ومثلُ الآية في حَذْفِ المقول قولُ الشاعر:
2616 - لَنحن الأُلى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ * برؤيتنا قبلَ اهتمامٍ بكمْ رُعْبا
وفي كتابه سيبويه: "متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً" على إعمال الأول، وحَذْفِ معمولِ القول، ويجوز إعمالُ القولِ بمعنى الحكاية به فيقال: "متى رأيت أو قلت زيد منطلق"، وقيل: القول في الآية بمعنى العَيْب والطعن، والمعنى: أتعيبون الحق وتَطْعنون فيه، وكان مِنْ حَقِّكم تعظيمُه والإِذعانُ له مِنْ قولهم: "فلان يخاف القالة"، و "بين الناس تقاوُلٌ"، إذا قال بعضهم لبعض ما يسْوءُه، ونَحْوُ القولِ الذكرُ في قوله: { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} وكلُّ هذا ملخَّصٌّ من كلام الزمخشري.
* { قَالُوااْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }
(8/219)
---(1/3259)
قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}: اللامُ متعلقةٌ بالمجيء أي: أجئت لهذا الغرض، أنكروا عليه مجيئَه لهذه العلة. واللَّفْتُ: الَّليُّ والصَرْفُ، لَفَتَه عن كذا أي: صَرَفَه ولواه عنه. وقال الأزهري: "لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه: لواه، وهذا من المقلوب" قلت: ولا يُدَّعَى فيه قَلأْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا القبيل لتساويهما. ومطاوعُ لَفَتَ: التَفَتَ. وقيل: انفتل، وكأنهم استَغْنَوا بمطاوع "فَتَل" عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لَفُوت: أي: تَلْتَفِتُ لولدها عن زوجها إذا كان الولد لغيره، واللَّفِيْتَةُ: ما يَغْلُظُ من العَصِيدة.
قوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ} الكِبْرياء: اسم كان، و "لكم" الخبر، و "في الأرض": جَوَّز فيها أبو البقاء خمسةَ أوجه أحدها: أن تكونَ متعلقةً بنفس الكبرياء. الثاني: أن يُعَلَّق بنفس "تكون". الثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار في "لم" لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكونَ حالاً من "الكبرياء". الخامس: أن يكون حالاً من الضمير في "لكما" لتحمُّلِه إياه.
والكِبْرياء مصدرٌ على وزنِ فِعْلِياء، ومعناها العظمة. قال عديّ ابن الرِّقاع:
2617 - سُؤْدُدٌ غيرُ فاحِشٍ لا يُدا * نِيه تَجْبارَةٌ ولا كِبْرِيا
وقال ابن الرقيات:
2618 - مُلْكُه مُلْكُ رأفةٍ ليس فيه * جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ
يعني: ليس هو ما عليه الملوكُ من التجبُّر والتعظيم.
والجمهورُ على "تكون" بالتأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود والحسن وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في روايةٍ: "ويكون" بالياء من تحتُ، لأنه تأنيثٌ مجازي.
* { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }
وقوله تعالى: {بِكُلِّ سَاحِرٍ}: قرأ الأخَوان "سَحَّار" وهي قراءةُ ابنِ مُصَرِّف وابن وثاب وعيسى بن عمر.
(8/220)
---(1/3260)
* { فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }
قوله تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}: قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة "آلسحرُ" بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي جعفر. وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج. فأمَّا قراءة أبي عمرو ففيها أوجهٌ، أحدها: أنَّ "ما" استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "جِئْتُمْ به" الخبرُ، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ جئتم، كأنه استفهامُ إنكارٍ وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به. و "السحر" بدلٌ من اسم الاستفهام، ولذلك أُعِيد معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو. الثاني: أن يكون "السحر" مبتدأً خبرُه محذوف، تقديره: أهو السحر. الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره: السحر هو. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكي، وفيهما بُعد. الرابع: أن تكونَ "ما" موصولةً بمعنى الذي، وجئتم به صلتُها، والموصولُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "السحر" على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف، أو مبتدأً محذوفَ الخبر، تقديره: الذي جئتم به / أهو السحر، أو الذي جئتم به السحر هو، وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو، قاله الشيخ.
(8/221)
---(1/3261)
قلت: قد منع مكي أن تكونَ "ما" موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال: "وقد قرأ أبو عمرو "آلسحرُ" بالمد، فعلى هذه القراءةِ تكون "ما" استفهاماً مبتدأ، و "جئتم به" الخبر، و "السحر" خبرُ ابتداء محذوف، أي: أهو السحر، ولا يجوزُ أن تكونَ "ما" بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها". قلت: ليس كما ذكر، بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يُجيز كونَها موصولةً غلا في قراءة غيرِ أبي عمرو، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ جوازه.
الخامس: أن تكونَ "ما" استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها صدرَ الكلامن و "جئتم به" مفسِّر لذلك الفعل المقدر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به، و "السحر" على ما تقدم، ولو قرىء بنصب "السحر" على أنه بدلٌ مِنْ "ما" بهذا التقديرِ لكان له وجه، لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة [عن الفرَّاء].
(8/222)
---(1/3262)
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضاً، أحدها: أن تكون "ما" بمعنى الذي في محل رفعٍ بالابتداء، و "جئتم به" صلةٌ وعائدُه، و "السحرُ" خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحرُ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في مصحفه: {ما أتيتم به سحرٌ} وقراءةُ عبد الله والأعمش { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}. الثاني: أن تكونَ "ما" استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر، و "السحر" خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر. الثالث: أن تكونَ "ما" في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "السحر" على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدً أو خبراً، والجملةُ خبر "ما" الاستفهامية. قال الشيخ - بعدما ذكر الوجه الأول -: "ويجوز عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به، و "السحر" خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السحر".
قلت: ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه، حيث قال "عندي"، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكي. قال أبو البقاء: - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - "ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان"، ثم قال: "ويجوزُ أن تكونَ "ما" استفهاماً، و "السحر" خبر مبتدأ محذوف". وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ "ما" بمعنى الذي: "ويجوز أن تكونَ "ما" رفعاًبالابتداء وهي استفهامُ، و "جئتم به" الخبر، و "السحر" خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو السحر، ويجوز أن تكونَ "ما" في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد "ما" تقديرُه: أيُّ شيء جئتم [به]، و "السحرُ" خبر ابتداء محذوف".
(8/223)
---(1/3263)
الرابع: أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: إنها على نيةِ الاستفهام، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها، قال أبو البقاء: "ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه استفهامٌ في المعنى أيضاً: وحُذِفَتْ الهمزةُ للعِلْم بها"، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم. واعلم أنَّك إذا جَعَلْتَ "ما" موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. قال مكي: "ولا يجوز أن تكونَ "ما" بمعنى الذي في موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها صلتُها، والصلةُ لا تعملُ في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول"، وهو كلامٌ صحيح، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل رفع أو نصب، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء.
وقال مكي: "وأجاز الفراءُ نصبَ "السحر"، تجعل "ما" شرطاً، وتنصِبُ "السحرَ" على المصدر، وتضمرُ الفاء مع "إن الله سيُبْطِله"، وتجعلُ الألفَ واللامَ في "السحر" زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من جواب الشرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى: / {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، ولم يُجِزْه غيره إلا في ضرورة شعر". قلت: وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون "ما" شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله، ويُبَيِّن أن "ما" يراد بها السحر قولُه: "السحر"، ولكن يَقْلَقُ قولُه: "إن نصب "السحر" على المصدرية"، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال، ولذلك قدَّره بالنكرة، وجَعَلَ أل مزيدةً منه.
(8/224)
---(1/3264)
وقد نُقِلأَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفراء: "وإنما قال "السحر" بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعِيدت أعيدَتْ بالألِفِ واللام"، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله: {إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ}، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية. قال ابن عطية: "والتعريفُ هنا في "السحر" أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم: "إنَّ هذا لسِحْر"، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أول الرسالة "سلامٌ عليك". قال الشيخ: "وما ذكراه هنا في "السحر" ليس مِنْ تقدُّم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأنَّ شَرْطَ هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ، ولا يكون غيره، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}، وتقول: "زارني رجلٌ فأكرمت الرجل" لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى بضميره بَدَلَه، فتقول: فأكرمتُه، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم: "إنَّ هذا لسحر" لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قولِ موسى، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عَمّضا جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ اسحر، فيكونَ عائداً على قولهم: "لسِحْر".
(8/225)
---(1/3265)
قلت: والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ، وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ "السحر" جاز ان يُقال ذلك، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ}: إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ}، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى هو غيرَ السلام الواقع على يحيى، لاختصاص كلَّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به، وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما، اللهم إلا أن يُقال: يُحتمل أن يكونَ له مقالتان، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر العلمُ اتسعت المقالاتُ.
وقوله: {الْمُفْسِدِينَ} مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ: لا يُصلح عملَكم، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها.
* { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }
وقرىء "بكلمته" بالتوحيد، وقد تقدَّم نظيرُه.
* { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }
قوله تعالى: {فَمَآ آمَنَ}: الفاءُ للتعقيب، وفيها إشارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر عن الإِلقاء، بل وقع عقيبه، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك، وقد تقدَّم تويجهُ تَعْدِيةِ "آمن" باللام. والضمير في "قومه" فيه وجهان، أحدهما: - وهوالظاهرُ - عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه، ولأنه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون لم يكرِّر لفظَه ظاهراً، بل كان التكريب "على خوفٍ منه"، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس وغيرُه.
(8/226)
---(1/3266)
والثاني: أنه يعود على فرعون، ويُروى عن ابن عباس أيضاً، ورَجَّح ابنُ عطية هذا، وضَعَّف الأول فقال: "ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ مُفْرِط، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا عليه وتابعوه، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى، فكيف تعطي هذه الآيةُ أنَّ القلَ منهم كان الذي آمن؟. فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورة / موسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم".
قوله: {عَلَى خَوْفٍ} حال، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضمير في "وملئهم" فيه أوجه، أحدُها: أنه عائدٌ على الذرِّيَّة، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من مَلأَ الذرية، وهم أشرافُ بني إسرائيل.
الثاني: أنه يعودُ على قومِه بوجهيه، أي: سواءٌ جَعَلْنا الضمير في "قومه" لموسى أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون.
(8/227)
---(1/3267)
الثالث: أن يعودَ على فرعون، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً، كما يقول العظيم، نحن نأمرُ، وهذا فيه نظرٌ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك. والثاني: أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها". وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنهما أخلصُ منهما، قال: "إنما جُمع الضميرُ في "مَلَئهم" لأنه إبخرا عن جبّار، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع، وقيل: لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه". قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ}، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم، قاله الفراء، كما حُذِف في قوله {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزَه لأحد: "وهذا عندنا غَلَط، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول: "زيد قاموا" وأنت تريد "غلمان زيد قاموا". قلت: قوله "لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير" ممنوعٌ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان: الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الكثر، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: أهل قريةٍ، ثم قال: "أوهم قائلون" وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه. وقوله: "لجاز زيد قاموا" ليس نظيرَه، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية.
(8/228)
---(1/3268)
وقال الشيخ - بعد أن حكى كلامَ الفراء - "ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل، وقد يقال: ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في "ومَلَئهم". قلت: يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وبين هذه الآية بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية، فإن الخوف تَمَكَّن من فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف. وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنه قيل في "واسأل القرية" إنه حقيقةٌ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه.
الخامس: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه، بل له حاشية وعساكر وجندٌ، فكان التقدير: على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً. قلت: حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم قولُه تعالى {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد، وقول الآخر:
2619 - كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها * إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا
أي: ويدُها.
قوله: {أَن يَفْتِنَهُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ "فرعون"، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره: على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك: "أعجبني زيد علْمُه". الثاني: أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي: خوفٍ فتنتَه، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً}. وقولِ الآخر:
2620 - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ * عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد
الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن ونبيح "يُفْتِنَهم" بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك.
(8/229)
---(1/3269)
و "في الأرض" متعلقٌ بـ"عالٍ" أي: قاهر فيها أو ظالم كقوله:
2621 - فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي * لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ
أي: لِما تَقْهر. ويجوز أن يكون "في الأرض" متعلقاً بمحذوف لكونه صفة لـ"عالٍ" فيكون مرفوع المحل، ويُرَجِّح الأولَ قولُه: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ}.
* { وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوااْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }
قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ}: جوابُ الشرط الأول، والشرطُ الثاني - وهو إن كنتم مسلمين - شرطٌ في الأول، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود فالشرطُ الثاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
* { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {أَن تَبَوَّءَا}: يجوز في "أَنْ" أن تكون المفسِّرة؛ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإِيحاء، ويجوز أن تكونَ المصدريةَ فتكونَ في موضع نصب بأوحينا مفعولاً به أي: أَوْحَيْنا إليهما التبوُّءَ.
والجمهورُ على الهمزة في "تبوَّآ". وقرأ حفص "تَبَوَّيا" بياءٍ خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذه الهمزة أن تكونَ بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الروايةَ عن حفص جماعةٌ من القراء، وقد خَصَّها بعضُهم بحالةِ الوقف، وهو الذي لم يَحْكِ أبو عمرو الداني والشاطبي غيرَه. وبعضُهم يُطْلق إبدالَها عنه ياءً وصلاً ووقفاً، وعلى الجملةِ فهي قراءةٌ ضعيفة في العربية وفي الرواية، وتركتُ نصوصَ أهل القراءة خوفَ السآمة، واستغناءً بما وضَعْتُه في "شرح القصيد".
والتبوُّءُ: النزولُ والرجوعُ، وقد تقدَّم تحقيق المادة في قوله {}.
(8/230)
---(1/3270)
قوله: {لِقَوْمِكُمَا} يجوزُ أن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول الأول، و "بيوتاً" مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنْزِلوهم، وفَعَّل وتفعَّل بمعنىً مثل "عَلَّقَها و "تَعَلَّقها" قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ من حيث إنه زِيدت اللام، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدَّم المعمول. الثاني: أنها غير زائدة، وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها حالٌ من "البيوت". والثاني: أنها وما بعدها مفعول "تَبَوَّآ".
قوله: {بِمِصْرَ} جَوَّز فيه أبو البقاء أوجهاً، أحدها: أنه متعلِّق بـ"تَبَوَّآ"، وهو الظاهرُ. الثاني: أنه حالٌ من ضمير "تبوَّآء"، واستضعفه ولم يبيِّن وجهَ ضعفهِ لوضوحه. الثالث: أنه حالٌ من "البيوت". الرابع: أنه حالٌ من "لِقومكما"، وقد ثنَّى الضميرَ في "تبوَّآ" وجمع في قوله "واجعلوا" و "أقيموا"، وأفرد في قوله: "وبشِّر"؛ لأن الأولَ أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لموسى فقط؛ لأن أخاه تَبَعٌ له، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة شريفاً خَصَّ به موسى لأنه هو الأصل.
* { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }
قوله تعالى: {لِيُضِلُّواْ}: في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ العلة، والمعنى: أنك أتيتَهم ما أتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإِيتاءُ لهذه العلة. والثاني: أنها لام الصيرورة والعاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}. وقولِه:
2622 - لِدُوا للموت وابنُوا للخراب * .................
وقولِه:
2623 - فللموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها * كما لخرابِ الدُّوْرِ تُبْنَى المساكنُ
وقوله:
(8/231)
---(1/3271)
2624 - وللمنايا تُرَبِّى كلُّ مُرْضِعَةٍ * وللخرابِ يَجِدُّ الناسُ عِمْرانا
والثالث: أنها للدعاء عليهم بذلك، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليكنوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصري وبدأ به الزمخشري. وقد استُبْعِد هذا التأويلُ بقراءة الكوفيين "ليُضِلُّوا" بضم الياء فإنه يَبْعُد أن يَدْعُوَ عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبي بكسرها، فوالى بين لثلاث كسَرات إحداها في ياء. وقرأ [أبو] الفضل الرياشي "أإنَك أَتَيْتَ" على الاستفهام. وقال الجبائي: إنَّ "لا" مقدرةٌ بين اللام والفعل تقديره: لئلا يَضِلوا"، ورأيُ البصريين في مثل هذا تقديرُ "كراهةَ" أي: كراهة أن يَضِلُّوا.
قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} يحتمل النصبَ والجزم، فالنصب من وجهين، أحدُهما: عطفُه على "ليضلُّوا". والثاني: نصبه على جواب الدعاء في قوله "اطمِسْ". والجزم على أنَّ "لا" للدعاء كقولك: "لا تعذِّبْني يا رب" وهو قريبٌ من معنى "ليُضلوا" في كونِه دعاءً، هذا في جانب شبه النهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و "حتى يَرَوا" غايةٌ لنفي إيمانهم، والأول قول الأخفش والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث قول الكسائي والفراء، وأنشد قولَ الشاعر:
2625 - فلا يَنْبسِطْ من بين عينِك ما انْزَوَى * ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على "ليَضِلُّوا" يكون ما بينهما اعتراضاً.
* { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }
(8/232)
---(1/3272)
قوله تعالى: {أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا}: الضمير لموسى وهرون، وفي التفسير: كان موسى يدعو وهرون يُؤَمِّن، فنسب الدعاء إليهما. وقال بعضُهم: المرادُ موسى وحدَه، ولكن كنى عن الواحد بضمير الاثنين. وقرأ السلميُّ والضحاك "دَعَواتكما" على / الجمع. وقرأ ابن السَّمَيْفَع "قد أَجَبْتُ دعوتكما" بتاء المتكلم وهو الباري تعالى، و "دعوتَكما" نصب على المفعول به. وقرأ الربيع "أَجَبْتُ دَعْوَتَيْكما" بتاء المتكلم أيضاً. ودَعْوَتَيْكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إن هرون شارك موسى في الدعاء.
قوله: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ} قرأ العامة بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النونِ مكسورةً مع تشديد التاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنسبة للنقل عنه. فأمَّا قراءةُ العامَّة فـ"لا" فيها للنهي ولذلك أَكَّد الفعلَ بعدها، ويَضْعُف أن تكونَ نافيةً لأنَّ تأكيدَ المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضُهم قد ادَّعى ذلك في قولِه: لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك هناك، وقد تقدَّم تحريرُه ودليلُه في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملةَ نهيٍ معطوفةً على جملة أمر.
(8/233)
---(1/3273)
وأمَّا قراءة حفص فـ"لا" تحتمل أن تكون للنفي وأن تكونَ للنهي. فإن كانت للنفي كانت النونُ نونَ رفعٍ، والجملةُ حينئذٍ فيها أوجه، أحدُها: أنها في موضع الحال أي: فاستقيما غيرَ مُتَّبِعَيْنِ، إلا أنَّ هذا معترَض بما قَدَّمْتُه غيرَ مرة مِنْ أنَّ المضارع قبلَه مبتدأ فتكونَ الجملةُ اسميةً أي: وأنتما لا تَتَّبعان. والثاني: أنه نفيٌ في معنى النهي كقولِه تعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} الثالث: أنه خبرٌ محضٌ مستأنف لا تَعَلُّقَ له بما قبله، والمعنى: أنهما أُخْبِرا بأنهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون، وإن كانت للنهي كانت النونُ للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يَراه سيبويه والكسائي، أعني وقوعَ النونِ الخفيفة بعد الألف، سواءً كانت الألفُ ألفَ تثنية أو ألفَ فصلٍ بين نونِ الإِناث ونونِ التوكيد نحو: "هل تَضْرِبْنان يا نسوة". وقد أجاز يونس والفراء وقوعَ الخفيفةِ بعد الألف وعلى قولِهما تتخرَّج القراءةُ. وقيل: أصلُها التشديد وإنما خُفِّفت للثقل فيها كقولهم: "رُبَ" في "رُبَّ". وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفُها فلغتان مِن اتَّبع يَتَّبع وتَبع يَتْبَع، وقد تقدم هل هما بمعنى واحد أو مختلفان في المعنى؟ وملخصُه أنَّ تَبِعه بشيءٍ: خَلَفه، واتَّبَعَه كذلك، غلا أنه حاذاه في المَشْي، وأَتْبعه: لحقه.
* { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيا إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوااْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِيا}: قد تقدَّم الكلام فيه: وقرأ الحسن "وجَوَّزْنا" بتشديدِ الواو، قال الزمخشري: "وجَوَّزْنا: مِنْ أجاز المكان وجاوَزَه وجَوَّزه، وليس مِنْ جَوَّز الذي في بيت الأعشى:
(8/234)
---(1/3274)
2626- وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة * أَخَذْتَ من الأخرى إليك حبالَها
لأنه لو كان منه لكان حَقُّه أن يقال: وجَوَّزْنا بني إسرائيل في البحر كما قال:
2627 - ................... * كما جَوَّز السَّكَّيَّ في الباب فَيْتَقُ
يعني أن فَعذَل بمعنى فاعَلَ وأَفْعَل، وليس التضعيفُ للتعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.
وقرأ الحسن "فاتَّبَعَهُم" بالتشديد، وقد تقدم الفرق.
قوله: {بَغْياً وَعَدْواً} يجوز أن يكونا مفعولين مِنْ أجلهما أي: لأجلِ البَغْي والعَدُوِ، وشروطُ النصب متوفرةٌ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين. وقرأ الحسن "وعُدُوَّاً" بضم العين والدال المشددة، وقد تقدَّم ذلك في سورة الأنعام.
قوله: {حَتَّى إِذَآ} غايةٌ لاتِّباه.
قوله: {آمَنتُ أَنَّهُ} قرأ الأخَوان بكسر إنَّ وفيها أوجه، أحدها:أنها استئنافُ إخبار، فلذلك كُسِرت لوقوعِها ابتداءَ كلام. والثاني: أنه على إضمار القول أي: فقال إنه، ويكون هذا القولُ مفسراً لقوله آمنت. والثالث: أن تكون هذه الجملةُ بدلاً من قوله: "آمنت"، وإبدالُ الجملةِ الاسمية من الفعلية جائزٌ لأنها في معناها، وحينئذ تكون مكسورةً لأنها محكيَّة بـ"قال" هذا الظاهر. والرابع: أن "آمنتُ" ضُمِّن معنى القول لأنه قولٌ. وقال الزمخشري: "كَرَّر المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرات في ثلاث عبارات حِرْصاً على القبول" يعني أنه قال: "آمنتث"، فهذه مرة، وقال: {أَنَّهُ لاا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوااْ إِسْرَائِيلَ} فهذه ثانيةٌ، وقال: {وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد" وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئنافِ في "إنه".
(8/235)
---(1/3275)
وقرأ الباقون بفتحِها وفيها أوجهٌ أيضاً، أحدُها: أنها في محلِّ نصب على المفعولِ به أي: آمَنْتُ توحيدَ، لأنه بمعنى صدَّقْتُ. الثاني: أنها في موضع نصبٍ بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنه. الثالث: أنها في محل جر بذلك الجارِّ وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
* { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }
قوله تعالى: {الآنَ}: منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمنْتَ الآن، أو / أتؤمن الآن. وقوله: "وقد عَصَيْتَ" جملةٌ حالية، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك قريباً.
قوله: {بِبَدَنِكَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك وهي الدِّرْع، وفي التفسير: لم يُصَدِّقوا بغرقه، وكانت له دِرْعُ تَعْرَفُ فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه، والعربُ تطلِقُ البدنَ على الدرع، قال عمرو بن معد يكرب:
2628 - أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي * وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ
وقال آخر:
2629 - ترى الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ * على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا
وقيل: ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه، وقيل: بدناً بلا روح.
والثاني: أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع "بندائك" من النداء وهو الدعاءِ أي: بما نادَى به في قومه من كفرانه في قولِه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}{ياأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِي} وقرأ يعقوب "نُنْجِيْك" مخففاً مِنْ أنجاه. وقرأ أبو حنيفة "بأبدانك" جمعاً: إمَّا على إرادة الأدْراع لأنه كان يلبس كثيراً منها خوفاً على نفسِه، أو جعل كلَّ جزء مِنْ بدنه بدناً كقوله: "شابت مَفارِقُه" قال:
2630 - ......................... * شابَ المَفارِقُ واكتَسَيْنَ قَتِيرا
(8/236)
---(1/3276)
وقرأ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع ويزيد البربري "نُنَحَّيْكَ" بالحاء المهملةِ من التَّنْحِيَة أي: نُلْقيك بناحيةٍ فيما يلي البحر، وفي التفسير: أنَّه رماه إلى ساحل البحر كالثور. وهل ننجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعدك ممَّا وقع فيه قومُك مِنْ قعر البحر وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نَجْوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو مِن النجاة وهو التَّرْكُ أو من النجاء وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصة. والظاهر أن قوله: "فاليوم نُنَجِّيك" خبرٌ محض. وزعم بعضهم أنه على نية همزةِ الاستفهام وفيه بُعْدٌ لحَذْفِها من غيرِ دليل، ولأنَّ التعليلَ بقوله "لتكونَ" لا يناسب الاستفهام.
و "لتكون" متعلِّقٌ بـ"نُنَجِّيك" و "آية" أي: علامة، و "لمَنْ خلفك" في محلِّ نصبٍ على الحال مشنْ "آية" ألنه في الأصلِ صفةٌ لها.
* { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقوله تعالى: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر تقديرُه: بَوَّأنا مُبَوَّأ صِدْقٍ، وأن يكونَ مكاناً أي: مكان تبوُّء صدق. وقرىء "لمَنْ خَلَفَك" بفتح اللام جعله فعلاً ماضياً، والمعنى: لمَنْ خَلَفَك من الجبابرة ليتَّعِظوا بذلك. وقرىء "لمَنْ خَلَقَك" بالقاف فعلاً ماضياً وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آيةً في عباده. ويجوز أن ينتصب "مُبَّوَّأ" على أنه مفعولٌ ثانٍ كقولِه تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً} أي: لنُنْزِلَنَّهُمْ.
* { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
(8/237)
---(1/3277)
قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ}: في "إنْ" هذه وجهان، الظاهر منهما: أنها شرطيةٌ، ثم استشكلوا على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكنْ في شك قط. قال الزمخشري: "فإن قلت كيف قال لرسوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} مع قوله للكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته الشكَّ لهم على سبيل التوكيد والتحقيق، وبين قوله: "فإن كنت" بمعنى الفَرَض والتمثيل". وقال الشيخ: "وإذا كانت شرطيةً فقالوا: إنها تدخُل على الممكنِ وجودُه أو المحقَّقِ وجودُه المبهمِ زمنُ وقوعِه كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. قال "والذي أقولُه إنَّ "إنْ" الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيء، ولا تستلزمُ تحتُّمَ وقوعِه ولا إمكانَه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقولِه تعالى: {إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، ومستحيلٌ أن يكونَ له ولدٌ فكذلك [هذا]، مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادةً كقوله تعالى: {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ} لكنَّ وقوعَها في تعليق المستحيل قليلٌ". ثم قال: "ولمَّا خَفِي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية: "الصواب أنها مخاطبةٌ، والمرادُ مَنْ سواه مِنْ أمته ممَّن يمكن أن يَشُكَّ أو يعارِض". وقيل: كنى بالشك عن الضيق. وقيل: كَنَى به عن العجب، ووجه المجازِ فيه أن كلاً منهما فيه تَرَدُّد، وقال الكسائي: إنْ كنت في شك أنَّ هذا عادتُهم مع الأنبياء فَسَلْهُمْ كيف كان صبر موسى عليه السلام؟
(8/238)
---(1/3278)
الوجه الثاني مِنْ وجهي "إنْ" أنها نافية. قال الزمخشري: "أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني لا نأمرك لونِك شاكَّاً ولكن لتزداد يقيناً كما ازدادَ إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. وهذا القولُ سبقه إليه الحسنُ البصري والحسين بن الفضل وكأنه فرارٌ من الإِشكال المتقدَّم في جَعْلها شرطيةً، وقد تقدَّم جوابُه مِنْ وجوهٍ.
وقرأ يحيى وإبراهيم: "يَقْرؤون الكتب" بالجمع، وهي مبينة أن المرادَ بالكتاب الجنسُ لا كتابٌ واحد.
* { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ}: "لولا" هنا تحضيضية وفيها معنى التوبيخ، كقول الفرزدق:
2631 - تَعُدُّون عقر النيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ * بني ضَوْطَرى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
وفي مصحف أُبَي وعبد الله - وقرأ كذلك - "فهلاَّ" وهي نصُّ في التحضيض. و "كانت" هنا تامة، و "آمنَتْ" صفة لقرية، و "فَنَفَعَها" نسقٌ على الصفة.
قوله: {إِلاَّ قَوْمَ} فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناء منقطعٌ وإليه ذهبَ سيبويه والكسائي والأخفش / والفراء، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصبُ لانقطاعِه، وإنما كان منقطعاً؛ لأن ما بعد "إلا" لا يندرجُ تحت لفظ "قرية. والثاني: أنه متصل. قال الزمخشري: "استثناءٌ من القرى لأن المرادَ أهاليها، ويجوز أن يكون متصلاً، والجملةُ في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قريةٌ من الرى الهالكة إلا قوم يونس".
(8/239)
---(1/3279)
وقال ابن عطية: "هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسبِ المعنى متصلٌ لأن تقديره: ما آمنَ أهل قريةٍ إلا قومَ يونس". قلت: وتقديرُ هذا المضافِ هو الذي صَحَّح كونَه استثناء متصلاً، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهُم. وأمّضا الزمخشري فإن ظاهرَ عبارتِه أنَّ المصحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النفي، وليس كذلك بل السموِّغ كونُ القرى يراد بها أهاليها من بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ، وهو أحد الأوجهِ المذكورة في قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وقرأت فرقة: "إلا قومُ" بالرفع. قال الزمخشري "وقُرىء بالرفعِ على البدل، رُوي ذلك عن الجرميّ والكسائي. وقال المهدوي: "والرفعُ على البدل من "قرية". فظاهر هاتين العبارتين أنها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكي وأبي البقاء أنها ليسَتْ قراءة، وإنما ذلك من الجائز، وجعلا الرفعَ على وجهٍ آخرَ غيرِ البدل وهو كونُ "إلا" بمعنى: "غير" في وقوعها صفةً. قال مكي: "ويجوزُ الرفعُ على أن تُجْعل "إلا" بمعنى "غير" صفةً للأهل المحذوفين في المعنى ثم يُعْرَبَ ما بعد "إلا" بإعراب "غير" لو ظهَرَتْ في موضع "إلا". وقال أبو البقاء: - وأظنه أخذه منه - "ولو كان قد قُرىء بالرفع لكانت "إلا" فيه بمنزلة "غير" فتكون صفة". وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث قراءات قُرىء بها.
* { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }
(8/240)
---(1/3280)
قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ}: يجوز في "أنت" وجهان أحدهما: أن يرتفعَ بفعلٍ مقدرٍ مفسَّرٍ بالظاهر بعده وهو الأرجح؛ لأن الاسمَ قد ولي أداةً هي بالفعل أولى. والثاني: أنه مبتدأ والجملة بعده خبرُه، وقد عُرِف ما في ذلك من ذلك من كون الهمزة مقدمةً على العاطف أو ثَمَّ جملةٌ محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاءِ الاسمِ للاستفهام إعلامٌ بأن الإِكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنما الشأنُ في المُكْرِه مَنْ هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشاركه فيه غيرُه. و "حتى" غايةٌ للإِكراه.
* { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ}: كقوله: "أن تموتَ" وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.
قوله: {وَيَجْعَلُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش فصرَّح به {ويجعل اللَّهُ الرِّجْزَ} بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى أو بينهما فرقٌ؟
* { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ}: يجوز أن يكون "ماذا" كله استفهاماً مبتدأ، و "في السموات" خبرُه أي: أيُّ شيءٍ في السموات؟ ويجوزُ أن تكونَ "ما" مبتدأً و "ذا" بمعنى الذيي، و "في السموات" صلتُه وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأُ وخبرُه في محلِّ نصبٍ بإسقاط الخافضِ؛ لأن الفعلَ قبله مُعَلَّقٌ بالاستفهام، ويجوزُ على ضَعْفٍ أن يكونَ "ماذا" كله موصولاً بمعنى الذي وهو في محل نصب بـ"انظروا". ووجهُ ضعفِه أنه لا يخلو: إمَّا أن يكونَ النظر بمعنى البصر فيُعدَّى بـ"إلى"، وإمَّا أن يكونَ قلبيَّاً فيعدَّى بـ"في" وقد تقدَّم الكلام في "ماذا".
(8/241)
---(1/3281)
قوله: {وَمَا تُغْنِي}، يجوز في "ما" أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقعَ المصدر أي: أيَّ غَناءٍ تُغْني الآيات؟ ويجوز أن تكونَ نافيةً، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكونَ "ما" في قوله: "وما تغني" مفعولةً بقوله: "انظروا"، معطوفةً على قوله: "ماذا" أي: تأمَّلوا قَدْر غَناء الآيات والنُّذُر عن الكفار". قال الشيخ: "وفيه ضعفٌ، وفي قوله: "معطوفة على "ماذا" تجُّوزٌ، يعني أن الجملةَ الاستفهامية التي هي {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} في موضع المفعول، إلا أن "ماذا" وحده منصوب بـ"انظروا" فتكون "ماذا" موصولةً، و "انظروا" بصرية لما تقدم" يعني لِما تقدم مِنْ أنه لو كانت بصرية لتعدَّتْ بـ"إلى".
و "النُّذُرُ" يجوز أن يكونَ جمعَ نذير، والمراد به المصدر فيكونَ التقدير: وما تُغْني الآيات والإِنذارات، وأن يكونَ جمعَ "نذير" مراداً به اسمَ الفاعل بمعنى مُنْذِر فيكون التقدير: والمنذورن وهم الرسل.
* { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي}: قال الزمخشري. "هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه "إلا مثلَ أيامِ الذين خَلَوا من قبلهم" كأنه قيل: نُهْلك المم ثم ننجِّي رسلَنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوال الماضية.
قوله: {كَذَلِكَ} في هذه الكاف وجهان، أظهرهُما: أنه في محلِّ نصب تقديرُه: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نَجَّينا الرسلَ ومؤمنيهم ننجي مَنْ آمن بك يا محمد. والثاني: أنها في / محل رفع على خبر ابتداء مضمر، وقدَّره ابن عطية وأبو البقاء بقولك: الأمر كذلك.
(8/242)
---(1/3282)
قوله: {حَقّاً} فيه أوجه، أحدها:أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: حَقَّ ذلك حقاً. والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النائب عنه الكافُ تقديره: إنجاءً مثل ذلك حقاً والثالث: أن يكونَ "كذلك" و "حقاً" منصوبين بـ"نُنْجِ" الذي بعدهما. والرابع: أن يكونَ "كذلك" منصوباً بـ"نُنَجِّي" الأولى، و "حقاً" بـ"نُنْج" الثانية. وقال الزمخشري: "مثلَ ذلك الإِنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، و "حَقّاً علينا" اعتراض، يعني حَقَّ ذلك علينا حقاً".
وقرأ الكسائي وحفص "نُنْجي المؤمنين" مخففاً مِنْ أَنْجى يقال: أَنْجى ونجَّى كأَبْدَلَ وبَدَّل، وجمهورُ القراء لم ينقلوا الخلافَ إلا في هذه دون قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} ودونَ قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا}. وقد نقل أبو علي الأهوازي الخلافَ فيهما أيضاً، ورُسِم في المصاحف "نُنْجِ" بجيمٍ دون ياء.
* { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {فَلاَ أَعْبُدُ}: جواب الشرط، والفعل خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنا لا أعبد، ولو وقع المضارعُ منفياً بطلا" دون فاء لَجُزِمَ، ولكنه مع الفاءِ يُرْفَع على ما ذكرت لك، وكذا لو لم يُنْفَ بـ"لا" كقولِه تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}. أي: فهو ينتقم.
قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ}، قال الزمخشري: "أصله بأن أكونَ"، فحُذِفَ الجارُّ، وهذا الحذفُ يحتمل أن يكونَ مِنَ الحذف المطَّرد الذي هو حَذْفُ الحروفِ الجارَّةِ مع أَنْ [وأنَّ]، وأن يكونَ مِن الحذفِ غيرِ المطرد وهو قوله:
2632 - أَمَرْتُكَ الخيرَ ............. * ..........................
(8/243)
---(1/3283)
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}. قلت: يعني بغيرِ المطَّرد أنَّ حذفَ حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوز القياسُ عليها وهي: أمر واستغفر، وقد ذكرتُها فيما تقدَّم، وأشار بقوله: "أمرتك" إلى البيت المشهور:
أَمَرْتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به * ........................
وقد قاس ذلك بعضُ النحويين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف يتعيَّن موضعُه أيضاً، وهو رأي علي بن سليمان فيُجيز "بريتُ القلمَ السكين" بخلاف "صَحَكْت الحجرَ بالخشبة".
* { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ}: يجوزُ أن يكونَ على إضمار فعل أي: وأُوحي إليَّ أَنْ أقم. ثم لك في "أنْ" وجهان، أحدهما: أن تكونَ تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدرة، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، إذ المفسَّرُ لا يجوز حَذْفُه، وقد رَدَّ هو بذلك في موضعٍ غير هذا. والثاني: أن تكونَ المصدرية فتكون هي وما في حَيِّزها في محل رفع بذلك الفعل المقدر. ويحتمل أن تكون "أن" مصدريةً فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: "أمرْتُ" مراعى فيها معنى الكلام، لأنَّ قوله: "أن أكون" كونٌ من أكوان المؤمنين، ووصْلُ "أَنْ" بصيغة المرِ جائزٌ، وقد تقدم تحرير بذلك.
(8/244)
---(1/3284)
وقال الزمخشري: "فإن قلت: عَطْفُ قولِه: "وأَنْ أقم" على "أن أكونَ" فيه إشكالٌ؛ لأن "أنْ" لا تخلو: إمَّا أَنْ تكونَ التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يَصِحُّ أن تكونَ التي للعبارة وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّن معنى القول؛ لأن عطفَها على الموصولة يأبى ذلك، والقولُ بكونِها مصولةً مثلَ الأولى لا يساعدُ عليه لفظُ الأمر وهو "أَقِمْ"؛ لأنَ الصلة حقُّها أن تكونَ جملةً تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سَوَّغ سيبويه أن توصلَ "أنْ" بالأمر والنهي، وشَبَّه ذلك بقولهم: "أنت الذي تفعل" على الخطابِ لأن الغرضَ وَصْلُها بما تكونُ معه في تأويل المصدر، والأمرُ والنهيُ دالاَّن على المصدر دلالةَ غيرهما من الأفعال". قلت: قد قدَّمْتُ الإِشكال في ذلك وهو أنه إذا قُدِّرَتْ بالمصدرِ فاتت الدلالةُ على الأمر والنهي.
ورجَّح الشيخُ كونَها مصدريةً على إضامر فعل كما تقدم تقريره قال: "ليزولَ قَلَقُ العطفِ لوجود الكاف، إذ لو كان "وأنْ أَقِمْ" عطفاً على "أن أكون" لكان التركيب "وجهي" بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضَعْفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر".
قوله: {حَنِيفاً} يجوز أن يكونَ حالاً من "الذين"، وأن يكون حالاً من فاعل "أَقِمْ" أو مفعوله.
* { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ}: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً، ويجوز أن تكونَ عطفاً على جملة الأمر وهي: "أَقِمْ" / فتكونَ داخلةً في صلة "أنْ" بوجهيها، أعني كونَها تفسيريةً أو مصدريةً وقد تقدَّم تحريره. وقوله: {مَا لاَ يَنفَعُكَ} يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً.
(8/245)
---(1/3285)
قوله: {فَإِنَّكَ} هو جواب الشرط و "أذن" حرفُ جوابٍ توسَّطت بين الاسمِ والخبر، ورُتْبَتُها التأخيرُ عن الخبر، وإنما وُسِّطَتْ رَعْياً للفواصل. وقال الزمخشري: "إذن" جواب الشرط وجوابٌ لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تَبِعة عبادة الأوثان". وفي جَعْله "إذن" جزاءً للشرط نظرٌ، إذ جوابُ الشرط محصورٌ في أشياءَ ليس هذا منها.
* { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ}: قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام. وقال هنا في جواب الشرط الأول بنفي عام وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دونَ إيجاب، لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره؛ لأن إرادتَه قديمةٌ لا تتغيَّر، فلذلك لم يَجِيْء التركيب فلا رادَّ له إلا هو، هذه عبارةُ الشيخ، وفيها نظرٌ، وكأنه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحدَه دون غيره بخلافِ إرادته تعالى، فإنها لا يُتَصَوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل السنة والاعتزال. قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ ذُكِر المَسُّ في أحدهما والإِرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإِرادة والإِصابة لما يُصيب به منهما، فأوجزَ الكلام بأنْ ذكرَ المَسَّ وهو الإِصابةُ في أحدهما والإِرادة في الآخر ليدلَّ بما ذَكَرَ على ما تَرَك، على أنه قد ذَكَر الإِصابة في الخير في قوله: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ}.
* { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }
وقوله تعالى: {مِن رَّبِّكُمْ}: يجوز أن يتعلَّقَ بـ"جاءكم" و "مِنْ" لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن يكونَ حالاً من "الحق".
قوله: {فَمَنُ اهْتَدَى} "ومن ضَلَّ" يجوز أن تكون "مَنْ" شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدخول، وأن تكونَ موصولةً فالفاءُ جائزتُه.
قوله: {وَمَآ أَنَاْ}، يجوزُ أن تكون الحجازية أو التميميةَّ؛ لخفاء النصب في الخبر. وباقيها واضح.(1/3286)
سورة هود
يجوز في "هود" مراداً به السورة الصرفُ وتَرْكُه، وذلك باعتبارين: وهما أنَّك إن عَنَيْتَ أنه اسمٌ للسورة تعيَّن مَنْعُه من الصرف، وهذا رأيُ الخليل وسيبويه، وكذلك نوح ولوط إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورَيْن هما فيهما، فتقول: قَرَأْتُ هودَ ونوحَ، وتبرَّكْتُ بهودَ ونوحَ ولوط. فإن قلت قد نصُّوا على أن المؤنثَ الثلاثيَّ الساكنَ الوسطِ نحو: هند ودعد، والأعجميَّ الثلاثيَّ الساكنَ الوسطِ نحو: هند ودعد، والأعجميَّ الثلاثيَّ الساكنَ الوسطِ نحو: نوح ولوط [حكمُه] الصرفُ وتَرْكُه، مع أن الصحيحَ وجوبُ صرفِ نوح. فالجواب أن شَرْطَ ذلك أن لا يكونَ المؤنثُ منقولاً مِنْ مذكرٍ إلى مؤنث، فلو كان مؤنثاً تحتَّم مَنْعُه نحو: ماه وجَوْر، وهود ونوح من هذا القبيلِ فإنَّ "هود" في الأصل لمذكر وكذلك نوح، ثم سُمِّي بهما السورةُ وهي مؤنثةٌ، و إن كان تأنيثُها مجازياً، وإن اعتبرْتَ أنها على حَذْف مضاف وَجَبَ صَرْفُه، فتقول: "قرأت هوداً ونوحاً" يعني سورة هود وسورة نوح. وقد جَوَّز الصرفَ بالاعتبار الأول عيسى بن عمر، ورأيُه ضعيف. ولا خفاءَ أنك إذا قَصَدْتَ بـ"هود" و "نوح" النبيَّ نفسه صَرَفْتَ فقط عند الجمهور في الأعجمي، وأما "هود" فإنه عربيٌّ فيتحتَّم صَرْفُه.
(8/247)
---(1/3287)
وقد عقد النحويون لاسماءِ السُّور والألفاظ والأحياء والقبائلِ والأماكنِ باباً في مَنْع الصرفِ وعدمِه، حاصلُه: أنك إنْ عَنَيْتَ قبيلةً أو أمَّاً أو بقعةً أو سورة أو كلمة مَنَعْتَ وإن عَنَيْتَ حَيَّاً أو أباً أو مكاناً أو غيرَ سورةٍ أو لظاً صَرَفْتَ بتفصيلٍ كثيرٍ وأمثلةٍ طويلة حَقَّقْتُها في "شرح التسهيل".
* { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }
قوله تعالى: {كِتَابٌ}: يجوز أن يكون خبراً لـ"ألر" أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها كتابٌ موصوفٌ بـ كيتَ وكيتَ / وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: ذلك كتابٌ، يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وقد تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك.
قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"كتاب"، والهمزةُ في "أُحْكِمَتْ" يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ "حَكُمَ" بضم الكاف، أي: صار حكيماً بمعنى جَعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}. ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: "أَحْكَمْتُ الدابة" إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير:
2633 - أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ * إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا
فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد. ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل، مِن الإِحكام وهو الأإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ، والمعنى: أنهى نُظِمَتْ نَظْماً رصيناً متقناً.
(8/248)
---(1/3288)
قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} "ثم" على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن كثير في روايةٍ "فَصَلَتْ" بفتحتين خفيفةَ العين. قال أبو البقاء: "والمعنى: فَرَقَتْ، كقوله: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ}، أي: فارق". وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ. وجعل الزمخشري "ثم" للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال: "فإن قلت: ما معنى "ثم"؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل، وفلانٌ كريمٌ الأصل ثم كريمُ الفعل" وقُرِىء أيضاً: "أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ" بإسناد الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ "آياته" مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياتِه ثم فَصَّلْتُها، حكى هذه القراءةَ الزمخشري.
قوله: {مِن لَّدُنْ} يجوز أن تكونَ صفةً ثانية لـ"كتاب"، وأن تكون خبراً ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني "أُحِكِمَتْ" أو "فُصِّلَتْ" ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في [قوله]: "وأن يكون صلةَ "أُحْكِمت" و "فُصَّلَتْ"، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها وبيَّنها خبيرٌ بكيفيات الأمور". قال الشيخ: "لا يريد أنَّ "مِنْ لدن" متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث المعنى" وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً "ويجوز أن يكونَ مفعولاً، والعاملُ فيه "فُصِّلَتْ".
* { أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }
(8/249)
---(1/3289)
قوله تعالى: {أَن لاَّ تَعْبُدُوااْ}: فيها أوجهٌ، أحدُها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، و "لا تَعْبُدوا" جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"أنْ" المخففةِ، واسمثها على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ. والثاني: أنها المصدريةُ الناصبة، ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون "لا" نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ بـ"أَنْ" نفسها، وعلى هذه التقادير فـ"أَنْ": إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع، فالنصبُ والجرُّ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تَعْبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعامل: إمَّا "فُصِّلَتْ" وهو المشهور، وإمَّا "أُحْكِمَتْ" عند الكوفيين، فتكون المسألة من الإِعمال، لأن المعنى: أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا. وقيل: نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا، فـ"أنْ لا تعبدوا" هو المفعولُ الثاني لـ"ضَمَّن" والأولُ قام مقام الفاعل.
والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من "آياته" قال الشيخ: "وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ "آيات" أو مِنْ موضعها" قلت: يعني أنها في الأًل مفعولٌ بها / فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ خلاف: هل يجوز أن يُراعى أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة وموضعُه أخرى فيُقال: "ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة" بنصب "العاقلة" باعتبار المحلِّ، ورفعِها باعتبار اللفظ، أم لا، مذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط.
(8/250)
---(1/3290)
والثالث: ان تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار. قوله: "منه" في هذا الضمير وجهان: أحدهما - وهو الظاهرُ - أنه يعودُ على اللَّه تعالى، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: "فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته". وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً لـ"نذير"؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائناً مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحاً.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان، أحدهما: أنه حال من "نذير"، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس "نذير" أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار.
* { وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوااْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ }
(8/251)
---(1/3291)
قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ}: فيها وجهان: أحدهما: أنه عطفٌ على "أنْ" الأولى سواءً كانت "لا" بعدها نفياً أو نهياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى "أَنْ" هذه. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على الإِغراء. قال الزمخشري في هذا الوجه: "ويجوز أن يكونَ كلاماً مبتدأً منقطعاً عَمَّا قبلَه على لسان النبي صلى اللَّه عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص اللَّه تعالى بالعباة، ويدل عليه قولُه: إني لكم منه نذيرٌ وبشير كأنه قال: تركَ عبادةَ غيرِ اللَّه إنني لكم منه نذيرٌ كقولِه تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قوله: {ثُمَّ تُوبُوااْ} عطفٌ على ما قبلَه من الأمر بالاستغفار و "ثم" على بابِها من التراخي لأنه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذنبِ المستغفَرِ منه. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: ما معنى "ثم" في قوله {ثُمَّ تُوبُواا إِلَيْهِ}؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك ثم ارجعوما إله بالطاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثم أَخْلِصوا التوبةَ واستقيموا عليها كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ}. قلت: قوله: "أو استغفروا" إلى آخره يعني أن بعضَهم جَعَلَ الاستغفارَ والتوبةَ بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل "توبوا" بـ"أَخْلِصوا التوبة".
قوله: {يُمَتِّعْكُمْ} جوابُ الأمر. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازم: هل هو نفسُ الجملةِ الطلبية أو حرفُ شرطٍ مقدَّر. وقرأ الحسن وابن هرزمز وزيد بن علي وابن محيصن "يُمْتِعْكم" بالتخفيف مِنْ أَمْتَعَ، وقد تقدَّم أن نافعاً وابن عامر قرأ {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} في البقرة بالتخفيف كهذه القراءة.
قوله: {مَّتَاعاً} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدرِ بحذفِ الزوائد، إذ التقدير: تمتيعاً فو كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}. والثاني: أنه ينتصبَ على المفعول به، والمراد بالمتاعِ اسمُ ما يُتَمَتَّع به فهو كقولك: "متَّعْتُ زيداً أثواباً".
(8/252)
---(1/3292)
قوله: {كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} "كلَّ" مفعول أول، و "فضلَه" مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم للسهيلي خلافٌ في ذلك. والضمير في "فضله" يجوز أن يعودَ على اللَّه تعالى، أي: يعطي كلَّ صاحب فضلٍ فضلَه، أي: ثوابَه، وأن يعودَ على لفظ كل، ي: يعطي كلَّ صاحبِ فضلٍ جزاءَ فَضْلِهِ، لا يَبْخَسُ منه شيئاً أي: جزاء عمله.
قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} قرأ الجمهور "تَوَلَّوا" بفتح التاء والواو واللامِ المشددة، وفيها احتمالان، أحدهما: أن الفعلَ مضارعُ تَوَلَّى، وحُذِف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: تَنَزَّلُ، وقد تقدّضم: أيتُهما المحذوفةُ، وهذا هو الظاهر، ولذلك جاء الخطاب في قوله "عليكم". والثاني: انه فعلٌ ماضٍ مسندٌ لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القول، أي: فقل لهم: إني أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإني أخاف عليهم.
وقرأ ليماني وعيسى بن عمر: "تُوَلُّوا" بضم التاء وفتح الواو وضم اللام، وهو مضارعُ ولَّى كقولك زكَّى يزكِّي. ونقل صاحب "اللوامح" عن اليماني وعيسى: "وإن تُوُلُّوا" بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول. قلت: ولم يُبَيِّن ما هو ولا تصريفَه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولما بُني للمفعول ضُمَّ أولُه على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنه مفتتحٌ بتاءِ مطاوَعَةٍ / وكلُّ ما افْتُتِح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمًّ أولُه وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً وإن كان أصلُها الكسرَ لأجل واو الضمير، والأصل "تُوُلِّيُوا" نحو: تُدُحْرِجوا، فاسْتُثْقِلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت فالتقى ساكنان، فحُذِفت الياءُ لأنها أولهما، فبقي ما قبل واوِ الضمير مكسوراً فَضُمَّ ليجانِسَ الضميرَ، فصار وزنُه تُفُعُّوا بحَذْف لامِه، والواوُ قائمةٌ مقامَ الفاعل.
وقرأ الأعرج "تُوْلُوا" بضم التاء وسكون الواو وضم اللام مضارعَ أَوْلَى، وهذه القراءةُ لا يظهر لها معنى طائلٌ هنا، والمفعولُ محذوفٌ يُقَدَّر لائقاً بالمعنى
(8/253)
---(1/3293)
و "كبير" صفةٌ لـ"يوم" مبالغةً لما يقع فيه من الأهوال وقيل: بل "كبير" صفةٌ لـ"عذاب" فهو منصوبٌ وإنما خُفِضَ على الجِوار كقولهم: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ" بجرِّ "خَرِبٍ" وهو صفةٌ لـ"جُحر" وقولِ امرىء القيس:
2634 - كأن ثَبِيراً في عَرانين وَبْلِه * كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّل
بجر "مُزَمّل" وهو صفةٌ لـ"كبيرُ". وقد تقدَّمَ القولُ في ذلك مشبعاً في سورة المائدة.
* { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله تعالى: {يَثْنُونَ}: قراءةُ الجمهورِ بفتح الياء وسكونِ الثاءِ المثلثةِ، وهو مضارعُ ثَنَى يَثْني ثَنْياً، أي: طوى وزَوَى، و "صدورَهم" مفعول به والمعنى: "يَحْرِفون صدورَهم ووجوههم عن الحق وقبولِه" والأصل: يَثْيِيُون فأُعِلَّ بحذفِ الضمةِ عن الياء، ثم تُحْذَفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين.
وقرأ سعيد بن جبير "يُثْنُون" بضم الياء وهو مضارع أَثْنَى كأكرم.
(8/254)
---(1/3294)
واستشكل الناسُ هذه القراءةَ فقال أبو البقاء: "ماضيه أَثْنى، ولا يُعرف في اللغة، إلا أن يُقالَ: معناه عَرَضوها للانثناء، كما يُقال: أَبَعْتُ الفرسَ: إذا عَرَضْتَه للبيع". وقال صاحب "اللوامح": "ولا يُعرف الإِثناء في هذا الباب، إلا أن يُرادَ بها: وَجَدْتُها مَثْنِيَّة، مثل: أَحْمَدْتُه وأَمْجَدْتُه، ولعله فتح النون، وهذا ممَّا فُعِل بهم فيكون نصب "صدورَهم" بنزع الجارِّ، ويجوز إلى ذلك أن يكون "صدورهم" رَفْعاً على البدلِ بدلِ البعض من الكل". قلت: يعني بقوله: "فلعله فتح النون"، أي: ولعل ابنَ جبير قرأ ذلك بفتح نونِ "يُثْنَون" فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قولِه "وهذا مما فُعِل بهم، أي: وُجِدوا كذلك، فعلى هذا يكون "صدورَهم" منصوباً بنزع الخافض، أي: في صدورهم، أي: يوجد الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جَوَّز رفعَه على البدل كقولك: "ضُرِب زيدٌ الظهرُ". ومَنْ جوَّز تعريفَ التمييز لا يَبْعُدُ عنده أن ينتصبَ "صدورَهم" على التمييز بهذا التقديرِ الذي قدَّره.
وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود: "تَثْنَوْنَى" مضارع "اثْنَوْنى" على وزن افْعَوْعَل من الثَّنْي كالحْلَوْلى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ، "صدورُهم" بالرفع على الفاعلية، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق: "يَثْنَوْنَى صدورُهم" بالتاء والياء، لأن التأنيثَ مجازيٌّ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار تأوُّل فاعلِه بالجمع، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة.
(8/255)
---(1/3295)
وقرأ ابن عباس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعشى "تَثْنَوِنُّ" بفتح التاء وسكونِ الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصلُ: تَثقْنَوْنِنُ بوزن تَفْعَوْعِلُ وهو الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضَعُفَ مِن الكلأ، يريد مطاوعةَ نفوسِهم للثَّنْي كما يُثْنى الهشُّ من النبات، أو أراد ضَعْفَ إيمانهم ومرض قلوبهم. و "صدورُهم" بالرفع على الفاعلية.
وقرأ مجاهد وعروة أيضاً كذلك، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً مكسورةً فأخرجاها مثل "تطمئن". وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ الواوَ قُلِبَتْ همزةً لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح، لَمَّا استثقلوا الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً. والثاني: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم، وذلك أنه مضارع لـ"اثْنانَّ" مثل احْمارَّ واصْفارَّ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله:
2635 - ................... * ..........بالعَبيطِ ادْهَأَمَّتِ
فجاء مضارع اثْنَأَنَّ على ذلك كقولك: احْمَأَرَّ يَحْمَئِرُّ كاطمأَنَّ يطمئِنُّ. وأمَّا "صدورُهم" فبالرفع على ما تقدم.
(8/256)
---(1/3296)
وقرأ الأعشى أيضاً "تَثْنَؤُوْنَ" بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزةٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كتَرْهَبُون. "صدورَهم" بالنصب. قال صاحب "اللوامح" ولا أعرفُ وجهَه لأنه يُقال "ثَنَيْتُ" ولم أسمعْ "ثَنَأْت"، ويجوز أنه قلبَ الياءَ ألفاً على لغة مَنْ يقول "أَعْطَات" في أَعْطَيْت، ثم هَمَز الألفَ على لغةِ مَنْ يقول {ولا الضَّأَلِّين} وقرأ ابنُ عباس أيضاً "تَثْنَوي" بفتح التاء وسكون / المثلثة وفَتْحِ النونِ وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جداً حتى قال أبو حاتم: "وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه" وإنام قال: إنها غلط؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال: "ثَنَوْتُه فانْثَوَى كرَعَوْته، أي: كفَفْتُه فارعوى، أي: فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ.
وقرأ نصرب بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق "يَثْنُون" بتقديم النون الساكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً "لتَثْنَوْنِ" بلام التأكيد في خبر "إنَّ" وفتح التاءِ ويكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ، كما تقدَّم، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدرِ وما أَدْرِ. و "صدورُهم" فاعلٌ كما تقدم.
(8/257)
---(1/3297)
وقرأ طائفةٌ: "تَثْنَؤُنَّ" بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤُنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلا نه قَلَبَ الياءَ واواً لأن الضمةَ تنافِرُها، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها، فصار اللفظُ تَثْنَوُوْنَ ثم قُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً كقولهم: "أُجوه" في "وُجوه" و "أُقِّتَتْ" في "وقِّتت" فصار "تَثْنَؤُون"، فلمَّا أُكِّد الفعلُ بنونِ التوكيد حُذِفَتْ نونُ الرفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى مِنْ نون التوكيد، فحُذِفَتْ الواو وبقيت الضمةُ تدلُّ عليها فصار تَثْنَؤُنَّ كما ترى. و "صدورَهم" منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةض قراءةً بالغْتُ في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها؛ لأني رأيتها في الكتب مهملةً من الضبط باللفظ وغالبِ التصريف، وكأنه اتَّكلوا في ذلك على الضبطِ بالشكل في الكتابة وهذا متعبٌ جداً.
قوله {لِيَسْتَخْفُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أن هذه اللام متعلقةٌ بـ"يَثْنُون" وكذا قاله الحوفي، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة. وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه. والثاني: ان اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ، قال الزمخشري: "ليَسْتَخْفُوا منه" يعني ويريدون: ليستَخْفُوا من اللَّه فلا يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم، ونظيرُ إضمارِ "يريدون" لعَوْدِ المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} معناه: "فضرب فانفلق" قلت: ليس المعنى الذي يقودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لا بد منْ حذفِ معطوف يُضْطرب العقلُ إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلا بد أن يُتَعقَّل "فضرب فانفلق"، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة.
(8/258)
---(1/3298)
والضميرُ في "منه" فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام بـ"يَثْنون". والثاني: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى كما قال الزمخشري.
قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ} في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنَّ ناصبَه مضمرٌ، فقدَّره الزمخشري بـ"يريدون" كما تقدَّم، فقال: "ومعنى ألا حين يَسْتَغْشُون ثيابهم: ويريدون الاستخافء حين يستغشون ثيابَهم أيضاً كراهةً لاستماع كلامِ اللَّه كقولِ نوحٍ عليه السلام {جَعَلُوااْ أَصَابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ}، وقدَّره أبو البقاء فقال: "ألا حين يَسْتَغْشون ثيابهم يَسْتخفون". والثاني: أن الناصبَ له "يَعْلَمُ"، أي: ألا يعلمُ سِرَّهم وعَلَنهم حين يفعلون كذا، وهو معنى واضح، وكأنهم إنما جوَّزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعَلَنِهم بهذا الوقت الخاص، وهو تعالى عالم بذلك في كل وقت. وهذا غيرُ لازمٍ، لأنه إذا عُلِم سِرُهم وعلنُهم في وقتِ التغشية الذي يَخْفَى فيه السرُّ فأَوْلى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلا فاللَّهُ تعالى لا يتفاوتُ عِلْمُه. و "ما" يجوز أن تكونَ "مصدريةً"، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنونه.
* { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله تعالى: {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}: يجوز أن يكونا مصدَرْين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها. ويجوز أن يكون مستودعها اسمَ مفعول لتعدِّي فِعْلِه، ولا يكون ذلك في "مستقر" لأنَّ علَه لازمٌ، ونظيرُه في المصدرية قولُ الشاعر:
2636 - ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي * ..........................
أي: تَسْريحي.
(8/259)
---(1/3299)
قوله: {كُلٌّ} المضافُ غليه محذوفٌ تقديرُه: كل دابةٍ وزرقُها ومستقرُّها ومستودَعُها في كتاب مبين.
* { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ}: في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديرُه: أَعْلَمَ بذلك ليبلوَكم. وقيل: ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقُه لهما لمنافعَ يعودُ عليكم نفعُها في الدنيا دون الآخرة وفَعَل ذلك لِيَبْلُوَكم. وقيل: / تقديرُه: وخلقكم ليبلوَكم. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"خلق" قال الزمخشري: "أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أَنْ يَجْعَلَها مساكنَ لعباده وينعمَ عليهم فيها بصنوف النِّعَمِ ويُكَلِّفهم فعلَ الطاعاتِ واجتنابَ المعاصي، فَمَنْ شكر وأطاع أثابه، ومَنْ كفر وعصى عاقبه، ولمَّا أَشْبَهَ ذلك اختبارَ المُخْتبر قال "ليبلوَكم"، يريد: ليفعلَ بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم.
قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبر في محل نصب بإسقاط الخافشِ؛ لأنه مُعَلِّقٌ لقوله "ليبلوكم". قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعلِ البَلْوى؟ قلت: لما في الاختيار من معنى العلم؛ لأنه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقول: "انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً" لأن النظر والاستماع من طرق العلم". وقد واخذه الشيخُ في تمثيله بقوله "واسمع" قال: "لم أعلمْ أحداً ذكر أنَّ "استمع" يُعَلَّق، وإنما ذكروا من غيرِ أفعالِ القلوب "سَلْ"، و "انظر"، وفي جواز تعليق "رأى" البصريةِ خلافٌ".
(8/260)
---(1/3300)
قوله: {وَلَئِن قُلْتَ}: هذه لامُ التوطئة للقسم، و "ليقولُنَّ" جوابُه، وحُذِفَ جوابُ الشرط لدلالة جواب القسم عليه، و "إنكم" محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرت في قراءة الجمهور. وقُرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري، أحدهما: أنها بمعنى لعلَّ، قال: "مِنْ قولهم: "ائت السُّوق أنك تشتري لحماً"، أي: لعلك، أي: ولئن قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعوا بَعْثَكم وظُنُّوه، ولا تَبُثُّوا القولَ بإنكاره، لقالوا". والثاني: ان تُضَمِّنَ "قلتَ" معنى "ذَكَرْتَ" يعنى فتفتح الهمزة لأنها مفعول "ذكرْتَ".
قوله: {إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} قد تقدم أنه قُرىء "سِحْر" و "ساحر"، فَمَنْ قَرَأَ "سِحْر" فـ"هذا" إشارةٌ إلى البعث المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن لأنه ناطق بالبعث. ومَنْ قرأ "ساحر" فالإِشارةُ بـ"هذا" إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويجوز أن يُرادَ بـ"هذا" في القراءة الأولى النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم أيضاً، ويكون جَعَلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلا ذو سحر. ويجوز أن يُراد بـ"ساحر" نفسُ القرآنِ مجازاً كقولهم "شعرٌ شاعرٌ" و "جَدَّ جَدُّه".
* { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }
قوله تعالى: {لَّيَقُولُنَّ}: هذا الفعلُ معربٌ على المشهور لأن النوننَ مفصولةٌ تقديراً، إذا الأصلُ: ليقولونَنَّ: النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقلَ توالي ثلاثةِ أمثال، فحُذِفَتْ نونُ الرفع لأنها لا تدلُّ مِن المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائِهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
(8/261)
---(1/3301)
و "ما يَحْبِسُه" استفهامٌ، فـ"ما" مبتدأ، و "يحبسُه" خبره، وفاعلُ الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوب يعود على العذاب، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء يَحْبِسُ العذاب؟.
قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} منصوبٌ بـ"مصروفاً" الذي هو خبر "ليس"، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر "ليس عليها، ووجهُ ذلك أن تقديمَ المعمول يُؤْذن بتقديم العامل، و "يومَ" منصوب بـ"مصروفاً" وقد تقدَّم على "ليس" فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأَوْلَى أن يتقدَّم الأصلُ. وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين، أحدهما: أن الظرفَ يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره. والثاني: أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ، إذ لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} فاليتيمَ منصوب بـ"تقهرْ"، و "السائلَ" منصوبٌ بـ"تَنْهَرْ" وقد تَقَدَّما على "لا" الناهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزوم - على "لا"، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به. قال الشيخ: "وقد تَتَبَّعْتُ جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر "ليس" عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر:
2637 - فيأْبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً * وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ
واسمُ "ليس" ضميرٌ عائد على "العذاب"، وكذلك فاعل "يأَْتيهم"، والتقدير: ألا ليسَ العذاب مصورفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب. وحكى أبو البقاء عن بعضهم أن العاملَ في "يومَ يأتيهم" محذوف، تقديره: أي: لا يُصْرَفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على هذا المحذوفِ سياق الكلام.
* { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيا إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }
(8/262)
---(1/3302)
قوله تعالى: {لَفَرِحٌ}: قرأ الجمهور بكسرِ الراء، وهو قياسُ اسمِ الفاعل من فَعِل اللازم بكسر العين نحو: أَشِرَ فهو أَشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ. وقرىء شاذاً "لَفَرُح" بضم الراء نحو: يَقِظ ويَقُظ، ونَدِس ونَدُس.
* { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل؛ إذ المرادُ به جنس / الإِنسانِ لا واحدٌ بعينه. والثاني: أنه منقطعٌ، إذ المراد بالإِنسان شخصٌ معين، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحل. والثالثك انه مبتدأ، والخبرُ الجملةُ من قوله {ِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} وهو منقطعٌ أيضاً. وقوله: "مغفرةٌ" يجوز أن يكونَ مبتدأ، و "لهم" الخبر، والجملةُ خبرُ "أولئك"، ويجوز أن يكونَ "لهم" خبرَ "أولئك" و "مغفرة" فاعلٌ بالاستقرار.
* { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ}: الأحسنُ أن تكونَ على بابها من الترجِّي بالنسبة إلى المخاطب. وقيل: هي للاستفهام كقوله عليه السلام: "لعلنا أعجلناك
" قوله: {وَضَآئِقٌ} نسقٌ على "تارك". وعَدَلَ عن "ضيّق" وإن كان أكثر من "شائق" قال الزمخشري: "ليدلَّ على أنه ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابت، ومثلُه سَيِّد وجَواد، فإذا أردْتَ الحدوثَ قلت: سائدٌ وجائد". قال الشيخ: "وليس هذا الحكمُ مختصاً بهذه الألفاظ، بل كلُّ مابُني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعِل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حاسِن وثاقِل وسامِن في حَسُن وثَقُل وسَمُنَ" وأنشد:
2638 - بمنزلةٍ أمَا اللئيمُ فسامِنٌ * بها وكرامُ الناسِ بادٍ شُحوبُها(1/3303)
(8/263)
---
وقيل: إنما عَدَل عن ضيِّق إلى ضائق ليناسب وزن تارك.
والهاءُ في "به" تعود على "بعض". وقيل: على "ما". وقيل: على التكذيب. و "صدرُك" فاعل بـ"ضائق". ويجوز أن يكون "ضائقٌ" خبراً مقدماً، و "صدرك" مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة خبرٌ عن الكاف في "لعلك"، فيكون قد أخبر بخبرين، أحدهما مفرد، والثاني جملة عُطِفت على مفرد، إذ هي بمعناه، فهو نظير: "إنَّ زيداً قائم وأبوه منطلق"، أي: إن زيداً أبوه منطلق.
قوله: {أَن يَقُولُواْ} في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في "أنْ" بعد حَذْف حرف الجر أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافةَ أَنْ يقولوا، أو لئلا يقولوا، أو بأن يقولوا. وقال أبو البقاء: "لأن يقولوا، أي: لأَنْ قالوا، فهو بمعنى الماضي" وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٍّ في الاستقبال وهو الناصب؟ و "لولا" تحضيضيةٌ، وجملةُ التحضيضِ منصوبةٌ بالقول.
* { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ}: في "أم" هذه وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر بـ"بل" والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في "افتراه" لما يُوحَى. والثاني: أنها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكتفون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنه ليس من عند اللَّه؟.
قوله: {مِّثْلِهِ} نعت لـ"سُوَر" و "مثل" وإن كانت بلفظ الإِفراد فإنها يُوصف بها المثنى والمجموعُ والمؤنث، كقوله تعالى: { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}، ويجوز المطابقةُ قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ}، وقال تعالى: {ثُمَّ لاَ يَكُونُوااْ أَمْثَالَكُم} والهاءُ في "مثلِه" تعود لما يوحي أيضاً، و "مفتريات" صفة لـ"سُوَر" جمع مُفْتراة كمُصْطَفَيات في "مصطفا’" ?C???EE C????? ?C?? ?C?EE??E.
(8/264)
---(1/3304)
* { ????????? ????E????E??C? ?????? ??C???????CC? ???????A ??????? E??????? C?????? ????? ?C?? ????UC?? ???C?? ???? ?????? ???E??? ???????????? }
???? E?C??: {???????A ???????}: "?C" ???? ?? E??? ?C?E? ??????E. ??? "???????" ????? ???I ??? ?C ????? ????? ? "E????" ?C? ??: ??EE?C? E?????? ?????? ?? E???? ?????E? C???E? ?? ????E C??C? ?U"????" ?C?IE?? C??C??? E?I????: ?C????C ?? E??????? ?? ???? C??? ??????? ??EE?? E????.
???? ??I E? ??? "??????" E?E? C???? ?C??C? C??OIIE? ??C?? "??????" ????? C????? E?C??? ? {????? ?C?? ????UC?? ???C?? ????} ???? ??? "????" ?E??C? ???? ??? ?I??E? ?C????C ??????? ????E? C???? IE???C.
????: {???????} C??????? ??? "???????" E??? C??U?E ?EOI?I C??C? ???? ?????? ????????? ????E ?????? E?C? C?U?EE? ???I E? ??? ???? ??C ??? I?????? C??C?? ???? ???? ????? ?C??C??? ?? ?CE???? C???C?E?? ????? C????? E?C??. ????? "E??????" E?? C?EC? ??E? C??C? ?OIIE? ???? ???? ???????? ?E??C? ???????. "???C????" EC???? ?C??C? ??C? C??C??. ?C????" ???????" ??? ??? C???C?CE? ?????? ??CEC? ??O??? ??C ?? ???? E?C?? {??? ??C?? ?????I? ????E? C?AI???E? ????I? ???? [??? ????E???] ????? ??C?? ?????I? ????E? C?I??????C ????E???} ???? C???C? ?? "?C?" ?C?IE ?C?: "????? ????? ??CE??" ?????? ??C ?C ??? ?? ?? ?C?E ?C?IE? ??C? "???I" ?? C?O??? ??? ?C? O??C? C????? ??C? ???C?: ???? ?C? ????I?".
???? E????? ??? ?C ????E? E??? C?O?? ?C??C? ?C???C? ??C??C? ??C ?? "?C?" IC?E? ????C ?? ??????? ?? C???A? ??C ????? ???C ??? E????? ????I? ?? U?? "?C?" ?C? ????:
2639 - ????? ?CE ??ECE? C???C?C ????????? * ??? ?C? C??ECE? C???C? E???????
???C C???A? ??C? ?? ECE C?CE?C? ??? ????.
(8/265)
---(1/3305)
???? C???? C?E??? "?????" EEI??? C??C? / ?EE?E? C??C? ???? ????? E? ??? C???C?E? ??E????E?: ??? ???? C???? ?????C?? ???I??? ????? E???? C????E C?????I?E ?????:
2640 - ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي * بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد
على أن ذلك قد يأتي في السَّعَةِ نحو: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ}، وسيأتي محرَّراً في سُورته، ولأن يكون الفعلُ مرفوعاً الشرط ماضياً كقوله:
2641 - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً * نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا تُنَفِّروا
وكقول زهير:
2642 - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وهل الرفعُ لأنه على نيةِ التقديمِ وهو مذهبُ سيبويه أو على نية الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؟ خلافٌ مشهور.
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}: يجوز أن يتعلَّقَ "فيها" بـ"حَبِط"، والضميرُ على هذا يعود على الآخرة، أي: وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن يتعلَّقَ بـ"صنعوا" فالضمير على هذا يعود على الحياة الدنيا كما عاد عليها في قوله {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}. و "ما" في "ما صنعوا" يجوز أن تكون بمعنى الذي فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكونَ مصدريةً، وحَبِط صُنْعُهم.
(8/266)
---(1/3306)
قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الجمهورُ قرؤوا برفع الباطل، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ "باطل" خبراً مقدماً، و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مبتدأٌ مؤخرٌ. و "ما" تحتمل أن تكن مصدريةً، أي: وباطلٌ كونُهم عاملين، وأن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: يعملونه، وهذاعلى أنَّ الكلامَ من عطفَ الجمل، عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلها. الثاني: أن يكونَ "باطل" مبتدأً و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} خبرُه، هكذا قال مكي بن أبي طالب وهو لا يَبْعُدُ على الغلط، والعجبُ أنه لم يّذْكر غيره. الثالث: أن يكونَ "باطل" عطفاً على الأخبارِ قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون، و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فاعلٌ بـ"باطل"، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على "حَبِط".
وقرأ أُبَيّ وابن مسعود - قال مكي: "وهي في مصحفهما كذلك" - ونقلها الزمخشري عن عاصم "وباطلاً" نصباً وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ بـ"يعملون" و "ما" مزيدة، وإلى هذا هب مكي وأبو البقاء وصاحب "اللوامح"، وفيه تقديمُ معمولِ خبرِ "كان" على "كان" وهي مسألة خلاف، والصحيحُ جوازُها كقوله تعالى: {أَهَاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} فالظاهرُ أن "إياكم" منصوب بـ"يعبدون". والثاني: أن تكونَ "ما" إبهاميةً، وتنتصب بـ"يعملون" ومعناه: "باطلاً أيَّ باطلٍ كانوا يعملون"، والثالث: أن يكون "باطلاً" بمعنى المصدر على بَطَلَ بُطْلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله "ما" إبهامية أنها هنا صفةٌ للنكرة قبلها، ولذلك قَدَّرها بـ"باطلاً أيَّ باطل" فهو كقوله:
2643 - .................... * وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
و "لأمرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أَنْفَه"، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً}
(8/267)
---(1/3307)
* { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ} فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، تقديره: أفَمَنْ كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّره أبو البقاء، وأحسنُ منه "أَفَمَنْ كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها"، وحَذْفُ المعادلِ الذي دخلت عليه الهمزةُ كثيرةٌ نحو: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءَ عَمَلِهِ} {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} إلى غير ذلك. وهذا الاستفهام بمعنى التقرير. الثاني - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: أمَّن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها كمَنْ كان على بَيِّنَة، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنَّ بين الفريقين تفاوتاً، والمرادُ مَنْ آمَن مِن اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وهذا على قاعدتِه مِنْ تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام وحرفِ العطف، وهو مبتدأٌ أيضاً، والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُه.
(8/268)
---(1/3308)
قوله: {وَيَتْلُوهُ} اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في "يتلوه"، وفي "منه"، وفي "قبله": فقيل: الهاء في "يتلوه" تعود / على "مَنْ" ، والمرادُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكذلك الضميران في "منه" و "قبله" والمرادُ بالشاهد لسانُه عليه السلام، والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة، أي: ويتلو محمداً - أي صِدْقَ محمدٍ - لسانُه، ومِنْ قبلِه، أي قبل محمد. وقيل:الشاهدُ هو جبريلُ، والضمير في "منه" للَّه تعالى، و "من قبله" للنبي. وقيل: الشاهدُ الإِنجيلُ و "كتاب موسى" عطف على "شاهد"، والمعنى أن التوراة والإِنجيل يتلوان محمداً في التصديق، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله: "من قبله"، والتقدير: شاهدٌ منه، وكتاب موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعاً في النساء.
وقيل: الضمير في "يتلوه" للقرآن وفي "منه" لمحمد عليه السلام. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه، أو مِن جبريلَ. والهاءُ في "من قبلِه" أيضاً للقرآن. وقيل: الهاءُ ي "يَتْلوه" تعود على البيان المدلولِ عليه بالبِّنة. وقيل: المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن، فالضمائر الثلاثة للقرآن. وهذا كافٍ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما ذكرْتُ.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي "كتابَ موسى" بالنصبِ وفيه وجهان، أحدهما - وهو الظاهر - أنه معطوف على الهاء في "يتلوه"، أي: يتلوه ويتلو كتابَ موسى، وفصلَ بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال أبو البقاء: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قولِه "منه" و "كتابَ موسى"، أي: ويتلو كتابَ موسى" فقدَّر فعلاً مثلَ الملفوظِ به، وكانه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلاً.
و "إماماً ورحمةً" منصوبان على الحال من "كتاب موسى" سواءً أقرىء رفعاً أم نصباً.
(8/269)
---(1/3309)
والهاءُ في "به" يجوز أن تعودَ على "كتاب موسى" وهو أقربُ مذكورٍ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد، وكذلك الهاء في "به".
والأَحْزاب: الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك، ومنه وَصْفُ حمارِ الوحش بـ"حَزَابِيَة" لغِلَظِه. والأحزاب: جمع حِزْب وهو جماعةُ الناس.
و "المِرْية" بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ، لغتان أشهرُهما الكسرُ، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، والضمُّ لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ السُّلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي. و "وأولئك" إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة، جُمِع على معناها، وهذا إنْ أريد بـ"مَنْ كان" النبيُّ وصحابتُه، وإن أريدَ هو وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بشارة الجمع كقوله:
2644 - فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ * وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
و "موعده" اسمُ مكانِ وَعْدِه، قال حسان رضي اللَّه عنه:
2645 - أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً * فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها
* { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }
وقوله تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ}: "هم" الثانية توكيدٌ للأولى توكيداً لفظياً.
* { أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }
(8/270)
---(1/3310)
قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ}: يجوز في "ما" هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لم ينتفعوا به، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكونُ متعلَّقُ السمعِ والبصرِ شيئاً خاصاً. والثاني: أن تكون مصدريةً، وفيها حينئذٍ تأويلان، أحدهما: أنها قائمة مقامَ الظرف، أي: مدةَ استطاعتهم، وتكون "ما" منصوبةً بـ"يُضاعف"، أي: يضاعف لهم العذاب مدةَ استطاعتهم السمعَ والأبصار. والتأويل الثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ على إسقاط حرف الجر، كما يُحذف من أنْ وأنَّ أختيها، وإليه ذهب الفراء، وذلك الجارُّ متعلقٌ أيضاً بـ"يُضاعَف"، أي: يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ولا يَنْتفعون. الثالث: أن تكون "ما" بمعنى الذي، وتكونَ على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بُعْدٌ لأنَّ حَذْفَ الحرفِ لا يَطَّرد.
والجملةُ من قوله "يُضاعف" مستأنفة. وقيل: إنَّ الضمير في قوله: "ما كانوا" يعودُ على "أولياء" وهم آلهتُهم، أي: فما كان لهم في الحقيقة مِنْ أولياء"، وإن كانوايعتقدون أنهم أولياءُ، فعلى هذا يكون {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} معترضاً.
* { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }
(8/271)
---(1/3311)
قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ}: في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتخلض ذلك في خمسة أوجه، أحدها: - وهو مذهب / الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس - أنهما رُكِّبَتَا من "لا" النافيةِ و "جَرَم"، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو "حقَّ"، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ}، أي حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم، أو استقرارها لهم. الوجه الثاني: أنَّ "لا جَرَمَ" بمنلزة لا رجل، في كون "لا" نافيةً للجنس، و "جَرَم" اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدها خبرُ "لا" النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ.
الثالث: - كالذي قبله - إلا أن "أنَّ" وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ في أنهم في الآخرة، أي: في خسرانهم. الرابع: أن "لا" نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه: "لا"، كما تَرُدُّ "لا" هذه قبل القسم في قوله: {لاَ أُقْسِمُ}، وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي "جرم أنَّ لهم كذا". وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ الكلام، و "أنَّ" وما في حيِّزها في موضع المفعول به لأنَّ "جَرَم" يتعدى إذ هو بمعنى كَسَبَ. قال الشاعر:
2646 - نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ * بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا
أي: بما كسبَتْ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة. وجريمةُ القومِ كاسبُهم، قال:
2647 - جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ * ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
فتقديرُ الآية: كَسَبَهم - فِعْلُهم أو قولُهم - خسرانَهم، وهذا هو قولُ أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقف على قوله: "لا" ثم يُبتدأ بـ"جَرَمَ" بخلاف ما تقدَّم.
(8/272)
---(1/3312)
الوجه الخاسم: أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون "جَرَمَ" بمعنى القطع، تقول: جَرَمْتُ، أي: قطعت، فيكون "جرم" اسمَ "لا" مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم، وخبرها "أنَّ" وما في حيَّزها، أو على حَذْف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلافُ المشهور.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم، ولا جُرَم بضمِّها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جَرَم، ولا إنَّ ذا جَرَم، ولا ذو جَرَم، ولا عن ذا جَرَم، ولا إنْ جَرَم، ولا عن جَرَم، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ: "لا جَرُم أنَّ لهم النار" على وزن لا كَرُم، يعني بضم الراء، ولا جَرَ، قال: "حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا: "سَوْ ترى" يريدون: سوف.
وقوله: {هُمُ الأَخْسَرُونَ} يجوز أن يكون "هم" فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره، والجملة خبرُ "أنَّ".
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوااْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}: الموصولُ اسمُ إنَّ، والجملة مِنْ قولِه: {أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ} خبرها.
والإِخباتُ: الاطمئنان والتذلُّل والتواضع، وأصله من الخَبْت وهو المكانُ المطمئنُّ، أي: المنخفضُ من الأرض، وأَخْبَتَ الرجلُ: دخل في مكان خَبْت، كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ إذا دخل في أحد هذين المكانين، ثم تُوُسِّع فيه فقيل: خَبَتَ ذِكْرُه، أي: خمد، ويقال للشيء الدنيء الخبيت، قال الشاعر:
2648 - ينفع الطيِّبُ القليلُ من الرِّزْ * قِ ولا يَنْفَعُ الكثير الخبيتُ
(8/273)
---(1/3313)
هكذا يُنْشدون هذا البيتَ في هذه المادة، الزمخشري وغيره، والظاهر أن يكونَ بالثاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطِّيب، ولكن الظاهر من عبارتهم أنه بالتاء المثنَّاة لأنهم يَسُوقونه في هذه المادة، ويدلُّ على أن معنى البيت إنما هو على الثاء المثلثة قولُ الزمخشري: "وقيل: التاءُ فيه بدل من الثاء". ومن مجيء الخَبْت بمعنى المكان المطمئن قوله:
2649 - أفاطمُ لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ * - وقد قتل الهزبرَ - أخاك بشرا
وفي تركيب البيتِ قَلَقٌ، وحَلُّه: لو شهدْتِ أخاك بِشْرا وقد قتل الهزبرَ، ففاعل "قتل" ضمير يعودُ على "أخاك". وأخبت يتعدى بإلى كهذه الآية، وباللام كقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}
* { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ}: مبتدأٌ، و "كالأعمى" خبره، ثم هذه الكافُ يحتمل أن تكونَ هي نفسَ الخبر، فتقدَّر بـ"مثل"، تقديرُه: مَثَلُ الفريقين مثلُ الأعمى. ويجوز أن تكون "مثل" بمعنى "صفة"، ومعنى الكاف معنى مِثْلِ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى. وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى} يجوز أن / يكونَ من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَر، والصمم بالسمع وهو من الطِّباق، وأن يكونَ من تشبيهِ شيءٍ واحد بوصفَيْهِ بشيءٍ واحدٍ بوصفَيْهِ، وحينئذٍ يكون قولُه: "كالأعمى والأصمِّ" وقوله "والبصير والسميع" من باب عطف الصفات كقوله:
2650 - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ * ولَيْثٍ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
(8/274)
---(1/3314)
وقد أحسنُ الزمخشريُّ في التعبير عن ذلك فقال: شبَّه فريق الكافرين بالأَعْمى والأصمِّ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللَّفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبذِه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤ القيس قلوبَ الطير بالحَشَف والعُنَّاب، وأن يُشَبِّهَ بالذي جمع بين العمى والصَّمَم، والذي جمع بين البصر والسمع، على أن تكونَ الواوُ في "والأصمِّ" وفي "والسميع" لعطفِ الصفة على الصفةِ كقوله:
2651 - ..................الـ * صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
قلت: يريد بقوله "اللفّ" أنه لفَّ المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله "الفريقين"، ولو فسَّرهما لقال: مَثَلُ الفريق المؤمن كالبصير والسميع، ومثل الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورة في علم البيان: لفظتان متقابلتان: اللفُّ والنشر، وأشارَ لقول امرىء القيس وهو:
2652 - كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً * لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
أصلُ الكلامِ: كأن الرَّطْبَ من قلوب الطير: العُنَّابُ، واليابسَ منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، واللف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كبير، ليس هذا موضِعَه.
وأشار بقوله "الصابح فالغانم" إلى قوله:
2653 - يا ويحَ زَيّضابَةَ للحارثِ الـ * صابحِ فالغانم فالآئِبِ
وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وتحريرُه.
(8/275)
---(1/3315)
فإن قلت: لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمني؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير والأصم والسميع للتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهرَ بذلك التضادُّ؟ أجيب: بأنه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن، وهذا التشبيهُ أحدُ الأقسامِ وهو تشبيهُ أمرٍ معقول بأمرٍ محسوس: وذلك أنه شبَّه عَمَى البصيرة وصَمَمها بعمى البصر وصمم السمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات، كما أن هذا متحيِّز في الطرقات. وهذه فوائد علم البيان.
قوله: {مَثَلاً} تمييز، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: هل يَسْتوي مَثَلُهما، كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}. وجوَّز ابنُ عطية - رحمه اللَّه - أن يكون حالاً، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى "مِنْ" لا على معنى "في".
* { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {إِنَّي لَكُمْ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي "أني" بفتح الهمزة، والباقون بكسرها. فأمَّا الفتح فعلى إضمار حرفِ الجر، أي: بأني لكم. قال الفارسي: "في قراءة الفتح خروجٌ من الغَيٍبة إلى المخاطبةِ". قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكايةُ مخاطبتهِ قومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غَيْبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أَنْذِرْهم ونحوه لصح ذلك". وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي فإنه قال: "الأصل: بأني والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنه، لكنه جاء على طريقة الالتفات". انتهى، ولكن هذا الالتفاتَ غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذاك من غيبة إلى خطاب، وهذا من غيبةٍ إلى تكلُّم، وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ.
(8/276)
---(1/3316)
وقال الزمخشري: "الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلما اتصل به الجارُّ فُتِح كما فتح في "كأنَّ" والمعنى على الكسر في قولك: "إن زيداً كالأسد". وأما الكسرُ فعلى إضمار القول، وكثراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشواهد.
* { أَن لاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّيا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ }
وقوله تعالى: {أَن لاَّ تَعْبُدُوااْ}: كقوله :{أَن لاَّ تَعْبُدُوااْ} في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنها على قراءة مَنْ فتح "أني" تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكون بدلاً من قوله: "أني لكم"، أي: أَرْسَلْناه بأن لا تعبدوا. والثاني: / أن تكون مفسِّرة، والمفسَّرة بها: إمَّا أرسلنا، وإمَّا نذير. وأمَّا على قراءة مَنْ كسر فيجوز أن تكونَ المصدرية، وهي معمولةٌ لأرسلنا، ويجوز أن تكونَ المفسرةَ بحالَيْها.
قوله: {أَلِيمٍ} إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا به، وقال الزمخشري: "فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت: مجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، فنظيرها قولك: نهارك صائم". قال الشيخ: "وهذا على أن يكون "أليم" صفةُ مبالغةٍ وهو مَنْ كَثُرَ ألمه، وإن كان أليم بمعنى مُؤْلم فنسبتُه لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة".
* { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }
قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ}: يجوز أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قوله "اتَّبعك" في محل نصب مفعولاً ثانياً، وعلى الثاني في محلِّ نصب على الحال، و "قد" مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك.
(8/277)
---(1/3317)
والأراذِلُ فيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ الجمع، والثاني: جمعٌ فقط. والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع لـ"أَرْذُل"، وأَرْذُل جمع لرَذْل نحو: كَلْب وأَكْلُب وأَكَالب. وقيل: بل جمع لأرْذال لجريانه مَجْرى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفُه كالأَبْطح والأبرق وقال بعضهم: هو جمع أَرْذَل الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} و "أحاسِنُكم أخلاقاً". ويقال: رجل رَذْل ورُذال، كـ"رَخْل" و "رُخال" وهو المرغوبُ عنه لرداءته.
قوله: {بَادِيَ الرَّأْيِ} قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي "بادِئَ" بالهمز، والباقون بياءٍ صريحةٍ مكانَ الهمزة. فأمَّا الهمزُ فمعناه: بادئَ الرأي، أي: أولَ الرأي بمعنى أنه غيرُ صادرٍ عن رَوِّية وتَأَمُّل، بل من أولِ وَهْلة. وأمَّا مَنْ لم يهمزة فيحتمل أن يكونَ أصلُه كما تقدَّم، ويحتمل أن يكونَ مِنْ بدا يَبْدو أي ظهر، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، أي: لو تُؤُمِّل لعُرِفَ باطنُه، وهو في المعنى كالأول.
وفي انتصابهِ على كلتا القراءتين سبعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، وفي العاملِ فيه على هذا ثلاثة أوجه، أحدُها: "نراك"، أي: وما نراك في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يَظْهر لنا من الرأي في قراءة الباقين. والثاني من الأوجه الثلاثة: أن يكونَ منصوباً بـ"اتَّبعك"، أي: ما نراك اتبعك أولَ رأيهم، أو ظاهرَ رأيهم، وهذا يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريدوا اتَّبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك. والثاني: أنهم اتَّبعوك بأول نظرٍ، وبالرأي البادي دون تثبُّت، ولو تثبَّتوا لَمَا اتبعوك. الثالث من الأوجه الثلاثة: أنَّ العاملَ فيه "أراذِلُنا" والمعنى: أراذِلُنا بأولِ نظرٍ منهم، أو بظاهر الرأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رذالَتَهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحابَ حِرَفٍ دنيَّة.
(8/278)
---(1/3318)
ثم القول بكونِ "باديَ" ظرفاً يحتاج إلى اعتذار فإنه اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصل، فقال مكي: "وإنام جاز أن يكون فاعِل ظرفاً كما جاز ذلك في فعيل نحو: قريب ومليء، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحِم ورحيم، وعالم وعليم، وحَسُن ذلك في فاعِل لإِضافته إلى الرأي، والرأي يُضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظرف نحو: "أما جَهْدَ رأيٍ فإنك منطلقٌ"، أي: في "جَهْد". وقال الزمخشري: "وانتصابه على الظرف، أصلُه: وقتَ حدوثِ أول أمرهم، أو وقت حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فَحُذِفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مُقامه".
الوجه الثاني من السبعة: أن ينتصبَ على المفعول به، حُذف معه حرفُ الجر مثل {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} كذا قاله مكي. وفيه نظرٌ من حيث غنه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض.
الثالث من السبعة: أن ينتصبَ على المصدر، ومجيءُ المصدر على فاعلِ أيضاً ليس بالقياسِ، والعاملُ في هذا المصدرِ كالعامل في الظرف كما تقدم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديرُه: رؤيةَ بَدْءٍ أو ظهور، أو اتباعَ بَدْءٍ أو ظهور، أو رَذالة بَدْءٍ أو ظهور.
(8/279)
---(1/3319)
الرابع من السبعة: أن يكونَ نعتاً لبشر، أي: ما نراك إلا بشراً مثلنا / باديَ الرأي، أي: ظاهرَه، أو مبتدِئاً فيه. وفيه بُعْدٌ للفصلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة. الخامس: أنه حالٌ من مفعول "اتَّبَعَكَ"، أي: وأنت مكشوفُ الرأي ظاهرَ لا قوةَ فيه ولا حصافةَ لك. السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ عليه السلام، كأنهم قالوا: يا باديَ الرأي، أي: ما في نفسِك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له. السابع: أن العاملَ فيه مضمر، تقديره: أتقول ذلك بادي الرأي، ذكره أبو البقاء، والأصلُ عدم الإِضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجهِ الأربعةِ الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويل، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنه ظرفٌ أو مصدر.
واعلم أنك إذا نَصَبْتَ "باديَ" على الظرف أو المصدر بما قبل "إلا" احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال وهو أنَّ ما بعد "إلا" لا يكون معمولاً لما قبلها، إلا إن كان مستثنى منه نحو: "ما قام إلا زيداً القوم" أو مستثنى نحو: "قام القومُ غلا زيداً"، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: "ما جاءني أحدُ إلا زيدٌ أخيرٌ من عمرو" و "بادي الرأي" ليس شيئاً من ذلك. وقال مكي: "فلو قلت في الكلام: "ما أعطيت [أحداً] إلا زيداً درهما] فأوقعتَ اسمين مفعولين بعد "إلا" لم يَجُزْ؛ لأن الفعلَ لا يصلُ بـ"إلا" إلى مفعولين، إنما يصل إلى اسمٍ واحد كسائر الحروف، ألا ترى أنك لو قلت: "مررت بزيدٍ عمروٍ "فأوصلْتَ الفعلَ إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يجزي إلا أن تأتيَ في جميعِ ذلك بواو العطف فيجوز وصولُ الفعل".
والجوابُ الذي ذكروه هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرِها. وهذا جماعٌ القولِ في هذه المسألة باختصار.
والرأي: يجوز أن يكونَ من رؤيةِ العين أو من الفكرة والتأمُّل. وقوله {بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيا} "مِنْ ربي" نعتٌ لـ"بَيِّنة"، أي: بَيِّنَةٌ من بَيِّنات ربي.
(8/280)
---(1/3320)
* { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيا وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}: يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً لـ"رحمة" وأن يكونَ متعلقاً بـ"آتاني".
قوله: {فَعُمِّيَتْ} قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذه الأصل "فعماها اللَّهُ عليكم"، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي "فعماها" من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب "وعُمِّيَتْ" بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازا. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى "فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ": فلم تَهْدِكم كما لو عَمي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ".
وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقدم أدخلت القلنوسة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
2654 - ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه * ............................
(8/281)
---(1/3321)
قال أبو علي: "وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآن {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ غبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى بـ"عن" دون "على"، ألا ترى أنك تقول: "عَمِيْتُ عن كذا" لا "على كذا".
واختُلِفَ في الضمير في "عُمِّيَتْ" هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه: "وآتاني رحمة" معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه {عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيا . . . فَعُمِّيَتْ}. وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري: "وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: "فعُمِّيَتْ" ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه / للاقتصار على ذِكْرِه مرةً". انتهى.
وقد تقدَّم الكلامُ على "أرأيتم" هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ "أَرَأَيْتُم" يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً بـ"على"، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه.
(8/282)
---(1/3322)
وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أتى هان بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان "أراهُمُني الباطل شيطاناً" وقال الزمخشري: "يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله: "أَنُلْزِمكم إياها" ونحوه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ويجوز "فسيكفيك إياهم". وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.
وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ، ويضعف سكونُها، وعليه "أراهُمني الباطل". وقال أبو البقاء: "وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات" فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال: "ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم، وهو الأصل في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم". انتهى. وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجَوِّزُ "الدرهمَ أعطيتكمْه" وغيرُه يأباه. ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل، ويدل عليه ما قال الزجاج "أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء، ورَوَى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها، وهذا هو الحقُّ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس:
2655 - فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ * ...........................
وكذا قال الزمخشري أيضاً: "وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً، فظنَّها الراوي سكوناً، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر".
قلت: وقد حكى الكسائي والفراء "أَنُلْزِمْكموها" بسكون هذه الميم، وقد تقدم القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحناً؟.
(8/283)
---(1/3323)
و "ألزم" يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.
* { وَياقَوْمِ لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوااْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّيا أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ }
والضمير في "عليه" يجوز أن يعودَ على الإِنذار المفهوم من "نذير"، وأن يعودَ على الدين الذي هو المِلَّة، وأن يعود على التبليغ. وقُرِىء "بطاردٍ الذين" بتنوين "طاردٍ" قال الزمخشري: "على الأصل". يعني أن أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ، وهو ظاهرُ قولِ سيبويه. قال الشيخ: "ويمكن أن يُقال: الأصلُ الإِضافةُ لا العملُ؛ لأنه قد اعتوره شَبَهان، أحدهما: لشَبَهه بالمضارع وهو شَبَهٌ بغير جنسه، والآخر: شَبَهُه بالأسماء إذا كانت فيه الإِضافة، فكان إلحاقُه بجنسه أَوْلى".
وقوله {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو} استئنافٌ يفيدُ التعليل. وقوله :"تَجْهلون" صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت.
* { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيا أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّيا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }
(8/284)
---(1/3324)
و "تَزْدَري" تَفْتَعِل مِنْ زَرَى يَزْري، أي: حَقَرَ، فأُبدلت تاءُ الافتعال دالاً بعد الزاي وهو مُطَّرِد، ويقال: "زَرَيْتُ عليه" إذا عِبْتَه، و "أَزْرَيْتُ به"، أي: قَصَّرت به. وعائدُ الموصولِ محذوفٌ، أي: تَزْدَريهم أعينُكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم، قال الشاعر:
2656 - تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه * وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ
وقال أيضاً:
2657 - يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه * ويَنْهرَهُ الصغيرُ
واللام في "للذين" للتلعيل، أي: لأجل الذين، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ إذ لو كانت لكان القياس "لن يؤتيكم" بالخطاب.
وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفاً على قولِه {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ} كأنه أخبر عن نفسه بهذه [الجمل الثلاث]. وقد تقدَّم في الأنعام [أن هذا هو المختار] وأن الزمخشري قال: "إنَّ قوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} على "عندي خزائن"، أي: لا أقولُ: عندي خزائن اللَّه، ولا أقول: أنا أعلمُ الغيب". /
* { قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
وقوله تعالى: {جِدَالَنَا}: قرأ ابن عباس "جَدَلنا" كقوله: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}. وقنل أبو البقاء أنه قُرىء "جَدَلْتَنا فأَكْثرت جَدَلَنَا" بغير ألفٍ فيهما قال: وهو بمعنى غَلَبْتَنا بالجدل".
وقوله: {بِمَا تَعِدُنَآ} فيجوز أن تكونَ "ما" بمعنى الذين فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعِدَناه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: بوعدك إيانا. وقوله "إنْ كنت" جوابُه محذوف أو متقدَّم وهو "فَأْتِنا".
* { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيا إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
(8/285)
---(1/3325)
قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ}: قد تقدم حُكْمُ توالي الشرطين وأنَّ ثانيَهما قيدٌ في الأول، وأنه لا بد من سَبْقه للأول. وقال الزمخشريُّ هنا: "إن كان اللَّه" جزاؤُه ما دلَّ عليه قولُه: "لا ينفعكم نُصْحي"، وهذا الدليلُ في حكم ما دلَّ عليه، فوُصِل بشرطٍ، كما وُصِل الجزاء بالشرط في قوله "إنْ أَحْسَنْتَ إليَّ أحسنتُ إليك إنْ أمكنني".
وقال أبو البقاء: "حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني والجواب جواباً للشرط الأول نحو: "إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك" فقولُك "إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك": جوابُ "إن أتيتني" جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذَّكْرِ مؤخَّراً في المعنى، حتى إنْ أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإِكرام، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام، وعلةُ ذلك أن الجواب صار مُعَوَّقاً بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} قلت: أمَّا قولُه: "إنْ وَهَبَتْ . . . أن أراد" فظاهره - وظاهرُ القصةِ المَرْوِيَّةِ - يدل على عدم اشتراطِ تقدُّم الشرط الثاني على الأول، وذلك أن إرادتَه عليه السلام للنكاح إنما هو مُرَتَّبٌ على هِبة المرأةِ نفسَها له، وكذا الواقعُ في القصة لمَّا وَهَبَت أراد نكاحَها، ولم يُرْوَ أنه أراد نكاحَها فوهبت، وهو يحتاج إلى جوابٍ، وسيأتي هذا إن شاء اللَّهُ في موضِعِه.
وقال ابن عطية هنا: "وليس نُصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإِرادتين، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو "بنصحي"، وتعلُّقُ الآخر بـ"لا ينفع".
(8/286)
---(1/3326)
وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله: "ولا ينفعكم" لأنه عَقِبُه، وجوابُ الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول، وكأنَّ التقدير: وإنْ أَرَدْتُ أن أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي. وهو مِنْ حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي.
وقرأ الجمهور "نُصْحي" بضم النون وهو يحتمل وجهين، أحدهما: المصدرية كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أنه اسمٌ لا مصدر. وقرأ عيسى ابن عمر "نَصْحي" بفتح النون، وهو مصدرٌ فقط.
وفي غضون كلام الزمخشري: "إذا عرف اللَّهُ" وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ مرةٍ. وفي غضون كلام الشيخ "وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون "إنْ" شرطيةً بل هي نافيةٌ والمعنى: ما كان اللَّه يريد أن يُغْويكم". قلت: لا أظنُّ أحداً يرضى بهذه المقالة وإن كانت توافق مذهبه.
* { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِياءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }
قوله تعالى: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}: مبتدأ وخبرٌ أو فعلٌ وفاعل، والجمهورُ على كسرِ همزة "إجرامي" وهو مصدر أجرام، وأجرم هو الفاشي، ويجوز جَرَمَ ثلاثياً وأنشدوا:
2658 - طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ * بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني
وقُرىء في الشاذ "أجرامي" بفتحها، حكاه النحاس، وخَرَّجه على أنه جمعُ جُرْم كقُفْل أَقْفال، والمراد آثامي.
* { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
(8/287)
---(1/3327)
قوله تعالى: {وَأُوحِيَ}: الجمهور على "أُوحي" مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل "أنه لن يؤمن" أي: أُوحي إليه عدمُ إيمان بعض. وقرأ أبو البرهسم "أوحى" مبنياً للفاعل وهو اللَّه تعالى، "إنه" بكسر الهمزة. وفيها وجهان أحدهما: - وهو أصلٌ للبصريين - أنه على إجراء الإيحاء مُجْرى القول.
وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال: ابتأسَ فلانٌ أي: بلغه ما يَكْرهه قال:
2659 - ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ * منه وأقْعُدْ كريماً ناعمَ البالِ
/ وقال آخر:
2660 - وكم مِنْ خليلٍ أو حِميمٍ رُزِئْتُه * فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل
* { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوااْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }
قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا}: حالٌ من فاعل "اصنع" أي: محفواً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلام اللَّه له بالحفظ. وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيونِ الناس أي: الذين يتفقَّدون الأخبار، والجمع حينئذ حقيقةٌ. وقرأ طلحة بن مصرف "بأعيُنَّا" مدغمة.
* { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }
قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ}: العامل في "كلما" سَخِر"، و "قال" مستأنف؛ إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في "كلما": "قال"، و "سخروا" على هذا: إمَّا صفة لَمَلأ، وإمَّا بدلٌ مِنْ "مرَّ"، وهو بعيدٌ جداً، إذ ليس "سَخِرَ" نوعاً من المرور ولا هو هو فكيف يُبدل منه؟ والجملةُ من قوله "كلما" إلى آخره في محلِّ نصب على الحال أي: يصنع الفلك والحالُ أنه كلما مرَّ.
* { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }
(8/288)
---(1/3328)
قوله تعالى: {مَن يَأْتِيهِ}: في "مَنْ" وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً. والثاني: ان تكونَ استفهاميةً، وعلى كلا التقديرين فـ"تعلمون": إمَّا من باب اليقين فتتعدَّى لاثنينن وإمَّا من باب العرفان فتتعدَّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانيةً و "مَنْ" استفهامية كانت "مَنْ" وما بعدها سادَّة مسدَّم مفعول واحد، وإن كانَتْ متعديةً لاثنين كانت سادَّة مَسَدَّ المفعولين، وإذا كانت "تعلمون" متعديةً لاثنين و "مَنْ" موصولة كانت في موضع المفعول الأول، والثاني محذوف. قال ابن عطية: "وجائز أن تكونَ المتعديةَ إلى مفعولين، واقتصر على الواحد" وهذه العبارةُ ليست جيدةٌ؛ لأن الاقتصَارَ في هذا البال على أحد المفعولين لا يجوز؛ لِما تقرَّر غيرَ مرة من أنهما مبتدأٌ وخبر في الأصل، وأمَّا حَذْفُ الاختصار فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليلَ على ذلك. وإن كانت متعديةً لواحد و "مَنْ" موصولةٌ فأمرُها واضح.
وحكى الزهراوي: "ويَحُلُّ" بضم الحاء بمعنى يجب.
و "التنور" معروفٌ. وقيل: هو وجهُ الأرض. وهل أل فيه للعهدِ أو للجنس؟ ووزنَ تَنُّور قيل: تَفْعُول مِنْ لفظ النور فقُلبت الواوُ الأولى همزةً لانضمامِها، ثم حُذِفت تخفيفاً، ثم شددوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويُعزَى هذا لثعلب. وقيل: وزنه فَعُّول ويُعْزى لأبي علي الفارسي. وقيل: هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنه مما اتَّفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.
* { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }
(8/289)
---(1/3329)
قوله تعالى: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ}: قرأ العامة بإضافة "كل" لزوجين. وقرأ حفص بتنوين "كل". فأمَّا العامَّة فيل: إن مفعول "احمل" "اثنين" و {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} في محل نصب على الحال من المفعول لأنه كان صفةً للنكرة فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً. وقيل: بل "مِنْ" زائدة، و "كل" مفعول به، و "اثنين" نعت لزوجين على التأكيد، وهذا إنما يتمُّ على قول مَنْ يرى زيادةَ "مِنْ" مطلقاً، أو في كلامٍ موجب. وقيل: قوله: "زوجين" بمعنى العموم أي: من كل ما لَه ازدواجٌ، هذا معنى قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} وهو قول الفارسي وغيره. قال ابن عطية: "ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يَحْمل من كلِّ نوعٍ أربعةً، والزوج في مشهور كلامهم للواحد مما له ازدواجٌ".
وأمَّا قراءة حفص فمعناها من كل حيوان، و "زوجين" مفعول به، و "اثنين" نعتُ على التأكيد، و "مِنْ كلٍ" على هذه القراءة يجوز أن يتعلق بـ"احمل" وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنها حال من "زوجين" وهذا الخلافُ والتخريجُ جاريان أيضاً في سورة {قَدْ أَفْلَحَ} قوله: {وَأَهْلَكَ} نسق على "اثنين" في قراءة مَنْ أضاف "كل" لزوجين، وعلى "زوجين" في قراءة مَنْ نوَّو "كلاً" وقولُه: {إِلاَّ مَن سَبَقَ} استثناءٌ متصل في موجَب، فهو واجبُ النصب على المشهور.
وقوله: {وَمَنْ آمَنَ} مفعول به نسقاً على مفعول "احمِلْ".
* { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {وَقَالَ}: يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ نوح عليه السلام، ويجوز أن يكونَ ضمير الباري تعالى أي: وقال اللَّه لنوح ومَنْ معه. و "فيها متعلقٌ بـ"اركبوا" وعُدِّي بـ"في" لتضمُّنه معنى "ادخلوا فيها راكبين" أو سيروا فيها. وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل: "في" زائدةٌ للتوكيد.
(8/290)
---(1/3330)
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} يجوز أن يكونَ هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل "اركبوا" أو مِنْ "ها" في "فيها"، ويكون "مجراها" و "مرساها" فاعلين بالاستقرار الذي تَضَمَّنه الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكونَ "بسم اللَّ" خبراً مقدماً، و "مَجْراها" / مبتدأً مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ مما تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدَّرةٌ كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه. إلا أنَّ مكيَّاً منع ذلك لخلوِّ الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أَعْرَبْنا الجملةَ أو الجارَّ حالاً من فاعل "اركبوا" قال: "ولا يَحْسُنُ أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من فاعل "اركبوا" لأنه لا عائدَ في الجملةِ يعودُ على المضمر في "اركبواط؛ لأن المضمرَ في "بسم اللَّه" إنْ جَعَلْتَه خبراً لـ"مَجْراها" فإنما يعود على المبتدأ وهو مجراها، وإن رَفَعْتَ "مجراها" بالظرفِ لم يكن فيه ضميرُ الهاء في "مجراها" وإنما تعود على الضمير في "فيها، وإذا نَصَبْتَ "مجراها" على الظرفِ عَمِل فيه "بسم اللَّه"، وكانت الجملةُ حالاً من فاعل "اركبوا".
وقيل: {بِسْمِ اللَّهِ} حال من فاعل "اركبوا" ومَجْراها ومُرْساها في موضع الظرف المكاني أو الزماني، والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضعَ جريانها ورُسُوِّها، أو وقتَ جريانِها ورسوِّها. والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه "بسم اللَّه" من الاستقرار، والتقدير: اركبوا باسم اللَّه في هذين المكانين أو الوقتين. قال مكي: "ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيهما "اركبوا" لأنه لم يُرِدْ: اركبوا فيها في وقت الجَرْي والرسُوِّ، إنما المعنى: سَمُّوا اسمَ اللَّه في وقت الجَرْي والرسوِّ".
(8/291)
---(1/3331)
ويجوزُ أيضاً أن يكون "مَجْراها ومُرْساها" مصدرين، و "بسم اللَّه" حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعلين أي: استقرَّ بسم اللَّه إجراؤها وإرساؤها، ولا يكون الجارُّ حينئذٍ إلا حالاً من "ها" في "فيها لوجود الرابط، ولا يكون حالاً من فاعل "اركبوا" لعدمِ الرابط. وعلى هذه الأعاريبِ يكون الكلامُ جملةً واحدةً. ويجوز أن يكون {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا} جملةً مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإِعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالركوب، وأخبر أن مجراها ومُرْساها باسم اللَّه، وفي التفسير: كان إذا قال: "بسم اللَّه" وقَفَتْ، وإذا قالها جَرَتْ عند إرادته ذلك، فالجملتان محكيَّتان بـ"قال".
وقرأ الأخوان وحفص "مَجْراها" بفتح الميم والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضمِّ ميم "مُرْساها". وقد قرأ ابن مسعود وعيسى الثقفي وزيد بن علي والأعمش "مَرْساها" بفتح الميم أيضاً. فالضمُّ فيهما لأنهما مِنْ أَجْرى وأرسى، والفتح لأنهما مِنْ جَرَتْ ورَسَتْ وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران، على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك والنخعي وابن وثاب ومجاهد وأبو رجاء والكلبي والجحدري وابن جندب "مُجْرِيها ومُرْسِيها" بكسر الراء بعدهما ياء صريحة، وهما اسما فاعلَيْن مِنْ أجرى وأَرْسى، وتخريجُهما على أنهما بدلان من اسم اللَّه. وقال ابن عطية وأبو البقاء ومكي: إنهما نعتان للَّه تعالى، وهذا الذي ذكروه إنما يتمُّ على تقديرِ كونهما معرفتين بتمحض الإِضافة وقد قال الخليل: "إنَّ كلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجْعل مَحْضة إلا إضافةَ الصفةِ المشبهة فلا تتمحَّض".
(8/292)
---(1/3332)
وقال مكي: "ولو جُعِلت "مجراها" و "مرساها" في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجازَ ذلك ولَجَعَلْتَها في موضع نصبٍ على الحال من اسم اللَّه تعالى" قلت: وقد طَوَّل مكي - رحمه اللَّه تعالى - كلامه في هذه المسألة، وقال في آخرها: "وهذه المسألةُ يُوقف فيها على جميع ما كان في الكلام والقرآن مِنْ نظيرها، وذلك لمَنْ فَهمها حقَّ فَهْما وتدبَّرها حَقَّ تدبُّرها فهي من غُرَر المسائِل المُشْكلة".
قوله: {وَهِيَ تَجْرِي} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ أخبر اللَّه تعالى عن السفينة بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في "بسم اللَّه" أي: جريانها استقرَّ بسم اللَّه حالَ كونشها جارية. والثالث: أنها حالٌ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تضمَّنته جملةٌ دَلَّ عليها سياقُ الكلام. قال الزمخشري: "فإن قلت: بِمَ اتصل قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه قوله {ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} كأنه قيل: فربكوا فيها يقولون: بسم اللَّه وهي تجري بهم.
وقوله: {بِهِمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بـ"تَجْري". والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فَسَّره الزمخشري بقوله: "أي: تجري وهم فيها".
والرُّسُوُّ: الثبات والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأَرْسَيْتُه أنا. قال:
2661 - فَصَبَرْتُ نَفْساً عند ذلك حُرَّةً * تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ
أي: تثبت وتستقرُّ عند تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
* { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ }
(8/293)
---(1/3333)
قوله تعالى: {كَالْجِبَالِ}: صفةٌ لـ"مَوْج". قوله: "نوحٌ ابنَه" الجمهورُ على كسر تنوين "نوح" لالتقاء الساكنين. وقرأ وكيع / بضمِّه اتباعاً لحركة الإِعراب. واسْتَرْذَلَ أبو حاتم هذه القراءة وقال: "هي لغة سوء لا تُعرف".
وقرأ العامة "ابنة" بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابن عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: "هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد:
2662 - وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ * إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها
وبعضُهم لا يَخُصُّه بها. وقال ابن عطية: إنها لغةٌ لأَزْد السراة ومنه قوله:
2663 - .................. * ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ
وقال بعضهم: "هي لغة عُقَيل وبني كلاب".
وقرأ السدي: "ابناهْ" بألف وهاء السكت. قال ابن جني: "وهو على النداء". وقال أبو البقاء: "ابناه: على التَرَثِّي وليس بندبة، لأنَّ الندبةَ لا تكون بالهمزة" وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عَنَى همزةَ النداءِ فلا نسلِّم أن المقدَّرَ مِنْ حروف النداء هو الهمزة، لأنَّ النحاةَ نصُّوا على أنه لا يُضْمر في حروف النداء إلا "يا" لأنها أمُّ الباب. وقوله: "الترثّي" هو قريب في المعنى من الندبة. وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز حَذْفُ النداء من المندوب وهذا شبيه به.
وقرأ عليٌّ عليه السلام: "ابنها" إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه "ليس من أهلك". وقوله: "ابني" و "من أهلي" لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن وجماعة.
وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير: "ابْنَهَ" بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلَها، إلا أنه حَذَفَ ألف "ها" مُجْتزئاً عنها بالفتحة، كما تُحذف الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة. قال ابن عطية: "هي لغة" وأنشد:
2664 - أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها * أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيب
(8/294)
---(1/3334)
يريد: "تبيعَها" فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: - أنشده ابن الأعرابي على ذلك -.
2665 - فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني * بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني
يريد: يا لَهْفا، فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة يا غلامَ في يا غلاما. قلت: وسيأتي في نحو: "يا أبتَ" بالفتح: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدم لنا خلاف في نحو: يابنَ أمَّ ويابنَ عَمَّ: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة مجتزَأٌ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظاهرَ عدمُ اقتياسه. وقد خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ، وفيه نظرٌ.
قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} جملةٌ في موضع نصب على الحال، وصاحبُها هو "ابنه"، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول. والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان العزلة. وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء: "ولم أعلم أحداً قرأ بالفتح". قلت: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفَه، فكيف يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟
وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء "اركب" قبل ميم "معنا" بخلافٍ عنهم، والباقون بالإِدغام، وقرأ عاصم هنا "يا بنيَّ" بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السورة فإن حفصاً عنه فَعَلَ ذلك، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ} فإنه سكَّه وصلاً ووقفاً، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قولُه: {يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ} اختُلِف عنه، فروى عنه البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السكون كالأول. هذا ضبطُ القراءة.
(8/295)
---(1/3335)
وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل: أصلها: يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ تخفيفاً، اجْتَزَأ عنها بالفتحة، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة. وقيل بل حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ "اركب" وهذا تعليلٌ فاسدٌ جداً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان. وكأن هذا المُعَلِّلَ لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان، وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنِكِرْه.
وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيح، وإمَّا لالتقاءِ الساكنين، وقد تقدَّم فسادُه. وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ الثِّقَل مع مطلق الحركة، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات، ولا يقال: فلِم / وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الآخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات: الأولى للتصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصال أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا الموضعِ في لام "ابن" ما هي؟، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها، وهي التي طَرَأَ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها.
* { قَالَ سَآوِيا إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }
(8/296)
---(1/3336)
قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ}: فيه أقوالٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي "رَحِم" ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالى، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو "مَنْ" حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم. الثاني: أن يكونَ المرادُ بـ"مَنْ رَحِم" هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ. الثالث: أن عاصماً بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: ماء دافق، أي: مفدوق، وأنشدوا:
2666 - بطيءُ القيام رخيمُ الكلا * مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا
أي مفتوناً، و "مَنْ" مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمِْ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم. الرابع: أن يكون "عاصم" هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم.
وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة".
وأمَّا خبرُ "لا" فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي: "ويجوز أن يكونَ "اليوم" خبراً فيتعلَّق قالاستقرار، وبه يتعلق {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال: "فأمَّا خبرُ "لا" فلا يجوز أن يكونَ "اليوم"؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} و "اليوم" معزلُ {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
(8/297)
---(1/3337)
وأمَّا "اليومَ"و {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبراً، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً. ويجوز في "اليوم" أن يتعلَّقَ بنفس {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لكونِه بمعنى الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون "اليوم" نعتاً لـ"عاصم"، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً عن الجثث.
وقُرىء {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} مبنياً للمفعول، وهي مقوية لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ "مَنْ رَحِم" في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون "اليوم" ولا {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} متعلِّقين بـ"عاصم" وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مطوَّلاً أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ "لا" معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً.
* { وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {ابْلَعِي}: البَلْع معروفٌ. والفعل منه مكسورُ العين ومفتوحُها: بَلعِ وبَلَع حكاهما الكسائي والفراء. والإِقلاع: الإِمساك، ومنه "أَقْلَعَت الحُمَّى". وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تركه وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان وفعله لازم ومتعدٍ، فمِن اللازمِ قولُه تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ}، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا متعدٍّ أيضاً وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنه لا يُبنى للمفعول مِنْ غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالمَوْصل. وقيل: بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ عمرو بن نفيل: /
2667 - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به * وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
(8/298)
---(1/3338)
ولا أدري ما في ذلك مِن الدلالة على أنه عامٌّ في كل جبل. وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيف "الجُوْدِيْ". قال ابن عطية: "وهما لغتان". والصواب أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النسب، وإن كان لا يجوزُ ذلك في كلامهم الفاشي.
قوله {بُعْداً} منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر، أي: وقيل: ابعدوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يُقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال:
2668 - يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه * ولا بَعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ
واللام إمَّا [أن] تتعلق بفعل محذوف، ويكون على سبيل البيان كما تقدَّم في نحو "سَقْياً لك ورَعْياً"، وإمَّا أن تتعلقٌ بقيل، أي: لأجلهم هذا القولَ.
قال الزمخشري: "ومجيءُ إخبارِه على الفعلِ المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعلِ قادرٍ وتكوينِ مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعلَ هذه الأفعال فاعل واحد لا يُشارَكُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يَقْضي ذلك الأمر الهائل إلا هو، ولا أَنْ تَسْتوي السفينة على الجوديِّ وتستقر عليه إلا بتسويته وإقرارِه، ولِما ذَكَرْنا من المعاني والنُّكَت استفصح علماءُ البيان هذه الآيةَ ورقصوا لها رؤوسَهم لا لتجانُس الكلمتين وهما قوله: ابلعي وأقلعي، وذلك وإن كان الكلام لا يخلو مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ". يعني أن بعض الناس عَدَّ من فصاحة الآية التجانسَ فقال: إن هذا ليس بطائل بالنسبة إلى ما ذكر من المعانين ولعَمرْي لقد صَدَق.
ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا "وأكثرُه خَطابة".
(8/299)
---(1/3339)
وقول الزمخشري "ورقَصوا لها رؤوسهم" يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من القرآن ليرزوا قواهم في الفصاحة، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم - قيل هو ابن المقفَّع- المصحف فَوَجَد هذه الآية، فكعَّ لها وأَذْعَنَ، وقال: "لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا".
* { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ }
قوله تعالى: {فَقَالَ}: عطفٌ على "نادى" قال الزمخشري "فإن قلت: وإذا كان النداءُ هو قوله "رَبّ" فكيف عطلف "فقال ربِّ" على "نادى" بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداءُ نفسه لجاء - كما جاء في قوله {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} - "قار ربِّ" بغير فاء.
* { قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيا أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
(8/300)
---(1/3340)
قوله تعالى: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: قرأ الكسائي "عَمِل" فعلاً ماضياً، و "غيرَ" نصباً، والباقون "عَمَلٌ" بفتح الميمِ وتنوينهِ على أنه اسمٌ، و "غيرُ" بالرفع. فقراءةُ الكسائي: الضمير فيها يتعيَّنُ عَوْدُه على ابن نوح، وفاعل "عمل" ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و "غيرَ" مفعول به. ويجوز أن يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوف، تقديرُه: عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه، أظهرها: أنه عائدٌ على ابنِ نوح، ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في "رجل عدل". والثاني: أنه يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله "ونادى"، أي: نداؤك وسؤالُك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطرٌ عظيم، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياء، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟ ولما حكاه أبو القاسم قال: "وليس بذاك" وقلد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد اللَّه بن مسعود "إنه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما ليس لك به علمٌ" وهذا مخالِفٌ للسَّواد.
(8/301)
---(1/3341)
الثالث: أنه يعودُ على ركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله "اركب معنا". الرابع: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين، أي: إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في الإِخبارِ بالمصدر [إلى] تأويلٍ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونَك مع الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح، بخلاف ما تقدّضم فإنه مِنْ قول اللَّه تعالى فقط، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه تعالى. قال الزمخشري: "فإن قلت: هلا قيل: إنه عملٌ فاسِدٌ. قلت: لَمَّا نفاه عن أهله نَفَى عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك.
قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِي} قرأ نافع وابن عامر "فلا تسألَنِّ" بتشديدِ النون مكسورةً من غير ياء. وابنُ كثير بتشديدها / مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً [لأبي عمرو]، ودون ياء في [الحالين] للكوفيين. وفي الكهف {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأمَّا نافعٌ وابن عامر فكقراءتهما هنا، ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياء وحَذْفها، وإنما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دونَ التي في الكهف؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم، فكانت قراءتُه بفتحِ النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياءَ ثابتةٌ في الرسم فلا يُوافِق فيه فَتْحُها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوتِ الياء في الكهف.
(8/302)
---(1/3342)
فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد. وابنُ كثير لم يَجْعل في هود الفعلَ متصلاً بياء المتكلم، والباقون جعلوه، فَلَزِمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ "سأل" يتعدى لاثنين أوَّلُهما ياء المتكلم، والثاني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
قوله {أَن تَكُونَ} على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجلِ أن، وقوله {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يجوزُ في "به" أن يتعلَّق بـ"عِلْم". قال الفارسي: "يوكونُ مثلَ قوله:
2669 - كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا
ويجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به "لك". والباء بمعنى "فيط، أي: ما ليس لك به عِلْمٌ. وفيه نظرٌ.
* { قَالَ رَبِّ إِنِّيا أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيا أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ }
قوله تعالى: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ}: لم تَمْنَعْ "لا" من عمل الجازم كما لم تمنعْ مِنْ عمل الجارِّ في نحو: "جِئْتُ بلا زادٍ". قال أبو البقاء: "لأنها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملة في النفي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك "ما" فإنها تنفي ما في الحال، فلذلك لم يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ "إنْ" عليها".
* { قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {قِيلَ يانُوحُ}: الخلافُ المتقدم في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} وشبهِه عائدُ هنا، أي: في وكونِ القائمِ مقامَ الفاعل الجملة المحطيةَ أو ضميرَ مصدرِ الفعل.
قوله: {بِسَلاَمٍ} حال من فاعل "اهبط"، أي: ملتسباً بسلام. و "منا" صفةٌ لـ"سلام" فيتعلَّق بمحذوف أو هو متعلقٌ بنفسِ سلام، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، وكذلك "عليك" يجوز أن يكونَ صفةً لبركات أو متعلقاً بها.
(8/303)
---(1/3343)
قوله: {مِّمَّن مَّعَكَ} يجوزُ في "مَنْ" أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر، ويجوزُ أن تكونَ "مِنْ" لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعاتٍ. وقُرىء "اهبُط" بضم الباء، وقد تقدم أول البقرة. وقرأ الكسائي - فيما نُقِل عنه - "وبركة" بالتوحيد.
قوله: {أُمَمٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ، و "سنمتِّعهم" خبره، وفي مسوِّغ الابتداءِ وجهان، أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم "السَّمْن مَنَوان بدرهم" فمنوان مبتدأٌ وُصِف بـ"منه" تقديراً. والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: "الناسُ رجلان: رجلٌ أَهَنْتُ، وآخَرُ أكرمتُ" ومنه قولُ امرىء القيس:
2670 - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفَتْ له * بشقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّل
ويجوز أن يكونَ مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضمير المستتر في "اهبط" وأغنى الصلُ عن التأكيد بالضمير المنفصل، قاله أبو البقاء قال الشيخ: "وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله: "ومَنْ آمنَ" ولم يكونوا كفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورِين بالهبوط، إلا إنْ قُدِّر أنَّ مِن المؤمنين مَنْ يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحال التي يَؤُولون إليها فيمكن على بُعْدٍ". قلت: وقد تقدَّم أنَّ مثلَ ذلك لا يجوز، في قول {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} لأمرٍ صناعي، و "سنمتِّعُهم" على هذا صفةٌ لـ"أمم"، والواوُ يجوز أن تكونَ للحال. قال الأخفش: "كما تقول: "كلَّمْتُ زيداً وعمروٌ جالس" ويجوز أن تكونَ لمجردِ النَّسَق".
* { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
(8/304)
---(1/3344)
وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ}: كقوله: {ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ} في آل عمران. قوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ} يجوز في هذه الجملةُ أن تكونَ حالاً من الكاف في "إليك"، وأن تكون حالاً من المفعول في "نُوحيها" وأن تكونَ خبراً بعد خبر.
* { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ }
قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}: معطوفان على قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ}: مرفوعٌ على مرفوع، ومجرور على مجرور، كقولك: "ذرب زيد عمراً وبكر خالداً"، وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرف العطف والمعطوف بالجارِّ/ والمجرور نحو: "ضربت زيداً وفي السوق عمراً" فيجيءُ الخلاف المشهور. وقيل: بل هو على إضمارِ فعلٍ، أي: وأَرْسَلْنا هوداً، وهذا أوفق الفصل. و "هوداً" بدلٌ أو عطفٌ بيان لأخيهم.
وقرأ ابن محيصن "يا قومُ" بضم الميم، وهي لغةٌ للعرب يَبْنونَ المضافَ للياء على الضم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُم} بضمِّ الباء، ولا يجوزُ أن يكونَ غيرَ مضاف للياء لما سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه.
وقوله: {مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ} قد ذُكر في الأعراف ما يتعلق به قراءةً وإعراباً.
* { ياقَوْمِ لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِيا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {فَطَرَنِيا}: قرأ نافع والبزي بفتح الياء، وأبو عمرو وقنبل بإساكنها.
* { وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوااْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }
(8/305)
---(1/3345)
قوله تعالى: {مِّدْرَاراً}: منصوبٌ على الحال، ولم يؤنِّثْه وإن كانَ مِنْ مؤنث لثلاثةِ أوجه، أحدُهما: أن المراد بالسماء السحاب فذكَّر على المعنى. والثاني: أن مِفْعالاً فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور وفعيل. الثالث: أن الهاء حُذِفَتْ مِنْ مِفْعال على طريق النَّسَب قاله مكي، وقد تقدَّم إيضاحُه في الأنعام.
قوله: {إِلَى قُوَّتِكُمْ} يجوز أن يتعلَّقَ بـ"يَزِدْكم" على التضمين، أي: يُضِف إلى قوتكم قوةً أخرى، أو يُجعل الجار والمجرور صفةً لـ"قوة" فيتعلَّق بمحذوف. وقدَّره أبو البقاء "مضافةً إلى قوتكم" وهذا يأباه النحاة لأنهم لا يقدِّرون إلا الكونَ المطلقَ في مثله، أو تُجْعل "إلى" بمعنى مع أي: مع قوتكم كقولِه تعالى: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ}
* { قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيا آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {بِبَيِّنَةٍ}: يجوز أن تكونَ الباء للتعدية، فيتعلَّق بالفعل قبلها، أي: ما أظهرْتَ لنا بينةً قط. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، إذ التقدير: مستقراً أو ملتسباً ببينة.
قوله: {عَن قَوْلِكَ} حالٌ من الضمير في "تاركي"، أي: وما نترك آلهَتنا صادرين عن قولك. ويجوز أن تكون "عن" للتعليل، كهي في قولِه تعالى {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ}، أي: إلا لأجل موعدة. والمعنى هنا: بتاركي آلهتِنا لقولك، فيتعلَّق بتاركي. وقد أشار إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختارَ الأول، ولم يذكر الزمخشري غيره.
* { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُواءٍ قَالَ إِنِّيا أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوااْ أَنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
(8/306)
---(1/3346)
قوله تعالى: {إِلاَّ اعْتَرَاكَ}: الظاهرُ أن ما بعد "إلا" مفعول بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقول إلا هذا اللفظَ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك: "ما قلت إلا زيد قائم". وقال أبو البقاء: "الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوف، التقدير: إن نقول إلا قولاً هو اعتراك، ويجوز أن يكونَ موضعُها نصباً، أي: ما نذكر إلا هذا القول" وهذا غير مُرْضٍ؛ لأن الحكاية بالقول معنى ظاهر لا يَحْتاج إلى تأويل، ولا إلى تضمينِ القولِ بالذَّكْر.
وقال الزمخشري: "اعتراك" مفعول "نقول" و "إلا" لغوٌ، أي: ما نقول إلا قولنا "اعتراك". انتهى. يعني بقولَه "لَغُو" أنه استثناءٌ مفرغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر محذوف، ذلك المصدرُ منصوبٌ بـ"نقول" هذا الظاهر. ويُقال: اعتراه بكذا يَعْتريه، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه، والأصل: اعْتَرَوَ من العَرَوْ، مثل: اغتَرَوا مِن الغَزْو، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلبت ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر.
قوله: {أَنِّي بَرِياءٌ} يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ "أُشْهِدُ" يطلبُه، و "اشْهدوا" يطلبه أيضاً، والتقدير: أُشْهد اللَّه على انه بريء، واشهدوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من إعمال الثاني، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم.
و "مِمَّا تُشْركون" يجوز أن تكونَ "ما" مصدريةً، أي: مِنْ إشراككم آلهةً مِنْ دونه، أو بمعنى الذي، أي: مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه، أي أنتم الذين تجعلونها شركاءَ.
* { مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }
وقوله تعالى: {جَمِيعاً}: حالٌ من فاعل "فكيدون". وأثبت سائرُ القراء يا ء"فكيدوني" في الحالين، وحَذَفوها في المرسلات.
(8/307)
---(1/3347)
* { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
والناصِيَةُ مَنْبِتُ الشَّعْر في مُقَدَّم الرأس، ويُسَمَّى الشعرُ النَّابِتُ أيضاً "ناصِية" باسم محلِّه، ونَصَوْتُ الرجل: أَخَذْتُ بناصِيته، فلامُها واو، ويقال: ناصاة بقَلْبِ يائها ألفاً، وفي الأَخْذِ بالناصية عبارةٌ عن الغَلَبة والتسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانوا إذا مَنُّوا على أسيرٍ جَزُّوا ناصيتَه.
* { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}: أي: تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءَيْن، ولا يجوز أن يكونَ ماضياً كقوله: "أَبْلَغْتكم"، ولا يجوزُ أن يُدَّعَى فيه الالتفات، إذ هو رَكاكَةٌ في التركيب وقد جَوَّزَ ذلك ابنُ عطية فقال: "ويُحْتمل أن يكون "تولَّوا" ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غَيْبة إلى خطاب". وقلت: ويجوزُ أن يكونَ ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخرَ غيرِ الالتفات: وهو أن يكونَ على إضمار القول، أي: فقل لهم: قد أبلغْتُكم. ويترجَّح كونُه ماضياً بقراءة عيسى والثقفي والأعرج "فإن تُوَلُّوا" بضم التاء واللام، مضارعَ وَلَّى بضم التاءِ واللام مضارعَ وَلي، والأصل تُوَلِّيُوا فأُعِيلَّ.
قال الزمخشري: "فإن قلتَ: الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ، وكنتم محجوجين بأنَّ ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب.
(8/308)
---(1/3348)
قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ} العامَّةُ على رفعِه استئنافاً. وقال أبو البقاء "هو معطوفٌ على الجواب بالفاء". وقرأ عبداللَّه بن مسعود بتسكينه، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات: والثاني: أن يكونَ مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاء، إذ مَحَلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قولِه: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} وقد تقدَّت تحقيقُه، إلا أن القراءتين ثَمَّ في المتواتر.
قوله: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} العامَّة على النون، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم، وابنُ مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ "يستخلف" جزماً، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعين، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في "تَضُرُّونه" جَوَّز الوجهين في "يَسْتخلف".
و "شيئاً" مصدرٌ، أي: شيئاً من الضرر.
* { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوااْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ }
قوله تعالى: {جَحَدُواْ}: جملةٌ مستأنفة سِيقت للإِخبار عنهم بذلك، وليسَتْ حالاً مِمَّا قبلها، و "جَحَد" يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّن معنى كفر، فيُعدَّى بحرفه، كما ضَمَّن "كفر" معنى "جحد" فتعدى بنفسه في قوله بعد ذلك في قوله: {كَفَرُواْ رَبَّهُمْ}. وقيل: إنَّ "كفر" كـ"شكر" في تعدِّيه بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى.
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد: / الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ قولهم "عَنَد يَعْنِد" إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب. قيل: ومنه "عندي" الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانِب، من قولك: عندي كذا، أي في جانبي. وعن أبي عبيد: العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف.
(8/309)
---(1/3349)
* { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوااْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }
قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ}: كالذي قبله. والعامَّة على مَنْع "ثمود" الصرفَ هنا لعلتين: وهما العلمية والتأنيث، ذهبوا به مذهبَ القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صرفوه، ذهبا به مذهب الحيّ. وسيأتي بيان الخلاف في غير هذا الموضع.
قوله: {مِّنَ الأَرْضِ}: يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ابتداء إنشائكم منها: إمَّا إنشاءُ أصلكم وهو آدم، أو لأن كلَّ واحد خُلق مِنْ تُرْبته، أو لأن غذاءَهم وسببَ حياتهم من الأرض. وقيل: "مِن" بمعنى "في" ولا حاجة إليه.
* { قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
قوله تعالى: {وَإِنَّنَا}: هذا هو الأصل، ويجوز "وإنَّا" بنونٍ واحدة مشددة كما في السورة الأخرى. وينبغي أن يكون المحذوفُ النونَ الثانية من "إنَّ" لأنه قد عُهِد حَذْفُها دون اجتماعِها من "نا" فَحَذْفُها مع "نا" أولى، وأيضاً فإنَّ حَذْف بعضِ الأسماء ليس بسهلٍ. وقال الفراء: "مَنْ قال "إننا" أَخْرج الحرفَ على أًله؛ لأنَّ كتابةَ المتكلمين "نا" فاجتمع ثلاثُ نونات، ومَنْ قال: "إنّضا" استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثة، وأبقى الأوَّلَيْن". انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ هذا الموضوع.
قوله: {مُرِيبٍ} اسم فاعل مِنْ أراب، و "أراب" يجوز أن يكونَ متعدِّياً مِنْ "أرابه"، أي: أوقعه في الريبة أو قاصراً مِنْ "أراب الرجلُ"، أي: صار ذا ريبة. ووُصِف الشكَّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
(8/310)
---(1/3350)
* { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ}: إلى آخره: قد تقدَّم نظيره، والمفعول الثاني هنا محذوفٌ تقديره: أأَعْصيه، ويدلُّ عليه "إن عصيته". وقال ابن عطية: "هي مِنْ رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْنِ لـ"أرأيتم". قال الشيخ: "والذي تقرَّر أنَّ "أرأيت" ضُمِّن معنى أخبرْني، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولَيْ علمت وأخواتها.
قوله: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} الظاهرُ أنَّ "غيرَ" مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني. قال أبو البقاء: "الأقوى هنا أن تكون "غير" استثناءً في المعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ لـ"تزيدونني"، أي: فما تزيدونني إلا تخسيراً". ويجوز أن تكون "غير" صفةً لمفعولٍ محذوف، أي: شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التفعيل هنا النسبةُ، والمعنى: غيرَ أن أُخْسِرَكم، أي: أَنْسبكم إلى التخسير، قاله الزمخشري. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قاله ابن عباس.
* { وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيا أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ }
قوله تعالى: {آيَةً}: نصب على الحال بمعنى علامة، والناصب لها: إمَّا ها التنبيه أو اسمُ الإشارة؛ لِما تضمَّناه من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.
(8/311)
---(1/3351)
قوله: {لَكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من "آيةٍ"؛ لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً لها، فلما قُدِّم انتصبَ حالاً. قال الزمخشري: "فإن قلت بم تتعلَّقُ "لكم"؟ قلت: "بآية" حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحال". قال الشيخ: "وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق "لكم" بـ"آية" كان معمولاً لـ"آية"، وإذا كان معمولاً أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف". قلت: ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟
وقرأ فرقة: "تأكلُ" بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحال.
* { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }
قوله تعالى: {فِي دَارِكُمْ}: قيل: هو جمعُ "دارَة" كساحة وساح وسُوح، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
2671 - له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ * وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي
قوله: {مَكْذُوبٍ} يجوز أن يكونَ مصدراً على زِنة مفعول، وقد جاء منه أُلَيْفاظ نحو: "المَجْلود والمَعْقول والميسور والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذ تأويلان، أحدُهما: غيرُ مكذوبٍ فيه، ثم حُذف حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعاً مستتراً في الصفةِ، ومثلُه {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وقوله:
2672 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً * قليللٌ سوى الطَّعْنِ النّشهالِ نوافلُهْ
والثاني: أنه جُعل هو نفسُه غيرَ مكذوب، لأنه قد وُفِّي به فقد صُدِّق.
* { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ }
(8/312)
---(1/3352)
قوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: ونَجَّيْناهم مِنْ / خزي. وقال الزمخشري: "فإن قلت: علام عُطِف؟ قلت: على "نَجَّيْنا" لأنَّ تقديرَه: ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، أي: وكانت التنجيةُ مِنْ خزي: وقال غيره: "إنه متعلقٌ بـ"نَجَّيْنا" الأول". وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش، لأن زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة.
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم "يومئذ" على أنها لإِضافته إلى غير متمكن كقوله:
2673 - على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا * فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع
وقرأ الباقون بخفض الميم. وكذلك الخلافُ جارٍ في {سَأَلَ سَآئِلٌ} وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين "خزي" و "يومئذ" نصب على الظرف بالخزي.
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين "فزع" ونصب "يومئذ" به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن من قبل "يومئذ" أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و "إذ" مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه: إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري: "ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. قال الشيخ: "وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة". قلت: قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
* { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ}: حُذِفت تاءُ التأنيث: إما لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصل بالمفعول، أو لأنَّ الصيحةَ بمعنى الصياح، والصَّيْحة: فَعْلة تدل على المَرَّة من الصياح، وهي الصوتُ الشديد: صاح يصيح صِياحاً، أي: صوَّت بقوة.
(8/313)
---(1/3353)
* { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ }
وقرأ حمزة وحفص: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} هنا، وفي الفرقان: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ}، وفي العنكبوت: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم}، وفي النجم: {وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى} جميعُ ذلك بمنعِ الصرفِ، وافقهم أبو بكر على الذي في النجم.
وقوله: {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه صَرَفَه. وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسماً للقبيلة، ومَنْ صَرَف جعله اسماً للحيّ، وأنشد على المنع:
2674 - ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ * بآلِ ثمودَ منك عذاباً
وأنشد على الصرف:
2675 - دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه * بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورة الأعراف.
* { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }
قوله تعالى: {قَالُواْ سَلاَماً}: في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعول به، ثم هو محتملٌ لأمرين، أحدهما: أن يراد قالوا هذا اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنه يتضمَّن معنى الكلام. والثاني: أنه أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدم ذلك في نحو قولِه تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ}. وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصب بالقول، تقديرُه: قالوا: سَلَّمْنا سلاماً، وهو من باب ما ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجبُ الإِضمار.
قوله: {قَالَ سَلاَمٌ} في رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي:أمري أو قولي سلام. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضعِ أن الرفعَ أدلُّ على الثبوت من النصب، والجملة بأسرها - وإن كان أحدُ جُزْأيها محذوفاً - في محل نصب بالقول كقوله:
(8/314)
---(1/3354)
2676 - إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامةٍ * ........................
وقرأ الأخوان: "قال سِلْم" هنا وفي سورة الذاريات بكسر السين وسكون اللام. ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف فقيل: هما لغتان كحِرْم وحَرام وحِلٌّ وحَلال، وأنشد:
2677 - مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ * كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ
يريد: سلام، بدليل: فسلَّمت. وقيل: "السِلْم" بالكسر ضد احرب، وناسَب ذلك لأنه نَكِرَهم فقال: أنا مسالمكم غيرُ محارِب لكم
قوله: {فَمَا لَبِثَ} يجوزُ في "ما" هذه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها نافيةٌ، وفي فاعل "لَبث" حينئذ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ إبراهيم عليه السلام، أي: فما لبث إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّروه بالباء وبـ"عن" وبـ"في"، أي: فما تأخر في أَنْ، أو بأن، أو عن أن. والثاني: أن الفاعل قوله: "أن جاء"، والتقدير: فلما لبث، أي: ما أبطأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين.
وثاني الأوجه: أنها مصدريةٌ، وثالثها: أنها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرُه على حَذْف مضاف تقديره: فلُبْثُه - أو الذي لَبِثه - قَدْرَ مجيئه.
والحَنيذ: المَشْويُّ بالرصْف في أخدود. حَنَذْتُ الشاةَ أَحْنِذُها حَنْزاً فهي حَنيذ، أي محنوذة. وقيل: حنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شوطاً أو شوطين وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليَعْرَق.
* { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ }
قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ}: أي: أنكرهم، فهما بمعنى وأنشدوا:
2678 - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ * من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلعا
(8/315)
---(1/3355)
وفرَّق بعضهم بينهما فقال: / الثلاثي فيما يُرى بالبصر، والرباعي فما لا يُرى من المعاني، وجعل البيتَ من ذلك، فإنها أَنْكَرَتْ مودَته وهي من المعاني التي لا ترى، ونَكِرَتْ شيبتَه وصَلَعه، وهما يُبْصَران، ومنه قولُ أبي ذؤيب:
2679 - فَنَكِرْنَه فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ به * هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ جُرْشُعُ
والإِيجاس: حديث النفس، وأصلُه من الدخول كأن الخوف داخله.
وقال الأخفش: "خامَرَ قبله". وقال الفرا: "استشعر وأحسَّ". والوجيس: ما يَعْتري النفس أوائل الفزع، ووَجِسَ في نفسه كذا أي: خَطَر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجوساً ووَجيساً، ويَوْجَس ويَجِس بمعنى يسمع، وأنشدوا،
2680 - وصادقتا سَمْعِ التوجُّسِ للسُّرى * لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لصوتٍ مُنَدَّد
فخيفةً مفعول به أي: أحسَّ خيفة أو أضمر خيفة.
* { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }
قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ}: في محلِّ نصب على الحا من مرفوع "أُرْسِلْنا". وقال أبو البقاء: "من ضمير الفاعل في "أرسلنا" وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه لا يُطْلَقُ عليه فاعلٌ على المشهور، وعلى الجملة فَجَعْلُها حالاً غيرُ واضح بل هي استئنافُ إخبار، ويجوز جَعْلُها حالاً من فاعل "قالوا" أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته.
قوله: {فَضَحِكَتْ} العامَّة على كسر الحاء، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها، وهي لغتان، يقال: ضَحِك وضَحَكَ. وقال المهدوي: "الفتح غير معروف". والجمهور على أن الضحك على بابه. واختلف أهلُ التفسير في سببه، وقيل: بمعنى حاضَتْ، ضحكت الأرنب: أي: حاضَتْ،، وأنكره أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء. وأنشد غيرهم على ذلك:
2681 - وضِحْكُ الأرانبِ فوق الصَّفا * كمثلِ دمِ الجَوْفِ يوم اللِّقا
وقال آخر:
(8/316)
---(1/3356)
2682 - وعهدي بسَلْمى ضاحكاً في لَبانةٍ * ولم يَعْدُ حُقَّاً ثَدْيُها أن يُحَمَّلا
أي: حائضاً. وضحِكت الكافورة: تَشَقَّقت. وضحكت الشجرة: سال صمغُها. وضَحِك الحوضُ: امتلأ وفاض. وظاهرُ كلام أبي البقاء أن ضَحَك بالفتح مختص بالحيض فإنه قال: "بمعنى حاضت، يقال: ضحَكت الأرنب بفتح الحاء".
قوله: {يَعْقُوبَ} قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها. فأمَّا لقراءةُ الأولى فاختلفوا فيها: هل الفتحةُ علامةُ نصب أو جر؟ والقائلون بأنها علامة نصب اختلفوا: فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله: "بإسحاق" قال الزمخشري: "كأنه قيل: ووهَبْنا له إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله:
2683 - ............ ليسوا مصلحين عشيرةً * ولا ناعِبٍ ......................
يعني أنه عطف على التوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر "ليس" فجرَّ، ولكنه لا ينقاس. وقيل: هو منصوبٌ بفعلٍ مقدر تقديرُه: ووهبْنا يعقوب، وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة. ورجَّح الفارسيُّ هذا الوجه. وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محل "بإسحاق" لأن موضعَه نصب كقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفاً على "برؤوسكم". والفرق بين هذا والوجه الأول: أن الأولَ ضمَّن الفعل معنى: "وَهَبْنا" توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم.
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على "بإسحاق" والمعنى: أنها بُشِّرت بهما. وفي هذا الوجه والذي قبله بحثُ: وهو الفصلُ بالظرف بين حرف العطف والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النساء فعليك بالالتفات إليه.
ونسب مكي الخفضَ للكسائي ثم قال: "وهو ضعيف إلا بإعادة الخافض، لأنك فَصَلْت بين الجار والمجرور بالظرف". قوله: "بإعادة الخافض" ليس ذلك لازماً، إذ لو قُدِّم ولم يُفْصَل لم يُلْتزم الإِتيان به.
(8/317)
---(1/3357)
وأمَّا قراءةُ الرفع ففيها أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق فقدَّره الزمخشري "مولود أو موجود" وقدّره غيه بكائن. ولمَّا حكى النحاس هذا قال: "والجملة حالٌ داخلة في البشارة أي: فَبَشَّرْناها بإسحاق متصلاً به يعقوبُ". والثاني: أنه مرفوع على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء على رَأْي الأخفش. والثالث: أن يرتفع بإضمار فعل أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مَدْخَلَ له في البشارة. والرابع: أنه مرفوعٌ على القطع يَعْنُون الاستئناف، وهو راجع لأحد ما تقدَّم مِنْ كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعده، أو بفعل مقدر.
* { قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }
قوله تعالى: {يَاوَيْلَتَى}: الظاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم / ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن "يا ويلتي" بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.
قوله: {وَأَنَاْ عَجُوزٌ} الجملتان في محل نصب على الحال من فاعل "أَلِدُ" أي: كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟
والجمهورُ على نصب "شيخاً" وفيه وجهان، المشهور: أنه حال والعامل فيه: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارة، وإمَّا كلاهما. والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند مَنْ لا يجهل الخبرَ، أمَّا مَنْ جهله فهي غير لازمة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود "شيخٌ" بالرفع، وذكروا فيه أوجهاً: خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر "هذا" و "بعلي" بيان أو بدل، أو "شيخ" خبره، والجملة خبرُ الأول، أو "شيخ" خبرُ مبتدأ مضمر أي هو شيخ.
والشيخ يقابله عجوز، ويقال شَيْخة قليلاً، كقوله:
2684 - وتَضْحك مني شَيْخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ * ........................
(8/318)
---(1/3358)
وله جموعٌ كثيرة، فالرصيح منها: أَشْياخ وشُيوخ وشِيخان، وشِيْخَة عند مَنْ يَرى أن فِعْلَة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمة وفِتْيَة. ومن أسماءِ جَمْعه مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاء.
* { قَالُوااْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ }
قوله تعالى: {أَهْلَ الْبَيْتِ}: في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منادى. والثاني: انه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النصبين فرق: وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المذمومَ لفظٌ يتضمن بوضعه الذمَّ.
والمنصوبُ على الاختصاص لا يكون إلا لمدحٍ أو ذم، لكن لفظَه لا يتضمَّن بوَضْعِه ولا الذمَّ كقوله:
2685 - بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ
كذا قاله الشيخ، واستند إلى أن سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظر.
والمجيد: فَعيل، مثالُ مبالغة مِنْ مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجادة، ويقال: مَجْد كشَرُف وأصلُه الرِّفْعَة. وقيل: من مَجَدَتِ الإِبلُ تَمْجُد مَجادة ومَجْداً أي: شَبِعت، وأنشدوا لأبي حية النميري:
2686 - تزيدُ على صواحبِها وليسَتْ * بماجدةِ الطعام ولا الشراب
أي: ليسَتْ بكثيرةِ الطعامِ ولا الشراب. وقيل: مَجَد الشيءُ: أي حَسُنَتْ أوصافُه. وقال الليث: "أمجد فلانٌ عطاءَه ومَجَّده أي: كثَّره".
* { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ }
والرَّوْع: الفزع، قال الشاعر:
2687 - إذا أخَذَتْها هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ * بمَنْكِبِ مِقْدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال: راعَه يَرُوْعُه أي: أفزعه، قال عنترة:
2688 - ما راعني إلا حَمولةُ أهلِها * وسطَ الديار تَسِفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع: افتعل منه. قال النابغة:
2689 - فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبِ فباتَ له * طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدٍ
(8/319)
---(1/3359)
وأمَّا الرَّوْعُ - بالضم - فهي النفسُ لأنها محلُّ الرَّوْع، ففرَّقوا بين الحالِّ والمَحَلِّ. وفي الحديث: "إنَّ رُوْحَ القدس نفث في رُوْعي
" قوله: {وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى} عطف على "ذَهَب" وجوابُ "لَمَّا" على هذا محذوفٌ أي: فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فَطِن لمجادلتهم، وقوله: "يُجادلنا" على هذا جملةٌ مستأنفة، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يجادِلُنا، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل "أَقبل". وقيل: جوابها قوله: "يجادِلُنا" وأوقع المضارعَ موقعَ الماضي. وقيل: الجوابُ قولُه {يُجَادِلُنَا}، وهو الجوابُ والواوُ زائدةٌ. وقيل: "يجادلنا" حال من "إبراهيم"، وكذلك قولُه: "وجاءَتْه البشرى" و "قد" مقدرةٌ. ويجوز أن يكونَ "يجادِلُنا" حالاً من ضمير المفعول في "جاءَتْه". و "في قوم" أي: في شأنهم.
* { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }
قوله تعالى: و {أَوَّاهٌ}: فعَّال مِنْ أوَّهَ، وقد تقدم اشتقاقه.
* { يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }
قوله تعالى: {آتِيهِمْ عَذَابٌ}: يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً لـ"إنهم". ويجوز أن يكون "آتيهم" الخبر و "عذاب" المبتدأ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصف، ولتنكير "آتيهم" لأنَّ إضافتَه غيرُ محضة. ويجوز أن يكون "آتيهم" خبرَ "إنَّ" و "عذاب" فاعلٌ به، ويدل على ذلك قراءةُ عمرو بن هَرِم: "وإنهم أتاهم" بلفظ الفعل الماضي.
(8/320)
---(1/3360)
* { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِياءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلااءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }
قوله تعالى: {سِياءَ}: فعلٌ مبنيٌّ للمفعول. والقائمُ مقدمُ الفاعل ضميرُ لوط مِنْ قولِك "ساءني كذا" أي: حَصَل / لي سُوْءٌ. و "بهم" متعلقٌ به أي: بسببهم. و "ذَرْعاً" نصبٌ على التمييز، وهو في الأصل مصدر ذَرَعَ البعير يَذْرَع بيديه في سَيْره إذا سار على قَدْر خَطْوِه، اشتقاقاً من الذِّراع، ثم تُوُسِّع فيه فوُضِعَ مَوْضِعَ الطاقة والجهد فقيل: ضاق ذَرْعُه أي: طاقتُه قال:
2690 - .................. * فاقدِرْ بذَرْعِك وانظر أين تَنْسَلِكُ
وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال:
2691 - إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا * إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا
قيل: هو كنايةٌ عن ضِيق الصدر.
وقوله: {عَصِيبٌ} العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب: اليوم الشديد، الكثير الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال:
2692 - وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ * وقد سَلكوا في يومٍ عصيبِ
وعن أبي عُبَيْد: "سُمِّي عَصِيباً لأنه يعصب الناسَ بالشرِّ". والعَصَابَةُ: الجماعة من الناس سُمُّوا بذلك لإِحاطتهم إحاطةَ العَصابة.
قوله: {يُهْرَعُونَ} في محل نصب على الحال. والعامَّة على "يُهرعون" مبنياً للمفعول. والإِهراع: الإِسراع ويقال: وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز. وقال الهروي: هَرَع وأَهْرَعَ: اسْتَحَثَّ. وقرأ فرقة: "يَهْرعون" بفتح الياء مبنياً للفاعل مِنْ لغة "هَرَع".
(8/321)
---(1/3361)
قوله: {هَاؤُلااءِ بَنَاتِي} جملةٌ برأسها، و "هنَّ أطهرُ لكم" جملةٌ أخرى، ويجوز أن يكونَ "هؤلاء" مبتدأ، و "بناتي" بدلٌ أو عطفُ بيان، و "هنَّ"مبتدأ، و "أَطْهَرُ" خبره، والجملةُ خبر الأول. ويجوز أن يكونَ "هنَّ" فَصْلاً، و "أطهر" خبر: إمَّا لـ"هؤلاء"، وإمَّا لـ"بناتي"، والجملةُ خبر الأول.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي: "أطهرَ" بالنصب. وخُرِّجت على الحال. فقيل: "هؤلا" مبتدأ، و "بناتي هُنَّ" جملةٌ في محلِّ خبره، و "أطهر" حال، والعاملُ: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ. وقيل: "هنَّ" فَصْلٌ بين الحال وصاحبها، وجُعِل من ذلك قولُهم: "أكثر أكلي التفاحةَ هي نضيجةً". ومنه بعض النحويين، وخرَّج الآيةَ على أن "لكم" خبر "هن" فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور على أن "نضيجة" منصوبة بـ"كان" مضمرة.
قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}: الضيف في الأصل مصدرٌ، ثم أطلق على الطارق لميلانه إلى المُضيف، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يُثنَّى فيقال: ضَيْفان، ويُجْمع فيقال: أضايق وضُيوف كأبيات وبُيوت وضِيفان كحَوْض وحِيضان.
* { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ }
قوله تعالى: {مِنْ حَقٍّ}: يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و "مِنْ" مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله: {مَا نُرِيدُ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والعلم عرفانٌن فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوز أن تكونَ "ما" استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها.
* { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيا إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ }
(8/322)
---(1/3362)
قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ} جوابُها محذوف تقديره: لفعلتُ بكم وصنعْتُ كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} قوله: {أَوْ آوِيا} يجوز أن يكونَ معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أني آوي، قاله أبو البقاء والحوفي. ويجوز أن يكون معطوفاً على "قوة" لأنه منصوبٌ على الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ "أن" رُفع الفعل كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه. وقد تقدم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعرف "أو آويَ" بالنصب كقوله:
2693 - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ * وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما
وقولها:
2694 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني * أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف
ويجوز أن يكون عَطْفُ هذه الجملة الفعلية على مثلها إن قدَّرْتَ أنَّ "أنَّ" مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد "لو" عند المبرد، والتقدير: لو يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أو آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيَيْ المعنى؛ لأنها تَقلب المضارع إلى المضيِّ. وأمَّا على رأي سيبويه في كونِ أنَّ "أنَّ" في محل الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً. وقيل: "أو" بمعنى بل وهذا عند الكوفيين.
و "بكم" متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "قوة"، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة، ولا يجوز أن يتعلَّق بـ"قوة" لأنها مصدر.
والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره، ويُجمع على أركان وأَرْكُن قال:
2695 - وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ /
* { قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوااْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }
(8/323)
---(1/3363)
قوله تعالى: {فَأَسْرِ}: قرأ نافع وابن كثير: "فاسْرِ بأهلك" هنا وفي الحجر، وفي الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي}، وقوله: {أَنْ أَسْرِ} في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط دَرْجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان من لُغَتي هذا الفعل فإنه يُقال: سَرَى، ومنه {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}، وأَسْرى، ومنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قول أبي عبيد. وقيل: بل أَسْرى لأولِ الليل، وسَرَى لآخره، وهو قولُ الليث، وأمَّا سرا فمختص بالنهار، وليس مقلوباً مِنْ سَرى.
قوله: {بِأَهْلِكَ} يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للتعدية، وأن تكونَ للحال أي: مصاحباً لهم.وقوله: "بقِطْعٍ" حال من "أهلك" أي: مصاحبين لقِطْع، على أن المرادَ به الظلمة. وقيل: الباء بمعنى "في". والقِطْع هنا نصف الليل، لأنه قطعةٌ منه مساويةٌ لباقيه، وأنشدوا:
2696 - وانئحةٍ تَنُوْحُ بقِطْعِ ليلِ * على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد
وقد تقدَّم الكلامُ على القِطْع في يونس بأشبع من هذا.
قوله: إِلاَّ امْرَأَتَكَ} ابن كثير وأبو عمرو برفع "امرأتك" والباقون بنصبها. وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه. أمَّا قراءة الرقع ففيها وجهان، أشهرُهما عند المعربين: أنَّه على البدل من "أحد" وهو أحسن من النصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجَب. وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم نُهوا عن الالتفات إلا المرأة، فإنها لم تُنْهَ عنه، وهذا لا يجوزُ، ولو كان الكلامُ "ولا يلتفت" برفع "يلتفت" يعني على أنْ تكونَ "لا" نافيةً، فيكون الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت، لكان الاستثناء بالبدلية واضحاً، لكنه لم يقرأ برفع "يلتفت" أحد.
(8/324)
---(1/3364)
وقد استحسن ابنُ عطيةَ هذا الإِلزامَ من أبي عبيد، وقال: "إنه وارِدٌ على القول باستثناءِ المرأة من "أحد" سواءً رَفَعْتَ المرأة أو نَصَبْتها". قلت: وهذا صحيحٌ، فإن أبا عبيد لم يُرِد الرفعَ لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من "أحد"، وأبو عبيد يُخَرِّج النصبَ على الاستثناء من "بأهلك"، ولكنه يَلْزم من ذلك إبطالُ قراءة الرفع، ولا سبيلَ إلى ذلك لتواترها.
وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيدة بأن النهيَ في اللفظ لـ"أحد" وهو في المعنى للوط عليه السلام، إذ التقدير: لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت، كقولك لخادمك: "لا يَقُمْ أحدٌ" النهيُ لأحد، وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: "لا تَدَعْ أحداً يقوم". قلت: فآل الجواب إلى أنَّ المعنى: لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: "لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً، معناه: فَدَعْه يقوم. وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
(8/325)
---(1/3365)
والثاني: أن الرفعَ على الاستثناءِ المنقطع، والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء، ولنسْرُدُ كلامه لنعرفَه فقال: "الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يُقْصَدْ به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ، ولكن استؤنف الإِخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا، ويؤيد هذا المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ البتةَ، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك إلا بذكر مَنْ أنجاهم اللَّه تعالى، فجاء شرح حالِ امرأتِه في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإِخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصب والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء". قال الشيخ: "وهذا الذي طوَّل به لا تحقيقَ فيه، فإنه إذا لم يُقْصَدْ إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من / المَنْهِيِّين عن الالتفاتِ، وجُعل استثناءً منقطعاً، كان من المنقطع الذي لم يتوجَّهْ عليه العاملُ بحال، وهذا النوع يجب فيه النصبُ على كلتا اللغتين، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجّثهُ العاملِ عليه، وفي كلا النوعين يكون ما بعد "إلا" من غير الجنس المستثنى، فكونُه جازَ في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجَّه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يُقْصَدْ بالاستثناء إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصبُ قولاً واحداً".
(8/326)
---(1/3366)
[قلت: القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة]. وأمَّا قولُه: "أنه لم يتوجَّهْ عليه العامل" ليس بمسلَّم، بل يتوجَّه عليه في الجملة، والذي قاله النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وهذا ليس مِنْ ذاك، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟.
وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستثنى مِنْ "بأهلك"، واستَشْكلوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها، لكن الفرضِ أنه سرى بها، يدلُّ عليه نها التفتَتْ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن الإِخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدلُّ على كونها سَرَتْ معهم قطعاً. وقد أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه "فَأَسْر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك" ولم يذكر قوله {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ}.
والثاني: أنه مستثنى مِنْ "أحد" وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} بالنصبِ مع تقدُّم النفي الصريح. وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا.
والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة. وقال الزمخشري: "وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنه أخرجها معهم، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم أحد إلا هي، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين".
(8/327)
---(1/3367)
قال الشيخ: "وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه سَرَى بها أو لم يَسْرِ بها، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار، يستحيل أن تكن القراءتان - وهما مِنْ كلام اللَّه تعالى - يترتبان على التكاذب". قلت: وحاشَ للَّه أن تترتبت القراءتان على التكاذُب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سَرَى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب فانقطع سُراها، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي: لم يَأْمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم سُراها معهم بل انقطع فَصَحَّ أن يقال: إنه سَرَى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب الناسُ بهذا وهو حسنٌ.
وقال الشيخ أبو شامة: "ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل: فَأَسْرِ بأهلِك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبداللَّه هكذا، وليس فيها {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} فهذا دليلٌ على استثنائها مِن السُّرى بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم - غيرَ أن تكونَ أنت سَرَيْتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرضها، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرفع دالَّةً على المعنى المتأخر، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح" وهو كلامٌ حسنُ شاهدٌ لِما ذكرته.
قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} الضميرُ ضمير الشأن، و "مُصيبها" خبرٌ مقدم، و "ما أصابهم" مبتدأ مؤخر وهو موصولٌ بمعنى الذي، والجملة خبرُ إنَّ؛ لأن ضمير الشأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزْأَيْها.
(8/328)
---(1/3368)
وأعرب الشيخ "مُصيبها" مبتدأً، و "ما أصابهم" الخبر، وفيه نظرٌ من حيث الصناعة: فإن الموصولَ مرعفة، فينبغي أن يكونَ المبتدأ و "مُصيبها" نكرةً لأنه عامل تقديراً فإذا فإضافتُه غيرُ محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإِخبار عن الذي أصابهم أنه مُصِيبها من غيرِ عكسٍ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ "مصيبُها" مبتدأً، و "ما" / الموصولةُ قاعلٌ لأنهم يُجيزون أن يُفَسَّر ضميرُ الشأنِ بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: "إنه قائمٌ أبواك".
قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ}، أي: موعد هلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر "الصبح" بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك.
* { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ }
قوله تعالى: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا}: مفعولا الجعل الذي بمعنى التصيير، و "سِجِّيل" قيل: هو في الأصل مركَّب من: "سكر كل" وهو بالفارسية حجر وطين فعُرِّب وغُيِّرت حروفهُ. وقيل: سِجِّيل اسمٌ للسماء وهو ضعيف أو غلط؛ لوصفه بمَنْضود. وقيل: مِنْ أَسْجَلَ، أي: أرسل فيكون فِعِّيلاً، وقيل: هو مِن التسجيل، والمعنى: أنه مِمَّا كتب اللَّهُ وأَسْجل أن يُعَذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأولَ تفسيرُ ابن عباس أنه حجرٌ وطين كالآجرّ المطبوخ، وعن أبي عبيد هو الحجر الصُّلْب. و "منضود" صفةٌ لسِجِّيل. والنَّضْدُ: جَعْلُ الشيءِ بعضَه فوقَ بعضٍ، ومنه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ}، أي: متراكب، والمرادُ وصفُ الحجارة بالكثرة.
* { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }
(8/329)
---(1/3369)
و "مُسَوَّمة" نعتٌ لحجارة، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوَصْفِ غير الصريح على لاصريح لأنَّ "مِنْ سجيل" صفةٌ لحجارة، والأَوْلى أن يُجْعل حالاً من حجارة، وسوَّغ مجيئَها مِن النكرة تخصُّصُ النكرة بالوصف. والتِّسْويم. العلامَةُ. قيل: عُلِّم على كلِّ حجرٍ اسمُ مَنْ يُرْمَى به، وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران. و "عند": إمَّا منصوبٌ بـ"مُسَوَّمة"، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها صفة لـ"مُسَوَّمة".
قوله: {وَمَا هِيَ} الظاهرُ عَوْدُ هذا الضمير على القرى المُهْلَكة. وقيل: يعودُ على الحجارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العقوبة المفهومة من السياق. ولم يُؤَنِّث "ببعيد": إمَّا لأنه في الأصلِ نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكان بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السماء أو القرى المهلَكة، وإمَّا لأن العقوبةَ والعقابَ واحد، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذاب أو بشيءٍ بعيد.
* { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيا أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ}: "نَقَصَ" يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، إلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ، تقول: نَقَصْت زيداً مِنْ حقَّه، وهو هنا كذلك؛ إذ المرادُ: ولا تَنْقُصوا الناسَ من المكيال، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى، والمعنى: لا تُقَلِّلوا وتُطَفِّفوا، ويجوز أن يكون "المكيالَ" مفعولاً أول والثاني محذوف، في ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تَنْقُصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وَجَبَ لهما وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
(8/330)
---(1/3370)
قوله: {مُّحِيطٍ} صفة لليوم، ووُصِف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}. قال الزمخشري: "إنَّ وَصْفَ اليوم بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها" قال: "لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه".
وزعم بومٌ أنه جُرَّ على الجِوار، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم محيطاً. وقال آخرون: التقدير: عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاء: "وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جَرَى على غير مَنْ هوله، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
* { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: قال ابن عطية: "وجواب هذا الشرط متقدم" يعني على مذهب مَنْ يراه لا على [مذهب] جمهور البصريين. والعامَّة على تشديد ياء "بقيَّة". وقرأ إسماعيل بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها. قال ابن عطية: "وهي لغةٌ". وهذا لا ينبغي أن يُقال، بل يُقال: إنْ لم يُقْصد الدلالةُ على المبالغة جيء بها مخففةً، وذلك أن فَعِل بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصفة منه فَعِل بكسر العين نحو: سَجِيَت المرأة فهي سَجِيَة فإن قَصَدْت المبالغة قيل: سَجِيَّة لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك بقيَّة وبَقِية أي بالتشديد والتخفيف.
* { قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيا أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ }
وتقدم الخلاف في قوله "أصلاتك" بالنسبة إلى الإِفراد والجمع في سورة براءة.
(8/331)
---(1/3371)
قوله {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} العامة على نون الجماعة أو التعظيم في "نفعل" و "نشاء". وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فَمَنْ قرأب النون فيهما عَطفه على مفعول "نترك" وهو "ما" الموصولةُ /، والتقدير: أصلواتُك تأمركَ أن نَتْرُكَ ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء، وهو بَخْسُ الكَيْل والوَزْنِ المقدَّم ذكرُهما. و "أو" للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عَطْفُه على مفعول "تأمرك"؛ لأن المعنى يتغير، إذ يصير التقدير: أصلواتُك تأمُرك أن نفعلَ في أموالنا.
ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول "تأمرك"، وأن يكونَ معطوفاًعلى مفعول "نترك"، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءأنت، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان "أن نفعل" معطوفاً على مفعول "تأمرك"، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول "نترك" وهي قراءةُ النونِ فيهما، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول "تأمرك"، وهي قراءةُ النون في "نفعل" والتاء في "تشاء"، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظاهرُ من حيث المعنى في قراءة التاء فيهما أو في "تشاء" أن المراد بقولهم ذلك هو إبقاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما. وقال الزمخشري: "المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا يُؤْمَرُ بفعل غيره".
(8/332)
---(1/3372)
* { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيا إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ}: قد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقال الزمخشري هنا: "فإنْ قلت: أين جوابُ "أرأيتم" وما له لم يَثْبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ قلت: جوابُه محذوفٌ، وإنما لم يَثْبُتْ لأن إثباتَه في القصتين دلذَ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين مِنْ ربي و [كنت] نبياً على الحقيقة، أيصحُّ أنْ لا آمرَكم بترك عبادة الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يُبْعَثون إلا لذلك؟".
قال الشيخ: "وتَسْمِيَةُ هذا جواباً لـ"أرأيتم" ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قَدَّرها في موضع المفعول الثاني لـ"أرأيتم" [لأن أرأيتم] إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّتْ إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملةُ استفهاميةً ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العرب: "أرأيتك زيداً ما صنع" وقال الحوفي: "وجوابُ الشرط محذوفُ لدلالة الكالم عليه تقديره: أأَعْدِل عَمّضا أنا عليه". وقال ابن عطية: "وجوابُ الشرط الذي في قوله "أن كنت" محذوفٌ تقديره: أضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ أو أترك تَبْليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليق بهذه المحاجَّة". قال الشيخ: "وليس قوله "أضلّ" جواباً للشرط؛ لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكونَ جواباً لأنه لا يترتَّب على الشرط، وإن كان استفهاماً حُذف منه الهمزةُ فهو في موضع المفعول الثاني لـ"أرأيتم"، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه الجملةُ السابقة مع متعلَّقها.
(8/333)
---(1/3373)
قوله: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} قال الزمخشري: "خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، وخالفني عنه: إذا وَلّضى عنه وأنت قاصدُه، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: "خالَفَني إلى الماء"، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قولُه تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسْبِقَكم إلى شهواتكم التي نَهَيْتُكم عنها لأستبدَّ بها دونكم". وهذا الذي ذكره أبو القاسم معنى حسنٌ لطيف ولم يتعرَّض لإِعرابِ مفرداته، لأنَّ بفهم المعنى يُفهم الإِعراب ولنذكر ما فيه:
فأقول: يجوز أن يكونَ "أن أخالفَكم" في موضع مفعولٍ بـ"أريد"، أي: وما أريدُ مخالفتَكم، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحو: جاوَزْتُ الشيءَ وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكونَ خَلَفاً منكم. وقولُه: {إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ} يتعلَّق بـ"خالفكم"، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضُهم محذوفاً يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديرُه: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجوز أن يكونَ "أن أخالفكم" مفعولاً من أجله، وتتعلق "إلى" بقوله "أريد" بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: "وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. ويجوز أن يُراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة، وتكون في موضع المفعول به بأريد، ويقدَّر مائلاً إلى.
قوله: {مَا اسْتَطَعْتُ} يجوز في "ما" هذه وجوه، أحدها: أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً أي: مدة استطاعتي. الثاني: أن تكون "ما" موصولة بمعنى الذي بدلاً من "الإِصلاح" والتقدير: إنْ أريد إلا المقدارَ الذي أستطيعه من الصلاح. الثالث: أن يكونَ على حَذْف مضاف، أي: إلا الإِصلاحَ إصلاحَ ما استطعت، وهو أيضاً بدل. الرابع: / أنها مفعول بها بالمصدرِ المُعَرَّف، أي: إنْ أريد إلا أن أُصْلح ما استطعت إصلاحَه كقوله:
(8/334)(1/3374)
---
2697 - ضعيفُ النكايةِ أعداءَه * يخالُ الفِرارُ يُراخي الأجَلْ
ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ الزمخشري، إلا أن إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالُه في المفعول به عند الكوفيين. وتقدم الجارَّان في "عليه" و "إليه" للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.
* { وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيا أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ }
قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}: العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثياً. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمَّها مِنْ أجرم. وقد تقدم أنَّ "جَرَمَ" يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب، فيقال: جَرَم زيدٌ مالاً نحو: كَسَبه، وجَرَمْتُه ذَنْباً، أي: كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر:
2698 - ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً * جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها ان يَغْضَبوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول، والثاني هو: أن يُصيبكم أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب. وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضم لام "مثلُ" رفعاً على أنه فاعل "يُصيبكم"، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها،وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورةن وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ} وكقوله:
2699 - لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ * حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام. والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإعراب، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ.
(8/335)(1/3375)
---
قوله: {بِبَعِيدٍ} أتى بـ"بعيد" مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة. وقال الزمخشري أيضاً: "ويجوز أن يُسَوَّى في "قريب" و "بعيد" و "قليل" و "كثير" بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما".
* { وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوااْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }
والوَدُود بناءُ مبالغة مِنْ وَدَّ الشيءَ يَوَدُّه وُدَّاً، ووِداداً، ووِدادَةً وودَادة أي أَحبَّه وآثره. والمشهور وَدِدْت بكسر العين، وسمع الكسائي وَدَدْت بفتحها، والوَدود بمعنى فاعل أي يَوَدُّ عبادَه ويرحمهم. وقيل: بمعنى مفعول بمعنى أن عبادَه يحبُّونه ويُوادّثون أولياءَه، فهم بمنزلة "المَوادُّ" مجازاً.
* { قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }
والرَّهْط جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لِما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرَّهْطُ والعَصَب والنَّفَر إلا على الرجال. وقال الزمخشري: "من الثلاثة إلى الشعرة، وقيل: إلى السبعة" ويُجْمع على أَرْهُط، وأَرْهُط على أراهِط قال:
2700 - يا بُؤْسَ للحَرْب التي * وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
قال الرمَّاني: "وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه "التَّرْهيط" وهو شدَّةُ الأكل" والرَّاهِطاء اسم لجُحْر من جِحَرة اليَرْبوع لأنه يَتَوَثَّقُ به ويَحْبَا فيه أولادُه.
(8/336)
---(1/3376)
قوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} قال الزمخشري: "وقد دلَّ إيلاءُ ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل: وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا، فلذلك قال في جوابهم: {أَرَهْطِيا أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ} ولو قيل: "وما عَزَزْتَ علينا" لم يصحَّ هذا الجواب".
* { قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِيا أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ}: يجوز أن تكونَ المتعدية لاثنين، أولهما الهاء، والثاني "ظِهْرِيَّا". ويجوز أنْ يكونَ الثاني هو الظرف و "ظِهْرِياً" حالٌ، وأن تكونَ المتعدية لواحد، فيكون "ظِهْرِيَّاً" حالاً فقط. ويجوز في "وراءكم" أن يكونَ ظرفاً للاتخاذ، وأن يكونَ حالاً مِنْ "ظهريَّاً"، والضمير في "اتخذتموه" يعود على اللَّه؛ لأنهم - يجهلون صفاتِه، فجعلوه - أي: جعلوا أوامره - ظِهْريَّاً، أي: منبوذَةً وراء ظهورهم.
والظِهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى الظَّهِيْر وهو مِنْ تغييرات النسب كما قالوا في أَمْس: إمْسِيّ بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدال.
وقيل: الضمير يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي، فالظِّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعِين المُقَوِّي.
* { وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوااْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ }
(8/337)
---(1/3377)
قوله تعالى: {مَن يَأْتِيهِ}: قد تقدَّم نظيرُه في قصة نوح. قال ابن عطية بعد أن حكى عن الفراء أن تكون موصولةً مفعولةً بـ"تَعْلمون"، وأن تكونَ استفهاميةً مبتدأة مُعَلِّقة لـ"تعلمون": "والأول أحسن" ثم قال: "ويَقْضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة". قال الشيخ: "لا يتعيَّن ذلك، إذ من الجائز أن تكونَ الثانيةُ استفهاميةً أيضاً معطوفةً على الاستفهامية قبلها، والتقدير: سوف تعلمون أيُّنا يأتيه / عذابٌ.
وأيُّنا هو كاذبٌ. وقال الزمخشري: "فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين إدخالِ الفاء ونَزْعها في "سوف تعلمون"؟ قلت: إدخالُ الفاءِ وَصْلٌ ظاهر بحرفٍ موضوعٍ للوصل، ونَزْعُها وَصْلأٌ خفيٌّ تقديرٌّ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عِمِلْنا نحن على مكانتنا وعَمِلْتَ أنت على مكانتك؟ فقيل: سوف تعلمون، فَوَصَلَ تارةً بالفاء وتارةً بالاستئناف للتفنن في البلاغة، كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغُهما الاستئنافُ، وهو بابٌ من علم البيان تتكاثرُ محاسِنُه".
* { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا}: قال الزمخشري: "فإن قلت: ما بال ساقَتَي قصة عاد وقصة مَدْين جاءتا بالواو، والساقتان الوُسْطَيان بالفاء؟ قلت: قد وقعتْ الوُسْطَيان بعد ذِكْر الوعد، وذلك قوله {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، {ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقول: "وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت"، وأمَّا الأُخْرَيان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تُعْطَفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعْطَفُ قصة على قصة"، وهذا من غُرَر كلام الزمخشري.
(8/338)
---(1/3378)
* { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ }
قوله تعالى: {كَمَا بَعِدَتْ}: العامَّة على كَسْر العين من بَعِد يَبْعَد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هَلَكَ. قال:
2701 - يَقُولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه * ولا بَعْدَ إلا ما تُواري الصفائحُ
أرادت العرب أن تُفَرِّق بين المعنيين بتغيير البناء فقالوا: بَعُد بالضم ضد القرب، وبَعِد بالكسر ضد السَلامة، والمصدرُ البَعَد بالفتح في العين.
وقرأ السلمي وأبو حيوة "بَعُدت" بالضم أَخَذَه مِنْ ضدِّ القرب؛ لأنهم إذا هلكوا فقد بَعُدوا. ومِنْ هذا قولُ الشاعر:
2702 - مَنْ كان بينك في الترابِ وبينَه * شِبْران فهو بغاية البُعْدِ
وقال النحاس: "المعروفُ في اللغة "بَعِد يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً إذا هلك، وبَعُد يَبْعُد في ضد القرب".؟ وقال ابن قتيبة: "بَعِد يَبْعَد إذا كان بعدَه هَلَكه، وبَعُد يَبْعُد إذا نَأَى" فهو موافقٌ للنحاس. وقال المهدويُّ: "بَعُد يُسْتعمل في الخير ولاشر وبَعِد في الشرِّ خاصةً". وقال ابن الأنباري: "مِن العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاك والبُعْد الذي هو ضدُّ القرب فيقول فيهما: بَعُد يَبْعُد، وبَعِد يَبْعَدُ وأنشدوا قولَ مالك:
2703 - يقولون لا تَبْعدْ وهم يَدْفِنونني * وأين مكانُ البُعْدِ إلا مكانيا
قيل: يروى "لا تبعد" بالوجهين.
وفي هذه الآيةِ نوعٌ من علم البيان يُسَمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أو تَذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غَرَضُك في أوله، قالوا: ولم يأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قولَ حسان رضي اللَّه عنه:
2704 - إن كنتِ كاذبةَ الذي حَجَّثْتِني * فَنَجَوْتِ مَنْجَى الحارثِ بن هشام
تَرَكَ الأحِبَّةَ أَنْ يُقاتِلَ دونَهمْ * ونجا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجامِ
* { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ }(1/3379)
(8/339)
---
قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ}: يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب الإِعمال، وذلك أنَّ "يَقْدُم" يَصْلُح أن يتسلَّط على "النار" بحرف الجر، أي: يَقْدم قومَه إلى النار، وكذا "أَوْرَدَهم" يَصِحُّ تسلُّطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذف مِن الأول، ولو أعمل الأولَ لتعدَّى بـ إلى، ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ لـ"أَوْرَدَ" لاستئنافِه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنىً؛ لأنه عَطَفَ على ما هو نصٌّ في الاستقبال. والهمزة في "أَوْرَدَ" للتعدية، لأنه قبلها يتعدَّى لواحد. قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ}. وقيل: أوبع الماضي هنا لتحقُّقه. وقيل: بل هو ماضٍ على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار. قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}. وقيل: أوردهم مُوْجِبَها وأسبابها، وفيه بَعْدٌ لأجلِ العطف بالفاء.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرود، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلب أيضاً على الوارد، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدراً أو بمعن الوارد فلا بدَّ مِنْ حذف مضاف تقديره: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ ومخصوصِها شرطٌ، لا يُقال: نِعْم الرجلُ الفرسَ. وقيل: بل المورود صفةً للوِرْد، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: بئس الوِرْدُ المورود النارُ، جوَّز من ذلك أبو البقاء وابن عطية، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري. وقيل: التقدير: بئسَ القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا "الورد" مرادٌ به الجمعُ الواردون، والمَوْرود صفةٌ لهم، والمخصوص بالذمِّ الضميرُ المحذوف وهو "هم"، فيكون ذلك للواردتين لا لموضع الوِرْد / كذا قاله الشيخ. وفيه نظر لا يَخْفى: يف يُراد بالوِرْد الجمع الواردون، ثم يقول والمورودون صفةٌ لهم؟ وفي وصف مخصوص نعم وبئس خلافٌ بين النحويين منعه ابن السراج وأبو علي.
(8/340)(1/3380)
---
* { وَأُتْبِعُواْ فِي هَاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ }
و {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} كالذي قبله. وقوله: "ويومَ القيامة" عطفٌ على موضع "في هذه" والمعنى: أنهم أُلْحِقُوا لعنةً في الدنيا وفي الآخرة، ويكون الوقف على هذا تاماً، ويُبتدأ بقوله "بِئْس".
وزعم جماعة أن التقسيم: هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة، ويومَ القيامة بِئْس ما يُرْفَدون به، فهي لعنة واحدة أولاً وقَبُح إرفاد آخِرا. وهذا لا يصحُّ لأنه يؤدي إلى إعمال "بئس" فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها، أمّا لو تأخَّر لجاز كقوله:
2705 - ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا * دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ
وأصلُ الرِّفْد كما قال الليث: العطاء والمعونة، رِفادة قريش، رَفَدْتُه أَرْفِدُه رِفْداً ورَفْداً بكسر الراء وفتحها: أعطيتَه وأَعَنْتَه. وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنه نحو: الرِّعْي والذِّبْح. ويقال: رَفَدْت الحائط، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإِعانة.
* { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ}: يجوز أن يكون "نقصُّه" خبراً، و "مِنْ أبناء" حال، ويجوز العكس، قيل: وثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: من أنباء أهل القرى ولذلك أعاد الضمير عليها في قوله "وما ظلمْناهم".
قوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ}: "حصيد" مبتدأ محذوفُ الخبر، لدلالةِ خبر الأول عليه، أي: ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى.
وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري: "لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ". وقال أبو البقاء: "إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من ففعول "نَقُصُّه".
(8/341)
---(1/3381)
ويجوز في "ذلك" أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وقد تقدم. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره "نقصُّه" فهو من باب الاشتغال، أي: نَقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى، وقد تقدَّم في قوله: {ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ}أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
و "الحَصِيد" بمعنى محصود، وجمعه: حَصْدَى وحِصاد مثل مريض ومَرْضَى ومِراض، وهذا قول الأخفش، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو: قتيل وقَتْلَى.
* { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُوااْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }
قوله تعالى: {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ}: قال الزمخشري: "لما" منصوب بـ"أَغْنَتْ". وهو بناءً منه على أنَّ "لمَّا" ظرفية. والظاهر أنَّ "ما" نافية، أي: لم تُغْن. ويجوز أن تكونَ استفهاميةً، و "يَدْعون" حكاية حال، أي: التي كانوا يَدْعون، و "ما زاوهم" الضميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعَبَدَتِها، وعبَّر عنهم بواوِ العقلاء لأنهم نَزَّلوهم منزلتَهم.
* { وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ}: خبرٌ مقدم، و "أَخْذُ" مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثْلُ ذلك الأَخْذِ اللَّهِ الأمم السالفة أَخْذُ ربك. و "إذا" ظرف مُتَمَحِّض، ناصبُه المصدر قبله وهو قريبٌ مِنْ حكاية الحال، والمسألةُ من باب التنازع فإنَّ الأَخْذَ يَطْلب "القرى"، و "أَخَذَ" الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول.
(8/342)
---(1/3382)
وقرأ أبو رجاء والجحدري: "أَخَذ ربك، إذ أَخَذَ" جَعَلَهما فعلين ماضيين، و "ربُّك" فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك، إلا أنه بـ"إذا" كالعامَّة قال ابن عطية: "وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي".
وقوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملةٌ حالية.
والتَّتْبيب: التَّخْسيرُ يقال: تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. وتبَّبْتُه تَتْبِيباً، أي: خَسَّرْته تخسيراً. قال لبيد:
2706 - ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ * لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ
* { إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }
قوله تعالى: {ذالِكَ يَوْمٌ}: "ذلك" إشارةٌ إلى يوم القيامة، المدلولِ عليه بالسياق من قوله: "عذابَ الآخرة". و "مجموع" صفةٌ لـ"اليوم" جَرَتْ على غير مَنْ هي له فلذلك رَفَعت الظاهرَ وهو "الناس، وهذا هو الإِعراب نحو، مررت برجلٍ مضروبٍ غلامُه". وأعرب ابن عطية "الناس" مبتدأ مؤخراً و "مجموع" خبره مقدماً عليه، وفيه ضعف؛ إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقال: الناس قائمون ومضربون، ولا يقال: قائم ومضروب إلا بضعف، وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد، إذ الجملةُ صفة لليوم، وهو الهاء في له، أي: الناس مجموع له، و "مشهود" متعيِّنٌ لأن يكونَ صفة فكذلك ما قبله.
وقوله: {مَّشْهُودٌ} من بابِ الاتساعِ في الظرف / بأنْ جَعَلَه مشهوداً، وإنما هو مشهودٌ فيه، وهو كقوله:
2707 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً * قليلٌ سوى الطعنِ النِّهال نواقلُهْ
(8/343)
---(1/3383)