وقوله: {وَهُدًى} الجمهورُ على النصب وهو على الحال: إمَّا من الإنجيل، عطفْتَ هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من "عيسى" أي: ذا هدى وموعظة أو هادياً، أو جُعِل نفسُ الهدى مبالغة. وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله، وجعل العاملَ فيه قولَه تعالى: {آتيناه} قال: "وأَنْ نتصِبا مفعولاً لهما لقوله: {وليحكمَ} كأنه قيل: وللهدى وللموعظة آتنياه الإنجيل وللحكم. وجَوَّز أبو البقاء وغيرُه أن يكونَ العاملُ فيه: "قَفَّينا" أي: فقينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جُعِلا مفعولاً من أجله أَنْ يُقَدَّر إسنادها إلى الله تعالى لا إلى الإنجيل ليصِحَّ النصبُ، فإنَّ شرطَه اتحادُ المعفول له مع عاملِه فاعلاً وزماناً، ولذلك لَمَّا اختلف الفاعلُ في قوله: "وليحكم أهل الإنجيل" عُدِّي إليه باللام،ولأنه خالفَة أيضاً في الزمان، فإنَّ زمنَ الحكم مستقبلٌ وزمنَ الأنبياءِ ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء. و"للمتيقين" يجوز أن يكونَ صفة لـ"موعظة" ويجوز ان تكونَ اللامُ زائدةً مقويةً، و"المتقين" مفعول" بـ"موعظة، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
1732- ................... ورهبةٌ * عقابَك ......................
وقد تقدَّم الكلام على {وَالإِنْجِيلَ} واشتقاقُه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته. وقرأ الضحاك بن مزاحم: "وهدى وموعظة" بالرفع، ووجهُها أنها خبرُ ابتداء مضمر أي: وهو هدى وموعظة.
* { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
(5/323)
---(1/2031)
قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ}: قرأ الجمهورُ بسكونِ اللامِ وجزمِ الفعل بعدها على أنها لامُ الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً بـ"كَتْف" وإن كان أصلها الكسرَ، وقد قرأ بعضُهم بهذا الأصلِ. وقرأ حمزة - رحمه الله - بكسرِها ونصبِ الفعل بعدها، جعلها لامَ كي، فنصبَ الفعلَ بعدها بإضمار "أن" على ما تقرر غيرَ مرة، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكونُ جملةً مستأنفة، وعلى قراءة حمزة ويجوز أن تتعلق اللام بـ"آتينا" أو بـ "قَفَّيْنا" إن جعلنا "هدى وموعظة" مفعولاً لهما أي: قَفَّيْنا للهدى والموعظة وللحكم، أو آتيناه الهدى والموعظةَ والحكم، وإنْ جعلناهما حالين معطوفين على "مصدقاً" تعلَّق "وليحكم" في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ كأنه قيل: وللحكمِ آيتناه ذلك. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: فإنْ نَظَّمْتَ "هدى وموعظة" في سِلْك "مصدقاً" فما تصنعُ بقوله: "وليحكم"؟ قلت: أصنعُ به ما صنعت بـ "هدى وموعظة" حيث جعلتُهما مفعولاً لهما فأقدِّر: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه" وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول - أعني كون "وليحكم" مفعولاً له عطفاً على "هدى" والعاملُ "آتيناه" المفوظُ به - فإنه قال: "وآيتناه الإنجيل ليتضمِّن الهدى والنورَ والتصديق وليحكم أهل الإنجيل" قال الشيخ: "فعطفَ "وليحكم" على توهُّم علةٍ، ولذلك قال: "ليتضمن" وذكر الشيخً قولَ الزمخشري السابقَ، وجعله أقربَ إلى الصواب من قول ابن عطية، قال: "لأنَّ الهدى الأول والنور والتصديق لم يؤتَ بها على أنها علةٌ، إنما جيء بقوله {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحالُ لا تكونُ علةً، فقوله: " ليتضمن كيتَ وكيت وليحكم" بعيدٌ.
(5/324)
---(1/2032)
وقد خُتِمت الآيةُ الأولى بـ {الْكَافِرُونَ} والثانية بـ {الظَّالِمُونَ} والثالثة بـ {الْفَاسِقُونَ} لمناسباتٍ ذكرَا الناس، وأحسنُ ما قيل فيها ما ذكره الشعبي من أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، وذلك أنَّ قبل الأولى "فإنْ جاؤوك فاحكُمْ" وكيف "يُحَكِّمونك" ويَحْكُم بها النبيون" وقبل الثانية: "وكَتَبْنا عليهم" وهم اليهود، وقبل الثالثة: "وليحكم أهل الإنجيل" وهم النصارى، فكأنه خصَّ كلَّ واحدة بما يليه. وقرأ أُبيّ: "وأن ليحكم" بزيادة "أن"، وليس موضعَ زيادتِها.
* { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
قوله تعالى: {بِالْحَقِّ}: الباء يجوزُ أن تكونَ للحال من "الكتاب" أي: ملتبساً بالحق والصدق، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل أي: مصاحبِين للحق، أو حالاً من الكاف في "إليك" أي: وأنت ملتبسٌ بالحق. و"من الكتاب" تقدَّم نظيرُه. و"أل" في الكتاب الأول للعهدِ وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يُحْتمل أن تكونَ للجنس، إذ المرادُ الكتبُ السماوية. وجَوَّز الشيخ أن تكونَ للعهد؛ إذ المراد نوعٌ معلومٌ من الكتاب، لا كلُّ ما يقع عليه هذا الاسمُ، والفرق بين الوجهين أنَّ الأولَ يحتاج إلى حذف صفة أي: الكتاب الإلهي، وفي الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ العهدَ في الاسم يتضَّمنه بجميعِ صفاته.
(5/325)
---(1/2033)
قوله: {وَمُهَيْمِناً} الجمهورُ على كسر الثانية، اسمَ فاعل وهو حال من "الكتاب" الأول لعطفِه على الحال منه وهي "مصدقاً"، ويجوز في "مصدقاً" و"مهيمناً" أن يكونا حالين من كافِ "إليك" وسيأتي تحقيقُ ذلك عند ذِكْرَه قراءةِ مجاهد رحمه الله. و"عليه" متعلق "بمهيمِن" والمهيمِن: الرقيب: قال:
1733- إنَّ الكتابَ مهيمِنٌ لنبيِّنا * والحقُّ يعرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ
والحافظ أيضاً، قال:
1734- مليكٌ على عرشِ السماء مهيمِنٌ * لعزته تَعْنُو الوجوهُ وتَسْجُدُ
(5/326)
---(1/2034)
وهو الشاهد أيضاً. واختلفوا فيه: هل هو أصلٌ بنفسه أي: ليس مبدلاً من شيء، يقال: هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمِن، كبَيْطَر يُبَيْطِر فهو مُبَيْطر قال أبو عبيدة: "لم يَجِيءْ في كلام العرب على هذا النباء إلا أربعةُ ألفاظ: "مبيطِر ومُسَيْطر ومُهَيْمِن ومُحَيْمِر" وزاد أبو القاسم الزجاجي في شَرْحه لخطبة "أدب الكاتب" لفظاً خامساً وهو: "مُبَيْقِر، اسمَ فاعل مِنْ بَيْقَر يُبَيْقِرُ أي خَرَج من أفق إلى أفق، أو لعبةٌ معروفة للصبيان، وقيل: إنَّ هاء مبدلة من همزة وأنه اسمُ فاعل من آمنَ غيرَه من الخوفِ، والأصلُ: "مُأَأْمِن" بهمزتين أُبْدِلت الثانيةُ ياءً كراهيةَ اجتماعِ همزتين ثم أُبْدلت الأولى هاءً كـ هراق وهَراح وهَبَرْتُ الثوب في: أراق وأراح وأَبَرْت الثوب، وهذا ضعيفٌ أو فيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه، مع أنَّ له أبنيةً يمكنُ إلحالقه بها كمُبَيْطِر وإخوانِه، وأيضاً فإن همزة "مُأَأْمِن" اسمَ فاعل من "آمن" قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أُثْبِتَتْ ثم أُبْدِلَت هاءً، هذا لا نظير له. وقد سقطَ ابنُ قتيبة سقطةً فاحشة حيث زعم أن "مُهَيْمِناً" مصغرٌ، وأن أصله "مُؤَيْمِن" تصغيرُ "مُؤْمن" اسمَ فاعل، ثم قُلبت همزتُه هاء كهَراق، ويُعْزى ذلك لأبي العباس المبرد أيضاً. إلاَّ أنَّ الزجاج قال: "وهذا حسنٌ على طريقِ العربية، وهو موافقٌ لِما جاء في التفسير من أنَّ معنى مُهَيْمن: مُؤْمن" وهذا الذي قال الزجاج [واستحسنه أنكره الناسُ عليه وعلى المبرد ومَنْ تَبِعَهما]، ولما بلغ أبا العباس ثعلباً هذا القولُ أنكره أشدَّ إنكار وأنحى على ابن قتيبة وكتب إليه: أَنِ اتقِ الله فإن هذا كفرٌ أوما أشبهه، لأن أسماء الله تعالى لا تُصَغَّر وكذلك كل اسمٍ معظَّم شرعاً. وقال ابن عطية: "إن النقاش حَكَى أنَّ ذلك لَمَّا بلغ ثعلباً فقال: إنَّ ما قاله ابنُ قتيبة رديءٌ باطل، والوثوبُ على القرآن شديد، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف،(1/2035)
(5/327)
---
وإنما جمع الكتب من هَوَسٍ غلبه" [وقال أبو البقاء: "وأصل مُهَيْمن: مُؤْيْمِن لأنه مشتق من الأمانة لأن المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام "هَيْمن" حتى تكون الهاء أصلاً" وهذا الذي قاله لي بشيء لِما تقدم من حكايةِ أهلا للغة هَيْمَن] وغايةُ ما في الباب أنهم لم يَسْتعملوه إلا مزيداً فيه الياءُ كبَيْطر وبابِه.
وقرأ ابن محيصن ومجاهد: "ومُهَيْمَنا" بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير، والفاعل هو الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أو لحافظ له في كل بلد، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على قارئِها بالصواب، والضمير في "عليه" على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول، وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: "معناه: محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن" قال الطبري: "فعلى هذا يكون "مهيمناً" حالاً من الكاف في "إليك" وطَعَن على هذا القول لوجود الواو في "ومهيمنا" لأنها عطف على "مصدقاً" و"مصدقاً" حال من الكتاب لا حال من الكاف؛ إذ لو كان حالاً من لكان التركيب: "لما بين يديك" بالكاف.
(5/328)
---(1/2036)
قال الشيخ: "وتأويلُه على أنه من الالتقات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ عن نظم القرآن، وتقديره: "وجعلناك يا محمد مهيمناً" أبعدُ" يعني أن هذين التأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد، لكن الأول بعيدٌ والثاني أبعدُ منه. وقال ابن عطية هنا بعد أن حكى قراءةَ مجاهد وتفسيرَه محمداً عليه السلام أنه أمين على القرآن: "قال الطبري: وقولُه ومهيمناً على هذا حالٌ من الكاف في قوله "إليك" قال: وهذا تأويلٌ بعيدٌ من المفهوم" قال: "وغَلِط الطبري في هذه اللفظةِ على مجاهد، فإنه فَسَّر تأويلَه على قراءة الناس: "مهيمناً" بكسر الميم الثانية فَبَعُدَ التأويل، ومجاهد - رحمة الله - إنما يقرأ هو وابن محيصن: "ومهيمَنا" بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول، وهو حالٌ من الكتاب معطوف على قوله: "مصدقاً" وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد عليه السلام. قال: و"كذلك مشى مكي رحمه الله" قلت: وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يَرُدُّ على الطبري، فإنَّ الطبري استشكل كونَ "مهيمنا" حالاً من الكاف على قراءة مجاهد، وأيضاً فقد قال ابن عطية بعد ذلك: "ويحتمل أن يكون "مصدقاً ومهيمناً "حالَيْن من الكاف في "إليك"، ولا يَخُصُّ ذلك قراءةَ مجاهد وحده كما زعم مكي، فانلاس إنما استشكلوا كونَهما حالين من كاف "إليك" لقلق التركيب، وقد تقدَّم ما فيه وما نقله الشيخُ من التأويلين، وقوله: "لا يخص ذلك" كلامٌ صحيح، وإنْ كان مكي التزمه وهو الظاهر.
(5/329)
---(1/2037)
و"عليه" في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامِه مقامَ الفاعل، كذا قال ابن عطية، قتل: هذا إذا جعلنا "مهيمناً" حالاً من الكتاب، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف "إليك" فيكونُ القائمُ مقامَ الفاعلِ ضميراً مستتراً يعودُ على النبي عليه السلامِ، فيكون "عليه" أيضاً في محلِّ نصبٍ كما لو قُرِئ به اسمَ فاعل. قوله: {عَمَّا جَآءَكَ} فيه وجهان، أحدهما: - وبه قال أبو البقاء - أنه حال أي: عادلاً عما جاءك، هذا فيه نظرٌ من حيث إنَّ "عن" حرفُ جر ناقص لا يقع خبراً عن الجثة، فكذا لا يقع حالاً عنها، وحرفُ الجر الناقص إنما يتعلق بكون مطلق لا بكونٍ مقيدٍ، لكنَّ المقيدَ لا يجوز حَذْفُه. والثاني: أنَّ "عَنْ" على بابها من المجاوزة، لكن بتضمين "تَتَّبعْ" معنى "تتزَحْزَحْ وتنحرف" أي: لا تحرف متبعاً.
(5/330)
---(1/2038)
قوله: {مِنَ الْحَقِّ} فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في "جاءك" والثاني: أنه حالٌ من نفس "ما" الموصلة، فيتعلق بمحذوفٍ، ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ. قوله: "لكل" "كل" مضافة لشيء محذوف، وذلك المحذوفُ يُحتمل أن يكونَ لفظة "أمة" أي: لكل أمة، ويراد بهم جميعُ الناس من المسلمين واليهود والنصارى، ويحتمل أن يكونَ ذلك المحذوفُ "الأنبياء" أي: لكل الأنبياء المقدَّمِ ذكرُهم. و"جَعَلْنا" يُحتمل أن تكونَ متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّرْنا،فيكون "لكل" مفعولاً مقدماً، و"شِرْعة" مفعولٌ ثان. وقوله: {منكم} متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: أعني منكم، ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "كل" لوجهين، أحدُهما: أنه يلزمُ منه الفصلُ بين الصفة والموصوف بقوله "جَعَلْنا" وهي جملةٌ أجنبية ليس فيها تأكيدٌ ولا تسديدٌ، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصلُ به. والثاني: أنه يلزم منه الفصلُ بين "جَعَلْنا" وبين معمولِها وهو"شِرْعةً" قاله أبو البقاء وفيه نظر، فإن العامل في "لكل" غيرُ أجنبي، ويدل على ذكل قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ} ففصل بين الجلالة وصفتِها بالعمل في المفعول الأول، وهذا نظيره. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: "شَرْعة" بفتح الشين، كأن المكسور للهيئة والمفتوح مصدر.
والشِرْعة في الأصل: السُّنَّةُ، ومنه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} أي: سَنَّ والشارع: الطريق، وهو من الشعريعة التي هي في الأصل الطريقُ المُوصِلُ إلى الماء، ومنه قوله:
1735- وفي الشرائعِ منْ جِلاَّنَ مُقْتَنِصٌ * بالي الثيابِ خَفيُّ الصوتِ مُنْزَرِبُ
والمِنْهاج: مشتق من الطريق النَّهْج وهو الواضح، ومنه قولُه
1736- مَنْ يَكُ ذا شَكٍّ فهذا فَلْجُ * ماءٌ رُواءٌ وطريقٌ نَهْجُ
(5/331)
---(1/2039)
أي: واضحٌ،يُقال: طريق مَنْهَجٌ ونَهْجٌ. وقال ابن عطية: "مِنْهاج مثالُ مبالغةٍ من نَهَج" يعني نحو قولهم: "إنه لمِنْحار بوائكَها" وهو حسن، وهل الشرعةُ والمنهاجُ بمعنى، كقوله:
1737- .................. * وهند أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
[وكقوله:]
1738- ................... * وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
أو مختلفان؟ فالشِّرْعة ابتداءُ الطريق، والمِنْهاج الطريق المستمر، قاله المبرد، أو الشِرْعَةُ الطريقُ واضحاً كان أو غيرَ واضح، والمنهاج الطريق الواضح فقط، فالأول أعمُّ، قاله ابن الأنباري، أو الدين والدليل؟ خلاف مشهور.
قوله: {وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} متعلقٌ بمحذوف فقدَّره أبو البقاء "ولكنْ فَرَّقكم ليبلوكَم" وقدَّره غيرُه: "ولكن لم يَشَأْ جَعْلَكم أمةً واحدة" وهذا أحسنُ لدلالة اللفظ والمعنى عليه. "جميعاً" حال من "كم" في "مرجعكم"، والعاملُ في هذه الحال: إمَّا المصدرُ المضافُ إلى "كم" فإنَّ "كم" يحتمل أَنْ يكونَ فاعلاً، والمصدرُ يَنْحَلُّ لحرف مصدري وفعل مبنيٍ للفاعل، والأصلُ: "تَرْجعون جميعاً" ويحتمل أن كيونَ معفولاً لم يُسَمَّ فاعله على أن المصدر ينحلُّ لفعل منبي للمفعول أي: يُرْجِعُكم الله، وقد صُرِّح بالمعنيين في مواضع، وإمَّا أن يعملَ فيها الاستقرارُ المقدرفي الجار وهو "إليه"، و"إليه مَرْجِعُكم" يُحتمل أن يكونَ من باب الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية، وهذا واضحٌ بما تقدَّم في نظائره، و"فَيُنَبِّئُكم" هنا من "نَبَّا" غيرَ متضمنةٍ معنى "أعلم" فلذلك تَعَدَّت لواحدٍ بنفسها وللآخر بحرف الجر.
(5/332)
---(1/2040)
* { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم}: فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنَّ محلَّها النصبُ عطفاً على الكتاب، أي: وأَنْزلنا إليكم الحكمَ. والثاني: أنها في محلِّ جرٍ عطفاً على "بالحق" أي: أَنْزلناه بالحقِّ وبالحكم" وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ في محلِّ "أَنْ" النصبُ والجرُّ على الخلافِ المشهور. والثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ على الابتداء وفي تقديره خبره احتملان أحدُهما: أنْ تقدِّر متأخراً أي: حكمُك بما أنزلَ اللّهُ أمرُنا أو قولنا، والآخر: تقدِّر متقدماً أي: ومن الواجبِ أن احكم أي: حكمُك. والرابع: أنها تفسيريةٌ، قال أبو البقاء: "وهو بعيدٌ لأن الواو تمنع من ذلك، والمعنى يُفْسِدُ ذلك، لأنَّ "أَنْ" التفسيريةَ ينبغي أ، يَسْبِقها قولٌ يُفَسَّر بها" أمَّا ما ذكره مِنْ مَنْعِ الواو أَنْ تكون "أَنْ" تفسيريةً فواضح، وأمَّا قولُه: "يسبِقُها قولٌ" إصلاحُه أن يقولَ: "ما هو بمعنى القول لا حروفه" ثم قال: "ويمكنُ تصحيحُ هذا القولِ بأن يكون التقدير: وأمرناك، ثم فَسَّر هذا الأمرَ بـ "احكم" ومنع الشيخُ من تصحيحِ هذا القول بما ذكره أبو البقاء، قال: "لأنه لم يُحْفَظْ من لسانِهم حذفُ الجملةِ المفسَّرة بـ "أَنْ" وما بعدها" وهو كما قال. وقراءتا ضمِّ نونِ "أن" وكسرِها واضحتان مِمَّا تقدَّم في البقرة: الضمة للإتباع والكسر على أصل التقاء الساكنين. والضميرُ في "بينهم": إمَّا لليهود خاصةً وإمَّا لجميع المتحاكمين.
(5/333)
---(1/2041)
قوله: {أَن يَفْتِنُوكَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معفولٌ من أجله أي: احْذَرهم مخافةَ أَنْ يَفْتِنوك. والثاني: أنها بدلٌ من المفعول على جهةِ الاشتمال كأنه [قال]: "واحْذَرْهُمْ فتنتهم" كقولك: "أجبني زيد علمُه" وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} قال ابن عطية: "قبلَه محذوفٌ يدل عليه الظاهرُ تقديرُه: لا تتبعْ واحذَرْ، فإنْ حَكَّموك مع ذلك واستقاموا لك فنعِمَّا ذلك، وإتْ تَوَلَّوا فاعَلْم" ويَحْسُن أن يُقَدَّر هذا المحذوفُ المعادلُ بعد قوله: "لفاسقون" والذي ينبغي إلا يقال في هذا النوع ثَمَّ حذفٌ؛ لأن ذلك من بابِ فحو الخطاب، والأمرُ فيه واضح.
* { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ}: الجمهورُ على ضم الحاء وسكون الكاف ونصب الميم، وهي قراءةٌ واضحة. "حكمَ" مفعول مقدم، و"يبغون" فعل وفاعل، وهو المستفهم عنه في المعنى، والفاءُ فيها القولان المشهوران: هل هي مؤخرة على الهمزة وأصلُها التقديمُ، أو قبلَها جملةٌ عطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره: أَيَعْدِلون عن حكمِك فيبغون حكمَ الجاهلية؟ وقرأ ابن وثاب الأعرج وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن رفع الميم، وفيها وجهان، أظهرُهما:- وهو المشهورُ عند المُعْرِبين- أنه مبتدأ، و"يبغون" خبره، وعائد المبتدأ محذوفٌ تقديرُه: "يَبْغُونه" حملاً للخبرِ على الصلة. إلا أن بعضهم جعلَ هذه القراءة خطأً، حتى قال أبو بكر بن مجاهد: "هذه القراءةُ خطأ" وغيرُه يجعلُها ضعيفةً، ولا تبلغُ درجة الخطأ، قال ابن جني في قول ابن مجاهد: "ليس كذلك، ولكنه وَجْهُ غيرِه أقوى منه، وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
1739- قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي * عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
(5/334)
---(1/2042)
أي: لم أصنعه" قال ابن عطية: "هكذا الراويةُ وبها ويتم المعنى الصحيح، لأنه أراد التبرُّؤ من جميع الذنوب، ولو نَصَب "كل" لكان ظاهرُ قوله أنه صنع بعضَه" قالت: هذا الذي ذكره أبو محمد معنى صحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستشهدوا على ذلك بقوله عليه السلام حين سأله ذو اليديدن فقال: "أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن" أرادَ عليه السلام انتفاءَ كلِّ فردٍ فردٍ، وأفاد هذا المعنى تقديمُ "كل" قالوا: ولو قال: "لم يكن كلُ ذلك" لاحتمل الكلام أن البعض غيرُ منفيّ، وهذه المسألة تُسَمَّى عمومَ السلب، وعكسُها نحو: "لم أصنعْ كلَّ ذلك" يُسَمَّى سلبَ العموم، وهذه مسألةٌ مفيدة فأتقنتُها، وإن كان بعضُ الناسِ قد فهم عن سبويه غيرَ ما ذكرت لك.
(5/335)
---(1/2043)
ثم قال ابن عطية: "وهو قبيحٌ - يعني حَذْفَ العائد من الخبر - وإنما يُحْذَفُ الضمير كثيراً من الصلة، ويُحْذَفُ أقلَّ من ذلك من الصفة، وحَذْفُه من الخبرِ قبيحٌ" ولكن رجَّح البيتَ على هذه القراءةِ بوجهين، أحدُهما: أنه ليس في صدرِ قوله ألفُ استفهام تطلب الفعل كما هي في "أفحكم"، والثاني: أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة / وهو حرفُ الاطلاق، أعني الياء في "اصنعي" فتضعفُ قراءة مَنْ قرأ "أفحكمُ الجاهلية يبغون" وهذا الذي ذكره ابن عطية في الوجه الثاني كلامٌ لا يعبأ به، وأمَّا الأول فهو قريبٌ من الصواب، لكنه لم ينهضْ في المنعِ ولا في التقبيح، وإنما ينهضُ دليلاً عن الأحسنيَّة أوعلى أن غيرَه أَوْلى منه، وهذه المسألة ذكر بعضُهم الخلافَ فيها بالنسبة إلى نوعٍ، ونَفَى الخلافَ فيها - بل حكى الإجماع على الجواز - بالنسبة إلى نوع آخر، فحكى الإجماعَ فيما إذا كان المبتدأُ لفظَ "كل" أو ما أشبهها في العموم والافتقار، فأمَّا "كل" فنحو: "كلُّ رجلٍ ضربت" وتقويه قراءةُ ابن عامر: {وكلُّ وعد الله الحسنى} ويريد بما أشبه "كلا" نحو: "رجلٌ يقولُ الحقَّ انصرْ" أي: انصُرْه، فإنه عامٌّ ويفتقر إلى صفة، كما أن "كلاً" عامةٌ وتفتقر إلى مضاف إليه، قال: "وإذا لم يكن المبتدأُ كذلك فالكوفيون يَمْنعون حذفَ العائد، بل ينصبون المتقدم مفعولاً به، والبصريون يُجيزون: "زيدٌ ضربتُ" أي ضربته، وذكره القراءةَ. وتعالى بعضُهم فقال: "لا يجوزُ ذلك" وأطلق، إلا في ضرورة شعر كقوله:
1740- وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا * بالحقِّ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ
قال: "لأنه يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه"، وقد أَتْقَنْتُ هذه المسألةَ وما نُقل فيها في كتابي" شرح التسهيل" فعليك بالالتفات إليه.
(5/336)
---(1/2044)
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدمين أن يكونَ "يبغون" ليس خبراً للمبتدأ، بل هو صفةٌ لموصوفٍ محذوف وذلك المحذوفُ هو الخبر، والتقدير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنه كما تقدَّم يكثُر حَذْفُه من الصلةِ، ودونَه من الصفةِ، ودونَه من الخبر، وهذا ما اختاره ابنُ عطية وهو تخريجٌ ممكنٌ، ونَظَّره بقوله تعالى:{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} أي: قومٌ يُحَرِّفون" يعني في حذف موصوفٍ وإقامة صفتِه مُقامه، وإلا فالمحذوفُ في الآية المنظَّرِ بها مبتدأٌ، ونظَّرها أيضاً بقوله:
1741- وما الدهرُ إلا تارتانِ: فمنهما * أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: تارةً أموت فيها. وقال الزمخشري: "وإسقاطُ الراجع عنه كإسقاطِه في الصلة، كقوله:{أَهَاذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} وعن الصفةِ: "في الناس رجُلان: [رجلٌ] أهنْتُ، ورجلٌ أكرمت" أي: رجلٌ أهنته ورجلٌ أكرمته، وعن الحالِ في نحو: "مررت بهند يضرب زيد" قال الشيخ: "إنْ عَنَى التشبيه في الحذف والحسن فليس كذلك لِما تقدَّم ذكرُه، وإن عنى في مطلق الحذفِ فَمَسَلَّم".
وقرأ الأعمش وقتادة: "أَفَحَكَمَ" بفتح الحاء والكاف ونصب الميم، وهو مفردٌ يراد به الجنس لأن المعنى: أحُكَّامَ الجاهلية، ولا بد من حذف مضاف في هذه القراءة هو المُصَرَّحُ به في المتواترة تقديره: أَفَحُكْمَ حُكَّامة الجاهليةِ.
(5/337)
---(1/2045)
والقُرَّاء غيرَ ابنِ عامر على "يَبْغُون" بياء الغيبة نسقاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة. وقرأ هو بتاء الخطاب على الالتفاتِ ليكون أبلغَ في زَجْرهم وَرَدْعِهِم ومباكتته لهم، حيث واجهَهم بهذا الاستفهام الذي يَأْنَفُ منه ذَوُو البصائر. و"حُكْماً" نصباً على التمييز. وقوله: {لقوم} في هذه [اللام] ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّقَ بنفسِ "حكماً" إذ المعنى أنَّ حكمَ اللَّهِ للمؤمن على الكافر، والثاني: أنا للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوف كهي في "سُقْياً لك" {هَيْتَ لَكَ} وهو رأي الزمخشري، وابن عطية قال شيئاً قريباً منه، وهو أن المعنى: "يُبَيِّن ذلك ويُظْهِرُه لقوم" الثالث: أنها بمعنى "عند" أي: عند [قوم] وهذا ليس بشي. ومتعلَّقُ "يوقنون" يجوز أن يُراد، وتقديرُه: يوقنون بالله وبحكمه، أو بالقرآن، ويجوز ألاَّ يُرادَ على معنى وقوع الإيقان، وإليه ميلُ الزجاج فإنه قال: "يوقنون: يتبيِِّنون عَدْلَ اللِّهِ في حكمه".
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ }: مبتدأ وخبر، وهذه الجملة لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ، سيقت تعليلاً للنهي المتقدم، وزعم الحوفي أنَّها في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ"أولياء"، والأولُ هو الظاهر، والضمير في "بعضهم" يعودُ على اليهود والنصارى على سبيل الإجمال، والقرينة تبيِّن أنّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعض، وأنَّ بعضَ النصارى أولياء بعضٍ، وبهذا التقدير لا يُحتاج كما زعم بعضُهم إلى تقدير محذوف يَصِحُّ به المعنى وهو: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، قال: لأنَّ اليهود لا يتولَّوْن النصارى، والنصارى لا يتوَلَّوْن اليهود، وقد تقدَّم جوابه.
(5/338)
---(1/2046)
* { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِيا أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ}: الجمهورُ على "ترى" بتاء الخطاب، و"الذين" مفعول، فإن كانت الرؤيةُ بصريةً أو عُرْفانية - فيما نقله أبو البقاء وفيه نظرٌ - فتكونُ الجملةُ من "يُسارعون" في محلِّ نصب على الحال من الموصول، وإنْ كانت قبيلة فيكون "يسارعون" مفعولاً ثانياً. وقرأ النخعي وابن وثاب: "فيَرى" بالياء وفيها تأويلان، أظهرُهما: أنَّ الفاعل ضميرٌ يعودُ على الله تعالى، وقيل: على الرأي من حيثُ هو، و"يُسارعون" بحالتِها، والثاني: أن الفاعل نفسُ الموصول والمفعول هو الجملةُ من قوله: {يُسَارِعُونَ} وذلك على تأويل حَذْفِ "أَنْ" المصدرية، والتقدير: ويرى القمُ الذين في قلوبهم مرض أَنْ يُسارعو، فلمَّا حُذِفَتْ "أَنْ" رُفِع كقوله:
1742- ألا أيُّهذا الزاجري أَحْضُرُ الوَغى * .....................
(5/339)
---(1/2047)
أجازَ ذلك ابن عطية إلا أنَّ هذا غيرُ مقيس، إذ لا تُحْذَف "أن" عند البصريين إلا في مواضع محفوظة. وقرأ قتادة والأعمش: "يُسْرِعون" من أسرع. و"يقولون" في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "يسارعون"، و"نخشى" في محلِّ نصب بالقول، و"أن تصيبنَا" في محل نصب بالمفعول من دار يدور. قوله: {أَن يَأْتِيَ} في محلِّ نصب: إمَّا على الخبر لـ "عسى" وهو رأي الأخفش، / وإمَّا على أنها مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزمَ الإِخبارُ عن الجثة بالحَدَث في قولك: "عسى زيدٌ أَنْ يقومَ" وأجاز أبو البقاء أن يكون "أن يأتي" في محلِّ رفعٍ على البدل من اسم "عسى" وفيه نظر. قوله: {فَيُصْبِحُواْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مصنوب عطفاً على "يأتِيَ" المنصوب بـ "أَنْ" والذي سَوَّغ ذلك وجودُ الفاءِ السببية، ولولاها لم يجز ذلك، لأن المعطوف على الخبر خبر، و"أن يأتي" خبر عسى وفيه راجعٌ عائدةٌ على اسمها، وقوله: {فَيُصْبِحُواْ} ليس فيه ضميرٌ يعود على اسمها فكان من حقِّ المسألة الامتناعُ لكنَّ الفاءَ للسببية، فَجَعَلَتْ الجمليتن كالجملة الواحدة وذلك جارٍ في الصلة نحو: "الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ" والصفةِ نحو: "مررت برجل يبكي فيضحكُ عمرو" والخبرِ نحو: "زيد يبكي فيضحكم خالد" ولو كانَ العاطفُ غيرَ الفاء لم يَجُز ذلك: والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار "أَنْ" بعد الفاء في جواب التمني قالوا: "لأنَّ عسى تمنٍّ وترجِّ في حق البشر" و"على ما أسَرُّوا" متعلق بـ"نادمين"، و"نادمين" خبرُ "أصبح".
* { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُاؤُلااءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ }
(5/340)
---(1/2048)
قوله تعالى: {وَيَقُولُ}: قرأ أبو عمرو والكوفيون بالواو قبل "يقول" والباقون بإسقاطها، إلا أنَّ أبا عمرو ونصب الفعل بعد الواو، وروى عنه علي بن نصر الرفع كالكوفيين، فتحصَّل فيه ثلاثُ قراءات: "يقول" من غير واو "ويقول" بالواو والنصب، و"يقول" بالواو والرفع. فأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ "يقول" من غير واو فهي جملةٌ مستأنفة سِيقَتْ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه لمَّا تقدَّم قولُه تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} إلى قوله: {نَادِمِينَ} سأل سائل فقال: ماذا قال المؤمنون حنيئذ؟ فأجيبَ بقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى آخره، وهو واضح، والواو ساقطةٌ في مصاحف مكة والمدينة والشام، والقارئ بذلك هو صاحبُ هذه المصاحف، فإن القارئين بذلك ابنُ كثير المكي وابن عامر الشامي ونافع المدني، فقراءتُهم موافقةٌ لمصاحفهم، وليس في هذا أنهم إنما قرؤوا كذلك لأجلِ المصحف فقط، بل وافَقَتْ روايتُهم مصاحفَهم على ما بيَّنَتْهُ غيرَ مرة.
(5/341)
---(1/2049)
وأمَّا قراءة الواو والرفع فواضحة أيضاً لأنها جملة ابتُدئ بالإخبار بها، فالواوُ استنئافيةٌ لمجرد عطف جملة على جملة، فالواو ثابتة في مصاحف الكوفة والمشرق، والقارئ بذلك هو صاحبُ هذا المصحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً. وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فَضْلِ نظر، واختلف الناسُ في ذلك على ثلاثةِ أوجه، أحدُهما: أنه منصوب عطفاً على "فيصحبوا" على أحد الوجهين المذكورين في نصبِ "فيُصْبحوا" وهو الوجه الثاني، أعني كونَه منصوباً بإضمار "أَنْ" في جواب الترجِّي بعد الفاء إجراءً للترجِّي مُجْرى التمني، وفيه خلافٌ مشهور بين البصريين والكوفيين، فالبصريون يمنعونَه والكوفيون يُجيزونه مستدلِّين على ذلك بقراءِة نافع: {لعله يزَّكى أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه} بنصب "تنفعه" وبقراءة عاصم في رواية حفص: "لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السمواتِ فأطَّلِعَ" بنصب "فأطَّلِعَ" وسيأتي الجوابُ عن الآيتين الكريمتين في موضعه. وهذا الوجهُ - أعني عطفَ "ويقول" على "فيصبحوا" قال الفارسي وتبعه جماعةٌ، ونقله عنه أبو محمد بن عطية، وذكرَه أبو عمرو بن الحاجب أيضاً، قال الشيخ شهابُ الدين أبو شامة بعد ذكره الوجهَ المتقدِّم: "وهذا وجهٌ جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ولم أَرَه لغيرِه، وذكروا وجوهاً كلُّها بعيدةٌ متعسِّفة" انتهى. قلت: وهذا - كما رأيتَ- منقولٌ مشهور عن أبي علي الفارسي، وأمَّا استجادتُه هذا الوجهَ فإنما يتمشى على قول الكوفيين، وهو مرجوحٌ كما تقرر في علم النحو.
الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على المصدر قبلَه وهو الفتحُ كأنه قيل: فعسى اللَّهُ أن يأتِيَ بالفتحِ وبأَنْ يقولَ، أي: وبقولِ الذين آمنوا، وهذا الوجهُ ذكره أبو جعفر النحاس، ونظَّره بقول الشاعر:
1743- لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني * أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ
وقول الآخر:
1744- لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويتُه * تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأَمَ سائِمُ(1/2050)
(5/342)
---
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه يؤدِّي ذلك إلى الفصل بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي، وذلك أنَّ الفتحَ على قوله مؤولٌ بـ "أَنْ" والفعلِ تقديرُه: أَنْ يأتِيَ بأن يفتحَ وبأَنْ يقولَ، فيقعُ الفصلُ بقوله: {فيُصبحوا} وهو أجنبي لأنه معطوفٌ على "يأتي" الثاني: أن هذا المصدرَ - وهو الفتح - ليس يُراد به انحلالُه لحرفٍ مصدري وفعلٍ، بل المرادُ به مصدرٌ غيرُ مرادٍ به ذلك نحو: يعجبني ذكاؤك وعلمك. الثالث: أنه وإنْ سُلِّم انحلالُه لحرف مصدري وفعل فلا يكون المعنى على: "فعسى الله أن يأتيَ بأَنْ يقولَ الذين آمنوا" فإنه ثابٍ عه نُبُوّاً ظاهراً.
(5/343)
---(1/2051)
الثالث- من أوجه نصبِ "ويقول"-: أنه منصوبٌ عطفاً على قوله: "يأتي" أي: فعسى اللَّهُ أَنْ يأتيَ ويقولَ، وإلى ذلك ذهب الزمخشري ولم يَعْتَرض عليه بشيء، وقد رُدَّ ذلك بأنه يلزمُ عطفُ ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر، وذلك أنَّ قولَه: {أن يأتيَ} خبرُ عسى وهو صحيحٌ، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم "عسى" وهو ضميرُ الباري تعالى، وقولُه: "ويقول" ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم "عسى" فكيف يَصِحُّ جَعْلُه خبراً؟ وقد اعتذر مَنْ أجازَ ذلك عنه بثلاثة أوجه، أَحدُها: أنه من باب العطفِ على المعنى، والمعنى: فَعَسى أَنْ يأتي الله بالفتح وبقولِ الذين آمنوا، فتكون "‘??" EC?E? ????CI?C ??? "????" ??C ?? ???????C? ??C E?EC?? ????? ??? ?CE?? ???C ???E? ?? ????? "C???? ??? C?E???" ???: {???????I???? ??????? ????? C????C???????} C?EC?? ??? {???? ?CE?} EI?? ?? C?? C??? ?C IE??? ?E???? "???" ????? EC?E?? ???? ???: ???? ?? ????? C???? A???C? ???C? C????C? ?????C? ?? ?E? ???? C??C????? ??C ???? C?EC?? ?C ??????? ????? ??????C ??? ???? ??? ?CI???? ???O? ?? E?? ?C?? ?I?CE?C ???? ?? E???? EC?? EO??? ?? ????? ???????C: "?? ????" ?C??C: ?????I? ?? C????E? ???I? ????I? ????? ??C ?C??C / ??? ?? "U?" ??I?CE??C: ???? "????" ?"?????" E?I?? ???????C. ?C?EC?E: ?? E? ????C? ?????C? ?? ??????? ?????? "?????" IE?C? ?? ???? ?C?E?I??: ?????? C???? A???C E? ??: EC???? E? ?????? ????? E?? ??? ??? ?E? C?E?C?? ??C? CE? ???E E?I ??C?E? ??E "??????" ???C? ??? "??E?": "???I? ?? ??? "??? C?? ?? ???? C???????" ?U??? ?? C??? E?C?? ?????????? ?????? ??? E????? ??U?C?? I???" ??E: ???? CE? ???E ?? ??? ?OE? ???? ?E? C?E?C? ?? ????? ??I???? ????C? ?C?IC? ??? C?? "???" ??????? E? C??E?. ?E??? C??C?? ????E??? ??? C????? ???????C ???(1/2052)
(5/344)
---
?E?E ???E?? ???? EC?EEC? E???? ???? ???? ?? C????? C?E?CEE C?E? ???E?C ??? ???? ?C ?I?? ?C????C ?? E?CEE? ??? C???E?: ????C ???C? ??? "?? ??E?" ???C ??? "???E??C" ?????C ??? "EC??E?"? ??I E?I??? ?? E?????C.
قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في اننصابه وَجْهان، أظهرُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ناصبُه "أَقْسموا" فهو من معناه، والمعنى: أَقْسَموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين. والثاني - أجازُه أبو البقاء وغيره - أنه منصوبٌ على الحالِ كقولهم: "افعَلْ ذلك جَهْدَك" أي: مجتهداً، ولا يُبالي بتعريفه لفظاً فإنه مؤولٌ بنكرة على ما ذكرته لك، وللنحْويين في هذه المسألة أبحاث، والمعنى هنا: أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم.
قوله: {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} هذه الجملة لا محلَّ لها من الإعراب فإنها تفسيرٌ وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظِهم، إذ لو كانَتْ حكايةً لألفاظهم لقيل: إنَّا معكم، وفيه نظرٌ، إذ يجوزُ لك أن تقول: "حَلَفَ زيدٌ لأفعَلَنَّ" أو "ليفعلن"، فكما جاز أن تقولَ: "لَيَفْعَلنَّ" جاز أن يقال: "إنهم لمعكم" على الحكاية.
(5/345)
---(1/2053)
قوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها جملةٌ مستأنفة والمقصودُ بها الإخبارُ من الباري تعالى بذلك. الثاني: أنها دعاءٌ عليهم بذلك وهو قولُ الله تعالى نحو: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ} الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ لأنها من جملة قول المؤمنين، ويَحْتمل معنيين كمالمعنيين في الاستئناف، أعني كونَه إخباراً أو دعاءً. الرابع: أنها في محل رفعٍ على أنَّها خبرُ المبتدأ وهو "هؤلاء" وعلى هذا فيحتمل قوله {الَّذِينَ أَقْسَمُواْ} وجهين، أحدُهما: أنه صفةٌ لاسمِ الإشارة، والخبر: "حَبِطَتْ أعمالُهم". والثاني: أنَّ "الذين" خبرٌ أولُ، / و"حَبِطت" خبرٌ ثانٍ عند مَنْ يُجيز ذلك. وجَعَلَ الزمخشري "حَبِطَتْ أعمالُهم" مُفْهِمَةً للتعجب. قال: "وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالَهم ما أخسرَهم" وأجاز مع كونه تعجباً أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكونَ في محل نصب، وأن يكونَ من قولِ الباري تعالى، لكنه أَوَّلَ التعجبَ في حق الله تعالى بأنه عجيب، قال: "أو مِنْ قول الله عز وجيل شهادةً لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم" وقرأ أبو واقد والجراح: "حَبَطت" بفتح الباء، وهما لغتان، وقد تقدم ذلك وقوله تعالى: {فأصبحوا} وجهُ التسبُّبِ في هذه الفاءِ ظاهرٌ.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
(5/346)
---(1/2054)
قوله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ}: "مَنْ" شرطيةٌ فقط لظهورِ أثرها، وقوله تعالى: {فسوف} جوابُها، وهي مبتدأة، وفي خبرها الخلاف المشهور، وبظاهره يتمسَّك مَنْ لا يشترط عودَ ضميرٍ على اسم الشرط من جملة الجواب، ومَنْ التزم ذلك قَدَّر ضميراً محذوفاً تقديره: "فسوف يأتي الله بقوم غيرهم" فـ "هم" في "غيرهم" يعودُ على "مَنْ" على معناها. وقرأ ابن عامر ونافع: "يَرْتَدِدْ" بدالين. قال الزمخشري: "وهي في الإمام - عين رسمَ المصحف - كذلك" ولم يبيِّنْ ذلك، ونَقَل غيرُه أنَّ كلَّ قارئ وافقَ مصحفَه، فإنها في مصاحف الشام والمدينة، "يرتدد" بدالين، وفي الباقية: "يرتدَّ" وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة تميم، والإظهارَ لغةُ الحجاز، وأنَّ وجهَ الإظهارِ سكونُ الثاني جزماً أو وقفاً، ولا يُدْغَمُ إلى في متحرك، وأنَّ وجهَ الإدغام تحريكُ هذا الساكن في بعضِ الأحوال نحو: رُدَّا، رُدُّوا، رُدِّي، ولم يَرُدَّا، ولم يَرُدُّوا، واردُدِ القوم، ثم حُمِل "لم يردَّ" و"رُدَّ" على ذلك، فكأان التميميين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحجازيين لم يَعْتبروها، و"منكم" في محل نصبٍ على الحال من فاعل "يرتد" و"عن دينه" متعلِّقٌ بـ "يرتدَّ".
قوله تعالى:{يُحِبُّهُمْ} في محلِّ جر لأنها صفة لـ "قوم" و"يُحِبُّونه" فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، فيكون في محلِّ جرٍّ أيضاً فوصفَهم بصفتين: وصفَهم بكونِه تعالى يحبُّهم وبكونهم يحبونه. والثاني أجازه أبو البقاء: أن يكون في محل نصب على الال من الضمير المنصوب في "يحبهم" قال: "تقديره: وهم يحبونه" قلت: وإنما قَدَّر أبو البقاء لفظة "هم" ليخرجَ بذلك من إشكال: وهو أن المضارعَ المثبتَ متى وقع حالاً وجب تَجَرُّدُه من الواو نحو: "قمت أضحك" ولا يجوز: "وأضحك" وإنْ وَرَدَ شيء أُوِّل بما ذكره أبو البقاء كقولهم: "قمت وأصك عينه" وقوله:
1745- ......................... * نَجَوْتُ وأَرْهنُهُمْ مالِكا(1/2055)
(5/347)
---
أي: وأنا أصك، وأنا أَرْهنُهم، فَتُؤَوَّلُ الجملةُ إلى جملة اسمية فيصِحُّ اقترانها بالواو، ولكن لا ضرورةَ في الآية الكريمة تَدْعُو إلى ذلك حتى يُرْتَكَب، فهو / قولٌ مرجوح. وقُدِّمَتْ محبةُ الله تعالى على محبتهم لشرفها وسَبْقِها، إذ محبتُه تعالى لهم عبارةٌ عن إلهامِهم فعلَ الطاعةِ وإثابته إياهم عليها.
قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هاتان صفتان أيضاً لقوم، واستدلَّ بعضُهم على جوازِ تقديمِ الصفة غير الصريحة على الصفة الصريحة بهذه الآيةِ، فإنَّ قوله: {يُحِبُّهم} صفةٌ وهي غير صريحة، لأنها جملة مؤولة بمفرد، وقوله "أذلة - أعزة" صفتان صريحتان لأنهما مفردتان، وأمَّا غيره من النحويين فيقول: متى اجتمعت صفة صريحة وأخرى مؤولة وجبَ تقديمُ الصريحةِ إلا في ضرورة شعر كقولِ امرئ القيس:
1746- وفَرْغٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ * أثيتٍ كقِنْوِ النَّخْلة المُتَعَثْكِلِ
(5/348)
---(1/2056)
فقدم قوله "يُغَشِّي" - وهو جملة - على "أسود" وما بعده وهن مفردات، وعند هذا القائل أنه يُبدأ بالمفرد ثم بالظرف أو عديله ثم بالجملة، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وهذه الآية حجةٌ عليه، وكذا قوله تعالى: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} قال الشيخ: "وفيها دليلٌ على بطلان مَنْ يعتقد وجوب تقديم الوصفِ بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة" ثم ذَكَرَ الآيةَ الأخرى. قلت: وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يَرُدُّ قولَ هذا القائل. أما هذه الآية فيحتمل أن يكون قولُه تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} جلمةَ اعتراض لأنَّ فيها تأكيداً وتسديداً للكلام، وجملةُ الاعتراض تقعُ بين الصفةِ وموصوفِها كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}فـ "عظيم" صفةٌ لـ "قَسَم" وقد فَصَل بينهما بقولُه: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} فكذلك فَصَلَ هنا بين قوله "بقوم" وبين صفتهم وهي "أذلة - أعزة" بقولِه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعلى هذا لا يكون لها محلُّ من الإعراب. وأمَّا {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فلا نسلِّم أن "مبارك" صفةٌ، بل يجوزُ أن يكونَ خبراً عبد خبر، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو مباك، ولو استدل على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى، وهما قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ} فقدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالصريح، ويحتمل أَنْ يُقال: لا نُسَلِّم أن "مِنْ ربهم" و"مِنَ الرحمن" صفان لجواز أَنْ يكونا حالين مُقَدَّمَيْن من الضمير المستترِ في "مُحْدَث" أي: مُحْدَثٍ إنزالُه حالَ كونه من ربهم.
(5/349)
---(1/2057)
وأَذِلَّة جمعُ ذليل بمعنى متعطف، ولا يراد به الذليل الذي ضعيف خاضع مُهان، ولا يجوز أن يكون جمع "ذَلُول" لأنَّ / ذلولاً يجمع على "ذُلُل" لا على "أَذِلة" وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك. قال الزمخشري: "ومَنْ زعم أنه من الذُّل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غَبِي عنه أن ذَلُولا لا يُجمع على أَذِلة" وأَذِلّة وأَعِزة جمعان لذليل وعزيز وهما مثالا مبالغة، وعَدَّى "أذلة" بـ "علىط وإن كان أصلُه أن يتعدى باللامِ لِما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف، والمعنى: عاطفين على المؤمنين على وجهِ التذلُّلِ لهم والتواضعِ، ويجوزُ أَنْ يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفَضْلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قولُه تعالى: {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} ذكر هذين الوجهين أبو القاسم الزمخشري. قال الشيخ: "قيل: أو لأنه على حَذْفِ مضاف، التقدير: على فَضْلِهم على المؤمنين،والمعنى: أنهم يَذِلُّون ويَخْضَعُون لِمَنْ فُضِلوا عليه مع شَرَفِهم وعلوِّ مكانتِهم" وذَكَر آية الفتح. قتل: وهذا هو قولُ الزمخشري بيعنه، إلا أنَّ قولضه "على حَذْفِ مضاف" يُوهم حذفَه وإقامةَ المضافِ إليه مُقامه، وهنا حَذَ ف "على الأولى" وحَذَفَ المضافَ والمضافَ إليه معاً، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟
(5/350)
---(1/2058)
ووقع الوصفُ في جانب المحبة بالجملة الفعلية لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، هو مناسبٌ فإنَّ محبَّتهم للّهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومحبةُ اللّهِ إياهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كل وقت. ووقع الوصفُ في جانبِ التواضع للمؤمنيني والغِلْظَةِ على الكافرين بالاسم الدالِّ على المبالغة دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسمُ يَدُلُّ على المبالغة دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسمُ يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ، وقَدَّم الوصفَ بالمحبة منهم ولهم على وصفِهم بأذلَّة وأَعِزِّة لأنهما ناشِئتنان عن المحبتين، وقَدَّم وصفَهم المتعلِّق بالمؤمنين على وصْفِهم المتعلق بالكافرين لأنه آكدُ وألزمُ منه، ولشرفِ المؤمنِ أيضاً.
والجمهورُ على جَرِّ "أَذِلَّة - أَعِزَّة" على الوصف كما تقدم، قال الزمخشري: "وقُرئ "أَذِلَّةً وأَعِزِّةً" بالنصبِ على الحال" قلت: الذي قرأ "أَذِلَّة" هو عبد الله بن مسعود، إلا أنه قرأ بدل "أعزة": "غُلَظاءَ على الكافرين" وهو تفسيرٌ، وهي حالٌ من "قوم" وجاز ذلك وإن كان "قوم" نكرةً لقُرْبِه من المعرفة إذ قد تخصَّص بالوصف.
قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ} يحتمل ثلاثة أَوجه، أحدها: أن يكونَ صفةً أخرى لـ "قوم" ولذلك جاء بغيرِ واو، كما جاءَتِ الصفتان قبلَه بغيرها. الثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الضمير المسكن في "أعزة" أي: يَعُزُّون مجاهدين، قالَه أبو البقاء، وعلى هذا فيجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في "أَذِلَّة" أي: يتواضعون للمؤمنين حالَ كونِهم مجاهدين، أي: لا يَمْنعَهُم الجهادُ في سبيل الله من التواضعِ للؤمنين، وحاليَّتُها من ضمير "أعزة" أظهر من حاليَّتِها مِمَّا ذكرت، ولذلك لم يَسُغْ أن تُجْعَلَ المسألةُ من التنازع. الثالث: ان يكونَ مستأنفاً سِيق للإخبارِ بأنهم يجاهِدون في نصرة دين الله تعالى.
(5/351)
---(1/2059)
قوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُونَ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون / معطوفاً على "يُجاهِدُون" فتجرىي فيه الأوجهُ السابقة فيما قبله. الثاني: أن تكونَ الواوُ للحال، وصاحبُ الحالِ فاعلٌ "يجاهدون" قال الزمخشري: أي: يجاهِدُون وحالُهم في المجاهدةِ غيرُ حالِ المنافقين" وتَبِعه الشيه ولم يُنْكِرْ عليه، وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نصُّوا على أن المضارع المنفي بـ "لا" أو "ما" كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشِرَه واوُ الحال، وهذا كما ترى مضارعق منفي بـ "لا" إلا أَنْ يُقال: إن ذلك الشرطَ غير مُجْمَعٍ عليه، لكنَّ العلةَ التي مَنَعوا لها مباشرةَ الواوِ للمضارع المثبتِ موجودةٌ في المضارعِ المنفيِّ "بـ "لا" و"ما" وهي: أنَّ المضارعَ المثبتَ بمنزلةِ الاسم الصريح، فإنك إذا قتل: "جاز زيدٌ لا يضحكُ" في قوةِ "غيرَ ضاحك" و"غيرَ ضاحك" لا تدخلُ عليه الواوُ، إلاَّ أن هذا يُشْكِلْ بأنهم نَصُّوا على أن المنفي بـ "لم" و"لما" يجوزُ عليه الواوُ، مع أنه في قولِك: "قام زيد لم يضحكْ" بمنزلةِ "غير ضاحك" ومِنْ دخول الواو قولُه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم} ونحوُه. الثالث: أن تكون الواوُ للاستئنافِ، فيكونَ ما بعدها جملةً مستأنفة مستقلة بالإخبار، وبهذا يحصُل الفرقُ بين هذا الوجه وبين الوجهِ الذي جَوَّزْتُ فيه أن تكون الواو عاطفةً مع اعتقادِنا أنَّ "يجاهدون" مستأنفٌ وهو واضح.
واللَّوْمَةُ: "المَرَّةُ من اللَّوْم، قال الزمخشري "وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يَخافون شيئاً قَطُّ من لومِ أحدٍ من اللُّوُّام، و"لومة" مصدرٌ مضافٌ لفاعله في المعنى، فإن قيل: هل يجوزُ أن يكونَ مفعولُه محذوفاً، أي: لا يخافون لومةَ لائمٍ إياهم؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز عند الجمهور، لأنَّ المصدرَ المحودَ بتاء التأنيث لا يعملُ، فلو كان مبنياً على التاء عَمِلَ كقوله:
(5/352)
---(1/2060)
1747- فولا رجاءُ النصر منك ورهبةٌ * عقابَك قد كانوا لنا بالموارِدِ
فأعمل "رهبةٌ" لأنه مبنيُّ على التاء، ولا يجوز أن يعملَ المحدودُ بالتاء إلا في قليلٍ من كلامِهم كقوله:
1748- يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازمٌ * بضربةِ كَفَّيهِ المَلا وَهُو راكِبُ يصفُ رجلاً سقى رجلاً ماءً فأحياه به وتيمَّم بالتراب، والمَلا: التراب، فصنب "الملا" بـ "ضربة" وهو مصدرٌ محدودٌ بالتاء. وأصلل لائم: لاوِم، لأنه من اللَّوْم فأُعِلَّ كقائم.
و"ذلك" في المشار إليه به ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه جميع ما تقدَّم من الأوصافِ التي وُصِف بها القومُ من المحبةِ والذلةِ والعزةِ والمجاهدة في سبيل الله وانتفاءِ خوفِ اللائمة من كلِّ أحدٍ، واسمُ الإشارة يَسُوغ فيه ذلك، أعني أنه يقعُ بلفظِ الإفراد مشاراً به لأكثر مِنْ واحدٍ، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ} والثاني: أنه مشارٌ به إلى حُبِّ الله لهم وحُبِّهم له. والثالث: أنه مشارٌ به إلى قوله:"أَذِلَّة" أي: لِين الجانب وتَرْكُ الترفُّع، وفي هذين تخصيصٌ غيرُ واضحٍ، وكأنَّ الحاملَ على ذلك مجيءُ اسم الإشارة مفرداً. و"ذلك" مبتدأٌ، و"فَضْلُ الله" خبرُه، و"يؤتيه" يحتملُ ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه خبرٌ ثاني، والثاني: أنه مستأنف والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال كقوله. {وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً
}.
* { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }
(5/353)
---(1/2061)
قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}: مبتدأٌ وخبرٌ، و"رسولهُ" و"الذين" عطفٌ على الخبر. قال الزمخشري: قد ذُكِرَتْ جماعةٌ فهلاً قيل: إنما أولياؤُكم. وأجابَ بأنَ الوِلايةَ بطريقِ الأصالةِ لله تعالى، ثم نَظَّم في سلكِ إثباتها لرسلوه وللمؤمنين، ولو جيء به جمعاً فقيل: "إنما أولياؤُكم" لم يكنْ في الكلامِ أصلٌ وتَبَعٌ". قتل: ويَحْتمل وجهاً آخرَ وهو أنَّ "وَلِيَّ" بزنة فَعِيل، وفعيل وقد نصَّ عليه أهلُ اللسان أنه يقعُ للواحدِ والاثنين والجماعة تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد، يقال: "الزيدون صديقٌ، وهند صديقٌ" وهذا مثلُه، غايةُ ما فيه أنه مقدَّمٌ في التركيب، وقد أجابَ الزمخشري وغيرُه بذلك في قوله تعالى {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} وذكر وجهَ ذلك وهو شِبْهُه بالمصادر وسيأتي تحقيقُه. وقرأ ابن مسعود: "إنما مَوْلاكم" وهي تفسير لا قراءة.
(5/354)
---(1/2062)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في خمسةُ أوجه، أحدها: أنه مرفوعٌ على الوصفِ لقوله "الذين آمنوا" وَصَفَ المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وذكرهاتين العبادتين دونَ سائرِ فروعِ الإيمان لأنهما أفضلُها. الثاني: أنه مرفوعٌ على البدلِ من "الذين آمنوا" الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين. الرابع: أنه عطفُ بيانٍ لما قبله؛ فإنَّ كلَّ ما جاز أن يكونَ بدلاً جاز أن يكون بياناً إلا فيما استُنْني وقد ذكرْتُه فيما تقدم. الخامس: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، وهذا الوجهُ والذي قَبله من باب القطع عن التبعية. قال الشيخ:- بعد أن نقلَ عن الزمخشري وَجْهَيْ البدلِ وإضمار المبتدأ فقط - "ولا أَدْري ما الذي مَنَعه من الصفةِ، إذ هو المتبادرُ إلى الذهن، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نية الطرحِ، وهو لا يَصِحُّ هنا / لأنه هو الوصفُ المترتَّب عليه [صحةُ] ما بعده من الأوصاف" قلت: لا نسلِّمُ أنَّ المتبادرَ إلى الذهن الوصفُ بل البدلُ هو المتبادرُ، وأيضاً فإنَّ الوصفَ بالموصولِ على خلافِ الأصلح لأنه مؤولٌ بالمشتقِّ وليس بمشتقٍ، ولا نُسَلِّم أنَّ المبدلَ منه على نيةِ الطَرْحِ، وهو المنقولُ عن سيبويه.
قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ } في هذه الجملة وجهان، أظهرُهما: أنها معطوفةٌ على ما قبلَها من الجملِ فتكونُ صلةً للموصولِ، وجاء بهذه الجملةِ اسميةً دونَ ما قبلَها، فلم يَقُلْ "ويركعون" اهتماماً بهذا الوصفِ؛ لأنه أظهرُ أركانِ الصلاة. والثاني: أنها واوُ الحال وصاحبُها هو واو "يُؤْتون" والمرادُ بالركوعِ الخضوعُ أي: يؤتون الصدقة وهم متواضِعُون للفقراءِ الذين يتصدَّقون عليهم، ويجوز أَنْ يُرادَ به الركوع حقيقةً؛ كما رُوي عن علي أميرِ المؤمنين أنه تصدَّقَ بخاتَمِة وهو راكعٌ.
* { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
(5/355)
---(1/2063)
قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ}: "مَنْ شرطٌ في محل رفع بالابتداء، وقولُه: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} يحتمل أن يكونَ جوباً للشرط، وبه يحتجُّ مَنْ لا يشترطُ عَوْدَ ضميرٍ على اسم الشرط إذا كان مبتدأ، ولقائل أن يقولَ: إنما جازَ ذلك لأنَّ المرادَ بحزب الله هو نفس المبتدأ، فيكون من باب تكرارِ المبتدأ بمعناه، وفيه خلافٌ: الأخفشُ يُجيزه فإنَّ التقدير: ومَنْ يتولَّ اللّهَ ورسولَه والذين آمنوا فإنه غالبٌ، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمرِ لفائدةٍ وهي التشريفُ بإضافةِ الحزب إلى الله تعالى، ويحتمل أن يكونَ الجوابُ محذوفاً لدلالةِ الكلام عليه أي: ومَنْ يتولَّ اللّهَ ورسولَه والذين آمنوا يَكُنْ من حزبِ الله الغالبِ أو يُنْصَرْه ونحوه. ويكون قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} دالاً عليه، وعلى هذين الاحتمالين فلا دلالة في الآية على عدمِ اشتراط عَوْدِ ضميرٍ على اسم الشرط. وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} في محلِّ جزم إنْ جعلناه جواباً للشرط، فصلاً له إن جعلناه دالاًّ على الجواب. وقوله: "هم" يحتمل أن يكون فصلاً وأن يكونَ مبتدأ و"الغالبون" خبرُه، والجملة خبر "إنَّ" وقد تقدَّم الكلام على ضمير الفصل وفائدته. والحِزْبُ: الجماعة فيها غلظةٌ وشدةٌ، فهو جماعةٌ خاصة.
* { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
(5/356)
---(1/2064)
قوله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَّ}: يجوز فيه أوجه، أحدها: الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه أو على النعت له، أو على عطف البيان، أو النصبُ على الذم، أو الرفعُ على الابتداء، والخبرُ قولُه: "فإمَّا تَثْقَفَنَّ" بمعنى: مَنْ تعاهد منهم - أي من الكفار - ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية. و "منهم" يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف إذ التقدير: الذي عاهدتهم أي: كائنين منهم، فـ "مِنْ" للتبعيض. وقيل: هي بمعنى مع. وقيل: الكلامُ محمولٌ على معناه، أي: أَخَذْتَ منهم العهدَ. وقيل: زائدةٌ أي: عاهَدْتَهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ.
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ}: الآية، فالذين وصلته هو المفعولُ الأول لقوله: {ولا تتَّخِذوا} والمفعول الثاني هو قوله: "أولياء" و"دينَكم" مفعولٌ أولُ لـ "اتخذوا" و"هُزُوا" مفعول ثان، وتقدَم ما في "هُزْءاً" من القراءات والاشتقاق. وقوله: {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محل نصب على الحال، وصاحبها فيه وجهان أحدُهما: أنه الموصولُ / الأول. والثاني: أنه فاعل "اتَّخذوا" الثاني من الوجهين الأولين أنه بيان للموصول الأول، فتكونُ "مِنْ" لبيانِ الجنس، وقوله: {مِن قَبْلِكُمْ} متلعق" بـ "أوتوا"؛ لأنهم أُوتوا الكتابَ قبل المؤمنين، والمرادُ بالكتابِ الجنسُ.
(5/357)
---(1/2065)
قوله: {وَالْكُفَّارَ} قرأ أبو عمرو والكسائي: "والكفارِ" الخفض، والباقون بالنصب، وهما واضحان، فقراءةُ الخفض عَطْفٌ على الموصول المجرور بـ "من" ومعناها أنه نهاهم أن تيخذوا المسهزئين أولياءَ، وبيَّن أن المستهزئين صنفان: أهلُ كتاب متقدم وهم اليهود والنصارى، وكفارٌ عبدةُ أوثان، وإن كانَ اسمُ الكفر ينطلق على الفريقين، إلا أنه غَلَب على عبدة الأوثان: الكفار، وعلى اليهود والنصارى: أهل الكتاب. قال الواحدي: "وحجةُ هذه القراءة من التنزيلِ قولُه تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} اتفقو على جَرِّ "المشركين" عطفاً على أهل الكتاب، ولم يُعْطَفْ على العامل الرافعِ" يعين بذلك أنه قد أَطْلَق الكفار على أهل الكتاب وعلى عبدة الأوثان: المشركين، ويدل على أنَّ المرادَ بالكفار في آية المائدة المشركون قراءةُ عبد الله: {ومن الذين أشركوا} ورُجِّحت قراءةُ أبي عمرو وأيضاً بالقرب، فإن المعطوفَ عليه قريبٌ، ورُجِّحت أيضاً بقارءة أُبَيّ: "ومن الكفار" بالإتيان بـ "من" وأمَّا قراءةُ الباقين فوجهُها أنه عطفٌ على الموصل الأول أي: لا تتخذوا المستهزئين ولا الكفار أولياء، فهو كقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلا أنه ليس في هذه القراءة تعرُّضٌ للإخبار باستهزاءِ المشركين"، وهم مستهزئون أيضاً، قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} والمراد بهم مشركو العرب، ولوضوحِ قراءة الجرِّ قال مكي بن أبي طالب: "ولولا اتفاقٌ الجماعة على النصب لاخترت الخفضَ لقوتِه في المعنى، ولقربِ المعطوف من المعطوف عليه".
* { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ }
(5/358)
---(1/2066)
والضمير في: {اتَّخَذُوهَا}: يجوز أن يعودَ على الصلاة - وهو الظاهر- ويجوز أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من الفعل أي: اتخذوا المناداةَ، ذكر الزمخشري، وفيه بُعْدٌ، إذ لا حاجةَ تدعو إليه مع التصريح بما يَصْلُح أن يعودَ عليه الضميرُ بخلاف قوله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} وقوله: {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ} مبتدأٌ وخبر أي: الاستهزاءُ مستقر بسبب عدم عَقْلِهم.
* { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }
(5/359)
---(1/2067)
قوله تعالى: {تَنقِمُونَ}: قراءة الجمهور بكسر القاف، وقراءة النخعي وابن أبي عبلة وأبي حيوة بفتحها، وهاتان القراءتان مُفَرَّعتان على الماضي وفيه لغان: الفصحى - وهي التي حكاها ثعلب في فصيحةه - نَقَم بفتح القاف يَنْقِم بكسرها، والأخرى: نَقِم بكسر القاف ينقَم بفتحها، وحكاها الكسائي، ولم يُقْرأ في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} إلا بالفتح. وقوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} مفعولٌ لـ "تنقمون" بمعنى: تكرهون وتَعيبون وهو استثناء مفرغ. و"منا" متعلقٌ به، أي: ما تكرهون من جهِتنا إلا الإيمانَ، وأصلُ "نَقَم" أن يتعدَّى بـ "على" تقول: "نَقَمْتُ عليه كذا" وإنما عُدِّي هنا بـ "مِنْ" لمعنى سأذكره. وقال أبو البقاء: "ومِنَّا مفعولُ تَنْقِمون الثاني، وما بعد "إلا" هو المفعولُ الأول، ولا يجوزُ أن يكونَ "منَّا" حالاً مِنْ "أَنْ" والفعل لأمرين، أحدُهما: تقدُّم الحالِ على "إلاّ"، والثاني: وفي قوله معفولٌ أولُ وثانٍ نظرٌ، لأنَّ الأفعالَ التي تتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر محصورةٌ كأمر، واختار، واستغفر، وصَدَّق، وسَمَّى، ودعا بمعناه، وزَوَّج، ونبَّأ وأنبأ، وخَبَّر، وأَخْبر، وحَدَّث غيرَ مضمَّنةٍ معنى أعلم، وكلُّها يجوز فيها إسقاطُ الخافضِ والنصبُ، وليس هذا منها. وقوله: "ولا يجوز أن يكونَ حالاً" يعني أنه لو تأخَّر بعد "أن آمنَّا" لفظةُ "منا" لجازَ أن تكونَ حالاً من المصدر المؤولِ من "أَنْ" وصلتِها، ويصير التقديرُ: هل تَكْرهون إلا الإيمان في حال كونِه منا، لكنه امتنع مع تقدُّمِه على "أن آمنَّا" للوجهين المذكورين، أحدُهما: تقدُّمه على "إلاَّ" ويعني بذلك أن الحال لا تتقدم على "إلاَّ" ولا أدري ما يمنع ذلك؟ لأنه إذا جَعَل "منَّا" حالاً من "أَنْ" وما في حَيِّزها كان عاملُ الحال مقدراً، ويكونُ صاحبُ الحال محصوراً، وإذا كان صاحبُ الحال محصوراً وجبَ تقديمُ الحالِ عليه، فيقال: "ما جاء(1/2068)
(5/360)
---
راكباً زيد" و"ما ضَرَبْتُ مكتوفاً إلا عمراً" فـ "راكباً" و"مكتوفاً" حالان مقدمان وجوباً لحصرِ صاحبَيْهما فهذا مثلُه. وقوله: "والثاني: تقدُّم الصلة على الموصول" لم تتقدَّمْ صلةٌ على موصول، بيانه: أن المصول هو "أن" والصلة "آمنا" و"منَّا" ليس متعلقاً بالصلة بل هو معمول لمقدر، ذلك المقدَّرُ في الحقيقة منصوبٌ بـ "تَنْقِمون" فما أدري ما توهَّمه حتى قال ما قال؟ على أنه لا يجوزُ أن يكونَ حالاً لكن لا لِما ذَكر بل لأنه / يؤدِّي إلى أنه يصير التقديرُ: هل تَنْقِمون إلا إيمانَنا منا، فَمِنْ نفسِ قوله "إيماننا" فُهِم أنه منَّا، فلا فائدةَ فيه حينئذ. فإن قيل: تكون حالاً مؤكدة. قيل: خلافُ الأصل، ولي هذا من مظانِّها، وأيضاً فإنَّ هذا شبيهٌ بتهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه، فإنَّ "تَنْقِمون" يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً. وقرأ الجمهور "وما أُنْزِل إلينا وما أُنْزِل" بالبناء للمفعول فيهما، وقرأ أبو نهيك: "أَنْزلن وأَنْزل" بالبناء للفاعل، وكلتاهما واضحة.
(5/361)
---(1/2069)
قوله تعالى:{وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} قرأ الجمهورُ: "أَنَّ" مفتوحةَ الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها. فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل "أنَّ" فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر، فالرفعُ من وجه واحد وهو أن تكونَ مبتدأً والخبر محذوف. قال الزمخشري: "والخبر محذوف أي: فسقُكم ثابت معلومٌ عندكم، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أنَّ حبَّ الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا" فقدَّر الخبر مؤخراً. قال الشيخ: "ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ بـ "أَنَّ" على الأصحِّ إلا بعد "أمَا" انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتفر في الأمور التقديرية ما لايُغْتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى، والمرادُ إظهار ذلك الخبر كيف يُنْطَق به، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء بـ "أنَّ" مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.
وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه،أحدها: أن يُعْطَفُ على "أن آمَنَّا"، واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ أكثرهم، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين أيماننا وبين تَمَرُّكم وخروجكم عن الإيمانْ، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفَتكم حيث دَخَلْنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه".
(5/362)
---(1/2070)
ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لَمَّا نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم، وهو مِمَّا يُنْقِم، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواد، يقول القائل: "هل تنقم مني إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر" فَيَحْسُن ذلك لإتمامِ المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: "والمعتنى على هذا: إنكم كرهتهم إيماننا وامتناعكم، أي: كرهتم مخالفتَنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك مُبْغَضٌ" وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض. وقال ابن عطية: وأنَّ أكثركم فاسقون هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله: {أَنْ آمَنَّا} فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه، وهذا لا يتِّجِهُ معناه" ثم قال بعد كلام: "وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تَنْقِمون منا إلا مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ: "هل تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتْ أنا وكَذَبْتَ أنت" وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا يَنْقِم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال" وهذا هو مجموعُ ما أجاب به الزمخشري والواحدي.
(5/363)
---(1/2071)
الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكونَ معطوفاً على "أن آمنَّا" أيضاً، ولكنْ في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى، تقديرُه: "واعتقادَ أن أكثركم فاسقون" وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار يِنقمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون، الثالث: أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون فِسْقَ أكثركم. الرابع: أنه منصوبق على المعية، وتكونُ الواوُ بمعنى "مع" تقديرُه: وما تَنْقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثرَكم فاسقون. ذَكَر جميعَ هذه الأوجه أبو القاسم الزمخشري. والخامس: أنه منصوبٌ عطفاً على "أنْ آمنَّا" و"أن آمنَّا" مفعولٌ من أجهل فهو منصوب، فعَطَفَ هذا عليه، والأصلُ: "هل تَنْقِمون إلا لأجْلِ إيماننا، ولأجل أنَّ أكثرَهم فاسقون"، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر من "أن آمنَّا" بقي منصوباً على أحدِ الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصبُ ممتنعٌ من حيث إنه فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعلِ، والفاعلُ هنا مختلفٌ، فإنّ فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ "أن آمنَّا" جراً ليس إلا، بعد حذفِ حرفِ الجر، ولا يَجْري فيه الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محلِّ "أنْ" إذا حُذِف منها حرفُ الجر، لعدمِ اتحاد الفاعل. وأُجيب عن ذلك بأنَّا وإن اشترطنا اتحادَ الفاعلِ فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصبِ في "أَنْ" و"أَنَّ" إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حَذْفِ حرفِ الجر لا لكونِهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصُهما من يحث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة، وفي هذه المسألةِ بخصوسِها خلافٌ مذكور في بابه، ويدلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحبِ "النظم" فإن صاحب "النظم" ذَكَر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَكم، أي: إنما كرهتم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّا على حقٍّ لأنكم فسقتم بأنْ أقمتم على دينِكم، وهذا معنى قولِ الحسن، فعلى هذا يجب أن يكونَ موضعُ(1/2072)
(5/364)
---
"أَنَّ" في قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} نصباً بإضمار اللام على تأويل "ولأنَّ أكثرَكم" والواوُ زائدةٌ، فقد صَرَّح صاحبُ "النظم" بما ذكرته. الوجه السادس: أنه في محلِّن صبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون، والواوُ زائدةٌ كما تقدَّم تقريره. وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير لُفْهَم معناه، قال الشيخ بعد ذِكْرِ ما نَقَلْتُه من الأوجه المتقدمةِ عن الزمخشري: "ويظهرُ وجهٌ ثامن ولعله يكون الأرجحَ، وذلك، أن "نَقَم" أصلُه أن يتعدَّى بـ "على" تقول: "نَقَمت عليه" ثم تبني منه افْتَعَل إذ ذاك بـ "من" ويُضَمَّن معنى الإصابة بالمكروه، قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ومناسَبَ التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخصٍ فِعْلَه فهو كارهٌ هل، ومصيبةُه عليه بالمكروه، فجاءت هنا فَعَل بمعنى افْتَعَل كقَدَرَ واقتدر، ولذلك عُدِّيت بـ "مِنْ" دون "على" التي أصلُها أن تتعدَّى بها، فصار المعنى: وما تناولون منا وما تصيبوننا بما نَكْرَهُ إلا أن آمنا، أي: إلاَّ لأنْ آمنَّا" فيكون "ان آمنَّا" مفعولاً من أجهل، ويكون "وأنَّ أكثركم فاسقون" معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سببُ تعديتِه بـ "مِنْ" دون "على" انتهى ما قاله، ولم يُصَرِّحْ بكونِه حينئذ في محلِّ نصبٍ أو جر، إلاَّ أنَّ ظاهر حالِه أن يُعْتَقَد كونُه في محلِّ جرِّ، فإنه إنما ذُكِر أوجه الجر.
(5/365)
---(1/2073)
وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المؤمَنِ به، قال الزمخشري: "أي: وما تَنْقِمون منا إلا الإيمانَ بالله وبما أُنْزِل، وبأن أكثركم فاسقون" وهذا معنى واضح، قال ابن عطية: "وهذا مستقيمُ المعنى، لأنَّ إيمانَّ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فَسَقه هو مما ينقمونه" الثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ تقديرها: ما تَنْقشمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقِكم وإتباعكم شهواتِكم، ويدلُّ عليه تفسيرُ الحسن البصري "بقسقِكم نَقَمتم علينا" ويُروى "لقسقهم نَقَموا علينا الإيمان" الثالث: أنه في محلِّ جرِّ عطفاً على محل "أنْ آمنَّا" إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقَدْنا أنَّ "أنَّ" في محل جر بعد حذف الرحف، وقد تقدَّم ما في ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أحدَ عشرَ وجهاً، وجهان في حال الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر: هل يٌقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً، وقد تقدَّم ما فيه، وستةُ أوجه في النصب، وثلاثةٌ في الجر. وأمَّا قراءةُ ابن ميسرة فوجهها أنها على الاستئنافِ، أخبر أنَّ أكثرَهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفِها على معمول القول، أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: هل تنقِمون إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة جَلِيَّةٌ واضحة.
* { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }
(5/366)
---(1/2074)
قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ}: المخاطب في "أنبئِّكُم" فيه قولان، أحدهما - وهو الذي لا يَعْرِف أكثرُ / أهلِ التفسير غيرَه: أنه يُراد به أهلُ الكتاب الذين تقدَّم ذكرُهم. والثاني: أنه للمؤمنين، قال ابن عطية: "ومَشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أُمَر أَنْ يقول لهم: "هل أنبئِّكم" هم اليهودُ والكفار المتَّخذون دينَنا هزواً ولعباً، قال ذلك الطبري، ولم يُسْنِد في ذلك إلى مقتدِّم شيئاً، والآية تحتمل أن يكونَ القولُ للؤمنين" انتهى، فعلى كونِه ضميرَ المؤمنين واضحٌ، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل - أعني "بشرّ" - على بابِها، إذ يصير التقدير: قل هل أنبِّئكم يا مؤمنون بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين؟ أولئك أسلافُهم الذين لعنهم الله، وتكون الإشارةُ بـ "ذلك" إلى حالِهم، كذا قَدَّره ابنُ عطية، وإنما قَدَّر مضافاً، وهو حال ليصِحَّ المعنى، فإن "ذلك" إشارةٌ للواحدِ، ولو جاءَ مِنْ غير حَذْفِ مضافٍ لقيل: بشرٍّ من أولئكم بالجمع. وقال الزمخشري: "ذلك" إشارةٌ إلى المنقومِ، ولا بد من حذفِ مضافٍ قبلَه أو قبل "من" تقديرُه: بشرٍّ من أهل ذلك، أو دينِ مَنْ لَعَنَه [الله]" انتهى. ويجوزُ ألاَّ يقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ لا قبلُ ولا بعدُ، وذلك على لغةِ مَنْ يُشير للمفردِ وللمثنى والمجموع تذكيراً وتانيثاً بإشارة الواحدِ المذكر، ويكون "ذلك" إشارةً إلى الأشخاصِ المتقدِّمين الذين هم أهلُ الكتابِ، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعين أن السلف الذي لهم شَرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قولُه {مَن لَّعَنَهُ} مفسِّراً لنفس "ذلك" وإنْ كان ضميرَ أهلِ الكتاب وهو قولُ عامةِ المفسرين فيُشْكِل ويحتاج إلى جواب.
(5/367)
---(1/2075)
ووجهُ الإشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ: "هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك، و"ذلك" يُارد به المنقومُ وهو الإيمانن وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ الإسلام البتةَ، وقد أجابَ الناسُ عنه، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها الإشكالَ المتقدمَ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال: "فإنْ قلت: المثوبةُ مختصةٌ بالإحسان فكيف وَقَعَتْ في الإساءةِ؟ قلت: وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله:
1749- ...................... * تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ
ومنه {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وتلك العبارةُ التي ذكرتُها لك هي أن قال: "فإنْ: المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ، فلِمَ شُورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهودُ - لُعِنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شرٌّ عقوبةً في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم" وفي عبارته بعضُ علاقة وهي قوله: "فلمَ شُورك بينهم" أي: بين اليهود وبين المؤمنين، وقوله: "من الفريقين" يعني بهما أهلَ الكتاب المخاطبين بـ "أنبِّئكم" ومَنْ لعنه الله وغَضِب عليه، وقوله "في العقوبة" أي: التي وَقَعَت المثوبةُ / موقعَها، ففسَّرها بالأصل، وفَسَّر غيرُه المثوبةَ هنا بالرجوعِ إلى الله تعالى يومَ القيامة، ويترتَّب على التفسيرين فائدةٌ ستظهرُ لك قريباً.
و"مثوبةً" نصبٌ على التمييز، ومميِّزُها "شَرٌّ" وقد تقدم في البقرة الكلامُ على اشتقاقِها ووزنِها فَلْيلتفت إليه. وقوله: {عِندَ اللَّهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفسِ "مَثُوبة" إنْ قُلْنا إنها بمعنى الرجوع، لأنك تقول: "رَجَعْتُ عنده" والعندية هنا مجازية. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ "مثوبة"، وهو في محلِّ نصبٍ إنْ قلنا: إنها اسمٌ محض، وليست بمعنى الرجوع بل بمعنى عقوبة.
(5/368)
---(1/2076)
وقرأ الجمهور: {أُنَبِّئكم} بتشديد الباء من "نَبَّأ" وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: "أُنْبِئُكم" بتخفيفها من "أنبأ" وهما لغتان فصيحتان. والجمهور أيضاً على "مَثُوبة" بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرج وابن بريدة ونبيح وابن عمران: "مَثْوبة" بسكون الثاء وفتح الواو، وجعلها بان جني في الشذوذ كقولهم "فاكهة مَقْوَدَةٌ للأذى" بسكون القاف وفتح الواو، عين أنه كان من حقها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها، وتٌقْلَبَ الواوُ ألفاً، فيقا: مثابة ومَقادة كما يقال: "مَقام" والأصل: "مَقْوَم".
قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ} في محل ["مَنْ"] أربعة أوجه، أحدها: أنه في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو مَنْ لعنه الله، وقَدَّر مكي قبله مضافاً محذوفاً، قال: "تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لعنه الله" ثم قال: وقيل: "مَنْ" في موضعِ خفضٍ على البدلِ مِنْ "بشرِّ" بدلِ الشي من الشيء وهو هو، وكان ينبغلي له أن يقدِّر في هذا الوجه مضافاً محذوفاً كما قَدَّره في حالة الرفع، لأنه إنْ جعل "شراً" مراداً به معنًى لزمه التقدير في الموضعين، وإن جعله مرادغاً به الأشخاصُ لَزمه ألاَّ يُقَدِّر في الموضعين. الثاني: أنه في محل جر كما تقدَّم بيانُه عن مكي. الثالث: أنه في محلِّ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر يدل عليه "أُنَبِّئكم" تقديره: أُعَرِّفكم مَنْ لعنه الله، ذكره أبوالبقاء، و"مَنْ" يُحْتَمل أن تكونَ موصولة وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفة. فعلى الأول لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على "مَنْ" بأحد الأوجه السابقة، وقد حَمَل على لفظِها أولاً في قوله "لعنه" و"عليه" ثم على معناها في قوله: {مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ } ثم على لفظها في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ثم على لفظِها في قوله: {أُوْلَائِكَ} فجَمَع في الحمل عليها أربع مرات.
(5/369)
---(1/2077)
و"جَعَل" هنا بمعنى "صَيَّر" فيكون "منهم" في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف أي صَيَّر القردة والخنازير كائنين منهم، وجعلَها الفارسي في كتاب "الحجة" له بمعنى خلق. قال ابن عطية "وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزالية لأنه قوله:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} تقديره: ومَنْ عبد الطاغوت" والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيِّر أحداً عابدَ طاغوت" انتهى. والذي يُفَرٌّ منه في التصيير هو بعينه موجودٌ في الخلق، وللبحث فيه موضع غير هذا تعرضت له في التفسير الكبير. وجَعَل الشيخ قوله تعالى "مَنْ لعنَه الله" إلى آخره مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمرِ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شراً مثوبةً، كأنه قيل: قل هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم، أي: هم أنتم، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعد: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوااْ آمَنَّا} فيكون الضميرُ واحداً، وجَعَل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: "مَنْ غَضِب الله عليهم وجعلَهم قردةً" وهي واضحةٌ.
(5/370)
---(1/2078)
قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءةً اثنتان ف السبع، وهما "وعَبَد الطاغوتَ" على أن "عَبَد" فعلٌ ماضٍ مبني للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على "مَنْ" كما تقدم، وهي قراءة جمهور السبعة غيرَ حمزة. والثانية: و"عَبُدَ الطاغوتِ" بضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت، وهي قراءةُ حمزة - رحمه الله - والأعمش ويحيى بن وثاب. وتوجيههُا كما قال الفارسي وهو أن "عَبُداً" واحدٌ يُراد به الكثرةُ مثلَ قوله تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} وليس بجمع "عبد" لأنه لي في أبنيةِ الجمع مثلُه. قال: "وقد جاء على فَعُل لأنه بناء يُراد به الكثرةُ والمبالغةُ في نحو يَقُظ ونَدُس كأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذهب، وبهذا المعنى أجاب الزمخشري أيضاً، قال - رحمه الله تعالى -: "معناه الغلُوُّ في العبودية كقولهم: "رجل حَذُر وفَطُن" للبليغ في لاحذر والفطنة، وأنشدَ لطَرَفة:
1750- أبني لُبَيْنَى إنَّ أمَّكُمُ * أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
وقد سَبَقهما إلى هذا التوجيهِ أو إسحاق، وأبو بكر بن الأنباري، قال أبو بكر: "وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ كقولِهم للفَطِن: "فَطُن" وللحَذِر: "حَذُر"، يَضُمُّون العين للمبالغة، قال أوس بن حجر:
-أبني لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ * أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
(5/371)
---(1/2079)
فضمَّ الباء، قلت: كذا نَسَب البيتَ لابن جحر، وقد قَدَّمْتُ أنه لطرفة، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفةَ الشيخُ شهاب الدين أبو شامة. وقال أبو إسحاق: "ووجْهُ قراءِة حمزةَ أنَّ الاسمَ بُنِي على فَعُل كما تقول: "رجلٌ حَذُر" وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحذر / فتأويلُ "عَبُد" أنَّه بَلَغ الغايةَ في طاعة الشيطان، وكأنَّ هذا اللفظَ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجمع كما تقول للقوم "عَبُد العَصا" تريدُ عبيد العصا، فأخذ أبو عليّ هذا وبَسَطه وبما ذَكَرْتُه عنه، ثم قال "وجاز هذا البناءُ في عَبْد لأنه في الأصلِ صفةٌ، وإن كان قد استُعْمِل الأسماءِ، لا يُزيل ذلك عنه حكمَ الوصفِ كالأبطح والأبرق استُعْمِلا استعمالَ الأسماءِ حتى جُمِعا جَمْعَها في قولهم: أبارق وأباطح كأجادل جمع الأجْدَل ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكمَ الصفة، يَدُلُّك على ذلك مَنْعُهم له الصرف كأحمر، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة لم يتنعْ أَنْ يُبنى بناءَ الصفات على فَعْل نحو: "يَقُظ"، وإنما أَشْبَعْتُ العبارةَ هنا لأن بعض الناس طَعَن على هذه القراءة ونسب قارئها إلى الوهم كالفراء والزجاج وأبي عبيد ونصير الرازي النحوي صاحب الكسائي. قال الفراء: "إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشعر - يعني ضمَّ باء "عَبُد" فأمَّا في القراء فلا" وقال أيضاً: "إنْ تكن لغةً مثلَ حَذُر وعَجُل جاز ذلك، وهو جهٌ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة" وقال الزجاج: "هذه القراءةُ ليست بالوجهِ لأنَّ عَبُداً على فَعُل، وهذا ليس من أمثلةِ الجمعِ" وقال أبو عبيد: "إنما معنى العَبُد عندهم الأعبُد، يريدون خدَمَ الطاغوتِ، ولم نجد هذا يَصِحُّ عن أحد من فصحاء العرب أن العَبْد يقال فيه عَبُد وإنما هو عَبْد وأَعْبُد" وقال نصير الرازي "هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به فليتقِ الله مَنْ قرأ به، وليسألْ عنه العلماء حتى يوقفَ على أنه غير جائز" قلت: قد سألوا عن ذلك العلماءَ ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا(1/2080)
(5/372)
---
تواتر الشيء قرآناً فلا التفاتَ إلى مُنْكِره لأنه خَفِيَ عنه ما وَضَح لغيره.
وأمَّا القراءاتُ الشاذةُ فقرأ أُبَيّ: و"عَبَدُوا" بواوِ الجمع مراعاةً لمعنى "مَنْ" وهي واضحةٌ. وقرأ الحسن البصري في رواية عَبَّاد و"عَبْدَ الطاغوت" بفتح العين والدالو وسكون الباء ونصب التاء من "الطاغوت" وخَرَّجها ابن عطية على وجهين احدهما: أنه أراد: "وعَبْداً الطاغوت" فحذف التنوينَ من "عبداً" لالتقاء الساكنين كقوله:
1751- .................. * ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
والثاني: أنه أراد "وعبَد" بفتح الباء على أنه فعلٌ ماضٍ كقراءة الجماعة إلا أنه سَكَّن العينَ على نحو ما سَكَّنها في قول الآخر:
1752- وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ *...................
بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السمال: {ولُعْنوا بما قالوا} بسكون العين، قلت: ليس ذلك مثلَ "لُعْنوا" لأنَّ تخفيف الكسر مقيس بخلاف الفتح ومثلُ "سَلْفَ قولُ الآخر:
1753- إنما شِعْريَ مِلْحٌ * قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
من حيث إنه خَفَّف الفتحة. وقال الشيخ - بعد أن حكى التخريج الأول عن ابن عطية -: "وهذا التخريجُ لا يَصِحُّ لأنَّ عَبْداً لايمكن ينصبَ الطاغوت، إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، فالتخريجُ الصحيح أن يكونَ تخفيفاً من "عَبَدَ" كـ "سَلْف" في "سَلَفْ" قلت: لو ذكر التخريجين عن ابن عطية، ثم استشكلَ الأولَ لكان إنصافاً لئلا يُتَوَهَّم أن التخريجَ الثاني له. ويمكن أن يقال: إنَّ "عَبْداً" لِما في لفظه من عنى التذلل والخضوع دَلَّ على ناصب للطاعوت حُذِفَ، فكأنه قيل: مَنْ يعبُد هذا العبدَ؟ فقيل: يعبُد الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ "عَبْدَ" حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطفاً على القردة، أي: وجعلَ منهم عبْداً للطاغوت.
(5/373)
---(1/2081)
وقرأ الحسن أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ "الطاغوت" وهي واضحةٌ فإنه مفرد يُراد به الجنسُ أُضيف إلى ما بعده. وقرأ الأعمش والنخعي وأبو جعفر: "وعُبِد" مبنياً للمفعول، "الطاغوتُ" رفعاً. وقرأ عبد الله كذلك إلا أنَّه زادَ في الفعلَ تاءَ التأنيث، وقرأ: "وعُبِدَتِ الطاغوتُ" والطاغوت يذكر ويؤنث، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} وقد تقدَّم في البقرة قال ابن عطية: "وضَعَّفَ الطبري هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ" يعني قراءةَ البناءِ للمعفول، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعفِ أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصلةِ من رابطٍ يربُطها بالموصول، إذ ليس في "عُبِد الطاغوتُ" ضميرٌ يعودُ على {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} لو قلت: أكرمت الذين أهنتُم وضُرِب زيدٌ" على أن يكون "وضُرِب" عطفاً على "أكرمت" لم يَجُزْ، فكذلك هذا. وأمَّا توجيهُها فهو كما قال أبو القاسم الزمخشري: "إنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه: "وعُبِد الطاغوتُ فيهم أو بينهم".
وقرأ ابن مسعود في رواية عبد الغفار عن علقمة عنه: {وعَبُدَ الطاغوتُ} بفتح العين وضمِّ الباء وفتحِ الدالِ ورفعِ الطاغوت، وفيها تخريجان، أحدُهما: - ما ذكرَه ابن عطية - وهو أن يصيرَ له أَنْ عُبِد كالخُلُقِ والأمرِ المعتاد المعروف، فهو في معنى فَقُه وشَرُف وظَرُف، قلت: يريد بكونِه في معناه أي: صار له الفقهُ والظرفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال والثاني:- ما ذكرَه الزمخشري - وهو أَنْ صارَ معبوداً من دونِ الله كـ "أمُر" أي: صار أميراً، وهو قريبٌ من الأولِ وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ.
(5/374)
---(1/2082)
وقرأ ابن عباس في رواية عكرمة عنه ومجاهد / ويحيى بن وثاب: و{وعُبُدَ الطاغوتِ} بضم العين والباء وفتح الدال وجر "الطاغوت" وفيها أقوال، أحدها: وهو قول الأخفش- أنَّ عُبُداً جمع عبيد، وعبيد جمعُ عَبْد فهو جمعٌ الجمعِ، وأنشد:
1754- أنسُبِ العبدَ إلى آبائِه * أسودَ الجِلْدَةِ من قومٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشري على ذلك، عين أنَّ عبيداً جمعاً بمنزلة رغيف مفرداً فيُجْمع جمعَه كما يُقال: رغيف ورُغُف. الثاني - وهو قولُ ثعلب - أنه جمعُ عابد كشارف وشُرُف، وأنشد:
1755- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ * فهنَّ مُعَقِّلاتٌ بالفِناءِ
والثالث: أنه جَمْعُ عَبْد كسِقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن. والرابع: أنه جمع عِباد، وعِباد جمعُ "عَبْد" فيكونُ أيضاً جمعَ الجمعِ مثل "ثِمار" هو جمع "ثَمَرة" ثم يُجْمع على "ثُمُر" وهذا لأنَّ عِباداً وثِماراً جمعين بمنزلة كتاب مفرداً، وكتاب يجمع على كُتُب فكذلك ما وازَنَه.
وقرأ الأعمش: {وعُبَّدَ" بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتح الدال، "الطاغوت" بالجرِّ، وهي جمع عابِد كضُرَّب في جمع ضارِب وخُلَّص في جمع خالص. وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: {وعُبَدَ الطاغوت} بضمِّ العين وفتح الباء والدالِ. و"الطاغوتِ" جَرَّا، وتوجيهُها أنه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم ولُبَد وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ يُراد به الجمعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ ابن مسعود في رواية علقمةَ أيضاً: و{وعُبَّدَ الطاغوتَ} بضمِّ العين وبشد الباء مفتوحة وفتح الدال ونصب "الطاغوت" وخَرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عابد كضُرِّب في جمع ضارب، وحَذَف التنوين من "عبدا" لالقتاء الساكنين كقوله:
1756- ................ * ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
(5/375)
---(1/2083)
قال: "وقد تقدَّم نظيرُه" يعني قراءةَ: {وعَبْدَ الطاغوتَ} بفتح العين والجال وسكون الباء ونصب التاء، وكان ذَكَر لها تخريجين، أحدُهما هذا، والآخرُ لا يمكنُ وهو تسكينُ عينِ الماضي. وقرأ بريدة الأسلمي فيما نقلَه عنه ابنُ جرير: "وعابد الشيطانِ" بنصب "عابد" وجَرِّ "الشيطان" بدلَ الطاغوت وهو تفسيرٌ لا قراءةٌ. وقرأ أبو واقد الأعرابي: {وعُبَّاد} بضمِّ العين وتشديد الباءِ عبدها ألف ونصبِ الدال، والطاغوتِ بالجر، وهي جمعُ عابد كضُرًَّاب في ضارب.
وقرأ بعضُ البصريين: "وعِبادَ الطاغوتِ" بكسر العين، وبعد الباء المخففة ألف، ونصب الدال وجَرِّ "الطاغوت" وفيها قولان: أحدهما: أنه جمع عابِد كقائِم وقِيام، وصائِم وصِيام. والثاني: أنها جمعُ عَبْد، وأنشد سيبويه:
1757- أتوعِدُني بقومِك يابنَ حَجْلٍ * أُشاباتٍ يُخالُون العِبادَا
قال ابن عطية: "وقد يجوزُ أن يكونَ جمعَ "عَبْد"، وقلما يأتي "عِباد" / مضافاً إلى غير الله تعالى، وأَنْشَد سيبويه: "أتُوْعِدُني" البيت قال أبو الفتح: يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك بشي يُسَبُّ به أحدٌ، فالخَلْقُ كلُّهم عبادُ الله" قال ابن عطية: "وهذا التعليقُ بآدم شاذٌّ بعيدٌ والاعتراضُ باقٍ، ولي هذا مِمَّا تخيَّل الشاعرُ قصدَه، وإنما أرادَ العبيد فساقَتْه القافيةُ إلى العباد، إذ قد يُقال لِمَنْ يملكه مِلْكاً ما، وقد ذكره أن عربَ الحيرة سُمُّوا عِباداً لدخولهم في طاعةِ كِسْرى فدانَتْهم مملكتُه" قتل: قد اشْتَهَر في ألسنة الناس أن "عَبْدا" المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على "عِباد" وإلى غيره على "عبيد"، وهذا هو الغالبُ، وعليه بنى أبو محمد.
(5/376)
---(1/2084)
وقرأ عون العقيلي في رواية العَبَّاس بن الفضل عنه: "وعابِدُ الطاغوتِ" بضمِّ الدالِ وجَرِّ الطاغوت كضاربِ زيدٍ. قال أبو عمرو: تقديرُه: "وهم عابدُ الطاغوت" قال ابن عطية: "فهو اسمُ جنس" قلت: يعين انه أرادَ بـ "عابِد" جماعةً، قتل: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها: "وعابدو الطاغوت" جَمءعَ عابد جمعَ سلامةٍ، فلمَّا لَقِيت الواوُ لامَ التعريف حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضمومةٍ، ويؤيِد فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمرو قَدَّر المبتدأ جَمْعاً فقال: "تقديرُه: هم عابدو" اللهم إلا أَنْ ينقلُوا عن العقيلي أنه نَصَّ علي قراءتِه أنها بالإفراد، أو سمعوه يقف على "عابد" أو رَأَوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ، وحينئذ تكونُ قراءتُه كقراءةِ ابن عباس: {وعابدو} بالواوِ، وعلى الجملة فقراءتُها متحدةٌ لفظاً، وإنَّما الفرقُ بينهما على ما قولُوه في الوقفِ أو الخطِّ.
وقرأ ابنُ عباس في روايةٍ أخرى لعكرمة: "وعابِدُوا" بالجمعِ، وقد تقدَّم ذلك. وقرأ ابن بُرَيْدة: "وعابد" بنصبِ الدالِ كضاربِ زيدٍ، وهو أيضاً مفردٌ يُراد به الجنسُ. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: {وعَبَد الطاغوتِ} بفتحِ العين والباءِ والدال وجَرِّ الطاغوت، وتخريجُها أنَّ الأصلَ: "وعبدةً الطاغوت" وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة كفاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفضرة، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة كقوله:
1758- قام وُلاها فسقَوءه صَرْخَدا
أي: ولاتُها، وكقوله:
1759- ............... * وأَخْلَفُوا عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا
أي: عدةَ الأمر، ومنه: {وَإِقَامَ الصَّلاَة} أي: إقامة الصلاة، ويجوزُ أَنْ "عَبَدَ" اسمَ جنسٍ لعابد كخادِم وخَدَم / وحينئذ فلا حَذْفَ تاءِ تأنيثٍ لإضافة. وقُرِئ: "وعَبَدَة الطاغوت" ببوتِ التاء وهي دالَّةق على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلَها، وقد تقدَّم توجيهُها أنَّ فاعِلاً يُجْمَعُ على "فَعَلَة" كبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة.(1/2085)
(5/377)
---
وقرأ عبيد بن عمير: "وأعْبُد الطاغوت" جمع بد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: "وعبيد الطاغوت" جمع عبد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: "وعبيد الطاغوت" وجمعَ عبدٍ ايضاً وهو نحو: كلب وكليب" قال:
1760- تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها * رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمء وكَلِيبُ
وقُرئ أيضاً: "وعابدي الطاغوت" وقرأ عبد الله بن مسعود: "ومَنْ عَبَدوا" فهذه أربعٌ وعشرون قراءةً، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها: "وعابد الشيطان" لأنها تفسيرٌ لا قراءة. وقال ابن عطية: "وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ لا قراءةٌ" يعني لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآيةِ ظنَّ بعضُهم أنه قيل على سبيل الجواز لا أنا منقولةٌ عن أحدس، وهذا لا ينبغي أَنْ يُقال ولا يُعْتقدَ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْها قراءةً تَلَوها على مَنْ أخذوا عنه، وهذا بخلاف و"عابد الشيطان" فإنَّه مخالفٌ للسواد الكريم.
(5/378)
---(1/2086)
وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذه الحرفِ بعدّما عُرِفَ القراء أن يقال: سبع قراءات مع كونِ "عَبَد" فعلاً ماضياً وهي: وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً كسَلْفَ في سَلَف، وتسعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسيرٍ وهي: وعُبُدَ وعُبّضد مع جَرِّ الطاغوت وعُبّضد مع نصبه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد، وست مع المفرد: وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ الطاغوت بضم الدال وعاب الشيطان وعَبْدَ الطاغوتِ، وثنتان مع كونه جمعَ سلامة: وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء. فعلى قراءةِ الفعل يجوز في الجملة وجهان، أحدهما: أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها والتقدير: مَنْ لعنَه الله وعَبَد الطاغوت. والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ مَنْ أي: ومَنْ عَبَد، ويدلُّ له قراءة عبد الله بإظهارِ "مَنْ" إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحدي - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاء صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريين، جائزٌ عند الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى: {وَقُولُوااْ آمَنَّا بِالَّذِيا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي: وبالذي أُنْزل. وعلى قراءة جمع التكسير فيكون منصوباً عطفاً على القردة والخنازير أي: جَعَلَ منهم القردةَ وعِباد وعُبَّاد وعبيد، وعلى قراءة الإفراد كذلك أيضاً، ويجوز النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو العطفُ على "مَنْ" في {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنس، وفي بعضِها قُرئ برفعه نحو: "وعابدُ الطاغوت، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ أي: هم عابد، وتقدّضم ما في ذلك، وعندي أنه يجوزُ ان يرتفع على أنه معطوفٌ على "مَنْ" في قوله تعالى {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} ويَدُلُّ لذلك أنهم أجازوا في قراءِة عبدِ الله: "وعابدُو"(1/2087)
(5/379)
---
بالواوِ هذين الوجهين فهذا مثله. وأما قراءة جمع السلامة فَمَنْ قرأ بالياء فهو منصوبٌ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران، أحدُهما: أنه منصوبٌ عطفاص على "مَنْ" في {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} إذا قلنا إنَّ محلَّها نصب كما مَرَّ. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} أيضاً إذا قُلنا بأنَّها في محلِّ جر بدلاً من "بشرِّ" كما تقدمَّ إيضاحُه. وهذه أوجهٌ واضحة عَسِرة الاستناطِ واللهُ أعلمُ. ومَنْ قَرأ بالواو فرفعُه: إمَّا على إضمارِ مبتدأ أي: هم عابدُو الطاغوت، وإمَّا نسقٌ على "مَنْ" في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} كما تقدَّم.
قوله تعالى: {أُوْلَائِكَ شَرٌّ} مبتدأ وخبر، و"مكاناً" نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهلِه، كنايةً عن نهايتهم في ذلك، و"شرّ" هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّل عليه فيه احتمالان، أحدهما: أنهم المؤمنون، فيقال: كيف يُقال ذلك والمؤمنون لا شَرَّ عندهم البتة؟ فَأُجيب بجوابين، أحدُهما: - ما ذكره النحاس - وهو أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدنيا لِما يلحقُهم فيه من "الشر" يعين من الهموم الدنيوية والحاجة والإعسار وسماعِ الأذى والهَضْم من جانبهم قال: "وهذا أحسنُ ما قيل فيه" لعَمْري لقد صدق فطالما يَلْقَى المؤمن من الأذى ويذوقُ من الحاجة كلَّ صابٍ وعَلْقم. والثاني من الجوابين: أنه على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً له بالحجة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانهم في زعمهم، فهو قريب من المقابلة في المعنى. والثاني من الاحتمالين أنَّ المفضَّل عليه هم طائفة من الكفارِ، أي: أولئك المعلونون المغضوبُ عليهم المعجولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العبادون الطاغوتَ شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمعوا بين هذه الخصالِ الذميمةِ.
(5/380)
---(1/2088)
* {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوااْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ}: الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرين، فحينئذ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وإذا جاءكم ذريتُهم أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردة والخنازير لم يَجيئوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ، وذلك على أن يكونَ قولُه {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} إلى أخره عبارةً عن المخاطبين في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضمر، وكأنه قيل: أنتم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ} تقديرُه: وجَعَلَ من آبائِكم أو أسلافكم أو من جنسكم، لأن المعاصرين ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهم، فسواءً جَعَله مِمَّا ذَكَر أم لا، لا بد من حذف مضاف.
(5/381)
---(1/2089)
قوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ} هذه جملةٌ حاليةٌ / وفي العامل فيها وجهان أحدُهما: وبه بدأ أبو البقاء - أنه "قالوا" أي: قالوا كذا في حالِ دخولِهم كفرةً وخروجِهم كفرةً وفيه نظرٌ، إذ المعنى يَأباه. والثاني: أنه "آمنَّا"، وهذا واضحٌ أي: قالوا آمنَّا في هذه الحال. و"قد" في "وقد دَخَلُوا" "وقد خَرَجُوا" لترقيب الماضي في الحال. وقال الزمخشري: "ولمعنًى آخرَ وهو أنَّ أماراتِ النفاقِ كانت لائحةً عليهم فكان الرسولُ عليه السلام متوقعاً لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخَلَ حرفُ التوقعِ، وهو متعلِّقٌ بقوله "قالوا آمنا" أي: قالوا ذلك وهذه حالُهم" يعني بقوله: "وهو متعلِّقٌ" أي: والحال، وقوةُ كلامَه تُعْطي أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقول. و"بالكفر" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعلِ "دَخَلوا" فيه حال من حال أي: دَخلوا ملتبسين بالكفرِ أي: ومعَهم الكفرُ كقولهم: "خرج زيدٌ بثابه" وقراءةِ مَنْ قرأ: {تَنْبُتُ بالدُّهْن} أي: وفيها الدهن، ومنه ما أنشدَ الأصمعي:
1761- ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو * فِ قد قَطَعَ الحَبْل بالمِرْوَدِ
أي: ومرودُه فيه، وكذلك "به" أيضاً حالٌ من فاعل "خرجوا".
(5/382)
---(1/2090)
وقوله: {وهم} مبتدأٌ، و"قد خَرَجُوا" خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولى فعليةً والثانيةُ اسميةً تنبيهاً على فرطِ تهالكِهم في الكفر، وذلك أنهم كان ينبغي لهم إذا دخلوا على الرسولِ عليه السلام أَنْ يُؤمنوا، لِما يَرَوْن من حسنِ سَمْتِه وهَبْتَه وما يظهرُ على يديهِ الشريفعة من الخوارقِ والمعجزات، ولذلك قال بعض الكفرة: "رأيت وجهَ مَنْ ليس بكذَّاب" فلمَّا [لم] ينجَحْ فيهم ذلك أكَّد كفرهَم الثاني بأَنْ أبْرَز الجملةَ اسميةً صدرُها اسمٌ وخبرها فعلٌ، ليكونَ الإسنادُ فيها مرتين. وقال ابن عطية: "وقولُه" "وهم" تخليص من احتمال العبارة أن يدخُلَ قومٌ بالكفرِ ثم يؤمنوا ويخرجَ قومق وهم كفرة، فكان ينطبِقُ على الجميع وهم قد دَخَلوا بالكفر وقد خَرَجوا به، فأزال اللّهُ الاحتمالَ بقوله: "وهم قد خَرَجوا به" أي: هم بأعيانِهم" وهذا المعنى سَبَقه إليه الواحدي فبسَطه ابنُ عيطة، قال الواحدي: "وهم قد خرجوا به" أكَّد الكلامَ بالضمير تعييناً إياهم بالكفرِ وتمييزاً لهم من غيرهم" وقال بعضُهم: "معنى "هم" التأكيدُ في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكونَ من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهم مِنْ سوءِ معاملتِه لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنى: أنهم هم الذين خَرَجوا بالكفر باختيار أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسبَّبْبَ لبقائهم في الكفر" وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونض التقديرُ: وقد كانوا خَرَجُوا به" ولا معنى لهذا التأويل. والواوُ في قوله تعالى: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ} تحتمل وجهين أحدهما: أن تكونَ عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلِها، والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال، وعلى هذا يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجيز تعدُّدَ الحالِ لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: "جاء زيدٌ ضاحكاً كاتباً" وعلى الأول لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدل، وهذا شبيهٌ(1/2091)
(5/383)
---
بالخلاف في تعدُّد الخبر.
* { وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله تعالى: {وَتَرَى}: يجوز أن تكونَ بصريةً فيكونَ "يُسارعون" حالاً، وأن تكونَ العِلْمية أو الظنيَّة فينتصب "يسارعون" مفعولاً ثانياً.و "منهم" في محلِّ نصب على أنه صفةٌ لـ "كثيراً" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً منهم أو استقرَّ منهم. وقرأ أبو حيوة: "العِدوان" بالكسر. وأَكْلِهم" هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله. والسحتَ مفعولُه، وقد تقدَّم ما فيه قبلَ ذلك وقوله: "لبئسما" قد تَقَدَّم ايضاً حكمُ "ما" مع بئس ونِعْم أولَ هذا الكتاب فأَغْنى عن إعادته.
* { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
وقوله تعالى: {لَوْلاَ}: حرفُ تحضيض ومعناه التوبيخ. وقرأالجراح وأبو واقد: "الِّربيُّون" مكان الربانيين. وقرأ ابن عباس "بئسما" بغير لام قسم. و"قولهم" مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، "والإثْمَ" مفعولُه.
* { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
وقرأ أبو السمَّال: "ولُعنوا" بسكون العين، وحَسَّن تخفيفَها هنا كونُها كسرةً بين ضمتين، ومثلُه قولُ الآخر:
1762- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ
(5/384)
---(1/2092)
والظاهر أن الضميرَ في "كانوا" عائدٌ على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين.
وقول تعالى حكايةً عن اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيه قولان، أحدُهما: أنه خبرٌ مَحْضٌ. وزعم بعضُهم أنه على تقديرِ همزة استفهام تقديره: "أيدُ اللَّهِ مغلولةٌ"؟ قالوا ذلك لَمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاجون إلى هذا التقدير. و"بما قالوا" الباء للسببية أي: لُعنوا بسببِ قولِهم، و"ما" مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية والعائدُ محذوف. وغَلُّ اليدِ وبسطُها هنا استعارةٌ للبخل والجود، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العرب ملآنُ من ذلك. قالت العرب: "فلانٌ ينفق بكلتا يديه" قال:
1763- يداك يدا مجدٍ، فكفٌّ مفيدةٌ * وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
وقال آخر هو ابو تمام:
1764- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه * دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيث لا يدَ البتة، ومنه قولُ لبيد:
1765- .............. *إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها
وقال آخر:
1766- جادَ الحِمى بَسْطُ اليدين بوابلٍ * شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ
وقالوا: "بَسَطَ اليأيسُ كفَّيه في صدري" واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد جعلوا له كَفَّين مجازاً. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ ثُنِّيت اليد في "بل يداه مبسوطتان" وهي في "يَدُ اللَّهِ مغلولةٌ" مفردةٌ؟ قلت: يكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثبات غايةِ السخاء له ونَفءي البخل عنه،وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السخيُّ من ماله بنفسِه أن يعطيَه بيديه جميعاً فنبى المجازَ على ذلك" وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ} يحتمل الخبرَ المحضَ، ويحتمل أن يُراد به الدعاءُ عليهم. وفي مصحف عبد الله: "بُسُطان" يقال: "يدٌ بُسُط" على زنة عبد الله: "بسيطتان" يقال: يد بسيطة أي: مُطْلَقَةٌ بالمعروف.
(5/385)
---(1/2093)
قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر- أنْ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها مستأنفة والثاني: أنها في محلِّ رفع لأنها خبر ثان لـ "يداه" والثالث: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في "مبسوطتان" وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال أي: ينفق بهما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ. وقال أبو البقاء: "ينفق كيف يشاء" مسأنفٌ، ولا يجوزُ ان يكونَ حالاً من الهاء - يعني في "يداه" - لشئين، أحدُهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً من اليدين، إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما" قلت: قوله: "أحدُهما: أنَّ الهاء مضاف إليها" ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحال من المضافِ إليه إذا لم يكن المضاف جزءاً من المضاف إليه أو كجزئه أو عاملاً فيه وهذا من النوع الأول فلا مانع فيه. وقوله: "والثاني: أن الخبرَ يَفْصِل بينهما" هذا أيضاً ليس بمانع، ومنه: {وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً} إذا قلنا إن "شيخاً" حالٌ من اسم الإشارة، والعاملُ فيه التنبيه. وقوله: "إذ ليس فيها ضمير" قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي: ينفق بهما.
الرابع: أنها حالٌ من "يداه" وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحال من المبتدأ - ووجهُ المنعِ أنَّ العامل في الحال هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبها أمرٌ معنوي لا لفظيٌ وهو الابتداء، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء. الخامس : أنها حال من الهاء في "يداه" ولا اعتبار بما منعه أبو البقاء لَما تقدَّم من تصحيحِ ذلك.
(5/386)
---(1/2094)
و"كيف" في مثلِ هذا التركيب شرطيةٌ نحو: "كيف تكون أكون" ومفعولُ المشبه محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعلِ السابق لـ "كيف" والمعنى: ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق، ويبسطُ في السماء كيف يشاء أن يبسطَه يبسطه، فحذف مفعول " يشاء" وهو "أَنْ" وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول "يشاء" و"يريد" لا يُذْكران إلا لغرابتهِمها، وحَذَفَ أيضاً جوابَ "كيف" وهو "ينفق" المتأخرُ "ويبسط" المتأخرُ لدلالة "ينفق ويبسط" الأولين، وهو نظيرُ قولك: "أقوم إنْ يقم زيد"، ولا جائزٌ أن يكونَ "ينفق المتقدُم عاملاً في "كيف" لأنَّ لها صدرَ الكلامِ، ومالَه صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف. وقال الحوفي: "كيف" سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ بـ "يشاء" قال الشيخ "ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالاً عن حال" قلت: وقد تقدم الكلام عليها مشبعاً عند قوله: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} وذكرنا عبارةَ الناس فيها.
(5/387)
---(1/2095)
قوله: {مَّآ أُنزِلَ} "ما" هنا موصولةٌ اسمية في محل رفع، لأنها فاعل بقوله: { وَلَيَزِيدَنَّ} ولا يجوزُ ان تكونَ "ما" مصدريةً، و"إليك" قائمٌ مقام الفاعل لـ "أُنْزل" ويكون التقديرُ: "وليزيدَنَّ كثيراً الإنزالُ إليك" لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنما هو المُنَزَّل لا نفسُ الإنزال. وقوله: "منهم" صفةٌ لـ "كثيراً" فيتعلَّقُ بمحذوف و"طغياناً" معفولٌ ثان لـ "يَزيدط وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} متعلقٌ بـ "أَلْقينا"، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: "والبغضاء" اي: إنَّ التباغضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ لئلا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذه فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازع، لأن شرطَه تسلُّطُ كلٍ من العاملين، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور. وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور. وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع في فِعْلَي التعجب مع التزام إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَلِّ بين فعل التعجب ومعموله، وهذا مثلُه، أي: يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وهو خارج عن قياسِ التنازع، وتقدَّم لك نظيره. والفرقُ بين العداوة والبغضاء أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عملٌ وحرب، والبغضاء لا تتجاوزث النفوس، قال ابن عطية وقال الشيخ: "العداوةُ أخَصُّ من البغضاء لأنَّ كل عدو مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ ليس بعدو".
(5/388)
---(1/2096)
قوله: {لِّلْحَرْبِ} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بـ "أوقدوا" أي: أوقدوها لأجل الحرب. والثاني: أنه صفة لـ "نارا" فيتعلق بمحذوف، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و"أطفأها الله" جواب "كلما" وهو أيضاً حقيقة أو مجاز على حَسَب ما تقدم. وقوله: {فَسَاداً} قد تقدم نطيره، وأنه يجوزُ أن يكونَ مصدراً من المعنى، وحينئذ لك اعتباران، أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر. والثاني: ردّث المصدر لمعنى الفعل، وأن يكون حالاً أي: يَسْعَوْن سَعْيَ فساد، أو: يفسدون بسعيهم فساداً، أو: يَسْعَوْن مفسدين، وأن يكونَ مفعولاً من أجله: أي: يَسْعَوْن لأجل الفساد. والضميرُ في "بينهم" يجوز أن يعود على اليهودِ وحدَهم لأنه فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشبعةٌ، وأَنْ يعودَ على اليهود والنصارى لتقدُّم ذكرهم في قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} ولا ندارجِ الصنفين في قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} والألفُ واللام في "الأرض" يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكون للعهد.
* { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ }: تقدَّم الكلامُ على نظيرِ هذا التركيب.
* { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }
(5/389)
---(1/2097)
قوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ}: مفعولُ الأكلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أي لوُجِد منهم هذا الفعلُ، و"من فوقهم" متعلقٌ به أي: لأكلوا من الجهتين. وقال أبو البقاء: "إنَّ "من فوقهم" صفةٌ لمفعول محذوف أي: لأكلُوا رِزْقاً كائناً مِنْ فوقِهم" وقوله "منهم" خبر مقدم، و"أمةٌ" مبتدأ، و"مقتصدةٌ" صفتُها، وعلى رأي الأخفش يجوز أن تكون "أمة" فاعلاً بالجار. وقوله: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} تنويعٌ في التفصيل، فأَخْبر في الجملة الأولى بالجار والمجرور، ووصفَ المبتدأ بالاقتصاد، ووصفَ المبتدأ في الجملة الثانية بـ "منهم"، وأخبر عنه بجملة قوله: {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} وذلك لأنَّ الطائفةَ الثانية فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ من الخبر، فإنهم إذا اسلموا زال عنهم هذا الاسم، وأما الطائفة الثانية فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ وهم كفار فيهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة فإن الخبرَ ليس بلازم، وقد يُسْلِم منهم ناس فيزول عنهم الإخبار بذلك.
(5/390)
---(1/2098)
و"ساءَ" هذه يجوزُ فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ تعجباً كأنه قيل: ما أسوأ عملَهم، ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجه، ولكن النحاة لَمَّا ذكروا صيغ التعب بالمبوبِ له في النحو فقريب. الثاني: أنها بمعنى "بِئْس" فتدلُّ على الذَّمِّ كقوله تعالى: {سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ} وعلى هذين القولين فـ "ساءَ" غيرُ متصرفة، لأن التعجب والمحد والذم لا تتصرَّفُ أفعالُهما. الثالث: أن تكون "ساء" المتصرفة نحو: ساء يسوء، ومنه {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} والمتصرفة متعديةٌ، قال تعالى: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} فأين مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ تقديره: ساء عملُهم المؤمنين، والتي بمعنى "بئس" لا بد لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ تقديره: ساء عملاً الذي كانوا يعملونه. والحرب مؤنثةٌ، وهي في الأصل مصدر، وقد تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة.
* { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}: ناداه بأشرفِ الصفات البشرية. وقوله: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} وهو قد بَلَّغَ!! فأجاب الزمخشري بأن المعنى: جميعَ ما أُنْزل إليك، أي: أيَّ شيء أُنْزل غيرَ مراقِبٍ في تبليغه أحداً ولا خائفٍ أن ينالكَ مكروهٌ" وأجاب ابن عطية بقريب منه، قال: "أَمَر رسولَه بالتبليغِ على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلَّغ"، وأجابَ غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة كقوله: {ياا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} وإنما ذكرْتُ هذا لأنه ينفعُ في سؤالٍ سيأتي.
(5/391)
---(1/2099)
وقوله: {ما} يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون موصوفةً لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها: "بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك" وفي "أُنزل" ضمير مرفوعٌ يعدوُ على ما قام مقامَ الفاعل، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون "ما" مصدريةً، وعلى هذا فلا ضميرَ في "أُنْزل" لأنَّ "ما" المصدرية حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعده، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإنزالَ، ولكنَّ الإنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ المفعول به، ويجوز أن يكونَ المعنى: "اعلَمْ بتبليغِ الإنزالِ" فيكونُ مصدراً على بابه.
(5/392)
---(1/2100)
قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: وإنْ لم تفعل البليغَ، فحذف المفعول به ولم يقل: "وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت" لِما تقدم في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} في البقرة، والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدا اختلَّ الكلام، لو قلت: "إن أتى زيد فقد جاء" لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَؤُول ظاهراً إلى: وإن لم تفعل لم تفعلْ. وأجابَ الناس عن ذلك بأجوبةٍ أسَدُّها ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري وقد أجابَ بجوابين، أحدُهما: أنه إذا لم يمتثل أمرَ اللّهِ في تبليغِ الرسالاتِ وكَتْمِها كلِّها كأنه لم يُبْعَثْ رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاءَ بشناعته، فقيل: إنْ لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمةً واحدةً فكنت كم ركب الأمرَ الشنيغ الذي هو كتمانُ كلِّها، كما عَظَّم قَتْل النفسِ في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} والثاني: أَنْ يُراد: وإنْ لم تفعلْ ذلك فلك ما يُوجِبُ كتمانَ الوحي كلِّه من العقاب فوضَع السبب موضعَ المُسَبِّب، ويؤيده: "فأوحى الله إليَّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك".
وأجاب ابن عطية فقال: "أي: وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ متعتدٍّ به، فمعنى "وإن لم تفعل": "وإن لم تستوفِ" نحوُ هذا قولُ الشاعر:
1767- سُئِلْتَ فلم تبخَلْ، ولم تُعْطِ نائلاً *، فسِيَّان لا حمدٌ عليك ولا ذَمٌّ
(5/393)
---(1/2101)
أي: فلم تعطِ ما يُعَدُّ نائلاً، وإلا يتكاذَبِ البيتُ، يعني بالتكاذيب أنه قد قال: "فلم تبخل" فيتضمن أنه أعطى شيئاً، فقوله بعد ذلك: "ولم تُعْطِ نائلاً" لو لم يقدِّر نائلاً يُعْتَدُّ به تكاذَبَ. وفيه نظر فإنه قوله "لم تبخل ولم تُعْطِ" لم يتواردا على محلِّ واحد حتى يتكاذَبا، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قَدَّره ابن عطية كَذِبُ البيت، وبهذا الذي ذكرتُه يتبيِّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعم أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازَعَ فيه ثلاثةُ عواملَ: سُئِلت وتَبْخَلْ وتُعْطِ، وذلك لأنه قوله: "ولم تَبْخَلْ" على قولِ هذا القائلِ متسلطٌ على "طائل" فكأنه قيل: فلم تبخل بطائل، وإذا لم يبخل به فقد بذله وأعطاه فيناقضه قوله بعد ذلك. و"لم تُعْطِ نائلاً".
وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجوابَ المتقدم واختار جواباً مِنْ عنده فقال: "أجاب الجمهور بـ "إنْ لم تبلِّغ واحداً منها كنت كمن لم يبلِّغْ شيئاً" وهذا ضعيفٌ، لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتى بالبعض فإن قيل: إنه تَرَكَ الكلَّ كان كذباً، ولو قيل: إن مقدارَ الجُرْم في ترك البعض مثلُ الجرم في ترك الكل فهذا هو المُحالُ الممتنع، فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي أن يقال: خَرَجَ هذا الجوابُ على قانون قوله:
1768- أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري
ومعناه: أنَّ شعري قد بَلَغَ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل إنه شعريي فقد انتهى مدحُه إلى الغاية التي لا يزاد عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامةَ من هذا الوجه، فكذا هنا كأنه قال: فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني أنه لايمكن أن يوصفَ تَرْكُ التبليغ بتهديدٍ أعظمَ من أنه تَرَكَ التبليغَ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد.
(5/394)
---(1/2102)
قال الشيخ: "وما ضَعَّفَ به جوابَ الجمهور لا يضعف به لأنه قال: "فإنْ قيل إنه تركَ الكل كان كذباً" ولم يقولو ذك، إنما قولوا إنَّ بعضها ليس أَوْلى بالأداء من بعضٍ، فإن لم تؤدِّ فكأنك أَغْفَلتَ أداءَها جميعَها، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضِها كان كمن لم يؤمنْ بكلِّها لإدلاء كل منها بما يُدْلي به غيرُها، وكونُها كذلك في حكم شيء واحدٍ، والشيءُ الواحد لا يكون مبلِّغاً غير مبلَّغ مؤمناص به غيرَ مؤمن به، فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غيرَ معتدٍّ به" قلت: هذا الكلام الأنيق أعني ما وقع به الجواب عن اعتراض الرازي كلامُ الزمخشري أَخَذَه ونقله إلى هنا. وتمامُ كلام الزمخشري أن قال بعد قوله: "غير مؤمَنٍ" وعن ابن عباس رضي الله عنه: "إنْ كتمت آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي" وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بَعَثَني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذَرْعاً، فأوحى الله إليّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك وضَمِن لي العِصمةَ فقويتُ" قال الشيخ: "وأما ذكر من أن مقدار الجُرم في تَرْكِ البعضُ مثلُ الجرم في ترك الكل مُحال ممتنع فلا استحالةَ فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنب اليسير العقابَ العظيم وبالعكس، ثم مَثَّل بالسارق الآخذِ خفيةً يُقْطَع ويُرَدُّ ما أخذ، وبالغاضبِ يؤخذ منه ما أخذ دونَ قطعٍ.
(5/395)
---(1/2103)
وقال الواحدي: "أي: إنْ يتركْ إبلاغَ البعضِ كان كَمَنْ لم يبلِّغْ، لأنَ تَرْكه البعضَ محبطق لإبلاغِ ما بلَّغ، وجرمَه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في انه يستحقٌّ العقوبة مِنْ ربِّه، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أَوْحى الله إليهن وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "مَنْ زَعَم أنَّ رسول اله صلى الله عليه وسلم كَتَم شيئاً من الوحي فقد أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} ولو كَتَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية. وهذا قريب من الأجوبة المتقدمة. هذا ما وقفتُ عليه في الجواب في هذه الآية الكريمةِ. ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤال المتقدمِ الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب: "فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله فهجرتُه إلى الله ورسوله": فإنَّ الجواب هو نفسُ الشرط، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحصُل به المغايرةُ فقالوا: "تقديره: فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرتُه إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً، ويمكن أن يأتي فيه جوابُ الرازي الذي اختاره.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: "رسلاته" جمعاً، والباقون: "رسالتَه" بالتوحيد، ووجهث الجمع أنه عليه السلام بُعِث بأنواع شتى من الرسالة كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها، والإفرادُ واضحٌ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسل: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} وبعضُهم قال: {رِسَالَةَ رَبِّي} اعتباراً للمعنيين.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(5/396)
---(1/2104)
قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ}: الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار. وفي رفعةِ تسعة أوجه، أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقدير: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره والصابئون كذلك، ونحوه: "إن زيداص وعمروٌ قائمٌ" أي: إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي: يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً، والتقدير: إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم، فحذف "قائم" الأول أو بالعكس.؟ قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما: قال:
1769- نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما *عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي: نحن رضوان، وعكسه قوله:
1770- ........................ * فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ
التقدير: وقيارٌ بها كذلك، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ بـ "إنَّ" وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على التخريج. قال الزمخشري: "والصابئون: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز "إنَّ" من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك:
1771- وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ * بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
(5/397)
---(1/2105)
أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك" ثم قال بعد كلام: "فإنْ قلت: فقوله "والصابئون" معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قتل: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى آخره، ولا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها. فإن قلت: فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا لفائدةً فما هي؟ قلت: فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ منهم الإيمان والعملُ الصالحُ فما الظنَّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عيتاً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على الأديان كلها أي: خَرَجوا، كما أن الشاعر قدَّم قولَه: "وأنتم" تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً. فإن قلت: فلو قيل: "والصابئين وإياكم" لكانَ التقديمُ حاصلاً. قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض".
الوجه الثاني: أن "إنَّ" بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: {مَنْ آمَنَ} إلى آخره، وكونُها بمعنى "نعم" قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى: {إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ} في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: "إنَّ وصاحبُها" جواباً لمن قال له: "لَعَن الله ناقة حملتني إليك" أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قول الآخر:
1772- بَرَزَ الغواني في الشبا * بِ يَلُمْنَني والومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا * كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
(5/398)
---(1/2106)
أي: نعم والهاءُ للسكت، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير، وبقي المعطوفُ على الاسم دليلاً عليه، والتقدير: إنا وصاحبها معلونان، وتقدير البيت: إنه كذلك، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى "نعم" فلا يَصِحُّ هنا جَعْلُها بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له، و"نعم" لا تقع ابتداءَ كلام، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له. ولقائل أن يقولَ: "يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} {لاَ جَرَمَ}، قالوا: يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ.
(5/399)
---(1/2107)
الوجه الثالث: / أن يكون معطوفاً على الضمير المستكنِّ في "هادوا" أي: هادوا هم والصابئون، وهذا قول الكسائي، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج: "هو خطأ من جهتين" إحداهما: أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ الهيودي، وإن جُعِل "هادوا" بمعنى تابوا من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى "الذين آمنوا" في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال: مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا، فجعَلَهم يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال: "مَنْ آمنَ فلهم أجرهم". قلت: هذا على أحدِ القولين أعني أن "الذين آمنوا" مؤمنون نفاقاً. ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ آخرَ وهو عدمث تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه. قلت: هذا لا يلزمُ الكسائي، لأنَّ مذهبه عدمُ اشتراط ذلك، وإن كان الصحيحُ الاشتراطَ، نعم يلزم الكسائي من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة، والله أعلم. وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي، وردَّ عليه بما تقدَّم، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه، وعلى الجملة فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان.
(5/400)
---(1/2108)
الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم "إنَّ" لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و "أن" بالتفح، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلافِ ليت ولعل وكأن، فإنه خَرَج إلى المني والتَّرَجي والتشبيه، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً، فأجاز ذلك في ليت ولعل، وأنشد:
1773- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ * في بلدٍ بها أنيسُ
(5/401)
---(1/2109)
فأتى بـ "أنت"، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في "ليتني"، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ ذلك وجَعَلا منه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فرفعُ "عَلاَّم" عندهما على النعت لـ "ربي" على المحلِّ، وحكوا "إنهم أجمعون ذاهبون"، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِنْ العرب: إنهم أجمعون ذاهبون" فقال: "واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون: "إنهم أجمعون ذاهبون" وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع، وأُجيب بأنهم بالنسبة إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدّثوا هذا المذهبَ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم "إنَّ" مطلقاً، أعني قبلَ الخبرِ وبعده، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر. ونقل بعضُهم الإجماع على جوازِ الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بشيء، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحققين: المنعُ مطلقاً، ومذهبُ بعضهم، التفصيل قبل الخبر فيمتنع، وبعده فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِي من كلامهم: "إنك وزيد ذاهبان" الرابع: مذهب الكسائي: وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ} الآية، وبقوله: - وهو ضابئ البرجمي -
1774- فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه * فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ
وبقوله:
1775- يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ * حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ
وبقوله:
1776- وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ * ..................
البيت، / وبقوله:
1777- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ
(5/402)
---(1/2110)
وبقولهم: "إنك وزيدٌ ذاهبان" وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم نحو: "إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان" وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال: "فإنْ قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه لعطف على محل "إنَّ" واسمها. قلت: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: "إنَّ زيداً وعمرو منطلقان" فإنْ قتل: لِمَ لا يَصِحّث والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلت: إنَّ زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعتهُ على محل "إنَّ" واسمِها، والعاملُ في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هوا لعاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله، كما تنتظِمُها "إنَّ" في عمِلها، فلو رَفَعْتَ "الصابئون" المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ بـ "إنَّ" لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين" وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإجماعَ على جوازِه.
الخامس: قال الواحدي: "وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أَنْ تُضْمِرَ خبرَ "إنَّ" وتبتدئ "الصابئون" والتقدير: "إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا يُرْحَمُون" على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون، و"يُعَذَّبون" على قولِ مَنْ يقول إنهم كفار، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه، كما حُذِف مِنْ قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ} أي: "يُعاقَبون" ثم قال الواحدي: "وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريين، غيرَ أنَّهم يُضْمِرون خبرَ الابتداءِ، ويَجْعلون "مَنْ آمن" خبرَ "إن"، هذا على العكس من ذلك لأنه جَعَل "مَنْ آمَن" خبرَ الابتداء وحَذَفَ خبرَ "إنَّ" قلت: هو كما قال، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في قولي أولاً: إنَّ منهم مَنْ يُقَدِّر الحذفَ مِن الأول، ومنهم مَنْ يعكس.
(5/403)
---(1/2111)
السادس: أنَّ "الصابئون" مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل، إلا انه لا يُنْوي بهذا المبتدأِ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيُ التأخيرِ وعدمُها. قال أبو البقاء "وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لما فيه من لزومِ الحذف والفصلِ" أي: لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ، ولا يَعْني بذلك أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلى علة ما أُنْزِل، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ.
السابع: أنَّ "البصابئون" منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرهم الذين يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو: "رأيت الزيدان ومررت بالزيدان" نقلَ ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائل على ضَعْفِها أنه رأى الألفَ علامةَ رفعِ المثنى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغة نائبةً رفعاً ونصباً وجراً، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصب والجر كما بَقيت الألف، وهذا ضعيف بل فاسدٌ.
الثامن: أنَّ علامةَ النصبِ في "الصابئون" فتحةُ النون، والنونُ حرفُ الإعراب كهي في "الزيتون" و"عربون" قال أبو البقاء: "فإنْ قيل: إنما أجاز أبو علي ذلك مع الياءِ لا مع الواوِ قيل: قد أجازه غيرُه، والقياسُ لا يَدْفَعُه" قلت: يشير إلى مسألة وهو: أن الفارسي أجازَ / في بعض جموع السلامة وهي ما جَرَتْ مَجْرى المكسِّر كبنين وسنين أن يَحُلَّ الإعرابُ نونَها، بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصةً دونَ الواوِ فيقال: "جاء البنينُ" قال:
1778- وكان لنا أبو حسن عليٌّ * أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ
وفي الحديث: "اللهم اجْعَلْها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف
". وقال:
1779- دعانيَ مِنْ نجدس فإنَّ سنينَه * لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا مُرْدَا
(5/404)
---(1/2112)
فأثْبَتَ النونَ في الإضافة، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ووجِّهت بأن علامة النصبِ فتحةُ النونِ، وكان المشهورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسي، سأل أبو البقاء هذه المسألةَ. وأجاب بأنَّ غيرَه يُجيزه حتى مع الواو، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه. قلت: القياسُ يأباه، والفرقُ بينه حالَ كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في "شرح التسهيل" نعم إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ جاز فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ، ويصيرَ نظيرَ "الَّذُوْن" فيقال: "جاء الزيدون ورأيت الزيدون ومررت بالزيدون" كـ "جاء الذون ورأيت الذون ومررت بالذون" هذا إذا سُمِّي به، أمَّا ما دام جمعاً فلا أحفظُ فيه ما ذركه أبو البقاء، ومن أَثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نفى لا سيما مع تقدَّمِه في العلم والزمان.
التاسع: قال مكي: "وإنما رفع "الصابئون" لأن "إنَّ" لم يظهر لها عملٌ في "الذين" فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول "إنَّ" على الجملةَ" قلت: هذا هو بعينه مذهب الفراء، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم "إنَّ" إذا لم يظهر فيه إعراب، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً.
(5/405)
---(1/2113)
وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة: "والصابئين" بالياء، ونقلها صاحب "الكشاف" عن ابن كثير، وهذا غير مشهور عنه، وهذه القراءة واضحةُ التخريج عطفاً على لفظِ اسم "إنَّ" وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة، ولها نظائرُ كقاراءة قنبل عن ابن كثير: {سراط} وبابِه بالسين، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي، وهم مرسمٌ بالصاد في سائر المصاحف، ونحو قراءةِ الجميع: {إيلافهم} بالياء، والرسم بدونها في الجميع. وقرأ الحسن البصري والزهري: {والصابِيُون} بكسر الباء بعدها ياء خالصة، وهوت خفيف للهمزة كقراءة من قرأ {يَسْتهزِيُون} بخلوص الياء، وقد تقدم قراءة نافع في البقرة. وأما "النصارى" فهو منصوب عطفاً على لفظ اسمِ "إنَّ" ولا حاجةَ إلى ادِّعاء كونِه مرفوعاً على ما رفع به "الصابئون" لكلفةِ ذلك.
قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} يجوز في "مَنْ" وجهان، أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله: "فلا خوفٌ" إلى آخره جواب الشرط، وعلى هذا فـ "آمن" في محل جزم بالشرط، و"فلا خوف" في محل جزم بكون جوابَه، والفاءُ لازمةٌ. والثاني: أن تكونَ موصولةً والخبر"فلا خوف"، ودخلت الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرطِ، فـ "آمَنَط على هذا لا محلَّ له لوقوه صلةً، و"فلا خوفٌ" محلُّه الرفعُ لوقوعِه خبراً، والفاءُ جائزةُ الدخولِ لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين فمحلُّ "مَنْ" رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونها مصولةً أن تكون في محل نصب دلاً من اسم "إنَّ" وما عُطِف عليه، أو تكون بدلاً من المعطوف فقط، وهذا الخلاف في "الذين آمنوا": هل الماردُ بهم المؤمنون حقيقةً، أو المؤمنون نفاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدمة فالعائدُ من هذه الجملة على "مَنْ" محذوفٌ تقديرُه: مَنْ آمَنَ منهم" كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ وتقدَّم إعرابُ باقي الجملة فيما مضى.
(5/406)
---(1/2114)
* { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }
قوله تعالى: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ}: قد تقدَّم الكلام على "كلما" مشبعاً فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري: "كلما جاءهم رسول" جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةً لـ "رسلاً" والراجعُ محذوفٌ أي: رسول منهم"، ثم قال: "فإنْ قلت: أين جوابُ الشرط، فإنَّ قولَه: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ناب عن الجواب، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقين، ولأنه لا يحسُن أن تقولَ: "إن أكرمت أخي أخاك أكرمت"؟ قلت: هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} كأنه قيل: كلما جاءَهم رسولٌ ناصَبُه، وقوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائلٍ يقول: كيف فَعَلُوا برسلهم؟" قال الشيخ: "وليس "كلما" شرطاً، بل "كلَّ" منصوبٌ على الظرف و"ما" مصدرية ظرفية، ولم يجزم العرب بـ "كلما" أصلاً، ومع تسليم أن "كلما" شرط فلا يمتنع لِما ذكر، أما الأول فلأنَّ المرادَ بـ "رسول" الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فصيح انقسامُه إلى فريقين نحو: " لا أصحبك ما طَلَعَ نجمٌ" أي: جنس النجوم، وأما الثاني فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه، وهذا الذين منع إنما منعه الفراءُ وحدَه، وأما غيرُه فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ "كلما" شرط، وأمذَا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ العفلِ العاملِ في "كلما" تقول: "كلما جئتني أخاك أكرمتُ" قلت: هذا واضحٌ من أنها ليست شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُر في عبارة الفقهاء دونَ النحاة. وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشري فإنه قال: "وكَذَّبوا" جواب "كلما" "وفريقاً" مفعول بـ "كَذَّبوا" و"فريقاً" منصوب ـ "يقتلون" وإنما(1/2115)
(5/407)
---
قدَّمَ مفعولَ "يقتلون" لتواخي رؤوسِ الآي، وقَدَّم مفعولَ "كَذَّبوا" مناسبة لما بعده.
قال الزمخشري: "فإنْ قتل: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جِيء بـ "يقتلون" على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للعجبِ منها" انتهى. وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك؟ ويُجاب بأنَّ الاستفظاعَ في القتلِ وشناعتِه أكثرُ / من فظاعةِ التكذيب، وأيضاً فإنه لمَّا جِيء به مضارعاً ناسَبَ رؤوس الآي.
* { وَحَسِبُوااْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {أَلاَّ تَكُونَ}: قرأ البصري والأَخَوان برفع النون، والباقون بنصبها. فَمَنْ رفع فـ "أَنْ" عنده مخففةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ تقديرُه: أنه، و"لا" نافية، و"تكون" تامة، و"فتنةٌ" فاعلها، والجملةُ خبر "أن" وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا فـ "حَسِب" هنا لليقين لا للشكِّ، ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر:
1780- حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ * رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلاً
أي: تيقَّنْتُ لأنه لا يلِيقُ الشكُّ بذك، وإنما اضطرِرْنا إلى جَعْلِها في الآية الكريمة بمعنى اليقين لأنَّ "أَنْ" المخففةَ لا تقع إلا بعد يقين، فأمَّا قوله:
1781- أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها * وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
(5/408)
---(1/2116)
فظاهرُه أنها مخففةٌ لعدم إعمالها وقد وقعت بعد "أرجو" و"آمنل" وليسا بيقينٍ. والجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ "أَنْ" ناصبة، وإنما أُهْمِلَتْ حملاً على "ما" المصدرية، ويَدُلُّ على ذلك انها على ذلك أنها لو كانَتْ مخففةً لفُصِل بينها وبين الجملة الفعلية بما ستذكره، ويكون هذا مثلَ قولِ الله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وكقوله:
1782- يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما * وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا
أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها * تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكما * مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحدا
فقوله: "أَنْ تقرآن" بدلٌ من "حاجة" وقد أَهْمل "أن" ومثلُه قوله:
1783- إني زعيمٌ يا نُوَيْـ * ـقَةُ إن نجوْتِ من الرَّزاحِ
ونجوتِ من وَصَبِ العدو * و[من الغدو] إلى الرَّواحِ
أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ * مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات يلزم أحد شذوذين قد قيل باحتمال كل منهما: إمَّا إهمالُ "أَنْ" وإمَّا وقوع المخففة بعد غير علم، وعدمُ الفصل بينها وبين الجملة الفعلية.
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءه وأملَه قَوِيا حتى قربا من اليقين فأجراهما مُجْراه في ذلك. وأما قول الشاعر:
1784- عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا * قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ
فالظاهرُ أنها المخففة، وشَذَّ عدمُ الفصلِ، ويُحتمل أن تكونَ الناصبة شَذَّ وقوعُها بعد العلمِ وشَذَّ إهمالُها، ففي الأولِ شذوذٌ واحدٌ وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذان: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حملاً على "ما" أختِها.
(5/409)
---(1/2117)
وجاء هنا على الواجبِ - عند بعضهم - أوا لأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين "أَنْ" الخفيفةِ وبين خبرِها إذا كان جملةً فعلية متصرفة غيرَ دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفيٌ كهذه الآية، / وإمَّا حرفُ تنفيس كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى} ومثلُه: "عَلِمْت أن سوف تقومُ" وإمَّا "قد" كقوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} وإمَّا "لو" - وهي غريبة - كقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ} {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} وتَحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية فإنها لا تحتاج إلى فاصل، كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكقوله:
1785- في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِموا * أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمصترفةِ من غير المتصرفة فإه لا تَحْتاج إلى فاصلٍ، كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ} وبغيرٍ دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً كقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} في قراءة نافع.
ومَنْ نصب "تكونَ" فـ "أَنْ" عنده هي الناصبة للمضارع دخلت على فعل منفي بـ "لا"، و"لا" لا يمنعُ أن يعملَ ما بعدها فيما قبلها من ناصبٍ ولا جازم ولا جارّ، فالناصبُ كهذه الآية، والجازم كقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} والجارُّ نحو: :جئت بلا زادٍ".
و"حَسِب" هنا على بابها من الظن، فالناصبة لا تقع بعد علم، كما أنَّ المخففة لا تفع بعد غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبة بعد يقين وهو نصٌّ فيه كقوله:
1786- نَرْضَى عن الناس إنَّ الناسَ قد عَلِموا * أَنْ لا يدانِيَنا من خَلْقِه بشرُ
(5/410)
---(1/2118)
وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظن، إذ لا ضرورةَ تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ بـ "أَنْ" ولذلك أُجْمِع على انصب في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوااْ} وأمَّا قولُه تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} فالجمهورُ على الرفع، لأنه الرؤية تقعُ على العلمِ. والحاصلُ أنه متى وَقَعَتْ بعد علم وَجَبَ أن تكونَ المخففةَ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شك وَجَبَ أَنْ تكون الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعلٍ يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين: إنْ جعلناه يقيناً جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها، وإنْ جعلناه شكّاً جعلناها النصابة نصبنا ما بعدها، والايةُ الكريمةُ من هذا البابن وكذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِم} وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوااْ} لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفع، ولا في الثاينة إلا بالنصبِ، لأن القراءة سنةٌ متبعة. وهذا تحريرٌ العبارة فيها، وإنما قلت ذلك لأن بعضهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشك وجهان فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخففةَ والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشك، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحية اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمين، ولهذا قال الأستاذ الزمشخري: "فإنْ قلت: كيف دخل فعلُ الحسبان على "أَنْ" التي هي للتحقيق" قلت: نَزَّل حسبانَهم لقوته في صدروهم منزلةَ العلم" والسببُ المقتضي لوقوعِ المخففةِ بعد اليقين، والناصبة بعد غيره،و جوازِ الوجهين فيما تردَّد: ما ذكروه وهو "أَنْ" المخففة تَدُلُّ على ثباتِ الأمرِ واستقرارِه لأنها التوكيد كالمشددة، والعلمُ وبابُه كذلك فناسَبَ أَنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما، ويدلٌّ على ذلك وقوعُها مشددةً بعد اليقين كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(1/2119)
(5/411)
---
قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى غير ذلك، والنوعُ الذ لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ / تقع بعده الناصبة كقوله تعالى: {وَالَّذِيا أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي} {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا} {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} إلى غير ذلك، والنوعُ المحتمل للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ وتارةً الناصبةُ كما تقدم من الاعتبارين، وعلى كلا التقديرين أعني كونَها المخففة أو الناصبة فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعولين عند جمهورِ البصريين، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً. وحكى بعض النحويين أنه ينبغي لَمَنْ رفع أن يَفْصِل "أن" من "لا" في الكتابة؛ لأنها الهاء المضمرةَ حائلةٌ في المعنى، ومَنْ نَصَبَ لم يَفْصِل لعدمِ الحائل بينهما. قال أبو عبد الله: "هذا ربما ساغَ في غيرِ المصحفِ، أمَّا المصحفُ فلم يُرْسَمْ إلى على الاتصال" انتهى. قلت: "وفيه هذ العبارة تجوُّز إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعر بأَنْ تُكْتب "أنلا" فتوصلَ "أن" بـ "لا" في الخط، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبَتُ لها صورةٌ منفصلة.
قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} في هذا الكتاب خمسة أوجه، أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعل، كما يَلْحق الفعلَ تاءُ التأنيث ليدلَّ على تأنيث الفاعل، كـ "قامت هند" وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمعِ الإناث أيضاً فيقال: "قاما أخواك، وقمن أخواتك" كقوله:
1787- ............. * وقد أَسْلَماه مُبْعَدٌ وحَميمٌ
وقوله:
1788- ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأمُّه * بِحَوْرانَ يَعْصِرنَ السَّليطَ أقاربُهْ
(5/412)
---(1/2120)
واستدلَّ بعضُهم بقوله عليه السلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة" ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ "أكلوني البراغيث" ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفَرَّق النحويون بين لَحاقِه علامةَ التأنيث وعلامةَ التثنية والجمع بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعل بخلاف التثنيةِ والجمع فإنه غيرُ لازمٍ.
الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورين العائدِ عليهم واو "حسبوا" و"كثير" بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: "إخوتك قاموا كبيرُهم وصغيرُهم" ونحوه. الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضاً، و"كثيرٌ" بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله أن الضمير في الوجهِ الأول مفسَّرة بما قبلَه وهم بنوا إسرائيل، وأمَّا في هذا الوجه فهو مفسَّرة بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسِّرهُ، وهي مسألةُ خلاف وقد تقدم تحريرها. الوجه الرابع: أن الضميرَ عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و"كثير" خبر مبتدأ محذوف، وقَدَّره مكي تقديرين، أحدهما: قال: "تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثير منهم" والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم، ودلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} فعلى تقديره الأول: يكون "كثير" صادقاً عليهم و"منهم" صفة لـ "كثير"، وعلى التقدير الثاني يكون "كثير" صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهم، و"منهم" صفةٌ له بمعنى أنه صادر منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ. وقدَّره الزمخشري فقال: "أولئك كثير منهم" الوجه الخامس: أنَّ "كثير" مبتدأٌ والجملةُ الفعلية قبله خبرٌ، ولا يُقال: إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً وجَبَ تأخيرُه لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً نحو: "زيدٌ قام" لأنه لو قُدِّم فقيل: قام زيدٌ لألبس بالفاعل، فإنْ قيل: وهذا أيضاً يُلْبس بالفاعل في لغة "أكلوني البراغيث" فالجواب أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها. وضَعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنى(1/2121)
(5/413)
---
آخر فقال: "لأنَّ الفعلَ قد وَقَع في موضِعِه فلا يُنْوَى به غيرُه" وفيه نظرٌ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وَقَع موقعَه، وإنما كان واقعاً موقعَه لو كان مجرداً من علامةٍ. ومثلُ هذه الآية أيضاً قولُه تعالى: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
}. والجمهورُ على "عَمُوا وَصمُّوا" بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا كشَرِبُوا، فأُعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثاني: بالإدغام. وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف ا لميم من "عَمُوا" قال الزمخشري: "على تقدير / عماهم الله وصَمَّهم أي: رماهم وضربهم بالعَمَى والصَّمم، كما يقال: نَزَكْتُه إذا ضربته بالنَّيْزَك وَركَبْتُه إذا ضربته بركبتك" ولم يَعْترض عليه الشيخ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أَنْ حكى القراءة: "جَرَتْ مَجْرى زُكِم الرجلُ وأَزْكَمَه الله، وحُمَّ وأَحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمه الله ولا حمَّه، كما لا يقال: عَمَيْتُه ولا صَمَمْته، وهي أفعالٌ جاءت مبينةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهي متعدِّيةٌ ثلاثية، فإذا بُنيت للفاعلِ صارَتْ قاصرة فإذا أَرَدْتَ بناءَها للفاعلِ متعديةً أَدْخَلْتَ همزة النقل، وهين وع غريب في الأفعال" انتهى. فقوله: "كما لا يُقال عَمَيْتُه ولا صَمَمْتُه" يقتضي أن الثلاثي منهلا لا يتعدَّى، والزمخشري قد قال على تقدير: "عَماهُم الله وصَمَّهم" فاستعمل ثلاثِيَّةُ متعدياً، فإن كان ما قاله الشيخ صحيحاً فينبغي أن يكونَ كلام أبي القاسم فاسداً أو بالعكس.
وقرأ ابن أبي عبلة "كثيراً" نصباً على أنه نعت لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرة أنه عند سيبويه حالٌ. وقال مكي: "ولو نَصَبْتَ "كثيراً" في الكلام لجازَ أن تجعلَه نعتاً لمصدر محذوف، أي: عمى وصمماً كثيراً" قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده لشذوذها.
(5/414)
---(1/2122)
وقوله: {فَعَمُواْ} عطفَه بالفاء وقوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عطفه بـ "ثم"، وهو معنى حسن، وذلك أنهم عَقِيبَ الحسبانِ حَصَل لهم العَمى والصَّمَمُ مِنْ غير تراخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلاف قوله: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وعطف قوله: {ثُمَّ عَمُواْ} بحرفِ التراخي دلالةً على أنهم تمادَوا في الضلالِ إلى وقت التوبة.
* { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(5/415)
---(1/2123)
قوله تعالى: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}: معناه أحدُ الثلاثة، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده، لا تقول: ثالثٌ ثلاثةً ولا رابعٌ أربعةً، قالوا: لأنه اسمُ فاعلٍ ويعملُ عمل فعله، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ فعلٌ إذ لا يقال: ربَّعْتُ الأربعة ولا ثلَّثْتُ الثلاثة، وأيضاً فإنه أحدُ الثلاثة فيلزم أن يعمل في نفسه، وأجاز النصبَ بمثل هذا ثعلب، وردَّه عليه الجمهور بما ذكرته لك، أمَّا إذا كان من غيرِ لفظِ ما بعده فإنه يجوزُ فيه الوجهان: النصب والإضافة نحو: رابعٌ ثلاثةَ، وإن شئت: ثلاثةٍ. واعلم أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عشرة صيغةُ اسمِ فاعل نحو: "واحد" ويجوز قبله فيقال: حادي وثاني وثالث إلى عاشر، وحينئذ يجوز أن يستعمل مفرداً فيقال:ثالث ورابع، كما يقال: ثلاثة وأربعة من غير ذكر مفسرٍ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلين إنْ وقع عبده مغايرُه لفظاً، ولا يكونُ إلا ما دونه برتبةٍ واحدٍ نحو عاشرُ تسعةٍ، وتاسعُ ثمانيةٍ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين نحو: عاشرُ ثمانيةٍ ولا ثامنُ أربعةٍ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً فلا يقال: تاسعُ عشرةٍ ولا رابعُ ستةٍ، إذا تقرر ذلك فيعطى حكمَ اسمَ الفاعلِ فلا يعملُ إلا بشروطه، وأمَّا إذا جامع موافقاً له لفظاً وجبت إضافتُه نحو: ثالثُ ثلاثةٍ وثاني اثنين، وتقدَّم خلاف ثعلب، ويجوز أن يُبْنى أيضاً من احد عشر إلى تسعة عشر فيقال: حادي عشر وثالث عشر، ويجوز أَنْ يُستعمل مفرداً كما ذكَرْتُه لك، ويجوز أن يُسْتَعْمل مجامعاً لغيره ولا يكونُ إلا موافقاً، فيقال: حادي عشر أحد عشرَ، وثالثَ عشرَ ثلاثَة عشرَ، ولا يقال: ثالثَ عشرَ اثني عشرَ، وإن كا بعضهم خالف، وحكمُ المؤنثِ كحكمٍه في الصفاتِ الصريحة فيقال: ثالثة ورابعة، وحاديةَ عشرةَ، وثالثةَ عشرةَ ثلاثَ عشرةَ، وله أحكامٌ كثيرة استوفيتُها في "شرح التسهيل".
(5/416)
---(1/2124)
قوله: {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ} "مِنْ" زائدة في المبتدأ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلامِ غيرَ إيجابٍ، وتنكيرُ ما جَرَّتْهُ، و"إلهٌ" بدل من محل "إلهٍ" المجرورِ بـ "مِنْ" الاستغراقية، لأن محلَّه رفعٌ كما تقدم، والتقدير: وما إلهٌ في الوجودِ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدانية. قال الزمخشري: "من" في قوله: "مِنْ إله" للاستغراقِ، وهي المقدرةُ مع "لا" التي لنفي الجنس في قولك: "لا إلهَ إلا اللَّهُ" والمعتنى، وما من إله قط في الوجود إلا إلهٌ متصفٌ بالوحدانية و"إلا إلهٌ" بدلٌ على المحل. قال مكي: "ويجوزُ في الكلام النصبُ: "إلا إلهاً" على الاستثناء" قال أبو البقاء ولو "قُرئ بالجرِّ بدلاً من لفظ "إله" لكان جائزاً في العربية" قتل: ليس كما قال، لأنه يلزمُ زيادةُ "مِنْ" في الواجب، لأن النفيَ انتقضَ بـ "إلاَّ" لو قلت: "ما قامَ إلا من رجلٍ" لم يَجُزْ فكذا هذا، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفشِ، فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط، والأخفشُ لا يشترط شيئاً. قال مكي: "واختار الكسائي الخفضَ على البدل من لفظ "إله" وهو بعيدٌ لأنَّ "مِنْ" لا تُزَاد في الواجب". قلت: ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله "إلا إلهٌ" خبر المبتدأ، وتكونُ المسألة من الاستثناءِ المفرغِ، كأنه قيل: ما إلهٌ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدِ لَمَا ظهر له منعٌ، لكني لم أرَهم قالوه. وفيه مجالٌ للنظر.
(5/417)
---(1/2125)
قوله: {لَيَمَسَّنَّ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ إنْ لم ينتهوا ليمسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدةِ التي قَرَّرْتُها: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما ما لم يسبقْهما ذو خبر، وقد يجابُ الشرطُ مطلقاً، وقد تقدَّم أيضاً أن فعلَ الشرطِ حينئذ لا يكون إلا ماضياً لفظاً، أو معنًى لا لفظاً كهذه الآية، فإنْ قيل: السابقُ هنا الشرطُ، اذ القسمُ مقدرٌ فيكون تقديرُه متأخراً فالجوابُ أنه لو قُصِد تأخُّرُ القسمِ في التقدير لأُجيبَ الشرط، فلمَّا أُجيب القسمُ عُلِم أنه مقدَّرُ التقديمِ، وعَبَّر بعضُهم عن هذا فقال: "لام التوطئِة للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعى حكمُها كهذه الآية، إذ التقدير: "ولئن لم" كما صَرَّح بهذا في غير موضع كقوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} ونظير هذه الآية قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسم يَجِبُ أن يُتَلَقَّى باللامِ وإحدى النونين عند البصريين، إلاَّ ما قَدَّمْت لك استثناءَه" قال الزمخشري: "فإنْ قتلـ فهلاَّ قيل: لَيَمسُّهُم عذاب. قلت في إقامة الظاهرُ مقامَ المضمرِ فائدةٌ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكفر".
(5/418)
---(1/2126)
وقوله: {مِنْهُمْ} في محلِّ نصب على الحال. قال أبو البقاء: "إمَّا من الذين، وإمَّا من ضميرِ الفاعل في "كفروا" قتل: لم يتغير الحكمُ في المعنى، لأنَّ الضميرَ الفاعل هو نفسُ الموصول، وإنما الخلاف لفظي. وقال الزمشخري: "مِنْ" في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} للبيانِ كالتي في قوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} قلت: فعلى هذا يتعلقُ "منهم" بمحذوفٍ، فإنْ قلت: هو على جَعْلِه حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوفٌ. قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَه حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة، وعلى هذا الوجهِ يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّر للموصولِ الأولِ، كأنه قيل: أعني منهم، ولا محلِّ لـ "أعني" لأنها جملةٌ تفسيرية. وقال الشيخ: "ومِنْ" في "منهم" للتبعيض أي: كائناً منهم، والربطُ حاصلٌ بالضمير، فكأنه قيل: كافرُهم، وليسوا كلَّهم بَقُوا على الكفر" انتهى. يعني: هذا تقديرٌ لكونِها تبعيضيةً وهو معنى كونِها في محلِّ نصب على الحال.
* { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(5/419)
---(1/2127)
وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ}: تقدَّم نظيره مراراً وأنَّ فيه رأيين: رأيُ الجمهورُ تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسم بقاؤُه على حالِه وحَذْفُ جملةٍ معطوفٍ على عليها، والتقديرُ: أيثبتون على كفرِهم فلا يَتُوبون، ويستغفرون من هذه المقالةِ الشنعاء؟ والثاني: أنه بمعنى الأمر وهو رأي ابن زياد الفراء، كأنه قال: تُوبوا واستغروا من هاتين المقالتين، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} كلامُ ابن عطية يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال: "رَفَقَ جلَّ وعلا بهم بتحضيضِه إياهم على التوبة وطلبِ المغفرة" بعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيضِ من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّمٍ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطف فَصَلَ بين الهمزة ولا المفهمةِ للتحضيضِ؟ فإنْ قلت: هذا إنما يُشْكِلء على قولِنا: إنَّ "ألا" التحضيضيةَ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصل بحرفِ العطف، أما إذا قلنا إنها همزة الاستفهامِ دَخَلَتْ على "لا" النافيةِ واصارَ معناهما التحضيضَ فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العطف، لأنه عُهِد في "لا" النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب: أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخَ وحَدَثَ معنىً آخرُ وهو التحضيضُ، فلا يلزُم من الجوازِ في الأصلِ الجوازظُ بعد حدوثِ معنًى جديدٍ.
* { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
(5/420)
---(1/2128)
قوله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ}: كقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} و"قد خَلَتْ" صفةٌ له كما في الآية الأخرى. وتقدَّم معنى الحصرِ. وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ابتداءٌ وخبرٌ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب. و"صِدِّيقَةٌ" تأنيثُ "صِدِّيق" وهو بناء مبالغة كـ "فَعّال" و"فَعُول" إلا أنه لا يعمل عملَ أمثلةِ المبالغة، فلا يقال: "زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ" كما يقال: "شَرَّابٌ العسلَ" وإن كان القياس إعمالَه، وهل هو مِنْ "صَدَق" الثلاثي أو من "صَدَّق" مضعفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ من الثلاثي دونَ الرباعي، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ. وقال الزمخشري: "انه من التصديق" وكذا ابنُ عطية، إلا أنَّه جَعَله محتملاً، وهذا واضحٌ لقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} فقد صَرَّح بالفعلِ المسند إليها مضعفاً.
وقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} لا محلَّ له لأنه اسئنافٌ وبيان لكونِهما كسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليه كلُّ جسمٍ مُولَدٍ، والإلهُ الحقُّ منزَّهٌ عن ذلك. قوله: "كيف" منصوب بقوله: "نُبَيِّن" بعده، وتقدم ما فيه في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} وغيرِه، ولا يجوز أن يكونَ معمولاً لِما قبله لأن له صدرَ الكلام، وهذه الجملةُ الاستفهامية في محلِّ نصب لأنها معلقةٌ للفعل قبلها. وقوله: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، "وأَنَّى" بمعنى كيف، و"يُؤْفكون" ناصبٌ لـ "أنَّى" ويُؤْفكون: بمعنى يُصْرَفُون.
* { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(5/421)
---(1/2129)
قوله تعالى: {مَا لاَ يَمْلِكُ}: يجوز أن تكونَ "ما" بمعنى الذي، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها، و صفةٌ فمحلُّها النصبُ، وفي وقوعِ "ما" على العاقلِ هنا لأنه أُريد به عيسى وأمُّه وجوهٌ، أحدها: أنه أُتِي بـ "ما" مراداً به العاقلُ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء، كذا قالَه سيبويه، أو أُريد به النوعُ كقوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} أي: النوعَ الطيب، أو أريد به العاقلُ مع غيره لأنَّ أكثرَ ما عُبِد مِنْ دونَ [اللَّهِ] غيرُ عاقلٍ كالأصنامِ والأوثانِ والواكبِ والشجر، أو شبهُهُ على أولِ أحوالِه، لأنه في أولِ حالِه لا يُوصَفُ بعقلٍ فيكف يُتَّخذ إلهاً معبوداً؟ وفي تكريرِ الأمر بقوله: "انظر" "ثم انظر" دلالةٌ على الاهتمام بالنظر، وأيضاً فق اختلف متعلَّقُ النظرين، فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ وبيانِها بحيث إنه لا شكَّك فيها ولا ريبَ، والأمرُ الثاين بالنظر في كونِهم صُرِفوا عن تدبُّرها والإيمان بها، أو بكونِهم قُلِبوا عمَّا أُريد بهم. قال الزمخشري: "فإنْ قتل: ما معنى التراخي في قوله: "ثم انظرْ"؟ قلت: معناه ما بينَ التعجبين، يعني أنه بَيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً، وأنَّ إعراضَهم عنها أعجُب منه" انتهى. يعني أنه من بابِ التراخي في الرُّتَبِ لا في الأزمنةِ، ونحوُه: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وسيأتي.
(5/422)
---(1/2130)
قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} "هو": يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ثانياً، و"السميعُ" خبرُه، و"العليمُ" خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأول، ويجوزُ أَنْ يكونَ فصلاً، وقد عُرِف ما فيه، ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً. وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها أنها لا محلَّ لها من الإعراب، ويحتمل أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ "تَعْبُدون" أي: أتعبدون غيرَ الله والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة لأنه يَسْمع كل شيء ويعلمه، وإليه ينحو كلامُ الزمخشري فإن قال: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} متعلق بـ "أتعبدون" أي: أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعمل ما تعتقدون؟ أتعبدون العاجزَ واللَّهُ هو السميع العليم؟ انتهى. والرابطُ بين الحالِ وصاحبِها الواوُ، ومجيءُ هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة، فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفع ويعلم مواقعَهما كيف يكونان؟
* { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوااْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }
(5/423)
---(1/2131)
قوله تعالى: {غَيْرَ الْحَقِّ}: فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف أي: لا تَغْلُوا في دينكم غُلُوَّاً غيرَ الحق أي: غلوَّاً باطلاً، ولم يذكر الزمخشري غيره. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعل في "تَغْلُوا" أي: لا تَغْلوا مجاوزينَ الحق، الحق، ذكره أبو البقاء الثالث: أنه حالٌ من "ينكم" أي: لا تغلوا فيه وهو باطل، بل اغلُوا فيه وهو حَقٌّ، ويؤيد وهو أَنْ يُفْحص عن حقائقه ويفتَّشَ عن أباعدِ معانيه ويُجْتَهَدَ في تحصيله حُجَجَه، وغلوٌ باطل: وهو أن يَتَجاوز الحقَّ ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة". الرابع: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل. الخامس: على الاستثناءِ المنقطع. ذكرَ هذين الوجين الشيخُ عن غيره، واستبعدهما فإنه قال: "وأبعدَ مَنْ ذهب إلى أنها استثناءٌ متصل، ومَنْ ذهب إلى انها استثناءٌ منقعطع ويقدِّره بـ "لكن الحقَّ فاتبعوه" قلت: والمستثنى منه يَعْسُر تعيينُه، والذي يظهر فيه أنه قوله: {فِي دِينِكُمْ} كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينكم إلا الدين الحق فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلو فيه ما تقدم من تقرير الزمخشري له.
وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناء فقال: "وانتصابُ "غيرَ الحق" من وجهين، احدُهما: الحالُ والقطعُ من الدين كأنه قيل: لا تغُلُوا في دينكم مخالفين للحقِّ، لأنهم خالفوا الحقَّ في دينهم ثم غَلَوا فيه بالإصرار عليه. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، فيكون "الحق" مستثنى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه بأَنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حق على معنى اتباعِه والثباتِ عليه. وهذا نصٌّ فيما ذكرْتُ لك من أنَّ المستثنى هو "دينُكم".
(5/424)
---(1/2132)
وتقدَّم معنى الغلوِّ في سورة النساء وظاهرُ هذه الأعاريب المتقدمةِ أنَّ "تَغْلُوا" فعلٌ لازم، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء،إلا أن أهلَ اللغةِ يفسِّرونه بمعنى متعدٍّ، فإنهم قالوا: معناه لا تتجاوزوا الحد. قال الراغب: "الغوُّ تجاوزث الحَدِّ، يال ذلك إذا كان في السعر "غلاءً" وإذا كان في القَدْر والمنزلة "غُلُوَّ" وفي السهم "غَلْوا" وأفعالها جميعاً غلا يلغو، فعلى هذا يجوز أن ينتصب "غير الحق" مفعولاً به أي: لا تتجازوا في دينِكم غير الحق، فإنْ فَسَّرنا "تغلوا" بمعنى تتباعدوا من قولهم: "غلا السهمُ" أي: تباعدَ كانَ قاصراً، فيحتمل أن يكونَ مَنْ قال بأنه لازم أخذه من هذا لا من الأول.
قوله: {كَثِيراً} في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه / مفعولٌ به، وعلى هذا اكثرُ المتأوِّلين، فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضَلُّوا كثيراً منهم أو من المنافقين. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرية أي: نعت لمصدر محذوف أي: إضلالاً كثيراً، وعلى هذا فالمغولُ محذوف أي: أضَلُّوا غيرهم إضلالاً كثيراً.
* { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيا إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
(5/425)
---(1/2133)
قوله تعالى: {مِن بَنِيا إِسْرَائِيلَ}: في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا "الذين" وإمَّا" واو "كفروا" وهم بمعنًى واحدٍ. وقوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} المرادُ باللسانِ الجارحةُ لا اللغةُ، كذا قال الشيخ يعني أنَّ الناطقَ بِلَعْنِ هؤلاء لسانُ هذين النبيين، وجاء قولُه {عَلَى لِسَانِ} بالإفراد دون التثنيةِ والجمعِ فلم يَقُلْ: "على لسانَيْ" ولا "على ألسنةِ" لقاعدةٍ كليةٍ، وهي: أن كلَّ جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أُضيفا إلى كليهما من غير تفريقٍ جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ، لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ويليه التثنيةُ عند بعضَهم، وعند بعضِهم الإفرادُ مقدمٌ علة التثنيةِ، فيقال: "قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين" وإنْ شئت: رأسَي الكبشين، وإن شئت: رأسَ الكبشين، ومنه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقولي "جزأين" تحرُّزٌ من شيئين ليسا بجزأين نحو: "درهميكما" وقد جاء: "من بيوتِكما وعمائمكما وأسيافمكا" لأَمِنْ اللَّبْسِ، وبقولي: "مفردين" من نحو: "العينين واليدين" فأمَّا قولُه تعالى: {فَاقْطَعُوااْ أَيْدِيَهُمَا} ففُهِم بالإجماع وبقولي: "من غيرِ تفريق" تحرُّزٌ من نحو: قَطَعْتُ رأسي الكبشين: السمينِ والكبشِ الهزيل"، ومنه هذه الآية فلا يجوزُ إلا الإفرادُ وقال بعضهم: "وهو مختارٌ" أي: فيجوز غيرُه. وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ في سورة المائدة بكلامٍ طويٍ فعليك بالالتفاتِ إليه.
(5/426)
---(1/2134)
وفي النفس من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيد ذلك ما قاله الزمخشري فإنه قال: "نَزَّل اللّهُ لَعْنَهم في الزبور على لسانِ داود، وفي الإنجيل على لسانِ عيسى وقوةُ هذا تَأْبى كونَه الجارحةَ، ثم أني رأيتُ الواحدي ذكرَ عن المفسرين قولين، ورجَّح ما قتله قال - رحمة الله -: "وقال ابن عباس: يريد في الزبور وفي الإنجيلِ، ومعنى هذا أنَّ اللَهَ تعالى لَعَنَ في الزبور مَنْ يكفر من ني إسرائيل وكذلك في الإنجيل، وقيل: على لسان داود وعيسى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داود والإنجيلَ لسانُ عيسى" فهذا نصٌّ في أنا لمراد باللسانِ غيرُ الجارحة، ثم قال: "وقال الزجاج: "وجائزٌ أن يكون داود وعيسى عَلِما أنَّ محمداً نبيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنا مَنْ يكفر به" والقول هو الأول، فتجويزُ الزجاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يُراد باللسانِ الجارحةُ ولكن ليس قولاً للمفسرين. و"على لسان" متعلِّقٌ بـ "لعن" قال أبو البقاء: "كما يُقال: جاء زيدٌ على فرس". وفيه نظرٌ إذ الظاهر أنه حالٌ. وقولُه: "ذلك بما عَصَوْا" قد تقدَّم نظيره قوله: {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} في هذه الجملة الناقصةِ وجهان، أظهرهما: أن تكونَ عطفاً على صلةِ "ما" وهو "عَصَوْا" أي: ذلك بسب عصيانِهم وكونِهم معتدين. والثاني: أنها استئنافيةٌ أي: أخبر اله تعالى عنهم بذلك. قال الشيخ: "ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشرحِ له، وهو قولُه: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ}.
* { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
(5/427)
---(1/2135)
وقوله تعالى: {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}: متعلِّقٌ بـ "يَتَناهَوْن" و"فعلوه" صفةٌ لـ "منكر". قال الزمخشري: "ما معنى وصفِ المنكرِ بفعلوه، ولا يكونُ النهيُ بعد الفعلِ؟ قلت: معناه لا يتناهَوْن عن معاودةِ منكرٍ فَعَلُوه، أو عن مِثْلِ منكرٍ فَعَلوه، أو عن منكرٍ أرادُوا فِعْلَه، كما ترى أماراتِ الخوضِ في الفسق وآلاتِه تُسَوَّي وتُهَيَّأُ، ويجوز أن يُرادَ: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكرٍ فعلوه، بل يُصِرُّون عليه ويُداومون، يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه".
* { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }
(5/428)
---(1/2136)
وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا}: و"بئسما قَدَّمَتْ قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك فلا حاجةَ إلى إعادته، وهنا زيادةٌ أخرى لخصوصِ التركيب وستعرِفُها. قوله: {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} في محلِّه أوجهٌ، أحدها: أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصوصِ بالذم، والمخصوصُ قد حُذِفَ وأُقيمت صفتُه مُقامه فإنه تُعْرِبُ "ما" اسماً تاماً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، و"قَدَّمت لهم انفُسُهم" جملة في محلِّ رفعٍ صفةً له، والتقديرُ لبئس الشيءُ شيءٌ قَدَّمَتْهُ لهم أنفُسُهم" جملة في محلِّ رفعٍ صفةً له، والتقديرُ: لبئس الشيءُ شيءٌ قَدَّمَتْهُ لهم أنفُسُهم، فـ "أَنْ سَخِط اللّهُ عليهم" بدلٌ من "شيء" المحذوفِ، وهذا هو مذهبُ سيبويه كما تقدَّم تقريرُه. الثاني: أنه المخصوصُ بالذمِّ فيكونُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ المشهورةِ، أحدُها: أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك أو لا يَحْتاج إلى رابط لأن الجملة عينُ المبتدأ، الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ لأنك لَمَّا قلت: "بِئْسَ الرجل" قيل لك: مَنْ هو؟ فقلت: فلان، أي: هو فلان. الثالث: أنه مبتداٌ خبرُه محذوفٌ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشري ولم يذكر غيرَه، قال: {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هو المخصوص بالذمِّ كأنه قيل: لِبئْس زادُهم إلى الآخرة سُخْطُ اللّهِ عليهم، والمعنى: موجِبُ سُخْطِ الله" قلت: وفي تقديرِ هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفى على متأمِّله، فإنَّ نفسَ السخطِ المضافَ إلى الباري تعالى لا يُقال هو المخصوص بالذم، إنما المخصوصُ بالذم أسابُه، وذهبَ إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء إلاَّ أنَّ الشيخ بعد أَنْ حكى هذا الوجهَ عن أبي القاسم الزمخشري قال: "ولم يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهب الفراء والفارسي/ في جَعْلِ "ما" موصولةً، أو على(1/2137)
(5/429)
---
مذهبِ مَنْ يجعلُ "ما" تمييزاً، و"قَدَّمَتْ لهم" صفتها، وأمَّا على مذهبِ سيبيوه فلا يتأتَّى ذلك ثم ذَكَر مذهبَ سيبويه.
والوجه الثالث من أوجهِ "أَنْ سَخِطَ": أنه في محل رفع على البدل من "ما" وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية، إلا أن مكِّيّاً حكاه عن غيره، قال:"وقي: في موضعِ رفعٍ على البدلِ من "ما" في " لبئس" على أنها معرفةٌ" قال الشيه - بعد ما حكى هذا الوجهَ عن ابن عطية -: ولا يَصِحُّ هذا سواءً كانت "ما" تامةً أو موصولةً لأنَّ البدلَ يَحُلَّ المبدلِ منه، و"أَنْ سَخِطَ" لا يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً لـ "بِئْسَ" لأنَّ فاعل "بِئس" لا يكونُ أَنْ واللفعل" وهو إيرادٌ واضِحٌ كما قاله.
(5/430)
---(1/2138)
الوجه الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من "ما" إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذَكَر مكي وأبو البقاء، وهذا لا يجوزُ البتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين ان يكونض نكرةً، و"أَنْ" وما في حَيِّزها عندهم من قبيل أعرفِ المعارفِ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ، وقد تقدم تقريرُ ذلك فيكف يَقعُ تميييزاً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلًّ المبدل منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خصوصاً أَنْ والفعل. الخامسُ: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوبِ بـ "قَدَّمَتْ" العائدِ على "ما" الموصولة أو الموصوفة على حَسَبِ ما تقدَّم، والتقديرُ: قَدَّمَتْه سُخْط الله، كقولك: "الذي رأيت زيداً أخوك" وفي هذا بحثٌ في موضعِه. السادس: أنه موضع نصب على إسقاط الخافضِ، إذ التقديرُ: لأَنْ سَخِط، وهذا جارٍ على مذهبه سيبويه والفراء لأنهما يَزْعُمان أنَّ محلَّ "أَنْ" بعد حَذْفِ الخافض في محلِّ نصب. السابع: أنه في محلِ جر بذلك الخافض المقدَّرِ، هذا جارٍ على مهب الخليلِ والكسائي لأنهما يُزْعُمان أنَّهما في محل جر، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرةٍ، وعلى هذا فالمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي: لَبِئْسما قَدَّمَتْ لهم أنفسُهم عملُهم أو صُنْعُهم، ولامُ العلةِ المقدرةُ معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ أي: سببُ ذَمِّهم سخطُ اللّهِ عليهم أو بمحذوفٍ بعده، أي: لأَنْ سَخِطَ اللّهُ عليهم كان كيتَ وكيتَ.
* { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
(5/431)
---(1/2139)
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا}: الظاهرُ أنَّ اسم "كان" وفاعل "اتخذوهم" عائدٌ على "كثيراً" من قوله: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ} والضميرُ المصنصوب في "اتِّخذوهم" يعودُ على "الذين كفورا" في قوله: {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وأجاز القفال أن يكون اسمُ "كان" يعودُ على "الذين كفروا" وكذلك الضميرُ المنصوبُ في "اتِّخذوهم" والضميرُ المرفوعُ في "اتخذوهم" يعودُ على اليهود، والمرادُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والتقدير: ولو كان الكافرون المُتَوَلِّون مؤمنين بمحمد والقرآن ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياءَ، والأولُ أَوْلى لأن الحديثَ عن كثيرٍ لا عن المتولَّيْن، وجاء الجواب "لو" هنا على الأفصح وهو عدمُ دخولِ اللام عليه لكونه منفياً، ومثله قول الآخر:
1789- لو أنَّ بالعلمِ تُعْطَى ما تعيشُ به * لَمَا ظَفِرْت من الدنيا بثُفْرُوْقِ
و"ترى" يدوز أَنْ تكونَ مِنْ رؤية البصر، ويكونُ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكونَ العِلْمية، والكثيرُ على هذا أَسْلافُهم، فمعنى "تَرى" تَعْلَمُ أخبارَهم وقصصهم بإخبارنا إياك، فعلى الأول يكون قولُه "يَتَولَّون" في محلِّ نصب على الحال، وعلى الثاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني: وقولُه: {وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ} هذا الاستدراكُ واضحق بما تقدَّم. وقولُه: "كثيراً" هو من غقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ لأنه عبارةٌ عن "كثيراً منهم" المتقدِّمِ، فكأنه قيل: ترى كثيراً منهم ولكنَّ ذلك الكثيرَ، ولا يريدُ: ولكنَّ كثيراً من ذلك الكثيرِ فاسقون.
* { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }
(5/432)
---(1/2140)
قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ}: قد تقدَّم إعرابُ هذا في نحو قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} فَأَغَنَى عن إعادته / وقال ابنُ عطية: "اللامُ للابتداءِ"، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتَلَقَّى بها القسمُ. و"أشدَّ الناس" مفعول أول، و"عداوةً" نصب على التمييز. و"للذين" متعلقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّ كانت فرعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، فهي كقولهِ:
1790- ........... ورهبةٌ * عقابَك..............
ويجوزَ أن يكونَ "للذين" صفةً لـ "عداوة" فيتعلَّقَ بمحذوف، و"اليهودَ مفعولٌ ثانٍ. وقال أبو البقاء: "ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ، و"أشدَّ" هو الثاني، وهذا هوا لظاهرُ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ مودةً له، ولي المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ والنصارى. فإن قيل: متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديم الفعولِ الأولِ وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك. فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث أَلْبس، أما إذا دَلَّ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله:
1791- بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا * بنوهُنَ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
فـ "بنوا أبناء" هو المبتدأ، و" بَنُونا" خبره، لأنَّ المعنى على تشبيه أولاد الأبناء بالأبناء، ومثلُه قول الآخر:
1792- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها * وأَعْدُر الناسِ بالجريرانِ وافِيها
أكرمُها" هو المتبدأُ، و"ألأمُ الأحياءِ" خبرُه، وكذا "وافيها" مبتدأ و"أغدرُ الناس" خبره، والمعى على هذا، والآيةُ من هذه القبيل فيما ذَكَرْتُ لك.
(5/433)
---(1/2141)
وقوله: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} عطفٌ على اليهود، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها. و"ذلك بأنَّ" مبتدأٌ وخبرُ، وتقدم تقريره، و"منهم" خبر "أنَّ" و"قسيسين" اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محل جَرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر "ذلك" والقسيسين جمع "قِسِّيس" على فِعِّيل، وهو مثالُ بمالَغةَ كـ "صِدِّيق" وقد تقدَّم وهو هنا ريئيسُ النصارى وعابُدهم، وأصلُه من مبالَغَة كـ "صِدِّق" وقد تقدَّم، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم، وأصلُه من تَقَسِّسَ الشيءَ إذا تَتَّبَعَه وطَلَبه بالليل، يقال: "تقسَّسْتُ أصواتَهم" أي: تَتَبَّعْتُها بالليلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسّ وقِسّيس، وللدليل بالليل: قَسْقَاس وقَسْقَس، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّي عالُم النصارى للتبُّعِه العلمَ. قال رؤبه بن العجاج:
1793- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا * يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا
ويقال: قَسّ الأثرَ وقَصَّه بالصاد أيضاً، ويقال: قَسّ وقِسّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس. وزعم ابن عطية أنه أعجمي مُعَرَّب. وقال الواحدي: "وقد تكلمت العرب بالقَسَ والقِسّيس" وأنشد المازني:
1794- لو عَرَضَتْ لأيْبُليٍّ قَسِّ * اشعثَ في هيكلهِ مُنْدَسِّ
حَنَّ إليها كحنينِ الطَسِّ
وأنشد لأمية بن أبي الصلت:
1795- لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ * يُحْيِيهم الَّهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسّيس، ثم قال: "وقال عروة بن الزبير: "ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيل وما فيه، وبقي منهم رجلٌ يُقال له قسيساً" يعني بقي على دنيه لم يُبَدِّلْه، فَمَنْ بقي على هدية ودينه يل له "قِسِّيس" وقال قطرب: "القَسّ والقِسّيس: العالم بلغة الروم، قال ورقة:
1796- لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسِّ * من الرهبان أكرُه أَنْ يَبُوحا
(5/434)
---(1/2142)
فعلى هذا القَسُّ مما اتفق فيه اللغتان. قلت: وهذا يُقَوّي قولَ ابن عطية، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ "القُس" بضم القاف لا مصدراً ولا وصفاً، فأما قُسّ بن ساعدة الإيادي فهو عَلمَ فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّر بطريق العلَمية، ويكون أصلُه قَسّ أو قِسّ بالفتح أو الكسر كما نَقَله ابن عطية وقُسُّ بن ساعدة كان أعلمَ أهلِ زمانه، وهو الذي قال فيه عليه السلام: "يُبْعَثُ أمةً وحدَه" وأمَّا جمعُ قِسّيس فجمعُ تصحيحٍ كما في الآية الكريمة. قال الفراء: "ولو جُمِع "قَسُوساً" كان صواباً لأنهما في معنى واحد" يعني: "قِسّاً" و"قسِيساً" قال: "ويُجْمَعُ القِسّيس على "قساوِسَة" جمعهوه على مثال المَهالِبَة، والأصلُ: قساسِسَة، فكثُرت السينات / فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأمية: "لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ" البيت. قال الواحدي: "والقٍسوسة مصدرُ القِسّ والقِسِّيس" قلت: كأنه جَعَل هذا المصرد مشتقاً من هذا الاسم كالأبوّة والأخوّة والفتوّة من لفظ أب وأخ وفتى، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن القَسّ بالفتحِ في الاصل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّي به مبالغةً، ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما عَرَفْتَه مِمَّا تقدم؟
والرُّهْبان: جمعُ راهبٍ كراكب ورُكْبان، وفارِس وفُرْسان. وقال أبو الهيثم. "إنَّ رهباناً يكون واحداً ويكون جمعاً" وأنشد على كونه مفرداً قولَ الشاعر:
1797- لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ * لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا ونَزَلْ ولو كان جمعاً لقال: "يَعُدُون" و"نَزَلُوا" بضميرالجمع. وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عادَ ضميرُ المفرد على الجمع الصريح لتأوُّله بواحدٍ كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} فالهاء في "بطونه" تعود على الأنعام، وقال:
1798- وطابَ البانُ اللِّقاحِ وبَرَدْ
(5/435)
---(1/2143)
في "برد" ضميرٌ يعودُ على "أَلْبان" وقالوا: "هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه". وقال الآخر:
1799- لو أنَّ قوميَ حين أَدْعُوهمْ حَمَلْ * على الجبالِ الشُّمِّ لانهدَّ الجَبَلْ
إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذِكْرُه، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآن الكريم إلا جَمْعاً، وقال كثّير:
1800- رُهْبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ * يبكون من حَذَرِ العقابِ قُعودا
لو يَسْمعون كما سَمِعْتُ كلامَها * خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا
قيل: ولا حُجَّة فيه لأنه قال: "والذين" فيُحتمل أنّض الضمير إنما جُمع لأجلِ هذا الجمعِ لا لكونِ رُهبان" جمعاً، وأصرحُ مِنْ قولُ جرير:
1801- رُهبانُ مَدْيَنَ لو رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا * والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفادِرِ
قال ابن الهيهم: "وإن جُمِع الرهبان الواحدُ "رَهابين ورهابِنة" جاز، وإنْ قتل: رهبانيون كان صواباً كأنك تَنْسُبُه إلى الرهبانية، والرهبانية من الرَّهْبَة وهي المخافَةُ، وقال الراغب" "والرُهبانُ يكونَ واحداً وجمعاً، فَمَنْ جَعَلَه واحداً جَمَعَه على رَهابين، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ" يعني أن هذه الصيغة غَلَبَتْ في الجمع كالفرازِنَة والموازِجَة والكيالجة وقال الليث: "الرهبانيِّةُ مصدرُ الراهبِ والترهُّب: التعبُّد في صومعة"، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدم في ان القَسْوَسة مصدرٌ من القَسّ والقِسّيس، ولا حاجةَ إلى هذا بل الرهبانيةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّب وهو التعبد أو من الرَّهَب وهو الخوف، ولذلك قال الراغب: "والرهبانيةُ غلوُّ مَنْ تحمَّل التعبُّدَ مِنْ فرطِ الرَّهْبَة" وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
}. قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} نسقٌ على "أنَّ" المجرورِ بالباء أي: ذلك بما تقدَّم وبأنَّهم لا يستكبرون.
(5/436)
---(1/2144)
* { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ} "إذا" شرطيةٌ جوابُها "تَرى" وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ محلِّها الرفعُ نسقاً على خبر "أنَّهم" الثانةِ، وهو "لا يستكبرون" أي: ذلك بأنَّ منهم كذا وأنهم غيرُ مستكبرين وأنهم إذا سمعوا، فالواو عَطَفَتْ مفرداً على مثله. والثاني: أنَّ الجملةَ استئنافية أي: أنه تعالى أَخْبر عنهم بذلك. والضميرُ في "سمعوا" ظاهرُه أَنْ يعودَ على النصارى المتقدِّمين لعمومهمِ، وقيل: إنما يعودُ لبعضِهم وهم مَنْ جاء مِن الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: "لأنَّ كلَّ النصارى ليسوا كذلك".
و"ما" في "ما أُنْزل" تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفَة، و"ترى" بصَريةٌ، فيكون قولُه "تَفيض من الدمع" جملةً في محلِّ نصب على الحال. وقُرئ شاذاً "تُرى" بالبناء للمفعول، "أعينُهم" / رفعاً، وأسند الفيضَ إلى الأعين مبالغةً، وإن كان القائضُ إنما هو دمعُها لا هي، كقول امرئ القيس:
1802- ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً * على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمِلي
والمرادُ المبالغةُ في وصفِهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهم تمتلئ حتى تفيضَ، لأنَّ الفيضَ ناشءٌ عن الامتلاءِ كقوله:
1803- قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها * وقد يَمْلأَ الماءُ الإناءَ فَيَفْعُمُ
(5/437)
---(1/2145)
وإلى هذين المعنيين نحا أبو القاسم، فإنه قال: "فإنْ قلت: "ما معنى "تَفيض من الدمع"؟ قلت: معناه تَمْتَلِئ من الدمع حتى تفيض، لأنَّ الفيض أَنْ يمتلئَ الإناءُ حتى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضع الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبب مُقام السببِ، أو قَصَدْتَ المبالغةَ في وصفِهم بالبكاء، فجَعَلْتَ أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي: تسيل من الدمع من أجلِ البكاء من قولك: "دَمَعَتْ عينُه دمعاً".
(5/438)
---(1/2146)
و"من الدمع" فيه أربغةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّقٌ بـ "تَفيض"، ويكون معنى "مِنْ" ابتداءَ الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في "تفيضُ" قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك: "مملوءةً من الدمع" وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقي ان يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً أي: تفيض كائنً من الدمع، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي. فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكونَ "من الدمع" تمييزاً، لأنهم لا يَشْترطون تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً، كقولك: "تَفَقَّأ زيدٌ شحماً" فهو من المتصب عن تمام الكلام؟ فالجوابُ أن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز إذا كان منقولاً من الفاعلية امتنع دخولُ "مِنْ" عليه، وإن كانت مقدرةً معن، فلا يجوز: "تَفَقَّأ زيدٌ من شحم" وهذا - كما رأيتَ - مجرورٌ بـ "من" فامتنع أن يكونَ تمييزاً، إلا أن ابا القاسم في سورة براءة جعله تمييزاً في قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ولا بد من نقلِ نصه لتعرفه، قال رحمه الله تعالى: "تفيضُ من الدمعِ كقولك: "تفيضُ دمعاً" وهو أبلغ من قولك: يفيضُ دمعُها، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائض، و"من" للبيان، كقولك: "أَفْديك من رجلٍ" ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز" وفيه ما قد عَرَفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ بـ "مِنْ" وهو فاعلٌ في الأصل، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ، فعلى هذا تكونُ هذه الآية كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث. الرابع: انَّ "مِنْ" بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمع، وكونُها بمعنى الباءِ رأيٌ ضعيف، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي: بطرف، كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى مِنْ، كقوله:
1804- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ * متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
أي: من ماءِ الجر.(1/2147)
(5/439)
---
قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} "مِنْ" الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقةٌ بـ "تَفِيضُ" والثانيةُ يُحْتمل أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنت جنسَ الموصولِ قبلَها، ويُحتمل أن تكونَ للبعيضِ، وقد أوضح أبو القاسم هذا غايةَ الإيضاح، قال رحمه الله: "فإنْ قتل: أيُّ فرقٍ بينَ "مِنْ" و"مِنَ" في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، على أنَّ الدمع ابتدأ ونَشَأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببِه، والثانيةُ لبيان الموصول الذي هو "ما عرفوا" وتحتمل معنى التبعيض، على أنهم عَرَفوا بعضَ الحقِّ فأبكاهم وبَلَغ منهم، فكيف إذا عَرَفوه كلَّه وقرؤوا القرآن وأحاطُوا بالنسة" انتهى. ولم يتعرض لما يتعلَّق به الجارَّاننوه يمكن أَنْ يُؤْخَذَ من قوةِ كلامه، وَلْنزد ذلك إيضاحاً و"مِنْ" الأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حال من "الدمع" أي: في حال كونه ناشئاً ومبتدئاً من معرفةِ الحق، وهو معنى قول الزمخشري، على أنَ الدمعَ ابتدأ ونشَأَ من معرفة الحق، ولا يجوزُ أَنْ يتعلق بـ "تفيض" لئلا يلزَم تعلُّقُ حرفين مُتَّحِدَيْن، لفظاً ومعنىً بعامل واحد، فإنَّ "مِنْ" في "من الدمع" لابتداءِ الغاية كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ "مِنْ" في "من الدمع" للبيانِ، أو بمعنى الباء فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضوحِ كالأول. وأمَّا "من الحق" فعلى جَعْلِه أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف أي: أعني من كذا، وعلى جَعْلِه أنها للتبعيض تتعلق بـ "عَرَفوا" وهو معنى قوله: "عَرَفوا بعض الحق".
(5/440)
---(1/2148)
وقال أبو البقاء في "مِن الحق" إنه حالٌ من العائد المحذوف" على الموصول، أي: مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون "من" في قوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُواْ} تعليلةً، أي: إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانهم الحقَّ، ويؤيِّدُه قول الزمخشري: "وكان مِنْ أجله وبسببه" فقد تحصل في "مِنْ" الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضَعْفٌ أو منعٌ كما تقدم، وفي "مِنْ" الثانية أربعةٌ أيضاً: وجهان بالنسبة إلى معناها: هل "من" ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلق به: هل هو "تفيض" أو محذوفٌ على أنا حالٌ من الدمع، وفي الثالثة خمسة، اثنان بالنسبة إلى معناها: هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةُ بالنسبة إلى متعلِّقها: هل هو محذوفٌ وهو "أعني" أو نفسُ "عَرَفوا" أو هو حالٌ، فتتعلق بمحذوفٍ أيضاً كما ذكره أبو البقاء.
(5/441)
---(1/2149)
قوله: {يَقُولُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ،أحدُها: أنه مستأنف فلا محل له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة الحسنةِ، الثاني: أنها حال من الضمير المجررو في "أعينهم"، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنَّ المضافَ جزؤهُ فهو كقوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} الثالث: أنه حالٌ من فاعل "عَرَفوا" والعاملُ فيها "عرفوا" قال الشيخ لَمَّا حكى كونَه حالاً: "كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ولا العاملَ فيها" قتل: أمَّا أبو البقاء فقد بَيَّنَ ذا الحال فقال: "يقولون" حالٌ من ضميرِ الفاعل في "عَرَفوا" فقد صَرَّح به، ومتى عُرِف ذو الحال عُرِف العاملُ فيهان لأنَّ العاملَ في الحال من العامل في صاحبها، فالظاهر أنه أطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ الشيخَ رَدَّ كونَها حالاً من الضمير في "أعينهم" بما معناه أن الحَال لا تَجيءُ من المضافِ إليه وإن كان المضافُ جُزْأِه، وجعله خطأً، وأحالَ بيانَه على بعضِ مصنفاتِه، ورَدَّ كونَها حالاً أيضاً من فاعل "عرفوا" بأنه يلزمُ تقييدُ مفرفتِهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحالِ وفي غيرها، قال: "فالأَوْلى أن يكون مستأنفاً" أمَّا ما جعله خطأً فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا، وأمَّا قوله "يلزم التقييدُ" فالجوابُ أنه إنما ذُكِرت هذه الحالُ لأنها أشرفُ أحوالهم فَخَرَجَتْ مخرجَ المدح لهم. وقوله: "ربَّنا آمنَّا" في محل نصب بالقول، وكذلك: {فَاكْتُبْنَا} إلى قوله: {الصالحين}.
* { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ }
(5/442)
---(1/2150)
قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ}: "ما" استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء، و"لنا" جارٌّ ومجروُ خبرُه، تقديرُه: أيُّ شيء استقر لنا، و"لا نؤمن" جملة حالية. وقد تقدَّم نظيرُ هذه الآية والكلامُ عليها، وأنَّ بعضَهم قال: إنها حال لازمة لا يتمُّ المعنى إلا بها نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} تقدَّم ما قلتُه فيه فأغنى ذلك عن إعادتِه. وقال الشيخ هنا: "وهي المقصودُ وفي ذكرها فائدةُ الكلام، وذلك كما تقول: "جاء زيدٌ راكباً" لَمَنْ قال: هل جاء زيدٌ ماشياً أو راكباً؟.
قوله: {وَمَا جَآءَنَا} في محلِّ "ما" وجهان، أحدهما: أنه مجرور نسقاً على الجلالة أي: بالله وبما جاءَنا، وعلى هذا فقوله: "من الحق" فيه احتملان، أحدُهما: أنه حالٌ من فاعل "جاءنا" أي: جاء في حال كونه من جنسِ الحقِّ. والاحتمال الآخر: أن تكونَ "مِنْ" لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ "مِنْ" حينئذ بـ "جاءنا" كقولك "جاءَنا فلانُ من عند زيد"، والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله: {مِنَ الْحَقِّ} والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء ويصيرُ التقدير: وما لنا لا نؤمِنْ بالله والحالُ أنَّ الذي جاءنا كائنٌ من الحق، "والحقُّ" يجوز أن يُراد به القرآنُ فإنه حقُّ في نفسه، ويجوزُ أن يُراد به الباري تعالى - كما تقدَّم - والعاملُ فيها والاستقرارُ الذي تضمَّنه قولُه "لنا".
(5/443)
---(1/2151)
قوله: {وَنَطْمَعُ} في هذه الجملة ستة اوجه، أحدها: أنها منصوبة المحلِّ نسقاً على المحكي بالقَول قبلَها أي: يقولون كذا ويقولون نطمع وهو معنىً حسن. / الثاني: أنها مفي محلِّ نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو "لنا" لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعَمِلَ في الحال، وإلى هذا ذهبَ أبو القاسم فإنه قال: "والواو في "ونطمعُ" واو الحال، فإنْ قلت: ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ كأنه قيل: أيُّ شيء حَصَل لنا غيرَ مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أَزَلْتَها وقلت: "ما لنا ونطمعُ" لم يكنْ كلاماً". وفي هذا الكلامِ نظرٌ وهو قولُه: "لأنَّك لو أَزَلْتَها إلى آخره" لأنَّا إذا أَزَلْناها وأتينا بـ "نطمع" لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجردةٌ منه لنحُلَّها الأولى، ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضعوا المعطوفَ موضعَ المعطوف عليه وضعوه مجرداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشاف: "ما لنا نطمعُ" كان كلاماً كقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فـ "نطمع" واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت: ما لك طامعاً، وما لنا طامعين. وردَّ الشيخ عليه هذا الوجه بشيئين، أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثرَ من حالٍ واحدة إذا كان صاحبُه دونَ بدل أوع طف إلا أفعلَ التفضيل على الصحيح.
والثاني: أنه يلزم دخولُ الواو على مضارع مثبت. وذلك لا يجوزُ إلا بتأويل تقدير مبتدأ أي: ونحن نطمع.
(5/444)
---(1/2152)
الثالث: أنها في محل نصب على الحال من فاعل "نؤمن" فتكون الحالان متداخلتين. قال الزمخشري: "ويجوز أن يكون "ونطمع" حالاً من "لا نؤمن" على معنى: أنهم أَنْكروا على أنفسهم انهم لا يوحِّدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين" وهذا فيه ما تقدم من دخول واو الحال على المضارع المثبت، وأبوالبقاء لَمَّا أجاز هذا الوجهَ قَدَّر مبتدأ قبل "نطمع"، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل "نؤمن" فتكون الجملةُ حالاً من فاعل لا نؤمن" الرابع: أنها معطوفةٌ على "لا نؤمن" فتكون في محلِّ نصب على الحال من ذلك الضميرِ المستترِ في "لنا"، والعاملُ فيها هو العاملُ في احال قبلها. فإنْ قلت: هذا هو الوجه الثاني المتقدم، وذكرتَ عن الشيخِ هناك أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع فما الفرق بين هذا وذاك؟ فالجواب أنَّ الممنوعَ تعدُّدُ الحال دون عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأن المضارعَ إنما يتمنع دُخولُ واو الحال عليه وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ فحصل الفرقُ بينهما من جهةِ الواو، حيث كانت في الوجه الثاني واوَ الحال وفي هذا الوجه واوُ عطف، وهذا وإن كان واضحاً فقد يَخْفى على كثير من المتدربين في الإعراب، ولَمَّا حكى أبو القاسم هذا الوجهَ أبدى له معنيين حسنين فقال - رحمه الله -: "وأن يكونَ معطوفاً على "لا نؤمن" على معنى: وما لنا نجمعُ بين التثليث وبين الطمعِ في صحبةِ الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمعُ بينهما بالدخولِ في الإسلام، لأنَّ الكافرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صحبة الصالحين".
(5/445)
---(1/2153)
الخامس: أنها جملة استئنافية. قال الشيخ: "الأحسنُ والأسهلُ أن يكونَ استئنافَ إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بإدخالهم مع الصالحين، فالواوُ عاطفةُ هذه الجملة على جملة "وما لنا لا نؤمن" قلت: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكِيِّ بالقول قبلها شيءٌ واحدٌ، فإن فيه الإخبارَ عنهم بقلوهم كيتَ وكيتَ. السادس: أن يكون "ونطمعُ" معطوفاً على "نؤمن" أي: وما لنا لا نطمع. قال الشيخ هنا: "ويظرُ لي وجهُ غيرُ ما ذكروه وهو أن يكونَ معطوفاً على "نؤمن" التقدير: وما لنا لا نؤمنُ ولا نطمعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاء إيمانهم وانتفاءِ طمعهم مع قدرتِهم على تحصيلِ الشيئين: الإيمان والطمعِ في الدخول مع الصحاين" قلت: قوله: "غيرُ ما ذكروه" ليس كما ذكره، بل ذكر أبو البقاء فقال: "ونطمعُ يجوز أن يكونَ معطوفاً على "نؤمن" أي: وما لنا لا نطمع"، فقد صَرَّح بعطفه على الفعل المنفي بـ "لا" غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بسطاً.
والطمع قال الراغب: "هو نزوعُ النفسِ إلى الشيء شهوة له" ثم قال: ولَمَّا كان أكثرُ الطمعِ من جهة الهوى قيل: الطَمَعْ طَبَعٌ والطَمَعُ يدنِّس الإهابَ" وقال الشيخ: "الطمعُ قريبٌ من الرجاء / يقال منه: طَمِع يطمَعُ طَمَعاً، قال تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} وطَماعَة وطماعِيَة كالكراهية، قال:
1805- ................. * طَماعيةً أَنْ يغفرَ الذنبَ غارفرُهْ
فالتشديدُ فيها خطأ، واسمُ الفاعل منه طَمِع كـ "فَرِح" و"أَشِر" ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه، وحكى الراغب: طَمِعٌ وطامعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين كقولهم "فَرِح" لمن شأنه ذلك، و"فارح" لمن تجدَّد له فرحٌ.
قوله: {أَن يُدْخِلَنَا} أي: في أن، فمحلُّها نصب أو جر على ما تقدَّم غيرَ مرة. و"مع" على بابِها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى "في" ولا حاجةَ إليه لاستقلالِ المعنى مع بقاءِ الكلمةِ على موضوعها.
(5/446)
---(1/2154)
* { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ }
وقرأ الحسن: {فآتاهم}: مِنْ آتاه كذا أي: أعطاه، والقراءةُ الشهيرةُ أَوْلى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجلِ عملٍ، بخلاف الإيتاء، فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره. وقوله: {جَنَّاتٍ} مفعول ثان لـ "أثابَهم" أو لـ "آتاهم" عل حَسَبِ القراءتين. و"تجري من تحتها الأنهار" في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "جنات". و"خالدين" حالٌ مقدرةٌ، وقوله: {وَذالِكَ جَزَآءُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وأُشير بـ "ذلك" إلى الثواب أو الإيتاء. و"المحسنين" يُحتمل أن يكونَ من بابِ إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمر، والأصل: "وذلك جزاؤُهم" وإنما ذُكشر وصفُهم الشريف مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَة محصِّلة جزائهم بالخير، ويُحتمل أن يرادَ كلُّ محسنٍ، فيندرجون اندراجاً أولياً.
* { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيا أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {حَلاَلاً}: فيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه مفعولٌ به أي: كُلوا شيئاً حلالاً، وعلى هذا الوجهِ ففي الجارِّ وهو قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ} وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من "حلالا" لأنه في الأصل صفةٌ لنكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. والثاني: أنَّ "مِنْ" لابتداء الغاية في الأكل أي: ابتدئوا أكلكم الحلالَ من الذي رزقه الله لكم. الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة أنه حالٌ من المصول أو من عائده المحذوف أي: "رَزَقكموه" فالعاملُ فيه "رزقكم" الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي: أَكْلاً حلالاً وفيه تجوُّزٌ.
(5/447)
---(1/2155)
* { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيا أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوااْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ}: إلى آخره، تقدم إعرابُ ذلك في سورة البقرة واشتقاقُ المفردات. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: "عَقَدْتُمْ" بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذكروان عن ابن عامر: "عاقدتم" بزنة فاعلتم، والباقون: "عَقَّدتم" بتشديد" القاف. فأمَّا التخفيفُ فهو الأصل، وأمَّاالتشديدُ فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه للتكثيرِ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ. والثاني: أنه بمعى المجردِ فيوافِقُ القراءةَ الأول، ونحوه: قَدَّر وقَدَر. والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين نحو: {اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} والرابع: أنه يدل على تأكيد العزم بالالتزام. الخامس: أنه عوضٌ من الألف في القراءة الأخرى، ولا أدري ما معناه، ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمرةٍ واحدةٍ.
وقد تَجَرَّأ أبو عبيد على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال: "التشديد للتكرير [مرةً] من بعد مرة، ولست آمنُ أن توجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمين الواحدة لأنها لم تكرَّرْ" وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدمة، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنى لله الحمدُ.
(5/448)
---(1/2156)
وأمَّا "عاقدت" فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو: "جاوزت الشيء وحُزْتُه" وقال الفارسي: "عاقَدْتم" يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى فَعَل، كطارقت النَّعْل وعاقبتُ اللص، والآخر: أن يُراد به فاعَلْتُ التي تقتضي فاعلين، كأن المعنى: بما عاقدتم عليه الأيمانَ، عَدَّاه بـ "على" لَمَّا كان بمعنى عاهد، قال: {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ} كما عَدَّى: {نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} بـ "إلى" وبابُها أن تقول: ناديت زيداً [نحو:] {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ} لَمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} ثم اتُّسِع فحُذِف الجارُّ ونُقِل الفعل إلى المفعول، ثم حُذِف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول إذ صار: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} كما حُذِف من قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} قلت: يريد - رحمه الله - أن يبيِّن معنى المفاعلة فأتى بهذه النظائر للضتمين ولحذفِ العائدِ على التدريد، والمعنى: بما عاقَدْتُم عليه الإيمان وعاقَدَتُم الأيمان عليه، فَنَسَب المعاقدةَ إلى الأيمان مجازاً. ولقائل أن يقول: قد لانحتاجُ إلى عائد حتى نحتاج إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعلَ "ما" مصدريةً والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: بما عاقدتم غيرَكم الأيمانَ، أي: بمعاقدتكم غيرَكم الأيمانَ، ونخلص من مجازٍ آخر وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان، فإنَّ في هذا الوجه نسبةَ المعاقدة للغير وهي نسبةٌ حقيقة، وقد نَصَّ على ذلك - أعني هذا الوجه - جماعةٌ.
(5/449)
---(1/2157)
وقد تعقَّب الشيخُ على أبي علي كلامَه / فقال: "قوله: إنه مثل "طارَقْتُ النعل" و"عاقبت اللص" ليس مثلَه، لأنك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقَدْت اليمين وعَقَدْتُها" وهذا غيرُ لازم لأبي علي لأنَّ مرادَه أنه مثلُه من حيث إنَّ المفاعلةَ بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقال فيه أيضاً فلا يَضُرُّه ذلك في التشبيه. وقال أيضاً: "تقديرُه حَذْفَ حرفِ الجر ثم الضمير على التدرج بعيدٌ، وليس بنظير: "فاصدَعْ بما تؤمر" لأن "أمر" يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى، وإن كان الأصلُ الحرفَ، وأيضاً فـ "ما" في "فاصدَعْ بما" لا يتعيَّن أن تكونَ معنى الذي، بل الظاهر أنها مصدريةٌ، وكذلك ههنا الأحسنُ أن تكونَ مصدريةً لمقابلتِها بالمصدرِ وهو اللَّغْوُ".
وقد تقدَّم في سورة النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} و"عَاقَدْت" وذكرت لك ما فيهما فصارَ في ثلاثُ قراءاتٍ في المشهور، وفي تِيْكَ قراءاتان، وكنت قد ذَكَرْتُ أنه رُوي عن حمزة في سورة النساء: "عَقَّدت" بالتشديد، فيكون فيها أيضاً ثلاث قراءات، إلا أنه اتفاقٌ غريبٌ فإنَّ حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة، وقد رُوي عنه التثقيلُ في النساء.
(5/450)
---(1/2158)
قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} مبتدأ وخبر، والضميرُ في "فكفارته" فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ له ذكرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ. الثاني: أنه يعود على "ما" إنْ جَعَلْناها موصولةً اسميةً، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثه، كذا قدَّره الزمخشري والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ لتقدُّمِ الفعلِ الدالِّ عليه. الرابع: أن يعودَ على اليمين، وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحَلْف، قالهما أبو البقاء، وليسا بظارهرين. و"إطعامُ" مصدرٌ مضافٌ لمفعوله وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعل مبني للفاعل أي: فكفارته أن يُطْعِمَ الحانثُ عشرةً، وفاعلُ المصدر يُحذف كثيراً، ولا ضرورة تَدْعوا إلى تقديره بفعلٍ مبني للمفعولِ أي: أن يُطْعَمَ عشرةٌ، لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه، فعلى الأول يكونُ محلُّ "عشرة" نصباً، وعلى الثاني يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمِّ فاعله، ولذلك فائدةٌ تَطْهر في التابع، فإذا قلت: "يعجبني أكلُ الخبز" فإن قدرته مبنياً للفاعل فتتبع "الخبز" بالجرِّ على اللفظِ والنصبِ على المحلِّ، وإنْ قَدًّرْتَه مبنياً للمفعول أَتْبعه جراً ورفعاً، فتقول، يعجبني أكلُ الخبز والسمن والسمنَ والسمنُ، وفي الحديث: "نَهَى عن قتلِ الأبتر وذو الطُّفْتَيَيْنِ" برفع "ذو" على معنى: أن يُقْتل الأبتر. قال أبو البقاء "والجيد أن يُقَدِّر- أي المصدر - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلهُه، لأنَّ ما قبله وما بعده خطابٌ" قلت: فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك، لأنَّ المعنى: فكفَّارته أَنْ تُطْعِموا أنتم أيها الحالفون، وقد قَدَّمْتُ لك أَنَّ تقديرَه بالمبني للفاعل هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدْ قرينةٌٌ لأنه الأصلُ.
(5/451)
---(1/2159)
قوله: {مِنْ أَوْسَطِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِنه ما قبلَه تقديرُه: طعامُهم في أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عند قوله: {مساكين} وسيأتي إيضاحُ هذا بزيادةٍ قريباً إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه في موضعِ نصبٍ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُك قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسط، وأما المفعول الأول فهو "عشرة" المضافُ إليه المصدرُ، و"ما" موصولة اسميةٌ والعائد محذوفٌ أي: من أوسطِ الذي تطعمونه، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً بـ "مِنْ" فقال: "الذي تطعمون منه" وفيه نظرٌ لأنَّ من شرط العائد المجرور في الحذف في الحذف أَنْ يتَّحِدَ الحرفان والمتعلَّقان، والحرفان هنا وإن اتفقا وهما "مِنْ" و"مِنْ" إلا أنَّ العامل اختلف، فإنَّ "مِنْ" الثانية متعلقةٌ بـ "تُطْعِمُون" والأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ وهو الكون المطلق لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يُقال: إنَّ الفعل لَمَّا كان مُنْصَبّاً على قوله: {مِنْ أَوْسَطِ} فكأنه عاملٌ فيه، وإنما قدِّرْنا مفعولاً لضرورة الصناعة، فإن قلت: الموصولُ لم ينجرَّ ـ "مِنْ" إنما انجرَّ بالإضافةِ فالجواب أنَّ المضافَ إلى المصول كالمصولِ في ذلك نحو: "مُرَّ بغلام الذي مررت".
(5/452)
---(1/2160)
و"أهليكم" مفعولٌ أول لـ "تُطْعِمُون" والثاني محذوف كما تقدم أي: تُطْعمونه أهليكم. "وأهليكم" جمعُ سلامةٍ ونقصه من الشروط كونُه ليس علماً ولا صفةً، والذي حَسَّن ذلك أنه كثيراً ما يُستعمل استعمال "مستحق لكذا" في قولهم: "هو أهلُ لكذا" أي: مستحق له فأشبه الصفاتِ فجُمع جمعَها. وقال تعالى: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} {قُوااْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} وفي الحديث: "إنَّ لله أهلين" قيل: يا رسول الله: مَنْ هم؟ قال: قُرَّاء القرآن هم أهل الله وخاصَّتُه" فقوله: "أهلُوا الله" جمعٌ حُذِفَتْ نونثه للإضافة، ويُحتمل أن يكونَ مفرداً فيكتب: "أهلُ الله" فهو في اللفظِ واحدٌ.
وقرأ جعفر الصادق: "أهاليكم" بسكونِ الياءِ، وفيه تخريجان / أحدُهما: أنَّ "أهالي" جمعُ تكسيرٍ لـ "أَهْلَة" فهو شاذٌّ في القياس كـ "لَيْلة ولَيال". قال ابن جني: "أَهال" بمنزلةِ "ليال" واحدها أَهْلاة ولَيْلاة، والعربُ تقول: أهلٌ وأَهْلَة، قال الشاعر:
1806- وأَهْلَةُ وُدٍّ قد سُرِرْتُ بوُدِّهم *.....................
وقياسُ قول شأبي زيد أن تجعلَه جمعاً لواحدٍ مقدرٍ نحو: أحاديث وأعاريض وإليه يشير قولُ ابن جين: "اهل بمنزلة ليال" واحدُها أَهْلاة ولَيْلاة، فهذا يحتمل أن يكون بطريق السماع، ويحتملُ أن يكونَ بطريقِ القياس كما يقول أبو زيد. والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لأَهْل. قال الزمخشري: "كاليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض" قوله "في جمع ليلة وجمع أرض" أرادَ بالجمعِ اللغويَّ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ "ليلة" و"أرض" صناعةً، لأنه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ فكيف يجلعُه جمعاً اصطلاحاً؟
وكان قياسُ قراءةِ جعفر تحريكَ الياءِ بالفتحة لخفتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظم كقول النابغة:
1807- رَدَّتْ عليه أقاصِيه ولَبَّده * ضَرْبُ الوليدةِ بالمسْحاةِ في الثَّأَدِ(1/2161)
(5/453)
---
وقول الآخر:
1808- كأنَّ أيديهنَّ بالقاعِ القَرِقْ *أيدي جوارٍ بتعاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك بأشعبَ من هذا.
قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه نسقٌ على "إطعام" أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسوة تلك العشرة. والثاني: أنه عطفٌ على محل "من أوسط" كذا قاله الزمخشري وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على وجهٍ سَبَقَ لك في قوله "من أوسط" وهو أن يكونَ "من أوسط" خبارً لمتبدأ محذوفٍ يَدُلُّ عليه ما قبلَه، تقديرُه: طعامُهم من أوسط، فالكلامُ عنده تامٌ على قوله: {عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ثم ابتدأَ إخباراً آخرَ بأن الطعامَ يكونُ من أوسطِ كذا، وأمَّا إذا قلنا: إنَّ "مِنْ أوسط" هو المفعولُ الثاني فيستحيل عطف "كسوتهم" عليه لتخلفهما إعراباً.
وقرأ الجمهور: "كِسوتهم" بكسر الكاف. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب بضمها، وقد تقدم في البقرة أنهما لغتان في المصدر وفي الشيء المكسوِّ، قال الزمخشري: "كالقِدوة في القُدوة، والإسوةُ في الأُسوة، إلا أن قرأ في البقرة بضمِّها هو طلحة فلم يذكروه هنا، ولا ذكروا هؤلاء هناك.
(5/454)
---(1/2162)
وقرأ سعيد بن جبير وابن السَّمَيْفَع: "أو كأُسْوَتِهم" بكاف الجر الداخلة على "أُسْوة" قال الزمخشري: "بمعنى: أو مثلُ ما تطعمون أهليكم إرسرافاً كان أو تقتيراً، لا تُنْقصونهم عن مقدارِ نفقتهم، ولكن تواسُون بينهم. فإنء قتل: ما محلُّ الكاف؟ قلت: الرفعُ: تقديرُه: أو طعامُهم كاسوتِهم، بمعنى: كمثل طعامِهم إن لم يُطْعموهم الأوسطَ" انتهى. وكان قد تقدم أنه يَجْعل "من أوسط مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً عطفاً على "مِنْ أوسطِ" وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنه قال: "فالكافُ في موضعِ رفعٍ أي: أو مثلُ أسوةِ أهليكم" وقال الشيخ: "إنه في موضعِ نصبٍ عطفاً على محلِّ "مِنْ" أوسط"، لأنه عنده مفعولٌ ثان. إلاَّ انَّ هذه القراءة تنفي الكسوةَ من الكَفَّارة، وقد اجمع الناس على أنها إحدى الخصالِ الثلاث، لكن لصاحبِ هذه القراءةِ أن يقول: "استُقيدت الكسوةُ من السنَّة" أمَّا لو قام الإجماع على أن مستندَ الكسوة في الكفارة من الآية فإنه يَصِحُ الردُّ على هذا القارئ.
قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عطف على "إطعامُ" وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلامِ على "إطعامُ عشرة" من جواز تقديره بفعلٍ مبني للفاعل أو للفعول وما قيل في ذلك. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} كقوله في النساء: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} وقد تقدَّم ذلك مُحَرَّراً.
(5/455)
---(1/2163)
قوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} قال أبو البقاء: "منصوبٌ على الظرف وناصبُه "كفارة" أي: ذلك الإطعامُ، / أو ما عُطِف عليه يُكَفِّر عنكم حِنْثَ اليمينِ وقتَ حَلْفِكم" وقال الزمخشري: "وذلك المذكورُ كفارة، ولو قيل: "تلك كفارةُ" لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء، أو التأنيث للكفارة، والمعنى: "إذا حلفتم حَنِثْتُم فترك ذِكْرَ الحِنْثِ لوقوع العلم بأن الكفارة إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِف لا بنفس الحَلِف". ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشري وقد تقديرُ بالحَلِف لا بنفس الحَلِف". ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشري وهو تقديرُ الحِنْث، ولذلك عيب على أبي البقاء قوله: "العامل في "إذا" كفارةُ أَيْمانكم، لأن المعنى: ذلك يُكَفِّر أَيْمانكم وقت حَلْفكم" فقيل له: الكفارةُ ليست واقعةً في وقت الحَلْف فكيف يَعْمل في الظرف ما لا يقع فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ "إذا" ممتحِّضَةُ الظرفية، وليس فيها معنى الشرط، وهو غيرُ الغيب فيها، وقد يجوزُ أن تكونَ شرطاً، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريين يَدُلُّ عليه ما تقدَّم، أو هو نفسُ المتقدم عند أبي زيد والكوفيين، والتقدير: إذا حَلَفْتُم وحَنِثُتم فذلك كفارةُ إم أيْمانكم، كقولهم: "أنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلْتَ" والكافُ في قوله: {كَذالِكَ يُبَيِّنُ} نعت لمصدر محذوفٍ عند جماهير المُعْربين، أي: يبيِّن الله آياته تبييناً مثلَ ذلك التبيين، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصدرِ على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ.
(5/456)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 6 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(1/2164)
قوله تعالى: {رِجْسٌ}: خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدمة فيقال: "كيف أخبر عن بمفرد؟ فأجاب الزمخشري بأنه على حَذْف مضاف اي: إنما شأنُ الخمرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضميرِ في "فاجتنبوه" كما سيأتي، وكذا قَدَّره أبو البقاء فقال: "لأنَّ التقديرَ: إنما عَمَلْ هذه الأشياءِ" قال الشيخ بعد حكايتِه كلامَ الزمخشري: "ولا حاجة إلى هذا، بل الحكمُ على هذه الأربعةِ أنفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف كقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ "رجس" خبراً عن "الخمر" وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ لدلالةِ خبر الأولِ عليها". قلت: وعلى هذا فيجوزُ أن يكونَ خبارً عن الآخرِ وحُذِفَ خبرُ ما قبلَه لدلالةِ خبرِ ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قولِه تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما غيرَ مرةٍ.
والأنصابُ جمع "نَصَب"، وقد تقدم ذلك أول السورة والأزلام تقدمت أيضاً، والرِّجْسُ قال الراغب: "هو الشيء القَذِرُ، رجل رِجْس، ورجالٌ أَرْجاس" ثم قال: "وقيل: رِجْس ورِجْز للصوت الشديد، يقال: بعير رَجَّاس: شديد الهدير، وغمام راجِس ورجَّاس: شديد الرعد" وقال الزجاج: "وهو اسمُ لك ما استُقذر من عمل قبيح، يقال: رَجِس ورَجَس بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساُ إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصلح من الرِّجْس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد، قال:
1809- وكلُّ رَجَّاسٍ يسوقُ الرَّجْسا
(6/1)
---
وفَرَّق ابن دريد بين الرِّجْس والرِّجْز والرِّكْس، فجعل الرِّجْسَ: الشر، والرِّجْز: العذاب، والرِّكْس: العَذِرة والنَّتْن، ثم قال: "والرِّجْسُ يقال للاثنين"، فتحصَّل من هذا أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتن أو أنه في الأصل مصدرٌ.(1/2165)
وقوله: {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ "رجس" والهاء في "فاجتَنُبِوه" تعودُ على الرجس أي: فاجتنبوه الرجسَ الذي أخبر به عَمَّا تقدَّم من الخمر وما بعدها. وقال أبو البقاء: "إنها تعود على الفعل" يعني الذي قَدَّره مضافاً إلى الخمر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشري أيضاً، قال: "فإنْ قلت: إلامَ يَرْجِعُ الضمير في قوله: "فاجتبوه؟ قلت: إلى المضاف المحذوف، أو تعاطِيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وقد تقدَّم أن الأحسن أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرجس مبالغة.
* { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }
(6/2)
---
قوله تعالى: {لْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ}: فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه متعلق بـ "يوقع" اي: يُوقع بينكم هذين الشيئين في الخَمْر أي: بسبب شربها، و"في" تفيد السببية كقوله عليه السلام "إنَّ امرأةً دخلت النار في هِرَّةٍ" الثاني: أنها متعلقة بالبغضاء لأنه مصدر معرف بأل /. الثالث: أنه متعلقٌ بـ "العَداوة" وقال أبو البقاء: "ويجوز أن تتعلَّق "في" بالعداوة أو بـ "البغضاء" أي: أَنْ تتعادَوْا وأَنْ تباغضوا بسبب شربِ الخمر" وعلى هذا الذي ذكره تكونُ المسألةُ من باب التازع وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً وهو أَنَّ من حق المتنازعين أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعمل، وهذا العاملُ الأولُ وهو العداوة لو سُلِّط على المتنازع فيه لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو المعطوف، وقد يقال: إنه في بعضِ صورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجب إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّ هذا مشبعاً في البقرة.
(6/3)
---(1/2166)
قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر أي: انتهوا، ولذلك لَمَّا فهم عمر بن الخطاب الأمرية، قال: "انتهَيْنا يا رب انتهينا يا رب" ويدلُّ على ذلك أيضاً عطفُ الأمرِ الصريح عليه في قوله "وأطيعوا" كأنه قيل: انتهو عن شرب الخمر وعن كذا وأطيعوا، فمجيءُ هذه الجملة الاستفهاميةِ المصدَّرِة باسمٍ مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعل دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره أبلغُ من صريح الأمر. قال الزمخشري: "فإن قلت: لأنَّ الخطابَ مع المؤمنين، وإنما نهاهم عَمَّا كانوا يتعاطَوْنه من شرب الخمرِ واللعب بالميسر وذِكْرِ الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهارِ أنَّ ذلك جميعاً من أعمال أهل الجاهلية وأهلي الشرك" انتهى. ويظهرُ شيءٌ آخرُ وهو أنه لم يُفْرِدِ الخمرَ والميسرَ بالذكر آخراً، بل ذَكَر معهما شيئاً يلزُم منه عدمُ الأنصاب والأزلام فكأنه ذكر الجميع آخراً، بيانه أنه قال: "في الخمر والميسر ويَصُدُّكم عن ذكر الله" بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على حَسَب ما تقدم تفسيره أول السورة، و"عن الصلاة" باشتغالِكم بالأزلام، وقد تقدَّم تفسيرها أيضاً، فَذِكْرُ الله والصلاة مُنَبِّهان على الأنصاب والأزلام، وهذا وجه حسن.
* { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوااْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَواْ}: ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَم من الجملة السابقة وهي: "ليس" وما في حَيِّزها، والتقدير: لا يَأْثمون ولا يُؤاخَذُون وقت اتِّقائهم، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً محضاً، وأن يكونَ فيه معنى الشرط، وجوابه محذوف أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ.
(6/4)
---(1/2167)
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ}: جوابُ قسم محذوف أي: واللَّهِ ليبلونكم، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونين في مثلِ هذا الجواب. قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ بـ "ليبلونَّكم" أي: ليختبرنَّكم بشيءٍ. وقوله: {مِّنَ الصَّيْدِ}: في محلِّ جرٍّ صفةً لـ "شيء" فيتعلَّقُ بمحذوف، و"من" الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ولا صيد الحِلّ ولا صيد البحر. وقل: إنها لبيان الجنس. وقال مكي: "وقيل "من" لبيان الجنس، فلما قال "بشيء" لم يُعْلَم من أيِّ جنسٍ هو فبيَّن فقال: "من الصيدِ" كما تقولُ: و"لأَعطينَّك شيئاً من الذهبِ" وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ثم قال: "وقيل: إنها للتبعيضِ". وكونُها للبيان فيه نظرٌ، لأنَّ الصحيحَ أنها لا تكونُ للبيان، والقائلُ بأنها للبيانِ يُشْترط أن يكونَ المُبَيَّنُ بها معرفاً بأل الجنسية كقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} وبه قال ابنُ عطية أيضاً، والزجاج هو الأصل في ذلك فإنه قال: "وهذا كما تقولُ: "لامتحِنَتَّك بشيءٍ من الرِّزْقِ" وكما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ
(6/5)
---(1/2168)
}. قوله: {تَنَالُهُ} في محلِّ جر لأنه صفةٌ ثانيةٌ لـ "شيء"، وأجاز أبوالبقاء أن يكونَ حالاً: إمَّا من الصيد، وإمَّا من "شيء" وإن كان نكرة لأنه قد وُصِفَ فتخصَّص، واستبعدَ الشيخُ جَعْلَه حالاً من الصيد، ووجهُ الاستبعادِ أنه ليس المقصودَ بالحديث عنه. وقرأ الجمهور: {تناله} بالمنقوطةِ فوقُ لتأنيثِ الجمعِ، وابن وثاب والنخعي / بالمنقوطةِ من تحتُ لأنَّ تأنيثَه غيرُ حقيقي. وقوله: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ} للناس فيه قولان، أحدُهم: أنَّ هذا من بابِ التوكيد، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك، وهذا كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} حتى إنَّ الشيخ جمالَ الدين بن مالك يَجْعَلُ هذا من التوكيدِ اللفظي المبوبِ له في النحو: والثاني: أنه ليس للتأكيد بل للتأسيس، إلا أنَّه جَعَل التغايرَ حاصلاً بتقديرِ المتعقاتش، فمنها أنَّ التقدير: اتَّقَوا الشرك وآمنوا إيماناً كاملاً ثم اقتوا وآمَنوا أي: ثم ثَبَتُوا على التقوى والإيمان المتقدمين، واستمروا على هذه الحال ثم اتقوا ثم تناهَوْا في التقوى وتوغلوا فيها، وأحسنوا للناسِ وواسوْهم بأموالِهم، وإليه نحا أبو القاس الزمخشري بعبارةٍ قريبةٍ من هذا المعنى.
(6/6)
---(1/2169)
قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} اللامُ متعلقةٌ بـ "لَيبلونَّكم" والمعنى: ليتميَّزَ أو ليظهرَ لكم، وقد مضى تحقيقُهُ في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضُهم: "لِيُعْلِم" بضم الياء وكسرا للام من أعلم، والمفعول الأول على هذه القراءة محذوفٌ أي: لِيُعْلِم اللَّهُ عبادَه، والمفعول الثاني هو قوله: {مَن يَخَافُهُ} فـ "أَعْلَمَ" منقولةٌ بهمزة التعدية من "علم" المتعدية لواحد بمعنى "عَرَف" قوله: {بِالْغَيْبِ} في محل نصب على الحال من فاعلِ "يَخافُه" أي: يخافُه ملتبساً بالغيبِ، وقد تقدم معناه في البقرة. وجَوَّز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرته، والثاني: أنه حالٌ من "مَنْ" في "من يخافه"، والثالث: أنَّ الباءَ بمعنى "في" والغيب مصدرٌ واقعٌ موقعَ غائبٍ أي: يخافه في المكان الغائب عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلقاً بنفس الفعل قبله، وعلى الأَوَّلَيْن يكونُ متعلقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف.
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
(6/7)
---(1/2170)
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: في محل نصب على الحال من فاعل "تقتلوا"، و"حُرُمٌ" جمع حَرام، وحَرام يكون للمُحْرِم وإنْ كان في الحِلِّ ولِمَنْ في الحَرَم وإنْ كان حلالاً، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد، وقد تقدم الكلامُ على هذه اللفظة. قوله: {منكم} في محلِّ نصب على الحال من فاعل "قَتَله" أي: كائناً منكم. وقيل: "مِنْ" للبيان وليس بشيء، لأنَّ كلَّ مَنْ قَتَل صيداً حكمُه كذلك. فإن قلت: هذا واردٌ أيضاً على جَعْلِه حالاً. قلتُ: لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ حتى إنه لو قتلَه غيرُكم لم يكن عليه جزاءٌ، لأنه قصد بالخطابِ معنىً آخرَ وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد.
قوله: {مُّتَعَمِّداً} حالٌ أيضاً من فاعل "قَتَلَه" فعلى رَأْي مَنْ يجوِّزُ تعدُّدَ الحال يُجيز ذلك هنا، ومَنْ مَنَعَ يقول: إنَّ "منكم" للبيانِ حتى لا تتعدَّد الحالُ، و"مَنْ" يُجَوِّزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهِها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع. قوله: "فجزاء" الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ لشبه المبتدأ بالشرط، فعل الأول الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ، وما بعد "مَنْ" على الأولِ في محلِّ جزمٍ لكونِه شرطاً، وعلى اثاين لا محلَّ له لكونه صلةً. وقرأ أهلُ الكوفة: "فجزاءٌ مثلُ" بتنوين جزاء ورفعه ورفع "مثل"، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى "مثل"، ومحمد بن مقاتل بتنوين "جزاءً" ونصبِه ونصب "مثلَ" والسُلمي برفع "جزاء" منوناً ونصبِ "مثل"، وقرأ عبد الله: {فجزاؤُه} برفع "جزاء" مضافاً لضمير "مثل" رفعاً.
(6/8)
---(1/2171)
فأمَّا قراءةُ الكوفيين فلأنَّ "مثل" صفةٌ لـ "جزاء" أي: فعليه جزاءٌ موصوفٌ بكونه "مثل ما قتله" أي مماثِلَه. وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أَنْ يرتفع "مثل" على البدلِ، وذكر الزجاج وجهاً غريباً وهو أن يرتفعَ "مثل" على أنه خبرٌ لـ "جزاء" ويكونُ "جزاء" مبتداً قال: "والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مثلُ ما قتل" قلت: ويؤيد هذا الوجهَ / قراءةُ عبد الله: "فجزاؤُه مثلُ" إلا أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوفُ ضميراً يعودُ على المقتول لا أَنْ يُقَدِّره: "فجزاءُ ذلك الفعل" و"مثل" بمعنى مماثل قاله جماعةٌ: الزمخشري وغيره، وهو معنى اللفظِ، فإنِّها في قوةِ اسم فاعل، إلاَّ أنَّ مكّياً تَوَهَّم أنَّ "مِثْلاً" قد يكون بمعنى غير مماثل فإنه قال: "ومثل" في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُماثِل، والتقديرُ: فجزاءٌ مماثلٌ لِما قَتَل يعين في القيمةِ أو في الخِلْقة على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه لصار المعنى: فعليه جزاءٌ مثلُ المقتولِ من الصيد، وإنما يلزمه جزاء المقتول بعينه لا جزاءٌ مثلُه، لأنه إذا وَدَى جزاءً مثلَ المقتول صار إنما وَدَى جزاءَ ما لم يُقْتَل؛ لأنَّ مثلَ المقتول لم يَقْتُلْه، فصَحَّ أن المعنى: فعليه جزاءٌ مماثِلٌ للمقتول، ولذلك بَعُدَتِ القراءةُ بالإضافة عند جماعة. قلت: "مثل" بمعنى مُماثِل أبداً فكيف يقول "ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه"؟ وأيضاً فقوله: "لصار المعنى إلى آخره" هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءةِ أصلاً، وإنما ذَكَره الناسُ في قراءةِ الإضافة كما سيأتي، وكأنه نَقَل هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافة إلى قراءة التنوين.
(6/9)
---(1/2172)
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فاستبعَدها جماعةٌ، قال الواحدي: "ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المِثْلِ لأنَّ عليه جزاءَ المنقولِ لا جزاءَ مثله فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه" وقال مكي بعد ما قَدَّمْتُه عنه: "ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيد المقتول" قلت: ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ فإنَّ أكثرَ القراء عليها. وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ سديدةٍ، لَمَّا خفيت على أولئك طَعَنوا في المتواتر، منها: أنَّ "جزاء" مصدرٌ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً، والأصل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل، أي: أن يَجزي مثلَ ما قتل، ثم أُضيف، كما تقول: "عجبت من ضربٍ زيداً" ثم "من ضرب زيدٍ" ذَكَر الزمخشري وغيره، وبَسْطُ ذلك أنَّ الجزاءَ هنا يمعنى القضاء والأصل: فعليه أن يُجْزي المقتولُ من الصيد مثلَه من النعم، ثم حُذِف المفعولُ الأول لدلالة الكلامِ عليه وأُضيف المصدرُ إلى ثانيهما، كقولك: "زيدٌ فقيرٌ ويعجبني إعطاؤك الدرهمَ" أي: إعطاؤك إياه. ومنها: أنَّ "مثل" مقحمةٌ كقولهم: "مِثْلُك لا يفعل ذلك" أي: أنت لا تفعل ذلك، ونحو قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} أي: بما آمنتم [به] وكقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فـ "مثل" زائدةٌ، وهذا خلاف الأصلِ، فالجوابُ ما قَدَّمْتُه. و"ما" يجوزُ أْن تكونَ موصولةً اسمية أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ محذوفٌ على كِلا التقديرين أي: مثلُ ما قتله من النعم.
(6/10)
---(1/2173)
فَمَنْ رفع "جزاء" فيه أربعة أوجه، أحدُها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه جزاء. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه: فالجوابُ جزاءُ: والثالث: أنه فاعلٌ بفعل محذوف أي: فيلزَمُه أو يَجِبُ عليه جزاءٌ. الرابع: أنه مبتدأ وخبره "مثل"، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسحاق الزجاج، وتقدم أيضاً رفع "مثل" في قراءة الكوفيين على أحدِ ثلاثةِ أوجه: النعتِ والبدلِ والخبرِ حيث قلنا: "جزاء" مبتدأٌ عند الزجاج.
وأمَّا قراءةُ {فجزاؤه مثلُ} فظاهرةٌ أيضاً. وأمَّا قراءة "فجزاءٌ مثل" برفع "جزاء" وتنوينه ونصب "مثل" فعلى إعمال المصدر المنون في مفعولِه، وقد تقدَّم أنَّ قراءةَ الإضافةِ منه، وهو نظيرُ قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وفاعلُه محذوف أي: فجزاءُ أحدِكم أو القاتل، أي: أن يُجْزي القاتلُ للصيد. وأما قراءة: "فجزاءً مثلَ" بنصبهما فجزاءً منصوب على المصدر أو على المفعول به، "ومثلَ" صفتُه بالاعتبارين، والتقدير: فليَجْزِ جزاءً مثلَ، أو: فليُخْرِجْ جزاءً، أو فليُغَرَّم جزاءً مثلَ.
(6/11)
---(1/2174)
قوله: {مِنَ النَّعَمِ} فيه ثلاثةُ وجه، أحدُها: أنه صفةلإ لـ "جزاء" مطلقاً، أي: سواءً رُفِع أم نُصِبَ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاء يكونُ من جنسِ النَّعم، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ. الثاني: أنه متعلق بنفسِ "جزاء" لأنه مصدرٌ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة مَنْ أضاف "جزاء" إلى "مثل" فإنه لا يلزَمُ منه محذورٌ، بخلافِ ما إذا نَوَّنْته وجعلتَ "مثلَ" صفتَه أو بدلاً منه أو خبراً له فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ، لأنَّك إنْ جَعَلْتَه موصوفاً بـ "مثل" كان ذلك ممنوعاً من وجهين، أحدُهما: أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ وهذا قد وُصِفَ. الثاني: أنه مصدر فهو بمنزلةِ الموصولِ والمعمولُ من تمامِ صلتِه، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبي. وإنْ جَعَلْتَه بدلاً لَزِمَ أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته، وإنْ جَعَلْتَه خبراً لزم الإخبار عن الموصولِ قبلَ تمام صلته، وذلك كلُّه لا يجوزُ. الثالث: ذكره أبو البقاء وهو أَنْ يكونَ حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ فإنَّ التقديرك فجزاءً مثلَ الذي قتله حالَ كونه من النِّعم، وهذا وهمٌ لأنه الموصوف بكونه من النِّعم إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ، وأمَّا الصيدُ نفسُه فلا يكونُ من النعم، والجمهورُ على فتح عين "النَّعَم"، وقرأ الحسن بسكونها، فقال ابنُ عطية: {هي لغة} وقال الزمخشري: "استثقلَ الحركةَ على حرفِ الحلق كما قالوا: "والشَّعْر" في "الشَّعَر".
(6/12)
---(1/2175)
قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا} في موضعِ رفعٍ صفةً لـ "جزاء" أو في موضع نصبٍ على الحال منه أو على النعتِ لـ "جزاء" فيمَنْ نَصَبه، وخَصَّصَ أبو البقاء كونَه صفةً بقراءةِ تنوين "جزاء" والحالَ بقراءةِ إضافته، ولا فرقَ، بل يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه إذا أُضيف إلى "مثل" فهو باقٍ على تنكيره لأنَّ "مِثْلاً" لا يتعرَّفُ بالإضافة، وكذا خصَّص مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى "مِثْل" فإنه قال: "ومِن النَّعم في قراءةِ مَنْ أضاف الجزاء إلى "مِثْل" صفةً لجزاء، ويَحْسُنُ أَنْ تتعلَّق [من] بالمصدر فلا تكونُ صفةً، وإنما المصدرُ مُعَدَّى إلى "من النعم"، وإذا جَعَلْتَه صفةً فـ "مِنْ" متعلقةٌ بالخبرِ المحذوف وهو "فعلية" وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهين، أحدُهما: قد تقدَّم وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة. والثاني: أنه حيث جَعَلَ "من النِّعم" صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لما تضمَّنه من الاستقرار، وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ إذا وَقَع صفةً تعلَّق بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقة، وهذا الذي جَعَلَه متعلِّقاً لهذه الصفة ليس صفةً للموصوف في الحقيقة بل هو خبرٌ عنه، ألا ترى أنك لو قلت: "عندي رجلٌ من بني تميم" أنَّ "مِنْ بين" متعلِّق بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة لا بقولك "عندي" ويمكن أَنْ يقال: - وهو بعيدٌ جداً - إنه أراد التعلُّقَ المعنوي، وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفتهِ، و"عليه" عاملٌ في "جزاء" فهو عاملٌ في صفتِه، فالتعلقُ من هذه الحيثيةِ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جَعَلْنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ، أو قلنا: إنَّ الجارَّ يرفع الفاعل ولم لم يعتمدْ، وإنما أذكرُ هذه التوجيهاتِ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُغْلى قولُهم بالكلية.
(6/13)
---(1/2176)
والألفُ في "ذوا" علامةٌ الرفعِ مثَّنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ هذه اللفظة وتصاريفها وقرأ الجمهورُ: {ذَوا} بالألف، وقرأ محمد بن جعفرٍ الصادقٍ /: "ذو" بلفظِ الإفراد قالوا: "ولا يريدُ بذلك الوحدةَ بل يريدُ: يحكم به مَنْ هو مِنْ أهل العدل. وقال الزمخشري: "وقيل: أرادَ الإمام" فعلى هذا تكونُ الوِحْدَةُ مقصودةً. و"منكم" في محلِّ رفعٍ صفةً لـ "ذوا" أي إنهما يكونان من جنسكم في الدين، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً لـ "عَدْل" لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء، يعني أن المصدرَ ليس مِنْ جنسِهم فكيف يُوصف بكونه منهم؟
(6/14)
---(1/2177)
قوله: {هَدْياً} فيه ستةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الضمير في "به" قال الزجاج: "وهو منصوب على الحالِ، المعنى: يحكم به مقدراً أن يُهْدَى" يعني أنه حال مقدرةٌ ولا مقارنةٌ، وكذا قال الفارسي كقولك: "معه صقرٌ صائداً به غداً" أي مُقَدِّراً الصيدَ. الثاني: أنه حالٌ من "جزاء" سواءً قُرئ مرفوعاً أم منصوباً، منوناً أم مضافاً. وقال الزمخشري" "هَدْياً" حالٌ من "جزاء" فيمَنْ وصَفَه بمثل، لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه فَقَرُبَ من المعرفة، وكذا خَصَّصه الشيخ، وهذا غير واضح، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً كما تقدَّم. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِأي: يُهديه هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء الرابع: أنه منصوبٌ على التمييز في المعنى، وكأنهما ظَنَّاً أنه تمييزٌ لِما أُبْهِم في المِثْلية، إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييز غيرَها. وفيه نطرٌ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يرفع الإبهامَ عن الذوات لا عن الصفاتِ، وهذا كما رايتَ إما رفع إبهاماً عن صفة، لأن الهدى صفةٌ لأن الهدى صفةٌ في المعنى إذ المرادُ به مُهْدَى. الخامس: أنه منصوبٌ على محلِّ "مثل" فيمَنْ خَفَضَه، لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً كما تقدَّم تحريرُه. السادس: أنه بدلٌ من "جزاء" فيمَنْ نصبَه. و"بالغ الكعبة" صفةٌ لـ "هَدْيا" ولم يتعرَّفْ بالإضافة لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً، ومثلُه، {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} وقولُ الآخر:
1810- يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ * لاقَى مباعَدةً منكم وحِرْمانا
في أنَّ الإضافةَ فيها غيرُ مَحْضةٍ. وقرأ الأعرج: "هَدِيَّاً" بكسر الدال وتشديد الياء.
(6/15)
---(1/2178)
قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطفٌ على قوله: {فَجَزَآءٌ} و"أو" هنا للتخيير، ونُقِل عن ابن عباس أنها ليستْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع "فجزاءٌ" وأمَّا مَنْ نَصَبَه فقال الزمخشري "جَعَلَها خبرَ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: أو الواجبُ عليه كفارةٌ، ويجوزُ أَنْ تُقَدِّر: فعليه ان يَجْزي جزاءً أو كفارةً، فتَعْطِفَ "كفارة" على "أَنْ يَجْزي" يعين أنَّ "عليه" يكونُ خبراً مقدماً، وأَنْ يَجْزي" مبتداً مؤخراً، فَعَطَفْتَ "الكفارة" على هذا المبتدأ. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة {كفارة} لِما بعدها، والباقون بتنوينِها ورفعِ ما بعدهاز فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ، ورفعُ "طعام" على أحد ثلاثة أوجه، أحدها: أنه بدل من "كفارة" إذ هي من جنسِه. الثاني: أنه بيانٌ لها كما تقدَّم، قاله الفارسي وردَّه الشيخ بأنَّ مذهبَ البصريين أختصاصُ عطفِ البيان بالمعارفِ دونَ النكراتِ. قلت: أبو علي يُخالِفُ في ذلك ويستدل بأدلة، منها: {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} فـ "زيتونةٍ" عنده عطف بيان لـ "شجرة"، وكذا قولُه تعالى: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} فـ "صديد" عنده بدلٌ من "ماء" والبدلُ فيها محتملٌ فلا حُجَّةَ له، والبدلُ قد يجيء للبيان. الثالث: أنه خبر مبتداً محذوف. أي: هي طعام أي: تلك الكفارة. وأمَّا قراءة نافع وابن عامر فوجهُها أنّ الكفارة لَمَّا تنوَّعت إلى تكفير بالطعام وتكفير بالجزاء المماثل وتكفير بالصيام حَسُن إضافتها لأحدِ أنواعها تبييناً لذلك، والإضافةُ تكون بأدنى ملابسه كقوله:
1811- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ * سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في القَرائبِ
(6/16)
---(1/2179)
أضاف الكوكبَ إليها لقيامها عند طلوعه فهذا أَوْلَى. ووجَّهَها الزمخشري فقال: "وهذه الإضافة مبيِّنة، كأنه قيل: أو كفارةٌ مِنْ طعام مساكين، كقولك: "خاتمُ فضةٍ" بمعنى مِنْ فضة". قال الشيخ: "أمَّا ما زعمه فليس من هذا الباب لأنَّ "خاتم فضة" من باب إضافةِ الشيء إلى جنسه والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ إلا بتجوُّزٍ بعيداً جداً" انتهى. قلت: كان مِنْ حَقِّه أَنْ يقولَ: والكفارةُ ليست جنساً للطعام لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ "خاتم" في أنَّ كلاً منهما هو المضافُ إلى ما بعده، فكما أن"خاتماً" هو الضافُ إلى جنسه ينبغي أَنْ يُقال: الكفارةُ ليست جنساً للطعام لأجل المقابلةِ، لكن لا يمكنُ أَنْ يُقال ذلك فإنَّ الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ والجزاءِ والصوم، فالطريقُ في الردِ على أبي القاسم أن يُقال: شرطُ الإضافة بمعى "مِنْ" أن يُضاف جزءٌ إلى كل بشرطٍ صِدْقٍ اسمِ الكل على الجزءِ نحو: "خاتمُ فضة" و"كفارة طعامٍ" ليس كذلك، بل هي إضافة "كل" إلى جزء. وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة من حيث إنَّ الكفارةَ ليست للطعام إنما هي لقتلِ الصيد، كذا قاله أبو علي الفارسي وغيره، وجوابُه ما تقدَّم. ولم يخلتفِ السبعةُ في جمع "مساكين" هنا وإن اختلفوا في البقرة، قالوا: والفرقُ بينهما أنَّ قَتْل الصيد لا يُجْزيء فيه إطعامُ مسكينٍ واحد. على أنه قد قرأ عيسى بن عمر والأعرج بتنوين "كفارة" ورفع "طعام مسكين" بالتوحيد، قالوا: ومرادُهما بيانُ الجنسِ لا التوحيدُ.
(6/17)
---(1/2180)
قوله: {أَو عَدْلُ} نسقٌ على "فجزاء" والجمهورُ على فتحِ العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرِها، وقد بَيَّنْتُ معناهما في أولَ هذا التصينف عند قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} و"ذلك" إشارةٌ إلى الطعام، وكيفيتُه مذكورة في " التفسير الكبير". و"صياماً" نصبٌ على التمييز لأنَّ المعنى: أو قَدْرُ ذلك صياماً فهو كقولك: "لي مِلْؤُه عسلاً" وأصلُ "صِياماً": "صِواماً" فَأُعِلَّ لِما عُرِف غيرَ مرة.
قوله: {لِّيَذُوقَ} فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بـ "جزاء" قاله الزمشخري، قال الشيخ: "إما يتأتَّى ذلك حيث يضاف إلى "مثل" أو يُنَوِّن "جزاء" ويُنْصًبُ "مثل" وعَلَّل ذلك بأنه إذا رفع مثلاً كان صفةً للمصدر، وإذا وُصِف المصردُ لم يعمل إلا أن يتقدم المعمول على وصفه نحو: :يعجبني الضربُ زيداً الشديدُ" فيجوز. قلت: وكذا لو جَعَلَه بدلاً أيضاً أو خبارً لِما تقدم من أنه يلزمُ أن يُتَبع الموصول أو يخبرَ عنه قبل تمامِ صلتِه وهو ممنوعٌ، وقد أَفْهَمَ كلامُ الشيخ بصريحه أنه على قراءة إضافة الجزاء إلى "مثل" يجوزُ ما قاله أبو القاسم، وأنا أقول: لا يجوزُ ذلك أيضاً لأنَّ "ليذوقَ" من تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِف عليه قولُه "أو كفارةٌ أو عَدْلٌ" فيلزمُ أَنْ يُعْطَفَ على الموصول قبل تمام صلته، وذلك لا يجوزُ لو قلت: "جاء الذي ضَرَبَ وعمروٌ زيداً" لم يَجُزْ للفصل بين الصلة - أو أبعاضِها - والموصولِ بأجنبي، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ حسن.
(6/18)
---(1/2181)
الثاني: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ كأنه قيل: جُوزي بذلك ليذوقَ. الثالث: أنه متعلقٌ بالاستقرار المقدَّرِ قبل قوله: {فجزاء} إذ التقديرُ فعليه جزاءٌ ليذوقَ. الرابع: أنه متعلق بـ "صيام" أي: صومُه ليذوقَ الخامس: أنه متعلِّقٌ بـ "طعام" أي: طعام ليذوقَ، ذكره هذه الأوجهَ الثلاثة أبو البقاء وهي ضعيفةٌ جداً، وأجودُها الأولُ. السادسُ: أنها تتعلَّقُ بـ "عَدْل ذلك" نَقَله الشيخ عن بعضِ المُعْربين قال: - وهو كما قال- "غلطٌ".
والوَبالُ: سوءُ العاقبة وما يثخاف ضررُه، قال الراغب: "والوابل" المطرُ الثقيلُ القطر، ولمراعات الثِّقَلِ قيل للأمر الذي يُخاف ضررُه: وبال، قال تعالى : {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} ويقال: "طعامٌ وَبيلٌ" و"كلأ وبيل" يُخاف وبالُه، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} وقال غيره: "والوبالُ في اللغةِ ثِقَلُ الشيء في المكروه، يقال: "مرعىً وبيل" إذا كان / يُسْتَوْخَمُ، و"ماء وبيلٌ" إذا كان لا يُسْتَمْرأ، واستوَبَلْتُ الأرضَ: كرهتُها خوفاً من وبالِها، والذوقُ هنا استعارةٌ بليغة.
قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ} "مَنْ" يجوز أن تكونَ شرطيةً، فالفاءُ جوابُها، و"ينتقمُ" خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو ينتقمُ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ البتة، ويجوز أن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في خبر المتبدأ لَمَّا اشبه الشرط، فالفاءُ زائدةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ، ولا حاجة إلى إضمار مبتدأ بعد الفاءِ بخلافِ ما تقدَّم. قال أبو البقاء: "حَسَّن دخولَ الفاءِ كونُ فعلِ الشرط ماضياً لفظاً".
* { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
(6/19)
---(1/2182)
قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ}: نسقٌ على "صيد" أي: أُحِلَّ لكم الصيدُ وطعامهُ، فالصيدُ الاصطيادُ، والطعامُ الإطعام أي: إنه اسم مصدر، ويُقَّدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً أي: إطعامُكم إياه أنفسَكم، ويجوز أن يكون الصيدُ بمعى المصيد. والهاءُ في "طعامُه" تعودُ على البحر على هذا أي: أُحِلَّ لكم مصيدُ البحر وطعامُ البحر، فالطعام على هذا غير الصيد، وفيه خلافُ بين أهل التفسير ذكرْتُه في موضعه، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجهِ أيضاً على الصيد بمعنى المصيد، ويجوز أن يكونَ "طعام" بمعنى مَطْعوم، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن عباس وعبد الله بن الحرث: "وطَعْمُه" بضم الميم وسكون العين.
(6/20)
---(1/2183)
قوله: {مَتَاعاً} في نصبه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدر وإليه ذهب مكي وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم، والتقدير: مَتَّعكم به متاعاً تنتفعون وتَأْتَدِون به، وقال مكي: "لأنَّ قولَه" "أُحِلَّ لكم" بمعنى أَمْتَعْتُكم به إمتاعاً، كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمشخري: "أي: أحلَّ لكم تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} في باب الحالِ، لأنَّ قوله {مَتَاعاً لَّكُمْ} مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام كما أنَّ "نافةً" حالٌ مختص بيعقوب، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تميماً لتنائكم تأكلونَه طريَّا ولسيَّارتكم يتزودونه قَديداً" انتهى. فقد خصَّص الزمخشري كونه مفعولاً له بكون الفعلِ وهو "أُحِلَّ مسنداً لقوله: {وَطَعَامُهُ} وليس علة لحِلِّ الصيد، وإنما علةٌ لحِلِّ الطعام فقط، وإنما حَمَله على ذلك مذهبُه - وهو مذهبُ أبي حنيفة - من أنَّ صيدَ البحرِ منقسمٌ إٍلى ما يُؤْكل وإلى ما لا يؤكل، وأنَّ طعامَه هو المأكولُ منه، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا المأكول منه طرياً وقديداً، وقوله "نافلةً" يعين أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ بيعقوب لأنه وَلَدٍ بخلاف إسحاق فإنه ولدُه لصلبه، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد الولد دونَ الولد، فكذا "متاعاً" إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفين يكونُ في إسناده إلى أحدهما معللاً وإلى الآخر ليس كذلك، فإذا قلت: "قام زيد وعمرو إجلالاً لك" فيجوز أن يكونَ "قيام زيد" هو المختصَّ بالإجلال أو بالعكس، وهذا فيه إلباسٌ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الاية الكريمة فثَمَّ قرينةٌ أَوجَبَتْ صَرْفَ الحالِ إلى أحدِهما بخلافِ ما نحن فيه من الآية الكريمة، وأمَّا غيرُ مذهبه فإنه يكونُ مفعولاً له غيرَ مختصٍّ بأحدِ المتعاطفين وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ. و"لكم" إنْ قلنا "متاعاً" مصدرٌ(1/2184)
(6/21)
---
فيجوز أن يكونَ صفةً له، ويكونُ مصدراً مبيناً لكونه وُصِف، إن قلنا إنه مفعولٌ له فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ، أي: أعني لكم نحو: "قمتُ إجلالاً لك"، ويجوز أن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدية المصدر، إذ التقديرُ: لأنْ أمتِّعَكم، ولأنْ أُجِلَّك، وهكذا ما جاء من نظائره.
قوله: {مَا دُمْتُمْ} "ما" مصدريةٌ"، و"دمتم" صلتُها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين. والجمهور على ضمِّ دال "دمتم" من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى: {دِمتم} بكسرها من لغة مَنْ يقول: دام يدام كخاف يخاف، وهما لكالغتين في مات يموتُ ويَمات، وقد تقدَّم والجمهورُ على "وحُرِّم" مبيناً للمفعول، "صيدُ" رفعاً على قيامه مَقامَ الفاعل، وقرئ: "وحَرَّم" مبنياً" للفاعل، "صيدَ" نصباً على المفعول به. والجمهور أيضاً على "حُرُماً" بضم الحاء والراء جمعُ "حَرام" بمعنى مُحْرشم" كـ "قَذال" و"قُذُل". وقرأ بان عباس {حَرَماً} بفتحهما، أي: ذوي حَرَم أي إحرام، وقيل: جَعَلهم بمنزلة المكان الممنوع منه، والأحسنُ أن يكون من باب "رجل عدل" جعلهم نفسَ المصدر فإنَّ "حَرَما" بمعنى إحرام، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد. والبَرُّ معروفٌ، قال اليث: "ويستعمل نكرة يقال: جلست بَرَّا وخرجْتُ براً" قال الأزهري: "وهو من كلام المولِّدين" وفيه نظر لقول سلمان الفارسي: "إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيَّا وبَرَّانياً" أي باطنٌ وظاهرٌ، وهو من تغيير النسب، وقد تقدم استيفاء هذه المادة في البقرة. وقَدَّم "إليه" على تُحْشرون" للاختصاص أي: تُحشرون إليه لا إلى غيره، أو لتناسُبِ رؤوس الآي.(1/2185)
* { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(6/22)
---
قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ}: فيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، أولهما "الكعبة" والثاني "قياماً" والثاني: أن تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد، وهو "الكعبة" و"قياماً" نصبٌ على الحال. وقال بعضهم: إنَّ "جعل" هنا بمعنى "بَيَّن" و"حَكَم"، وهذا ينبغي أن يُحْمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية أنها تكونُ بمعنى بَيَّن ولا حَكَم، ولكن يلزم من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا "البيتَ" فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك أن بعض الجاهلية - وهم خثعم- سَمَّوْا بيتاً الكعبةَ اليمانية فجيء بهذا البدلِ أو البيانِ تبييناً له من غيره. وقال الزمخشري: "البيتَ الحرامَ" عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك" واعترض عليه الشيخ بأن شرطَ البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعر بمدح، وإنما يُشْعر به المشتقٌّ، ثم قال: "إلا أَنْ يريدَ أنه لَمَّا وُصِف البيت الحرام اقتضى المجموعُ ذلك فيمكنُ".
والكعبة لغةً: كلُّ بيت مربع، وسُمِّيَتء الكعبةُ كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب: "كَعْبُ الرجل" [العظم] الذي عند مُلْتقى الساق والقدم، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع، وبها سُمِّيَتِ الكعبة، وذُو الكَعَبات: بيتٌ كان في الجاهلية لنبي ربيعة، وامرأة كاعِب: تكعَّب ثدياها" وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة.
(6/23)
---(1/2186)
والجمهور قرؤوا هنا: "قياماً" بألفٍ بعد الياء، وابن عامر: "قِيَماً" دون ألف بزنة "عِنَب"، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً لـ "قام - يقوم" والمعنى: أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها، أي: لزيارتِها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم، فيها يَقُومون، ويجوزُ أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها، كذا قالَ الواحدي، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإعلاله إذ هو كـ "السِّواك" فينبغي أن يقال: إن القِيام والقِوام بمعنى واحد، قال:
1812- قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ
فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ الياءُ نحو: "القيامة" وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً على فِعَل، وإما أن يكونَ على فِعال، فإنْ كان الأول فينبغي أن تصِحُّ الواو كـ "حِوَل" و"عَوَر" وإن كان الثاني فالقصر لا يأتي إلا في شعر. وقرأ الجحدري: "قَيِّماً" بتشديد الياء وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أول النساء.
قوله: {لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ} عطف على "الكعبة"، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ لفهم المعنى أي: جَعَلَ الله أيضاً الشهرَ والهَدْيَ والقلائدَ قياماً. و"ذلك" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره. الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها لتعلُّقِ لام العلة به. و"تعلموا" منصوبٌ بإضمار "أَنْ" بعد لام كي، لا بها. و"أَنَّ الله" وما في حَيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو أحدهما على حَسَبِ الخلاف المتقدم. و{وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نسقٌ على "أنَّ" قبلها.
* { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }(1/2187)
(6/24)
---
وقوله تعالى: {إِلاَّ الْبَلاَغُ}: في رفعه وجهان، أحدهما: أنه فاعل بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، أي: ما استقرَّ على الرسول إلا البلاغ. والثاني أنه مبتدأ، وخبرُه الجارُّ قبله وعلى التقديرين فالاستثناء مفرَّغٌ.
* { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ}: جوابُها محذوف أي: ولو أُعجَبك كثرة الخبيثِ لَما استوى مع الطيب، أو: لَما أجدى شيئاً في المساواة. والبلاغُ يُحتمل أن يكون مصدراً لـ "بَلَّغ" مشدداً أي: ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذف الزوائد، كـ "نبات" بعد "أنبت" ويحتمل أن يكونَ مصدراً لـ "بَلَغ" مخففاً بمعنى البلوغ، ويكون المعنى: ما عليه إلا البلوغُ تبليغه، فالبلوغُ مستلزمٌ فعبَّر باللازم عن الملزومِ.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
(6/25)
---(1/2188)
قوله تعالى: {عَنْ أَشْيَآءَ}: متعلق بـ "تَسْألوا" واختلف النحويون في "اشياء" على خمسة مذاهب، أحدها - وهو رَأْي الخليل وسيبويه وامازني وجمهور البصريين-: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ "شيء" فيه مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنى، كطَرْفاء وقَصْباء وأصلُها: شَيْئاء بهمزتين بينهم ألف ووزنها فَعْلاء كـ "طَرْفاء" فاستثقلوا اجتماعَ همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سَبَقها حرفُ علة وهي الياءُ، وكَثُر دَوْر هذه اللفظةِ في لسانهم فَقَلبوا الكلمةَ بأَنْ قَدَّموا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها وهي الشين فقالوا أَشْياء فصارَ وزنُها لَفْعاء، ومُنِعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة. ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزْم منه شيءٌ غيرُ القلب، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ كالجاه والحادي والقِسِيّ وناءَ وآدُرٌ وآرام وضِئاء في قراءة قنبل وأَيِس. والأصل: وجه وواحد وقُووس ونَأَى وأَدْوُرُ وأَرْآم وضياء ويَئِس. واعترض بعضُهم على هذا بأن القلب على خلاف الأصل، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قَدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مطَّرد، وأما الشادٌّ القليل فنحو قولهم: "رَعَمْلي" في "لَعَمْري" و"شَواعي" في "شوايع" قال:
1813- وكان أَوْلاها كِعابُ مُقامِرٍ * ضُرِبَتْ على شَزَنٍ فهنَّ شَواعِي
يريد شوائع.
وأمَّا المذاهبُ الآتية فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهب سالمٌ منها فلذلك اعتبره الجمهورُ دونَ غيره.
(6/26)
---(1/2189)
المذهب الثاني - وبه قال الفراء -: أن أشياء جمع لـ "شيء" والأصل في شيء: شَيِّئ على فَيْعِل كـ "لَيِّن" ثم خُفِّف إلى "شيء" ما خففوا لَيّناً وهَيّناً ومَيّتاً إلى لَيْن وهَيْن ومَيْت، ثم جَمَعَه بعد تخفيفِه، وأصله أَشْيِئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياءٍ بزنة أَفْعِلاء فاجتمع همزتان: لام الكملمة والتي للتأنيث، والألف تشبه الهمزة والجمع ثقيل: فَخَفَّفُوا الكلمة بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان أولاهما مكسورة، فحذفوا الياء التي هي عنيُ الكلمة تخفيفاً فصارت أَشْياء، وزنها الآن بعد الخلاف أَفْلاء، فمَنْعُ الصرفِ لأجل ألف التأنيث، وهذه طريقة بعضِهم في تصريف هذا المذهب كمكي بن أبي طالب. وقال بعضهم كأبي البقاء: لَمَّا صارت إلى أَشْيئاء حُذِفت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة لأنَّها بها حَصَلَ الثِّقَلُ، وفُتِحَتِ الياءُ المسكورةُ لتسلمَ ألف الجمعِ فصار وزنُها: أَفْعاء.
(6/27)
---(1/2190)
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: انَّ أَشْياء جمعُ "شَيْء" بزنة فَلْس، أي: ليس مخففاً من شَيِّئ كما يقوله الفراء، بل جمع شيء وقال "إن فَعْلاً يجمع على أَفْعِلاء فصار أَشْيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء، ثم عُمِل فيه ما عُمِل في مذهب الفقراء، والطريقان المذكوران عن مكي وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنفين يذكرون مذهب الفراء عنه وعن الأخفش قال مكي: "وقال الفراء والأخفش والزيادي: أَشْياء وزنها أَفْعِلاء، وأصلها أَشْيئاء، كهيِّن وأَهْوِناء، لكنه خُفِّف" ثم ذَكر تصريفَ الكملةِ إلى آخر. وقال ابو البقاء: "وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ شَيِّئ مثل هَيِّن، ثم خُفِّف بالحذف"، وذكر التصريف إلى آخره فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحق ما ذكرته عنهما، ويدل على ما قتله ما قاله الواحدي فإنه قال: "وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش" غير أنه خَلَط حين ادَّعى أنها كهيْن ولَيْن حين جمعا على أَهْوناء وأَلْيِناء، وهَيْن تخفيف "هيِّن" فلذلك جاز جمعُه على أَفْعِلاء، وشَيء ليس مخففاً من "شَيِّئ" حتى يُجْمع على أَفْعِلاء، وهذان المذهبان - أعني مذهب الفراء والأخفش - وإن سَلِما من منع الصرف بغيرِ علة فقد رَدَّها الناس، قال الزجاج: "وهذا القولُ غلطٌ لأنَّ "شَيْئاً" فَعْل، وفَعْل لا يجمع على أَفْعِلاء، فأما هَيِّن ولَين فأصلهُ: هَيين ولَيين، فجُمع [على] أَفْعِلاء، كما يُجمع فعيل على أَفعْلاء مثل: نصب وأَنْصباء" قلت: وهذا غريبٌ جداً، أعني كونه جَعَل أنَّ أصلَ هيّن هَيين بزنةَ فَعِيل، وكذا لَيّن ولَيِين، ولذلك صحر بتشبييهما بنصيب، والناس يقولون: إن هَيِّناً أصله هَيْوِن، كميِت أصلُه مَيْوت ثم أُعِل الإعلالَ المعروف، وأصلُ لَيّن: لَيْيين بياءين، الأولى ساكنة والثاينة مكسورة، فأَدمت الأولى، والاشتقاقُ يساعدهم، فإن الهين من هانَ يهون، ولأنهم حين جمعوه على أَفْعلاء أظهروا(1/2191)
(6/28)
---
الواوَ فقالوا: أَهْوِناء. وقال الزجاج: "إن المازني ناظر الأخفش في هذه المسألة فقال له: كيف تُصَغَّر اشياء؟ قال: أقول فيها أُشَيَّاء. فقال المازني: لو كانت أَفْعالاً لرُدَّت في التصغير إلى واحدها وقيل: شُيَئْات مثل شُعَيْات، وإجماعُ البصريين أن تصغير أصدقاء إن كان لمؤنث "صُدّيَّقات"، وإن كان لمذكر: "صُدَيِّقون" فانقطع الأخفش". قلت: وبَسْطُ هذا أنَّ الجمعَ المكسَّرَ إذا صُغِّر: فإمَّا أن يكون من جموعِ القلة وهي أربعٌ على الصحيح: أَفْعِلة وأَفْعُل وأَفْال وفعْلة، فيُصَغَّرُ على لفظة، وإن كان من مجوع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظه على الصحيح، وإنْ وَرَدَ منه شيءٌ عُدَّ شاذاً كـ "أُصَيْلان" تصغير "أُصْلان" جمع "أَصيل" بل يُرَدُّ إلى واحدِه. فإنْ كان من غير العقلاء صُغِّر وجُمِع بالألفِ والتاءِ فتقول في تصغير حُمُر جمع حمار: "حُمَيْرات"، وإن كان من العقلاء صُغِّر وجُمع بالواو والنون، فتقول في تصغير "رجال": "رُجَيْلون، وإن كان اسم جمع كـ "قوم" و"رهط" اسم جنس كـ "قمر" و"شجر" صُغِّر على لفظة كسائر المفردات. رجَعْنا إلى أشياء فتصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنها اسم جمع، لأن اسم الجمع يُصِغَّر على لفظه نحو: "رُهَيْط" و"قُوَيْم" وليست بجمع تكسر إذ هي من جموعِ الكثرة ولم ترَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفش لأنه بصري، والبصري لا بدَّ وأن يفعل ذلك، وأُصَيْلان عنده شاذ فلا يقاس عليه، وفي عبارة مكي قال: "وأيضاً فإنه يَلْزمهم أن يصغِّروا أشياء على شُوَيَّات أو على شُيَيْئات وذلك لم يَقُلْه أحد" قتل: قوله "شُوَيَّات" ليس بجيد، فإنه هذا ليس موضعَ قلبِ الياء واواً، ألا ترى أنك إذا صَغَّرت بيتاً قلت: بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً، إلا أن الكوفيين يُجيزون ذلك فيمكن أن يرى رأيهم وقد ردَّ مكي أيضاً مذهبَ الفراء والأخفش بشيئي، أحدهما: أنه يلزم منه عدمُ النظير إذ لم يقع أَفْعِلاء جمعاً لـ(1/2192)
فَيْعِل فيكون
(6/29)
---
هذا نظيرَه، وهَيّن وأهْوناء شاذٌّ لا يقاس عليه. والثاني: أن حذفَه واعتلالَه مُجْرى على غير قياس، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه اعتلالِه عن القياس والسماع".
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي خاتم - أنها جمع شيء على أَفْال كـ "بَيْت" و"أبيات" و"ضيف" و"أضياف" واعترض الناس هذا القول بأنه يَلْزم منه منعُ الصرف بغير علته إذ لو كان على "أَفْعال" لا نصرفَ كأبيات. قال الزجاج: "أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قولَ الكسائي خطأ، وألزمه ألاَّ يَصْرف أنباء وأسماء" قلت: والكسائي قد استشعر بهذا الردِّ فاعتر عنه ولكن بما لا يُقبل، قال الكسائي - رحمه الله-: "هي - أي أَشْياء - على وزن أَفْعال ولكنها كَثُرت في الكلام فَأَشْبهت فَعْلاء فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ كما لم يُصْرفَ حَمْراء" قال: "وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى، وصَحْراء وصحارى، وأَشْياوات كما قيل حَمْراوات"، يعني أنهم عامَلوا "أَشْياء" وإن كانت على أفعال معاملةَ حَمْراء وعَذْراء في جمعي التكسير والتصحيح. إلا أن الفراء والزجاج اعترضا على هذا الاعتذار، فقال الفراء: "لو كان كما قال لكان أملك الوجهين أَنْ تُجْرَى، لأن الحرق إذا كَثُر في الكلام خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرت التسمية بـ "يزيد"، وأَجْروه في النكرة وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء" قلت: يعني بالإجراء الصرف. وقال الزجاج: "أجمع البصريون وأكثر الكوفيين" وقد تقدم آنفاً. وقال مكي: "وقال الكسائي وأبو عبيد: لم تَنْصَرف - أي أشياء- لأنها أشبهت "حمراء" لأن العرب تقول: أَشْياوات" كما تقول: حَمْراوات، قال: "ويلزمهما ألاَّ يَصْرِفا في الجمع أسماء وأبناء، لقول العرب فيهما: أسماوات وأبناوات" قلت: قد تقدم شرح هذا، ثم إنَّ مكّياً بعد أن ذكر عن الكسائي ما قَدَّمْتُه ونقل مذهب الأخفش والفراء قال: "قال أبو حاتم: أَشْياء أَفْعال جمع شيء كأبيات"(1/2193)
فهذا يُوهم أن مذهب
(6/30)
---
الكسائي المتقدم غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك بل هو هو قلت: وقد أجاب بعضهم عن الكسائي بأن النحويين قد اعتبروا في بابا ما لا ينصرف الشبه اللفظيَّ دونَ المعنوي، يَدُلُّ على ذلك مسألة سراويل في لغةِ مَنْ يمنعُه فإنَّ فيه تأويلين، أحدهما: أنه مفردٌ أعجمي حُمِل على مُوازِنه في العربية، أي صيغة مصابيح مثلاً، ويَدُلُّ له أيضاً أنهم أَجْروا ألفَ الإلحاق المقصورة مُجرى ألف التأنيث المقصورة، ولكن مع العلمية، فاعتبروا مجردَ الصورة، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت له نظائر كثيرة.
(6/31)
---(1/2194)
المذهب الخامس: أنَّ وزنها أَفْعِلاء ايضاً جمعاً لـ "شَيِئٌ بزنة ظريف، وفَعيل يجمع على أَفعلاء كـ "نَصيب وأنْصِباء، وصَدِيق وأًصْدقاء، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحت الياءُ لتسلمَ ألفُ لاجمع فصارت أَشْياء ووزنُها بعد الحذف أَفْعاء، وجعله مكياً في التصريف كتصريف مذهب الأخفش من حيث إنه تُبدل الهمزة ياءً ثم تُحْذف إحدى الياءين. قال: - رحمه الله -: "وحَسَّن الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد، وإنما حُذفت من الواحد تخفيفاً لكثرة الاستعمال إذ "شيء" يقع على كل مسمَّى من عَرَضٍ أو جوهر أو جسمٍ فلم ينصرف همزةِ التأينث في الجمع. قال: "وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجمع وتُرِكَ الصرفُ على القياس، لولا أنَّ التصغير يعترضه كما اعترض الأخفش" قلت: قوله "هذا قول حسن" فيه نظر لكثرة ما يَرشد عليه وهو ظاهر ممَّا تقدم، ولمَّا ذكر الشيخ هذا المذهب قال في تصريفه: "ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً" قال: "وزنُها في هذا القول ألى أفياء، وفي القول قله إلا أَفْلاء" كذا رأيته "أفياء" بالياء، وهذا غلط فاحش، ثم إني جَوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتب، وإنما كانت أَفْعاء بالعين فصحَّفها الكاتب إلى أَفْياء. وقد ردَّ الناس هذا القول: بأنَّ أصل شيء: شَيِئ بزنة صديق دعوى من غير دليل، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه، بل يُرَدُّ إلى مفرده كما تقدم تحريره.
وقد تلخص القول في أشياء: أنها هي هي اسم جمع وأصلها شَيْئاء كطَرْفاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها فصارَ وزنُها لَفْعاء أو جمعٌ صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع صرح فهل أصلها أَفْعِلاء، ثم تحذف، فتصير إلى أَفْعاء أو أَفلاء، أو أنَّ وزنَها أفعال كأبيات. ولولا خلف الخروج عن المقصود لذكرت المسألة بأطرافِها متسوفاةً، ولكنَّ في هذا كفاية لائقةً بهذا الموضوع.
(6/32)
---(1/2195)
قوله تعالى: {إِن تُبْدَ} شرط، وجوابه "تَسُؤكم"، وهذه الجملة الشرطية في محل جر صفة لـ "أشياء"، وكذا الشرطية المعطوفة ايضاً. وقرأ ابن عباس: "إن تَبءدُ لكم تَسُؤْكم" ببناء الفعلين للفاعل مع كون حرف المضارعة تاءً مثناة من فوق، والفاعل ضمير "أشياء". وقرأ الشعبي - فيما نقله عن أبو محمد ابن عطية: {إنْ يَبْدُ} بفتح الياء مت تحت وضم الدال، "يَسُؤْكم" بفتح الياء من تحت، والفاعل ضمير عائد على ما يلييق تقديره بالمعنى، أي: إن يَبُْ لكم سؤالكم أو سؤلكم يسؤكم، ولا جائز أن تعود على "أشياء" لأنه جارٍ مجرى المؤنث المجازي، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنث مطلقاً وَجَبَ لَحاقُ العلامة على الصحيح، ولا يُلتفت لضرورة الشعر، ونقل غيه من الشعبي أنه قرأ: {يُبْدَ لكم يَسُؤْكم} بالياء من تحت فيهما إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثاين، والمعنى إنْ يُبْدَ - أي يظْهَر - السؤال عنها يَسُؤكم ذلك السؤالُ أي جوابه، أو هو، لأنه سببٌ في لك والمُبْدِية هو اللَّهُ تعالى. والضميرُ في "عنها" يحتمل أن يعودَ على نوعِ الأشياءِ المَنْهِيَّ عنها لا عليها أنفسِها، قاله ابن عطية، ونقله الواحدي عن صاحبِ "النظم" ونظَّره بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} يعني آدم، "ثم جَعَلْناه" قال "يعني ابن آدم" فعاد الضميرُ على ما دل عليه الأول، ويحتمل أن يعود عليها أنفسها، قال الزمخشري بمعناه.
(6/33)
---(1/2196)
قوله: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} في هذا الظرف احتمالان، احدهما: - وهو الذي يَظْهَرُ، ولم يَقُل الزمخشري - غيرَه-: أنه منصوبٌ بـ "تسألوا"، قال الزمخشري: "وإ،ْ تَسْألوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآن: في زمانِ الوَحْي، وهو ما دام الرسولُ بين أَظْهُرِكم يُوحى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليف التي تَسُؤكم وتُؤْمروا بتحمُّلها. فَتُعَرِّضوا أنفسَكم لغضبِ اللَّهِ لتفريطكم فيها" ومن هنا قلت لك: إنَّ الضمير في "عنها" عائدٌ على الأشياءِ الأوَلِ لا على نوعِها. والثاني: أنَّ الظرفَ منصوبٌ بـ "تُبْدَ لكم" أي: تَظْهَرْ لكم لتك الأشياءُ حين نزولِ القرآن. قال بعضهم: "في الكلام تقديمُ وتأخيرٌ، لأنَّ التقديرَ: عن أشياَْ إنْ تُسْأَلوا عنها تُبْدَ لكم حين نزول القرآن، وإن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم" ولا شك أن لامعنى على هذا الترتيب، إلا أنه لا يُال في ذلك تقديمُ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً فلا فرقَ، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ} لفائدةٍ وهي الزجرُ عن السؤال فإنه قدَّم لهم أنّ سؤالهم عن أشياءَ متى ظهرت أساءَتْهم قبل أن يُخْبرَهم بأنهم إنْ سألوا عنها بَدَتْ لهم لينزجروان وهو معنىً لائقٌ.
(6/34)
---(1/2197)
قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ جر لأنه صفةٌ أحرى لـ "أشايء" والضميرُ على هذا في "عنها" يعود على "أشياء" ولا حاجةَ إلى ادِّعاء التقديم والتأخير في هذا كما قال بعضهم، قال: "تقديرُه: لا تَسْأَلوا عن اشياءَ عفا الله عنها إنْ تُبْدَ لكم إلى آخر الآية، لأنَّ كلاً من الجملتين الشرطيتين وهذه الجملة صفةٌ لـ "أشياء" فمن أين أنَّ هذه الجملة مستحقةٌ للتقديم على ما قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قَدَّرها متقدمةً ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ. والثاني: أنها لا محل لها لاسئنافِها، والضميرُ في "عنها" على هذا يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بـ "لا تَسْألوا" ويجوزُ أَنْ تعودَ على "أشياء" وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا لضرورة الربطِ بين الصفةِ والموصوفِ.
* { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ }
(6/35)
---(1/2198)
قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا}: الضميرُ في "سألها" ظاهرُه يعود على "أشياء" لكن قال الزمخشري: "فإنْ قتل: كيف قال: لا تَسْالوا عن أشياء، ثم قال: "قد سَألَها ولم يقل سَألَ عنها؟ قلت: [الضميرُ في سألها] ليس يعودُ على أشياءَ حتى يَتَعدَّى إليها بـ "عن"، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله: "لا تَسْألوا" أي: قد سأل المسألةَ قومٌ، ثم أصبحوا بها - أي بمرجوعِها - كافرين" ونحا ابن عطية مَنْحاه. قال الشيخ: "ولا يتجه قولُهما إلى حذف مضاف، وقد صَرَّح به بعضُ المفسرين، أي: قال سأل أمثالَها أي: أمثالَ هذه المسألة أو أمثالَ هذه السؤالات". وقال الحوفي في "سألها" "الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على "أشياء" ولا يتجه حَمْلُه على ظاهرِه لا مِنْ جهة اللفظ العربي ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهةِ اللفظ فلأنه المسؤولَ عنه مختلفٌ قطعاً، فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ مَنْ قبلهم، فإنَّ سؤالَ هؤلاء مثلُ مَنْ سأل: أين ناقتي وما بطن ناقتي، وأين أبي وأين مَدْخَلي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا نحو: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} {أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهاً} ونحوه. وقال الواحدي: - ناقلاً عن الجرجاني - "وهذا السؤالُ في الايات يخالِفُ معنى السؤال في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِي بالجار، وها هنا لم يُعَدَّ بالجار، لأن السؤال ها هنا طَلَبٌ لعينِ الشيء نحو: "سَأَلْتُك درهماً" أي طلبته منك، والسؤالَ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيتِه، وإنما عَطَفَ بقوله {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} على ما قبلَها وليست بمثلها في التأويل، لأنه إنما نَهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفوا، وهو مرفوعٌ عنهم" قلت: ويجوز أن يعودَ على "أشياء" لفظاً لا معنىً كما قال النحويون في مسألة: "عندي درهمٌ ونصفُه" أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، ومنه:
(6/36)
---(1/2199)
1814- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ * ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ
قوله: {مِّن قَبْلِكُم} متعلق بقوله: {سَأَلَهَا} فإن قيل: هل يجوزُ أن يكونَ صفةً لقوم؟ قلت: منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظرف الزمان لا يقعُ خبراً ولا صفةً ولا حالاً عن الجثة، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ البقرة عند قوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فإنَّ الصلةَ كالصفة، و"بها" متعلق بـ "كافرين" وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. والنخعي قرأ: "سالها" بالامالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يَتَساولان فإمالتُه لـ "سأل" كإمالة حمزة "خاف" وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} و {سَلْ بَنِيا إِسْرَائِيلَ
} .
* { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {مِن بَحِيرَةٍ}: "مِنْ" زائدةٌ لوجودِ الشرطين المعروفين "وجَعَلَ" يجوز أن يكونَ بمعنى "سَمَّى" ويتعدى لمفعولين، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جعَلَ - أي ما سَمِّى - اللّهُ حيواناً بَحِيرةً. قاله أبو البقاء وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاءك "إنها تكونُ معنى شَرَعَ ووضع. أي: ما شَرَع اللّهُ ولا أمره" وقال الواحدي - بعد كلامٍ طويل - "فمعنى ما جعل اللّهُ مِنْ بَحيرةٍ: ما أوجبَها ولا أمر بها" وقال ابن عطية: "وجَعَلَ في هذه الآية لا تكون بمعنى "خلق" لأنَّ الله خَلَق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى "صَيَّر" لأن التصيير لا بدل له من مفعول ثان، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَع. ومنع الشيه هذه النقولاتِ كلِّها بأنَّ "جَعَل" لم يَعُد اللغويون من معانيها شرع، وخَرَّج الآية على التصيير، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً أيك ما صَيَّر الله بحيرةً مشروعةً.
(6/37)
---(1/2200)
والبَحيرة: فَعِلية بمعنى مَفْعولة، فدخولُ تاءِ التأنيث عليها لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ الجوامدِ أُنِّث، وهذا قد أوضَحْتُه في قوله {وَالنَّطِيحَةُ} واشتقاقُها من البَحْر، والبَحْر: السَّعَةُ، ومنه "بَحْرُ الماءِ" لسَعَتِه. واختلف أهلُ اللغة في البَحِيرة عند العرب ما هي؟ اختلافاً كثيراً. فقال أبو عبيد: "هي الناقة التي تُنْتِج خمسةً أبطنٍ في آخرها ذَكَرٌ فتُشَقُّ أذنُها وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعَى ولا ماءٍ، وإذا لَقِيها المُعْيي لم يركبها. وروي ذلك عن ابن عباس، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكَرا وقال بعضهم: "إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نُظر في الخامس: فإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شَقُّوا أذنها وتركوها تَرْعى وتَرِدُ ولا تُرِكَبُ ولا تحلب فهذه البحيرة" ورُوِي هذا عن قتادة. وقال بعضهم: "البحيرة: الأنثى التي تكون خامسَ بطنٍ كما تقدَّم بيانُه، إلا أنها لا يَحِلُّ للنساء لحمها ولا لبنها، فإنْ ماتت حَلَّت لهن" وقال بعضهم: "البحيرة: بنت السائبة" وسأتي تفسير السائبة، فإذا وَلدت السائبة أنثى شقوا أذنها وتركوها مع امها ترعى وتَرِدُ ولا تكرب حتى للمُعْيّي، وهذا قولُ مجاهد بن جبر. وقال بعضُهم: "هي التي مُنِع دَرُّها - أي لَبَنُها - لأجل الطواغيت، فلا يَحْلِبُها أحدٌ. وقال بهذا سيعد بن المسيب. وقيل: هي التي تُتْرَكُ في المَرْعى بلا راعٍ، قاله أبنُ سيده وقيل: إذا وَلَدَتْ خمسَ إناث شَقُّوا أذنَها وتركوها. وقال بعضُهم - ويُعْزَى لمسروق -: "إنها إذا وُلِدت خمساً أو سبعاً شَقُّوا أذنَها" وقيل: هي الناقة تَلِدُ عشرةَ أبطن فَتُشَقُّ أذنُها طولاً بنصفين، وتُتْركُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماء، وإذا ماتَتْ حَلَّ لحمُها للرجال دون النساء"، نقله ابن عطية، وكذا قاله أبو القاسم الراغب. وقيل: البحيرة السِّقْبُ إذا وُلِد(1/2201)
(6/38)
---
نحروا أذنه، وقالوا: اللهم إن عاش فَقَنِيّ وإن مات فَذَكيّ، فإذا مات أكلوه. ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرةَ أنَّ العربَ كانت تختلف أفعالُها في البحيرة.
والسائبة قيل: كان الرجلُ إذا قَدِم من سفر أو شكر نعمة سَيِّبَ بعيرراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدم في البحيرة، وهذا قول أبي عبيد. وقيل: هي الناقة تُنْتِجُ عشر إناث فلا تُرْكب ولا يَشْرب لبناها إلا ضيفٌ أو ولدٌ، قاله الفراء وقيل: ما تُرِك لآلهتهم، فكان الرجل يجيء بماشيته إلى السدنة فيتركه عندهم ويسبل لبنه. وقيل: هي النقة تُتْرك ليُحَجَّ عليها حَجَّة، ونُقِل ذلك عن الشافعي. وقيل: هوالعبدُ يُعْتَقُ ألاَّ يكونَ عليه ولاءٌ ولا عقلٌ ولا ميراثٌ.
والسائِبَةُ هنا: فيها قولان، أحدُهما: أنها اسم فالع على بابه من ساب يَسِيب أي يَسْرَحن كسَيِّب الماء، وهو مطاوعُ سِبْتُه، يقال: سَيَّبْتُه فساب وانساب. والثاني: أنه بمعنى مَفْعول نحو: "عيشةٌ راضية" ومجيءُ فاعِل بمعنى مَفْعول قليلٌ جداً نحو: "ماء دافق" والذي نبغي أَنْ يُقال: إنه فاعل بمعنى ذي كذا أي: بمعنى النسب، نحو قولهم: لابن أي: صاحبُ لبن، ومنه في أحدِ القولين: "عيشةٌ راضية وماء دافق" أي: ذات رضى وذا دفق، وكذا هذا، أي: ذات سَيْبٍ.
(6/39)
---(1/2202)
والوصيلةُ هنا فَعِيلة بمعنى فاعِله على ما سيأتيى تفسيره، فدخول التاءِ قياسٌ. واختلف أهلُ اللغةِ فيها هل هي من جنسِ الغنم أو من جنس الإبل؟ ثم اختلفوا بعد ذلك أيضاً، فقال الفراء: "هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعةَ أبطن عَنَاقَيْن عَناقَيْن، فإذا وَلَدَت في آخرها عَناقاص وجَدْياً قيل: وصلت أخاها فَجَرّتْ مَجْرى السائبة" وقال الزجاج: "هي الشاة إذا وَلَدتْ ذكراً كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم" وقال ابن عباس: - رضي الله عنه- هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعة أبطن، فإذا كان السابع أنثى لم تنتفع النساءُ منها بشيء، إلا أَنْ تموتَ فيأكلَها الرجال والنساء، وإنْ كانت ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإنْ كان ذكراً وأنثى قالوا: وَصَلت أخاها فيتركونها معه لا تُذْبَحُ ولا ينتفع بها إلا الرجالُ دونَ النساء، فإنء ماتَتْ اشتركنْ مع الرجال فيها". وقال ابن قتيبة: "إن كان السابع ذكراً ذُبح وأكله الرجال دونَ النساء، وقالوا: "خالصةٌ لذكورِنا ومُحَرَّمٌ على أزواجنا" وإنْ كان أنثى تُرِكَتْ في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى فكقول ابن عبسا: وقيل: "هي الشاة تنتج عشر إناث متواليِاتٍ في خمسة أبطن ثم ما وَلضدت بعد ذلك فاللذكرو دون الإناث، وبهذا قال أبو اسحاق وأبو عبيدة، إلاان أبا عبيدة قال: "وإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا: وَصَلت أخاها فلم يذبحوه لمكانهاط. وقيل: هي الشاة تنتج خمسةَ أبطن أو ثلاثةً، فإن كان جَدْياً ذبحوه، وإن كان أنثى أَبْقَوْها، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها هذا كلُّه عند مَنْ يَخُصُّها بجنس الغنم. وأما من قال إنها من الإبل فقال: "هي الناقة تبتكر فتلد أنهى ثم تُثَنَّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وَصَلَت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر".
(6/40)
---(1/2203)
والحامي: اسمُ فاعل من حَمَى يَحْمي أي: منع، واختلف فيه تفسير أهل اللغة، فعن الفراء: "هو الفحل يُولد لولدِ ولدِه" فيقولون: قد حَمَى ظهرَه، فلا يُرْكب ولا يُستعمل ولا يُطْرَدُ عن ماء ولا شجر" وقال بعضهم: "هوالفحل يُنْتِجُ من يبن أولاده كذورها وإناثها عشرَ إناث" روى ذلك ابن عطية وقال بعضُهم: "هوالفحل يولَدُ من صلبه عشرةُ أبطن، فيقولون قد حمى ظهره، فيتركونه كالسائبة في فيما تقدم، وها قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج ورُوِي عن الشافعي أنه الفحل يَضْرِب في مال صاحبه عشرَ سنين. وقال ابن زيد: "هو الفحل يُنتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهرَه فيُفْعل به ما تقدم. وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء أنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها. وقد أنشدوا في البَحِيرة قوله:
1845- مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ الناسُ لحمَها * ولا نحن في شيءٍ كذاك البحائرُ
وأنشد في السائبة قوله:
1816- وسائبةٍ لله مالي تشكُّرا * إنِ اللّهُ عافَى عامراً أو مجاشعا
وأنشد في الوصيلة لتأبط شراً:
1817- أجِدَّك أمَّا كنت في الناسِ ناعقاً * تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوَصايلا
وأنشدوا في الحامي قوله:
1818- حَماها أبو قابوسَ في عِزِّ ملكِه * كما قد حَمَى أولادَ أولادهِ الفحلُ
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }
(6/41)
---(1/2204)
قوله تعالى:{حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ}: "حسبنا" مبتدأ وقد تقدم أنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ به اسم الفاعل أي: كافينا، وتفسيرُ ابن عطية له بـ "كفانا" تفسيرُ معنىً لا إعراب. و"ما وَجَدْنا" هو الخبر، و"ما" ظاهرُها أنها موصولة اسمية، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي: كافينا الذي وجدنا، و"وجد" يجوز أن يكون بمعنى الصادقة، فـ "عليه" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "وجدنا" وأنه متعدٍ لواحد. والثاني: أنه حال من "آباءنا" أي وجدناهم مستقرين عليه، ويجوز أن يكونَ بمعنى العلم فيتعدى لاثنين ثانيهما "عليه".
وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ} قد تقدم إعراب هذا في البقرة وما قالوا فيه: وأنَّ "لو" هنا معناها الشرط وأنَّ الواوَ للحال، وتقدم تفسيرُ ذلك كله فأغنى عن إعادته، إلا أنَّ ابنَ عطية قال هنا. "ألف التوقيف دخلت على واو العطف" قلت: "تسميةُ هذه الهمزةِ للوقيف فيه غرابةٌ في الاصطلاح. وجَعَل الزمخشري هذه الواوَ للحال، وابنُ عطية جعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة فعليك بالالتفات إليه، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين - أعني أية البقرة وآية المائدة - من نحو قوله هناك: "اتبعوا" وهنا "تعالَوْا" وهناك "أَلْفَيْنا" وهنا "وجدنا" من باب التفنن في البلاغة، فلا تُطْلَبُ له مناسبةٌ، وإن كنتُ قد تكلَّفْتُ ذلك ونقلته عن الناس في كتاب "التفسير الكبير".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
(6/42)
---(1/2205)
قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: الجمهورُ على نصب "أنفسكم" وهو منصوب على الإغراء بـ "عليكم"؛ لأنَّ "عليكم" هنا اسمُ فعل إذ التقدير: الزموا أنفسَكم أي: هدايتَها وحِفْظَها مِمَّا يؤذيها، فـ "عليكم" هنا يرفع فاعلاً تقديره: عليكم أنتم، ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوع نحو: "عليكم أنتم وزيدٌ الخيرَ" كأنك قلت: الزموا أنتم الخيرَ. واختلف النحاة في الضمير المتصل بها وبأخوانها نحو: إليك ولديك ومكانك، فالصحيح أنه في موضع جر كما كان قبلَ تُنْقَلَ الكلمة إلا الإغراء، وهذا مذهب سيبويه واستدل له الأخفش بما حكى عن العرب "على عبدِ الله" بجرِّ "عبد الله" وهو نصب في المسألة. وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بُعْدٌ نصلب ما بعدهما، أعني "على" وما بعدها كهذه الآية. وذهب الفراء إلى انه مرفوعُه، وقد حَقَّقْتُ هذه المذاهبَ بدلائلها مبسوطة في "شرح التسهيل". وقال أبو البقاء:- بعد أن جعل "كم" في موضع جر بـ "على" بخلافِ رُوَيدَكم فإن الكاف هناك للخطاب ولا موضعَ لها، فإن "رويد" قد استُعْمَلِتْ للأمر المواجَهِ من غير كاف الخطاب، وكذا قولُه تعالى: {مَكَانَكُمْ} "كم" في محل جر" قلت: في هذه المسألة كلامٌ طويل، صحيحُه أنَّ "رويد" تارةً يكون ما بعدها مجرورَ المحلِّ وتارةً منصوبَه، وليس هذا موضعه، وقد قَدَّمْتُ في سورةِ النساءِ الخلافَ في جواز تقديم معمول هذا الباب عليه.
(6/43)
---(1/2206)
وقرأ نافع بن أبي نعيم: "أنفسُكم" رفعاً فيما حكاه عنه صاحب "الكشاف" وهي مُشْكَلِةٌ وتخريجُها على أحد وجهين: إما الابتداء، و"عليكم" خبره مقدم عليه، والمعنى على الإغراء أيضاً، فإن الإغراء قد جاء بالجملة الابتدائية، ومنه قراءةُ بعضِهم {ناقةُ الله وسُقْياها} وهذا تحذيرٌ وهو نظيرُ الإغراء، والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضمير المستترِ في "عليكم" لأنه كما تقدم قائمةٌ مقامَ الفعل، إلا أنه شَذَّ بالنفس من غير تأكيد بضمير منفصل، والمفعول على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عليكم أنتم أنفسُكم صلاح حالكم وهدايتكم.
قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ} قرأ الجمهور بضم الراء مشددة. وقرأ الحسن البصري: {لا يَضُرْكم} بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم النخعي: {لا يَضِرْكم} بكسر الضاد وسكون الراء، وقرأ أبو حيوة: {لا يَضْرُرُكم} بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية. فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ الفعلُ فيها مجزوماً على جواب الأمر في "عليكم" وإنما ضُمَّت الراءُ إتباعاً لضمةِ الضاد، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى نُقِلَتْ للضادِ لأجلِ إدغامها في الراء بعدها، والأصل: {لا يَضْرُرْكم}، ويجوز أن يكونَ الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهيٌ مستأنف، والعملُ فيه ما تقدَّم، وينصُر جوازَ الجزم هنا على المعنيين المذكورَيْن من الجواب والنهي قراءةُ الحسن والنخعي فإنهما نَصٌّ في الجزم ولكنهما محتملان للجزمِ على الجواب أو النهي. والوجه الثاني: أن يكونَ الفعلُ مرفوعاً وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإخبار بذلك، وبنصرُه قراءةُ أبي حيوة المتقدمة.
(6/44)
---(1/2207)
وأمَّا قراءةُ الحسنِ فَمِنْ {ضارَه يَضُوره} كصانَه يصونه. وأما قراءة النخغي فمِنْ {ضاره يضيره} كباعة يَبيعه، والجزم فيهما على ما تقدم في قراءة العامة من الوجهين. وحَكَى أبو البقاء: "لا يَضُرَّكم" بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيف وهو واضح، والجزم على ما تقدم أيضاً من الوجهين. وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران.
و{مَّن ضَلَّ} فاعل، و"إذا" ظرفٌ ناصبُه "يَضُرُّكم" أي: لا يَضُرَّكم الذي ضلَّ وقتَ اهتدائِكم، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ الكلام عليه. وقال أبو البقاء: "ويبعد أن تكون ظرفاً لـ "ضَلَّ" لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه". قلت: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّن يضل وقت اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينفي عنه ضرر مَنْ ضَلَّ في غيرِ وقتِ اهتدائهم، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذَكَرَه.
* { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ }
(6/45)
---(1/2208)
قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}: هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً وإعراباً وتفسيراً، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب - رحمه الله- في كتابه المسمى بالكشف: "هذه الآيةُ في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعبِ آيٍ في القرآن وأشكلِها، قال: "ويحتمل أن يُبٍط ما فيها من العلم في ثلاثين ورقة أو أكثر" قال: وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد". وقال ابن عطية: "وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه" وقال السخاوي: "لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّص كلامُه فيها من أولها إلى آخرها". وقال الواحدي: "وهذه الآية وما بعدها من أغوص ما في القرآن معنى وإعراباً" قتل: أستعين الله تعالى في توجيه اعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وأمَّا بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه في كتابي "تفسير القرآن العزيز" إنْ شاء الله، وبه الحول والقوة.
(6/46)
---(1/2209)
قرأ الجمهور {شهادةُ بينكم} برفع "شهادة" مضافة لـ "بينكم". وقرأ الحسن والأعرض والشعبي برفعها منونة، "بينَكم" نصباً. والسلمي والحسن والأعرج - في رواية عنهما- "شهادةً" منونةً منصوبة، "بينَكم" بالابتداء، وخبرُها الجمهور ففي تخريجها خمسة أوجه، أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ، وخبرُها "اثنان" ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، فقديرُه من الأول: ذوا شهادةِ بينكم اثنان، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جثتان، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو: "زيدٌ عدلٌ" وهما جعله نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل، لأنَّ المعنى يأباهما هنا، إلا أنَّ الواحدي نقل عن صاحب "النظم" أنه قال: "شهادة" مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء" يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجلٌ عَدْلٌ ورِضا، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدةُ شهودٍ بينكم اثنان، واستشهد بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} أي: وقت الحج، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: الحج في اشهر". قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ المصدر نفسَ الشهود مبالغةً، ولذلك مَثَّله بـ "رجال عدل" وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها محذوف يَدُلُّ عليه سياق الكلام، و"اثنان" على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو "شهادة" والتقدير: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، كذا قَدَّره الزمخشري وهو احد قولي الزجاج، وهو ظاهرُ جداً، و"إذا" على هذين الوجهين ظرف لـ "شهادة" أي ليُشْهَد وقت حضور الموت - أي أسبابه - و"حين الوصية" على هذه الأوجه فيه ثلاثة أوجه، أوجهها: أنه بدلٌ من "إذا" ولم يذكر الزمخشري غيره، قال: "وفي إبداله منه دليلٌ على وجوبِ
(6/47)(1/2210)
---
الوصية". الثاني: أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي: يقع الموت وقت الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسبابِ الموت؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصية فيه. الثالث: انه منصوبٌ بـ "حَضَر" أي: حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية.
الثالث: أنَّ "شهادةُ" مبتدأ وخبره: "إذا حضر" أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت، و"حين" على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه والحالة هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تامِ صلتهِ وهو لا يجوز، وقد عرفت شرح ذلك مِمَا مَرًَّ. ولَمَّا ذكر الشيه هذا الوجهَ لم يستدرك هذا، وهو عجيب منه. الرابع: أنَّ "شهادة" مبتدأ ، وخبرُها "حين الوصية" و"إذا" على هذا منصوبٌ بالشهادة، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى ظرفاً، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة وهي: إذا كان المضافُ لفظة "يغر"، وأنشدوا:
1819- إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه * على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
فـ "عندي" منصوبُ بـ "مكفور"، قالوا: لأنَّ "غير" بمنزلة "لا"، و"لا" يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها. وقد ذكر الزمشخري ذلك آخرَ الفاتحة، وذكر أنه يجوزُ "أنا زيداً غيرُ ضارب" دون "أنا زيداً مثلُ ضارب". و"اثنان" على هذين الوجهين الآخيرين يرتفعان على أحدِ وجهين: إمَّا الفاعليةِ أي: "يشهد اثنان" يدل عليه لفظ "شهادة" وإمَّا على خبر مبتدأ محذووف مدلولٍ عليه بـ "شهادة" أيضاً أي: الشاهدان اثنان.
(6/48)
---(1/2211)
الخامس: أنَّ "شهادةُ" مبتدأ، و"اثنان" فاعلٌ سدَّم سدَّ الخبر، ذكره أبو البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقضع فعلِ الأمر كأ،ه قال: "ليشهد اثنان" فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب، وهو مثل "الحمدُ لله" و{قَالَ سَلاَمٌ} من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو: "ضَرْبي زيداً قائماً" يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر، وهذا مذهب ضعيفٌ ردَّه النحويون، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو: "قام أبواك" وعلى هذا المذهب فـ "إذا" و"حين" ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما في غير هذا الوجه. وقد تحصَّلْنا فيما تقدَّم أن رفع "شخادة، من وجه واحد وهو الابتداء، وفي خبرها خمسة أوجه تقدَّم ذكرُها مفصلةً، وأنَّ رفع "اثنان" من خمسة أوجه، الأول: كونه خبراً لشهادة بالتأويل المذكور، الثاين: أنه فاعل بـ "شهادة"، الثالث: أنه فاعل بـ "يشهد" مقدراً، الرابع: أنه خبر مبتدأ أي: الشاهدان اثنان. الخامس أنه فاعل سَدَّ مسدَّ الخبر. وأنَّ في "إذا" وجهين: إمَّ النصبَ على الظرفية، وإمَّ الرفَع على الخبرية لـ "شهادة"، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبل. وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدم في قراءة الجمهور من غير فرق.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وإليه ذهب ابن جني - أنها منصوبةٌ بفعل مضمر، و"اثنان" مرفوع بذلك الفعل، والتقدير: لِيُقِمْ شهادةَ بينكم اثنان، وتبعه الزمشخري على هذا فذكره. وقد ردَّ الشيخ هذا بأن حَذْفَ الفعل وإبقاء فالعه لم يُجِزْه النحويون إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} في قراءة ابن عامر وأبي بكر أي: يسبحه رجال،ومثله،:
1820- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ * ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ: هل يُنْقاسُ أو لا؟ أو يُجاب به نفي كقوله:
(6/49)
---(1/2212)
1821- تَجَلَّدْتُ حتى قيل: لم يَعْرُ قلبَه * من الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ
أي: بل عراه أعظمُ الوجد، أو يُجاب به استفهامٌ كقوله:
1822- ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي * نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه العوائقُ
أي: بل أتاها أو يَأْتيها، وما نحن فيه ليس من الأشياء الثلاثة. الثاني: أن "شهادة" بدل من اللفظ بفعل أي: إنها مصدر ناب مناب الفعل فيعملُ علمَه، والتقدير: لِيَشْهد اثنان، فـ"اثنان" فاعل بالمصدر لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ على حَسَبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قَدَّرْتُه "ليشهد اثنان" فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر، ولم أقدِّرْه فعلَ أمرٍ بصيغة "افعل" كما يُقَدَّرُه النحويون في نحو: "ضرباً زيداً" أي: اضبرِبْ، لأنَّ هذا قد رَفَع ظاهراً وهو "اثنان" وصيغةُ "افعل" لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً، ومثلُه قوله:
1823- ..................... * فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ
فـ "زريق" يجوز أن يكون منادى أي: يا زرق، والثاني: أنه مرفوع بـ "ندلاً" على أنه واقعٌ موقع "ليندلْ" وإنما حُذِف تنوينه لالتقاء الساكنين على حَدِّ قوله:
1824- .................. * ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
الثالث: أنَّ "شهادةً" بدل من اللفظ بفعل أيضاً، إلا أنَّ هذا الفعل خبري وإن كان أقلَّ من الطلبي نحو: "حمداً وشكراً لا كفراً" و"اثنان" أيضاً فاعلٌ به تقديرُه: يشهد شهادةً اثنان، وهذا أحسن التخاريج المذكورة في قول امرئ القسي:
1825- وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم *..............................
(6/50)
---(1/2213)
"وقوفاً" مصدرٌ بدلٌ من فعل خبري رفع "صحيبي" ونصب "مطيهم" تقديره: وقف صحبي، وقد تقدَّم أنَّ الفراء في قراءة الرفع قَدَّر أن "شهادة" واقعةٌ موقعَ فعل، وارتفع "اثنان" بها، وتقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكونَ مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر. و"بينكم" في قراءةِ مَنْ نوَّن "شهادة" نصبٌ على الظرف وهي واضحةٌ.
وأمَّا قراءةُ الجر فيها فَمِنْ باب الاتساع في الظروف أي بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثلُه: {هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} وكقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيمن رفع قال الشيخ: "وقال الماتريدي - وتبعه عن التنازع، لأنه إنما يُحتاج إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ "ما" جائزٌ عند ظهورِه، ونظيرُه كقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكَمْ} في قراءة من نصب". قال الشيخ: "وحَذْفُ "ما" الموصولة غيرُ جائز عند البصريين، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقدير "ما" البتة، وليس قولُه {هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي} نظيرَ {لقد تقطَّع بينكم} لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ "ما" بخلاف "هذا فراقُ بيني" و"شهادةُ بينكم" فإنه لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ "ما" لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْه عن الظرفية وصَيَّرَته مفعولاً به على السعة" قلت: هذا الذي نقله الشيه عنهما قاله أبو علي الجرجاني بعينه قال - رحمه الله - :"قولُه شهادةُ بينكم" أي: ما بينكم، و"ما بينكم" كناية عنا لتنازع والتشاجر، ثم اضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحُتاج إليهم في التنازع الواقعِ فيما بين القوم، والعرُ تضيف الشيء إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي: مقامه بين يديد ربه، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذِكْرَ "ما" و"مَنْ" في الموضع الذي يُحتاج إليهما فيه كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} أي: ما ثَمَّ، وكقوله: {هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} و{لَقَد
(6/51)(1/2214)
---
تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي ما بيني، وما بينكم"، وقول الشيخ "لا يُتَخَيَيَّل فيه تقدير "ما" إلى آخره" ممنوعٌ لأنَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزِم من ذلك أَنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى لا من حيث الإعرابُ نظراً إلى الأصلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصولِ فقد تقدَّم تحقيقُه.
وقوله: {ذوا} صفةٌ لاثنين أي: صاحبا عدل، وكذلك قولُه "منكم" صفة أيضاً لاثنين، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ} نسقٌ على اثنين، و"من غيركم" صفةٌ لآخَرَين والمراد بـ "منكم" من قرابِتكم وعِتْرَتِكم، ومن غيركم من المسلمينَ الأجانب وقيل: "منكم" من أهل دينكم، "ومن غيركم" من أهل الذمة. ورجَّح النحاسُ الأولَ، فقال: "هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى "آخر" في العربية من جنس الأولِ تقولُ: "مررت بكريمٍ وكريم آخر" ولا يجوز "وخسيس آخرَ" ولا: "مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ"، فكذا هنا يجب أن يكونَ "أو آخَران": أو عَدْلان آخران، والكفارُ لا يكونون عُدولاً. وردَّ الشيخ ذلك فقال: "أمَّا ما ذركره من المُثُل "فصحيح لأنه مَثًَّل بتأخير "آخَر" وجَعَلَه صفة لغير جنس الأول، وأمَّا الآية فمن قبيل ما يُقَدَّم فيه "آخر" على الوصف واندرج "آخر" في الجنس الذي قبلَه، ولا يُعْتَبرُ وصفُ جنس الأول، تقول: "مررتُ برجلٍ مسلمٍ وآخرَ كافرٍ، واشتريت فرساً سابقاً وآخرَ بطيئاً" ولو أخَّرْتَ "آخر" في هذين المثالين فقلت: "مررتُ برجل مسلم وكافر آخر" لم يَجُزْ، وليس الآية من هذا لأن تركيبَها "اثنان ذوا عَدْل منكم أو آخران من غيكم" فـ "آخران" من جنسِ قوله "اثنان" ولا سميا إذا قَدَّرْته: "رجلان اثنان" فـ "آخران" هما من جنس "رجلان اثنان"، ولا يُعتبر وصفُ الجنس في قولك: "عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران"، إذ ليس من شرطِ "آخر" إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفه، وعلى ما ذكرته جاء لسان العرب قال الشاعر:
(6/52)
---(1/2215)
1826- كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على * قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ
وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ * مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
التقدير: كانوا فريقين: فريقاً - أو ناساً - يُصْفون الزجاج، ثم قال: وآخرين ترى الماذِيَّ، فـ "آخرين" من جنس قولك "فريقاً" ولم يعتبره بوصفه بقوله "يصفون الزجاج" لأنه قَسَّم مَنْ ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنس. قال: "وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يفهمه فضلاً عَمَّنْ يعرفه".
وقوله: {أو} الظاهرُ أنها للتخيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى "من غيركم". من غير أقاربكم من المسلمين، يعني الموصي مخيِّرٌ بين أَنْ يُشْهِد اثنين من أقاربه أو من الأجانبِ المسلمين، وقيل: "أو" للترتيب أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدَين منكم إلا عند فَقْدِهما، وهذا لايجيء إلا إذا قلنا "من غيركم": من غير أهل ملَّتكم.
(6/53)
---(1/2216)
قوله: {إِنْ أَنتُمْ} "أنتم" مرفوعٌ محذوفٍ يفسِّره ما بعده وهي مسألة الاشتغال، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريين، وذهب الأخفشُ منهم والكوفيون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد "إنْ" الشرطية كما أجازوه بعد "إذا" أيضاً، فـ "ضربتم" لا محلَّ له عند الجمهور لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش لكونه خبراً، ونحوُه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ} ولكنَّ تقديرَه هذا الجواب يتوقف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصل الشهادة أو قيدٌ في "آخران مِنْ غيركم" فقطز بمعنى أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصية إلى أهلِ الذمةِ إلا بشرط الضربِ في الأرض وهو السفر. فإن قيل: هو شرطٌ في أصلِ الشهادةِ فتقديرُ الجواب: إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فليشهد اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم، وإنْ كان شَرَطاً في العدول إلى آخَرَين من غير الملَّة فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْن من غيركم، أو فالشاهد آخران من غيركم، فقد ظهر انَّ الدالَّ على جواب الشرط: إمَّا مجموعُ قوله: "اثنان ذوا عدل إلى آخره" على القولِ الأول، وإمَّا "أو آخران من غيركم" فقط على القولِ الثاني.
(6/54)
---(1/2217)
والفاء في "فأصابتكم" عاطفةٌ هذه الجملة على نفس الشرط، وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} فيه وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفع صفةَ لـ "آخران" وعلى هذا فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها، فإنَّ قلوه "تَحْبسونهما" صفةٌ لقوله "آخران" وإلى هذا ذهب الفارسي ومكي بن أبي طالب والحوفي وأبو البقاء وابن عطية وقد أوضح الفارسي ذلك بعباةٍ خاصةٍ فقال: "تحبسونهما صفةُ لـ "آخران" واعترض بقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} وأفاد الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة أو القرابة حَسَبَ اختلاف العلماء فيه إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغنى عن جواب "إنْ" لِما تقدَّم في قوله "آخران من غيركم" قلت: فقد ظهر من كلامه أن يجعلُ الرطَ قيداً في "آخران من غيركم" فقط لا قيداً في أصل الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه كما تقدم: "فاستشهدوا آخَرَين من غيركم" أو "فالشاهدان آخران من غيركم".
والثاني: أنه لا محلَّ له لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشري قال: "فإنْ قلت: ما مقعُ قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا}؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل: بعد اشتراطِ العدالة فيهما: فكيف نعمل إنْ ارتَبْنا فيهما؟ فقيل: تَحْبِسونهما". وهذا الذي ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأولِ الفصلُ بكلام طويل بين الصفةِ وموصوفِها، وقال: "اشتراطِ العدالة" بناءً على مختاره في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: أو عَدْلان من الأجانب.
(6/55)
---(1/2218)
قال الشيخ: "في قوله: "إن أنتم ضربتم" إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى على لفظ "إذا حضَر أحدَكم الموتُ" لكان التركيب: إن هو ضرب في الأرض فاصباته، وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنَّ لأنَّ "أحكم" معناه: إذا حضر كلَّ واحد منك الموتُ". وفيه نظرٌ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطاب الأول من قوله: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى آخره. وقال ابن عباس: "في الكلامِ حذفٌ تقديرُه: فأصابتكم مصيبةُ الموت وقد أشهدتموهما على الإيصاءِط. وعن سعيد بن جبير: تقديره "وقد أوصيتم". قال بعضُهم: "هذا أَوْلى لأنَّ الوصِيَّ يحلف والشاهدَ لا يَحْلِفُ". والخطابُ في "تحبسونهما" لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خوطب بإصابته الموتَ لأنه يتعذَّر ذلك فيه. و"من بعد" متعلق بـ "تحبسونهما" ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيل الله فهو مُحْبَسٌ وحبيس. ويقال لمصنعِ الماءِ: "حَبَسْ" لأنه يمنعه، ويقال: "حَبَّست" بالتشديد ايضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل نحو: "حَبَّسْتُ الرجال" والأف واللام في "الصلاة" فيها قولان، أحدهما: أنها للجنس أي: بعد أيِّ صلاة كانت. والثاني - وهو الظاهر- أنها للعهد، فقيل: العصر، وقيل غيرُ ذلك.
قوله: {فَيُقْسِمَانِ} في هذه الفاء وجهان، أظهرهما: انها عاطفة هذه الجملةَ على جملةِ قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} فتكون في محل رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبما تقدَّم من الخلاف. والثاني: فاءُ الجزاءِ أي: جوابُ شرطٍ مقدرٍ. قال الفارسي: "وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لعطفِ جملة، بل تجعلُه جزاءً كقوله ذي الرمة:
1827- وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً * فيبدو، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
(6/56)
---(1/2219)
تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بدا، وكذا في الآية: إذا حَبَسْتموهما أقسما. وقال مكي نحوه، فإنه قال: و"يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأن "تحسبونهما" معناه الأمر بذلك، وهو جواب الأمر الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنه قل: إذا حبستموهما أَقْسَما" قلت: ولا حاجةَ داعية إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً فإنه يحوج إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله {فَيُقْسِمَانِ} أي: فهما يُقْسمان، وأيضاً ف ـ"إنْ تحبسوهما" تقدَّم أنها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطلب لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليّ فَخَرَّجَه النحويون على ان "يَحْسِر الماءُ تارة" جملةٌ خبرية، وهي إن لم يكن فيها رابط فقد عُطِف عليها جملةٌ فيها رابط بالفاء السببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتين شيئاً واحداً.
(6/57)
---(1/2220)
و"بالله" متعلِّقٌ بفعلِ القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا معها لأنها أمُّ. الباب. وقوله: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} جواب القسمِ المضمر في "يُقْسمان" فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به. وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} شرطٌ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إن ارتبتن فيهما فحلِّفوهما، وهذا الشرط وجوابُه المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ فأُجيب سابقُهما، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلكَ المسألةَ شرطُها أن يكونَ جوابُ القسمِ صالحاً لأن يكون جوابَ الشرط حتى يَسُدَّ مسدَّ جوابه نحو: "واللّهِ إن تقم لأكرمنَّك" لأنك لو قَدَّرْتَ "إن تقم أكرمتك" صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسم، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسه، ألا ترى أنَّ تقديره هنا: "إن ارتبتم حَلِّفوهما" ولو قَدًّرْته: إن ارتبتم فلا نشتري لم يَصِحَّ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ وقد أُجيب سابقهما، وحُذِفَ جواب الآخر وليس من تيك القاعدةِ. وقال الجرجان: "إنَّ ثم قولاً محذوفاً تقديرُه يٌقْسمان بالله ويقولان هذا القولَ في أيمانهما، والعرب تُضْمِرُ القول كثيراً، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} أي: يقولون سلام عليكم". ولا أدري ما حمله على إضمار هذا القولِ؟
(6/58)
---(1/2221)
قوله: {به} في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ، إحدُهما: أنها تعودُ على الله تعالى الثاني: أنها تعودُ على القسمِ. الثالث: - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على تحريقِ الشهادةِ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى. وقال أبو البقاء "تعودُ على اللّهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنها قولٌ. قلت: قوله "أو الحَلْف أو اليمين" لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ مَنْ قال: إنه تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر فيها ذلك. وقال مكي: "وقيل: الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها قولُ كما قال: {فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ} فردَّ الهاءَ على المقسومِ لدلالة القسمة على ذلك". والاشتراءُ هنا هل باقٍ على حقيقتِه أو يُراد به البيع؟ قولان، أظهرُهما الأولُ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصبِ "ثمناً" وهو منصوبٌ على المفعولية، قال الفارسيّ: وتقديره: لا نشتري به ذا ثمن، ألا ترى انَّ الثمن لا يُشْترى، وإنما يُشْترى ذو الثمن، قال: "وليس الاشراءُ هنا بمعنى البيع وإنْ جاء لغةً، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائعِ، وليس المعنى عليه، إنما معناه التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ". وقد نَقَل الشيخُ هذا الكلامَ بعينه ولم يَعْزُه لأبي علي.
(6/59)
---(1/2222)
وقال مكي: "معناه ذا ثمن، لأنَّ اليمن لا يُشءترى، وإنما يُشْترى ذو الثمني، وهو كقوله: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً} أي ذا ثمن". وقال غيرُه: "إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف" قال أبو البقاء: "ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقدير: ذا ثمن"، وقال بعضُهم: "لا نَشْتري: لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضِ ناخذُه، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فمعنى {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} لا نأخذُ ولا نستبدِلُ، ومَنْ باع شيئاً فقد اشترى، ومعنى الآية: لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا. قال الواحدي: "ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي، وهذا معنى قولِ القتيبي والجرجاني".
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}"ولو كان ذا الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} آباؤهم لا يَعْقِلون" في البقرة من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ أو حاليةٌ، وانَّ جملةَ الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدرةٍ كقوله: "أعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ" فكذا هنا تقديرُه: لا نَشْتري به ثمناً في كل حال ولو كانَ الحالُ كذا، واسمُ "كان" مضمرٌ فيها يعودُ على المشهودِ له: أي: ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ.
قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ} الجمهورُ على رفعِ ميم "نكتُم" على أنَّ "لا" نافية، والجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ فتكونُ ايضاً مقسماً عليها. والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون الشهادة، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي: "ولا نَكْتُمْ" على النهي، وهذه القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ "لا" الناهية على فعلِ المتكلم قليلٌ، ومنه.
1828- إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ * بها أبداً ما دامَ فيها الجَراضِمُ
(6/60)
---(1/2223)
والجمهورُ على "شهادة الله" بالإضافة، وهي مفعولٌ بها، وأُضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمرُ بها وبحفظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ. وقرأ عليُّ أميرُ المؤمنين ونعيم بن ميسرة والشعبي في رواية: "شهادة الله" بتنوين شهادة ونصبِها ونصبِ الجلالة، وهي واضحةٌ، فـ "شهادة" مفعول ثان، والجلالةُ نصبٌ على التعظيمِ وهي الأول. والأصلُ: ولا نكتُم اللّهَ شهادةً، وهو كقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وإنما قُدَِّمَتْ هنا للاختمامِ بها، فإنها المحدِّثُ عنها. وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراوي - وهو أن تكون الجلالةُ نصباً على إسقاطِ حرفِ القسم، والتقديرُ: ولا نكتمُ شهادةً واللّهِ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر نُصِب المقسُم بهن ولا حاجةَ إليه لأنه يَسْتدعي حذفَ المفعولِ الأولِ للكتمان، أيك ولا نكتمُ أحداً شهادةً والله، وفيه تكلفٌ، وإليه ذهبَ أبو البقاء أيضاً قال: "على أنه منصوبٌ بفعلِ القسم محذوفاً".
(6/61)
---(1/2224)
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري: "شهادةً" بالتنوين والنصب، "الله" بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين، وهي عوضٌ من حرفِ القسمش المقدَّرِ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ؟ وقرأ الشعبي في رواية وغيره: "شهادة" بالهاء ويقل عليها، ثم يَبْتدئ "آللّهِ" بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: "يا زيدُ آللّهِ لأفعلن"، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريق خاصة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه، نحو: "ها اللَّهِ" ويجوزُ مع "ها" قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها. وهل الجرُّ بالحرف المقدر أو بالعوض؟ تقدّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائل: ن قولَهم "أللّهِ لأفعلنَّ" بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه. فإن قيل: همزةُ الاستفها إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم. فالجواب: أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ الوصلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام فرقاً بين الاستفهام والخبر، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجر في الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجةَ إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدَلةً أو مُسَهَّلَةً، فعلى هذا قراءة: الله وآلله بالقصر والمد تحتمل الاستفهامَ، وهوت خريجٌ حسن. قال ابن جني في هذه القراءة: "الوقفُ على "شهادة" بسكون الهاء واستئنافُ القسم، حسن، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول" ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من غير مَدِّ وجرِ الجللالة - عن أبي بكر(1/2225)
(6/62)
---
عن عاصم وقرئ: شهادةً اللّهِ" بنصب الشهادة منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير عوضٍ منه بقطعِ ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة، ولذلك أتوا بـ "إذَنْ" المؤذنة بالجزاء والجواب. وقرأ الجمهور: {لمن الآثمين} من غير نقل ولا إدغامز وقرأ ابن محيصن والأعمش: {لَمِلاَّثِمين} بإدغام نون "من" في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في "آثمين" فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: {عَاداً الأُولَى} بالإدغام، وهناك إن شاء الله يأتي تحقيق ذلك وبه القوة.
* { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }
(6/63)
---(1/2226)
قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ}: مبني للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعِله الجارُّ بعدَه، أي: فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإثمَ يقال: [عَثَر الرجلُ يعثُر] عُثوراً: إذا هَجَم على شيء لم يَطَّلِعْ عليه غيرُه، وأعثرتُه على كذا: أطلعتُه عليه، ومنه قولُه تعالى: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}. قال أهلُ اللغة: "وأصلُه من "عَثْرة الرجل" وهي الوقوع، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُر بشي كان لا يَراه، فإن عَثَر به اطِّلع عليه ونَظَر ما هو، فقيل لكل أمر كان خَفِيّاً ثم اطُّلِع عليه: "عُثِر عليه" وقال الليث: "عَثَريَعْثُر عُثوراً هجم على أمرٍ لم يهجم عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُر عَثْرَةً وقع على شيء، ففرَّق بين الفعلين بمصدريهما. وفَرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك فقال: "عَثَر مصدرُه العُثور، ومعناه اطَّلع، فأمَّا "عَثَر" في مَشْيِة ومنطقه ورأيه فالعِثارُ" والراغب جَعَل المصدرين على حَدِّ سواء فإنه قال: "عَثَر الرجلُ بالشيء يَعْثُر عُثوراً وعِيثاراً: إذا سَقَط عليه، ويُتَجَوًَّزُ به فيمن يَطِّلِعُ على أمرٍ من غير طلبه، يقال: "عَثَرْتُ على كذا" وقوله: {وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: وَقَّفْناهم عليهم من غير أَنْ طَلَبوا".
(6/64)
---(1/2227)
قوله تعالى: {فَآخَرَانِ} فيه أربعةُ أوجه، [الأول]: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: فالشاهدان آخران، والفاء جواب الشرط، دَخَلَتْ على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: {يقومان} محلِّ رفعً صفةً لـ آخران. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فليشهد آخان، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تقدَّم أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدّه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} الثالث: أنه خبرٌ مقدم، و"الأَوْلَيان" مبتدأٌ مؤخرٌ، والتقدير: فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران يَقُومان مقامَهان ذكر ذلك أبو عليّ. قال: "ويكونُ كقولك: "تميمي أنا" الرابع: أنه متبدأٌ، وفي الخبرِ حينئذٍ احتمالات، أحدُها: قولُه: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ} وجاز الابتداءُ به لتخصُّصِه بالوصف وهو الجملة من "يَقُومان"، والثاني: أنَّ الخبرَ "يَقُومان" و"من الذين استحَقَّ" صفةُ المتبدأ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به اعتمادُه على فاءِ الجزاء. وقال أبو البقاء وقوله "يَقُومان" و"مِنْ الذين استَحَقَّ" كلاهما في محلِّ رفعٍ من صفة لـ "آخران" ويجوزُ ان يكونَ أحدُهما صفةً والآخرُ حالاً، وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ. وفي هذا الوجه ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله:
1829- .................. * يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ
[وكقوله]:
1830- وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً * بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ
(6/65)
---(1/2228)
وقد فَهِمْتَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملةَ من قوله "يقومان" والجارَّ من قوله: {}: إمَّا مرفوعٌ المحلِّ صفةً لـ "آخَران" أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبة على الحالِ: إمَّا من نفس "آخران"، أو مِنَ الضمير المستكنِّ في "آخران" ويجوزُ في قوله {مِنَ الَّذِينَ} أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ "يَقُومان".
قوله: {اسْتَحَقَّ} قرأ الجمهورُ: "استُحِقَّ" مبنياً للمفعول، "الأَوليان" رفعاً، وحفص عن عاصم: "اسْتَحَقَّ" مبنياً للفاعل، "الأوليان" كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم، ورُوِيَتْ عن ابن كثير أيضاً، وحمزة وأبو بكر عن عاصم: "استُحِقَّ" مبنياً للمفعول كالجماعة، "الأَوَّلِين" جمعَ "أَوَّل" جمعَ المذكر السالم، والحسن البصري: "اسْتَحَقَّ" مبنياً للفاعل، "الأوَّلان" مرفوعاً تثنية "أَوَّل" وبان سرين كالجماعة، إلا أنه نصب الأوْلَيَنْ تثنيةَ "أَوْلى" وقرئ: "الأَوْلَيْنَ" بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع "أَوْلى" كالأعلَيْنَ في جمعِ "أَعْلى" ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع: قال: "هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعراباً" قلت: ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ، فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به الإعراب فإنه خادِمٌ لها.
(6/66)
---(1/2229)
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع "الأَوْلَيان" فيها من اوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره "آخران" تقديره: فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران، وقد تقدَّم شرحُ هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هما الأَوْلَيان، كأنَّ سائلاً سأل فقال: "مَنِ الآخران"؟ فقيل: هما الأَوْلَيان. الثالث: أنه بدلٌ من "آخران" وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه، نحو: "جاء زيدٌ أخوك" وهذا عندهمْ ضعيفٌ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ. الرابع: أنه عطفُ بيان لـ "آخران" بَيَّن الآخَرَيْن بالأَوْلَيَيْنِ. فإن قلت: شرطُ عطفِ البيان أن يكونَ التابعُ والمتبوعُ متفقين في التعرفِ والتنكير، على أنَّ الجمهورَ على عدم جريانِه في النكرة خلافاً أبي علي، و"آخران" نكرةٌ، و"الأَوْلَيَان" معرفةٌ. قتل: هذا سؤال صحيح، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ويلزم الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفش فإنه يُجيز اَنْ يكونَ "الأَوْلَيان" صفةً لـ "آخران" بما سأقرره عنه عند تعرُّضي لهذا الوجهِ، والنعت المنعوت يُشترط فيهما التوافقُ، فإذا جاز فيا لنعت فَلْيَجُزْ فيما هو شبيه به، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت. وأمَّا لزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى : {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} عطفُ بيان لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} و{آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} نكرةٌ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بلاوصفِ قَرُبَتْ من املعفرة، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه، وكذا "آخران" قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدّ من "آياتٌ بيناتٌ" من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة. الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ "يَقُومان".
(6/67)
---(1/2230)
السادس: أنه صفةٌ لـ "آخران"، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليَ: "وأجازَ أبو الحسن فيها شيئاً آخرَ، وهو أن يكونَ "الأَوْلَيان" صفةً لـ "آخران" لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّص، فَمِنْ أجلِ وصفةِ وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف" قال الشيخ: "وهذا ضيعيفٌ لاسلتزامِه هَدْمَ ما كادوا أن يُجْمعوا عليه من أنَّ النكرةَ لا تُوصف بالمعرفةِ، ولا العكسِ" قلت: لا شكَّ أنَّ تخالفَهما في التعريف والتنكير ضعيفٌ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضعَ، فمنها محكاه الخليل: "مَرَرْتُ بالرجلِ خيرٍ منك" في أحد الأوجه في هذه المسألةِ ومنها {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} على القولِ بأنَّ "غير" صفةُ "الذين أنعمت عليهم" قوله:
1831- ولقد أَمُرُّ على اللشيمِ يَسُبُّني * فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني
وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} على أنَّ "يَسُبُّني" و"نَسْلَخُ" صفتان لِما قبلَها فإنَّ الجملَ نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤَوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرةَ فيه كالمعرفةِ، إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المُثُلِ باعتبار أنَّ "الأَوْلَيَيْنِ" لَمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان قَرُبا من النكرةِ فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي، فصار في ذلك مسوِّغان: قريبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيص، وقربُ المعرفة من النكرة بالإبهان، ويدلُّ لِما قلتُه ما قال أبو البقاء: "والخامسُ أن يكون صفة لـ "آخران" لأنه وإنْ كان نكرةً قد وُصِفَ والأَوْلَيان لم يَقْصِدْ بهما قصدً اثنين بأعيانِهما".
(6/68)
---(1/2231)
السباع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه بـ "استُحِقَّط إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً. واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين، فقال: مكي: "تقديرُه: استُحِقَ عليهم إثمُ الأَوْلَيَيْن" وكذا أبو البقاء وقد سبَقَهما إلى هذا التقديرِ ابنُ جرير الطبري وقَدَّره الزمخشري فقال: "من الذين استُحِقَّ عليهم انتداب الأَوْلَيَيْن منهم للشهادةِ لاطِّلاعِهم على حقيقةِ الحال"، ومِمَّن ذهبَ إلى ارتفاع "الأَوْلَيَيْنِ " بـ "استُحِقَّ" أبو علي الفارسي ثم منَعه، قال: "لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنما يكون الوصية أو شيئاً منها، وأمَّا الأَوْلَيان ابمليتِ فلا يجوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّا فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما" قلت: إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهر اللفظِ فإنَّ الأَوْلَيَنْن لم يستحقَها أحدٌ كما ذكر، ولكنْ يجوزُ أَنْ يُسْنَدَ "استُحِقَّ" إليهما بتأويلِ حذفِ المضافِ المتقدم. وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حمل الناسَ على إضمار ذلك المضافِ، وتقديرُه الزمخشري بـ "انتداب الأوليين" أحسنث من تقدير غيرِه، فإنَ المعنى يُساعِدُه، وأمَّا إضمارُ "الإثم" فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ.
(6/69)
---(1/2232)
وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ "الأَوْلَيان" بـ "استُحِقَّ" أيضاً، ولكنْ ظاهرُ عبارته أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكال الفارسي المتقدم فاحتالَ في الجواب عنه وهذا نَصُّه، قال ما ملخصُه: إنه "حُمشل "استُحِقَّ" هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله: {اسْتَحَقَّآ إِثْماً} وإنما معناه أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دنيه فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت وكان مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت هذه الحال، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأَمْرِ الأَوْلَيَيْنِ على هذه الجامعة، فبُنِي العفلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعدِّي الفعلِ بـ "على" لَمَّا كان باقتدارِ وحَمْلٍ هَيَّأَتْه الحال، ولا يُقال: استحَقَّ منه أو فيه إلا في الاستحقاقِ الحقيقي على وجههِ، وأمَّا "استحَقَّ عليه" فالبحملِ والغلَبِة والاستحاقِ المستعار" انتهى، فقد أسند "استحق" إلى الأوْليان" من غير تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذَكَر، واحتملتُ طولَ عبارتِه لتتَّضحَ.
(6/70)
---(1/2233)
واعلم أنَّ مرفوعَ "استُحِقَّط في الأوجه المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو إسنادُه إلى "الأَوْلَيان" - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً، واختلفت عباراتُهم، فيه، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري: أنه ضميرُ الإثم، والإثمُ قد تقدَّم في قوله: {اسْتَحَقَّآ إِثْماً} وقال الفارسي والحوفي ايضاً: "استحق هو الإيصاءُ أو الوصيةُ" قالت: إضمارُ الوصية مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضمير المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا في ضرورة، ويونس لا يَخُصُّه بها، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمر لفظَ الوصية لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ. وقال النحاس مستحسناً لإضمرا الإيصاء: "وهذا أحسنُ ما قيل فيه؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ" يعني أنه لا يقولُ إَّ "على" بمعنى "في"، ولا بمعنى "مِنْ" كما قيل بهما، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعرابِ والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال: "فـ "آخران" أي: فشاهدان آخران يَقُومان مقامَهما من الذين استُحِقَّ عليهم أي: [من الذين] استُحِقَّ عليهم الإثمُ، ومعناه: من الذين جُنِي عليهم وهم أهلُ الميتِ وعشيرتُه والأَوْلَان الأَحقَّان بالشهادة لقرابتهما ومعرفِتهما، وارتفاعُهما على: "هما الأَوْلَيان" كأنه قيل: ومَنْ هما؟ فقيل: والأَوْلَيان، وقيل: هما بدلٌ من الضمير في "يَقُومان" أو من "آخران" ويجوزث أَنْ يرتفِعَا بـ "استُحِقَّ" أي: من الذين استُحِقَّ عليهم انتدابُ الأَوْلَيَيْنِ منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال".
(6/71)
---(1/2234)
وقوله {عَلَيْهِمُ}: في "على" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها على بابها، قال ابو البقاءك "كقولك: "وَجَبَ عليه الاثمُ" وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا أَضْمر الإيصاء بَقَّاها على بابهان واستحسن ذلك. والثاني: أنها بمعنى "في" أي: استُحِقَّ فيهم الإثمُ فوقَعَتْ "على" مقوقعَ "في" كما تقعث "في" موقعَها كقوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على جذوعِ، وكقوله:
1832- بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ * يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ
أي: على سَرْحةٍ. وقَدَّره أبو البقاء فقال: "أي استُحِقَّ فيهم الوصية" والثالث: أنها بمعنى "من" أي: استُحِقَّ منهم الإثمُ، ومثلُه قولُه تعالى: {إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ} أي: من الناسِ. وقَدَّره أبو البقاء فقال: "اي استُحِقَّ منهما الأوْلَيان، فحين جَعَلها بمعنى "في" قَدَّر "استُحِقَّ" مسنداً للوصية، وحين جعلها بمعنى "من" قَدَّره مُسْنداً لـ "الأَوْلَيان" وكان لَمَّا ذَكَر القائم مقامَ الفاعلِ لم يذكر إلا ضميرَ الإثم والأوليان. وأجاز بعضُهم أَنْ يُسْندَ "استُحِقَّ" إلى ضميرالمال أي: استُحِقَّ عليهم المالُ الموروث، وهو قريبٌ.
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع "استُحِقَّ خمسةَ أوجه، أحدُها: "الأَوْلَيان"، والثاني: ضميرُ الإيصاء، الثالث: ضيرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قلَه وتقدَّم إشكالُه، والرابع: أنه ضميرُ الإثمِ، الخامس: انه ضميرُ المال، ولم أَرَهم أجازوا أن يكونَ "عليهم" هو القائم الفاعلِ نحو: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً.
(6/72)
---(1/2235)
وأمَّا قراءةُ حفص فـ {الأَوْلَيان} مرفوعٌ بـ "استُحَقَّ" ومفعولُه محذوفٌ، قَدَّره بعضهم "وصيتَهما" وقَدَّره الزمخشري بـ "أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة" فإنه قال: "معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة، ويُظْهروا بها كذبَ الكاذبين" وقال ابنُ عطية: "الأَوْلَيان" رفعٌ بـ "اسَتَحَقَّ" وذلك أن يكون المعنى: من الذين استَحَقَّ عليهم مالهم وتَرَكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي: صَيَّرهما عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها، أو يكونُ المعنى: مِن الذين حَقَّ عليهم أَنْ يكونَ الأَوْلَيان منهم، فاستَحَقَّ بمعنى حَقَّ كاستعجب وعجب، أو يكون استحقَّ بمعنى سعى واستوجب فالمعنى: من القوم الذين حَضَر أَوْلَيان منهم فاستَحَقَّا عليهم أي: استحقا لهم وسَعَيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقُرْبانهما" قال الشيخ - بعد أَنْ حكى عن الزمخشري وأي محمد ما قَدَّمْتُه عنهما -: "وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ تقديرُه: الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان وصيتَهما" قلت: وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قوليَ أبي القاسم وأبي محمد وقد بَيَّنْتُهما ما هما فهو عند الزمخشري قولُه: "أَنْ يُجَرِّدُوهما" وعند ابن عطية هو قولُه: {ما لضهم وتَرِكَتَهم}، فقوله: "وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ" يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً. وممن ذهبَ إلى أن "استَحَقَّ" بمعنى "حَقَّ" المجردِ الواحدي فإنه قال: واستحقَّ هنا بمعنى حَقّ، أي وَجَبَ، والمعنى: فآخران من الذين وَجَبَ عليهم الإيضاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه" وهذا التفسير الذي ذكره الواحد أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ.
(6/73)
---(1/2236)
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ "استُحِقَّ" ضميرُ الإيصاء أو الوصية أو المال أو الإثم حَسْبما تقدَّم، وأمَّا "الأَوَّلين" فجمعُ "أوّل" المقابلِ لـ "آخرِ" وفيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجرورٌ صفةً لـ "الذين". الثاني: أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في "عليهم"، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف، نَقَل هذين الوجهين الأخيرين مكي الرابع: أنه منصوبٌ على المدح، ذكره الزمخشري، قال: "ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها"، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّ بالتقدُّمِ على الأجابِ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخرَان مِنْ غيرِكم أنَّهما من الأجانبِ لا من الكفارِ. وقال الواحدي: "وتقديرُه مِنَ الأَوَّلين الذين استُحِقَّ عليهم الإيصاءُ أو الإثم، وإنما قيل لهم "الأَوَّلين" من حيث كانوا أَوَّلين في الذِّكْرِ، ألا ترى أنه قد تقدَّم: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ} وكذلك {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ذُكِرا في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وكان ابنُ عباس يختارُ هذه القراءةَ ويقول: "أرأيت إن كان الأَوْلَيان صغيرين كيف يَقُومان مقامَهما"؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقامَ الحانثين. ونحا ابن طعية هذا المنحى قال: "معناه من القوم الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهم أي: غُلِبوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي: في الذكر في هذه الآية".
وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان بـ"استَحَقَّ" فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل. قال الزمخشري: و"يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي"، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلان، والمرادُ بهما الاثثان المقتدِّمان في الذكر. وهذه المقراءةُ كقراءةِ حفص، فيُقَدَّر فيها ما ذُكر، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ.
(6/74)
---(1/2237)
وأما قراءة ابن سرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر، لأنه: إمَّا على البدل وإمَّا على الوصف بجمع، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك. وأمَّا قراءة "الأَوْلَيْن" كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم يَعْزُها، قال: "ويُقْرأ "الأَوْلَين" جمعَ الأَوْلَى، وإعرابه كإعراب الأَوْلَين" يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا.
قوله: "فيُقْسِمان" نسقٌ على "يقُومان" والسبيَّةُ فيها ظاهرةٌ. و"لَشهادتُنا أحقُّ": هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: "فيُقْسِمان" و"ذلك أَدْنَى" لامحلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي: ما تقدّم ذكرُه من الأحكام أقربُ إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغيز وقيل المشارُ إليه الحَبْس بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين. و"أَنْ يأتوا" أصلُه إلى أن يأتوا. وقَدَّره أبو البقاء بـ"من" أيضاً، أي: أَدْنَى مَنْ أَنْ يأتُوا. وقَدَّره مكي بالباء أي: بأَنْ يأتُوا، وليسا بواضحين، ثم حَذَف حرفَ الجر فَنَشَأ الخلافُ المشهور. و"على وجهها" متعلقٌ بـ"يأتُوا". وقيل: في محلِّ نصبٍ على الحال منها، وقَدَّره أبو البقاء بـ"محقّقة وصحيحة" وهو تفسيرُ معنى؛ لِما عرفت غير مرة من أنّ الأكوانَ المقيدة لا تُقَدَّر في مثله.
(6/75)
---(1/2238)
قوله: {أَوْ يَخَافُوااْ} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب عطفاً على "يَأْتوا" وفي "أو" على هذا تأويلان، أحدُهما: أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدَّ الأيمان إلى غيرهم فتسقطُ أَيْمانهم. والتأويلُ الآخر: أن تكونَ بمعنى الواو، أي: ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخافوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عباس. الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار "أَنْ" بعد "أو" ومعناها "إلا" كقولهم: "لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي" تقديره: إلاَّ أَنْ تقضِيني، فـ "أو" حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار "أَنْ" وجوباً، و"أَنْ" وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعل قبله، فمعنى: لألزمنَّك أو تقضيَني حقي: ليكوننَّ مني لزومٌ لك أو قضاؤك لحقي، وكذا المعنى هنا أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ وإلاَّ خافوا ردَّ الأَيْمان، كذا قَدَّره ابن عطية بواوٍ قبل "إلا" وهو خلافٌ تقدير النحاة، فإنهم لا يقدِّرون "أو" إلا بلفظ "إلا" وحدها دون واو. وكأن "إلا" في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ "إلا" الاستثنائيةَ، بل أصلُها "إنْ" شرطيةً دَخَلَتْ على "لا" النافية فأُدغمت فيها، فإنه قال: "أو تكون "أو" بمعنى "إلاَّ إنْ"، وهي التي عبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتها. وفيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كونَ "أو" بمعنى الشرط. والثاني: انه بعد أَنء حَكَم عليها بأنها بمعنى "إلاَّ إنْ" جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذَِ فعلُه.
(6/76)
---(1/2239)
و {أَن تُرَدَّ} في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي: أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم. و"بعد أَيْمانهم" إمَّا ظرفٌ لـ "تُرَدَّ" أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ"أَيْمان" وجُمِع الضميرُ في قوله "يَأْتُوا" وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين. وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم، معناه: ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يَحذر الناسُ الخيانة فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} لم يذكرْ معلِّق التقوى: إمَّا للعلمِ به أي: واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصين عليهم بأ، لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ، وإمَّا قصداً لإيقاعِ التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى منه. وكذا مفعولُ "اسمعوا" إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً أي: اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام المتقدم، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ القائلين.
* { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
(6/77)
---(1/2240)
قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ}: في نصبِه أحدَ عشرَ وجهاً، أحدها: أنه منصوبٌ بـ "اتقوا" أي: اتقوا اللَّهَ في يومِ جَمْعِه الرسل قاله الحوفي، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لأنَّ أمرَهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون، إذ ليس بيوم تكليفٍ وابتلاء، ولذلك قال الواحدي: ولم "يُنْصَب اليوم الظرفِ للاتقاء، لأنهم لم يُؤْمَروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول بقه كقوله: {وَاتَّقُواْ يَوْماً} الثاني: أنه منصوب بـ "اتقوا" مضمراً يدل عليه "واتقوا الله" قال الزجاج: "هو محمول على قوله: "واتقوا الله" ثم قال: "يوم يجمع" أي: واتقوا ذلك اليوم"، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاء في الأول على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء في الأول على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء لأنهم لم يُؤْمروا بالاتقاء في ذلك اليوم، ولكن على المفعول به كقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} الثالث: أنه منصوب بإضمار "اذكروا" الرابع: بإضمار "احذروا" الخامس: أنه بدل اشتمال من الجلالة. قال الزمخشري: "يوم يجمع" بدلٌ من المنصوب في "واتقوا الله" وهو من بدلِ الاشتمال كأنه قيل: واتقوا الله يوم جَمْعِه" انتهى، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليس بجيدٍ، لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى أيِّ مذهبٍ فَسَّرناه من مذاهبِ النحويين في الاشتمالَ، والتقديرُ: واتقوا عقابَ الله يومَ يجمعُ رسلَه، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه، أو مانثه مشتملق عليه، أو عاملُها مشتملٌ عليهما على حَسَبِ الخلافِ في تفسيرِ البدلِ الاشتمالي، فقد تبييَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبة إلى الجلالةِ الشريفة. واستعبد الشيخ هذا الوجهَ بطولِ الفصلِ بجملتين، ولا بُعْدَ فإنَّ هاتين الجملتين من تمامِ معنى الجملةِ الأولى. السادسُ: أنَّه منصوبٌ بـ(1/2241)
(6/78)
---
"لا يَهْدي" قال الزمخشري وأبو البقاء. قال الزمخشري: "أي: لا يهديهم طريقَ الجنة يؤومئذ كما يُفْعَلُ بغيرهم". وقال أبو البقاء: "أي: لا يهديهم في ذلك اليومِ إلى حُجَّة أو إلى طريق الجنة".
السابع: أنه مفعولٌ به وناصبُه "اسمعوا" ولا بد من حذف حينئذ لأنَّ الزمان لا يسمع، فقدَّره أبو البقاء: "واسمعوا خبر يوم يجمع" ولم يذكر أبو البقاء غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما. وفي نصبِه بـ"لا يَهْدي" نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحكومَ عليهم بالقسق، وفي تقدير الزمخشري "لايهديهم إلى طريق الجنة" نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه، وأما في دار التكليف فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة. الثامن: أنه منصوبٌ بـ"اسمعوا" قاله الحوفي، وفيه نظرٌ لأنهم ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي. التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكاتَ، قاله الزمخشري. العاشر: قلت: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإعمال، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عواملَ وهي "اتقوا" و"اسمعوا" و"لا يَهْدي"، ويكون من إعمال الأخير لأنه قد حُذِفَ من الأَوَّلِين ولا مانع يمنع من الصناعة، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يزهر نصب "يوم" بشيء من الثلاثة لأنَّ المعنى يأباه، وإنما أجَزْتُ ذلك جرياً على ما قالوه وجَوَّزو، لاسيما أبو البقاء فإنه لم يذكر غيرَ كونِه منصوباً بـ"اسمعوا" أو بـ"لايهدي"،و كذا الحوفي جَوَّز أن ينتصب بـ "اتقوا"(1/2242)
وبـ"اسمعواط
(6/79)
---
الحادي عشر: أنه منصوب بـ"اقولوا: لا علمَ لنا" أي: قال الرسل يوم جمعهم وقول الله لهم ماذا أُجبتم. واختاره الشيخ على جميع ما تقدم، قال: "وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ} وهو وجه حسن.
قوله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فيه أربعةُأقوال، أحُدها: أنَّ "ماذا" بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم. قال الزمشخري: "ماذا أُجِبْتُم" منتصبٌ انتصابَ مصدرِ على معنى: أيَّ إجابة أُجِبْتُم، ولو أُريد الجوابُ لقيل: بماذا أُجبتم" أي: لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل: بماذا. ومِنْ مجيء "ماذا" كلِّه مصدراً قوله:
1833- ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما * لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ رَقَدا
(6/80)
---(1/2243)
الثاني: أن "ما" استفهاميةٌ في محل رفع بالاتداء و"ذا" خبره، وهي موصولةٌ بمعنى الذي لاستكمال الشرطين المذكورين، و"أُجِبْتُم" صلتُها، والعائدُ محذوفٌ أي: ما الذي أُجِبْتم به، فَحَذَف العائدَ، قاله الحوفي. وهذا لايجوزُ، لأنه لا يجوزُ حَذْفُ العائدِ المجرورِ إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائدِ، وأَنْ يَتَّحِد متعلَّقاهما: نحو: "مررتُ بالذي مررت" أي: مررتَ به لم يجز، اللهم إلا أَنْ يُدَّعى حَذْفُه على التدريج بأن يُحَذَفَ حرفُ الجر فيصلَ الفعل إلى الضمير فيحذفَ كقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوااْ} أي: في أحد أوجهه، وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضعيف. الثالث: أنَّ "ما" مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لَمَّا حُذِف بقيت في محل نصب، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه قال: "ماذا" في موضعِ نصبٍ بـ "أُجِبْتُم" وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و"ما" و"ذا" هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ "ما" بمعنى الذي لأنه لا عائدَ هنا، وحذفث العائدِ مع حرفِ الجَرّ ضعيفٌ" قلت: أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المحرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقوله:
1834- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي *.....................
وقوله:
1835- ........................... * وأُخْفي الذي لولا الأَسَى لقَضاني
وقوله:
1836- تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا * ........................
(6/81)
---(1/2244)
وقد تقدَّم تحقيق ذلك واستنثاءُ المطَّرِد منه، فقد فَرَّ من ضعيفٍ ووقع في أضعفَ منه. الرابع: قال ابن عطية" "معناه: ماذا أجابت به الأمم" فَجَعَل "ماذا" كنايةً ع المجابِ به لا المصدرٍ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أَنْ يكونَ مثلَ ما تقدَّم حكايتُه عن الحوفي في جَعْلِه "ما" مبتدأً استفهاميةً، و"ذا" خبره على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيه على ضعفه، ويُحْتمل أن يكون "ماذا" كلُّه بمنزلة اسمِ استفهام في محلِّ رفع بالابتداء، وأُجِبْتُم" خبرُه، والعائدُ محذوفٌ كما قَدَّره هو، وهو أيضاً ضعيفٌ، لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأ وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت: "زيدٌ مررتُ" لم يجز، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ رُجِّح الأول.
والجمهور على "أُجِبْتم" مبيناً للمعفولن وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم، رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة "أَجَبْتم" مبنياً للفاعل والمفعول محذوف أي: مذا أَجَبْتم أممكم حين كَذَّبوكم وآذَوْكم، وفيه توبيخٌ للأمم، وليست في البلاغةِ كالأولى.
(6/82)
---(1/2245)
وقول: {أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} كقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في البقرة. والجمهورُ على رفع "عَلاَّمُ الغيوب" وقرئ بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي: الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم "إنَّ" قال: "وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله إنك "أنت" أي: إنك المصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيره، ثم انتصَبَ "عَلاَّم الغيوب" على الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم "إنَّ" قال الشيخ: "وهو على حَذْفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله "إنك أنت" اي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره" ثم قال: "وقال الزمخشري: ثم انتصب فذكره إلى آخره" فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر لـ"إنك" خبراً محذوفاً، والزمخشري لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقضيه البلاغةُ والذي غاص [عليه أبو القاسم، لا ماقدَّره] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به من عنده. ويعني بالاختصاص النصبَ على المحد لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله "إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم "إنَّ" بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب، والضمير لا يوصف مطلقاً عند البصريين، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإبهامه في قولهم "مررت به المسكينِ" مع إمكان تأويله بالبدل وهو ردٌّ واضح، على أنه يمكن أن يقال أرادَ بالصفةِ البدلَ وهي عبارة سيبويه، يُطْلِقُ الصفة ويريد البدل فله أُسْوَةٌ بإمامه واللازم مشترك، فما كان جواباً عن سيبويه كان جواباً له، ولكن يبْقَى فيه البدلُ بالمشتق وهو اسهلُ من الأول. ولم أَرَهُم خرَّجُوها على لغة مَنْ ينصِبُ الجزأين بـ"إنَّ" وأخواتِها كقوله:
1837- .................. *.......إنَّ حُرَّا سَنا أُسْدا(1/2246)
(6/83)
---
[وقوله]:
1839- ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى * ......................
[وقوله]:
1840- كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا * قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا
ولو قيل به لكان صواباً
و"عَلاَّمُ" مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة؛ لأن إضافَته غيرُ محضة وموصوفَه معرفة. والجمهور على ضمِّ العين من "الغيوب" وهو الأصل، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: "البيوت والجيوب والعيون والشيوخ" وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر {الْبُيُوتَ} وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله تعالى. وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه، وإن أريد به الشيء الغائب، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِيل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح.
* { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيا إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
(6/84)
---(1/2247)
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ}: فيها أوجه، أحدها: أنه بدل من "يوم يجمع" قال الزمخشري: "والمعنى: أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم وسَمَّوهم سحرةً، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن". ولمَّا ذَكَر ابو البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه "قال" بـ"يقول" وأنَّ "إذ" وإنْ كانت للماضي فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ. الثاني: أنه منصوبٌ بـ"اذكر" مقدراً، قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: إذ يقول"، يعين أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقدَّم له في الجوه قبله، وكذا ابن عطية تأوَّله بـ "يقول" فإنه قال: "تقديرُه: اذكر يا محمد إذ" و"قال" هنا بمعنى "يقول" لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} الثالث: أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر، أي: ذلك إذ قال، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ، لأن "إذا" لا يُتَصَرَّف فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعول بها بإضمار "اذكر" وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو: "زيدٌ عندك" فيجوز.
(6/85)
---(1/2248)
قوله: {ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و"ابن" صفة لـ "عيسى" نُصِب لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذكل أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف بـ"ابن" أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها: أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون "ابن" فيُفتح نحو: "يا زيد بن عمرو، ويا هندَ ابنة بكر" بفتح الدال من "زيد" و"هند" وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف "عيسى" فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف: الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه، إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة. وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر، وتبعه أبو البقاء فإنه قال: "يجوز أن يكونَ على الأف من "عيسى" فتحةٌ، لأنه قد وُصِف بـ"ابن" وهو بين عَلَمين، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ، وهو مثلُ قولك: "يا زيد بن عمرو" بتفح الدال وضمها". وهذا الذي قالاه غيرُه بعيدٍ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ: وهو ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو: "يا هؤلاء" فإنهم أجازوا في صفتِه الوجهين: الرفعَ والنصبَ فيقولون: "يسا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ" بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على "هؤلاء" فإنه مفرد معرفة، والنصب على محله، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً، في اللفظ. وقد يُفَرَّقُ بأنَّ "هؤلاء" نحن مضطرون في إلى تقديره تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا.
(6/86)
---(1/2249)
وقال الواحدي في "يا عيسى": ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [لأنه في نية الإضافة، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له، وكل ما كان] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو: "يا زيد بن عمرو" وأنشد:
1841- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ * أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ
سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ
بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا. وقال التبريزي: "الأظهر عندي أنَّ موضع "عيسى" نصب؛ لأنك [تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلم] كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النحاةِ أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصين، كذا قال الشيخ قلت: قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في الضروريات - عند قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}: "عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك: "يا زيدَ بنَ عمرو" وهي اللغة الفاشية، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولك "يا زيدُ بنَ عمرو" والدليل عليه قوله:
1842- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ *.....................
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلى في المضمومِ "انتهى. فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة.
(6/87)
---(1/2250)
وقولي: "المفرد" تحرُّزٌ من المُطَوَّل. وقولي "المعرفة" تحرز من النكرة نحو: "يا رجلاً ابن رجل" إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه. وقولي: "الظاهرَ الضمةِ" تحرُّزٌ من نحو: "يا موسى بن فلان" وكالآية الكريمة. وقولي: بـ"ابن" تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو: "يا زيدُ صاحبَنا" وقولي: "بين علمين أو متفقين لفظاً" تحرُّزٌ من نحو: "يا زيد بن أخينا" وقولي: "غيرَ مفصولٍ" تحرُّزٌ من نحو: "يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو" فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم. وقولي: "أحكام" قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفه خطاً، ومنها: حَذْفُ تنوينه في غير النداء؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه. قولي: "وصفٌ" تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو: "زيدٌ ابنُ عمرو" وهل يجوزُ إتباعُ "ابن" فيُضَّمَ نحو: "يا زيد" بن ُ عمرو" بضم "ابن"؟ فيه خلافٌ.
وفي قوله: {ابْنَ مَرْيَمَ} ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه صفةٌ كما تقدم، والثاني: أنه بدلٌ والثالث: أنه بيانٌ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ إتباعاً إجماعاً، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ.
قوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ} في "إذا" أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بـ "نعمتي" كأنه قيل: اذكرُ إذا أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لكز والثاني: أنه بدلٌ من "نعمتي" بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة. والثالث: أنه حالُ من "نعمتي" قاله أبوالبقاء والرابع: أن يكون مفعولاً به على السِّعة قاله أبو البقاء أيضاًز قلت: هذا ه الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور "أيَّدتك" بتشديد الياء، وغيرهم "آيَدْتُك" وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ.
(6/88)
---(1/2251)
قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} إلى آخرها: تقدَّم ايضاً في آل عمران، وما فائدةُ قوله: {فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها. قرأ ابن عباس: "فتنفخُها" بحذف حرف الجر اتساعاً. والجمهور: "فتكونُ" بالاء منقوطةً فوق، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخ فيه. والضمير في "فيها" قال ابن عطية: "اضطربت فيه أقوال المفسرين" قال مكي: "هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة" قال: "وَيصِحُّ عكس هذا". وقال غير مكي: "الضمير المذكور عائد على الطين". قال ابن عطية: "ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على اليهئة، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك". وقال الزمخشري: "ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلِْه ولا مِنْ نفخِه في شيء، وكذلك الضميرُ في "فتكون". ثم قال ابن عطية: "والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقضيه الآيةُ ضرورةً أي: صوراً أو أشكالاً أو اجساماً، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه بـ "تخلقُ" ثم قال: "ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُق م الطينِ مثلَ هيئِته، ولك أن تعيدَه على الكاف نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر" انتهى. وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش.
(6/89)
---(1/2252)
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه "عائدٌ على الطائر" لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه اليهيئةُ بل الكائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلق من الطين طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً، وأنَّ قوله "عائدٌ على الهيئة" لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفةَ بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُق من الطين هيئة مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي: في الموصوفة بالكافِ التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى. وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مهر على هيئةٍ وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله: "ويجوز عكسُ هذا" يؤدي إلى ذلك" فجوابُه أنه جازَ بالتأويل، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئة فاسقام، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ. وقال هنا "بإذني" أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع جمل، وفي آل عمران "بإذن الله" مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسَب الإسهابَ؛ وقوله: "بإذني" حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول.
(6/90)
---(1/2253)
قوله: {إِلاَّ سِحْرٌ} قرأ الأخوان هنا وفي هود وفي الصف "إلا ساحر" اسم فاعل، والباقون: "إلا سحرٌ" مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتين، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِقِ إلى سحرٌ، ويُحْتمل ان تكونَ الإشارةُ إلى عيسى، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو: "رجلٌ عدلٌ"، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: إلا ذو سحر. وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: "ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي: إنْ هذا إلا ذو سحر". قلت: وهذا جائزٌ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لم يكن في زمنِ عيسى والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد" وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون "ساحر" اسم فاعل والمشارُ إليه "عيسى"، ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم: "عائذاً بكل وعائذاً بالله مِنْ شَرِّها، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإنجيل، ذَكَر ذلك مكي، وتَبِعه أبو البقاء، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى القراءتين - "وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم، غير أَنَّ الاختيار "سحر" لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص، وأمَّا وقوُعه على الحلث فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} وقالوا: "إنما أنت سيرٌ" و"ما أنت إلا سيرٌ"و:
1843- ................... * فإنما هي إقبالٌ وإبارُ
(6/91)
---(1/2254)
قلت: وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو: "رجل عدل" ثم قال: "ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر، وقد جاء فاعِل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو: "عائذاً بالله من شره" أي: عياذاً، ونحو "العافِية" ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها"
* { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوااْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {أَنْ آمِنُواْ}: في "أَنْ" وجهان، أظهرهما: أنها تفسير لأنها ودرت بعدما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: انها مصدرية بتأويل متكلف أي: أَوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإيمان، وهنا قالوا "آمنَّا" ولم يُذْكر المُؤْمَنْ به، وهناك {آمَنَّا بِاللَّهِ} فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذِكْرُ الله تعالى فقط فأُعيدَ المؤمَنْ به فقيل: "بالله" وهنا ذُكِر شيئان قبل ذلك وهما: {أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} فلم يُذْكَر ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ. وهنا "بأنَّنا" وهناك "بأنَّا" بالحذف، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيء هنا بالأصل لأنَّ المُؤْمَنَ به متعدِّدٌ فناسَبَه التأكيد.
(6/92)
---(1/2255)
قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ} قرأ الجمهورُ "يَسْتَطيع" بياء الغيبة "ربك" مرفوعاً بالفاعلية، والكسائي: "تَسْتَطيع" تباء الخطاب لعيسى، و"ربَّك" بالنصب على التعظيم،وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام "هل" في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة، وكانت تقول: "الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك" كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين،وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون: هل تستطيعُ سؤالَ ربك، وقال الفارسي: "وقد يمكن أَنْ يُسْتغنى عن تقدير "سؤالَ" عل أن يكون المعنى: هل تستطيع أن يُنَزَّل ربُّك بدعائك، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ" قال الشيخ: "وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى" واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال:"لأنَّ القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين، وهذه لا تُوهِمُ ذلك". قلت: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين، وهذا هو الحقُّ.
(6/93)
---(1/2256)
قال ابن الأنباري: "لا يجوزُ أحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في قدرة الله تعالى" وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ وكأنه خارقٌ للإجماع. قال ابن عطية: "ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين". وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ هل لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك، كقولِك لآخر: هل تستطيع أن تقومَ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. ومنها: أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ: هل يُنَزَّل أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا. ومنها: أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل: المعنى: هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة: "مثلُ ذلك في الإشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالب في مرض فقال: يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافين. قال: اللهم اشفِ عمي، فقام أبو طالب كأنما نَشط من عِقال. فقال: يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك. قال: وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه، أو: لئن أطعتَ اللّهَ ليطيعَنَّك اي: لَيجيبَنَّك إلى مقصودك. قلت: والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه وسلم للفظِ عَمِّه كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ} وقيل: التقدير: هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم: استجاب وأجاب، قال:
1844- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى * فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ
(6/94)
---(1/2257)
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال: "إنَّ يستطيع زائدةٌ" والمعنى: هل يُنَزَّل ربُّك، لأنه لا يُزال من الأفعال إلا "كان" بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ غيرها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيين يُجيزون زيادةَ بعض الأفعال مطلقاً، حَكَوْا: قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي"، وأنشدوا:
1845- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ * كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وحكى البصريون على وجه الشذوذ: "ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدافأَها" يعنون الدنيا.
قوله {أَن يُنَزِّلَ} في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي: الإنزالَ. وقال أبو البقاء: "والتقدير: على أن ينزَّل، أو في أن ينزَّل، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون "يَسْتطيع" بمعنى "يُطيق". قلت: إنما احتاج إلى تقدير حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإجابة، وأمَّا قولُه أخيراً "إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق" فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهور على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأمَّا في قراءة الكسائي فقالوا: هي في محلِّ نصب على المعفولية بالسؤالِ المقدَّر أي: هل يستطيع أ،ت أن تسألَ ربَّك الإنزالَ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو "ربّك" فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب. وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريين، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك. ويجوز أن يكونَ "أن ينزَّل" بدلاً من "ربك" بدلَ اشتمالٍ، والتقدير: هل تستطيع أي: هل يُطيق إنزالَ الله تعالى مائدةً بسبب دعائك؟ وهو وجهٌ حسن.
(6/95)
---(1/2258)
و"مائدة" مفعول "يُنَزِّلُ" والمائدة: الخِوُان عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال: "والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعام، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ" وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فيه قَدَحٌ، ولا يقال ذَنَوب وسَجْل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب. واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: "هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك، ومنه قوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} ومنه: مَيْدُ البحر" وهو ما يُصيب راكبَه، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام، قال: "وهي فاعِله على الأصل" وقال أبو عبيد: "هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَةُ بمعنى أعطاه، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة" قال: "كعِيشة راضِية" وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعْطِيها، والعربُ تقول: ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني" وقال أبو بكر بن الأنباري: "سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قولِ العرب: مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ:
1846- إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ
أي: المُحْسِنُ لرعيتَّه، وهي فاعِلَة من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعِله على بابها. وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة، قال: "لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها". وقيل: هي من المَيْد وهو الميل، وهذا هو معنى قول الزجاج. قوله: "من السماء" يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "مائدة" أي: مائدةً كائنةً من السماء أي: نازلةً منها.
(6/96)
---(1/2259)
* { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ }
وقرأ الجمهور: {ونَعْلَمَ}: و"نكون" بنون المتكلم مبنياً للفاعل، و قرأ ابن جبير - فيما نقله عنه ابن عطية - "وتُعْلَم" بضم التاء على أنه مبني للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب أي: وتُعْلَمَ قلوبُنا، ونُقل عنه "ونُعْلَم" بالنون مبنياً للمفعول، وقرئ: "يُعْلم" بالياء مبنياً للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: "أَنْ قد صدقتنا" أي: ويُعْلَمَ صِدْقُك لنا، ولا يجوز أن يكونَ الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضمير القلوب لأنه جارٍ مَجْرى المؤنثِ المجازي، ولا يجوزُ تذكيرُ فعلِ ضميرِه. وقرأ الأعمش: و"تَعْلَم" بتاء والفعل مبني للفاعل، وهو ضمير القلوب، ولا يجوزُ أن تكونَ التاءُ للخطاب لفسادِ المعنى، ورُوي: "وتِعْلَم" بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم وقُرئ: و"تَكون" بالتاء والضمير للقلوب.
(6/97)
---(1/2260)
وأَنْ" في "أَنْ قد صَدَقْتَنا" مخففةٌ واسمُها محذوفٌ، و"قد" فاصلةٌ لأنَّ الجملة الواقعة خبراً لها فعليةٌ متصرفةٌ غيرُ دعاءٍ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدم في قوله: {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} و"أن" وما بعده سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول فقد والثاني محذوف. و"عليها" متعلقٌ بمحذوف يَدُلُّ عليه "الشاهدين" ولا يتعلَّقُ بما بعده لأن "أل" لا يَعْمل ما بعدَها فيما قبلَها عند الجمهورِ، ومَنْ يُجيز ذلك يقول: "هو متعلقٌ بالشاهدين، قُدِّم للفواصل". وأجاز الزمخشري أن تكونَ "عليها" حالاً فإنه قال: "أو تكونُ من الشاهدين لله بالواحدنية ولك بالنبوةِ عاكفين عليها، على أن "عليها" في موضع الحال" قلت: قوله "عاكفين" تفسيرُ معنىً؛ لأنه لا يُضْمر في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة، وبهذا الذي قلته لا يَرد عليه ما قاله الشيخ فإنه غاب عليه ذلك، وجعله متناقضاً من حيث إنه لَمَّا علَّقه بـ "عاكفين" كان غير حال؛ لأنه إذا كان حالاً تعلَّق بكون مطلق، ولا أدري ما معنى التناقض ويكف يَتَحَمَّلث عليه إلى هذا الحَدِّ؟
* { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
قوله تعالى:{تَكُونُ لَنَا عِيداً}: في "تكون" ضمير يعود على "مائدة" هو اسمُها، وفي الخبرِ احتمالان، أظهرُهما: أنه عيد، و"لنا" فيه وجهان أحدهما: أنه حال من "عيداط لأنها صفة له في الأصل، والثاني: أنها حال من ضمير "تكون" عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الحال. والوجه الثاني: أنَّ "لنا" هو الخبر، و"عيداً" حال: إمَّا من ضمير "تكونُ" عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا من الضمير في "لنا" لأنه وقعَ خبراً فتحمَّل ضميراً، والجملةُ في محلِ نصبٍ صفةً لمائدة.
(6/98)
---(1/2261)
وقرأ عبد الله: {تَكُنْ} بالجزم على جواب الأمر في قوله: "أَنْزل" قال الزمخشري: "وهما نظير {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} يريد قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} بالرفع صفةً، وبالجزم جواباً، ولكنْ القراءتان هناك متواتران، والجزمُ هنا في الشاذ.
والعيد مشتق من العَوْد لأنه يعود كل سنة، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي. وقال ابن الأنباري: "النحويون يقولون: يوم العيد، لأنه يعود بالفرح والسرور، وعند العرب لأنه يعد بالفرح والحزن، وكل ما عاد إليه في وقت فهو عِيد، حتى قالوا للطَّيْفِ عيد" قال الأعشى:
1847- فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى * إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها
أي: طيفُها، وقال تأبَّط شراً:
1848- يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ *........................
وقال:
1849- عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ *..........................
وقال الراغب: "والعيديُ حالةٌ تعاوِدُ الإنسانَ، والعائدة: كل نفع يرجع إلى الإنسان بشيء، ومنه "العَوْدُ" للبعيرِ المسنِّ: إمَّا لمعاودته السيرَ والعملَ فهو بمعنى فاعِل، وإمَّا لمعاودةِ السنين وإياه ومَرِّها عليه فهو بمعنى مفعول، قال: امرؤ القيس:
1850- على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه * إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا
وصَغَّره على "عُيَيْد" وكَسَّره على "أعياد" وكانَ القياسُ عُوَيْد وأَعْود، لزوالِ موجب قَلْبِ الواوِ ياءً، لأنها إنما قُلِبت لسكونها بعد كسرةٍ كـ "ميزان"، وإنما فَعَلوا ذلك قالوا: فرقاً بينه وبين عودِ الخشب.
(6/99)
---(1/2262)
قوله: {لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه وقعَ صفةً لـ "عيداً" الثاني: أنه بدلٌ من "نا" في "لنا" قال الزمخشري: "لأولنا وآخرنا" بدلٌ من "لنا" بتكرير العاملِ" ثم قال: "وقرأ زيد بن ثابت والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة." وخَصَّص أبو البقاء كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال: "فأمَّا "لأولنا وآخرنا" فإذا جعلت "لنا" خبراً وحالاً من فاعل "تكون" فهو صفةٌ لـ"عيداً"، وإن جعلت "لنا" صفة لـ "عيد" كان "لأولنا" بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ". قلت: إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل "لنا" خبراً كان "عيداً" حالاً، وإن جعله حالاً كان "عيداً" خبراً، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ "لأولنا" بدلاً من "لنا" لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال وإما بالخبر وهو "عيد" بخلافِ ما إذا جُعِل "لنأط صفةً لـ"عيد"، هذا الذي يظهر في تخصيصه ذلك بذلك، ولكن يُقال: قولُه "فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان الأولنا بدلاً" مُشْكل أيضاً، لأنَّ الفصلَ فيه موجودة، لا سيما أنَّ قولَه لا يُحْمل على ظاهره لأنَّ "لنا" ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نظر إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيداً لنا لأوَّلنا، فكأنه لا فصلَ، والظاهرُ جوازُ البدل، والفصلُ بالخبر أو الحال لا يَضُرُّ لأنه من تمامِه فليس بأجنبي.
واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت: "قمتُ زيدٌ" يعني نفسَك، و"ضربتُك عَمْراً" لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيان غالباً، والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم في منعِ وصفِه. وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله:
1851- أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني * حُمَيْداً قد تَذَرَّرْتتُ السِّناما
(6/100)
---(1/2263)
فـ "حُمَيْداً" بدل من ياء اعرفوني، وقولِ الآخر:
1852- وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى * بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق المُدَجَّلِ
وقوله:
1853- بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ * وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وفي الحديث: "أتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين" والبصريون يُؤَوِّلون جميع ذلك، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدم في الوجه الأول، وأما "حُمَيْداً" فمنصوب على الاختصاص، وأمَّا "بمُسْتلئم" فمن باب التجريد وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيان، يعين أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا، وأمَّا "قريش" فالروايةُ بالرفعِ على أنه منادى نُوِّن ضرورةً كقوله:
1854- سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها * وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ
وأمَّا "نفرٌ" فخبر مبتدأ مضمر أي: نحن، ومنع ذلك بعضُهم إلا أَنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً وإحاطةَ شمولٍ فيجوزُ، واستدلَّ بهذه الآية وبقول الآخر:
1855- فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا * ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا
بجر "ثلاثتنا" بدلاً من "نا"، ولا حُجَّة فيه لأنَّ "ثلاثتنا" توكيدٌ جارٍ مَجْرى "كل".
قوله تعالى: {وَآيَةً}: عطف على "عيداً"، و"منك" صفتها. وقرأ اليماني: "وإنَّه" بـ"إنَّ" المشددة، والضمير: إما للعيد وإما للإنزال.
* { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيا أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ }
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: {مُنَزِّلُهَا}: بالتشديد، فقيل: إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمعنى، وقد تقدم تحقيق ذلك. وقيل: التشديد للتكثير، ففي التفسير أنها نَزَلت مراتٍ متعددة، وأما نُنَزِّلُ فقُدِّم تحقيق الخلاف فيه.
(6/101)
---(1/2264)
قوله تعالى: {بَعْدُ}: متعلق بـ "يكفر"، وبُني لقَطْعِه عن الإضافة، إذ الأصل: بعد الإِنزالِ. و"منكم" متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل "يَكْفُرْ" وقوله: {عَذَاباً} فيه وجهان، أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو: "عطاء ونبات" لـ "أعطى" وأنبت"، وانتصابُه على المصدرية بالتقديرين المذكورين. والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً به على السِّعَة، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ أنواع: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتسع فيهما، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ فنحو: "يوم الجمعة صُمتُه"، ومنه قوله:
1856- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً * قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
قال الزمخشري: "ولو أُريد بالعذاب ما يُعَذَّب به لكان لا بد من الباء" قلت: إنما قال ذلك لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّب به كثير، فخاف أن يُتَوهَّم ذلك، وليس لقائلٍ أن يقولَ: كان الأصلُ: بعذاب، ثم حَذَفَ الحرف فانتصب المجرورُ به، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع "أَنْ" بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ.
(6/102)
---(1/2265)
قوله: {لاَّ أُعَذِّبُهُ} الهاءُ فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها عائدة على "عذاب" الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب، التقدير: فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيب أحداً، والجملة في محلِّ نصب صفة لـ "عذاباً" وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره. ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه- أعني عودَها على "عذاباً" المتقدم - قال: "وفيه على هذا وجهان، أحدُهما: على حَذْفَِ حرف الجر، أي: لا أعذب به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة. قلت: أمَّا قوله "حُذِف الحرف" فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني. الثاني من أوجه الهاء: أنها تعود على "مَن" المتقدمة في قوله: {فَمَن يَكْفُرْ} والمعنى: لا أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى. قال أبو البقاء في هذا الوجه: "وفي الكلام حذفٌ أي: لا أعذب الكافر أي: مثل الكافر، أي: مثل عذاب الكافر" الثالث: أنها ضمير المصدر المؤكد نحو: "ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً" ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه فقال: "فإنْ قلت: "لا أعذِّبه" صفةٌ لـ "عذاب" وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصوف شيءٌ. قيل: إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و"عذاباً" نكرةٌ كان الأول داخلاً في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأول وهو مثل: "زيد نعم الرجل" انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكره من أنَّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملةِ الواقعيةِ خبراً لمبتدأ، ولذلك نَظَّره أبو البقاء بـ "زيد نِعْم الرجل" وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه، لأن الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوزفي الجملة الواقعة صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليه في الوجه الثاين؛ فإنَّ الجملة صفة لـ "عذابا" وليس فيها ضميرٌ، فإنْ قيل: ليست هناك بصفةٌ، قيل: يفسد المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقديرِ صحته فلتكنْ(1/2266)
(6/103)
---
هنا أيضاً مستأنفةً. "وأحداً" منصوبٌ على المفعول الصريحِ. و"من العالمين" صفةٌ لـ "أحداً فيتعلَّق بمحذوف.
* { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} هل هذا القولُ وقعَ وانقضَى أو سيقع يومَ القيامة؟ قولان للناس، فقال بعضُم: لَمَّا رفعه إليه قال له ذلك، وعلى هذا فـ "إذ" و"قال" على موضوعهما من المُضِيِّ وهو الظاهر. وقال بعضُهم: سيقولُه له يوم القيامة وعلى هذا فـ "إذا" بمعنى "إذا"، "وقال" بمعنى "يقول" وكونُها بمعنى "إذا" أهونُ من قول أبي عُبيد إنها زائدة؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليست بالسهلة.
(6/104)
---(1/2267)
قوله: {أَأَنتَ قُلتَ} دَخَلَتِ الهمزةُ على المبتدأ فائدةٍ ذكرها أهل البيان وهو: أن الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ / في نسبته إلى شخص أُولي الاسمُ المشكوكُ في نسبة الفعل إليه للهمزة فيقال: "أأنت ضرب زيداً" فَضَرْبُ زيدٍ قد صدر في الوجود وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطب، وإنْ شُكَّ في اصل وقوع الفعل أُولِي الفعلُ للهمزة فيقال: "أضربْتَ زيداً" لم تَقْطَعْ بوقوعِ الضرب بل شَكَكْتَ فيه، والحاصل: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوك فيه، جئنا إلى الآية الكريمة فالاستفهامُ فيها يُراد به التقريعُ والتوبيخُ بغيرِ عيسى عليه السلام وهم المتَّخذون له ولأمة الهين، دَخَل على المبتدأ لهذا المعنى الذي قد ذكرته، لأن الاتخاذَ قد وقع لا بد. واللام في "للناس" للتبليغ فقط، و"اتخذوني" يجوز أن تكون بمعنى "صَيَّر" فتتعدَّى لاثنين ثانيهما "إلهين" وأن تكونَ المتعدية لواحد فـ "إلهين" حالٌ. و"من دون الله" فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلقٌ بالاتخاذ وأجاز أبو البقاء - وبه بدأ - أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"آلهين".
(6/105)
---(1/2268)
قوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهاً، وتقدَّم الكلامُ عليه في البقرة مشبعاً، ومتعَّقُه هنا محذوفٌ فقدَّره الزمخشري: سبحانك من أن يكونَ لك شريكٌ" وقَدَّره ابن عطية: "عن أَنْ يُقال هذا وينطق به" ورجَّحه الشيخ لقوله بعد: {مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أَقُولَ} قوله: {أَنْ أَقُول} في محلِّ رفع لأنه اسمُ "يكون"، والخبرُ في الجار قبله، أي: ما ينبغي لي قولُ كذا. و"ما" يجوزُ أن تكونَ موصولةً أن نكرةً موصوفة. والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لهان أو صفةٌ فمحلُّها النصبُ، فإنّ "ما" منصوبةٌ بـ "اقول" نصبَ المفعول به لأنها متضمنةٌ لجملة فهو نظيرُ "قلت كلاماً"، وعلى هذا فلا يُحتاج أن يُؤَوَّ "أقول" بمعنى أَدَّعِي أو أذكر، كما فعله أبو البقاء. وفي "ليس" ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمُها، وفي خبرِها وجهان، أحدهما: أنه "لي" أي: ما ليس مستقراً ليس وثابتاً، وأمَّا "بحق" على هذا ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين، احدُهما أنه حالٌ من الضمير في "لي" قال: والثاني: أن يكونَ مفعولاً به تقديره: ما ليسَ يَثْبُتُ لس بسببِ حق، فالباءُ متعلقةٌ بالفعلِ المحذوف لا بنفسِ الجارِّر، لأنَّ المعاني لا تعمل في المفعول به". قلت: وهذا ليس بجيدٍ لأنه قَدَّر متعلَّق الخبر كوناً مقيداً ثم حَذَفه وأبقى معموله. الوجه الثالث: أنَّ قوله "بحق" متعلقٌ بقوله: "عَلِمْتَه" ويكون الوقف على هذا التقديرم والتأخير، وهذا لاينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منع من ذلك أنَّ معمولَ الشرطِ أو جوابِه لا يتقدَّم على أداة الشرط لا سيما المرويُّ عن الأئمة القُرَّاء الوقفُ على "بحق" "يَبْتدئون بـ"إنْ كنت قلتُه" وهذا مَرِويٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [فوجَبَ اتِّباعه] والوجهُ الثاني في خبرِ "ليس" أنه "بحق"، وعلى هذا ففي "لي" ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه "يتبين" كما في قولهم: "سُقْياً له" أي: فيتعلَّقُ بمحذوف، والثاني: أنه حال من "بحق" لأنه(1/2269)
(6/106)
---
لو تأخَّر لكانَ صفةً له، قال أبو البقاء: "وهذا يُخَرَّج على قولِ مَنْ يجوِّزُ تقديمَ حالِ المجرور عليه" قلت: قد تقدم لك خلافُ الناسِ فيه وما أوردوه من الشواهدِ، وفيه أيضاً تقديمُ الحال على عامِلها المعنوي: فإنَّ "بحق" هو العاملُ إذ "ليس" لا يجوز أن تعملَ في شيء، وإنْ قلنا: إنَّ "كان" أختها قد تعمل لأن "ليس" لا حدَثَ لها بالإجماع. والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ "حق" لأنَّ الباءَ زائدةٌ، وحَقّ بمعنى مُسْتحق أي: ما ليس مستحِقَّاً لي.
قوله: {إِن كُنتُ}: "كنت" وإن كانت ماضية اللفظ فيه مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لِما ذُكر، وقَدَّره الفارسي بقوله: "إن أكن الآن قلتُه فيما مضى" لأنَّ الشرطَ والجزاء لايقعان إلا في المستقبل" وقولُه: {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} أي: فقد تبيَّن وظهرَ عِلمُك به كقوله: {فَصَدَقَتْ} و {فَكَذَبَتْ} و {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
(6/107)
---(1/2270)
}. قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما قَدَّمْتُه يستدعي سَبْقَ جهل، او يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً وموجَداً على حقيقتِه لا يَخْفَى عليك منه شيءٌ، وأمَّا: "ولا أعلم" فيه وإنْ كان يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، إلا أنها لَمَّا صارَتْ مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكونَ مثلَها، والمرادُ بالنفسِ هنا على ما قاله الزجاج "انها تُطْلَقُ ويُراد بها حيققةُ الشي، والمعنى في قوله {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} إلى آخره واضحٌ، وقال: "المعنى: تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أُظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكرالنفس مقابلةً وازداجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشري فإنه قال: "تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معومَك" وأتى بقوله: {مَا فِي نَفْسِكَ} على جهةِ المقابلةِ والتشاكلِ لقوله: {مَا فِي نَفْسِي } فهو كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} وكقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ
}.
* { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي}: هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ "ما" منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حَيِّزها في تأويل مقول. وقَدَّر وقَدَّر ابو البقاء القولَ بمعنى الذكرِ والتأديةِ. و"ما" يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً.
(6/108)
---(1/2271)
قوله: {أَنِ اعْبُدُواْ} في "أَنْ" سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في "به" والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتَني بأن اعبدوا، وهذا الوجهُ سيأتي عليه اعتراض. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار "أعني"، أي: إنه فَسَّر ذلك المأمورَ به. والثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ "به" ي "ما أمرتني به" لن محلِّ المجرور نصب. والرابع: أن موضوعَها رفعٌ على إضمار متبدأ وهو قيربٌ في المعنى من النصب على البدلِ الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به، السادس: أنها بدلٌ من "ما" نفسِها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا. السابع: أنَّ "أَنْ" تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي. وممن ذهب إلى جوز أَنَّ "أَنْ" بدلٌ مِنْ "ما" فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مِن الهاء فتكونُ مجرورتَه أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضاً أن تكونَ تفسيريةَ لا محلَّ لها. وهذا الأوجهُ قد منع بعضَها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من "ما" أو من الهاء في "به". قال - رحمه الله -: "أنْ" في قوله: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} إنْ جَعَلْتَها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجهَ له: أما فعل الأمر فمستنِدٌ إلى ضمير الله عز وجيل، فلو فِسَّرْتَه بـ "اعبدوا الله ربي وربكم" لم يتقسم لأن الله لا يقول: "اعبدوا الله ربي وربكم، وإنْ جَعَلْتَها بدلاً لم يخلُ مِنْ أَنْ تجعلَها بدلاً من "ما" في "ما أمرتني به" أو من الهاء في "به" وكلاهُما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدلَ هوا لذي يقوم مقامَ المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أَنِ اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادتَه لأنَّ العبادةَ لا تقال، وكذلك لو جَعَلْتَها بدلاً من الهاء، لأنك لو أَقَمْتَ "أن اعبدوا"(1/2272)
(6/109)
---
مُقامَ الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلتِه، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى "ما قلت لهم إلاما أمرتني به": ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيمَ تفسيره بـ "أن اعبدوا الله ربي وربكم"، ويجوزُ أن تكونَ "أَنْ" موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً.
وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال: "أمَّا قولَه "وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله: "لأنَّ الله لا يقول اعبدوا اله ربي وربكم" فإنما لم يستقمْ لأنه جَعَل الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر، ويستقيم أن يكونَ فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله: "اعبدوا الله" ويكون "ربي وربكم" من كلام عيسى على إضمار "أعني" أي: "أعني ربي وركم"، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عندَه، وأمَّا قوله: "لأنّ العبادة لا تُقال" فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مصاف أي ما قلت هم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ عبادة الله أي: القولَ المتضمن عبادة الله، وأمَّا قوله "لبقي الموصول بغير اجع إليه من صلته "فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه، "ألا ترى إلى تجويز النحويين:"زيد مررت به أبي عبدِ الله" ولو قلت: "زيدٌ مررت بأبي عبد الله" لم يجز إلا على راي الأخفش. وأما قوله "عطفاً على بيان الهاء" ففيه بُعْد، لأن عطفَ ابيان أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجَوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد "إلا"، وكلُّ ما كان بعد "إلا" المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكونَ له موضعٌ من الإعراب، و"أن" التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب". انتهى.
(6/110)
---(1/2273)
قلت: أمَّا قوله: "إنّ ربي وربكم من كلام عيسى" ففي غاية ما يكون من البُعْد عن الأفهام، وكيف يَفْهم ذلك الزمشخري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ "ربي" تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدٌّ من قولهم "يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه" فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ "اعبدوا الله" من كلام الله تعالى و"ربي وربكم" من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ لـ"أمرتَ" المسند للباري تعالى. وأمَّا قولُه "يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف" ففيه بعض جودة، وأما قوله: "إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم" واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلِّم، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز "جاء الذي مررت به أبي عبد الله" بجرِّ "عبد الله" بدلاً من الهاء، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل: "لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ محل المبدل منه" فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم، ولولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله: "وكلُّ ما كان بعد "إلا" المستثنى به إلى آخره" فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في "أَنْ" الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} في البقرة. و"ربي" نعت أو بدل أو باين مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسةٌ أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها.
(6/111)
---(1/2274)
قوله: {شَهِيداً} خبر "كان" و"عليهم" متعلق به، و"ما" مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و"دام" صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإقامةَ، ويكون "فيهم" متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يُحْتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون "فيهم" في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدةَ دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: "دِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف. قوله: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ} يجوز في "أنت" أن تكون فصلاً وأن تكونَ تأكيداً. وقرئ "الرقيب بالرفع على أنه خبر لـ "أنت" والجملةُ خبرٌ "لـ كان"، كقوله:
1857- ..................... *وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ أَقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاقُ {الرقيب} و"عليهم" متعلِّق به. و‘?? ???? O??" ?E????? EU "O??I" ??I??? ???C??E.
* { ??? E??????E????? ??????????? ??E?CI??? ????? E?U????? ?????? ????????? ???E? C????????? C????????? }
(6/112)
---(1/2275)
???? E?C??: {????????? ???E? C????????? C?????????}: E?I??? ?U???? ??? ?? ??C?E? C??C? ???C????? "C?????? C?????" ??? C????? CE? ????I - ???? E?C ??C?E -: "C?U???? C?????"? ??I ?EE E?? ???? ?C ???? ??C?? C???E E??? C?A?E? ??C?: "???C ?C? C???C?E ?C ?? ???? CE? ????I" ?I???? ???? ???? C????? ?E??? EC?O???? ????C?? ??????? ??C ?C ?C?? ?E? E?? E? C???EC??? ??? ????? ??? C???C?E ?? E?? C??C???? E? ?C?: "??E? ????? ?C ?C?? ??C C??C?? ?????? ???C?? ???? ????I "C?U??? C?????" EC?O?? C?EC?? ??C ???? ?? EC?O?? C???? E??????? ??? ??? ?C ???? C??? ???? ?C ???? ??? ??C?E? C??????? ????? EC?O???? ?????C: ?????C ?AI???C? ?? E?I???: ??? E??E?? ???E C????? C?????? ??? EU??? ??? ???E? C?????? C????? ?? C?????? ?????C ?? C?E???E ?C?U??C?? ?????? "C????? C?????" ????? E??C C???C? ?????? ???? ???? C?O????? ??? ?????? "C?U??? C?????" ???? ??E?? ?? C????? ?C C?E??? "C????? C?????" ??E: "???C??? ??? I?E?? ???? ??? ?C ???I E???? "??? ????? EC?O???? ??? AI??" ??? ??CE? ???C ??C?E?? ????? ??? ?C?I? ?? ??E C???C?E? C???E?E? ???? C???? ?I ?I? ??CE?? ??? "????? ?ECI??" ??? ??CE? ??CE??? ????? C??EI? ?CE? ??????? ??I?? ??? OC?? ????C ???I E??? ??? ?E??? E??C ?? ??E C?????. ??I ??E? C??C?? ?? C???C? ??? ??? C?A?E E?C ?C ??E??? ??C C??????? ????C E??????E? ?E????C ???????? EC???C?E C?OC?E ?C???? C?OC?.
* { قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
(6/113)
---(1/2276)
قوله تعالى: {يَوْمُ يَنفَعُ}: الجمهور على رفعه من غير تنوين، ونافع على نصبه من غير تنوين، ونقل الزمخشري عن الأعمش "يوماً" بنصبه منوناً، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: "يوم " برفعه منوناً، فهذه أربع قراءات. فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول. وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ "هذا" مبتدأ، و"يوم" خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافتِه إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا النباء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماض، وعليه قولُ النابغة:
1858- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا * فقلتُ: أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ وازعُ
وخَرَّجوا هذه القراءة على أن "يوم" منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي: واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى، منهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ "هذا" منصوبٌ بـ"قال" وأُشير به إلى المصدر فنصبُه على المصدر، وقيل: بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري فين صبه خلافٌ: هل هو منصوبٌ نصبَ المفعول به أو نصبَ المصارد؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو: "قلت شهراًوخبطة" جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير فـ "يوم" منصوبٌ على الظرف بـ"قال" أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبرَ في وقتِ نفع الصادقين، و"ينفع" في محلِّ خفضٍ بالإضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل، وأنه أحد ثلاثةِ أشايء، وأمَّا قراءةُ التنوين فرفعُه على الخبرية كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محصل الوصفِ لما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرَةُ قوله تعالى: {يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} فيكونُ محلُّ هذه الجملةُ إما رفعاً أو نصباً.
(6/114)
---(1/2277)
قوله: {صِدْقُهُمْ} وهذه قراءة العامة، وقُرئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله، أي: ينفعهم لأجلِ صِدْقِهم، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فتَ شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يولَ: "يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأجل صدفهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل" لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاط حرف الجر أي: بصدقِهم، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف الحرفَ لا يطَّرد. الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في "الصادقين" أي: الذين صَدَقوا صدقهمن مبالغةً نحو: "صَدَقْت القتال" كأنك وَعَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبءه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: "صَدَق الصدقَ" وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ "ينفع" ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} معناه الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ.
عَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبءه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: "صَدَق الصدقَ" وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ "ينفع" ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} معناه الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ.(1/2278)
سورة الأنعام
* { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
(6/115)
قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ}: "جعل" هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق، هكذا عبارة النحويين، ظاهرها أنهما مترادفان. إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال: "الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و[في] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً، أو نقلِه من كان إلى مكان، ومن ذلك: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار" انتهى. وقال الطبري: "جَعَل" هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا، فكأنه: "وجعل إظلامَها وإنارتَها" وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان ولكونها عند أبي القاسم ليست بمعنى "خلق" فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد.
(6/116)
---(1/2279)
ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله: {وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً} فقال: "وما ذَكَره من أنَّ "جَعَل" بمعنى صَيَّر في قوله: {وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَة} لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى" قلت: ليس المرادُ بالتصيير بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله- مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السموات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشريز وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلة التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السموات وإفراد الأرض. وقُدِّمت "الظلمات" في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور.
قوله: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} "ثم" هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله "الحمد لله" وإما على قوله: "خلق السموات" قال الزمخشري: "فإن قلت: فما معنى "ثم"؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم" وقال ابن عطية: "ثم" دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره".
(6/117)
---(1/2280)
قال الشيخ: "ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح، لأنها لم تُوضَعْ لذلك، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من "ثم"، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل "ثم" هنا للمُهْلة نم الزمان، وهي عاطفةٌ جملةً اسميةعلى جملة اسمية". يعني على "الحمد لله". ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على "خَلَق" بأنَّ "خَلَق" صلة، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول. ثم قال: "إلا أن يكون على رأي مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم: أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخدري" وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله". قلت: الزمخشري إنما يريد العطف بـ"ثم" لتراخي ما بين الرتبتين،ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟
قوله: {بِرَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلَّق بـ"كفروا" فيكون "يُعْدِلون" بمعنى يَميلون عنه، من العُدول، ولا معفولَ له حينئذ، ويجوز أن يتعلَّ بـ"يعدِلون" وقُدِّم للفواصل، وفي الباء حينئذ احتمالان، أحدهما: ان تكون بمعنى عن، و"يَعْدِلون" من العُدول وأيضاً، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين، أي: ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفاً.
* { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }
(6/118)
---(1/2281)
قوله تعالى: {مِّن طِينٍ}: فيه وجها، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بـ"خَلَقكم" و"مِنْ" لابتداء الغاية. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف: ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ، وأن الإنسان مخلوقٌ من الطين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة نم تراب حفرته". وقيل: إن النطقة أصلها الطين. وقال غالب المفسرين: ثمَّ محذوفٌ أي: خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقصته المشهورة. وقال امرؤ القيس:
1859- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي * وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي
قالوا: أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه.
قوله: {ثُمَّ قَضَى} إن كان "قضى" بمعنى أظهر فـ "ثُمَّ" للترتيب الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى كَتَب وقَدَّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات، وذلك مُقَدَّم على خَلْقنا.
قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأ وخبر، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان، أحدهما: وَصْفُه، والثاني: عَطْفُه، ومجرَّدُ العطف من المسوغات، قال:
1860- عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي * فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
والتنكير في الأجلين للإبهام. وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله:
1861- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له * بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ
(6/119)
---(1/2282)
ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري: لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ" المعرفةَ، قال الشيخ: "وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لايتعيَّن، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ، ثم أنشد البيت: إذا ما بكى" قلت: الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات.
قال الزمخشري: "فإن قلت: الكلامُ السائرُ أن يُقال: "عندي ثوب جيِّدٌ، ولي عبدٌ كيِّس" فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأيُّ أجل مسمَّى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم". قال الشيخ: وهذا لا يجوزُ؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجل مسمى عنده كانت "أيّ" صفةً لموصوف محذوف تقديره: وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت "أيَّاً" ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت: مررت بأيِّ رجل، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ" قلت: ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر، بل قال: معناه كيت وكيت، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ "أيّ" وإبقاؤها كقوله:
1862- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ * عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ
(6/120)
---(1/2283)
قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} قد تقدَّم الكلامُ على "ثم" هذه. وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات، أعني قوله: "خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون" يعني أن قوله {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} عائبٌ، فالتفت عنه إلى قوله: خلقكم ثم أنتم". ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك. وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم. قال: "وإنما جَعَلْتُه من الالتفات؛ لأن هذا الخكابَ وهو {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اطصفاه الله بالنبوَّة والإيمان".
وأصل مُسَمَّى: مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً، ثم الياء ألفاً. وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ.
* { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }
(6/121)
---(1/2284)
قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ}: في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن "هو" فيه قولان، أحدهما: هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني: أنه ضمير القصة، قال أبو عليّ. قال الشيخ: "وإنما فَرَّ إلى هذا لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير: الله الله، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومنى لا نسبةَ بينهما إسنادية" قلت: الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفات الجليلة وهي خَلْقُ السموات والأرض، وجَعْلُ الظلمات والنور، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها، فصار في الإخبار بذلك، فائدةٌ من غير شك، فعلى قول الجمهور يكون "هو" مبتدأ و"الله" خبره، و"في السموات متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل: وهو المعبود في السموات، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري.
(6/122)
---(1/2285)
قال الزمخشري: "في السموات" متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: وهو المعبود فيها - ومنه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَاهٌ} - أو هو المعروف بالإلهيَّة والمتوحِّد بالإلهيَّة فيها، أو هو الذي يقال له "الله" لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره". قلت: إنما قال: "أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله" لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف: هل هو مشتق أو لا؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به، وإن كان ليس بمشتق: فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، وعلى كلا التقديرين في يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة، فقوله "المعبود راجع للاشتقاق، وقوله "المعروف" راجع لكون عَلَماً منقولاً، وقوله "المعروف" راجع إلى كونه مرتجلاً، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور. والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي، قال: "وإذا جَعَلْتَ الظرف متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإله، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل" فكأن الزمخشري- والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبِسَطه. إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق "في" باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغير الذي دخله كالعلمَ، ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً.
(6/123)
---(1/2286)
وقال الزجاجُ: "هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك "أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب". قال ابن عطية: "هذا عنيد أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ، وحزالة المعنى. وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذها لصفات، فَجَمع هذه كلِّها في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ} أي: الذي له هذه كلُّها في السموات وفي الأرض، كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السموت والأرض، كما تقول: "زيد السلطان في الشام والعراق" فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً، فإذ كان مقصدُ قولك: [زيد] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات، كذلك في الآية الكريمة أقمت "الله" مقام تلك الصفات".
قال الشيخ: "ما ذكره الزجاج، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن "في السموات" متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها، وإن كان "في السموات" متعلقاً بجميعها من حيث المعتى، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ "الله" لِما تضمَّنه من معنى الألوهية، وإن كان عَلماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله:
1863- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ
فـ "بعضَ" نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور". قلت: قوله "لو صُرِّح بها لم تعمل" ممنوعٌ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال: "فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها" يعني أنه اسنتصربه فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية.
(6/124)
---(1/2287)
الوجه الثاني: أن "في السموات" معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى، فقدَّرها بعضهم، وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو الله المدبِّر، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها، فمنها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي المعاندون، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النحاس: "وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام تمَّ عند قوله: {وَهُوَ اللَّهُ} والمجرور متعلِّقٌ بمفعول "يَعْلَم" وهو "سِرَّكم وجَهْرَكم" [أي:] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما" وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة، ويتعلق الظرف بنفس "يعلم" وهذا ظاهر، و"يعلم" على هذين الوجهين مستأنف.
الوجه الخامس: أن الكلام تمَّ عند قوله {فِي السَّمَاوَاتِ} فيتعلق {فِي السَّمَاوَاتِ} باسم الله، على ما تقدَّم، ويتعلَّق "في الأرض" بـ"يعلم". وهو قول الطبري قال أبو البقاء "وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السموات وفي الأرض، ويعلم ما في السموات وما في الأرض، فلا تنخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين" وهو رَدٌّ جميل.
الوجه السادس: أنَّ "في السموات" متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من "سرَّكم" ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلق بـ "يَكْسِبون" وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ لأن "ما" موصولة اسمية أو حرفية، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السموات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله "في السموات" وعلَّق "في الأرض" بـ "يَكْسِبون" لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ.
(6/125)
---(1/2288)
الثامن: أن "الله" خبر أول، و"في السموات" خبر ثان. قال الزمخشري: "على معنى: أنَّه الله وأنه في السموات وفي الأرض، وعلى معنى: أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء، كأنه ذاته فيهما" قال الشيخ: " وهذا ضعيفٌ لأن المجرور بـ"في" لا يدل على كون مقيد، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق" وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً.
التاسع: أن يكون "هو" مبتدأ و"الله" بدل منه، و"يَعْلَمُ" خبره، و"في السموات" على ما تقدَّم.
العاشر: أن يكون "الله" بدلاً أيضاً، و"في السموات" الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري.
الحادي عشر: أن "هو" ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء، والجلالة مبتدأ ثان، وخبرها "في السموات" بالمعنى المتقدَّم أو "يَعْلَمُ" والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له.
وأمَّا "يَعْلَمُ" فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً، فلا محل [له]، أو في محل رفع خبراً، أو في محل نصب على الحال، و"سِرَّكم وجهرَكم": يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل. وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم، واستدل بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ولا دليلَ [فيه] لأنه يجوز أن تكون "ما" مصدرية. و"ما" في "ما تكسبون" يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي.
* { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }
(6/126)
---(1/2289)
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ}: الفاء هنا للتعقيب، يعني أن الإعراض عن الآيات أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: "فقد كذَّبوا" مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو اعظمُ آيةٍ وأكبرها". قال الشيخ: "ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام"، وقوله "بالحق" من إقامة الظاهر مُقام المضمر، إذ الأصل: فقد كذَّبوا بها، أي بالآية. والأنباء جمع نبأ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار. وفي الكلام حذف، أي يأتيهم مضمون الأنباء. و"به" متعلق بخبر "كانوا" و"لمَّا" حرفُ وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه "كَذَّبوا".
"وما يجوز أن تكون موصولة اسمية، والضمير في "به" عائدٌ عليها، ويجوز أن تكونَ مصدرية، قال ابن عطية، أي أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها لأنها حرفية، بل يعود على الحق، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم عنده.
* { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }
قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا}: يجوز في "كم" أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره. والرؤيةُ هنا عِلْميَّة، ويَضْعُفُ كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْميَّةً فـ"كم" وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد.
(6/127)
---(1/2290)
و"كم" يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها "أَهْلَكْنا" و"مِنْ قَرْنٍ" على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا، أي إهلاكاً، و"مِنْ قرن" على هذا صفةٌ لمفعول "أَهْلَكْنا" أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع، و"مِنْ" تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي: "من" الثانية بدل من "مِنْ" الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ، ويجوز أن تكون "كم" عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء: "تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها" وجعل أبو البقاء على هذا الوجه "من قرن" هو المفعول به و"مِنْ" مزيدة فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت: ["كم أزماناً ضربتُ رجلاً، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً" لم يكن مدلولُ رجل رجالاً]، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [موضعَ زيادة "مِنْ" لأنها لا تُزاد في الاستفهام]، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ. [انتهى. والجواب عمَّا قاله: لا نُسَلِّم ذلك].
قوله: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} في موضع جر صفةً لـ"قَرْن" وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ "مِنْ قرن" تمييز لـ"كم" فـ "كم" هي المحدِّث عنها بالإهلاك، فيه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: مكَّنَّاهم، وجعله هو الظاهر. وفي نظر، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق.
(6/128)
---(1/2291)
والفرق بين قوله {لأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} [وقوله]: "ما لم نمكِّن لكم" أنَّ "مَكَّنه في كذا": أَثْبته فيها، ومنه: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} ومثله: "أَرَضَ له" أي جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري. وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال: "وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثرُ تعديتُه باللام: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} وقال أبو عبيدة: "مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم: لغتان فصيحتان نحو: نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له". [قلت: وبهذا قال] أبو علي والجرجاني.
قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} في "ما" هذه خمسة أوجه، أحدها: أن تكون موصولةً بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكِّن لكم، والعائد محذوف أي: الذي لم نمكَّنه لكم. الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره: تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم، ذكرهما الحوفي. وردَّ الشيخ الأول بأن "ما" بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن كان "الذي يقع صفة لها، ولو قلت: "ضرب الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ" تريد الضربَ الذي ضربه زيد، لم يجز، فإن قلت: "الضرب الذي ضربه زيد" جاز. ورَدَّ الثاني بأن "ما" لانكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها، لو قلت: "قمت ما وضربت ما" وأنت تعني: قمت قياماً ما، وضرباً ما، لم يجز".
(6/129)
---(1/2292)
الثالث: أن تكون مفعولاً بها لـ"مَكَّن" على المعنى، لأن معنى مكَّنَّاهم: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ: "هذا تضمينٌ، والتضمين لا ينقاس" الرابع: أن تكون "ما" مصدريةً، والزمان محذوف، أي: مدةَ ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مدة انتفاء التمكين لكم. الخامس: أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعئد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنْه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير: "وهذا أقرب إلى الصواب" قلت: ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول: مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لم.
والضمير في "يروا" قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في "لكم" راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية: "والمخاطبة في "لكم" هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة، كأنه قيل: ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال: يا محمد قل لهم: ألم يروا كم أهلكنا الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب". انتهى ومثاله: "قلت لزيدك ما أكرمك، أو ما أكرمه".
والقَرْن: لفظ يقع على معانٍ كثيرة، فالقرن: الأمَّة من الناس، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: "خيرُ القرون قرني". وقال الشاعر:
1864- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ * أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
وقال قس بن ساعدة:
1865- في الذاهبين الأوَّلِيـ *ـنَ من القرون لنا بصائِرْ
(6/130)
---(1/2293)
وقيل: أصله الارتفاع، ومنه قَرْنُ الثور وغيره، فَسُمُّوا بذلك الارتفاع السنِّ. وقيل: لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين، ويُطلق على المائدة من الزمان أيضاً.
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك. وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة غالباً. وقال ابن عطية: "القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فجعله معنى، وليس بواضح. وقيل: القرن: الناس المجتمعون، قلَّت السنون أو كَثُرت، واستدلوا بقوله عليه السلام: "خيرُ القرونِ قَرْني" وبقوله:
1866- في الذاهبين الأوَّليـ *ـنَ من القرون لنا بصائرْ
وبقوله:
1867- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ * وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع. ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة، واستدلوا له بقوله عليه السلام: "يعيش قرناً" فعاش مائة سنة. وقيل: مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون نقله صالح عن ابن عباس: وقيل: سبعون قاله الفراء. وقيل: ستون لقوله عليه السلام: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين" وقيل: أربعون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل وثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. وقيل: عشرون، وهو رأي الحسن البصري. وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: هو المقدار الوسط من أعمال أهل ذلك الزمان، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربعمئة سنة وثلثمئة وألفاً وأكثر وأقل.
(6/131)(1/2294)
---
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أهلاً، أي: أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه، مجاز في الناس، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه.
قوله: {مَّدْرَاراً} حال من "السماء" إن أريد بها السحابُ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً، وإن أريد به الماء فكذلك. ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث "في أثر سماء كانت من الليل" ويقولون: ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، ومنه:
1868- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ * رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي: رَعَيْنا ما ينشأ عنه. وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي: مطر السماء، ويكون "مدراراً" حالاً منه. ومدرار مِفْعال وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث. قالوا: وأصله مِن "دَرِّ اللبن" وهو كثرةُ ورودِه على الحالبِ ومنه: "لا درَّ درُّه" في الدعاء عليه بقلة الخير. وفي المثل: "سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه" وهي مثلُ قولهم: "سبقَ سيلُه مَطَرَه". واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل، قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت.
قوله: {تَجْرِي} إنْ جعلنا "جَعَلَ" تصييرية كان "تجري" مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً. و"من تحتهم" يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلقاً بـ"تجري"، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه، وأن يكون حالاً: إمَّا من فاعل "تجري" أو من "الأنهار" وأن يكون مفعولاً ثانياً لـ"جعلنا"، و"تجري" على هذا حال من الضمير في الجار، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون "من تحتهم" حالاً من "الأنهار" كما تقدَّم، و"تجري" حال من الضمير المسكنِّ فيه، وفيه الضعف المتقدم.
(6/132)
---(1/2295)
قوله: {مِن بَعْدِهِمْ} متعلق بـ "أنشأنا" قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون حالاً من "قرن" لأنه ظرف زمان" يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازث كونه صفةً له، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} و"آخرين" صفة لـ"قَرْن" لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط، فلذلك اعتُبر معناه، ومن قال: إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي: أهل قرن آخرين، وقد قَدَّمْتُ أنَّه مرجوح.
* { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {فِي قِرْطَاسٍ}: يجوز أن يتعلق بمحذوف على انه صفة لكتاب، سواء أريد بكتاب المصدرُ أم الشيء المكتوب. ويجوز أن يتعلَّق بنفس "كتاباً" سواء أريد به المصدر أم الشيء المكتوب. ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله:
1869- ............... صحيفةً * أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
وفي النفس مِنْ جَعْلِ "كتاباً" في الآية الكريمة مصدراً شيء؛ لأن نفس الكتاب لا تُوصف بالإنزال إلا بتجوُّز بعيد، ولكنهم قد قالوه هنا، ويجوز أن يتعلَّق "في قرطاس" بـ"نَزَّلْنا".
والقِرْطاس: الصحيفة يُكتب فيها تكون من رَقَّ وكاغد، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضم شاذاً نقله أبو البقاء والقِرْطاس: اسم أعجمي معرَّب، ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طِرْس وكاغَد، وقال زهير:
1870- لها أخاديدُ مِنْ آثارِ ساكنها * كما تردَّدَ في قِرْطاسِه القلمُ
(6/133)
---(1/2296)
قوله: {فَلَمَسُوهُ} الضمير المنصوب يجوز أن يعود على القِرْطاس، وان يعود على "كتاب" بمعنى مكتوب. و"بأيديهم" متعلق بـ"لَمَسَ". والباء للاستعانة كعملت بالقَدُوم. و"لقال" جواب لو، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام.
قوله: {إِنْ هَاذَآ} "إنْ" نافية، و"هذا" مبتدأ، و"إلا سحرٌ" خبره فهو استثناء مفرغ، والجملةُ المنفيَّة في محل نصب بالقول، وأوقع الظاهرَ موقع المضمر في قوله "لقال الذين كفروا" شهادةً عليهم" بالكفر. والجملة الامتناعية لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها.
* { وَقَالُواْ لَوْلاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ }
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاا}: الظاهر أن هذه الجملة مستأنفة سِيْقَتْ للإخبرا عنهم بفرط تعنُّتِهم وتصلُّبهم في كفرهم. قيل: ويجوز أن تكون معطوفةً على جواب "لو" أي: لو نَزَّلْنا عليك كتاباً لقالو كذا، ولقالوا: لولا أُنْزِل عليه مَلَك. وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف اللام من المثبت. وفيه بُعْدٌ؛ لأن قولهم "لولا أُنْزل" ليس مترتباً على قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا} و"لولا" هنا تحضيضية. والضمير في "عليه" الظاهر عودُه على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس، والمعنى: لولا أُنْزل على الكتاب مَلَك لشهد بصحته، كما يُرْوى في القصة أنه قيل: له لن نؤمن حتى تعرجَ فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، وهذا يَظْهر على رأي مَنْ يقول: إن الجملة من قوله: {وقالوا: لولا أُنْزل} معطوفةٌ على جواب لو، فإنه يتعلق به من حيث المعنى حينئذ.
* { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }
(6/134)
---(1/2297)
قوله تعالى: {مَّا يَلْبِسُونَ}: في "ما" قولان، أحدهما: أنها موصولة بمعنى الذي أي: ولَخَلَطْنَا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم، قاله أبو البقاء وتكون "ما" حينئذ مفعولاً بها. الثاني: أنها مصدرية أي: ولَلَبَسْنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم. وقرأ ابن محيصن: "ولَبَسْنا" بلام واحدة هي فاء الفعل، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاءً بها في المعطوف عليه. وقرأ الزُّهري "ولَلَبَّسْنا" بلامين وتشديد الفعل على التكثير.
* { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ}: قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بكسر الذال على أصل التقاء الساكنين، والباقون بالضم على الإتباع، ولم يبالَ بالساككن لأنه حاجزٌ غيرُ حصين، وقد قرَّرْتُ هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} و"برسلٍ" متعلق بـ"استهزئ". و"مِنْ قبلك" صفة لرسل، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع "من قبل" صلة.
قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ} فاعل حاق: "ما كانوا" و"ما" يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد الهاء في "به" و"به" يتعلق بـ"يستهزئون" و"يستهزئون" خبر لـ "كان"، و"منهم" متعلق بسخروا، على أنَّ الضمير يعدو على الرسل، قال تعالى: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: "سِخِرْت به، ويجوز أن يتعلَّق "منهم" يعدو على الساخرين. وقال أبو البقاء: "على المستهزئين" وقال الحوفي: "على أُمَمِ الرسل".
(6/135)
---(1/2298)
وقد رَدَّ الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور وجوابُه أنه في قورة المكذور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين، فلا حاجةَ إلى هذه الحال لأنها مفهومةٌ من قوله "سخروا" وجوَّازوا أن تكون "ما" مصدرية، ذكره الشيخ، ولم يتعرَّض للضمير في "به" والذي يظهر أنه يعود على الرسل الذي يتضمَّنه الجمع، فكأنه قيل: فحاق بهم عاقبةُ استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل، وأمَّا على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على "ما" مصدرية لأنها اسم عندهما.
وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يَحِيق، كباع يبيع، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان. وزعم بعضم أنه من الحَوْق، وهو المستدير بالشيء، وبعضهم أنه من الحقّ، فأُبْدِلت إحدى القافين ياءً كتظنَّنْتُ، وهذان ليسا بشيء، أمَّا الأول فلاختلاف المادة إلى أن يريدوا الاشتقاق الأكبر، وأما الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل. ومعنى حاق أحاط، وقيل: عاد عليه وبالُ مَكْرِه، قال الفراء. وقيل: دار، والمعنى يدور على الإحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر. قال الشاعر:
1871- فأوطأ جُرْدُ الخيلِ عُقْرَ ديارهمْ *وحاقَ بهم من بأس ضَبَّةَ حائقُ
(6/136)
---(1/2299)
وقال الراغب: "قيل وأصله حَقَّ، فقلب نحو: زلَّ وزال، وقد قرئ: "فأزلَّهما وأزلَهما" وعلى هذا ذمَّة وذامه" وقال الأزهري: "جعل أبو إسحاق" "حاق" بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحَوْق وهو ما استدار بالكَمَرَة" قال: "وجائز أن يكون الحَوْق فعلاً من حاق يحيق، كأنه في الأصل: حُيق، فقلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها" وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل "ما كانوا"؟ نقل الواحدي عن أكثر المفسرين ذلك أي: عقوبة ما كانوا، أو جزاء ما كانوا، ثم قال: "وهذا إذا جعلت "ما" عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإن جعلْتَ "ما" عبارة عن العذاب الذي كان صلى الله عليه وسلم يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فحاق بهم العذابُ الذي يستهزئون به وينكرونه.
والسُّخْرِيَّة: الاستهزاء والتهكم، يقال: سَخِر منه وبه، ولا يقال إلا استهزاءً به فلا يتعدَّى بـ"مِنْ" وقال الراغب: "سَخَرْتُهُ إذا سَخَّرْتَه للهُزْء منه، يقال: رجل سُخَرَة بفتح الخاء إذا كان يَسْخَر من غيره، وسُخْرة بسكونها إذا كان يُسْخر منه، ومثله: ضُحَكة وضُحْكة، ولا ينقاس. وقوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} يحتمل أن يكون التسخير، وأن يكون من السُّخْرية". وقد قرئ سُخرياً وسِخرياً بضمِّ السين وكسرها. وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى.
* { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }
(6/137)
---(1/2300)
قوله تعالى: {ثُمَّ انْظُرُواْ}: عطف على "سيروا" ولم يجئ في القرآن العطفُ في مثل هذا الموضع إلا بالفاء، وهنا جاء بـ"ثم" فيحتاج إلى فرق، فذكر الزمخشري الفرق وهو: أَنْ جَعَل النظر مسبِّباً عن السير في قوله: {انْظُرُواْ} كأنه قيل: "سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سيرَ الغافلين" وهنا معناه إباحةُ السَّيْر في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه على ذلك بـ"ثم" لتباعد ما بين الواجب "والمباح".
قال الشيخ: "وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السير، فكان السير سبباً للنظر، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجلِ النظر، فجعل السيرَ معلولاً بالنظر، والنظرُ سببٌ له فتناقضا، ودعوى أن الفاء سببية دعوى لا دليلَ عليها، وإنما معناها التعقيب فقط، وأمَّا:"زنى ماعِزٌ فَرُجم" ففَهْمُ السببية من إباحة وفي غيره سيرَ إيجاب؟ قلت: هذا اعتراضٌ صحيح إلا قولَه"إن الفاء لا تقيد السببية" فإنه غير مُرْضٍ، ودليلُه في غير هذا الموضوع. ومثل هذا المكان في كون الزمخشري جعل شيئاً علة ثم جعله معلولاً ما سيأتي إن شاء الله في أول الفتح ويأتي هناك جوابه.
(6/138)
---(1/2301)
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} "كيف" خبر مقدَّم و"عاقبة" اسمها، ولم يُؤَنَّثْ فعلُها لأن تأنيث غير حقيقي، ولأنها بتأويل المآل والمنتهى، فإنَّ العاقبة مصدرٌ على وزن فاعِله، وهو محفوظ في ألفاظ تقدَّم ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يصير إليه. والعاقبة إذا أُطْلِقَتْ اختصت بالثواب. قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّواءَى} {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} فصَحَّ أن تكون استعارة مِنْ ضدِّه كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} و"كيف" معلِّقة للنظر فيه في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ معناه هنا التفكُّر والتدبُّر.
* { قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوااْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ}: "لمَنْ" خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ "مَنْ" استفهامية والمبتدأ "ما" وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن استقر الذي في السموات. وقوله: {قُل للَّهِ} قيل: إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك، وقيل: لمَّا سألهم كأنهم قالوا: لمن هو؟ فقال الله: قل لله، ذكره الجرجاني. فعلى هذا قوله: "قل لله" جواب للسؤال المضمر الصارد من جهة الجرجاني. فعلى هذا قوله: {قُل للَّهِ} جواب للسؤال الضمر الصادر من جهة الكفار، وهذا بعيدٌ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك. وقوله "لله" خبر مبتدأ محذوف، أي هو أو ذلك لله.
(6/139)
---(1/2302)
قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ} أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى. وقيل: معناه القسم، وعلى هذا فقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله "الرحمة" قال الزجاج: "إن الجملة من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} في محل النصب على أنها بدل من "الرحمة"، لأن فَسَّر قوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بأنه أملهكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة. وقد ذكر الفراء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله "الرحمة" أو أن "ليجمعنكم" بدلٌ منها فقال: "إن شتئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها "ليجمعنكم" وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} قلت: واستشهاده بهذه الآية حسن جداً.
(6/140)
---(1/2303)
ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإيجاب قال: "وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم". ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر. وهو صحيح، وردَّ كونَ "ليجمعنَّكم" بدلاً من الرحمة بوجه آخر، وهو أنَّ "ليجمعنَّكم" جوابُ قسمٍ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإعراب، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإعراب". قلت: وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما واللام لام القسم. فهي جواب "كتب" لأنه بمعنى: أوجب ذلك على نفسه، ففيه معنى القسم، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي، وذلك أنهم جعلوا "ليجمعنَّكم" بدلاً من "الرحمة"، يعني هي وقسيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ، فكأنهم قالوا: وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملة الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور. وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛لأنه نصَّ على أنه جوابٌ لـ"كَتَبَ" فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا. والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله "الرحمة، وقوله "ليجمعنَّكم" جواب قسم محذوف، اي: والله ليجمعنكم، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإعراب، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى.
وإلى على بابها أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي بمعنى اللام كقوله: {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ} وقيل: بمعنى "في" أي: ليجمعنَّكم في يوم القيامة. وقيل: هي زائدة أي: ليجمعنكم يوم القيامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوى إليهم} بفتح الواو أنه ضروةَ هنا إلى ذلك.
(6/141)
---(1/2304)
قوله:{لاَ رَيْبَ فِيهِ} والجملة حال من "يوم"، والضمير في "فيه" يعود على اليوم، وقيل: يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر.
قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوااْ} فيه ستة أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ بإضمار "أذمُّ" وقدَّره الزمخشري بـ أريد، وليس بظاهر. الثاني: أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط، قاله الزجاج كأنه قيل: مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن. الثالث: أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين. الرابع: أنه بدل من ضمير المخاطب، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش جوازه، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها. وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز: "مررت بك زيدٍ" وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو: مررت بك زيدٍ. ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال: "ما في الآية مخالفٌ للمثال؛لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، فإذا قلت: "مررت بك زيدٍ" فلا فائدة في الثاني، وقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال "الذين" من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب، وخُصُّوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل".
(6/142)
---(1/2305)
قال الشيخ: "هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا "ليجمعنَّكم" صالحاً لخطاب جميع الناس كان "الذين" بدل بعض، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ، تقديره: خسروا أنفسهم منهم. وقوله "فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد" وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل، فتناقض أول كلامه مع آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا". قلت: ما أبعدَه عن التناقض، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط، نصَّ أهل العلم على ذلك، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام، وفي المعنى ليس مالمارد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد: "اقتلوا المشركين بن فلان" مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ، ولكنَّ المراد به بنو فلان، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً. وقوله "فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره" هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتة، وهذا مقرر في علم أصول الفقه.
السادس: أنه مرفوع على الذمِّ، قاله الزمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول: "نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ، أي: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم خسروا أنفسهم" انتهى. قلت: إنما قَدَّر المبتدأ "أنتم" ليرتبط مع قوله "ليجمعنَّكم" وقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} من مراعاة الموصول، ولو قال: {خَسِرُوااْ أَنْفُسَهُمْ} مراعاةً للخطاب لجاز، تقول: أنت الذي قعد، وإن شئت: قَعَدْت.
* { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(6/143)
---(1/2306)
قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ}: جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان، أظهرهما: أنها استئناف إخبار بذلك. والثاني: أنها في محل نصب نسقاً على قوله "لله" أي على الجملة المحكية بـ قل أي: قل: هو لله وقل: له ما سكن. و"ما" موصولة بمعنى الذي، ولا يجوز غيرُ / ذلك. و"سَكَنْ" قيل: معناه ثبت واستقر، ولم يذكر الزمخشري غيره. وقيل: هو مِنْ سَكَن مقابل تَحَرَّك، فعلى الأول لا حَذْفَ في الآية الكريمة، قال الزمخشري: "وتَعَدِّيه بـ في كما في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ أَنفُسَهُمْ} ورجَّح هذا التفسير ابن عطية. وعلى الثاني اختلفوا، فمنهم مَنْ قال: لا بد من محذوفٍ لفهم المعنى، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفاً فقال: تقديره: وله ما سكن وما تحرك، كقوله في موضع آخر: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد، وحَذْفُ المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد:
1872- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها * إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا
1873- فما كان بين الخيرِ لو جاء سالماً * أبو حُجُرٍ إلا ليلٍ قلائلُ
يريد: رجلها ويدها، وبين الخير وبيني. ومنهم مَنْ قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كل متحرك قد يُسَكَّن. وقيل: لأن المتحرك أقلُّ والساكن أكثر، فلذلك أوثر بالذكر.
* { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيا أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }
(6/144)
---(1/2307)
قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ}: مفعول أول لـ "أتَّخِذُ" و "وليَّاً" مفعولٌ ثاني، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى: وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الموليّ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً وهو مستحقٌّ للإكرام: "أزيداً أهنت"، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً. وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} ومثله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّيا أَعْبُدُ} {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} وهو كثير. ويجوز أن يكون "أتخذ" متعدياً لواحد فيكون "غيرَ" منصوباً على الحال من "وليَّاً" لأنه في الأصل صفة له، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ وجهَه. والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو "وليَّاً"، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته، بل يُراد به الإنكار، فكأنه قيل: لا أتَّخذ ولياً غير الله، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه، لكن ذلك جائز، وإن كان قليلاً ومنه:
1874- وما ليّ آل أحمدَ شيعةٌ * وما لي إلا مَشْعبَ الحقِ مَشْعَبُ
(6/145)
---(1/2308)
وقرأ الجمهور "فاطر" بالجر، وفيها تخريجان، أحدهما - وبه قال الزمخشري والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة بـ "غير"، ولا يَضُرُّ الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية، إذ هي عاملة في عامل الموصوف. والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله، وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفا، فإن قيل: هذا لازمٌ له في البدل، فإنه فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً. فيقال: إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ؛ لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ آخرَ: وهو أنَّ "فاطر" اسم فاعل، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإضافة، ولا يقال: الله فاطر السموات والأرض فيما مضى، فلا يُراد حال ولا استقبال قطعاً، ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وتخريجه سهل، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف. وخَرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير المبتدأ فإنه ضمير الأول أي: هو فاطر: وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أنه بدل من "وليَّاً" قال: "والمعنى على هذا أجعلُ فاطر السموات والأرض غيرَ الله" كذا قدَّر وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الثاني مفعولاً أول، فالتقدير عكسُ التركيب الأصلي. والثاني: أنه صفةٌ لـ "وليَّاً" قال: "ويجوز أن يكون صفة لـ "وليَّاً" والتنوينُ مرادٌ" قلت: يعني بقوله: "التنوين مراد" أن اسم الفاعل عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا
(6/146)
---(1/2309)
}. وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى: أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر السموات إلى آخره، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السموات. وقرأ الزهري: "فَطَرَ" على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان "فاطر" صفتها في قراءة الجمهور. ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة لـ "ولياً. ولا يجوز أن تكون صفةً للجلالة، لأن الجملة نكرة.
والفَطْر: الشَّقُّ مطلقاً، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي عند ابتدائه. والفَطْر: الإبداع والاتخاذ على غير مثال، ومنه "فاطر السموات" أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى. وعن ابن عباس: "ما كنت أدري ما معنى فَطَر وفاطِر، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: "أنا وانفطر انفطاراً وفَطَرْتُ الشاة: حَلَبْتُها بأصبعين، وفَطَرْت العجين: خبزته مِنْ وقته، وقوله تعالى: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته، ففطرةُ الله ام رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وعليه: "كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة..." الحديث، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير "فطرة الله" في الكتاب والسنة.
قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، والضمير لله تعالى، والمعنى: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق، وهو موافقٌ لقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه: "ولا يَطْعَمُ" بفتح الياء بمعنى ولا يأكل، والضمير لله تعالى.
(6/147)
---(1/2310)
وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني: ولا يُطْعِم، بضم الياء وكسر العين كالأول، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في "يطعم" - عائدان على الله تعالى، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ. وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون. "وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم" ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على عكس القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط، أي: وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه.
وقرأ الأشهب: {وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم} ببنائهما للفاعل. وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة -: "وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم". وحتى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت، ونحوه: أَفَدْت، ويجوز أن يكون المعنى: وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك: هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر" قلت: [هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة، وقراءةُ الأشهب هي] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء، لا تخالُفَ بينهما، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءاتن متعايرتان وليس كذلك.
وقرئ شاذاً: {يَطْعَم} بفتح الياء والعين، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي: وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال: "والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله. فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل: وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف، وهو تسمية فظيعة، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى.
(6/148)
---(1/2311)
قوله: {مَنْ أَسْلَمَ} "مَنْ" يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ جمع، أي: أول فريق أسلم، وأن تكون موصولة أي: أول الفريق الذي أسلم. وأفرد الضمير في "اسلم" إمَّا باعتبار لفظ "فريق" المقدَّر، وإمَّا باعتبار لفظ "مَنْ" وقد تقدَّم الكلام على "أول" وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة.
قوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ} فيه تأويلان، أحدهما على إضمار القول أي: وقيل لي: لا تكونَنَّ، قال أبو البقاء: "ولو كان معطوفاً على ما قله لفظاً لقال: و"أنْ لا أكون" وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال: "ولا تكونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ ومعناه: وأُمرت بالإسلام ونُهيت عن الشرك" والثاني: أنه معطوف على معمول "قل" حملاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي: كن أولَ مَنْ أسلم ولا تكونن من المشركين [فهما] جميعاً محملان على القول، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. وقيل]: هو عطف على "قل" أُمِرَ بأن يقول كذا ونهى عن كذا.
* { قُلْ إِنِّيا أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
قوله تعالى: {إِنْ عَصَيْتُ}: شرط حُذِفَ جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان، أحدهما: أنه معترضٌ بين الفعل وهو "أخاف" وبين مفعوله وهو "عذاب". والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال. قال الشيخ: "كأنه قيل: إني أخاف عاصياً ربِّي" وفيه نظرٌ، إذ المعنى يأباه. و"أخاف" وما في حَيِّزه. خبر لـ "إنَّ" وما في حيزها في محل نصب بـ "قل".
* { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ }
(6/149)
---(1/2312)
قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ}: "مَنْ" شرطية، ومحلُّها يحتمل الرفع والنصب كما سيأتي بيانه بعد ذِكْر القراءتين فنقول: قرأ الأخوان وأبو بكر عن عاصم: "يَصْرِف" بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل. والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله.
فأمَّا القراءة الأولى فـ "مَنْ" فيها تحتمل الرفع والنصب: فالرفع من وجه واحد وهو الابتداء، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما، على حسب الخلاف، وفي مفعول "يَصْرِف" حينئذ احتمالان، أحدهما: أنه مذكور وهو "يومئذ"، ولا بد من حذف مضاف أي: يَصْرِف الله عنه هَوْل يؤمئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه، فالضمير في "يَصْرِف" يعود على الله تعالى، ويدلُّ عليه قارءة أُبَيّ بن كعب "مَنْ يَصْرِف اللَّهُ" بالتصريح به. والضميران في "عنه" و"رَحِمَة" لـ "مَنْ" والثاني: أنه محذوف لدلالة ما ذكر عليه قبل ذلك أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذابَ. و"يومئذ" منصوبٌ على الظرف. وقال مكي: "ولا يَحْسُن أن تقدَّرَ هاءً؛ لأن الهاء إنما تُحْذف من الصلات". قلت: يعني أنه لا يُقَدَّرُ المفعولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفةٌ لـ "عذاب" والعائد منها محذوف، لكنَّ الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة، وهذا معنى قول الواحدي أيضاً، إلا أنَّ قولَ مكيّ "إنما يُحْذف من الصلات" يريد في الأحسن، وإلاَّ فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال، ولكنه دون الصلة.
(6/150)
---(1/2313)
والنصب من وجهين أحدهما: أنه مفعول مقدَّمٌ لـ "يَصْرِف" والضمير في "عنه" على هذا يتعيَّن عَوْدُه على العذاب المتقدم، والتقدير: أيَّ شخص يَصْرِف اللَّهُ عن العذاب. والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز، يفسره هذا الظاهر من معناه لا من لفظه، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِفِ الله. والضمير في "عنه" للشرطية. وأمَّا مفعول "يَصْرِفْ" على هذا فيحتمل الوجهين المتقدمين، أعني كونه مذكوراً وهو "يومئذ" على حذفِ مضاف، أو محذوفاً اختصاراً.
وأمَّا القراءة الثانية فـ "مَنْ" تحتمل وجهين، أحدهما: أنها في محل رفعٍ بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم، والفاعل المحذوف هو الله تعالى، يدلُّ عليه قراءة أبي المتقدمة، وفي القائمِ مَقامَه أربعةُ أوجه، أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في "عنه" يعود على "مَنْ" فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب بـ "يُصْرَف" الثاني: أنه منصوب بالعذاب أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء، ويلزم منه إعمال المصدر مضمراً، وقد يقال: يُعْتفر ذلك في الظروف. الثالث: قال أبو البقاء: "إنه حال من الضمير" قلت: يعني الضمير الذي قام مقام الفاعل، وجاز وقوعُ الحال ظرف زمان لأنها عن معنًى لا عن جثة.
(6/151)
---(1/2314)
الثاني من الأوجه الأربعة: أن القائم الفاعل ضمير "مَنْ" والضمير في "عنه" يعود على العذاب، والظرف منصوب: إمَّا بـ "يُصْرف"، وإمَّا على الحال من هاء "عنه". والثالث من أوجه العامل في "يومئذ" متعذَّر هنا وهو واضح، والتقدير: أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب. الثالث: أن القائم مقام الفاعل "يومئذ" إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ، وإمَّا على حذف مضاف أي: من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ، وإمَّا على قيام الظرف دون مضاف كقولك: "سير يوم الجمعة" وإنما بُني "يومئذ" على الفتح لإ ضافة إلى غير متمكن، ولو قرئ بالرفع لكان جائزاً في الكلام، وقد قرئ: {ومِنْ خزي يؤمئذ} فتحاً وجراً بلاعتبارين، وهما اعتباران متعايران، فإن قيل: يلزمُ على عدمت تقدير حذف المضاف إقامةُ الظرف غير التام مقامَ الفاعل، وقد نصُّوا على أن الظرف المقطوع عن الإضافة لا يُخبر به ولا يقوم مقام فاعل، لو قلت: "ضُرب قبلُ" لم يجز، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة فلا يجوز قيامه مقام / الفاعل إلى على حذف مضاف، فالجواب أن هذا في قوة الظرف المضاف، إذ التنوين عوضٌ عنه، وهذا ينتهض على رأي الجمهور، أما الأخفش فلا، لأن التنوين عنده تنوين صَرْفٍ والكسر كسر إعراب، وقد أوضحت ذلك إيضاحاً شافياً في غير هذا الموضوع.
الرابع: أن القائم مَقامَه "عنه" والضمير في "عنه" يعود على "مَنْ" و"يومئذ" منصوب على الظرف، والعامل فيه "يُصْرَفْ" ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نصبَه على الحال؛ لأنَّ الضميرَ للجُثَّة، والزمانُ لا يقع حالاً عنهما كما لا يقع خبراً، وأعني كونَه معمولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعل.
(6/152)
---(1/2315)
والثاني من وجهي "مَنْ": أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، وهذا إذا جعلنا "عنه" في محل نصب بأَنْ يُجْعَلَ القائم مقام الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب وإمَّا "يومئذ" والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ أو من يُنَجِّ يُصْرف عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره: "زيدٌ مُرَّ به مرورٌ حسن"، أقمت المصدر فبقي "عنه" منصوب المحل، والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مرورٌ حسن. وأمَّا إذا جُعل "عنه" قائماً مقام الفاعل تعيَّن رَفْعُه بالابتداء.
واعلم أنه متى قلت: منصوب على الاشتغال فإنما يُقَدَّر بعد "مَنْ" لأنَّ لها صدر الكلام، ولذلك لم أُظْهِره إلا مؤخراً، ولهذه العلَّةِ منه بعضهم الاشتغالَ فيما له صدر الكلام كالاستفهام والشرط. والتنوين في "يومئذ" عوض عن جملة محذوفة تضمَّنها الكلام السابق، التقدير: يوم إذ يكون الجزاء، وإنما قلت كذلك لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عوضاً منها، وقد تقدَّم خلاف الأخفش.
وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان: الاستئناف والوصف لـ "عذاب يوم"، فحيث جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم إمَّا مِنْ "يُصْرف" وإمَّا مِنْ "عنه" جاز أن تكونَ صفةً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً، وحيث لم نجعلْ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تَعَيَّن أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكون صفةً لخلوِّها من الضمير.
(6/153)
---(1/2316)
وقد تكلَّم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى، وذلك على عادتهم، فقال أبو علي الفارسي: "قراءة "يَصْرِفْ" يعني المبنيَّ للفاعل أحسن لمناسبة قوله "رحمه". يعني أن كلاً منهما مبني للفاعل ولم يقل "فقط رُحِم". واختارها أبو حاتم وأبو عبيد، ورجَّح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: {ليس مصروفاً عنهم} يعني في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى ضمير العذاب المذكور أولاً. ورجَّحها محمد بن جرير بأنها أقلُّ إضماراً ومكي - رحمه الله - تلعثهم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين وأتى بأمثلةٍ فاسدةٍ في كتاب "الهداية" له، قاله ابن عطية. وقد قدَّمْتُ أول الكتاب عن العلماء ثعلب وغيره أن ذلك - أعني ترجيحَ إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ الأخرى - ولا يجوز. والجملة من قوله: {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} في محل جزم على جواب الشرط، والفاء واجبة.
قوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ} مبتدأ وخبر جيء بهذه الجملة مقرِّره لما تقدَّم من مضمون الجملةِ قبلها، والإشارة بـ "ذلك" إلى المصدر المفهوم من قوله "يُصْرف" أي ذلك الصرف. و"المبين" يحتمل أن يكون متعدِّياً فيكون المفعول محذوفاً أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّم أن "أبان" يكون قاصراً بمعنى ظهر، ومتعدياً بمعنى أظهر.
* { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }
(6/154)
---(1/2317)
قوله تعالى: {بِضُرٍّ}: الباء هنا للتعدية وكذا في "بخير" والمعنى: وإن يمسك الله الضرَّ أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مست الضر مَسَّك، إلا أنَّ التعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة جداً، ومنه قولهم: صَكَكْتُ أحد الحجرين بالآخر. وقال الشيخ: "ومنها قوله: "ومنها قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وقال الواحدي: "إن قيل: إنَّ المسَّ من صفة الأجسام فكيف قال: وإن يمسَسْك الله؟ فالجواب أن الباء للتعدية والباء للتعدية والباء والألف يتعاقبان في التعدية، والمعنى: إن أَمَسَّك الله ضراً أي: جعله ماسَّك فالفعل للضرّ وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كقولك: "ذهب زيد بعمرو" وكان الذهاب فعلاً لعمرو، غير أنَّ زيداً هو المسبب له والحامل عليه، كذلك ههنا المسُّ للضرِّ والله تعالى جعله ماسَّاً.
قوله: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} "له": خبر لا، وثَمَّ محذوف تقديره: فلا كاشفَ له عنك، وهذا المحذوفُ ليس متعلقاً بـ "كاشف" إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه بل يتعلق بمحذوف أي: أعني عنه.
و"إلا هو" فيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من محل "لاكاشف" فإن محله الرفع على الابتداء، والثاني: أنه بدل من الضمير المستكنِّ في الخبر، ولا يجوز أن "يرتفع باسم الفاعل وهو "كاشف" لأنه يصير مطولاً ومتى كان مطوَّلاً أُعْرب نصباً، وكذلك لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضمير المستكنِّ في "كاشف" للعلة المتقدمة، إذ البدل يحلُّ محل المبدل منه.
(6/155)
---(1/2318)
فإن قيل: المقابل للخير في الشر فكيف عَدَلَ عن لفظ الشر؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدها فأتى في جانب الشر بأخص منه وهو الضرُّ، وفي جانب بالعام الذي هو الخير تغليباً لهذا الجانب. قال ابن عطية: "ناب الضرُّ هنا مناب الشرُّ وإن كان الشر أعمَّ منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن [قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وصيغ الكلام] أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقةً أو مضاهاة، فمن ذلك: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} فجاء بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس:
1875- كأنّيَ لم أركبْ جواداً لِلَّذةٍ * ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخال
ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ * لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفالِ
ولم يوضح ابن عطية ذلك. وإيضاحه في آية طه اشتراك الجوع والعري في شيء خاص وهو الخلوُّ، فالجوع خلوٌّ وفراغ في الباطن، والعريُّ خلوٌّ وفراغ في الظاهر، واشتراك الظمأ والضحى في الاحتراق، فالظمأ احتراق في الباطن ولذلك تقول: "بَرَّد الماء حرارة كبدي وأوام عطشي"، والضحى: احتراق الظاهر. وأمَّا البيتان فالجماع بين الركوب للَّذة وهو الصيد وتبطُّن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والقهر والاقتناص والظفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى تسميتهم هَنَ المرأة "رَكَباً" بفتح الراء والكاف وهو فَعَل بمعنى مَفْعول كقوله:
1876- إنَّ لها لَرَكَباً إرْزَبَّا * كأنه جبهةُ ذَرَّى حَبَّا
(6/156)
---(1/2319)
وأما البيت الثاني فالجامعُ بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل، فشراء الخمر بَذْل المال، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح. وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضرِّ على مسِّ الخير لمناسبة اتصال مسِّ الضر بما قبله من الترهيب المدلول عليه بقوله: إن أخاف. وجاء جواب الشرط الأول بالحصر إشارةً إلى استقلاله بكشف الضر دون غيره، وجاء الثاني بقوله {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} إشارةً إلى قدرته الباهرة فيندرجُ فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنه لو قيل: إن جواب الثاني محذوف لكان وجهاً أي: وإنْ يَمْسَكْ فلا رادَّ لفضله للتصريح بمثله في موضع آخرَ.
* { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
قوله : {فَوْقَ}: فيه أوجه أظهرها: أنه منصوب باسم الفاعل قبله. والفوقيَّةُ هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة. والثاني: أنه مرفوع على أنه خبر ثان، أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه قاهرٌ، والثاني: أنه فوق عباده بالغلبة والقهر. الثالث: أنه بدلٌ من الخبر. الرابع: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير في "القاهر" كأنه قيل: وهو القاهرُ مُسْتعلياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء الخامس: أنها زائدةٌ، والتقدير وهو: القاهر عباده، ومثلُه: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} وهذا مردودٌ، لأن الأسماء لا تُزاد.
* { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
(6/157)
---(1/2320)
قوله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ}: مبتدأ وخبر، وقد عَرَفْتَ مما مرَّ "أيَّاً" بعضُ ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهاميةً اقتضى الظاهرُ أن تكون مسمَّى باسم ما أضيفت إليه. قال أبو البقاء: "وهذا يوجب أن يُسَمَّى الله تعالى "شيئاً" فعلى هذاتكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف أي: ذلك الشيء هو الله تعالى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الله أكبر شهادة. و"شهيد" على هذين القولين خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو شهيد بيني وبينكم. والجملة من قوله: {قُلِ اللَّهِ} على الوجهين المتقدمين جواب لـ "أيّ" من حيث اللفظ والمعنى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ، و"شهيد" خبرها، والجملة على هذا جوابٌ لـ "أيّ" من حيث المعنى أي: إنها دالة على الجواب وليست به.
قوله: {شَهَادةً} نصبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيرَه. وقال ابن عطية: "ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ "أكثر" على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل". وهذا ساقطٌ جداً. إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنث وتثنَّى وتجمع، وأفعلُ مِنْ لا يؤنَّثُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع فلم يُشْبِه اسم الفاعل، حتى إن الشيخ نسب هذا الخِباط إلى الناسخ دون أبي محمد.
قوله: {بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} متعلِّقٌ بـ "شيهد" وكان الأصل: قل الله شهيد بيننا فكُرِّرَتْ "بين" توكيداً، وهو نظير قوله:
1877- فأيِّي ما وأيُّك كان شراً * فَسِيقَ إلى المَقامةِ لا يراها
وقوله:
1878- يا ربَّ موسَى أظلمي وأَظْلَمُهْ * فاصْبُبْ عليه ملِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله:
1879- فلئِنْ لَقِيْتُك خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ * أيِّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
والجامع بينهما أنه لَمَّا أضاف إلى الياء وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون "بيني" متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفة لشيهيد فيكون في محل رفع، والظاهر خلافه.
(6/158)
---(1/2321)
قوله: {وَأُوحِيَ} الجمهور على بنائه للمفعول وحُذِف الفاعلُ للعِلْمِ به وهو الله تعالى. "والقرآن" رفع به. وقرأ أبو نهيك والجحدري وعكرمة وابن السَّمَيْفَع. "وأَوْحَى" ببنائه للفاعل، "القرآن" نصباً على المفعول به. و"لأنذركم" متعلِّقٌ بـ "أُوحِي" قيل: وثَمَّ معطوف حُذف لدلالة الكلام عليه أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وتقدَّم منه جملةٌ صالحة. وقيل: لا حاجة إليه لأن المَقام مَقامُ تخويف.
قوله: {وَمَن بَلَغَ} فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه في محل نصب عطفاً على المنصوب في "لأُنْذِرَكم" وتكون "مَنْ" موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها محذوف أي: ولأنذَر الذي بلغه القرآن. والثاني: أنَّ في "بَلَغ" ضميراً مرفوعاً يعود على "مَنْ" ويكون المفعولُ محذوفاً، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول "لأنذركم"، والتقدي: ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ، فالعائد هنا مستتر في الفعل. والثالث: أن "مَنْ" مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في "أنذرَكم" وجاز ذلكلأنَّ الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن.
قوله: {أَئِنَّكُمْ} الجمهور على القراءة بهمزتين أولاهما للاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخ، وقد تقدَّم الكلام في قراءاتٍ مثلِ هذا. قال الشيخ: "وبتسهيل الثانية وبإدخال ألفٍ بين الهمزة الأولى والهمزةِ المُسَهَّلَة، روى هذا الأخيرةَ الأصمعيُّ عن أبي عمرو ونافع". انتهى. وهذا الكلام يُؤذن بأنها قراءة مستغربة وليس كذلك، بل المرويُّ عن أبي عمرو المدُّ بين الهمزتين، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك. وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام وإنما حُذفت لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المحض.
(6/159)
---(1/2322)
ثم هذه الجملة الاستفهامية يحتمل أن تكون منصوبةَ المحلِّ لكونها في حيز القول وهو الظاهر، كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكبرُ شهادةً، وأن يقول: أإنكم لتشهدون. ويحتمل أن لا تكونَ داخلةً في حيِّزه فلا محلَّ لها حينئذ. و"أخرى" صفةٌ لـ "آهلة" لأنَّ ما لا يَعْقِل يُعامَل جمعُه معاملةَ الواحدةِ المؤنثة كقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} و {الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى
}. قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} يجوز في "ما" هذه وجهان، أظهرهما: أنها كافة لـ "إنَّ" عن عملها، و"هو" مبتدأ، و"إله" خبر و"واحد" صفته. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي و"هو" مبتدأ "وإليه" خبره، وهذه الجملةُ صلةٌ وعائد، والموصول في محل نصب اسماً لـ"إن"، و"واحد" خبرها. والتقدير: إن الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ، ويدلُّ على صحة الوجه الأولِ تعيُّنُه في قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} إذ لا يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوِّ الجملة من ضمير الموصول. وقال أبو البقاء: - في هذا الوجه - "وهو أليقُ مما قبله" ولا أدري ما وجه ذلك؟.
* { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوااْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: الموصول مبتدأ، و"يَعْرِفووه" خبره والضميرُ المنصوبُ يجوز عَوْدُه على / الرسول أو على القرآن لتقدُّمه في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَاذَا الْقُرْآنُ} أو على التوحيد لدلالة قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} أو على كتابهم أو على جميع ذلك. وأَفْرد الضمير باعتبار المعنى كأنه قيل: يعرفون ما ذَكَرْنا وقصصنا. وقد تقدَّم إعراب هذه الجملة في البقرة.
(6/160)
---(1/2323)
قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوااْ} في محله أربعة أوجه، أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ودخلت الفاء لما عَرَفْتَ من شبه الموصول بالشرط. الثاني: أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب. قال الزجاج الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين خسروا. الرابع: أنه منصوبٌ على الذم، وهذان الوجهان فرعان على النعت لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} من باب عَطْفِ جملة اسمية على مثلها، ويجوز أن يكونَ عطفاً على "خسروا" وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإيمان على خسرانهم. والظاهر أن الخُسْران هو المترتِّبُ على عدم الإيمان، وعلى غيره خاصاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم أي: من أهل الكتاب.
واسْتُشْكِل على كونه نعتاً الاستشهادُ بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتشهد بهم ويُذَمُّون في آية واحدة؟ فقيل: إن هذا سِيق للذمِّ لا للاستشهاد. وقيل: بل سيق للاستشهاد وإن كان في بعض الكلام ذمٌّ لهم، لأنه ذلك بوجهين واعتبارين. قال ابن عطية: "فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما ذُمُّوا فيه، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة".
* { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }
(6/161)
---(1/2324)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} فيه خمسة أوجه، احدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده، وهو على ظرفيَّته، أي: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف. والثاني: أنه معطوف على ظرفٍ محذوف، وذلك الظرف معمول لقوله: {لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} والتقدير: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم، قاله محمد بن جرير. الثالث: أنه منصوب بقوله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ} وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل. الرابع: أنه مفعول به باذكر مقدراً. الخامس. أنه مفعول به أيضاً، وناصبه احذروا أو اتقوا يوم نحشرهم، كقوله: {وَاخْشَوْاْ يَوْماً} وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور "نَحْشرهم" بنون العظمة وكذا "ثم نقول" وقرأ حميد ويعقوب بياء الغيبة فيهما وهو الله تعالى. والجمهور على ضم الشين من "نَحْشُرهم" وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع. والضمير المنصوب في "نحشرهم" يعود على المفترين الكذب، وقيل: على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم، والتوبيخ مختص بهم. وقيل: يعود على المشركين وأصنامهم، ويدل عليه قوله: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} و"جميعاً" حال من مفعول "نحشُرهم". ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين كأجمعين. وعطف هنا بـ "ثُمَّ" للتراخي الحاصل بين الحشر والقول. ومفعول "تَزْعُمون" محذوفان للعِلْمِ بهما أي: تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم.
وقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ} إن جَعَلْنا الضمير في "نحشرهم" عائداً على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر، إذ الأصل: ثم نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك.
* { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
(6/162)
---(1/2325)
قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}: قرأ حمزة والكسائي: "يكن" بالياء من تحت، "فتنتهم" نصباً، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم: "تكن" بالتاء من فوق، "فتنتُهم" رفعاً. والباقون بالتاء من فوق أيضاً، "فتنتهم" نصباً. فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإجرائها على القواعد من غير تأويل،وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن، وإعرابها ظاهر. وذلك أن "فتنتهم" خبر مقدم، و"أَنْ قالو" بتأويل اسم مؤخر، والتقدير: ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان، أحدهما: أعرفُ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه، و"أَنْ قالوا" يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ فيها اسماً لـ "كان" وغيرُ الأعرف خبرَها، ولم يؤنَّث الفعل لإسناده إلى مذكر. وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه فـ "فتنتُهم" اسمها، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإسناده إلى مؤنث. و"إلا أَنْ قالوا" خبرها، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً، فليست في قوة الأولى.
وأمَّا قراءةُ الباقين فـ "فتنتَهم" خبر مقدم، و"إلا أن قالوا" اسمٌ مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرِف اسماً - كالقراءة الأولى، إلا أن فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل. فقيل: لأن قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} في قوة مقالتهم. وقيل: لأنه هو الفتنة في المعنى، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته، وجعل أبو علي منه {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده. ومثلُ الآيةِ قولُه:
1880- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ * وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ
فـ"كانت" مسند إلى الغدر وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه، ومثله قول لبيد:
(6/163)
---(1/2326)
1881- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً * إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
قال أبو علي: "فأنَّث الإقدام لما كان العادة في المعنى" قال: "وقد جاء في الكلام: "ما جاءت حاجتَك" فأنّث ضمير "ما" حيث كانت الحاجة في المعنى، ولذلك نصب "حاجتك". وقال الزمشخري: "وإنما أنَّث "أن قالوا" لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم: من كانت أمَّك".
وقال الشيخ: "وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي، وأمَّا "من كانت أمَّك" فإنه حَمَلَ اسمَ "كان" على معنى "مَنْ" فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، وليس الحَمْلُ على المعنى لمارعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [وقوله]:
1882- ............... * نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان
قلت: ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وراد على أبي علي أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول: التأنيث في "جاءت" للحمل على معنى "ما" فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل "مَنْ" على أنه يقال: للتأنيث علَّتان، فذكرا إحداهما.
ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود: "وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا" فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث. ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب "حُجَّتَهم" من قوله تعالى: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} وقرئ شاذاً: {ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا" بتذكير "يكنْ" ورفع "فتنتهم" ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةً التأنيث والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.
(6/164)
---(1/2327)
قوله: {رَبِّنَا} قرأ الأخَوان: {ربَّنا} نصباً والباقون جراً. ونصبه: إمَّا على النداء وإمَّا على المدح، قاله ابن عطية، وإمَّا على إضمار "أعني" قاله أبو البقاء والتقدير: يا ربنا. وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجابه وهو قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وخفضُه في ثلاثة أوجهٍ: النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: {واللَّهُ ربُّنا} برفعهما على المبتدأ والخبر. قال ابن عطية: "وهذا على تقديم وتأخير، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا" قلت: يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً.
* { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
قوله تعالى: {كَيْفَ كَذَبُواْ}: "كيف" منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} وقد تقدَّم بيانه. و"كيف" وما بعدها في محل نصب بـ "انظر" لأنها معلِّقة بها عن العمل. و"كَذَبوا" وإن كان معناها مستقبلاً لأنه في يوم القيامة، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي. وقوله: "وضَلَّ" يجوز أن يكونَ نَسَقاً على "كَذَبوا" فيكون داخلاً في حَيِّز النظر، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه، وقوله: "ما كانوا" يجوز في "ما" أن تكون مصدرية أي: وضلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قولُ ابن عطية. ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية، أي: وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على "ما" عند الجمهور، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع.
* { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيا آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }
(6/165)
---(1/2328)
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ}: راعى لفظَ "مَنْ" فأفردَ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حُمِل على معناها.
قوله: {وَجَعَلْنَا} "جَعَلَ" هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين، أَوَّلُهما "أكنَّةً"، والثاني الجار قبله، فيتعلَّق بمحذوف، أي: صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لأنه لو تأخر لوقع صفةً لـ "أَكِنَّة" ويُحتمل أن يكونَ بمعنى "ألقى" فتتعلق "على" بها كقولك: "ألقيت على زيدٍ كذا" وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي
}. وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم. ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال، والتقدير: مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاص على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و"قد" مضمرة، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً.
والأَكِنَّة: جمع كِنان وهو الوعاء الجامع. قال:
1883- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ * حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها
(6/166)
---(1/2329)
وقال بعضهم: "الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي، وبالفتح المصدر. يقال: كنَّنْتُه كِنَّاً أي: جعلتُه في كِنّ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى: {مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} والكِنانُ: الغِطاء الساتر، والفعل من هذه المادة يُستعمل ثلاثياً ورباعياً، يقال: كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال: "وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس، قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيا أَنْفُسِكُمْ} قلت: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل، إلا أن يكون مضاعفاً كـ "بَتَات" و"كِنان" أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج.
قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} في محلِّ نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سَبَقا، أحدهما: كراهةض أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين، والثاني: حَذْفُ "لا" أي: أن لا يفقهوه، وهو أريُ الكوفيين.
قوله: {وَقْراً} عطفٌ على "أَكِنَّة" فينصبُ انتصابَه، أي: وجَعَلءنا في آذانهم وقراً. و"في آذانهم" كقوله "على قلوبهم" وقد تقدَّم أنَّ "جَعَل" يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ ها مبنيَّاً عليها مِنْ كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً.
(6/167)
---(1/2330)
والجمهور على فتح الواو من "وَقْراً" وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن، يُقال منه: وَقَرِتْ أذنه بفتح القاف وكَسْرِها، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين كـ تَعِد وتَوْجَل. وحكى أبو زيد: أذنٌ مَوْقورة، وهو جارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أن وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً، وسُمِع "أذن مُوْقَرَة" والفعل على هذا أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم. والوِقْر - بالكسر - والحِمْل للحمار والبغل ونوهما، كالوسَق للبعير، قال تعالى: {فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً} فعلى هذا قراءةُ الجمهور واضحة أي: وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي: صَمَماً. وأمَّا قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة بالحِمْل، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة، ومنه الوققار للتُّؤدة والسَّكينة، وقوله تعالى: {وَفِيا آذَانِهِمْ وَقْراً} فيه الفصلُ بين حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ تقدَّم تحقيقُها في قوله: {أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه. وقد حقَّقْتُ جيمع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه.
(6/168)
---(1/2331)
قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ} قد تقدَّم الكلام في "حتى" الداخلة على "إذا" في أول النساء. وقال أبو البقاء هنا: "إذا" في موضع نصب بجوابها وهو "يقول" وليس لـ "حتى" هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل". وقال الحوفي: "حتى" غاية، و"يُجادلونك" حال، و"تقولُ" جوابُ "إذا" وهو العامل في "إذا" وقال الزمخشري: "هي "حتى" التي تقع بعدها الجمل، والجملةُ قولُه: {حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ}، و"يجادلونك" في موضع الحال، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ، ويكون "إذا جاؤوك" في محل الجَرِّ بمعنى: حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوااْ} تفسير له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسَّر مجادلتهم بأنهم يقولون: إنْ هذا إلا أساطير الأولين.
قال الشيخ: "وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي. وقال أيضاً: "و"حتى" إذا وقع بعدها "إذا" يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء، ويُحتمل أن تكون بمعى إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاؤوك يجادلونك يقول، أو يكون التقدير: وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة، وكذا إلى أَنْ قالوا: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، وقد تقدَّم أن "يُحادِلونك" حالٌ من فاعل "جاؤوك" و"يقول": إمَّا جواب "إذا" وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء كما تقدَّم تقريره.
(6/169)
---(1/2332)
و"أساطير" فيه أقوال، أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل: أُسْطورة، وقيل: أَسْطارة، وقيل: أُسْطور، وقيل: أَسْطار، وقيل: إسْطير وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمعُ جمعٍ، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس. والثالث: أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع أَسْطُر، وأَسْطُر جمع سَطْر. بل هما مثالا جمع قلة. الرابع: أنه اسم جمع، قال ابن عطية: "وقيل: هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه" وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط. وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال: "وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح- أسطار وأساطير" ووقال المبرد: "هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث" ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له.
* { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ}: في الضميرين - أعني هم وهاء "عنه" - أوجه، أحدها: أن المرفوع يعود على الكفار، والمجرور يعود على القرآ، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من "يَفْقهوه"، والمشارُ إليه بقولهم: "إنْ هذا" والثاني: أنَّ "هم" يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار، وفي "عنه" يعود على الرسول، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، فإن قوله: {جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} خطاب للرسول، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبة. وقيل: يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه.
(6/170)
---(1/2333)
وفي قوله {يَنْهَوْنَ} و{وَيَنْأَوْنَ} تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء، ويَنْأَوْن بالهمزة، ومثله قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ ......وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} وقوله عليه السلام: "الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ" وبعضهم يسمِّيه "تجنيس التحريق" وهو الفرق بين كلمتين بحرف، وأنشدوا:
1884- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً * لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيس التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين، وجعل منه "اللُّهى تفتح اللَّهى" وقد تقدم تحقيق ذلك. وقرأ الحسن البصري "ويَنَوْن" بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها، وهوت خفيف قياسي. والنَّأيُ: البُعْد، قال:
1885- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ * رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ
وقال الآخر:
1886- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ * وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية، يقال: نأى زيد يَنْأى نأياً، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَنْأيْتُه، ولا يُعَدَّى بالتضعيف، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه، أنشد المبردِ:
1887- أعاذِلُ إن يُصْبحء صَداي بقَفْرَةٍ * بعيداً نآني صاحبي وقريبي
أي: نأى عني. وحكى اللَّيث: "نَأَيْت الشيء" أي: أبعدته، وأنشد:
1888- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا * شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع
فبناه للمفعول أي: يُنَحَّى ويُبْعَدز والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد، ومنه: أَتَنَأَّى أي: أفتعلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيد، قال النابغة:
1889- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي * وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
(6/171)
---(1/2334)
وتناءى: تباعَدَ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء. وقُرِئ: {وناءَ بجانبه} وهو مقولبٌ مِنْ نأى، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة.
قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ} "إنْ" نافيةٌ كالتي في قوله: {إِنْ هَاذَآ} و"أنفسهم" مفعولٌ، وهو استثناء مفرغ، ومفعول "يَشْعرون" محذوف: إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم.
* { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى}: جوابها محذوف لفَهْمِ المعنى، التقدير: لرأيت شيئاً عظيماً وهَوْلاً مُفْظِعاً. وحَذْفُ الجواب كثيرٌ في التنزيل وفي النظم، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} وقول الآخر:
1890- وجَدِّك لو شيءٌ أتانا رسولُه * سِواك ولكن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا
وقوله:
1891- فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً * ولكنها نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا
وقوله:
1892- كَذَبَ الغواذِلُ لو رَأَيْنَ مُنَاخَنَا * بحَزيزِ رامةَ والمَطِيُّ سَوَامي
وحَذْفُ الجواب أبلغُ: قالوا: لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب، فلو صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [كثيراً، ولذلك قال كثير:
1893- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ * إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ]
و"ترى" يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف، أي: ولو ترى حالَهم، ويجوز أن تكونَ القلبيةَ، والمعنى: ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم لازْدَدْتَ يقيناً.
(6/172)
---(1/2335)
وفي "لو" هذه وجهان، أظهرهما: أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ، فـ "إذ" باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي، وهذا وإن كان لم يقعْ بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد. والثاني:أنها بمعنى "إنْ" الشرطية" و"إنْ" هنا تكون بمعنى "إذا" حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ، وقد تقدَّم تأويله.
وقرأ الجمهور: {وُقِفُوا} مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً. و"على" يُحْتمل أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي: حُبسوا عليها، وقيل: يجوز أن تكون بمعنى في، وليس بذاك. وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي: "وَقَفوا" مبنياً للفاعل. و"وقف" يتعدَّى ولا يتعدَّى، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر، فمصدرُ اللازم على فُعول، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل، ولا يقال: أَوْقَفْتُ. قال أبو عمرو بن العلاء: "لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب: أوقفت فلاناً، إلا أَنِّي لو رأيت رجلاً واقفاً فقلت: له: "ما أوقفك ههنا" لكان عندي حسناً" وإنما قال كذلك لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحكم زيد وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في "وقف" المتعدي أوقفته. قال الراغب: "ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ - استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها" فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المُسْبَل وفي التسيل مجازاً على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من الحركة، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج، ومنه: "حمار مُوَقَّقٌ بأرساغه مَثْلُ الوَقْف من البياض".
(6/173)
---(1/2336)
قوله: {يالَيْتَنَا} قد تقدَّم الكلام في "يا" المباشِرة للحرف والفعل. وقرأ: "ولا نُكَذِّبُ" و"نكونُ" برفعهما نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي، وبنصبهما حمزةُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر. ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل "قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر: {ولا نكذِّبُ} بالرفع، و"نكون" بالنصب". فأما قراءة الرفع فيها ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن الرفع فيها على العطف على الفعل قبلها وهو "نُرَدُّ"، ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء: الردَّ إلى دار الدنيا، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم، وكونَهم من المؤمنين. والثاني: أن الواو واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مضمر، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع "نُرَدُّ"، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً بهاتين الحالَيْن، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني.
وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين: بأن التمني إنشاء، والإنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب، وإنما يدخلان في الإخبار، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري - قال: "هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل: "ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليه: وأكافئَك على صنيعك" فهذا مَتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه كذَّبَ، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك.
والثاني: أن قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس متعلِّقاً بالتمنَّى، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
(6/174)
---(1/2337)
والثالث: أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب، بل يدخلانه، وعُزشي ذلك إلى عيسى بن عمر. واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر:
1894- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى * وإلاَّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا
قال: "وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً" وهذا الجواب ساقط جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى، والمُنى جمع مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب، فالصدق والكذب إنما دخلا في المُنْيَةِ لا في المني.
والثالث من الأوجه المقتدمة ان قوله "ولا نكذِّبُ" خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان على الجملة المشتملة على أداة وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في المني أصلاً، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم، وأنَّهم يكونون من المؤمنين، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في محل نصب بالقول، كأنَّ التقديرَ: فقالوا: يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا: نحن لا نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه، وشبَّهه بقولهم:"دعني ولا أعودُ" أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني، أي: لا أعود على كل حال، كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُرَدوا.
(6/175)
---(1/2338)
وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما مرَّ - فن بعضهم اشتشكل عليه إشكالاً وهو: أنَّ الكذب لا يقع في الآخرة فكيف وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم "ولا نكذِّب ونكون"؟ وقد أُجيب عنه بوجهين، أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً. والثاني: أنهم صَمَّموا في تلك الحال على أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات، فأخبر الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال: "ولا نكذِّبُ" وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد، فيصير قولهم: "ولا نكذب" كذباً، كما يقول اللص عند ألم العقوبة: "لا أعود"، ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّص وعادَ كان كاذباً.
[وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين، أحدهما] قريبٌ مما تقدّضم، والثني: لغيره، فقال: "أي: لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله، فأكذبهم الله في دعواهم".
(6/176)
---(1/2339)
وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار "أَنْ" بعد الواو التي بمعى مع، كقولك: "ليت ليس مالاً وأنفقَ منه" فالفعل منصوب بإضمار "أن" و"أنْ" مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدرٌ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً متوهماً يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من "أَنْ" وما بعدها عليه، والتقدير: يا ليتنا لنا رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين، أي: ليتنا لنا ردُّ مع هذين الشيئين، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً، فهذه الثلاثةُ الأشياء: أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ بقدي الاجتماع، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك: هذه الواوُ شرطُ إضمار "أنْ" بعدها: أن تصلح "مع" في مكانها، فالنصبُ يُعَيِنُ أحدَ محتملاِتها في قولك "لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن" وشبهه، والإشكالُ المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا، وقد تقدم جواب ذلك، إلا أن بعضَه يتعذَّر ههنا: وهو كون لا نكذِّبُ، ونكونُ" متسأنَفَيْن سِيقا لمرجد الإخبار، فبقي: إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد، وإمَّا أن قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس راجعاً إلى تمنِّيهم، وإمَّا لأنَّ التمنِّي يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فساده.
(6/177)
---(1/2340)
وقال ابن الأنباري: "أَكْذَبَهم فيم عنى التمني؛ لأن منِّيَهم راجعٌ إلى معنى: "نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا" فغلَّب عزَّ وجل تأويلَ الكلام فأكذبهم، ولم يُسْتعمل لفظ التمني" وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ: "وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري: "وقرئ: ولا نكذِّبَ ونكونَ بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني، ومعناه: إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من المؤمنين". قال: "وليس كما ذكر، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [في] جواب الشرط فلا ينعقد ممَّا قبلها ولا ممَّا بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو "مع" يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ "مع" موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها. وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب. وقال سيبويه: "الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى:
1895- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله * .......................
(6/178)
---(1/2341)
لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النهيَ والإتيان وتقول: "لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللين" لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى" قال الشيخ: "ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءٍ دونها بأنها إذا حُذِفت انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي، فإن ذلك لا يجوز". قلت: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة. قال أبو إسحاق: "نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول: "ليتك تصير إلينا ونكرمَك" المعنى: ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا، ويكون المعنى: ليت ردَّنا وقع وأن لا نكذِّب".
وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ، على ذلك جمهورُ النحاة. إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين، أحدهما: أن الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: "في نصب "نكذِّبَ" وجهان، أحدهما: أن الواو مُبْدَلةٌ من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق: "يا ليتنا نردُّ فلا نكذبَ" بالفاء منصوباً. والوجه الآخر: النصب على الصرف ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين.
(6/179)
---(1/2342)
وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ الأولَ يرفتع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما تقدَّم، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلا أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تمام قوله "نُرَدُّ" أي: تَمَنَّوا الردَّ مع كونخم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا ولا نكذِّب" معطوفاً على "نردُّ" أي: تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذاجَعَلْنا "ولا نكذِّب" معطوفاً على "نردُّ" أو حالاً منه. وأما إذا جَعَلْنا "ولا نكذِّبُ" مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل الاعتراض، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ "ولا نكذِّب" أي: لا يكونُ منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، ويكون قوله "ولا نكذب" حينئذ على حاله، أعني مِنْ احتماله العطفَ على "نُرَدُّ" أو الحالية أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك.
وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر، أي: بنصب "نكذبَ" ورفع "نكون" وتخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ "ونكونُ من المؤمنين" حالاً لكونه مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله:
1896- ....................... * نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالكاً
أي: وأنا أَرْهَنُهم، وقولهم: "قمتُ وأصكُّ عينه"، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أُبيٍّ: "ونحن نكونُ من المؤمنين".
* { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
(6/180)
---(1/2343)
قوله تعالى: {بَلْ بَدَا}: "بل" هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى وليست للإبطالِ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال: "بل" رَدٌّ لِما تمنَّوه، أي: ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً في الإيمان، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة. قال الشيخ: "ولا أدري ما هذا الكلام؟". قلت: ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لمَّا قالوا: يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا، منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لمَّا قالوا: يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا، ولكن هذا التمنِّيَ لسيس بصحيح، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً، فقد يتمنى الإنسان شيئاً بلسانه وقلبه فارغ منه. وقال الزجَّاج "بل" هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم: ما قام زيد بل قام عمرو". قال الشيخ: "ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى توجَبه "بل"؟ قلت: الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله: {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير: ونحن لا نكذِّبُ، والمعتنى: بل إنهم مُكَذِّبون.
وفاعلُ "بدا" قوله: {مَّا كَانُواْ} و"ما" يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه. والعائد محذوف. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي ظهر لهم إخفاؤهم، أي: عاقبته، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول، وهو بعيد، والظاهر أن الضميرين: أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله {بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} عائدان على شيء واحد، وهم الكفار أو اليهود والنصارى خاصة، وقيل: المجرورُ للإتباع والمرفوعُ للرؤساء، أي: بل بدا للإتباع ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه.
(6/181)
---(1/2344)
قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ} قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وإبراهيم: "رِدُّوا" بكسرها خالصاً. وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو: قيل وبيع، وقد تقدَّم ذلك. وقال الشاعر:
1897- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا * ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تقدَّم الكلام على هذه الجملة: هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله {يا ليتنا}؟
* { وَقَالُوااْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }
قوله تعالى: {وَقَالُوااْ}: هل هذه الجملة معطوفة على جواب "لو" والتقدير: ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز "لو"، أو هي معطوفةٌ على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}؟ ثلاثة أوجه، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال: "وقالوا عطف على "لعادوا" أي: لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا: إنْ هي إلا حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يُعْطف على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} على معنى: وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء". والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال: "وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله {أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ} يردُّ على هذا التأويل". وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإنكارهم إياه في الدنيا.
(6/182)
---(1/2345)
قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} "إنْ" نافية و"هي" مبتدأ، و"حياتُنا" خبرها، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفي وإثبات، و"هي" ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ، إذ لقائل أن يقول "هي" تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري: "هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إ بِذِكْر ما بعده" ومثَّل الزمخشري بقول العرب: "هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ" و"هي العرب تقول ما شاءت".
وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير، ويجوز أن يكون المعنى: إنِ الحياة إلا حيتاتنا الدنيا، فقوله {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسير، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء: "هي كنايةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة".
(6/183)
---(1/2346)
قلت: أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ، وأمَّا آخرُه وهو قوله: "إن هي ضمير القصة" فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها. فإن قلت: الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم. فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو: "إنه قائم زيد" "وظنتُه قائِماً زيدٌ" لأنه في صورة الجملة، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليهز أما نحو "هو زيد" فلا يُجيزه أحدٌ، على أن يكونَ "هو" ضميرَ شأنٍ ولا قصة، والدنيا صفة الحياة، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} والباء في قوله "بمبعوثين" زائدةٌ لتأكيد الخبر ال منفي، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ "ما" حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.
* { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }
قوله تعالى: {عَلَى رَبِّهِمْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب الحذف، تقديره: على سؤال ربهم أما ربهم أو جزاء ربهم. والثاني: أنه من باب المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده ليعاتبَه، ذكر ذلك الزمخشري، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: "وقيل [وقُفوا] على جزاء ربهم". وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر. وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب، أشهرُها: ترجيحُ المجاز على الإضمار، والثاني عكسُه، والثالث: هما سواء.
(6/184)
---(1/2347)
قوله: {قَالَ أَلَيْسَ} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها استفهاميةٌ أي: جواب سؤال مقدر، قال الزمشخري: "قال" مردودٌ على قولِ قائلٍ قال: ماذا قال لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحق". والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحبُ الحال "ربُّهم" كأنه قيل: وُقِفوا عليه قائلاً: أليس هذا بالحق. والمشارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث. وقيل: هو العذاب يدلُّ عليه {فَذُوقُواْ العَذَابَ}.
وقوله: {بِمَا كُنتُمْ} يجوز أن تكونَ "ما" موصولةً اسميةً والتقدير: تكفرونه، والأصل: تكفرون به، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ، ولا جائزٌ أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف المتعلَّق، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة. والأَوْلَى أن تُجْعَلَ "ما" مصدرية ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي بملاقاته أي بكفركم بذلك.
* { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }
قوله تعالى: {بَغْتَةً}: في نصبها أربعة أوجه، أحدها: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل "جاءَتْهم" أي: مباغتةً، وإمَّا من مفعوله أي: مَبْغوتين. الثاني: أنها مصدرٌ على غير المصدر؛ لأنَّ معنى "جاءتهم" بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم: "أتيته رَكْضاً". الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها، أي: تَبْغَتُهم بَغْتة. الرابع: بفعلٍ من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة.
والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة، ولذلك قال الشاعر:
(6/185)
---(1/2348)
1898- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها * قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
والألف واللام في "الساعة" للغلبة كالنجم والثريا، لأنها غلبت على يوم القيامة، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. وقوله "قالوا" هو جواب "إذا".
قوله: {ياحَسْرَتَنَا} هذا مجازٌ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتّضى منها الإقبال، وإنَّما المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ، وكأنهم نادوا التحسُّر، وقالوا: إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك. ومثله: "يا ويلتا"، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.
قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} متعلقٌ بالحَسْرة، و"ما" مصدريةٌ، أي: على تفريطنا. والضمير في "فها" يجوز أن يعود على الساعة، ولا بد من مضاف أي: في شأنها والإيمان بها، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ} قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [يَجْرِ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً، قاله الزمخشري. وقيل: يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها. وهو بعيدٌ.
والتفريط: التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله. وقال أبو عبيد: "هو التضييع" وقال ابن بحر: "هو السَّبْق، منه الفارط أي السابق للقوم، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
(6/186)
---(1/2349)
}. قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الواو للحال، وصاحب الحال الواو في "قالوا" أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم. وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ، والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ، وقيل: هو حقيقةٌ. وفي الحديث: "إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها" وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدَّم في {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} لأن اليدَ أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها.
الأوزار: جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال. والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه: وَزِرْتُهُ أي: حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها، قال:
1899- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها * رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا
وقيل: الأصل في ذلك الوضزَر بفتح الواو الزاي، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة.
قوله: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} "ساء" هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة، أحدُها: أنها "ساء" المتصرفةُ المتعدِّية، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين، ومفعولُها حينئذ محذوف، وفاعلها "ما"، و"ما" تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم. وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال: "كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله:
(6/187)(1/2350)
---
1900- رَضِيْتِ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ * فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا
قال الشيخ: "ولا يتعيَّن أن تكون "ما" فيا لبيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة" انتهى وهو ظاهر.
الثاني: أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب: من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإنشاء، إن قلنا: إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح، والمعنى: ما أسوأ - أي أقبح- الذي َزِرُونه أو شيئاً يَزِرثونه أو وِزْرُهم، الثالث: أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً، ويجري الخلاف في "ما" الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ} وقد ظهرالفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس. وقال الشيخ: "والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل "بئس" من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل". انتهى.
وظاهر لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوص بالذم وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل.
* { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
(6/188)
---(1/2351)
قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ}: يجوز أن يكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولهم:
1901- .............. * فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي: وما أعمال الحياة، وقال الحسن البصري: "وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب" فقدَّر شيئين محذوفين.
والَّهْو: صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل. ومنه لو يلهو. وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو: شَقِي ورضيي. وقال المهدوي: "الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان، ولام الأول واو". قال الشيخ: "وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ: شَجِيان وهو مشنْ الشَّجْوِ" انتهى. يعني أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في "التفسير الكبير" ولله الحمد] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني، فإنَّ الرماني قال: "اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل، يقال: لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه" قال المهدوي: "وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء، بدليل قولهم في التثنية ليهان" انتهى. وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب: "اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه، يقال: لَهَوْتُ بكذا أو ليهت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ" وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين.
(6/189)
---(1/2352)
قوله: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ} قرأ الجمهور بلامَيْن، الأُوْلى لام الابتداء، والثانية للتعريفِ، وقرؤوا "الآخرةُ" رفعاً على أنها صفةٌ للدار، و"خيرٌ" خبرُها. وقرأ ابن عامر: "ولَدارُ" بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء، و"الآخرةِ" جرٌّ بالإضافة. وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه، والتقدير: ولَدارُ الساعةِ الآخرة، أو لضدار الحياة الآخر، يدلُّ عليه "وما الحياة الدنيا" ومثله قولهم: "حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي" التقدير: حبة البقلة الحمقاء، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ومكان الجانب الغربي. وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائها العواملَ كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإضافة: إمَّا للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها.
والثاني: وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء: "هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عد اختلاف اللفظين". وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه في يوسف: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} وفي مصاحق الناسِ بلامَيْنِ.
(6/190)
---(1/2353)
و"خيرٌ" يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي: خيرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكونَ لمجرَّد الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} و{لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لـ "خي" والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه، نحو: {خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى
}. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزة الداخلةِ على الفاء وأختِها الواو ثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: {تَعْقِلُون} خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه. والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول "تَعْقِلون" للعلمِ به، أي: فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذرك فتزهَّدوا في الدنيا، أو أنها خير من الدنيا.
* { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ}: "قد" هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: "قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله:
1902- ................ *............. قديُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ: "وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله:
1903- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه * كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر:
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه * ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
(6/191)
---(1/2354)
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من "قد" إنما من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير". قلت: قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم، ثم قال: "وقولُه بمعنى "ربما" التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ "رُبَّ" للتقليل لا للتكثير، وزيادةُ "ما" عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل، و"ما" المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل "لعلَّ" عن الترجِّي ولا "كأنَّ" عن التشبيه ولا "ليت" عن التمني. وقال ابن مالك" "قد" كـ "ربما" في التقليل والصَّرف إلى منى المضيّ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ} وقوله:
1904- وقد تُدْرِكُ الإنسانَ رحمةُ ربِّه * ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
}. وقال مكي: "قد" هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و"نعلم" بمعنى عَلِمْنا، وقد تقدَم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرقيةِ والاسمية. وقال الشيخ هنا: "قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك: "قد ينزل المطضرُ شهرَ كذا"، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع، وأمَّ المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصاف بالعلم واستمراره، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم: "هو يعطي ويمنع".
(6/192)
---(1/2355)
و{إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها. وتقدَّم الكلامُ في "لَيَحْزُنك" وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران. "والذي يقولون" فاعلٌ وعائده محذوف، أي: الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في "إنه" ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك: "إنَّ زيداً يقوم أبوه" لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين.
قوله: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} قرأ نافع والكسائي: {لا يَكْذِبُونك} مخففاً من أَكْذَبَ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب، وهي قارءة علي وابن عباس. واختلف الناس في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد مثل: أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل، وقلي: بينهما فرق، قال الكسائي: العرب تقول "كذَّبْتُ الرجلَ" بالتشديد، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه، و"أَكْذَبْتُه" إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، ويقولون أيضاً: أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً، فمعنى "لا يُكْذِبونك" مخفَّفاً: لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً، وهو واضحٌ.
(6/193)
---(1/2356)
وأمَّا التشدديُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه. فإن قيل: هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً. فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يارد به بعضُهم مجازاً كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص. والثاني: أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّ عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب، فتكذيبُهم كلا تكذيب، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه. وقال الزمخشري: "والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق، فهو لا يكذِّبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه: - وقد أهانه بعض الناس- لن يُهينُوك وإنما أهانوني، وعلى هذه الطريقة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
}. قوله: {بِآيَاتِ اللَّهِ} يجوز في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بـ "يَجْحَدون"، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن يتعلَّق بالظالمين، قال: "كقوله تعالى : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} وهذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الباءَ هناك سببيةٌ، أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضر، إذ الأصل: ولكنهم يَجْحدون بآيات الله، ولكنه نَبَّهخ على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود.
والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه. وقيل: الجَحْدك إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه.
(6/194)
---(1/2357)
* { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ }
قوله تعالى: {مِّن قَبْلِكَ}: متعلَّقٌ بـ "كَذَّبَتْ" ومنه أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ، والزمان لا يُوصف به الجثث، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً
}. قوله: {وَأُوذُواْ} يجوز فيه أربعة أوجه أظهرها: أنه عطفٌ على قوله "كُذِّبَتْ" أي: كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على "صَبَروا" أي: فصبروا وأُوْذُوا. والثالث: - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على "كُذِّبوا" فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير: فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله "كُذِّبوا" ثم استأنف فقال: "أُوْذوا".
وقرأ الجمهور: {وأُوْذُوا} بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً. وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ: "وأُذوا" من غير واو بعد الهمزة، وهو من أَدَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من "آذيت" رباعياً.
قوله: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله: "فصبروا" أي: كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنا "وأوذوا" عطفاً عليه كانت غايةً لهما، وهو واضح جداً. وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط، وإن جَعَلْناه معطوفاً على "كُذِّبَتْ" فتكون الغاية للثلاثة. والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف، أي: نَصْرُنا إياهم. وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم، إذ قلبه "بآيات الله" فلو جاء على ذلك لقي: نَصْرُه. وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة.
(6/195)
---(1/2358)
قوله: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} في فاعل "جاء" وجهان، أحدهما: هو مضمر، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية: "الصواب عندي أن يقدر: "جَلاء، و بيان". وقال الرماني: "تقديره: ولقد جاءك نبأ" وقال الشيخ: "الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نُصِروا". وعلى هذه الأقوال يكون "من نبأ المرسلين" في محل نصب على الحال من ذلك الضمير، وعاملها هو "جاء" لأنه عاملٌ في صاحبها. والثاني: أنَّ "من نبأ" هو الفاعل، ذكره الفارسي، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه لا يَشترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ، والمجرور بـ "مِنْ" معرفة. وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعى بأ،ه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وزيادة "مِنْ" تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف، والأمر بخلافِه.
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال: "ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم" وهذا تفسير لا تفسير إعراب، إذ "مِنْ" لا تكون فاعلة، ولا يجوز أن يكون "من نبأ" صفةً لمحذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءك نبأ المرسلين، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت، كذا قالوا. قال أبو البقاء: "ولا يجوز عند الجميع أن تكون "مِنْ" صفةً لمحذوف، لأن الفاعلَ لا يُحْذف، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَ حرف لاجر يُعَدِّي، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍ" يعني بقولِهِ "لم يصحَّ أن يكون فاعلاً" لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة.
(6/196)
---(1/2359)
* { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ}: هذا شرطٌ، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني، وجواب الثاني محذوف تقديره: فإن استطعت أن تبتغي فافعلْ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم..... فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} وتقدَّم تحرير القول فيه، إلا أن جواب الثاني هناك مُظْهَرٌ. و"كان" في اسمها وجهان، أحدهما: أنه "إعراضهم" و"كَبُرَ" جملة فعلية في محل نصب خبراً قدماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً لملتبدأ فلا يجوزُ البتةَ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون. وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل. و"كَبُر" إذا قيل: إنه خبر "كان فهل يُحتاج إلى إضمار "قد" أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج، لأنه كثر وقع الماضي خبراً لها من غير "قد" نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك بـ"كان" ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا بـ"قد" ظاهرةً أو مضمةرً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة:
1905- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا * أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
(6/197)
---(1/2360)
والثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في محل نصب على الخبر، فإعراضُهم مرفوعٌ بـ"كَبُر" وفي الوجه الأول بـ "كان"، ولا ضمير في "كَبُر" على الثاني، وفيه ضمير على الأول. ومثلُ ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} ففرعون يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فاعلاً وكذلك "سفيهُنا" ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس.
1906- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ * فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقة يحتمل الأمرين. وإظهار "قد" هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من "كان" وما عبدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى، وشروط الإعمال موجودة. وكنت قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجاب بالمنع، محتَّجاً بأنَّ شرط الإعمال أن لا يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر، وأن يكونَ من تمام معناه، و"كان" مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها. وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ، إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شرط الإعمال.
وقوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} أي: إنْ تبيَّن وظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي "كان" خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط، وليس بشيء. وأمَّا: "فإن استطعتَ" فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص "وأن تبتغي" مفعولُ الاستطاعة. "ونَفَقاً" مفعول الابتغاء.
(6/198)
---(1/2361)
والنَّفَقُ: السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء والقاصِعاء، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [في] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين، وقيل: ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ، وقد تقدَّم لك استيفاء هذه المادة عند ذكر {يُنْفِقُونَ} و {الْمُنَافِقِينَ
}. وقوله {فِي الأَرْضِ} ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله، ويجوز أن يكون صفةً لـ "نَفَقاً" فيتعلَّقَ بمحذوف، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض. وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل "تَبْتغي" أي: وأنت في الأرض، قال: "وكذلك في السماء" يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة، وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة.
والسُّلَّم: قي: المِصْعَدن وقيل: الدَّرَج، وقيل: السبب، تقول العرب: اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي: سبباً، قال كعب بن زهير:
1907- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا * بها نَفَقاً أو في السموات سُلَّماً
وهو مشتقٌّ من السَّلامة، قالوا: لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد. والسُّلَّم مذكر، وحكى الفراء تأنيثه، قال بعضهم، ليس ذلك بالوضع، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله:
1908- .................... * سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لمَّا كان في معنى الصرخة.
* { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
(6/199)
---(1/2362)
قوله تعالى:{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإخبار بقدرته، وأنَّ مَنْ قَدَر على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ كفر. والثاني: أن "الموتى" منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، ورُجِّح هذا الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بعد قوله: {يُدْخِل} والثالث: أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله، والمراد الموتى الكفار أي: إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة، والكافرون الذين يُجيبهم الله تعالى بالإيمان يوفقهم له، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} في محل نصب على الحال، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى: {للَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} إلا أن يكون من ترشيح المجاز. وتقدَّمت له نظائر.
وقرئ {يَرْجِعون} مِنْ رَجَع اللازم.
* { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّهِ}: فيها وجهان، أحدهما: أنها متعلقة بـ "نُزِّل" والثاني: أنها متعلِّقةٌ محذوفٍ لأنها صفةٌ لـ "آية" أي: آية كائنة من ربه. وتقدَّم الكلام على "لولا" وأنها تحضيضية.
* { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ}: "مِنْ" زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ، و"إلا أممٌ" خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها. وقوله "في الأرض" صفةٌ لدابَّة، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع.(1/2363)
(6/200)
---
قوله: {وَلاَ طَائِرٍ} الجمهور على جرِّره نسقاً على لفظ "دابة"، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها. وقرأ ابن عباس: "ولا طيرٍ" من غير ألف. وقد تقدَّم الكلامُ فيه: هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله: {يطير} في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه. وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا. وفي قوله "ولا طائر" ذكرُ خاصٍ بعد عام، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله: {وَمَلاائِكَتِهِ..... وَجِبْرِيلَ} فيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر.
قوله: {بِجَنَاحَيْهِ} فيه قولان، أحدهما: أن الباء متعلقة بـ"يطير"وتكونُ الباءُ للاستعانة. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيرانُ يُستعار في السرعة قال:
1909- قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم * طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا
ويُطلق الطيرُ على العمل، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ
}. وقوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} خبر المبتدأ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان، لأن المراد بها الجنس. و"أمثالكم" صفة لأُمَم، يعني أمثالهم في الأزراق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته.
(6/201)
---(1/2364)
قوله: {مِن شَيْءٍ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن "مِنْ" زائدة في المفعول به والتقدير: ما فرَّطْنا شيئاً، وتضمَّنه "فرَّطنا" معنى تركنا وأغفلنا، والمعنى: ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً. ثم اختلفوا في الكتاب: ما المراد به؟ فقيل: اللوح المحفوظ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه. وقيل: القرآن، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال: نعم، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن. إمَّا بالصريح وإمَّا بالإيماء، ومنهم من قال: إنه يُراد به الخصوص، والمعنى: من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون. والثاني: أن "مِنْ" بتعيضيةٌ أي: ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف. الثالث: أنَّ "من شيء" في محل نصب على المصدر و"من" زائدة فيه أيضاً. ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره، فإن قال: "مِنْ" زائدة، و"شيء" هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً. وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً. ونظير ذلك: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ "فرَّطْنا" لا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب بـ "في" فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا" انتهى. قوله: "ويحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً" لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة: "فَرَطْنا" مخفَّفاً، فقيل: هما بمعنى. وعن النقاش: فَرَطْنا: أخَّرْنا كما قالوا: "فَرَط الله عنك المرض" أي: أزاله.
* { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
(6/202)
---(1/2365)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ}: مبتدأٌ وما بعده الخبرُ. ويجوز أن يكون "صمٌّ" خبرَ مبتدأ محذوف، والجملة خبر الأول، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ، وقال أبو البقاء: "صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ، مثل حلو حامض، والواو لا تمنع من ذلك". قلت: هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة. والثاني: أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف.
قوله: {فِي الظُّلُمَاتِ} فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون خبراً ثانياً لقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ} ويكون ذلك عبارةً عن العَمضى، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فَعَبَّر عن العمى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البصيرة. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في لخبر تقديرُه: ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات. الثالث: أنه صفةٌ لـ "بُكْم" فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات. الرابع: أن يكون ظرفاً على حقيقته وهو ظرف لـ "صُمُّ" أو لـ "بُكْم" قال أبو البقاء: "أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل" أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل.
(6/203)
---(1/2366)
قوله: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} في "مَنْ" وجهان، أحدهما: أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها، وقد عُرِف غير مرة. ومفعول "يشأ" محذوف أي: مَنْ يشأ الله إضلاله. والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً، والتقدير: مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته. فإن قلت: هل يجوز أن تكون "مَنْ" مفعولاً مقدَّماً لـ "يشأ"؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى. فإن قلت: أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت "مَنْ" مُقامه تقديره: إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط. فالجوابُ أنَّ الأخفش حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه، فالضمير في "يُضْلِلْه" و"يِجْعَلُه" إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} فالهاء في "يغشاه" تعود على المضاف أي: كذي ظلمات يَغْشاه، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط، والأول ممتنع، إذ يصير التقدير: إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي: يُضِلُّ الإضلال، وهو فاسدٌ. والثاني: أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط. فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: مَنْ يشأ الله بالإضلال وتكون "مَنْ" مقدماً؛ لأنَّ "شاء" بمعنى أراد، و"أراد" يتعدى بالباء قال:
1910- أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ * عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ
(6/204)
---(1/2367)
قيل: لا يلزم من كون "شاء" بمعنى "أراد" أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول: دخلت الدار ودخلت في الأمر، ولا تقول: دخلتُ الأمرَ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ "شاء" بالباء وإن كانت في معنى أراد.
* { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم}: يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام "قُلْ" وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش، وهو تسهيل مطرَّد، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني، ولها أحكام تختص بها، اضطربت أقوال الناس فيها، وانتشر خلافم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول:
"أرأيْتَ" إن كانت البصَرية أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإصافبة الرئة كقولهم: "رَأَيْتُ الطائر" أي: أصبت رِئَته، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينَها، بل تُحَقَّق ليس إلا، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر، ويكون ضميراً فاعلاً نحو: أرأيتم، أرأيتما أرأيتنَّ، ويدخلها التعليق والإلغاء.
(6/205)
---(1/2368)
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى "أخبرني" اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها: أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنه قد نَقَل الإبدالَ المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين. قال بعضهم: "هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه" أي على نافع. وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها. قلت: وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة، بل جيء با عوضاً عن الهمزة الساقطة.
وقال مكي، بن أبي طالب: "وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية، والمدُّ لا يتمكَّن، إلا مع البدل، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدّولين، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن" وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله "أأنذرتهم". ومنها: أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً، فَمِنَ النظم قوله:
1911- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا * مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا
وقال آخر:
1912- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ * رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ
وأنشد الكسائي لأبي الأسود:
1913- أَرَيْتَ امرأً كنت لم أَبْلُهُ * أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
(6/206)
---(1/2369)
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب، قال: "في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان، أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي: أعلمت، فهذه مهموزة، وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى أَخْبِرْني، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين" انتهى.
وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف، والثالث: أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين، قال أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: "وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها فيم مستقبل هذا الفعل" يعني في يرى وبابه. ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف، وأنشد:
1914- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا
وأنشد لأبي الأسود:
1915- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ * فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم: {وَيْلُمِّه} وقوله:
1916- وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها * فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً:
1917- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ * إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ
أي: ومن رأى
(6/207)
---(1/2370)
ومنها: أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني، و"أخبرني" لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه: "وتقول: أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في "زيد" ألا ترى أنك لو قلت: "أرأيت أو مَنْ انت؟" لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني" وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق "أرأيت" وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واستدلُّوا بهذه الآية التي نحن فيها، وبقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم} وبقوله:
1918- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا
وهذا لا يَرِد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً .
ومنها: أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى "أخبرني" فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها.
ومنها: أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما. وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ التاء، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل، واستغير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة، الأولُ قولُ البصريِّين، والثاني قول الفراء، والثالثُ قولُ الكسائي. ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق.
(6/208)
---(1/2371)
قال أبو علي: "قولهم": "أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل" بفتح التاء في جمع الأحوال، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً، ومعنى الاسمية مخلوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب. ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب، كا لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يحلق التاء، وممَّا كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم".
(6/209)
---(1/2372)
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء: "وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك: "أرأيتك زيداً ما شأنه" لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه، وهذا مُحالٌ" ثم ذكر مذهبَ البصريين. وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء: "وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعل واحد وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع: أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع، لأن الكاف هو المخاطب، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإعراب والمعنى، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائب آخر، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت، وهذا كلُّه لا يجوزُ، ولو قلت: "أرأيتك عالماً بزيد" لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى "رأى" إلى مفعولين".
(6/210)
---(1/2373)
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصرين: "والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت: إمَّا مجرورةً - وهو باطل، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين، أحدهما: أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع، والثاني: أنها لا رافعَ لها، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه، أحدُها: أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعلين كقولك: "أرأيت زيداً ما فعلَ" فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً. والثاني: أنه لو كان مفعوللاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيت زيداً، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ" ثم ذكر مذهب الفراء ثم قال: "وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه".
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال: "لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء، كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد. ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها". وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإشارةن فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ، ومع ذلك هي حرف.
(6/211)
---(1/2374)
وقال الفراء: "موضعُ الكاف نصب، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في "دونك" إذا أغري بها، كما تقول: "دونكَ زيداً" فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً، لأنها مأمورةٌ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع". قلت: وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم، والخلاف في "دونك" وإليكط وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة.
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع، قال: "للعرب في "أرأيْتَ" لغتان ومعنيان، أحدُهما رؤيةُ العين، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرُّفُ سائر الأفعال، تقول للرجل: "أرأيتك على غير هذه الحال" تريد: هل رأيتَ نفسَك، ثم تثنِّي وتجمع فتقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ، والمعنى الآخر: أن تقول "أرأيتك" وأنت تريد معنى أخبرني، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي: أخبرني، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال يقول: أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً"؟
قال: والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتني وأريتُني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتَك بمعنى: قتلت نفسَك، ولا أحسنتَ إليك، كما يقولون: متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول: "أنا أظنُّ خارجٌ" فتلغي "أظن" وقال الله تعالى: {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} ولم يَقُلْ: رأى نفسه. وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص:
قال جران العود:
(6/212)
---(1/2375)
1919- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني * وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول: عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام" انتهى.
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو: أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن "زيداً" مفعول أول، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان: "إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك" وقال الأخفش: "إن لا بد بعد "أرأيت" التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن "أخبرني" موافق لمعنى الاستفهام" وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى "أما" أو "تنبَّه"، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا معفول واحد، وجعل من ذلك: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}. وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك.
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق: اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال، أحدُها: أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية لاتي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم" أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك: فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدةٌ مَسَدَّ الثاني: والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب.
(6/213)
---(1/2376)
الثاني: أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعوليس ظن، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه، فإنْ عَنَى بقوله: "سَدَّا مَسَدَّه" أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى.
والثالث: أن المفعول الأول محذوفٌ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ "العذاب". وهذا اختيار الشيخ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال: "فنقول: الذي نختاره: أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالإستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية. فإذا تقرَّر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع "أرأيتكم" والشرط على "عذاب الله"، فأعمل الثاني وهو "أتكاكم" فارتفع "عذاب" به، ولو أعمل الأول لكان التركيب: "عذاب" بالنصب، ونظير ذلك: "اضرب إنْ جاءك زيد" على إعمال "جاءك" ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأول. وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام: "أغيرَ الله تَدْعُون" والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره: أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه، والمعنى: قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها" انتها. والتقدير الإعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح، وتقديره: قل أرأيتكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً.
(6/214)
---(1/2377)
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ، أنه محذوفٌ، فقدّره الزمخشري: "إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون" قال الشيخ: "وإصلاحُه أن يقول: "فَمَنْ تدعون" بالفاء، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استهامية فلا بتد فيه من الفاء. الثاني: أنه "أرأيتكم"، قاله الحوفي، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني: أن الجملة المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة، إنما يقع من الاستفهام ما كان بـ"هل" أو اسمٍ من أسماء الاستفهام، وإنما لم تقع الجملة المصدر بالهمزة جوباً لأنه لا يلخو: أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً، ولا جائز أن تأتي بها لأنك: إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو: إن قمت فأزيد منطلق"، أو بعدها نحو: "أفزيد منطلق"، وكلاهما ممتنعٌ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإتيانُ بها، وهذا بخلاف "هل" فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول: إن قمت فهل زيد قائم، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة.
(6/215)
---(1/2378)
الثالث: أنه "أغير الله" وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال: "ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله" قال الشيخ: "ولا يجوز أن يتعلَّ الشرط بقوله: "أغير الله"؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا بـ"هل" وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال: "ولا يجوز أيضاً من وجه آخر، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ "أرأيتك" متعدِّية إلى اثنين، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ، وأنه من باب التنازع،والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ "أرأيتَكم" متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز" قلت: وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإعراب المشار إليه. قوله "يلزم تعدِّيها لواحد" قلنا: لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام، كما قدَّره غيرُه: بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم، ثم قال: "وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد "أرأيت" مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر:
1920- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا
وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط". انتهى.
(6/216)
---(1/2379)
ولما جَوَّزَ الزمشخري أن الشرطَ متعلِّق بقوله: {أغير الله} سأل سؤالاً وأجابَ عنه، قال:"فإنْ قلت: إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ به فما تصنعُ بقوله: "فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه" مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ} وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الشكفِ المشيئةَ وهو قوله "إنْ شاء" إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ مه" قال الشيخ: "وهذا مبنيٌّ على أن الشرط متعلقٌ بـ "أغير الله". وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز" قلت: تَرَك الشيخُ التبنيه على ماهو أهمُّ من ذلك وهو قوله: "إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه" وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكم يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك، تعالى الله عن ذلك بل أفعلاه لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، لا يُسأل عما يَفعل، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً.
الرابع: أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم، ودَلَّ عليه قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} الخامس: أن محذوف أيضاً، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى، تقديرُه: إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول: "أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به" أي: إن جاءَك فأخبرني عنه، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة "أخبرني" عليه، ونظيرُه: أنت ظالمُ إن فعلت، أي: فأنت ظالم، فحذف "فأنت ظالمٌ" لدلالةِ ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختاره الشيخ. قال: "وهو جارٍ على قواعد العربية" وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره.
(6/217)
---(1/2380)
قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} "غيرَ" مفعول مقدم لـ "تَدْعون" وتقديمُه: إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري: "بَكَّتهم بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها، وإمَّا للإنكار عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَر إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء، ألا ترى أنك إذا قلت "أزيداً تضربُ" إنما تُنْكِرُ كونَ "زيد" مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
}. قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ "صادقين" والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟
* { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ}: "بل" حرفُ إضراب وانتقال لا إبطالٍ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك. و"إياه" مفعول مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري، ولذلك قال: "بل تَخُصُّونه بالدعاء، وعند غيره للاعتناء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى. "وإياه" ضمير منصوب منفصل تقدّضم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية: "هنا "إيَّا" اسم مضم أُجري مُجرى المظهران في أنه مضاف أبداً" قال الشيخ: "وهذا خلافُ مذهبِ سيبويه، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد "إيَّا" حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير، وليس مضافاً لما بعده، لئلاَّ يلزمَ تعريفُ الإضافةِ، وذلك يستدعي تنكيره، والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإضافة.
(6/218)
---(1/2381)
قوله: {مَا تَدْعُونَ} يجوز في "ما" أربعةُ أوجه، أظهرها: أنها موصلة بمعنى الذي أي: فتكشف الذي تَدْعون، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي: تَدْعونه. الثاني: أنها ظرفية، قال ابن عطية. وعلى هذا فيكون مفعول "يشكفُ" محذوفاً تقديره: فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي: ما دُمْتُمْ داعِيه.
قال الشيخ: "وهذا ما الا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقولُ: "لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس" ويضعف: ما تطلع الشمس" قلت: قوله بمضارع" كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً بـ "لم" كَثُر وَصْلُها به نحون قوله:
1921- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّوا * أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ بجَهول
ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه:
1922- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفث ثم آوي * إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ
وقول الآخر:
1923- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّف ثم أوي * إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ
فـ "أُطَوِّفُ" صلةُ لـ "ما" الظرفية.
الثالث: أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والعائد أيضاً محذوف أي: فيكشفُ شيئاً تَدْعونه أي: تَدْعون كَشْفَه، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة. الرابع: أنها مصدرية، قال ابن عطية: "ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام" قال الزجاج: "وهو مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} قلت: والتقدير: فيكشف سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ "وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر" وقال أبو البقاء: "وليست مصدريةإلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول" يعني يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكم أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه.
قوله: {إِلَيْهِ} فيما يتعلق به وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ "تَدْعون"، والضمير حينئذ بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى بـ "إلى" أو اللام. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} {وَإِذَا دُعُوااْ إِلَى اللَّهِ} وقال:
(6/219)
---(1/2382)
1924- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها *........................
وقال:
1925- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ * يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا
وقال:
1926- دعوتُ لِما نابني مِسْوراً * فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني: أن يتلعَّق بـ "يَكْشِفُ" قال أبو البقاء: "أي: يرفعه إليه" انتهى. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه. وقال ابن عطية: "والضمير في "إليه" يُحتمل أن يعودَ إلى الله تقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه" قال الشيخ: "وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ "دعا" يتعدى لمفعول به دون حرف جر: {ادْعُونِيا أَسْتَجِبْ لَكُمْ} {إِذَا دَعَانِ} ومن كلام العرب: "دعوتُ الله سميعاً" قلت: ومثلُه: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} قال: ولا تقول بهذا المعنى: "دعوت إلى الله" بمعنى: دعوت الله، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين، ضمَّن "تدعون" معنى "تلجَؤون فيه إلى الله" إلا أنَّ التضمين ليس بقياس، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا".
قلت: ليس التضمين مقصوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن "إليه" متعلق بيكشف، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه "يرفعه" فلا يلزم المحذورُ المذكور، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله "تدعون فيه إليه" فتقديره "فيه" ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه بـ "تَدْعُون".
(6/220)
---(1/2383)
قوله: {إِنْ شَآءَ} جوابه محذوف لفهم المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شاء أن يكشِفَ كشف، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ لاقترانه بالفاء، فهو أحسنُ مِنْ قوله: "أنت ظالم إن فعلت" لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها سببيَّةٌ مرتبة أي: أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء، وأن الدعاءَ سببٌ فيه، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء: هل تفي السببيَّة أولا؟
قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} الظاهر في "ما" أن تكون موصولةً اسمية، والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً: العقلاءُ وغيرُهم، إلا أنه غَلَّب غيرَ العقلاء عليهم كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة. وقال الفارسي:"الأصلُ: وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف" ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور. ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي: تَنْسَون الإشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة، أو هو واقعٌ موقعَ المعفول به، أي: وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذا فمعناه كالأول وحينئذ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة، وأن يكون بمعنى الترك، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها.
* { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ }
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ}: في الكلام حَذْفٌ تقديره: أَرْسَلْنا رسلاً إلى أمم فكذَّبوا فأخذناهم، وهذا الحذفُ ظاهرٌ جداً، و"مِنْ قبلك" متعلِّق بأَرْسلنا، وفي جعله صفةً لأمم كلامٌ تقدَّم غير مرة، وتقدَّم تفسيرُ البأساء والضرَّاء، ولم يُلْفَظْ لهما بمذكَّر على أَفْعَل.
(6/221)
---(1/2384)
* { فَلَوْلاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {فَلَوْلاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ}: "إذ" منصوب بـ "تَضرَّعوا" فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز حتى في المفعول به، تقول: "لولا زيداً ضَرَبْتَ" وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ.
والتضرُّع: تفعُّل من الضَّراعة، هي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَعَ يَضْرَعُ ضَ{اعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال:
1927- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ * ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المهفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالو له "ضَرْعاً"
قوله: {وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} "لكنْ" هنا واقعة بين ضدين، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه "تَضَرَّعوا" مُشْعِرٌ بالين والسهولة، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب، ألا ترى أنك تقول: "آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقسا قلبه فكفر" وهذا أحسن من قول أبي البقاء: "ولكن" استدراك على المعنى، أي ما تضرَّعوا ولكن" يعني أن التحضيض في معنى النفي، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمشخري فإنه قال: "معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل: لم يتضروعا إذ جاءهم بأْسُنا، ولكنه جاء بـ "لولا" ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم".
(6/222)
---(1/2385)
وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ} هذه الجملة تحتلمل وجهين، أحدهما: أن تكون استنافيةً، أخبر تعالى عنهم بذلك. "والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلةٌ في حَيِّز الاستدارك فهي نسقٌ على قوله: {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال: "لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم" وقد تقدَّم ذلك. و"ما" في قوله: {مَا كَانُواّ} يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي: الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة.
* { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوااْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }
قوله تعالى: {فَتَحْنَا}: قرأ الجمهور "فَتَحْنا" مخفَّفاً، وابن عامر "فتَّحنا" مثقلاً، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده "أبواب" فناسب التكثير، والتخفيف هو الأصل. وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف: {لَفَتَحْنَا} وفي القمر: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ} بالتشديد أيضاً، وشدَّد أيضاً {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} والخلاف أيضاً في {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} في الزمر في الموضعين، {وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ} في النبأ، فإن الجماعة وافقوا بان عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون، فقد جرى ابن عامر على نمطٍ واحد في هذا الفعل، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين.
قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} "إذا" هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ، ومذهب الكوفيين أنها حرف. فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر المبتدأ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها.
(6/223)
---(1/2386)
والإبلاسُ: الإطراق، وقيل: هو الحُزْن المعترض من شدة البأس، ومنه اشْتُقَّ "إبليس" وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟
قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ} الجمهور على "فَقُطِع" مبنياً للمفعول. "دابر" مرفوع به. وقرأ عكرمة: "قطع" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، "دابر" مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله: "أخذناهم" إلى غيبة. والدابرُ: التابع من خلف، يقال: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً. وقيل: الدابِر: الأصل، يقال: قطع الله دابِرَه أي: أصله، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد: "دابرُ القوم آخرُهم"، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت:
1928- فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ * فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصروا
ومنه: دَبَر السهمُ الهدفَ أي: سقَط خلفَه.
* { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ }
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ}: المفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرَّ. وقال الحوفي: "وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال، والعالمُ في الحال "أرأيتم" كقولك: "اضربه إن خرج" أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة الاستفهام" وهذا إعرابٌ لا يَظْهر. ولم يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد بالإتيان بكاف الخطاب، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في التاء يلتبسَ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم، وتوحيد السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة.(1/2387)
(6/224)
---
قوله: {مَّنْ إِلَاهٌ} مبتدأ وخبر، و"مَنْ" استفهامية، "وغيرُ الله" صفةٌ بـ "إلهٌ" و"يأتيكم" صفةٌ ثانية، والهاء في "به" على سمعكم. وقيل: تعود على الجمع. وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإشارة وقيل: تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى. وقيل: يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم. والاستفهام هنا للإنكار.
قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ} "كيف" معمولةٌ لنصرِّف، ونصبُها: إمَّا على التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف، وهي مُعَلِّقةٌ لـ "انظر" فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم. "ويَصْدِفون" معناه يُعْرِضُون، يقال: صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع:
1929- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه * وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
"صُدُف" جمع صَدُوف كـ صُبُر في جمع صبور، وقيل: معنى صدف: مالَ، مأخوذ من الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي. والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال:
1930- وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ * وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ
والصَّدف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المترتفع، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان.
والجمهور: "به انظر" بكسر الهاءِ على الاصل، وروى المُسَيِّبي عن نافع: "بهُ انظر" بضمها نظراً إلى الأصل: وقرأ الجمهور أيضاً: {نُصَرِّف} مضعَّفاً، وقُرِئ شاذاً: "نَصْرِف" بكسر الراء من صرف ثلاثياً.
(6/225)
---(1/2388)
قوله: {هَلْ يُهْلَكُ} هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت "إلاَّ"، وهو استنثناءٌ مفرَّغٌ، والتقدير: ما يُهْلك إلا القوم الظالمون. وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لـ "أرأيتكم" والأولُ محذوفٌ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره. وقال أبو البقاء:"الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي: إن أتاكمْ هَلَكْتم، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن: {هل يَهْلَكُ} مبنياً للفاعل. وتَقَدَّم الكلام أيضاً على "بَغْتة" اشتقاقاً وإعراباً".
* { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}: حال من "المرسلين" وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي: لم نُرْسِلءهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم الآيات، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا. وقرأ إبراهيم ويحيى: "مُبْشِرين" بالتخفيف وقد تقدَّم أن "أَبْشَر" لغةٌ في "بَشَّر".
قوله: {فَمَنْ آمَنَ} يجوز في "مَنْ" أن تكون شرطية، وأن تكونَ موصولةً، وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر: "فلا خوف": فإن كانت شريطة فالفاء جواب الشرط، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى، ومحلُّ الثانية الرفع، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في "آمن" و"اصلَح"، وعلى المعنى فجمع في {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ويُقَوِّي كونَها موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله: {والذين كَذَّبوا}.
* { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
(6/226)
---(1/2389)
وقرأ علقمة: {نُمسُّهم}: بنونٍ مضمومة من "أَمَسَّه كذا" "العذابَ" نصباً، والأعمش ويحيى بن وثاب: "يَفْسِقون" بكسر السين، وقد تقدَّم أنها لغة. و"ما" مصدريةٌ على الأظهر، أي: بفِسْقِهم.
* { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }
قوله: {وَلاا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} في محلِّ هذه الجملة وجهان، أحدهما: النصب عطفاً على قوله "عندي خزائنُ الله" لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ، قاله الزمشخري، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب، وليس بصحيحٍ. والثاني: أنه معطوف على "لا أقول" لا معمولٌ له، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو "قل"، وهذا تخريجُ الشيخ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري: "ولا يتعيَّنُ ما قاله، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على "ألاَّ أقول" إلى آخره".
* { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }
(6/227)
---(1/2390)
قوله: {بِالْغَدَاةِ}: قرأ الجمهور: "بالغداوة" هنا وفي الكهف وابن عامر: {بالغُدْوة} بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي. والأشهر في "الغُدْوة" أنها معرفة بالعلمية، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء: "سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة الألف ولالام، إنما يقولون: جئتك غداة الخميس" وقال الفراء في كتاب "المعاني" في سورة الكهف: "قرأ عبد الرحمن السلمي: {بالغُدْوَة والعَشِي} ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في "الغدوة" لأنها معرفة بغير ألف ولام" فذكره إلى آخره.
(6/228)
---(1/2391)
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال: "إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولظُهما على تَرْكها، وكذلك الغداة، على هذا وجدنا العرب". وقال الفارسيُّ: "الوجه قراءة العامة بالغداة، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام، فأمَّا "غُدْوَة" فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك. ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها، فكذلك الغداة. قال سيبويه: "غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين، كما جعلوا "أم حُبَيْن" اسماً لدابَّةٍ معروفة". إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عبيد - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير "غدو" لغة ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل.
قال سيبويه: "زعم الخيل أنه يجوز أن تقول: "أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة" فجعلها مثل ضَحْوة، قال المهدوي: "حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول "غُدْوةً" بالتنوين، وبذلك قرأه ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألف واللام" وقال أبو الفارسي: "وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر، كما حكى أبو زيد "لقيته فَيْنَةَ" غير مصروفة "والفَيْنَةَ بعد الفينة" أي: الحين بعد الحين، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني".
(6/229)
---(1/2392)
وقال أبو جعفر النحاس: "قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر: "بالغُدْوة" قال: "وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف" وقال مكي بن أبي طالب: "إنما دَخَلَت الألف واللام على "غداة" لأنها نكرة، وأكثر العرب يَجْعل "غُدوة" معرفةً لا ينوِّنها، وكلهم يجعل "غداة" نكرةً فينوِّنها، ومنهم مَنْ يجعل "غُدْوة" نكرة وهم الأقل" فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتها عن هؤلاء الأئمة أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغةً.
وأما "العَشِيُّ" فنكرةٌ وكذلك "عَشِيَّة" وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي: إن هذا اللفظَ فيه لغتان: التذكير والتأنيث أو أن عَشِياً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة، فيكون اسم جنس، خلاف مشهور، والظاهر الأول لقوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة "الغدوة" بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو "الغداة". وأصل غداة: غَدَوَة، تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عبلة "بالغَدَوات والعَشِيَّات" جمع غداة وعشية، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً "بالغدوِّ" بتشديد الواو من غير هاء.
قوله: {يُرِيدُونَ} هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل "يَدْعون" أو مِنْ مفعلوله، والأول هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ أي: يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه.
(6/230)
---(1/2393)
قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} "ما" هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون "عليك" في محل النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان طرفاً أو حرف جر، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان "عليك" في محصل رفع خبراً مقدماً، والمبتدأ هو "مِنْ شيء" زِيْدت فيه "مِنْ".
وقوله: {مِنْ حِسَابِهِم} قالوا: "مِنْ" بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال، وصاحبُ الحال هو "مِنْ شيء" لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، والعامل في محلِّ رفع بالفاعلية ورافعُه "عليك" لاعتماده على النفي، و"مِنْ حسابهم" حالٌ أيضاً من "شيء" العمل فيها الاستقرار، والتقدير: ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم. وأُجيز أن يكون "من حسابهم" هو الخبر: إمَّا لـ "ما" وإمَّا للمبتدأ، "وعليك" حال من "شيء"، والعامل فيها الاستقرار، وعلى هذا فيجوز أن يكون "من حسابهم" هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه، و"عليك" حال أيضاً كما تقدم تقريره، وكون "من حسابهم" هو الخبر، و"عليك" هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو "عليك".
(6/231)
---(1/2394)
وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} كالذي قبله، إلا أنَّ هنا يتمنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله "من حسابك" لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله "مِنْ حسابك" بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ "مِنْ" هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثاينة على نَمَط الأولى لكان التركيب: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} فتقدَّم المجرور بـ "على" كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم.
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم: "عادات السادات سادات العادات"، ومثله في المعنى قول الشاعر:
1931- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ * وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
(6/232)
---(1/2395)
وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - "فإن قلت أما كفى قولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} حتى ضمَّ إليه {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه". قال الشيخ: "قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره" تركيبٌ غير عربي، لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً، لأنه إنْ غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله "هم" ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قولُه "لا تُؤاخذ أنت" ولا يمكن العَوْدُ إليه، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً، ولو أَبْرَزْته مخاطباً منك ولا منهم بحسابِ صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم" فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول: "أنت وزيد تضربان" والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره: لا يؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بحساب صاحبه، وتكون "انت ولا هم" بدلاً من كل واحد، والضمير، في "صاحبه" عائد على قوله "كل واحد"، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم، وذلك أنه قال: "أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم" وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثاني هو المقصود.
(6/233)
---(1/2396)
الضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: {مِنْ حِسَابِهِم} و"عليهم" و"فتطردهم" الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم، وبه قال الطبري، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ. وقال الزمخشريّ وبان عطية: "إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود على الداعين". قال الشيخ: "وقيل: الضميرُ في "حسابهم" و"عليهم" عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه"، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين "في حسابهم" و"عليهم" عائدَيْن على المشركين، وليس الأمرُ كذلك، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو "لا تَطْرُدِ" وبين جوابِه وهو فتكونَ" وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في "فتكون": "وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله {وَلاَ تَطْرُدِ} وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه" فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين. ويعين بالجملتين "وما عليك من حسابهم مِنْ شيء" و"ما من حسابك عليهم من شيء" وبجواب الأول قوله {فَتَطْرُدَهُمْ}.
(6/234)
---(1/2397)
قوله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ} فيه وجهان، أحدهما: منصوب على جواب النهي بأحد معنين فقط، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم، لأنه يفنتقي المُسَبِّب بانتفاء سببه، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو "ما تأتينا فتحدِّثنا" بنصب "فتحدِّثَنا" وهو يحتمل معنيين، أحدُهما: انتفاءُ الإتيان وانتفاء الحديث، كأنه قيل: ما يكون منك إتيان فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي: ما يكون مؤاخذة كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انتفاء الحديث وثبوت الإتيان كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث. وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة، والعملماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني: أن يكون منصوباً على جواب النهي.
وأما قوله "فتكونَ" ففي نصبه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب عطفاً على "فتطردَهم" والمعنى: الإخبار بانتفاء حسابهم، والطرد والظلم المسبب عن الطرد. قال الزمخشري: "ويجوز أن تكون عطفاً على "فتطردَهم" على وجه السبب، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم".
والثاني من وجهي النصب: أنه منصوب على جواب النهي في قوله: "ولا تَطْرد" ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره. قال الشيخ: "وجوَّزوا أن يكون "فتكونَ" جواباً للنهي في قوله "لا تَطْرِدِ" كقوله: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه" قلت: قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله "مِنْ حسابهم" و"عليهم" عل المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك.
(6/235)
---(1/2398)
* { وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوااْ أَهَاؤُلااءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ فَتَنَّا}: الكاف في محصل نصب على أنها نعت لمصرد محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض، فالإشارةُ بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله: {فَتَنَّا} ولذلك قال الزمخشري: "ومِثْل ذلك الفَتْن العظيم فُتِين بعض الناس ببعض" فجعلَ الإشارة لمصدر "فتنَّا"، وانظر كيف لم يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه، وإن كان الباري تعالى قد أَسْندها، بل قال: "فُتِن بعضُ الناس" فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة.
وجعل ابنُ عطية الإشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير: "والإشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة". قال الشخ: "ولا ينتظم هذا التشبيه، إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ببعض]، والمتبادر إلى الذهن من قولك: "ضربْتُ مثل ذلك" المماثلةُ في الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر.
قوله: {لِّيَقُولوااْ} في هذه اللام وجهان، أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمفسِّرين - أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً منا وامتحانا. والثاني: أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله:
1932- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب * .....................
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} ويكونُ قولهم "أهؤلاء" إلى آخره، صادراً على سبيل الاستخفاف.
(6/236)
---(1/2399)
قوله: {أَهَاؤُلااءِ} يجوز في وجهان، أظهرهما: أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر، العامل في ضمير بوساطة "على"، ويكون المفسِّر من حيث المعنى مَنَّ عليهم، ولا محلَّ لقوله: {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم} لكونها مفسرة، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها. والثاني: أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر: مَنَّ الله عليهم، وهذا وإن كان سالماً من الإضمار الموجود في الوجه الذي قبله، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم، و"عليهم" متعلِّقٌ بـ "مَنَّ".
و{مِّن بَيْنِنَآ} يجوز أن يتعلَّق به أيضاً، قال أبو البقاء: "أي: ميَّزهم علينا، ويجوز أن يكون حالاً" قال أبو البقاء أيضاً: "أي: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب، إلاأنه لم يَسُقْهما إلا تفسيرَيْ إعراب، والجملة من قوله: {أَهَاؤُلااءِ مَنَّ اللَّهُ} في محلِّ نصب بالقول.
وقوله: {بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها لكونها زائدةً في خبر ليس، والثانية متعلقة بأعلم، وتَعدِّي العِلءم بها لِما ضُمِّن من معنى الإحاطة، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون: عَلِم بكذا، والعِلْم بكذا، لما تقدم.
* { وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُواءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(6/237)
---(1/2400)
قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ}: "إذا" منصوب بجوابه أي: فقلْ: سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاء: "العامل في "إذا" معنى الجواب أي: إذا جاؤوك سلِّم عليهم" ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة،وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط، وتقديره يُفْضي إلى ذلك.
وقوله: {سَلاَمٌ} مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ، والدعاء من السموِّغات. وقال أبو البقاء: "لما فيه من معنى الفعل" وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو: قائمٌ أبواك، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه، واستدل الأخفش بقوله:
1933- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً * مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره، فـ "خبير" خبرٌ مقدَّمٌ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر:
1934- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ * إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
فخير مبتدأ، و"نحن" فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر،
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون "خير" خبراً مقدماً، "ونحن" مبتدأ مؤخر؟ قيل: لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و"مِنْ" بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع، و"عليكم" خبرُه، و"سلام عليكم" أبلغُ من "سلاماً عليكم". بالنصب، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة "الحمدُ" و"الحمدَ".
وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ} في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}.
(6/238)
---(1/2401)
قوله {أنَّه، فأنَّه} قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عن روايتان. فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه، أحدها: أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإخبار رحمة. والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف أي: عليه أنه من عمل إلى آخره. والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه مَنْ عمل، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفول بـ "كتب" و"الرحمة" مفعول من أجله، أي: كتب أنه مَنْ عِمِل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: "وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه".
(6/239)
---(1/2402)
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي: فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوااْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه} كما أجمعوا على كسرها في قوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} الثاني: أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم. الثالث: أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعُطِفت عليها بالفاء، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن "مِنْ" في قوله: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} لا تخلو: إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في حل رفع بالابتداء، فلو جعلنا "أن" الثانية، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشريط، وهو لا يجوز.
(6/240)
---(1/2403)
قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال: "ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} ودخلت الفاء في "فأنه غفورٌ" على حَدِّ دخولها في {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} على قول مَنْ جعله تكريراً لقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} إلا أن هذا ليس مثلَ "أيعدكم أنَّكم"؛ أنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم" انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك.
الرابع: أنها بدل من "أنَّ" الأولى، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين، أحدهما: أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل الفاء زائدةً. فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر: وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط غن خبر أو جواب. والثاني من الشيئين: خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدَّم تقريره: فإن قيل: نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل: هذا بعيدٌ عن الفَهْم.
الخامس: أنها مرفوعةٌ بالفاعلية، تقديره: فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي: استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره: فعليه أنه غفور، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة.
(6/241)
---(1/2404)
وأما القراءة الثانية: فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} والثاني: أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجرى "كتب" مُجْرى "قال" فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصيريين. وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً لـ "مَنْ" الموصولة، أو جواباً لها إن كانت شرطاً. والثاني: أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها، ويُعْترض على هذا يأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر و الشرط بلا جزاء، كا تقدَّم ذلك في المتفوحتين.
وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر "مَنْ" محذوفٌ دلَّ عليه الكلام، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها، ثم قال: "ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي: فإنه غفورُ له" قلت: قوله "ويجوز" ليس بجيدٍ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لك يكنْ نفسَ المبتدأ.
وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر.
وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة: "وأجاز الزجاجُ كَسْرَ الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به" قلت: قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب.
(6/242)
---(1/2405)
والهاء في "أنَّه" ضمير الأمر والقصة. و"مَنْ" يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة، والعائد محذوف أي: غفول له. والهاء في "بعده" يجوز أن تعود على "السوء" وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} والأولى أولى لأنه أصرح، و"منكم" متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل "عمل"، ويجوز أن تكون "مِنْ" للبيان فيعمل فيها "أعني" مقدراً.
وقوله {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه يتعلَّق بـ "عمل" على أن الباءَ للسببيةِ أي: عملُه بسبب الجهل. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح. والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي: عملُه مصاحباً للجهالة. "ومِنْ" في "مِنْ بعده" لا بتداء الغاية.
* { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ}: الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، والإشارة بـ "ذلك" إلى التفصيل السابق، تقديره: مثل ذلك التفصيل البيِّن، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن. وقال ابن عطية: "والإشارة بقوله "وكذلك" إلى ما تقدَّم، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها". وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله: {وَكَذالِكَ فَتَنَّا} وتقدَّم أنه غير ظاهر.
(6/243)
---(1/2406)
قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} قرأ الأخوان وأبو بكر: "وليستبين" بالياء من تحت، "سبيلُ" بالرفع ونافع: "ولتستبين" بالتاء من فوق، "سبيلَ" بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، "سبيل" بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير "السبيل" وتأنيثه وتَعَدَّي "استبان" ولُزِومه. وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير "السبيل" وعليه قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} لغةُ الحجاز التأنيث، وعليه: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِيا} وقوله:
1935- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها * ..................
وأمَّا "استبانَ" فيكونُ متعدِّياً نحو: استَبَنْتُ الشيءَ" ويكون لازماً نحو: "استبان الصبح" بمعنى بأن، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى "السبيل" فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث. ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب "السبيلَ" فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب "السبيل" على المفعولية وذلك على تعدية الفعل أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في "لتستبينَ" مختلفةُ المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث، وهي في كلا الحالين للمضارعة، و"تسبين" منصوب بإضمار "أن" بعد لام كي، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على علة محذوفة، وتلك العلة معمولةٌ لقوله: {نفَصِّلُ} والمعنى: وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي: ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل. وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيِ، أي: وسبيل المؤمنين، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وقيل: لا يُحتاج إلى ذلك، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره.
(6/244)
---(1/2407)
* { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
قوله تعالى: {أَنْ أَعْبُدَ}: في محل "أَنْ" الخلاف المشهور، إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره: نُهِيْتُ عن أن أعبدَ. وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} "إذن" حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه، والمعنى: "إن اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت" فيه في قوة شرط وجزاء.
والجمهور: {ضَلَلْتَ} بفتح اللام الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة بكسرها، وقد تقدَّم أنها لغة. ونقل صاحب التحرير [عن يحيى وابن أبي ليلى أنها قرآ] هنا وفي ألم السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} بصاد غير معجمة. يقال: صَلَّ اللحمُ أي: أنتن، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو ممتنعٌ. وروى العباس عن ابن مجاهد في "الشواذ" له: "صُلِلْنا في الأرض" أي دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة. وقوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تأكيد لقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على تجدد الفعل وحُدوثهِ، وبالثانية اسمية ليدلَّ على الثبوت.
* { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }
قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُم بِهِ}: في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار "قد" أم لا؟ والهاء في "به" يجوز أن تعود على "ربي" وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على "بَيِّنَة" لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و"من ربي" في محل جر صفة لـ "بينة"
(6/245)
---(1/2408)
قوله: {يَقُصُّ الْحَقَّ} قرأ نافع وابن كثير وعاصم: "يقص" بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: "يقضي بالحق" من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: "يقضي بالحق وهو خير القاضين" فأمَّا الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وكما حُذِفَتْ الواو في {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لما تقدم.
وأمَّا نصب "الحق" بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن "يقضي" معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن "قضى" بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:
1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما * داودُ ....................
أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:
1937- تمرُّون الدِّيرا فلم تَعْوجوا *.................
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
(6/246)
---(1/2409)
وأما قراءة "يَقُصُّ" فمِنْ "قَصَّ الحديث" أو مِنْ "قصَّ الأثر" أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: "أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحق" وحُكي عنه أنَّه قال: "أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحق" فقالوا: "يقصُّ" فقال: "لوك كان "يقص" لقال: "وهو خير القاصِّين" اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} فالفصل إنما يكون في القضاء" وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه "وهو خير القاصِّين" قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: "القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وقال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ} فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم "من الفاصلين" أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.
* { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}: من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم، إذا لو جاء على الأصل لقال: "والله أعملُ بكم".
* { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
(6/247)
---(1/2410)
قوله تعالى: {مَفَاتِحُ}: فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه جمعُ مِفْتح بكسر الميم والقصر، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو: مُنْخُلأ ومَنَاخل. والثاني: أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً، إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع مِحْراب مَحارب، وفي جمع قُرْقُرر قراقر، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده كقولهم: دراهيم وصياريف في جمع دِرْهم وصَيْرَف، قال:
1938- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ * نَفْيَ الدارهيم تَنْقادُ الصَّياريفِ
وقالوا: عيِّل وعَياييل. قال:
1939- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ
الأصل: عيايل ونمور، فزاج في ذلك ونَقَّصَ مِنْ هذا.
وقد قُرِئ "مفاتيح" بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح، وإنما حُذِفَتْ مدَّتْه. وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق: "فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى "الفتح"، كأن المعنى: "وعنده فتوح الغيب" أي: هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده. وقال أبو البقاء: "مفاتح جمع مَفْتَح، والمَفْتَحُ الخزانة، فأمَّا ما يُفتح به فهو المفتاحُ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً" انتهى. يريد جمع مَفتح أي بفتح الميم. وقوله: "وقد قيل: مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المدُّ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها.
(6/248)
---(1/2411)
قوله: {لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} في محل نصب على الحال من "مفاتح"، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً. وقال أبو البقاء: "نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح" أي: إنْ رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخفش، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول، فلا فرق بين أن ترفعَ به الفاعل أو تجعله خبراً.
قوله: {مِن وَرَقَةٍ} فاعل "تَسْقُط" و"مِنْ" زائدة لاستغراق الجنس، وقوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} حالٌ من "ورقة" وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها على النفي، والتقدير: ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك: "ما أكرمْتُ أحداً إلا صالحاً" ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً لـ "ورقة" وإذا كانوا أجازوا في قوله {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أن تكون نعتاً لقرية في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو، فأَنْ يجيزوا ذلك هنا أولى، وحينئذ فيجوز أن تكون في مضوع جر على اللفظ أو رفع على المَحَلَّ.
قوله: {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على لفظ "ورقةٍ" ولو قُرِئ بالرفع لكان على الموضع. و"في ظلمات" صفة لحبة. وقوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان أيضاً على لفظ "ورقة" وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله: "ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ" وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين، ونظَّر الوجه الثاني بقولك: "لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار".
(6/249)
---(1/2412)
قله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} في هذا الاستثناء غموض، فقال الزمخشري: "وقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كالتكرير لقوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأن معنى "إلاَّ يعلمها" ومعنى "إلا في كتاب مبين" واحد، والكتاب علم الله أو اللوح" وأبرزه الشيخ في عبارة قريب من هذه فقال: "وهذا الاستثناء جارٍ مجرى التوكيد لأن قوله: "ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس" معطوف على "مِنْ ورقة" والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول: "ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا أمرأةٍ" فالمعنى: إلا أكرمتها، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحَسَّنه كونُه فاصلة" انتهى. وجعل صاحب "النظم" الكلامَ تاماً عند قوله: {ولا يابس} ثم استأنف خبراً آخر بقوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضاً. قال: "لأنك لو جَعَلْتَ قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضاً. قال: "لأنك لو جَعَلْتَ قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى، وبيان فساد في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قول: "ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين"انتهىقلت: إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ، وسيأتي كيف فسادُه، أمَّا لو حعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يَابِسٍ} ويُبْتَدَأ بـ "إلال" وكيف تقع "إلا" هكذا؟
(6/250)
---(1/2413)
وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال: "إلا في كتاب مبين" أي: إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه "يَعْلمها"؛ لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلا الإثبات أي: لا يعملها في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي: وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يَعْلَمُها" انتهى. وجوابه ما تقدم به جَعْل الاستثناء تأكيداً، وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه.
* { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {بِاللَّيْلِ}: متعلق بما قبله على أنه ظرف له، والباء تأتي بمعنى "في، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة. وقال أبو البقاء هنا: "وجاز ذلك لأنَّ الباء للإلصاق، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما" يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإلصاق مجازاً نحو ما قالوه في "مررت بزيد" وأسند التوفِّي هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة، وأسند إلى غيره في قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} لأنه يُنْفَرُ منه، إذ المرادُ به الموت.
(6/251)
---(1/2414)
وقوله: {مَا جَرَحْتُم} الظاهر أنها مصدريةٌ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول. و"بالنهار" كقوله: {بِاللَّيْلِ} والضمير في "فيه" عائد على النهار. هذا هو الظاهر قال الشيخ: "عاد عليه لفظاً" والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي درهم ونصفه" قلت: ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه، وأمَّا من نحو: "درهم ونصفه" فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام، قالوا: لأنك إذا قلت: "عندي درهم" عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً، فقولك بعد ذلك: "ونصفه" تضطرإلى عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه. وقيل: يعود على الليل. وقيل: يعود على التوفِّي وهو النوم أي: يُوقظكم في خلال النوم. وقال الزمخشري: "ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار" انتهى. وهو حسن.
وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب. وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير.
قوله: {لِيُقْضَى أَجَلٌ} الجمهور على "لِيُقْضَى" مبنياً للمفعول و"أجلٌ" رفع به،وفي الفاعل المحذوف احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير المخاطبين، أي: لتقضوا أي: لتستوفوا آجالكم. وقرأ أبو رجاء وطلحة: "ليقضي" مبنياً للفاعل وهو اللله تعالى، "أجلاً" مفعول به، و"مُسَمَّى" صفة، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في "شرح القصيد" واللام في "لِيُقْضَى" متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي: يتوفَّاكم يبعثكم لأجل ذلك.
(6/252)
---(1/2415)
* { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ }
قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ}: فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل، لأنه في معنى يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله، ومثلُه عند بعضهم: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ} قالوا: فأقرضوا عطف على "مصدقين" الواقعِ صلةً لأل، لأنه في معنى: إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا، وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن "وأقرضوا" من تمام صلة أل في "المصِّدِّقين" وقد عطف على الموصول قوله "المصدقات" وهو أجنبي، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته. وأمَّا قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} فيقبضن في تأويل اسم أي: وقابضات. ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ} وقوله:
1940- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ * ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا
والثاني: أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ} والثالث: أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله: يتوفَّاكم ويعلم، وما بعده، أي: وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل. الرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أظهرهما: أنه الضميرُ المستكنُّ في "القاهر" والثاني: أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف، كذا قال أبو البقاء، ونقله عن الشيخ وقال: "وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاري" وقولهما "الضمير الذي في الظرف" ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه "فوق عباده" ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟
(6/253)(1/2416)
---
والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن "فوق عباده" فيه خمسة أوجه، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي: كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من الخبر أو حالاً، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل "يُرْسِلُ" لأن المضارع المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة. والخامس: أنها مستأنفةٌ سِيقت للإخبار بذلك، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني.
وقوله: {عَلَيْكُم} يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بيرسل، ومنه: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً} إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلق بـ "حَفَظَة". يقال: حَفِظْتُ عليه عمله، فالتقدير: ويُرْسل حَفَظَة عليكم. قال الشيخ: "أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تعمل" فقوله: "كما قال: إن عليكم لحافظين" تشبيه من حيث المعنى لا أن "عليكم" تعلق بحافظين؛ لأن "عليكم" هو الخبر لـ "إن" فيتعلق بمحذوف. والثالث: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من "حفظة" إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها.
قال أبو البقاء: "عليكم" فيه وجهان أحدهما: هو متعلِّق بيرسل، والثاني: أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفس "حَفَظة" والمفعول محذوف أي: يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفةً لـ "حَفَظة" قُدِّمَتْ فصارت حالاً" انتهى. قوله: "المفعول محذوف" يعني مفعول "حفظة" إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك بل لا بد من تقدير على كل وحه، و"حَفَظَة" إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف، تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حفظة، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف.
(6/254)
---(1/2417)
و"حَفَظَة" جمع حافظ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام، لعاقيل مذكر كـ"بارّ" و"بَرَة" و"فاجِر" و"فَجَرة" و"كامل" و"كَمَلة"، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم: غراب ناعق وغربان نَعَقَه. وتقدَّم مثل قوله: "حتى إذا جاء"
قوله: {تَوَفَّتْهُ} قرأ الجمهور: {توفَّتْه} ماضياً بتاء التأنيث الجمع. وقرأ حمزة: {توفَّاه} من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين أظهرهما: أنه ماضِ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين، أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تتوفاه بتاءين، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما كـ"تَنَزَّلُ" وبابه. وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش: {يتوفَّاه} مضارعاً بياء الغَيْبة، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل، فهي كقراءة حكمة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً. وقال أبو البقاء: "وقرئ شاذاً: {تتوفَّاه} على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء.
(6/255)
---(1/2418)
قوله: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} هذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها حال من "رسلنا" والثاني: أنها استئنافية سيقت للإخبار عنهم بهذه الصفة، والجمهور على التشديد في "يُفْرِّطون" ومعناه لا يُقَصِّرون وقرأ عمرو بن عبيد والأعرج:"يُفْرِطون" مخففاً من أفرط، وفيها تأويلان أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به. قال الزمخشري: "فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدِّ،و الإفراط: مجاوزة الحدِّ أي: لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون" والثاني: أن معناه لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم. وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال: "معنى لا يُفْرِطون: لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي: يَسْبقهم ويفوتهم" وقال أبو البقاء: "ويُقرأ بالتخفيف أي: لا يزيدون على ما أُمِروا به" وهو قريب مِمَّا تقدم.
* { ثُمَّ رُدُّوااْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }
قوله تعالى: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}: صفتان لله. وقرأ الحسن والأعمش: "الحقَّ" نصباً، وفيه تاويلان، أظهرهما: أنه نعت مقطوع. والثاني: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل. وقرئ: {رِدُّوا} بكسر الراء، وتقدَّم تخريها مستوفى. والضمير في "مولاهم" فيه ثلاثة أوجه، أظهرهما: أنه للبعاد في قوله {فَوْقَ عِبَادِهِ} فقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} التفاتٌ، إذا الأصل: ويرسل عليهم وفائدة هذا الاتلفات التنبيهُ والإيقاظ. والثاني: أنه بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم. والثالث: أنه يعود على "أحد" في قوله: {إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} إذ المراد به الجمع لا الإفراد.
* { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
(6/256)
---(1/2419)
قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ}: قرأ السبعة هذه مشددة، {قل الله ينجيكم}: قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة كالأولى، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من "أنى" حميدُ بن قيس يعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكروان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالضعيف، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} والاستفهام للتقرير والتوبيخ، وفي الكلام حذف مضاف أي: مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها، والظلمات كناية عن الشدائد.
قوله: {تَدْعُونَهُ} في محل نصب على الحال: إمَّا من مفعول "ينجيكم" وهو الظاهر، أي: يُنجيكم داعين إياه،وإمَّا من فاعله أي: مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم.
قوله: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها مصدران في موضع الحال أي: تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين. والثان: أنها مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله: قَعَدْتُ جلوساً. وقرأ الجمهور: {خُفْية} بضم الخاء. وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدورة والعِدوة، والأُسروة والإسوة. وقرأ الأعمش: {وخيفة} كالتي في الأعراف وهي من الخوف، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه "تضرُّعاً" من المعنى.
(6/257)
---(1/2420)
قوله: {لَّئِنْ أَنجَانَا} الظاهر أن هذه الجملة القسمية تفسير للدعاء قبلها، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ على إضمار القول، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل "تَدْعُونه" أي: تدعونه قائلين ذلك،وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم. وقرأ الكوفيون: "أَنْجانا" بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله: {تَدْعُونَهُ} والباقون" "أَنْجَيْتنا" بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه، فإنَّ في مصاحق الكوفة: "أنجانا"، وفي غيرها: "أَنْجَيْتنا".
قوله: {مِنْ هَاذِهِ} متعلِّقٌ بالفعل قبله، و"مِنْ" لابتداء الغاية، و"هذه" إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في "منها" تعود على الظلمات لما تقدم.
* { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }
وقوله: {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ}: عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر وهو واجبٌ عند البصريين وقد تقدم.
* { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }
قوله: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ}: يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بـ "نبعث"، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة لـ "عذاباً" أي: عذاباً كائناً من هاتين الجهيتن.
قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} عطف على "يَبْعَث" والجمهور على فتح الياء من "يَلْبسكم" وفيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة مشايعة لإمام، ومعنى خَلْطهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم القتال كقول الحماسي:
1941- وكتيبة لَبَّسْتُها بكتيبةٍ *حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي
(6/258)
---(1/2421)
فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم * ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي "يلبس" إلى المفعول. و"شيعاً" نصب على الحال. وهي جمع شِيْعة كسِدْرة وسِدَر. وقيلي: "شيعاً" منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي: إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً. قال الشيخ: "ويحتاج في جعله مصدراً إلى نَقْلٍ من اللغة". ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي: راكضاً أو ذا ركض. وقال أبو البقاء: "والجمهور على فتح الياء أي: يلبس عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجودُ أن يكون التقدير: أو يلبس أموركم، فحُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه لِما عَرَفْتَ من كلام الزمخشري.
وقرأ ابو عبد الله المدني: "يُلبسكم" بضم الياء من "ألبس" رباعياً، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: أو يلبسكم الفتنة. و"شيعاً" على هذا حال أي: يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم. والثاني: أن يكون "شِيعاً" هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً كقوله:
1942- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ * وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
والشيعة: مَنْ يتقوَّى بهم الإنسان، والجمع: "شِيَع" كما تقدم، وأشياع كذا قاله الراغب، والظهر أن أشياعاً جمع شِيَع كِعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع، وشِيَع جمع شِيْعة، فهو جمع الجمع.
قوله: {وَيُذِيقَ} نسق على "يَبْعَث" والإذاقة: استعارة، وهي فاشية: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} {ذُقْ إِنَّكَ} {فَذُوقُواْ العَذَابَ} وقال:
1943- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً *وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش: {ونذيق} بنون العظمة، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير من سطوته.
* { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }
(6/259)
---(1/2422)
قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ}: الهاء في "به" تعود على العذاب المتقدم في قوله {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قاله الزمخشري، وقيل: تعود على القرآن، وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة. وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه، فلو كان كذلك لقال: "وكذَّب به قومك، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل: لا بد من حذف صفة هنا أي: وكذَّب به قومك المعاندون، أو الكافرون، لأن قومه كلهم مل يكذِّبوه كقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: الناجين. وحَذْفُ الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس. وقرأ ابن عبلة.
{وكَذِّبَتْ} بتاء التأنيث، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ
}. قوله:{وَهُوَ الْحَقُّ} في هذه الجملةِ وجهان، الظاهر منهما: أنها استئناف، والثاني: أنها حال من الهاء في "به" أي: كذَّبوا به في حال كونه حقاً، وهو أعزم في القبح.
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل، ويجوز أن يكون حالاً من قوله "بوكيل"؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له، وهذا عند مَنْ يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة، وأنشدوا عليه:
1944- غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ * ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ
فقدَّم "غافلاً" على صاحبها وهو "المرء" وعلى عاملها وهو "تُعرض" فهذا أَوْلى ومنه:
1945- لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً * إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
أي: إليَّ هيمان صادِياً، ومثله:
1946- فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ * فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ
"فرغاً" حال من "بقتل" و"حبال" بالمهملة اسم رجل، مع أن حرف الجر هنا زائدة فجوازه أولى من ما ذكرنا.
* { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
(6/260)
---(1/2423)
قوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ}: يجوز رفع "نبأ" بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله، عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكونَ "مستقر" اسمَ مصدرٍ أي استقرار، أو مكان أو زمانز
* { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيا آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ}: "إذا" منصوب بجوابها وهو "فأعرضْ" أي: أعرضْ عنهم في هذا الوقت، و"رأيت" هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد. قال الشيخ: "ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي: رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها، أي: وإذا رأيتم ملتس بالخوض فيها" انتهى. قلت: ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله "يخوضون" مضارع والراجح حاليَّتُه، وأيضاً فإن "الذين يخوضون" في قوة الخائضين، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خوف، فيُحمل هذا على حقيقته، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة. ويحتمل أن تكون عِلْميَّة، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه حَذْفُ المفعول الثاني، وحذفه: إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين.
قوله: {غَيْرِهِ} الهاء فيها وجهان، أحدهما: أنه تعود على الآيات، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخوض أي: المدلول عليه بالفعل كقوله:
1947- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه * وخالف والسفيهُ إلا خلافِ
أي: جرى إلى السَّفه، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي: حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض.
(6/261)
---(1/2424)
قوله: {يُنسِيَنَّكَ} قراءة العامة: "يُنْسِيَنَّك" بتخفيف السين من "أنساه" كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ "نَسَّاه" والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقندم في أنجى ونجَّى، وأمهل ومهَّل. والمفعول الثاني محذوف في القراءتين، تقديره: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق. والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم، وجاء الشرط الأول بـ "إذا" لأنَّ خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني بـ "إنْ" لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه.
ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ "ذكرى" وقال ابن عطية: "وإمَّا" شرط، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم، كقوله:
1948- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ * ....................
وهذا الذي ذكره مِن لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في "شرح التسهيل" كقوله:
1949- إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ
على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلية دون الخفيفة، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك.
* { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
(6/262)
---(1/2425)
قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ}: يجوز أن تقدِّر "ما" حجازية فيكون "من شيء" اسمَها، و"من" مزيدة فيه لتأكيد الاستغراف، و{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمة الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في الظرف وعديله. و{مِنْ حِسَابِهِم} حال من "شيء"؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له، ويجوز أن تكون مهملةً: إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ
}. قوله: {وَلَاكِن ذِكْرَى} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ مضمر، فقدَّره بعضهم أمراً أي: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وبعضهم قدَّره خبراً أي: ولكن يذكرونهم ذكرى. الثاني: أنه بمتدأ خبره محذوف اي: ولكن عليهم ذكرى، أو عليكم ذكرى أي: تذكيرهم. الثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هو ذكرى اي: النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع: أنه عطف على موضع "شيء" المجرور بـ "مِنْ" أي: ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل، وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ، وردَّه عليه الشيخ، فلا بد من إيراد قولهما. قال أبو القاسم: "ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل "من شيء" كقولك: "ما في الدار من أحد ولكن زيد" لأن قوله "من حسابهم" يأبى ذلك.
(6/263)
---(1/2426)
قال الشيخ: "كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو "من حسابهم" فهو قيد في "شيء"، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على "من شيء" على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء، لا يلزم في العطف بـ "ولكن" ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق، وما عندنا رجل من تميمولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدَّم، وأن يكون من عطف المفردات، والعطف بالواو، و"لكن" جيء بها للاستدراك".
(6/264)
---(1/2427)
قلت: قوله "تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق" إلى آخره الأمثلة التي ذكرَها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد المعطوف بذلك القيد، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها. فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت: "وعمرا يوم السبت" لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده، ولو شاركه في قديه لزم منه ما ذكر الزمخشري، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول: ما عندما رجل سوء ولكن امرأة، وماعندنا رجل من تميم ولكن صبيُّ، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكنْ امرأة سوء، ولكن صبي من قريش، وقول الزمخشري "عطفاً على محل "من شيء" ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها: وهو أن "لكن" حرف إيجاب، فلو عطف ما بعدها على المجرور بـ "مِنْ" لفظاً لزم زيادة "من" في الواجب، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه، ويدلُّ على اعتبار الأيجاب في "لكن" أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و"بل" كـ "لكن" فيما ذكرت لك.
* { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
(6/265)
---(1/2428)
قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً}: "اتخذوا" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا، و"لهواً ولعباً" على هذا مفعول من أجله أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. والثاني: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما "دينهم" وثانيهما "لعباً ولهواً" قال الشيخ: "ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن "لعباً ولهواً" هو المفعول الأول، و"دينهم" هو المفعول الثاني. قال الزمخشري: "أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذواب به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال: "فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا".
وقال ابن عطية: "وأضاف على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى: اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه" انتهى. قلت: وهذا الذي ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى لك مع أنهما من أكابر أهل ها الشأن، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثلانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام لاعرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدِّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟
وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ } أي بالقرآن، يدلُّ له قوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وقيل: يعود على حسابهم. وقيل: على الذين وقيل: هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه.
(6/266)
---(1/2429)
وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ} تحتمل وجهين. أحدهما: أنها مستأنفةٌ والثاني: أنها عطفٌ على صلةِ الذي أي: الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل: هنا غَرَّتهم من "الغَرّ" بفتح العين أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر:
1950- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني * بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ
قوله: {أَن تُبْسَلَ}: في هذا وجهان، المشهور- بل الإجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره: مخافة أن تُبْسَل، أو كراهة أن تُبْسَلَ، أو أن لا تبسل والثاني: قال الشيخ: - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - "ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير، والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل، ويُضْمر الإبسالُ لما في الإضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن، والتقدير: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا: "اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ" وقد أجاز ذلك سيبويه قال: "فإ، قلت: "ضربت وضربوني قومك" نصبـ إلا في قول مَنْ قال: أكلوني البراغيث، أوتحملُه على البدل من المضمر. وقال أيضاً: "فإن قلتَ: "ضربني وضربتُهم قومُك" رَفَعْتَ على التقديم والتأخير، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البلد كم جعلته في الرفع" انتهى. وقد روي قوله:
1951- ............... *......فاستاكَتْ به عُودِا إسْحِلِ
بجر "عُود" على البدل من الضمير. قلت: أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبلد فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله:
إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِأركةٍ * تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ
(6/267)
---(1/2430)
والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ، يُروى برَفْع "عود" وها هو المشهور عند النحاة، ورفعُهُ على إعمال الأولِ وهو "تُنُخِّل" وإهمال الثاني وه و"فاستاكَتْ" فأعطاه ضميرَه، ولو أَعْمَلَه لقال: "فاستاكَتْ بعود إسحل" ولا يمكن لانكسار البيت، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين، ولو استشهد بنا لا خلاف فيه كقوله:
1952- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً * على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ "حاتم" بدلاً من الهاء في "بجوده" والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإبسال: الارتهان، ويقال: أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال:
1953- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق
بَعَوْنا: جَنَيْناَ، والبَعْوُ: الجناية. وقيل: الإبسال: أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة.
وقال الراغب: "البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومَنْعُه، ولتضمُّنهِ معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن: "بَسْلٌ" ثم قال: "والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر، وقيل للشجاعة بسالة: إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوس وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه، والبُسْلَةُ أجرة الراقي، مأخوذة من قول الراقي: أَبْسَلْتُ زيداً أيك جَعَلءتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلءتُه شجاعاً قوياً على مدافعته، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ" أي: فتكون حرفَ جواب كأجل، واسمَ فعل بمعنى اكتف كـ "بس".
وقوله: {بِمَا} متعلّقٌ بـ "تُبْسَل" أي: بسبب، و"ما" مصدرية أو بمعنى الذي، او نكرة، وأمرها واضح.
قوله: {لَيْسَ لَهَا} هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدها: وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإخبار بذلك. والثاني: أنها في محل رفع صفة لـ"نفس" والثالث: أنها في محل نصب حالاً من الضمير في "كسبت".
(6/268)
---(1/2431)
قوله: {مِن دُونِ} في "مِنْ" وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها زائدةٌ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان، أحدهما: أنها حال مِنْ "وليّ" لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. والثاني: أنها خبر "ليس" فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر لـ "ليس" وعلى هذا فيكون "لها" متعلقاً بمحذوف على البيان. وقد مرَّ نظائره، و{مِن دُونِ اللَّهِ} فيه حذفُ مضافٍ أي: من دون عذابِهِ وجزائه.
قوله: {كُلَّ عَدْلٍ} منصوبٌ على المصدرية لأنَّ "كل" بحسب ما تُضاف إليه، هذا هوالمشهور، ويجوز نصبُه على المفعول به أي: وإن تَفْدِ يادها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ، فالضميرُ في "لا يُؤْخَذُ" على الأول: قال الشيخ: "عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ، وأمَّا في {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح" انتهى. أيك إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به، وعلى الثاني يعود على "كل عدل" لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة"
قوله: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} يجوز أن يكون "الذين" خبراً "ولهم شراب" خبراً ثانياً، وأن يكون "لهم شراب" حالاً: إمَّا من الضمير في "أُبْسِلوا" وإمَّا من الموصول نفسه، و"شرابٌ" فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال، ويجوز أن يكون "لهم شراب" مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في "لهم شراب" ويجوز أن يكون "الذين" بدلاً من "أولئك" أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من "لهم شرابٌ" خيراً للمبتدأ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة أوجه: كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآيةز
(6/269)
---(1/2432)
و"شراب" يجوز رفعُه وجهين: الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون "لهم" هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً، و"شراب" مرتفعٌ به لاعتماد على ما تقدَّم، و"من حميم" صفةٌ لـ "شراب" فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف.
و"شراب" فَعَال بمعنى مَفْعول، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال: أَكال بمعنى مأكول، ولا ضَراب بمعنى مضروب. والإشارة أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله "أن تُبْسَلَ نَفْسٌ" إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع.
* { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
قول تعالى: {َنَدْعُواْ}: استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في محل نصب بالقول، و"ما" مفعولةٌ بـ "ندعو" وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، و"مِنْ دون الله" متعلِّق بـ"ندعو" قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في "يَنْفَعنا" ولا معمولاً لـ "نيفعنا" لتقدُّمِه على "ما" والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف،" قوله "من الضمير في يَنْفعنا" يعني به المرفوعَ العائدَ على "ما" وقوله: "لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف" يعن أن "ما" لا تخرج عن هذين القسمين، ولكن يجوز أن يكون "من دون" حالاً من "ما" نفسها على قوله: إذ لم يجعل المانعَ من جَعْلِه حالاً من ضميره الذي في "ينفعنا" إلا صناعياً لا معنوياً، ولا فرقَ بين الظاهر وضميره بعنى أنه إذا جاء أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مانع.
(6/270)(1/2433)
---
قوله: {وَنُرَدُّ} فيه وجهان أظهرهما: أنه نسقٌ على "ندعو" فهو داخلٌ في حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول. والثاني: أنه حال على إضمار مبتدأ أي: ونحن نُرَدُّ. قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء: "وهو ضعيفٌ لإضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكدة" وفي كونها مؤكِّدةً نظر، لأنَّ المؤكِّدةَ، ما فُهِم معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء "من دون الله" الارتداد على العَقِب.
قوله: {عَلَى أَعْقَابِنَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ "نُرَدٌّ" والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع "نُرَدُّ" أي: نُرَدٌّ راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى، إذ المقدَّر في مثله كون مطلق، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة، و"بعد إذ" متعلق بـ "نُرَدٌّ".
قوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه نعت مصدر محذوف أي: نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من مرفوع "نرد" أي: نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل "على أعقابنا" حالاً، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى، ألم يجعل "على أعقابنا" حالاً بل متعلقاً بـ "نُرَدٌّ"
(6/271)
---(1/2434)
والجمهور على "اسْتَهْوَتْهُ" بتاء التأنيث وحمزة "استهواه" وهو على قاعدِته من الإمالة، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقرأ ابو عبد الرحمن والأعمش: "استهوَتْه الشيطان" بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي: "وهي كذلك في مصحف ابن مسعود" وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم: "أتته كتابي فاحترقها" أي: صحيفتي، وتقدم له نظائر. وقرأ الحسن البصري: "الشياطون" وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن، إلا أنها لُغَيَّةٌ دريئةٌ، سُمِع: حول بسان فلانٍ بساتون، وله سَلاطون، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن لحَّنه بعضهم، فقال الفراء: "أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ، ويستشدون بقول رؤبة" ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد بالذي الجنس، ويحتمل أن يُراد به الواحدُ الفذُّ.
قوله: {فِي الأَرْضِ} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بقوله: {اسْتَهْوَتْهُ} الثاني: أنه حال من مفعول "استهوته" الثالث: أنه حال من "حَيْران" الرابع: أنه حال من الضميري المستكنّ في "حيران" و"حَيْان" حال: إمَّا من هاء "اسْتَهْوَتْه" على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّوها، وإمَّا من "الذي" وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى، ولذلك لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة.
قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ} جملة في محصل نصب صفة لحيران، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و"إلى الهدى" متعلِّقٌ بـ"يَدْعُونه" وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: "أتينا" بصيغة الماضي، و"إلى الهدى" على هذه القراءة متعلِّقٌ به، وعلى قراءة الجمهورِ: الجملة الأمريَّة في محل نصب بقول مضمر اي: يقولون ائتنا، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك "يدعونه".
(6/272)
---(1/2435)
قوله: {لِنُسْلِمَ} في هذه اللام أقوال، أحدها: - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللامَ بعد الإرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتداً وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت: أردْتَ لتقوم، وأمرت زيداً ليذهب كان التقدير: الإرادة للقيام والأمر للذهاب، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَدَّمْتُه في سورة النساء عند قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الثاني: أن معفول الأمر والإرادة محذوف، وتقديره: وأُمِرْنا بالإخلاص لنُسْلِمَ
الثالث: قال الزمخشري: "هي تعليل للأمر بمعنى: أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نُسْلم" الرابع: أن اللام زائدة أي: أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس: أنها معنى الباء أي: بأَنْ نُسْلِمَ. السادس: أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع "أن" أي أنهما يتعاقبان فتقول: أمرتُك لتقومَ وأن تقوم، وهذا مهذب الكوفيين. وقال ابن عطية: "ومذهبُ سيبويه أنَّ "لنُسْلِمَ" في مضوع المفعول وأنَّ قولك: "أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ" يجريان سواء وقال الشاعر:
1954- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما * تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ
وهذا ليس مَذْهب سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في السورة المشارِ إليها قبلُ.
* { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
(6/273)
---(1/2436)
قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ}: فيه أقوال أحدها: أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله: إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نسقٌ على "لِنُسْلَم" والتقدير: وأمرنا بكذا للإسلام ولنقيم الصلاة، و"أن" توصل بالأمر كقولهم: "كتبت إليه بأن قم" حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج، والثالث: أنه نسق على "ائتنا" قال مكي: "لأن معناه أن ائتنا" وهو غير ظاهر. والرابع: أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير: وأُمِرْنا بالإيمام وبإقامة الصلاة، قاله ابن عيطة.
قال الشيخ: "وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني لـ "أُمِرْنا" ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى، تقول: أضربت زيداً؟ فيجيب: نعم وعمراً، التقدير: ضربته وعمراً. وقد أجاز الفراء: "جاءني الذي وزيد قائمان" التقدير: الذي هو وزيدٌ قائمان، فحذف "هو" لدلالة المعنى عليه" وهذا الذي قاله إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين. وأمَّا "نَعَمْ وعَمْراً" فلا دلالة فيه لأنَّ "نَعَمْ" قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة. وقال مكي قريباً موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه: وبأَنْ أَقيموا" فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه.
(6/274)
---(1/2437)
وقال الزمخشري: "فإن قلت: علام عطف قوله {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ}؟ قلت: على موضع "لِنُسْلِمَ" كأنه قيل: وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا" قال الشيخ: "وظاهر هذا التقدير أنَّ "لنسلم" في مضوع المفعول الثاني لـ "أُمِرْنا" وعُطِفَ عليه "وأَنْ أقيموا" فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله: "أن نسلَم في موضع المفعول الثاني" قوله بعد ذلك "ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزجاج، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف".
وقال الزجاج: "أن أقيموا عطف على قوله "لِنُسْلِمَ" تقديره: وأُمِرءنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا" قال ابن عطية: "واللفظ يمانعه لأنَّ "نُسْلِمَ" مُعْربٌ و"أقيموا" مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل".
قال الشيخ "وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المين على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو: "قام زيد وهذا" وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني، وتقول: "إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه" فـ "إن" لم تؤثر في "قام" لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في "يقصِدْني" لأنه معرب" ثم قال ابن عطية: "اللَّهم إلا أن تجعل العطف في "إنْ" وحدها، وذلك قلق، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله "وأن أقيموا" بمعنى "ولنقم" ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب: "ادخلوا الأول فالأول" وإلاَّ فلا يجوز إلا: الأولَ فالأولَ بالنصب"
(6/275)
---(1/2438)
قال الشيخ: "وهذا الذي استدركه بقوله "اللهم إلا" إلا آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه، وهو أنَّ "أَنْ أقيموا" معطوفٌ على "أن نُسْلِمَ" وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء "أن أقيموا" على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك، لأنَّ "أَنْ" إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه: "وتقول: كتبت إليه بأَنْ قم، أي بالقيام" فإذا كان الحكم كذا كان قوله "لنُسْلِمَ و"أَنْ أقيموا" في تقدير: للإسلام ولإقامة الصلاة، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله: "ادخلوا الأولُ فالأولُ" بالرفع فليس بشبيهٍ لأن "ادخلوا" لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف "أَنْ" فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما" انتهى.
أمَّا قولُ الشيخ "وإنا قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء "أَنْ أقيموا" على معناها من موضوع الأمر" فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السياق التركيب يقتضي على ما قاله الزجاج أن يكون "لنسلم" وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية "بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر" إلا آخره.
والخامس: أنه محمول على المعنى، إذ المعنى: قيل لنا: أسْلِموا وأن أقيموا.
* {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
(6/276)
---(1/2439)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن}: في "يوم" ثمانية أوجه أحدها- وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في "اتقوه" أي: واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي} على المشهور في إعرابه. الثاني: أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على "السموات والأرض" أي: وهو الذي خلق يوم يقول. الثالث: أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً. الرابع: أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ، وذكل العمل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإعادة يوم يقول: كن أي: يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً. الخامس: أنه عطف على موضع قوله "بالحق" فإنَّ موضعه نصب ويكون "يقول" بمعنى "قال" ماضياً كأنه قيل: وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن.
السادس: أن يكون "يوم يقول" خبراً مقدماً، والمبتدأ "قوله" و"الحق" صفته، أي: قوله الحق في يوم يقول كن فيكون، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: "قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك "يوم الجمعة القتال" واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. السابع: أنه منصوب على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي "قوله الحق" أي: حق قوله في يوم يقول كن الثامن: أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه "بالحق"
قال الزمخشري: "وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله "بالحق" كأنه قيل: وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق" قال الشيخ: "وهذا إعراب متكلف".
(6/277)
---(1/2440)
قوله: {فَيَكُونُ} هي هنا تامة، وكذلك قوله: {كن} فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه، أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي: "وقيل: تقدير المضمر في "فيكون" جميع ما أراد" فأطلق ولم يقيِّدْه، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودلَّ عليه قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} الثاث: هو ضمير اليوم أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو "قولُه" و"الحق" صفته أي: فيوجَدُ قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تاماً على "الحق".
قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ و"الحق" نعته، وخبره قوله "يوم يقول" والثاني: أنه فاعل لقوله "فيكون" "والحق" نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان،. الثالث: أنَّ "قولُه" مبتدأ، و"الحقٌّ" خبره، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً. الرابع: أنه مبتدأ أيضاً و"ألحق" نعته، و"يوم يُنْفخ" خبره، وعلى هذا ففي قوله "وله الملك" ثلاثة أوجه أحدها: أن تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلِّ لها حينئذ من الإعراب. والثاني: ان يكون "الملك" عطفاً على "قوله" وأل فيه عوضٌ عن الضمير، "وله" في محل نصب على الحال من "الملك" العامل فيه الاستقرار والتقدير: قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور. الثالث: أنَّ الجملة من "وله الملك" في محل نصب على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين، أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكدة، والأصل: أن تكون مؤسسةً. الثاني: أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه. وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله.
(6/278)
---(1/2441)
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} فيه ثمانية أوجه، أحدها: أنه خبر لقوله "قول الحق" وقد تقدَّم هذا بتحقيقه، الثاني: أنه بدل من "يوم يقول" فيكون حكمه حكمَ ذاك. الثالث: أنه ظرف لـ"تُحْشَرون" أي: وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس الملك أي: وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت: يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت. فالجواب ما أُجيب به في قوله {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟لِلَّهِ} وقوله: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وهو أن فائدةَ الإخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا. الخامس: أنه حال من الملك، والعامل فيه "له" تضمَّنه من معنى الفعل. السادس: انه منصوب بقوله "يقول" السابع: أنه منصوب بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوب بقوله "قول الحق" فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه، ولله الحمد.
والجمهور على "يُنْفَخُ" مبنيَّاً للمفعونل بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل الجارُّ بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث: "ننفخ" بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّور: الجمهورُ على قراءة ساكنَ [العين] وقرأه الحسن البصري بفتحها، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها، فقال جماعة: الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة، والثُّوم جمع ثومة، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة. وقال جماعةٌ: إن الصُّور هو القَرْن، قال بعضهم: هي لغة اليمنِ وأنشد:
1955- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ *بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن
(6/279)
---(1/2442)
وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة، قال عليه السلام: "كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه" وقيل: في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال: "وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط، وادَّعَوا أن الصورة جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} فَمَنْ قرأها: {ونُفِخ في الصُّوَرِ} أي بالفتح، وقرأ "فَأَحْسَنَ صُوْرَكم" أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبار وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو" قال الأزهري: "قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة" أنتهى، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم. وقال الفراء:"يُقال: نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ" وأنشد:
1956- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ *ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار.
قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} في رفعه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكون صفةً للذي في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ} وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيّ. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعلٌ لقوله: {يقول} أي: يوم يقول عالم الغيب. الرابع: أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال "يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي: يأمر بالنفخ فيه، كقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} أي يُسَبِّحُه، ومثله أيضاً قول الآخر:
(6/280)
---(1/2443)
1957- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ * ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي: مَنْ يَبْكيه؟ فقيل: ضارع، أي: يبكيه ضارع ومثله: "وكذلك زُيِّن لكثر من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم" في قراءة مَن بني "زُيِّن" للمفعول ورفع "قَتْلُ" و"شركاؤهم" كأنه قيل: مَن زينَّه لهم؟ فقيل: زيَّنه شركاؤهم. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور، وقرأ الحسن البصري والأعمش: "عالمِ" بالجر وفيها ثلاثة أوجه، أحسنها: أنه بدل من الهاء في "له" الثاني: أنه بدل من "رب العالمين" وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. الثالث: أنه نعت للهاء في "له" وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي.
* { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيا أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ}: "إذ" منصوبٌ بفعل محذوف أي: اذكر، وهو معطوفٌ على "أقيموا" قاله أبو البقاء. و"قال" في محل خفض بالظرف".
قوله: {آزَرَ} الجمهور: آزرَ بزنة آدم، مفتوح الزاي والراء، وإعراب حينئذ على أوجه، أحدها: أنه بدل من "أبيه" أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له، وإن كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج، أو المعوجّ كما قاله الفراء، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك، فيكون نعتاً لـ "ابيه" أو حالاً منه بمعنى: وهو في حالة اعوجاج أو خطأ،ويُنْسَبُ للزجاج. وإن قيل: إن آزر اسم صنم كان يعبده أبوه، فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين.
1958- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها * كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي
(6/281)
---(1/2444)
كذا نسبه الزمخشري: إلى بعض المُحْدَثين، ونسبه الشيخ لبعض النحويين، قال الزمخشري: "كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّلات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات" أو يكون على حذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، ثم حُذِفَ المضاف وأٌيم المضاف إليه مُقامَه، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا بإعرابه أويكون منصوباً على الذمًّ.
وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري: "والأقربُ أن يكون وزو آزر فاعَل كعابَر وشالخَ وفالغَ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة. وقال أبو البقاء: ووزنه أفعل ولم نيصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر أو الوزر، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال: هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف ووزن الفعل" وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري فيه أنه فاعلَ كعابَر، وما جرى على ذاك، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم، كما قاله الفراء والضحاك فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة.
وقد يُجاب عن الأول بأن الإشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كأحمر وبابه، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك، وعن الثاني بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت لـ"أبيه" حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ على الذم أو أنه على نية الألف واللام، قالهما الزجاج والثاني ضعيف، لأنَّ حذف أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [كما] في "سحر" ليوم بعينه ويسمَّى عَدْلاً، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولا يمكن أن يقال إن "آزَر" امتنع من الصرف كما امتنع "سحر" أي للعدل عن أل، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف، فإنه لوقتٍ بعينه، بخلاف هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم.
(6/282)
---(1/2445)
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} وكقوله:
1959- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ * ...................
في أحد الوجهين أي: يا يزيد، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ: يا آزر بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم، وأمَّا على دعوى وصفيِتَّه فيضعف؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم: "افتدِ مخنوقُ" و"صاح شَمِّرْ"
وقرأ ابن عباس في روايةٍ: "أَأَزْراً تتخذ" بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة وراء منونة منصوبة، "تتخذ" بدون همزة استفهام، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم يُسْقط همزة الاستهام من "أتتخذ" فأمَا على قراءة الأولى فقال ابن عطية مفسراً لمعناها: "أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتهذ، وهو من قوله {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} انتهى. وعلى هذا فيحتمل "أزراً" أن ينتصب من ثلاثة اوجه، أحدها: أنه مفعول من أجهل، و"اصناماً آلهة" منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة. والثاني: أن ينتصبَ على الحال. والثالث: أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري: "هو اسم صنم ومعناه: أتعبد أزْراً، على الإنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإنكار لأنه كالبيان له" فعلى هذا "أزْراً" منصوب بفعل محذوف يدل عليه المعنى، ولكن قوله "وهو داخلٌ في حكم الإنكار" يقوِّي أنه لم يُقرأ: "أَتَتَّخِذُ" بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإنكارٍ، ولم يتحتج أن يقول: هو داخلٌ في حكمِ الإنكار لأنه كالبيان له.
(6/283)
---(1/2446)
وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي: "أَإزراً" بهمزة استفهام بعدها همزةٌ مكسورة ونصب الراء منونةً، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر كإسادة وإشاح في: وسادة ووشاح. وقال أبو البقاء: "وفيه وجهان، أحدهما: أن الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل" وجعله الزمخشري اسمَ صنم، والكلامُ فيه كالكلام في "أزراً" المفتوح الهمزة وقد تقدم.
وقرأ الأعمش: {إزْراً تَتَّخِذُ} بدون همزةِ استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ الزاي ونصب الراء منونة، ونصبُه واضح مما تقدم، و"تتخذ" يُحتمل أن تكونَ المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل، ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في محل نصب بالقول، وكذلك قوله {إِنِّيا أَرَاكَ} و"أراك" يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك، فـ "في ضلال" حالٌ، وعلى كلا التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام، وفي الثاني فَضْلة.
و"مبين" اسم فاعل من "أبان" لازماً بمعنى ظهر، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف، أي: مبين كفرُكم بخالقكم، وعلى هذا فقولُ ابن عطية "وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين" غيرُ مُسَلَّم، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله "أراكم ضالين".
* { وَكَذَلِكَ نُرِيا إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }
(6/284)
---(1/2447)
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ}: في هذه الكاف ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، فقَدَّره الزمخشري: "ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت" وقدَّره المهدوي: "وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم". قال الشيخ: "وهذا بعيد من دلالة اللفظ" قلت: إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله: "وكما أَرَيْناك يا محمد الهداية" لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه. وقدَّره أبو البقاء بوجهين، أحدهما: قال "هو نصب على إضمار أريناه، تقديرُه: وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك، أي: ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه. والثاني قال: "ويجوز أن يكون منصوباً بـ "نُري" التي بعده على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف تقديره: نريه ملكوت السموات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه" انتهى. قلت: فقوله "على إضمار أريناه" لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط قوله "نُري إبراهيم ملكوت" بما قبله.
الثاني: أنها للتعليل بمعنى اللام أي: ولذلك الإنكارِ الصادرِ منه عليهم، والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت. الثالث: أن الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي: والأمر كذلك أي: ما رآه من ضلالتهم، نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره.
(6/285)
---(1/2448)
"ونُري" هذا مضارعٌ، والمراد به حكاية حال ماضية، ونري يحتمل أن تكون المتعدِّية لاثنين، لأنها في الأصل بَسَريَّة، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً ثانياً، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف، وكذلك الزمخشري فإنه قال فيما قدَّمت / حكايته عنه "ومثل ذلك التعريف نعرِّف". قال الشيخ بعد حكايته كلام ابن عطية: "ويَحْتاج كونُ "رأى" بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عن العرب، والذي نقل النحويون أن "رأى" إذا كانت بصَرية تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى "علم" الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين" قلت: العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم. وهذه الجملةُ المشتملةُ على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله "وإذ قال إبراهيم" مُنْكِراً على أبيه وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى، ويجوز أن لا تكون معترضة إن قلنا إنَّ قولَه "فلمَّا" عطف على ما قبله وسيأتي.
(6/286)
---(1/2449)
والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك، وبُني على هذه الزنة، والزيادة للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت. والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام، وقرأ أبو السَّمَّا بسكونها وهي لغةٌ. والجمهور أيضاً على "مَلَكوت" بتاء مثناة، وعكرمة قرأها مثلَّثة وقال: "أصلها ملكوثا باليونانية أو بالنبطيَّة" وعن النخعي هي ملكوثا بالعبرانية، قلت: وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فتلاعبوا بها، وهذا كما قالوا في اليهود: إنهم سُمُّوا بذلك لأجل يهوذا بن يعقوب بذال معجمة، ولكن لمَّا عَرَّبَتْه العرب أتوا بالدال المهملة، إلا أنَّ الأحسنَ أن يكون مشتقاً من المِلْك، لأنَّ هذه الزِّنَةَ وَرَدَت في المصادر كالرَغَبوت والرهبوت والجبروت والطاغوت. وهل يختصُّ ذلك بمِلْك الله تعالى أم يُقال له ولغيره؟ فقال الراغب: "والملكوت مختص بملك الله تعالى، وهذا الذي ينبغي". وقال الشيخ: "ومن كلامهم: له ملكوت اليمن وملكوت العراق" فعلى هذا لا يختصُّ".
والجمهور أيضاً على "نُرِي" بنون العظمة، وقرئ: "تُري" بتاء من فوق، "إبراهيم" نصباً، "ملكوت" رفعاً أي: نريه دلائل الربوبية فأسند الفعلَ إلى المَلَكوت مُؤَولاً بمؤنث فلذلك أَنَّث فعله.
قوله: "وليكونَ" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن الواو زائدة أي: نُريه ليكون من الموقنين بالله، فاللامُ متعلقةٌ بالفعل قبلها، إلا أن زيادةَ الواو ضعيفةٌ، ولم يَقُلْ بها إلا الأخفش وفرقةٌ تبعته. الثاني: أنها علةٌ لمحذوف أي: وليكون أَرَيْناه ذلك. الثالث: أنها عطف على علة محذوفة اي: ليَسْتَدِلَّ وليكون أو ليقيم الحجة على قومه.
(6/287)
---(1/2450)
والصنم لغةً: كل جثة صُوِّرَتْ من نحاس أو فضة وعُبِدَتْ متقرَّباً بها إلى الله. وقيل: ما اتخذ من صُفْرٍ ورِمْثٍ وحَجَر ونحوها فصنمٌ، وما اتخذ من خشب فوثن، وقيل: بل هما بمعنى واحد. وقيل: الصنم معرَّب من شَمَن. والصنم أيضاً العبد الغويُّ، وهو أيضاً خُبْثُ الرائحة. ويقال: صَنَمَ أي: صَوَّر ويُضْرَبُ به المثل في الحسن قال:
1960- ما دميةٌ من مرمرٍ صُوِّرَتْ * أو ظَبْيَةٌ في خَمَرٍ عاطفُ * أحسنَ منها يومَ قالَتْ لنا * والدمعُ من مُقْلتها واكفُ * لأنتَ أَحْلَى من لذيذ الكرى * ومن أمانٍ ناله خائفُ
* { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاا أُحِبُّ الآفِلِينَ }
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ}: يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً على قوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} عطفاً للتدليل على مدلوله، فيكون {وَكَذَلِكَ نُرِيا إِبْرَاهِيمَ} معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة من قوله {وَكَذَلِكَ نُرِيا إِبْرَاهِيمَ} قال ابن عطية: "الفاءُ في قوله: "فلمَّا" رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت التفصيل المذكور في هذه الآية" والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري.
وجَنَّ: سَتَر، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر {الْجَنَّةَ} . وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليل وأجنّ عليه، بمعنى أظلم، فيُستعمل قاصراً، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما اتَّفق فيه فَعَ وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً، إلا أن الأجود في الاستعمال: جنَّ عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً، وأفعل متعدياً، ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله:
1961- وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ
(6/288)
---(1/2451)
ومصدره جَنَّ وجَنان وجُنون، وفرَّق الراغب بين جَنَّه وأَجَنَّه، فقال: "جنَّه إذا ستره، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه كقولك: قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه" وقد تقدَّم لك شيء من هذا عند ذِكْرِ حزن وأحزن، ويُحتمل أن يكون "جنَّ" في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول منه تقديره: جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات.
قوله: "رأى كوكباً" هذا جواب "لمَّا"، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلاف كبير بالنسبة غلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله فأقول: أمَّا "رأى" الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو بكماله، وأمال السُّوسي - بخلاف عنه - عن أبي عمرو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم، فأمَّا إذا / اتصل به ضمير نحو {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ} {فَلَمَّا رَآهَا} {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ} فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة.
(6/289)
---(1/2452)
وأما "رأى" إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً ولا وقفاً نحو: {رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ} {رَأَوُاْ الْعَذَابَ} فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: {رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} ، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء السَّاكنين وَصْلاً، وتعود نقفاً نحو: {رَأَى الْقَمَرَ} {رَأَى الشَّمْسَ} {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فهذا فيه خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإمالة اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده. وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما. هذا كله إذا وصلْتَ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها، وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم، كما إذا وقفت على رأى مِنْ نحو: {رَأَى الْقَمَرَ} . فأمَّا إمالة الراء من "رأى" فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى بالألف نحو الياء، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال: أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة.
وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ، ووجهُ مَنْ أمال الهمزةَ في "رأى القمر" مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ، ثم منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف، ومنهم مَنْ لم يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك.
(6/290)
---(1/2453)
والكَوْكَبُ: النجم، ويقال فيه كَوْكبة، وقال الراغب: "لا يقال فيه - أي في النجم - كوكب إلا عند ظهوره". وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه من مادة "وكب" فتكون الكافُ زائدة، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني، قال رحمه الله: "حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة "وَكب" عند حُذَّاق النحويين فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك و ك ب، ولعله تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي، ذاهباً إلى أن الواو أصلية، فهذا تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز، وحروفُ الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة. فأمَّا قولُهم "هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ" بمعنى واحد وهو المنسوبُ إلى الهند، وقول الشاعر:
1962- ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها * طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ
فظاهره زيادة الكاف، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له، فكما لا يقال الراء زائدة باتفاق، كذلك هذه الكاف، ولذلك قال الشيخ، "وليت شعري: مِنْ حُذَّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة" والثاني: أن الكلمة كلها أصول رباعية، مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل كـ "فَوْفَل" وهو بناءٌ قليل. و الثالث: ساق الراغب أنه من مادة: كبَّ وكَبْكب فإنه قال: "والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء في هُوَّة يقال: كَبَّ وكَبْكَبَ نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وصَرَّ الريحُ وصرصر، والكواكب النجوم البادية" فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريبُ جداً.
(6/291)
---(1/2454)
قوله: "قال هذا ربِّي" في "قال" ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه استئنافٌ أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف. والثاني: أنه نعت لـ "كوكباً" فيكون في محل نصب، وكيف يكون نعتاً لـ "كوكباً" ولا يساعد من حيث الصناعةُ ولا من حيث المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة الواقعة صفةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك خاص بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر، فلا يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ، أي: قال فيه: هذا ربي. وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير: رأى كوكباً متصفاً بهذا القول، وذلك غير مراد قطعاً. والثالث: أنه جواب "فلما جَنَّ، وعلى هذا فيكون قوله "رأى كوكباً" في محلِّ نصب على الحال أي: فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً.
و "هذا ربي" محكيٌّ بالقول، فقيل: هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير، وقيل: بل هو على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي، وأنشدوا:
1963- لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا * بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان
وقوله:
1964- أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وقوله:
1975 *- طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ * ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ} قالوا: تقديره: أبسبع، وأأفرح، وأذو، وأتلك. قال ابن الأنباري: "وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود "أم" في البيت الأول بخلاف ما بعده. والأًُفول: الغَيْبَةُ والذهاب، يقال: أَفَلَ يأفُل أُفولاً، قال ذو الرمَّة:
1966- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها
والإِفَالُ: صغارُ الغنم، والأَفيل: الفصيل الضئيل.
(6/292)
---(1/2455)
* { فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ }
قوله تعالى: {بَازِغاً}: حال من القمر. والبزوغ: الطلوع، يقال: بَزَغَ بفتح الزاي يبزُغ بضمِّها بُزوغاً، ويستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال: بَزَغ البَيْطار الدابَّة أي: أسال دَمَهَا فَبَزَغ هو أي: سال، هذا هو الأصل، ثم قيل لكل طُلوع: بُزوغ، ومنه: بَزَغَ ناب الصبي والبعير تشبيهاً بذلك، والقمرُ معروفٌ، سُمِّي بذلك لبياضه وانتشار ضوئه، والأقمر: الحمار الذي على لون الليلة القمراء، والقَمْراء ضوء القمر، وقيل: سُمِّي قمراً لأنه يَقْمُر ضوء الكواكب ويفوز به، والليالي القُمْر: ليالي تَدَوُّرِ القمر وهي الليالي البيض، لأن ضوء القمر يستمرُّ فيها إلى الصباح، قيل: ولا يُقال له قمر إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال، على خلاف بين أهل اللغة قَدَّمُتْه في البقرة عند قوله {عَنِ الأَهِلَّة} ، فإذا بلغ بعد العشر ثالثَ ليلةٍ قيل له "بدر" إلى خامسَ عشر، ويقال: قَمِرْتُ فلاناً كذا اي خَدَعته عنه، وكأنه مأخوذ من قَمِرَتْ القِرْبَةُ فَسَدَت بالقَمْراء.
* { فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَاذَا رَبِّي هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
قوله تعالى: {هَاذَا رَبِّي}: إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه: إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء و النور، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر أُعْطِيَتْ حكمه، تقول: هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان، قال:
1967- تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً * سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري
(6/293)
---(1/2456)
فأشار إلى "نُعمى" وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّثَ في قوله "بازغة" وذكَّر في قوله "هذا". وقال الزمخشري: "جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاحتك، ومَنْ كانت أمك، و {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله: عَلاَّم، ولم يقولوا عَلاَّمة، وإن كان أبلغَ، احترازاً من علامة التأنيث". قلت: هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي: إن المؤنث إذا أُخبر عنه بمذكر عومل معاملة المذكر نحو: "هند ذاك الإِنسان". وقيل: لأنها بمعنى هذا النيِّر أو المرئيُّ.
قال الشيخ: "ويمكن أن يُقال: إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر و المؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر تعالى عنهم بقوله "بازغة" و "أَفَلتْ" أَتَتْ على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية" انتهى. وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم، أمَّا شيءٌ يُعَبَّر نه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر.
قوله: "مِمَّا يُشْرِكون" "ما" مصدرية أي: بريء من إشرككم أو موصولةٌ أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادته، فحذف العائد، ويجوز أن تكونَ الموصوفة، والعائدُ أيضاً محذوف، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة، فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن، ومحلُّها الجر على الثالث.
(6/294)
---(1/2457)
* { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {لِلَّذِي فَطَرَ}: قدَّروا قبله مضافاً أي: وجَّهْتُ وجهي لعبادته ولرضاه، كأنهم نَفَوْا بذلك وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّم الجهة. و "حنيفاً" حال من فاعل "وَجَّهْتُ"، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ، و "ما" يُحتمل أن تكون الحجازيةَ، وأن تكون التميمية.
* { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوانِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {أَتُحَاجُّوانِّي}: قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، فاسْتُثْقِل اجتماعهما، وفيها لغات ثلاث: الفكُّ وتركهما على حالهما، والإِدغام، والحذف، وقد قر بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّيا أَعْبُدُ} ، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام، وفي سورة الحجر: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ، كذلك، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع، وفي سورة النحل: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} ، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع، ويقرؤه نافع بنونٍ خفيفة مكسورةٍ على الحذف، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي ذكرتها لك، فإنه / يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما، وقوله تعالى: {أَتَعِدَانِنِيا} ، قرأه هشام بالإِدغام، والباقون بالإِظهار دون الحذف.
(6/295)
---(1/2458)
واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة: فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي الأُولى، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية، استدلَّ سيبويه على ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً، وأُنْشِد:
1968- فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ * سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ
أي: فستحتلبونها، لا يقال إن النون حُذِفَتْ جزماً في جواب الشرط؛ لأنَّ الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً، وإذا تقرَّر وجوبُ الفاء، وإنما حُذِفت ضرورةً ثبت أن نون الرفع كان مِنْ حقها الثبوت إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله:
1969- أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي * وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي
أي: تبيتين وتَدْلُكين، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده لا تَدْخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا" فـ "لا" الداخلة على "تدخلوا" و "تؤمنوا" نافية لا ناهية، لفساد المعنى عليه، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دون ملاقاةِ "مثل" رَفْعاً فلأنْ تُحْذَفَ مع ملاقاة "مثل" استثقالاً بطريق الأَوْلى والأحرى، وأيضاً فإن النون نائبة عن الضمة، والضمةُ قد عُهِد حَذْفُها في فصيح الكلام كقراءةِ أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} و {يُشْعِرُكُمْ} و {يَأْمُرُكُمْ} وبابِه بسكون آخر الفعل، وقوله:
1970- فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ * إثماً من اللهِ ولا واغِلِ
وإذا ثبت حَذْفُ الأصلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفرع لئلا يلزمَ تفضيل فرع على أصله، وأيضاً فإنَّ ادَّعاء حذف نون الرفع لا يُحْوِج إلى حذف آخر، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذّفَ هذه النونُ لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادِّعاءِ حَذْفِ نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عملَ له في التي للوقاية.
(6/296)
---(1/2459)
ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع، لأنَّ في الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع، وعلى الآخر له أن يقول: هذا مُعارَضٌ بإلغاء العامل: وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر. واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى كسر، وتقليلُ العمل أولى، واستدلوا أيضاص بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله:
1971- كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ * بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا
أي: وتَقْلُوننا، فالمحذوفُ نونُ الرفع لا نونُ "نا" لأنها بعض ضمير، وعُورض هذا بأن نون الرفع أيضاص لها قوةٌ لدلالتها على الإِعراب، فَحَذْفُها أيضاً لا يجوز، وجعل سيبويه المحذوفةَ من قول الشاعر:
1972- تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً * يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية، واستدلَّ الأخفش بأنَّ الثقل إنما حصل بالثانية، ولأنه قد اسْتُغْنِي عنها، فإنه إنما أُتِيَ بها لتقِيَ الفعلَ من الكسر، وهو مأمونٌ لوقوع الكسر على نون الرفع، ولأنها لا تدلُّ على معنى بخلاف نون الرفع، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو: ليتني فيقال: ليتي، كقوله:
1973- كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي * أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي
(6/297)
---(1/2460)
واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يُلتفت إلى قول مَنْ مَنَع إلا في ضرورةٍ أو قليلِ من الكلام، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال: "الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه". وتجاسر بعضهم فقال: "هذه القراءة - أعني تخفيف النون - لحنٌ" وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك، وقد قَدَّمْتُ الدليل على صحته لغةً، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم غطفان فلا معنى لإِنكارها.
و "في الله" متعلِّقٌ بـ "أتحاجُّوني" لا بـ "حاجَّه"، والمسالةُ من باب التنازع، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في الثاني من غير حذفٍ، ومثله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} ، كذا قال الشيخ، وفيه نظر، من حيث / إن المعنى ليس على تَسَلُّط "وَحَآجَّهُ" على قوله "في الله"؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة القولية ممَّا قبلها. وقوله "في الله" أي في شأنه ووحدانيته.
قوله: "وَقَدْ هَدَانِ" في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أظهرهما: أنه التاء في "أتحاجونني" أي: أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيًّا مِنْ عنده. والثاني: أنه حال من "الله" أي: أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً لي، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة.
(6/298)
---(1/2461)
قوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به، وكانوا قج خوَّفوه مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين أحدهما: أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى، فتكون الحالان من الياء في "أتحاجونِّي". والثاني: أنها حال من الياء في "هداني" فتكون جملةً حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع بـ "لا" حكمُه حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو.
و"ما" يجوز فيها الأوجه الثلاثة: أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالهاء في "به" لا تعود على "ما" عند الجمهور، بل تعود على الله تعالى، والتقدير: ولا أخاف إشراكَكم بالله، والمفعول محذوف أي: ما تشركون غير الله به، وأن تكون بمعنى الذي، وأن تكون نكرةً موصوفة، والهاء في طبه" على هذين الوجهين تعود على "ما"، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في الوجه الأول، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال: "ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على "ما" أي: ولا أخاف الذي تشركون بسببه"، ولا حاجةَ إلى ذلك.
(6/299)
---(1/2462)
قوله: "إلا أَنْ يشاء" في هذا الاستثناء قَوْلان، أظهرهما: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتصال: اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً فقال: "إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء ربي". وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال: تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي: لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال. وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية و الحوفي وأبو البقاء في أحد الوجهين، فقال الحوفي: "تقديره: لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ أخاف"، وقال ابن عطية: "استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر.
قوله: "شيئاً" يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على المصدر تقديره: إلا أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة، والثاني: أنه مفعول به ليشاء، وإنما كان الأولُ أظهرَ لوجهين، أحدهما: أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد. والثاني: أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله:
1974- ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه * ..............
قوله: "عِلْماً" فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعل تقديره: وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء، كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}. والثاني: أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم. قال أبو البقاء: "لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيطٌ بعلمه" وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد. و "كل شيء" مفعول لوسع على كلا التقديرين. و "أفلا تتذكرون" جملة تقرير وتوبيخ، ولا محلَّ لها لاستئنافها.
(6/300)
---(1/2463)
* { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ}: قد تقدَّم الكلام على "كيف" في أول البقرة، وهذه نظيرتها. و "ما" يجوز فيها ثلاثة الأوجه، أعني كونها موصولةً اسميةً أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الأوَّلين محذوف أي: ما أشركتموه بالله أو إشراككم بالله غيره.
وقوله: "ولا تخافون" يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقاً على "أخاف" فتكون داخلةً في حَيِّز التعجب والإِنكار، وأن تكون حالية أي: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم، / ولا بد من إضمارِ مبتدأ قبل المضارع المنفيِّ بـ لا، لِما تقدم غيرَ مرة أي: كيف أخاف الذي تُشْركون أو يُخاف إشراككم حال كونكم آمنين مِنْ مَكْرِ الله الذي أَشْركتم به غيره. وهذه الجملةُ وإن لم يكن فيها رابطٌ يعود على ذي الحال لا يضرُّ ذلك لأن الواو بنفسها رابطةٌ، وانظر إلى حسن هذا النظم السويّ حيث جعل متعلق الخوف الواقع منه بالأصنام، ومُتَعَلَّق الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيرَه تَرْكاً لأن يعادَلَ الباري تعالى بأصنامهم، لو أبرز التركيب على هذا فقال: "ولا تخافون الله" مقابلةً لقوله "وكيف أخاف معبودتكم". وأتى بـ "ما" في قوله "ما أشركتم" وفي قوله {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لأنهم غير عقلاء، إذ هي جمادٌ أحجارٌ، وحيث كانوا ينحتونها ويعبدونها.
(6/301)
---(1/2464)
قوله: "ما لم يُنَزِّلْ" مفعول لـ "أَشْرَكْتُم" وهي موصولة اسمية أو نكرة، ولا تكون مصدرية لفساد المعنى، و "به" و "عليكم" متعلقان بـ "يُنَزِّل"، ويجوز في "عليكم" وجهٌ آخر: وهو أن يكون حالاً من "سلطاناً" لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكونَ صفةً. وقرأ الجمهور "سُلْطاناً" ساكنَ اللام حيث وقع. وقرئ بضمها، وقيل: هي لغة مستقلة فيثبت بها بناء "فُعُل" بضم الفاء والعين، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى.
وقوله: "فأيُّ الفريقين أحقُّ" لم يقل: أيُّنا أحقُّ نحن أم أنتم إلزاماً لخصمه بما يدَّعيه عليه، ولأنه لا يزكِّي القائلُ نفسه، وهذا بخلاف قول الآخر:
1975- فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ * أيّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
فللَّهِ فصاحةُ القرآن وآدابه. وقوله: "إن كنتم" جوابه محذوف، أي: فأخبروني، ومُتَعَلَّقُ العلم محذوف، ويجوز أَنْ لا يُرادَ له مفعولٌ أي: إن كنتم من ذوي العلم.
* { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوااْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ}: هل هو من كلام إبراهيم أو من كلام قومه أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال للعلماء وعليها يترتب الإِعراب، فإن قلنا: إنها من كلام إبراهيم جواباً عن السؤال في قوله: "فأيُّ الفريقين" وكذا إن قلنا: إنها من كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حجةٌ عليهم، كأن الموصولَ خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هم الذين آمنوا، وإن جَعَلْنَاهُ من كلام الله تعالى وأنه أَمَرَ نبيه بأن يجيب به السؤال المتقدم فكذلك أيضاً، وإنْ جَعَلْنَاهُ لمجرد الإِخبار من الباري تعالى كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه أحدها: أنه الجملة بعده فإن "أولئك" مبتدأ ثان، و "الأمن" مبتدأ ثالث، و "لهم" خبره، والجملة خبر "أولئك" و "أولئك" وخبره خبر الأول.
(6/302)
---(1/2465)
الثاني: أن يكون "أولئك" بدلاً أو عطف بيان، و "لهم" خبر الموصول، و طألأمنُ" فاعلٌ به لاعتماده. الثالث: كذلك، غلا أنَّ "لهم" خبرٌ مقدم، و "الأمن" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الموصول. الرابع: أن يكون "أولئك" مبتدأ ثانياً، و "لهم" خبره و "الأمن" فاعل به، والجملة خبر الموصول. الخامس: - وإليه ذهب أبو جعفر النحاس والحوفي - أن "لهم الأمن" خبر الموصول، وأن "أولئك" فاصلة وهو غريب، لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإِشارة، وأمَّا على قولنا بأن "الذين" خبر مبتدأ محذوف فيكون "أولئك" مبتدأً فقط، وخبره الجملة بعده أو الجارُّ وحده، و "الأمنُ" فاعلٌ به، والجملة الأولى على هذا منصوبة بقول مضمر أي: قل هم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليل، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه. وقوله "ولم يَلْبسوا" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على الصلة فلا محلَّ لها حينئذٍ، والثاني: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب على الحال أي: آمنوا غير مُلْبِسين إيمانهم / بظلم وهو كقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ولا يُلتفت إلى قول ابن عصفور حيث جعل وقوع الجملة المنفيَّة حالاً قليلاً، ولا إلى قول ابن خروف حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال.
والجمهور على "يَلْبِسُوا" بفتح الياء بمعنى يَخْلطونه، وقرأ عكرمة بضمها من الإِلباس. "وهم مهتدون" يجوز استئنافها وحاليتها.
* { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }
(6/303)
---(1/2466)
قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ}: "تلك" إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِيا إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. ويجوز في "حُجَّتنا" وجهان، أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ وفي "آتيناها" حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ويدل على ذلك التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}. والثاني: أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين، أحدهما مفرد والآخر جملة. و الثاني من الوجهين الأولين: أن تكون "حُجَّتنا" بدلاً أو بياناً لتلك، والخبر الجملة الفعلية.
وقال الحوفي: "إن الجملة مِنْ "ىتَيْناها" في موضع النعت لـ "حُجَّتنا" على نية الانفصال، إذ التقدير: حجة لنا"، يعني الانفصال من الإِضافة ليحصُلَ التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا، وهذا لا ينبغي أن يقال، وقال أيضاً: "إن "إبراهيم" مفعول ثان لآتيناها، والمفعول الأول هو "ها"، وقد قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً والثاني غيرَه، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير.
قوله: "على قومه" فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بـ "آتينا" قاله ابن عطية والحوفي أي: أظهرناها لإِبراهيم على قومه. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي: آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه، كذا قدَّره أبو البقاء، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة، إذ التقدير: وتلك حُجَّتنا آتيناها له حجةً.
(6/304)
---(1/2467)
وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال: "أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه قاهرة لها" وهذا حسن. ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال: "لأنها مصدر، وآتيناها خبر أو حال، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته". ومنع الشيخ ذلك أيضاً، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال: "إنما هو الكلام المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء" ثم قال: "ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك أيضاً، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه. وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ، لأنَّ الحال وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر، وقد تقدَّم لي نظيرُ ذلك بأشبع من هذا.
(6/305)
---(1/2468)
قوله: "نرفع" فيه وجهان الظاهر منهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. الثاني: - جوَّزه أبو البقاء وبدأ به - أنها في موضع الحال من "آتيناها" يعني من فاعل "آتيناها"، أي: في حال كوننا رافعين، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه. ويُقْرأ "نرفع" بنون العظمة وبياء الغيبة، وكذلك "يشاء". وقرأ أهل الكوفة "درجات" بالتنوين وكذا التي في يوسف، والباقون بالإِضافة فيهما، فقراءة الكوفيين يحتمل نَصْبُ "درجات" فيها من خمسة أوجه أحدها: أنها منصوبةٌ على الظرف و "مَنْ" مفعول "نرفع" أي: نرفع مَنْ نشاء مراتب ومنازل. والثاني: أن ينتصبَ على أنه مفعول ثان قُدِّم على الأول، وذلك يحتاج إلى تضمين "نرفع" معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو "يُعْطي" مثلاً، أي: نعطي بالرفع مَنْ نشاء درجات أي: رُتَباص، والدرجات هي المرفوعة كقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}، وفي الحديث: "اللهم ارفع درجته في عليين" فإذا رُفعت الدرجةُ فقد رُفِعَ صاحبها. والثالث: أن ينتصب على حذف حرف الجر أي: إلى منازل وإلى درجات. الرابع: أن ينتصبَ على التمييز، ويكن منقولاً من المفعولية، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالإِضافة ثم حُوِّل كقوله: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} أي: عيون الأرض. الخامس: أنها منتصبةٌ على الحال وذلك على حذف مضاف أي: ذوي درجات. ويشهد لهذه القراءةِ قولُه تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ} {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
}. وأمَّا قراءة الجماعة: فدرجات مفعول "نرفع"، والخطاب في "إنَّ ربك" للرسول محمد عليه السلام، وقيل: لإِبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغَيْبة غلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تشريفه له.
(6/306)
---(1/2469)
* { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا}: فيها وجهان، الصحيح منهما: أنها معطوفة على الجملة الاسمية من قوله / "وتلك حُجَّتنا" وعَطْفُ الاسمية على الفعلية وعكسه جائز. والثاني: - أجازه ابن عطية - وهو أن يكون نسقاً على "آتيناها"، ورَدَّهُ الشيخ بأنَّ "آتيناها" لها محل من الإِعراب: إما الخبر، وإمَّا الحال، وهذه لا محل لها لأنها لو كانَتْ معطوفةً على الخبر أو الحال لاشترط فيها رابط. و "كلاً" منصوب بـ "هَدَيْنا" بعده، والتقدير: وكل واحد من هؤلاء المذكورين. قوله: "ومن ذريَّته" الهاء في "ذريته" فيها وجهان، أحدهما: أنها تعود على نوح لأنه اقرب مذكور، ولأن إبراهيم ومَنْ بعده من الأنبياء كلِّهم منسوبون إليه. والثاني أنه يعود على إبراهيم لأنه المحدَّث عنه والقصة مسوقة لذكره وخبره، ولكن رُدَّ هذا القول بكون لوطٍ ليس من ذريته إنما هو ابن أخيه أو أخته، ذكر ذلك مكي وغيره.
(6/307)
---(1/2470)
وقد أجيب عن ذلك فقال ابن عباس: "هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان فيهم مَنْ لم يلحقه بولادةٍ من قبِل أمٍّ ولا أبٍ لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً". وقال أبو سليمان الدمشقي: "ووهبنا له لوطاً" في المعاضدة والمناصرة" فعلى هذا يكون "لوطاً" منصوباً بـ "وهبنا" من غير قيد بكونه مِنْ ذريته، وقوله "داود" وما عُطِفَ عليه منصوب: إمَّا بفعل الهبة وإمَّا بفعل الهداية. و "مِنْ ذريته" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعل المحذوف، وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية. والثاني: أنها حال أي: حال كونِ هؤلاء الأنبياء منسوبين إليه. "وكذلك نجزي" [الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف اي: نجزيهم جزاء مثل ذلك الجزاء، ويجوز أن يكون في محل رفع أي: الأمر كذلك]، وقد تقدَّم ذلك في قوله {وَكَذَلِكَ نُرِيا إِبْرَاهِيمَ
}.
* { وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله: "واليَسَع" قرأ الجمهور: "الْيَسَعَ" بلام واحدة وفتح الياء بعدها، وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع، بلامٍ مشدَّدة وياء ساكنة بعدها، فقراءةُ الجمهور فيها تأويلان، أحدهما: أنه منقولٌ من فعل مضارع، والأصل: يَوْسَع كيَوْعِد، فوقعت الواو بين ياء وكسرة تقديرية، لأن الفتحة إنما جيء بها لأجل حرف الحلق فحُذِفَتْ لحَذْفها في يَضَع ويَدَع ويَهَب وبابه، ثم سُمِّي به مجرداً عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله:
1976- رأيت الوليدَ بنَ اليزيد مبارَكاً * شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ
وكقوله:
1977- باعَدَ أمَّ العمروِ من أسيرِها * حُرَّاسُ أبوابٍ على قصورِها
(6/308)
---(1/2471)
وقيل: الألف واللام فيه للتعريف كأنه قدَّر تنكيره. والثاني: أنه اسمٌ أعجمي لا اشتقاق له، لأن اليسع يقال له يوشع بن نون فتى موسى، فالألفُ واللام فيه زائدتان أو مُعَرِّفتان كما تقدَّم قبل ذلك، وهل "أل" لازمةٌ له على تقدير زيادتها؟ فقال الفارسي: إنها لازمة شذوذاً كلزومها في "الآن" وقال ابن مالك: "ما قارنت الأداة نَقْلَه كالنصر والنعمان، أو ارتجاله كاليسع والسموءل فإنَّ الأغلب ثبوتُ أل فيه، وقد تُحْذف".
وأمَّا قراءةُ الأخوين فأصله لَيْسَع كـ ضَيْغَم وَصَيْرَف وهو اسم أعجمي، ودخولُ الألفِ واللام فيه على الوجهين المتقدمين. واختار أبو عبيد قراءة التخفيف فقال: "سمعنا اسم هذا النبيّ في جميع الأحاديث: اليسع، ولم يُسَمِّه أحدٌ منهم اللَّيْسع" وهذا لا حجةَ فيه لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه، وإنما آثروا الرواة هذه اللفظة لخفتها لا لعدم صحة الأخرى. وقال الفراء في قراءة التشديد: "هي أشبه بأسماء العجم". وقد تَقَدَّم أنَّ في نون "يونس" ثلاثَ لغات وكذلك في سين يوسف.
قوله: "وكلاً فَضَّلْنا" كقوله: "كلاًّ هَدَيْنَا".
* { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعلِ المقدَّر أي: وهَدَيْنا من آبائهم، أو فَضَّلْنا من آبائهم، و "مِنْ" تبعيضية. قال ابن عطية: "وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات". فـ "مِنْ" للتبعيض والمفعول محذوف. الثاني: أنه معطوف على "كلاًّ" أي: وفضَّلنا بعض آبائهم. وقَدَّر ابو البقاء هذا الوجهَ بقوله: "وفَضَّلنا كلاً من ىبائهم [أو] وهَدَيْنا كلاً مِنْ آبائهم".
وقوله: "واجتَبَيْناهم" يجوز أن يعطف على "فَضَّلنا"، ويجوز أن يكون مستأنفاً وكرَّر لفظ الهداية توكيداً، ولأن / الهداية أصل كلِّ خبر.
(6/309)
---(1/2472)
* { ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {ذالِكَ هُدَى اللَّهِ}: المشار إليه هو المصدر المفهوم من الفغل قبله: إمَّا الاجتباء، وإمَّا الهداية، أي: ذلك الاجتباء هدى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله. ويجوز أن يكون "هدى الله" خبراص، وأن يكون بدلاً من "ذلك"، والخبر "يهدي به"، وعلى الأول يكون "يهدي" حالاً والعاملُ فيه اسمُ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً. و "مِنْ عبادِه" تبيينٌ أو حالٌ: إمَّا مِنْ "مَنْ" وإمَّا من عائده المحذوف.
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلااءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }
والهاء في "بها" تعود على الثلاثة الأشياء وهي: الكتابُ والحكمُ والنبوة، وهو قول الزمخشري. وقيل: تعودُ على النبوَّة فقط لأنها أقرب مذكور. والباءُ في "بها" متعلقةٌ بخبر ليس، وقُدِّم على عاملها للفواصل. والباء في "بكافرين" زائدةً توكيداً.
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }
(6/310)
---(1/2473)
وأولئك مفعولٌ مقدم لـ {هَدَى اللَّهُ}، ويَضْعُفُ جَعْلُه مبتدأً على حذف العائد أي: هداهم الله كقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} برفع "حكم". قوله: "اقتدِهْ" قرأ الأخوان بحذف هذه الهاء في الوصل، والباقون أثبتوها وصلاً ووقفاً، إلا ابنَ عامر بكَسْرها، ونَقَل ابنُ ذكوان عنه وجهين، أحدهما: الكشر من غير وصل بمدَّة. والثاني وصلُه بمدَّة، والباقون يسكنونها، أمَّا في الوقف فإن القراء اتفقوا على إثباتها ساكنة، وقد اختلفوا أيضاً في {مَالِيَهْ} و {سُلْطَانِيَهْ} في الحاقة، وفي {مَاهِيَهْ} في القارعة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات، واتفقوا على إثباتها في {كِتَابيَهْ} و {حِسَابِيَهْ
} فأمَّا قراءةُ الأخوين فالهاءُ عندهما للسكتِ فلذلك حَذَفاها وَصْلاً إذ مَحَلُّها الوقفُ، وأَثْبتاها وقفاً إتباعاً لرسم المصحف، وأمَّا مَنْ أثبتها ساكنةً فتحتمل عنده وجهين أحدهما: هي هاء سكت، ولكنها ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مجرى الوقف كقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ} في أحد الأقوال كما تقدم. والثاني: أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وصلاً إجراءً للوصل أيضاً مجرى الوقف نحو: {نُؤْتِهِ} و {فَأَلْقَهِ} و {أَرْجِهْ} {نُوَلِّهِ} {وَنُصْلِهِ
}. واختُلِفَ في المصدر الذي تعود عليه هذه الهاء فقيل: الهدى أي: اقتد الهدى، والمعنى: اقتد اقتداءَ الهدى، ويجوز أن يكون "الهدى" مفعولاً من أجله أي: فبهداهم اقتد لأجل الهدى، وقيل: الاقتداء أي: اقتدِ الاقتداء. ومن إضمار المصدر قوله:
1978- هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسُه * والمرءُ عند الرُّشا إن يَلْقَها ذيبُ
(6/311)
---(1/2474)
أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يجوز أن تكون الهاء ضمير القرآن، لأن الفعل قد تعدَّى له، وإنما زِيْدت اللام تقويةً له حيث تقدَّم معموله ولذلك جعل النحاة نصب "زيداً" مِنْ "زيداً ضربته" بفعل مقدر خلافاً للفراء. وقال ابن الأنباري: "إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل: اقتد اقتد، ثم جعل المصدر بدلاً من الفعل الثاني ثم أضمر فاتصل بالأول.
وأمَّا قراءة ابن عامر فالظاهر فيها أنها ضمير وحُرِّكَتْ بالكسر مِنْ غير وصل، وهو الذي يُسَمِّيه القرَّاء الاختلاس تارةً، وبالصلة وهو المسمَّى إشباعاً أخرى كما قرئ: "أَرْجِهِ" ونحوه، وإذا تقرَّر هذا فقول ابن مجاهد عن ابن عامر "يُشِمُّ الهاء [الكسر] من غير بلوغ ياء، وهذا غلط؛ لأن هذه الهاءَ هاءُ وقف لا تُعْرَبُ في حال من الأحوال - أي لا تُحَرَّك - وإنما تدخل لِتَبِيْنَ بها حركة ما قبلها" ليس بجيدٍ لِما قَرَّرت لك من أنها ضمير المصدر. وقد رَدَّ الفارسي قول ابن مجاهد بما تقدم. والوجه الثاني: أنها هاء سكت أُجْرِيَتْ مجرى هاء الضمير، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون، وهذا ليس بجيد، ويُرْوى قول المتنبي:
1979- واحرَّ قلباه ممَّن قلبُه شَبِمُ * ..................
بضم الهاء وكسرها على أنها هاءُ السكت شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير، لأن هاء الضمير لا تكسر بعد الألف فكيف بما يشبهها؟
(6/312)
---(1/2475)
والاقتداء في الأصل: طلبُ الموافقةِ، قاله الليث. ويقال: قُدْوَة [وقِدْوٌ، وأصله من القِدْو] وهو أصل البناء الذي يتشعَّبُ منه تصريف الاقتداء. و "بهداهم" متعلق بـ "اقتد". وجعل الزمخشري تقديمَه مفيداً للاختصاص على قاعدته. والهاءُ في "عليه" تعود على القرآن أو التبليغ، أُضْمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السياق عليهما. و "إنْ" نافية ولا عملَ لها على المشهور، ولو كانت عاملةً لبَطَلَ عملها بـ "إلاَّ". و "للعالمين" متعلق بـ "ذكرى" واللام مُعَدِّية، أي: إنْ القرآن إلا تذكير العالمين. ويجوز أن تكون متعلقةً بمحذوف على أنها صفة لـ "ذكرى" /.
* { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوااْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }
قوله تعالى: {حَقَّ قَدْرِهِ}: منصوبٌ على المصدر وهو في الأصل صفة للمصدر، فلما أُضيف الوصف إلى موصوفه انتصب على ما كان سنتصب عليه موصوفه، والأصل: قَدْره الحق كقولهم: جَرْدُ قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: جَرْد قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: "قدَّروا" بتشديد الدال، "قَدَره" بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لغتان.
وقوله: "إذ قالوا" منصوب بـ "قَدَروا" وجعله ابن عطية منصوباً بقَدْره، وفي كلام ابن عطية ما يُشْعر بأنها للتعليل. و "من شيء" مفعول به زيدت فيه "مِنْ" لوجودِ شَرْطي الزيادة. قوله: "نوراً" منصوب على الحال وفي صاحبه وجهان، أحدهما: أنه الهاء في طبه" فالعامل فيها "جاء". والثاني: أنه الكتاب، فالعامل فيه "أنزل" و "للناس" صفة لـ "هدى".
(6/313)
---(1/2476)
قوله: "تَجْعلونه" يقرؤه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة، وكذلك "يُبْدونها" و "يُخْفون"، والباقون بتاء الخطاب في ثلاثة الأفعال، فأمَّا الغيبةُ فللحَمْل على ما تقدَّم من الغيبة في قوله: "وما قدروا" إلى آخره، وعلى هذا فيكون في قوله: "وعُلِّمْتُم" تأويلان أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريقة الالتفات. والثاني: أنه خطاب للمؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ} وبين قوله {قُلِ اللَّهُ}.
وأمَّا قراءةُ تاءِ الخطاب ففيها مناسبةٌ لقوله {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوااْ أَنتُمْ} ورجَّحها مكي وجماعةٌ لذلك، قال مكي: "وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأنَّ أكثر القراء عليه". قال الشيخ: "ومن قال إن المنكرين العربُ أو كفار قريش لم يمكن جَعْلُ الخطاب لهم بل يكون قد اعترض ببني إسرائيل فقال خلال السؤال والجواب: تَجْعَلُونها قراطيس، ومثل هذا يَبْعُدُ وقوعُه؛ لأنَّ فيه تفكيكاً للنظم حيث جَعَلَ أولَ الكلام خطاباً للكفار وآخره خطاباً لليهود. قال: "وقد أُجيب بأنَّ الجميع لَمَّا اشتركوا في إنكار نبوَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم جاء بعضُ الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل".
قوله: "تَجْعلونه قراطيس" يجوز أن تكون "جعل" بمعنى صيَّر، وأن تكون بمعنى ألقى أي: تضعونه في كاغد. وهذه الجملة في محل نصب على الحال: إمَّا من "الكتاب"، وإمَّا من الهاء في "به"، كما تقدم في "نوراً وهدى".
(6/314)
---(1/2477)
قوله "قراطيس" فيه ثلاثة [أوجه]، أحدها: أنه على حذف حرف الجر أي: في قراطيس وورق، فهو شبيه بالظرف المبهم فلذلك تَعَدَّى إليه الفعل بنفسه. والثاني: أنه على حذف مضاف أي: تجعلونه ذا قراطيس. والثالث: أنهم نَزَّلوه منزلة القراطيس. وقد تقدم تفسير القراطيس، والجملة من قوله "تبدونها" في محل نصب نعت لقراطيس، وأمَّا "تُخْفون" فقال أبو البقاء: "إنها صفة أيضاً لها، وقدَّر ضميراً محذوفاً أي: وتُخْفون منها كثيراً". وأمَّا مكي فقال: "وتُخْفون" مبتدأٌ لا موضعَ له من الإِعراب" انتهى، كأنه لمَّا رأى خُلُوَّ [هذه الجملةِ من ضمير] يعود على "قراطيس" منع كونه صفة، وقد تقدَّن أنه مقدر أي: منها، وهو أولى. قد جوَّز الواحدي في "تبدون" أن يكون حالاً من ضمير "الكتاب" من قوله "تجعلونه قراطيس" على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى لأنه مكتتبٌ فيها" انتهى. قوله: "على أن تَجْعل" اعتذارٌ عن مجيء ضميره مؤنثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.
وقوله: "وعُلِّمْتُمْ" يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في "يجعلونه" وما عُطِفَ عليه مستأنفاً، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مخاطباً لأجل الالتفات، وأمَّا على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومَن اشترط "قد" في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا أي: وقد عُلِّمْتُمْ.
قوله: "قلِ اللهُ" الجلالة يجوز فيها وجهان أحدهما: أن تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوف أي: قل أَنْزله، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} . والثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الله أنزله، ووجه مناسبتِه مطابقةُ الجوابِ للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية فلتكنْ جملةُ الجوابِ كذلك.
(6/315)
---(1/2478)
قوله: {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يجوز أن يكون "في خوضهم" متعلقاً بـ "ذرْهُم"، وأن يتعلَّق بـ "يَلْعبون"، وأن يكونَ حالاً من مفعول "ذَرْهم"، وأن يكونَ حالاً من فاعل "يَلْعبون" فهذه أربعة أوجه، وأمَّا "يلعبون" فيجوز أن يكون حالاً مِنْ مفعول "ذرهم"، ومَنْ مَنَع أن تتعدَّد الحال لواحدٍ لم يُجِزْ حينئذ أن يكون "في خوضهم" حالاً مِنْ مفعول "ذرهم" بل يجعله: إمَّا متعلقاً بـ "ذَرْهُمْ" كما تقدم أو بـ "يَلْعبون" أو حالاً من فاعله، ويجوز أن يكون "يلعبون" حالاً من ضمير "خَوْضهم"، وجاز ذلك لأنه في قوة الفاعل لأنَّ المصدرَ مضاف لفاعله؛ لأن التقدير: ذرهم يخوضوا لاعبين، وأن يكونَ حالاً من الضمير في "خوضهم" إذا جعلناه حالاً لأنَّه تضمَّن معنى الاستقرار فتكون حالاً متداخلة.
* { وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }
قوله تعالى: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}: فيه دليل على تقدُّم الصفة غير الصريحة على الصريحة. وأجيب عنه بأن "مبارك" خبر مبتدأ مضمر، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ}، وقال مكي، "مصدِّقُ الذي" نعت للكتاب على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، و "الذي" في موضع نصب، وإن لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كان "مصدق" خبراً بعد خبر، و "الذي" في موضع خفض". وهذا الذي قاله غلطٌ فاحش، لأن حذف التنوين إنما هو للإِضافة اللفظية وإن كان اسم الفاعل في نيَّة الانفصال، وحَذْفُ التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور كقوله:
1980- ............... * ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
(6/316)
---(1/2479)
والنحويون كلُّهم يقولون في "هذا ضاربُ الرجلِ": إن حذف التنوين للإِضافة تخفيفاً، ولا يقول أحدٌ منهم في مثل هذا: إنه حُذِفَ التنوين لالتقاء الساكنين. وقَدَّم وَصْفَه بالإِنزال على وَصْفِه بالبركة بخلاف قوله {وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} قالوا: لأن الأهمَّ هنا وصفُه بالإِنزال إذ جاء عقيب إنكارهم أن يُنَزِّل الله على بشر مِنْ شيء بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جملةً فعلية، لأن الإِنزال يتجدَّد وقتاً فوقتاً والثانية اسماً صريحاً، لأنَّ الاسمَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا أي: بركته ثابتة مستقرة، و "مصدِّق" صفة أيضاً أو خبر بعد خبر على القول بأن مبارك خبر لمبتدأ مضمر، ووقع صفةً للنكرة لأنه في نيَّة الانفصال كقوله: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [وقوله]:
1981- يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم * ..............
وقال الواحدي: "ومبارك" خبر الابتداء فُصِل بينهما بالجملة، و التقدير: وهذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله: {وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} وهذا الذي ذكره لا يَتَمشَّى إلا على أنَّ قولَه "مبارك" خبر ثانٍ لـ "هذا"، وهذا بعيدٌ جداً، وإذا سُلِّم ذلك فيكون "أنزلناه" عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يُحتاج إلى ذلك، بل يجعل "أنزلناه" صفة لـ "كتاب"، ولا محذورَ حينئذٍ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوجهُ ما قَدَّمْتُه لك من الإِعراب.
(6/317)
---(1/2480)
قوله: "ولتنذرَ" قرأ الجمهور بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو بكر عن عاصم بياء الغيبة والضمير للقرآن، وهو الظاهر أي: ينذر بمواعظه وزواجره، ويجوز أن يعود على الرسول عليه السلام للعلمِ به. وهذه اللام فيها وجهان، أحدهما: هي متعلقة بـ "أنزلنا" عطفاً على مقدر، فقدَّره أبو البقاء: "ليؤمنوا ولتنذر"، وقدره الزمخشري فقال: "ولتنذر" معطوف على ما دلَّ عليه صفةُ الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات ولتصديق ما تَقَدَّمه من الكتب والإِنذار". والثاني: أنها متعلقة بمحذوف متأخر أي: ولتنذر أنزلناه.
وقوله: "أمَّ القرى" يجوز أن يكون من باب الحذف اي: أهل أمّ القرى، وأن يكون من باب المجاز إطلاقاً للمحلّ على الحالِّ، وأيُّهما أَوْلى؟ أعني المجاز والإِضمار، للناس في المسألة ثلاثة أقوال، تقدَّم بيانها وهذا كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَة}. وهناك وجهٌ لا يمكن هنا: وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقةً ويكون ذلك معجزةً لنبي، وهنا لا يتأتَّى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تتكلم، إلا أن الإِنذار لا يقع لعدم فائدته.
وقوله: "ومَنْ حولها" عطف على "أهل" المحذوف أي: ولتنذر مَنْ حول أم القرى، ولا يجوز أن يُعْطف على "أم القرى" إذ يلزم أن يكون المعنى: ولتنذر اهل مَنْ حولها، ولا حاجة تدعو إلى ذلك لأنَّ "مَنْ حولها" يقبلون الإِنذار. قال الشيخ: "ولم يحذف "مَنْ" فيعطف "حول" على "أمّ القرى" وإن كان يَصِحُّ من حيث المعنى لأنَّ "حول" ظرفٌ لا يتصرف، فلو عطف على "أم القرى" لكان مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّ العربَ لم تستعمله إلا ظرفاً".
(6/318)
---(1/2481)
قوله: "والذين يؤمنون بالآخرة" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره "يؤمنون" ولم يتَّحد المبتدأ والخبر لتغاير مُتَعَلَّقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلاَّ فيمتنعُ أن تقول: "الذي يقوم يقوم"، و "الذين يؤمنون يؤمنون"، وعلى هذا فَذِكْرُ الفضلة هنا واجب، ولم يتعرض النحويون لذلك ولكن تعرَّضوا لنظائره. والثاني: أنه منصوب عطفاً على أم القرى أي: ولتنذر الذين آمنوا، فيكون "يؤمنون" حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة لما تقدم لك مِنْ تسويغ وقوعه خبراً وهو اختلاف المتعلق، والهاء في "به" تعود على القرآن أو على الرسول. {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} حال، وقدَّم "على صَلاتهم" لأجل الفاصلة. وذكر أبو علي في "الروضة" أن أبا بكر قرأ "على صلواتهم" جمعاً.
* { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاائِكَةُ بَاسِطُوااْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوااْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }
(6/319)
---(1/2482)
قوله تعالى: {كَذِباً}: فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعول "افترى" أي: اختلقَ كَذِباص وافتعله. الاثني: أنه مصدرٌ له على المعنى أي: افترى افتراءً، وفي هذا نظر؛ لأنَّ المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المصدر فيه نوعاً من الفعل نحو: "قعد القرفصاء" أو مرادفاً له كـ "قعدت جلوساً" أمَّا / ما كان المصدر فيه أعمَّ من فعله نحو: افترى كذباً وَتَقَرْفَصَ قعوداً، فهذا غيرُ معهود إذ لا فائدة فيه، والكذبُ أعمُّ من الافتراء، وقد تقدم تحقيقه. الثالث: أنه مفعول من أجله أي: افترى لأجل الكذب. الرابع: أنه مصدر واقع موقع الحال أي: افترى حال كونه كاذباً وهي حال مؤكدة. وقوله "أو قال" عطف على افترى، و "إلى" في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر قال: "تقديره: أُوحي إليَّ الوحيُ أو الإِيحاء"، والأول أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدة بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قبله.
(6/320)
---(1/2483)
قوله: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} جملة حالية، وحُذِف الفاعل هنا تعظيماً له لأنَّ الموحي هو الله تعالى. وقوله: "ومن قال" مجرور المحل لأنه نَسَقٌ على "مَنْ" المجرور بـ مِنْ أي: وممَّن قال. وقد تقدَّم نظير هذا الاستفهام في البقرة، وهناك سؤال وجوابه. وقرأ أبو حيوة: "سَأُنَزِّل" مضعفاً. وقوله: "مثلَ" يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعول به أي: سأنزل قرآناً مثل ما أنزل الله، و "ما" على هذا موصولة اسمية أو نكرة موصوفة أي: مثل الذي أنزله أو مثل شيء أنزله. والثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله، و "ما" على هذا مصدرية أي: مثل إنزال الله، و "إذ" منصوبٌ بـ "ترى"، ومفعول الرؤية محذوف أي: ولو ترى الكفار أو الكذَبة، ويجوز أن لا يُقَدَّر لها مفعول اي: ولو كنت من أهل الرؤية في هذا الوقت، وجواب "لو" محذوف أي: لَرَأَيْتَ أمراً عظيماً. و "الظالمون" يجوز أن تكون فيه أل للجنس، وأن تكون للعهدِ، والمراد بهم مَنْ تقدَّم ذكرُه من المشركين واليهود والكذَبَة المفترين.
و {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} خبر المبتدأ، والجملة في محل خفض بالظرف. والغَمَرات: جمع غَمْرة وهي الشدة المفظعة، وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماء إذا ستره، كأنها تستر بغمِّها وتنزل به، قال:
1982- ولا يُنْجي من الغَمَراتِ إلاَّ * بَرَاكاءُ القتالِ أو الفرارُ
وتجمع على غُمَر كعَمْرة وعُمَر، قال:
1983- .................. * وحان لتالِكَ الغُمَرِ انقشاعُ
ويروى "انحسار". وقال الراغب: "أصل الغَمْر إزالة أثر الشيء، ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غَمْر وغامِر، وأنشد غيرُ الراغب على غامر:
1984- نصفَ النهارُ الماءُ غامِرُه * ورفيقُه بالغيب لا يدري
(6/321)
---(1/2484)
ثم قال: "والغَمْرَة معظمُ الماء لسَتْرها مقرَّها، وجُعِلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها". والغَمْر: الذي لم يجرِّبْ الأمور وجمعه أغمار، والغِمْر: - بالكسر - الحقد، والغَمْر بالفتح الماء الكثير، والغَمَر بفتح الغين والميم ما يغمر من رائحة الدسم سائرَ الروائح، ومنه الحديث: "من بات وفي يديه غَمَر"، وغَمِرَت يده وغَمِر عرضَه دنسٌ، ودخلوا في غُمار الناس وخمارهم، والغُمْرَة ما يُطْلَى به من الزَّعْفَران، ومنه قيل للقَدَح الذي يُتناول به الماء: غُمَرٌ، وفلان مغامِرٌ: إذا رَمى بنفسه في الحرب: إمَّا لتوغُّله وخوضه فيه، وإمَّا لتصور الغَمارة منه.
قوله: {وَالْمَلاائِكَةُ بَاسِطُوااْ} جملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في قوله "في غَمَرات" و "أيديهم" خفض لفظاً وموضعه نصب، وإنما سقطت النون تخفيفاً.
قوله: {أَخْرِجُوااْ} منصوب المحل بقول مضمر، والقول يُضْمر كثيراً تقديره: يقولون: أخرجوا، كقوله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون: سلامٌ عليكم، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في "باسطو"ز
قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنه منصوب بـ "أخْرِجوا" بمعنى أخرجوها من أبدانكم، فهذا القول في الدنيا، ويدوز أن يكونَ في يوم القيامة، والمعنى: خلِّصوا أنفسكم من العذاب، فالوقف على قوله "اليوم". والابتداءُ بقوله {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}. والثاني: أنه / منصوب بتُجْزون، والوقف حينئذ على "أنفسَكم"، والابتداء بقوله "اليوم" والمراد باليوم يحتمل أن يكون وقت الاحتضار وأن يكون يوم القيامة، و "عذابَ" مفعول ثان والأول قائم مقام الفاعل، والهُون: الهَوان، قال تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون}، وقال ذو الإِصبع:
1985- اذهَبْ إليك فيما أمي براعيةٍ * ترعى المَخَاضَ ولا أُغْضي على الهُون
وقالت الخنساء:
(6/322)
---(1/2485)
1986- يُهينُ النفوسَ وهُونُ النفو * سِ يومَ الكريهة أَبْقَى لها
وأضاف العذابَ إلى الهُون إيذاناً بأنه متمكن فيه، وذلك أنه ليس كلُّ عذابٍ يكون فيه هُون، لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ويجوز أن يكون من باب إضافةِ الموصوفِ الى صفته، وذلك أن الأصل: العذاب الهون، وصفَه به مبالغةً ثم اضافه إليه على حدِّ إضافته في قولهم: بقلة الحمقاء ونحوه. ويدل على أن الهُون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك.
قوله: {بِمَا كُنتُمْ} "ما" مصدريةٌ أي: بكونكم قائلين غير الحق وكونكم مستكبرين. والباء متعلقة بتُجْزون أي بسببه. و "غير الحق" نصبُه من وجهين، أحدهما: أنه مفعول به أي: تذكرون غير الحق. والثاني: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: تقولون القول غير الحق. وقوله: "وكنتم" يجوز فيه وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنه عطف على "كنتم" الأولى فتكون صلةً لـ "ما" كما تقدم. والثاني: أنها جملة مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك. و "عن أياته" متعلق بخبر كان، وقُدِّم لأجل الفواصل.
* { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }
قوله تعالى: {فُرَادَى}: منصوب على الحال من فاعل "جئتمونا"، وجئتمونا فيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى المستقبَل أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقُّقه كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. والثاني: أنه ماضٍ والمراد به حكاية الحال بين يدي الله تعالى يوم يقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة غلى ذلك اليوم.
(6/323)
---(1/2486)
واختلف الناس في "فُرادى" هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده، فقال الفراء: "فُرادى جمع فَرْد وفريد وفَرِد وفَرْدان" فجوَّز أن يكون جمعاً لهذه الأشياء. وقال ابن قتيبة: "هو جمع فَرْدان كسَكْران وسُكارى، و عَجلان وعُجالى". وقال قوم: هو جمع فريد كرديف ورُدَافى، وأسير وأُسارى، قاله الراغب، وقيل: هو جمع فَرَد بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفُه للتأنيث كألف سُكارى وأُسارى، فَمِنْ ثَمَّ لم ينصرف، وقيل: هو اسم جمع؛ لأنَّ فَرْداً لا يجمع على فُرىدى، وقول من قال: إنه جمع له فإنما يريد في المعنى، ومعنى فُرادى: فرداً فرداً، فإذا قلت: جاء القوم فُرادى فمعناه واحداً واحداً، قال الشاعر:
1987- ترى النَُعَراتش الزُّرْقَ تحت لَبانِه * فُرادى ومثنى أَثْقَلَتْهَا صواهِلُهْ
ويقال: فَرِد يَفْرُد فُروداً فهو فارِدٌ وأفردته أنا، ورجل أفرد وامرأة فرداء كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْد كحُمْر، ويقال في فرادى: فُراد على زِنَةِ فُعال فينصرف، وهي لغة تميم، وبها قرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: {ولقد جِئْتُمونا فُرَاداً} وقال أبو البقاء "وقرئ في الشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، يقال في الرفع فُراد مثل نُوام ورُجال وهو جمع قليل" انتهى، ويقال أيضاً: "جاء القوم فُرادَ" غير منصرف فهو كأُحاد ورُباع في كونه معدولاً صفة، وهي قراءة شاذة هنا. وروى خارجة عن نافع وأبي عمرو كليهما أنهما قرآ "فَرْدى" مثل سَكْرى اعتباراً بتأنيث الجماعة كقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُم بِسَكْرَى} فهذه أربع قراءات: المشهورة فرادى، وثلاث في الشاذ: فُراداً كرُجال، فُرادَ كأُحادَ، وفَرْدَى كسكرى.
(6/324)
---(1/2487)
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} في هذه الكاف أوجه، أحدها: أنها منصوبةُ المحل على الحال من فاعل "جئتمونا"، فَمَنْ أجاز تعدد الحال أجاز ذلك من غير تأويل، ومَنْ منع ذلك جَعَلَ الكافَ بدلاً من "فُرادى". الثاني: أنها في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: مجيْئُنا مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقدّره مكي: "منفردين انفراداً / مثل حالم أول مرة" والأول أحسن لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه. الثالث: أن الكاف في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في فرادى أي: مشبهين ابتداء خلقكم، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يُشَبَّهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن تقدر مضافاً أي: مُشْبِهةً حالُكم حال ابتداء خلقكم.
قوله {أَوَّلَ مَرَّةٍ} منصوب على ظرف الزمان والعامل فيه: خلقناكم، و "مرة" في الأًل مصدر لـ: مرَّ يَمُرُّ مَرَّة، ثم اتُّسع فيها فصارت زماناً، قال أبو البقاء: "وهذا يدلُّ على قوة شبه الزمان، بالفعل". وقال الشيخ: "وانتصب "أول مرة" على الظرف أي: أول زمان، ولا يتقدَّر أول خلق، لأنَّ أولَ خَلْقٍ يَسْتدعي خلقاً ثانياً، ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ". يعني أنه لا يجوز أن تكون المَرَّة على بابها من المصدرية، ويقدر أولَ مرةٍ من الخلق لما ذكر.
قوله: {وَتَرَكْتُمْ} فيها وجهان، احدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل "جِئْتُمونا"، و "قد" مضمرة على رأيٍ، أي: وقد تركتم. والثاني: أنها لا محلَّ لها لاستئنافها، و "ما" مفعولة بـ "ترك"، و "مَنْ" موصولة اسمية، ويضعفُ جَعْلُها نكرة موصوفة والعائد محذوف أي: ما خوَّلْناكموه، و "ترك" هنا متعدية لواجد لأنها بمعنى التخلية، ولو ضُمِّنَتْ معنى صيَّر تَعَدَّت لاثنين، و "خَوَّل" يتعدى لاثنين لأنه بمعنى أعطى ومَلَّك.
والخَوَل: ما أعطاه الله من النِّعَمِ، قال أبو النجم:
1988- كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ
(6/325)
---(1/2488)
فمعنى خَوَّلْته كذا: مَلَّكته الخَوَل فيه، كقولهم: مَوَّلته أي: مَلَّكته المال، وقال الراغب: "والتخويل في الأصل: إعطاء الخَوَل، وقيل: إعطاء ما يصير له خَوَلاً، وقيل: إعطاء ما يَحتاج أن يتعهده، من قولهم: فلانٌ خالُ مالٍ وخائل مال، أي: حسن القيام عليه".
وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} متعلق "بتَرَكْتُم" ويجوز أن يضمَّن "ترك" هنا معنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أولهما الموصول، والثاني: هذا الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: وصيَّرتم الترك الذي خوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم.
قوله: {وَمَا نَرَى} الظاهر أنها المتعدية لواحد فهي بصرية، فعلى هذا يكون "معكم" متعلقاص بنرى، ويجوز أن يكون بمعنى علم، فيتعدَّى لاثنين، ثانيهما هو الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: ما نراهم كائنين معكم أي: مصاحبيكم، إلا أن أبا البقاء استضعف هذا الوجهَ وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شفعاؤكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً. وقال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون - أي معكم - حالاً من الشفعاء، إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا نراهم" وفيما قاله نظر لا يَخْفى: وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ففيه وجهان أحدهما: نفي تلك الذات بقيدها، والثاني نفي القيد فقط دون نفي الذات، فإذا قلت: "ما رأيت زيداً ضاحكاً" فيجوز أنك لم تَرَ زيداً البتة، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك فكذا هنا، إذ التقدير: وما نرى شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء البتة ويجوز أن يَرَوْهم دون مصاحبيهم لهم، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم ولا يرونهم من هذا التركيب؟ وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة في أوائل البقرة وفي قوله {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً
(6/326)
---(1/2489)
}. و "أنهم" سادٌّ مَسَدَّ المفعولين لـ "زعم"، و "فيكم" متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء لله فيكم أي: في عبادتكم أو في خلقكم لأنكم أشركتموهم / مع الله في عبادتكم وخلقكم. وقيل "في" بمعنى "عند" ولا حاجة إليه. وقيل: المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيباً من العذاب أي: شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابكم نائبةً شاركوكم فيها.
قوله: "بينكم" قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه: "بينكم" نصباً، والباقون: "بينُكم" رفعاً. فأمَّا القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه، أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير لكنه تقدَّم ما يدل عليه وهو لفظة "شركاء"، فإن الشركة تُشْعر بالاتصال، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم فانتصب "بينكم" على الظرفية. الثاني: أن الفاعل هو "بينكم" وإنما بقي علىحاله منصوباً حَمْلاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله {يُفَصَلُ بَيْنَكُمْ} فيمن بناه للمفعول، وكذا قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} قال الواحدي: "كما جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام" ثم قال: - في قوله ومنَّا دون ذلك - فدون في موضع رفع عنده، وإن كن منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون ومنا الطالحون".
(6/327)
---(1/2490)
إلا أن الناس لما حَكَوا هذا المذهب لم يتعرَّضوا لبناء هذا الظرف بل صَرَّحوا بأنه معرب منصوب، وهو مرفوعُ المحل، قالوا: وإنما بقي على نصبه اعتباراً بأغلب أحواله. وفي كلام الشيخ لَمَّا حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيٌّ فإنه قال: طوخرَّجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف. وفيه نظر لأن ذلك لا يصلح أن يكون علة للبناء، وعللُ البناء محصورة ليس هذا منها، ثم قال الشيخ: "وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} وهذا ظاهر في أنه جَعَل حَمْله على أكثرِ أحواله علةً لبنائه كما تقدم.
الثالث: أن الفاعل محذوف، و "بينكم" صفة له قامت مقامه، تقديره: لقد تقطَّع وصلٌ بينكم، قاله أبو البقاء، ورَدَّه الشيخ بأنَّ الفاعل لا يُحذف، وهذا غيرُ ردٍّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً، وأن شيئاً قام مقامه فكأنه لم يُحْذَفْ. وقال ابن عطية: "ويكون الفعل مسنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطع الاتصال بينكم والارتباط ونحو هذا"، وهذا وجهٌ واضح، وعليه فَسَّر الناس. وردَّه الشيخ بما تقدَّم. ويُجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإِضمار لأن كلاً منهما غير موجود لفظاً. الرابع: أنَّ "بينَكم" هو الفاعل، وإنما بُني لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} ففتح "مثل" وهو تابع لـ "حق" المرفوع، ولكنه بُني لإِضافته إلى غير متمكن، وسيأتي في مكانه. ومثله قولُ الآخر.
1989- تَتَداعى مَنْخِراه بدَمٍ * مثلَ ما أثمرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح "مثل" مع أنها تابعة لـ "دمٍ"، ومثله قول الآخر:
1990- لم يمنعِ الشُّربَ منها غيرَ أَنْ نطقَتْ * حمامةٌ في غصونٍ ذاتِ أوقال
بفتح "غير" وهي فاعل "يمنع"، ومثله قول النابغة:
1991- أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لُمْتني * وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ
مقالةَ أَنْ قد قلتَ سوف أنالُه * وذلك مِنْ تلقاء مثلِك رائِعُ(1/2491)
(6/328)
---
فمقالة بدل من "أنك لمتني" وهو فاعل، والرواية بفتح تاء "مقالة" لإضافتها إلى أَنْ وما في حيِّزها.
الخامس: أن المسألة من باب الإِعمال، وذلك أن "تَقَطَّع" و "ضَلَّ" كلاهما يتوجَّهان على "ما كنتمْ تزعُمون" كلٌّ منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأول، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّن ذلك، إلا أنك قد عرفت مما تقدَّم أن مذهب البصريين اختيار إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، وقد تقدَّم تقرير ذلك في البقرة، فعلى اختيار البصريين يكون "ضَلَّ" هو الرفع لـ "ما كنتم تزعمون" واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميرَه فاستتر فيه، وعلى اختيار الكوفينن يكون "تقطَّع" هو الرافع لـ "ما كنتم تزعمون"، وفي "ضلَّ" ضميره فاعلاً به، وعلى كلا القولين فـ "بينكم" منصوبٌ على الظرف وناصبه "تقطَّع".
السادس: أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره: تقطع ما بينكم، فحذف الموصول وهو "ما" وقد تقدَّم أن ذلك رأي الكوفيين، وتقدَّم ما استشهدوا به عليه من القرآن وأبيان العرب، واستدل القائلُ / بذلك بقول الشاعر:
1992- يُدِيرونني عن سالمٍ وأُديرُهمْ * وجِلْدَةُ بين الأنف والعينِ سالمُ
وبقول الآخر:
1993- ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ مِنْ نَسَبٍ * إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ
تقديره: وجلدة ما بين، وإلا قرابة ما بين، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ومجاهد والأعمش: {لقد تقطَّع ما بينكم}.
(6/329)
---(1/2492)
السابع: قال الزمخشري: "لقد تقطع بينكم: لقد وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل" انتهى. قوله: "بهذا التأويل" قولٌ حسن: وذلك أنه لو أضمر في "تقطع" ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التقطع بينكم، وإذا تقطع التقطُّع بينهم حَصَل الوصل، وهو ضد المقصود فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور. إلا أن الشيخ اعترض فقال: "وظاهره أنه ليس بجيد، وتحريره أنه اسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه، لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بصحيح؛ لأن شرط الإِسناد مفقود فيه وهو تغايُر الحكم والمحكوم عليه" يعني أنه لا يجوز أن يتحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة لا تقول: قام القائم ولا قعد القاعد فتقول: إذا أسند الفعل إلى مصدره: فأمَّا إلى مصدره الصريح من غير إضمار فيلزم حذف الفاعل، وأمَّا إلى ضميره فيبقى تقطَّع التقطع، وهو مثل: قام القائم، وذلك لا يجوز مع أنه يلزم عليه أيضاً فساد المعنى كما تقدم من أنه يلزم ما يحصل لهم الوصل" وهذا الذي أورده الشيخُ وقرَّرته مِنْ كلامه حتى فُهِم لا يَرِدُ؛ لِما تقدم من قول الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التاويل، وقد تقدم ذلك التأويل.
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنه اتُّسع في هذا الظرفِ، فأُسند الفعل إليه فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فاستعمله مجروراً بـ "مِنْ" وقوله تعالى {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}. وحكى سيبويه: "هو أحمر بين العينين" وقال عنترة:
1994- وكأنما أَقِصُ الإِكامَ عشيةً * بقريب بينِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل:
(6/330)
---(1/2493)
1995- كأنَّ رماحَنا أشطانُ بئرٍ * بعيدةِ بين جالَيْها جَرُورِ
فقد اسْتُعْمِلَ في هذه المواضع كلها مضافاً إليه متصرَّفاص فيه فكذا هنا، ومثله قوله:
1996- ................. * وجِلْدَةُ بين الأنف والعين سالم
وقوله:
1997- .............. * إلا قرابةُ بين الزنج والروم
وقوله:
1998- ولم يَتْرك النبلُ المُخالِفُ بينها * أخاً لاح [قد] يُرْجى وما ثورةُ الهندِ
يروى برفع "بينها" وفتحه على أنه فاعل لـ "مخالف"، وإنما بني لإِضافته إلى مبنيّ، ومثلُه في ذلك: أمام وجون كقوله:
1999- فَغَدَتْ كلا الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه * مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها
برفع أمام، وقوله:
2000- ألم تَرَ أني قد حَمَيْتُ حقيقي * وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
برفع "دون". الثاني: أن "بين" اسمٌ غير ظرف، وإنما معناها الوصل أي: لقد تَقَطَّع وصلكم. ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن "بين" مصدر بان يبين بَيْناً بمعنى بَعُد، فيكون من الأضداد أي غنه مشترك اشتراكاص لفظياً يُستعمل للوصل والفراق كالجَوْن للأسود والأبيض، ويُعْزى هذا لأبي عمرو وابن جني والمهدوي والزهراوي، وقال أبو عبيد: / "وكان أبو عمرو يقول: معنى تقطَّع بينكم: تقطَّع وصلكم، فصالت هنا اسماً من غير أن يكون معها "ما". وقال الزجاج: "والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وَصْلُكم"، فقد أطلقوا هؤلاء أنَّ "بَيْن" بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
(6/331)
---(1/2494)
إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب "البين" بمعنى الوصل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين. قلت: فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً، ثم رَدَّه بكونه لم يُسْمع من العرب، وهذا منه غير مُرْضٍ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم. وقوله: "وإنما انتُزِع من هذه الآية" ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تؤذن بأنه مجاز، ووجه المجاز كما قاله الفارسي: أنه لمَّا استعمل "بين" مع الشيئين المتلابسين في نحو: "بيني وبينك شركَةٌ، وبيني وبينك رحم وصداقة" صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم". وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور.
وقال أبو علي أيضاً: "ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أنيكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى، ألا ترى أن المراد: وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين؟ قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو: "بيني وبينك شركة"، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره.
(6/332)
---(1/2495)
وأجاز أبو عبيد والزجاج وجماعة قراءة الرفع. قال أبو عبيد: "وكذلك نقرؤها بالرفع لأنَّا قد وَجَدْنا العرب تجعل "بين" اسماً من غي رما، ويُصَدِّق ذلك قولُه تعالى: "بلغا مجمعَ بينهما" فجعل "بين" اسماً من غير ما، وكذلك قوله: {بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} فجعل "بين" اسماً من غير ما، وكذلك قوله: {هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} قال: "وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها" ثم ذكر ما ذَكَرْتُه عن أبي عمرو بن العلاء، ثم قال: "وقرأها الكسائي نصباص، وكان يعتبرها بحرف عبد الله "لقد تقطع ما بينكم". وقال الزجاج: "والرفعُ أجوُ والنصب جائز، والمعنى: لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم". الثالث: أن هذا كلام محمول على معناه إذ المعنى: لقد تفرق جمعكم وتشتَّت، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب.
قوله: {مَّا كُنتُمْ} "ما" يجوز أن تكون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الوجهين الأولين محذوف بخلاف الثالث، والتقدير: تزعمونهم شركاء أو شفعاء، فالعائد هو المفعول الأول و "شركاء" هو الثاني، فالمفعولان محذوفان اختصاراً للدلالة عليهما إن قلنا: إن "ما" موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة. ويجوز أن يكون الحذف حَذْفَ اقتصار إن قلنا إنها مصدرية، لأن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف غيرها، فإنها تفتقر إلى عائد فلا بد من الالتفات إليه وحينئذ يلزم تقدير المفعول الثاني، ومن الحذف اختصاراً قوله:
2001- بأيِّ كتابٍ أم بأية سنةٍ * ترى حبَّهم عاراً علي وتحسبُ
أي: وتحسب حبهم عاراً علي.
* { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
(6/333)
---(1/2496)
قوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ}: يجوز / أن تكون الإِضافة محضةً على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي لأن ذلك قد كان، ويد لعليه قراءة عبد الله "فلق" فعلاً ماضياً، ويجوز أن تكون الإِضافةُ غيرَ محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، وذلك على حكاية الحال، فيكون "الحَبِّ" مجرورَ اللفظ منصوب المحل. والفِلْق: هو شِقُّ الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضِه من بعض، والفَلَق: المطمئنُّ مِنَ الأرض بين الرَّبْوَتين، والفلَق من قوله {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ما علَّمه لموسى عليه السلام حتى فلق به البحر. وقيل: الصبح. وقيل: هي الأنهار المشارُ إليها بقوله: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} والفِلْق بالكسر بمعنى المفلوق كالنِّكث والنِّقض، ومنه: "سمعته من فِلْق منه" وقيل: الفِلْق العَجَبُ، والفَليق والفالِقُ ما بين الجبلين وما بين السنامين من البعير، وفسَّر بعضهم "فالق" هنا بمعنى خالق، قيل: ولا يُعرفُ هذا لغةً، وهذا لا يُلتفت إليه لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك أيضاً، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب، لأن الفراء نَقَل في اللغة أن فَطَر وخلق وفلق بمعنى واحد.
[والنَّوى اسم جنسٍ مفرده نواة على حدّ] قمح وقمحة. والنوى: البعد أيضاً، ويقال: نوت البُسْرة وأنْوَتْ: اشتدَّت نواتها، ولام "النواة" ياء لأنَّ عينَها واو، والأكثر التغاير.
(6/334)
---(1/2497)
قوله: "يُخْرج" يجوز فيه وجهان أحدهما: أنها جملة مستأنفة فلا محل لها. والثاني: أنها في موضع رفع خبراص ثانياً لـ إنَّ، وقوله "ومُخْرِج" يجوز فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه معطوف على فالق - ولم يذكر الزمخشري غيره - أي: الله فالق ومخرج، أخبر عنه بهذين الخبرين، وعلى هذا فيكون "يخرج" على وجهه، وعلى كونه مستأنفاً يكون معترضاص على جهة البيان لِما قبله من معنى الجملة. والثاني: أن يكون معطوفاً على "يخرج"، وهل يُجعل الفعل في تأويل اسم ليصح عَطْفُ الاسم عليه، أو يُجعل الاسم بتأويل الفعل ليصحَّ عطفه عليه؟ احتمالان مبنيان على ما تقدم في "يخرج": إن قلنا إنه مستأنف فهو فعل غير مؤول باسم، فيُرَدُّ الاسم إلى معنى الفعل، فكأن مُخْرِجاً في قوة يُخْرج، وإن قلنا: إنه خبر ثان لـ "إنَّ" فهو بتأويل اسم واقعٍ موقع خبر ثان، فلذلك عُطِفَ عليه اسم صريح، ومِنْ عَطْفِ الاسم على الفعل لكون الفعل بتأويل اسم قولُ الشاعر:
2002- فألفيتُه يوماً يُبير عدوَّه * ومُجْرٍ عطاءً يَسْتَخِفُّ المعابرا
وقوله:
2003- يا رُبَّ بيضاءَ من العواهجِ * أمِّ صبيّ قد حَبَا أو دارج
وقوله:
2004- بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ * يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ
أي: مبيراً، أو أمِّ صبي حابٍ، وقاصِدٍ.
* { فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
وقوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ}: كقوله: "فالق الحب" فيما تقدم. والجمهور على كسر الهمزة وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحاً، وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإِصباح واحد، وهما أول النهار، وكذا الفراء. وقيل: الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نُقل ذلك عن مجاهد، والظاهر أن الإِصباح في الأصل مصدر سُمِّي به الصبح وكذا الإِمساء، قال امرؤ القيس:(1/2498)
(6/335)
---
2005- ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ * بصبحٍ وما الإِصباح منك بأمثلِ
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: الأصباح: بفتح الهمزة وهو جمع صُبْح نحو: قُفْل وأقفال وبُرْد وأبراد، وينشد قوله:
2006- أفنى رياحاً وبني رياحِ * تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بفتح الهمزة من المساء والأصباح على أنهما جمع مُسْي وصُبْح، وبكسرها على أنهما مصدران. وقرئ / "فالقُ الإِصباحَ" بنصب الإِصباح وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
2007- ................. * ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وقرئ: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ} و {لَذَآئِقُو الْعَذَابَ} بالنصب حملاً للنون على التنوين، إلا أن سيبويه لا يجيز حذف التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المبرد في السَّعة. وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة: "فلق" فعلاً ماضياً، وقد تقدم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدلُّ دليلٍ على أن القراءة عندهم سنة متبعة، ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ "فلق الحب" فعلاً ماضياً، وقرأ "فالق الأَصباح"، اسمَ فاعل، والثلاثة المذكورون بعكسه. قال الزمخشري: "فإن قلت: فما معنى فَلَق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال:
2008- ............... * تَفَرِّيَ ليلٍ عن بياض نهار
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يُراد: فالق ظلمة الإِصباح، يعني أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإِصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمعنى مفلوق، قال الطائيُ:
2009- وأزرقُ الفجر يبدو قبل أبيضه * ................
وقرئ: فالق وجاعل بالنصب على المدح". انتهى. وأنشد غيره:
2010- فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً * عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
(6/336)
---(1/2499)
قوله: {وَجَاعِلَ الْلَّيْلَ} قرأ الكوفيون: "جعل" فعلاً ماضياً، والباقون بصيغة اسم الفاعل، والرسم يحتملهما، والليل منصوب عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، ووجه قراءتهم له فعلاً مناسبته ما بعده فإن بعده الإعالاً ماضية نحو: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ}، {وَهُوَ الَّذِيا أَنشَأَكُم} إلى آخر الآيات، ويكون "سكناً": إما مفعولاً ثانياً على أن الجعل بمعنى التصيير، وإمَّا حالاً على أنه بمعنى الخلق، وتكون الحال مقدرة. وأمَّا قراءة غيرهم فجاعل يحتمل أن يكون بمعنى المضيِّ، وهو الظاهر، ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع أل خلافاً لبعضهم في منَعِ إعمال المعرَّف بها، وللكسائي في إعماله مطلقاً، وإذا تقرر ذلك فـ "سَكَناً" منصوب بفعل مضمر عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به. وقد زعم أبو سعيد السيرافي أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثاني وإن كان ماضياً، قال: "لأنه لَمَّا أضيف إلى الأول تعذَّرت إضافته للثاني فتعيَّن نصبُه له". وقال بعضهم: "لأنه بالإِضافة أشبه المعرف بأل فعمل مطلقاً" فعلى هذا "سكناً" منصوب به أيضاً، وأما إذا قلنا إنه بمعنى الحال والاستقبال فنصبُه به. و "سَكَنٌ" فَعَل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى مقبوض.
(6/337)
---(1/2500)
قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} الجمهور بنصب "الشمس" و "القمر" وهي واضحة على قراءة الكوفيين أي: بعطف هذين المنصوبين على المنصوبين بـ "جعل"، و "حُسْباناً" فيه الوجهان في "سكناً" من المفعول الثاني والحال، وأمَّا على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كونه ماضياً فلا بد من إضمار فعلٍ ينصبُهما أي: وجعل الشمس، وإن قلنا إنه غير ماض فمذهب سيبويه أيضاً أن النصب بإضمار فعل، تقول: "هذا ضاربُ زيدٍ الآن أو غداً أو عمراً" بنصب عمرو، وبفعل مقدر لا على موضع المجرور باسم الفاعل، وعلى رأي غيره بكون النصبُ على محل المجرور، وينشدون قوله:
2011- هل أنت باعثُ دينارٍ لحاجتنا * أو عبدَ رَبٍّ أخاعَوْن بن مِخْراقِ
بنصب "عبد" وهو محتمل للمذهبين. وقال الزمخشري: "أو يعطفان على محل "الليل". فإن قلت: كيف يكون لـ "الليل" محلٌّ والإِضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت: ما هو بمعنى الماضي، وإنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة.
قال الشيخ: "أمَّا قوله إنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة، يعني فيكون عاملاً ويكون للمجرور إذ ذاك بعده موضع فيعطف عليه "الشمس والقمر". قال: "وهذا ليس بصحيح، إذا كان لا يتقيد بزمن خاص، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأنشدوا على ذلك:
2012- أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ * ..............
(6/338)
---(1/2501)
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان، وإذا تقيد بزمان: فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل عند البصريين، أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيعمل ويضاف على ما أُحْكِمَ في النحو. ثم قال: "وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره، بل مذهبُ سيبويه في الذي بمعنى الحال والاستقبال أن لا يجوز العطف على محل مجروره، بل النصبُ بفعل مقدر، لو قلت: هذا ضارب زيدٍ وعمراً لم يكن نصب "عمراً" على المحلّ على الصحيح وهو مذهب سيبويه؛ لأن شرط العطف على الموضع مفقود وهو أن يكون للموضع مُحْرِزٌ لا يتغير، وهذا موضحٌ في علم النحو". قلت: وقد ذكر الزمخشري ي أول الفاتحة في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أنه لمَّا لم يُقْصد به زمانٌ صارت إضافته محضةً فلذلك وقع صفةً للمعارف، فمِنْ لازم قوله إنه يتعرَّف بالإِضافة أن لا يعمل، لأن العامل في نية الانفصال عن الإِضافة، ومتى كان في نية الانفصال كان نكرة، ومتى كان نكرة فلا يقع صفة للمعرفة. وهذا حسن حيث يَرُدُّ عليه بقوله، وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة.
وقرأ أبو حيوة: {وَالشَّمْسِ والقَمَرِ} جراً نسقاً على اللفظ. وقرئ شاذاً {والشَّمْسُ والقَمَرُ} رفعاً على الابتداء، وكان مِنْ حقه أن يقرأ "حسبانٌ" رفعاً على الخبر، وإنما قرأه نصباً، فالخبر حينئذ محذوف تقديره: مجعولان حُسْباناً أو مخلوقان حُسْباناً. فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رفع "حسبان" حتى نُلْزِمَ القارئ بذلك؛ لأن الشمس والقمر ليسا نفس الحسبان. فالجواب: أنهما في قراءة النصب: إمَّا مفعولان أولان و "حسْباناً" ثانٍ، وإمَّا صاحبا حال وحسباناً حال، والمفعول الثاني هو الأول، والحال لا بد وأن تكون صادقة على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكم كان لنا والجواب ظاهر مما تقدم.
(6/339)
---(1/2502)
والحُسبان فيه قولان، أحدهما: أنه جمع، فقيل: جمع حِساب كرِكاب ورُكبان وشِهاب وشُهبان، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد. وقال أبو البقاء: "هو جمع حُسْبانة" وهو غلط؛ لأن الحُسْبانة القطعة من النار، وليس المراد ذلك قطعاص. وقيل: بل هو مصدر كالرُّجْحان والنُّقْصان والخُسْران، وأما الحساب فهو اسمٌ لا مصدرٌ، وهذا قول ابن السكيت. وقال الزمخشري: "والحُسْبان بالضم مصدرُ حَسَبت يعني بالفتح كما أن الحِسبان بالكسر يعني مصدر حَسِبْتُ بالكسر، ونظيره الكُفران والشُّكْران" وقيل: بل الحُسبان والحِساب مصدران وهو قول أحمد بن يحيى.
وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد في مجيء الحسبان مصدراً قوله:
2013- على الله حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ * على طمعٍ أو خاف شيئاً ضميرُها
وانتصاب "حسباناً" على ما تقدم من المفعولية أو الحالية. وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوبٌ على إسقاط الخافض والتقدير: يجريان بحسبان كقوله {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} / أي: من طين. وقوله: "ذلك" إشارةً إلى ما تقدم من الفَلْق أو الجعل أو جميعِ ما تقدَّم من الأخبار في قوله "فالق الحَبِّ" إلى "حُسْبانا".
* { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
(6/340)
---(1/2503)
وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ}: الظاهر أن "جعل" بمعنى خلق فتكون متعديةً لواحد، و "لكم" متعلق بـ "جَعَلَ" وكذا "لتهتدوا". فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفا جر متَّحدان في اللفظ والمعنى؟ فالجواب أن الثاني بدلٌ من الأول بدلُ اشتمال بإعادة العامل، فإن "ليهتدوا" جا ر ومجرور، إذ اللام لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" عند البصريين وقد تقدَّم تقريره. والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، ونظيره في القرآن {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ} فـ "لبيوتهم" بدلٌ من "لمن يكفر" بإعادة العامل، وقال ابن عطية: "وقد يمكن أن يكون بمعنى "صيَّر" ويقدَّر المفعول الثاني من لتَهْتدوا، أي: جعل لكم النجوم هداية".
قال الشيخ: "وهو ضعيفٌ لندور حَذْفِ أحد مفعولي ظنَّ وأخوانها" قلت: لم يَدَّع ابنُ عطيَّة حذف المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً إنما قال: إنه مِنْ "لتهتدوا" أي: فيُقَدَّر متعلق الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً كما يُقدَّر في نظائره والتقدير: جعل لكم النجوم مستقرة أو كائنة لاهتدائكم. وأمَّا قوله: "أي جَعَل لكم النجومَ هدايةً" فلإِيضاح المعنى وبيانه.
والنجوم معروفة وهي جمع نجم، والنجم في الأصل مصدر يقال: نَجَم الكوكبُ ينجُمُ نَجْماً ونُجوماً فهو ناجم، ثم أُطلق على الكوكب مجازاً، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً، والنجوم تستعمل مرة للكواكب وتارة مصدراً ومنه: نَجَمَ النبت أي: طَلَع، ونَجَم قرن الشاة وغيرها، والنجم من النبات ما لا ساق له، والشجرُ ما له ساق، والتنجيم: التفريق، ومنه نجوم الكنانة تشبيهاً بتفرق الكواكب.
* { وَهُوَ الَّذِيا أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }
(6/341)
---(1/2504)
قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأمَّا "مُسْتَوْدَع" فالكلُّ قرأه مفتوحَ الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمرو بن العلاء كسرها. فَمَنْ كسر القاف جعل "مستقرَّاً" اسم فاعل، والمراد به الأشخاص وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: فمنكم مستقر: إمَّا في الأصلاب أو البطون أو القبور، وعلى هذه القراءة تتناسق "ومستودَع" بفتح الدال.
وجوَّز أبو البقاء في "مستقِر" بكسر القاف أن يكون مكاناً وبه بدأ قال: "فيكون مكاناً يستقر لكم" انتهى، يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر. وهذا ليس بظاهرٍ البتةَ، إذ المكان لا يوصف بكونه مستقراً بكسر القاف بل بكونه مُسْتَقَرَّاً فيه. وأمَّا مستودَع بفتحها فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأول: فمنكم مستقر في الأصلاب ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم مستقر ولكم مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع.
وأمّا مَنْ فتح القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً أي: فلكم مكان تستقرون فيه وهو الصُّلب أو الرحم أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدم، وينقص أن يكون اسم مفعول لأن فعله قاصر لا يُبنى منه اسم مفعول بخلاف مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة.
وتوجيه قراءة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في "مستودِع" بالكسر على أن يُجعل الإِنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقِه وأجَله، حتى إذا نَفِدا كأنه ردَّهما وهو مجاز حسن، ويقوِّي ما قلته قولُ الشاعر:
2014- وما المالُ والأهلون إلا وديعةٌ * ولا بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ
(6/342)
---(1/2505)
/ والإِنشاء: الإِحداث والتربية، ومنه: إنشاء السحاب، وقال تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} فهذا يُراد به التربية، وأكثر ما يستعمل الإِنشاء في إحداث الحيوان، وقد جاء في غيره، قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}. والإِنشاءُ: قسيمُ الخبر، وهو ما لم يكن له خارجٌ، وهل هو مندرجٌ في الطلب أو بالعكس أو قسم برأسه؟ خلافٌ، وقيل: - على سبيل التقريب - مقارنة اللفظ لمعناه. وقال الزمخشري: "فإن قلت: فَلِمَ قيل "يعلمون" مع ذكر النجوم، و "يفقهون" مع ذِكْرِ إنشاء بني آدم؟ قلت: كأن إنشاء الإِنس من نفس واحدة وتصريفهم على أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً، فكان ذِكْرُ الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيقُ نظر مطابقاً له".
* { وَهُوَ الَّذِيا أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوااْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
(6/343)
---(1/2506)
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا}: فيه التفاتٌ من غَيْبة إلى تكلم بنون العظمة، والباء في "به" للسببية، وقوله {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} قيل: المراد كل ما تسمَّى نباتاً في اللغة. وقال الفراء: رزق كل شيء أي: ما يصلحُ أن يكون غذاءً لكل شيء فيكون مخصوصاً بالمتغذَّى به". وقا لالطبري: "هو جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأنَّ كل ذلك يتغذَّى بالماء" ويترتب على ذلك صناعة إعرابية، وذلك أنَّا إذا قلنا بقولٍ غيرِ الفراء كانت الإضافة راجعةً في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فأخرَجْنا به كلَّ شيء منبَت فإن النبات بمعنى المُنْبَت، وليس مصدراً كهو في {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} وإذا قلنا بقول الفراء كانت الإِضافة إضافةً بين متباينين، إذ يصير المعنى: غذاء كل شيء أو رزقه. ولم ينقل الشيخ عن الفراء غيرَ هذا القول، والفراء له في هذه الآية القولان المتقدمان فإنه قال: "رزق كل شيء" قال: "وكذا جاء في التفسير وهو وجه الكلام، وقد يجوز في العربيَّة أن تضيف النبات إلى كل شيء، وأنت تريد بكل شيء النبات أيضاً، فيكون مثل قوله {حَقُّ الْيَقِينِ} واليقين هو الحق".
(6/344)
---(1/2507)
قوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} في الهاء وجهان أحدهما: أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون "مِنْ" على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض، وليس بذلك. والثاني: أن تعود على الماء وتكون "مِنْ" سببية، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال: "وأخرجنا منه أي: بسببه. ويجوز أن تكون الهاء في "منه" راجعة على النبات وهو الأشبه، وعلى الأول يكون "فأخرجنا" بدلاً من "أخرجنا" الأول". أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر، والظاهر أنَّ "فأخرجنا" عطف على "فأخرجنا" الأول. وقال الشيخ: "وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا". قلت: إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في "منه" على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في "منه" عائدة على النبات.
والخَضِر بمعنى الأخضر كَعَوِر وأعور. قال أبو إسحاق "يقال اخضَرَّ يخضرُّ فهو خَضِر وأخضر كاعوَّر فهو عَوِرٌ وأعورُ" والخُضْرة أحدُ الألوان وهي بين البياض والسواد لكنها إلى السواد أقرب، ولذلك أُطلق الأسود على الأخضر وبالعكس، ومنه "سَواد العراق" لخضرة أرضه بالشجر. وقال تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: شديدتا السواد لريِّهما. والمخاضرة: مبايَعَةُ الخُضَر والثمار قبل بلوغها، والخَضِيرة نخلةٌ ينتشر بُسْرُها أخضرَ. وقوله عليه السلام: "إياكم وخضراءَ الدِّمَن" فقد فسَّره هو عليه السلام بقوله:"المرأة الحسناء في المنبت السوء" و الدِّمَن: مطارحُ الزِّبالة وما يُسْتَقْذر، فقد ينبُت فيها ما يستحسنه الرائي.
(6/345)
---(1/2508)
قوله: {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخَضِر. والجمهور على "نُخْرج" مسنداً إلى ضمير المعظم نفسه. وقرأ ابن محيصن والأعمش "يخرج" بياء الغيبة مبنياً للمفعول، "حَبٌّ" قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفة لـ "خَضِراً" وهذا هو الظاهر، وجوَّزوا فيها أن تكون مستأنفةً، ومتراكب رفعاً ونصباً صفة لـ "حَبّ" بالاعتبارين.
قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} يجوز في هذه الجملة أوجه، أحدها: - وهو أحسنها - أن يكون "من النخل" خبراً مقدماً، و "من طَلْعِها" بدل بعض من كل بإعادة العامل فهو كقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} و "قِنْوان" مبتدأ مؤخر، وهذه جملةٌ ابتدائية عُطِفَتْ على الفعلية قبلها. والثاني: أن يكونَ "قِنْوان" فاعلاً بالجار قبله وهو من النخل، و "من طلعها" على ما تقدم من البدلية، وذلك على رأي الأخفش. الثالثك أن تكون المسألة من باب التنازع، يعني أن كلاً من الجارَّيْن يطلب قنواناً على أنه فاعل على رأي الأخفش: فإن أعملت الثاني وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأول، وإن أَعْمَلْتَ الأول - كما هو مختار قول الكوفيين - أضمرت في الثاني، قال أبو البقاء: "والوجه الآخر أن يرتفع "قِنْوان" على أنه فاعل "من طلعها" فيكون في "من النخل" [ضميرُ يفسره قنوان] وإن رفعت "قنوان" بقوله "ومن النخل" على قول مَنْ أعمل أول الفعلين جاز، وكان في "من طلعها" ضمير مرفوع". قلت: فقد أشار بقوله "على أنه فاعل "من طلعها" إلى إعمال الثاني.
(6/346)
---(1/2509)
الرابع: أن يكون "قنوان" مبتدأ و "من طلعها" الخبر، وفي "من النخل" ضمير تقديره: ونبت من النخل شيء أو ثمر فيكون "من طلعها" بدلاً منه. قاله أبو البقاء، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنه بعد أن جعل "مِنْ طلعها" الخبر فكيف يُجْعل بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه لأن "من النخل" خبر للمبتدأ. فالجواب أنه قد قَدَّم هذا الوجه وجعله مقابلاً لهذا فلا بد أن يكون هذا غيرَه، فإنه قال قبل ذلك: "وفي رفعه وجهان أحدهما: هو مبتدأ وفي خبره وجهان، أحدهما هو "من النخل" وم نطَلْعِها بدل بإعادة الجار". قال الشيخ: "وهذا إعراب فيه تخليط".
الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة "أخرجنا" عليه تقديره: ومخرجةٌ من طلع النخل قنوان" هذا نص الزمخشري، وهو - كما قال الشيخ - لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مستقلة في الإِخبار بدونه.
السادس: أن يكون "من النخل" متعلقاً بفعل مقدر، ويكون {مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} جملة ابتدائية في موضع المفعول بـ "نخرج". وإليه ذهب ابن عطية فإنه قال: "ومن النخل تقديره: "ونُخْرِجُ من النخل" و "من طلعها قنوان" ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بـ "نخرج" قال الشيخ: "وهذا خطأ لأنَّ ما يتعدَّى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله، إلا إذا كان الفعل مما يُعَلَّق، وكان في الجملة مانعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شُرِحَ في النحو، و "نُخْرج" ليس ممَّا يُعَلَّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها، إذ لو سُلِّط الفعلُ على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب "ونخرج من النخل مِنْ طَلْعِها قنواناً" بالنصب مفعولاً به.
(6/347)
---(1/2510)
وقال الشيخ: "ومن قرأ: "يُخْرَج منه حب متراكب" جاز أن يكون قوله {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} معطوفاً عليه نحو: "يُضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو" أي أنه يُعطف "قنوان" على "حب"، و "من النخل" معطوف على "منه" ثم قال: "وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه" والقِنْوان: جمع لـ "قِنْو" كالصِنْوان جمع لصِنْو، والقِنْوُ: العِذْق بكسر العين وهو عنقودُ النخلة، ويقال له الكِباسة، قال امرؤ القيس:
2015- وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ * أثيثٍ كقِنْو النخلة المُتَعَثْكِل
وقال أيضاً:
2016- سوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فروعُه * وعالَيْنَ قِنْواناً من البُسْر أحمرا
والقنوان: جمع تكسير قال أبو علي: "الكسرة التي في قِنْوان ليست التي كانت في قِنْو لأن تلك حذفت في التكسير وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّر تغيير كسرة "هِجان" جمعاً عن كسرته مفرداً، فكسرة هِجان جمعاً ككسرة ظِراف". قال الواحدي: "وهذا مما توضحه الضمة في آخر "منصور" على قولِ مَنْ قال "يا حارُ" يعني بالضمة ليست التي كانت فيه / في قول مَنْ قال "يا حارِ" يعني بالكسرة". وفيه لغات: فلغةُ الحجاز "قِنْوان" بكسر القاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش والحباب عن أبي عمرو والأعرج بضمِّها، ورواها السلمي عن علي بن أبي طالب، وهي لغة قيس، ونقل ابن عطية عكس هذا فجعل الضمَّ لغةَ الحجاز فإنه قال: "وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع "قُنو" بضمِّ القاف"، قال الفراء: "وهي لغة قيس وأهل الحجاز، والكسرُ أشهر في العرب".
(6/348)
---(1/2511)
واللغة الثالثة: قَنْوان بفتح القاف وهي قراءة أبي عمرو في رواية هارون عنه. وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع لِقنْو لا جمعاً إذ ليس في صيغ الجموع ما هو على وزن فَعْلان بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري برَكْب، وأبو البقاء بالباقر، وتنظير أبي البقاء أولى لأنه لا خلاف في الباقر أنه اسم جمع، وأمَّا رَكْب ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويدل على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سُمِعَ في المفرد كَسْرُ القاف وضمها فجاء الجمع عليهما. وأمَّا الفتح فلم يَرِدْ في المفرد.
واللغة الرابعة قُنْيان بضم القاف مع الياء دون الواو. والخامسة: قِنْيان بكسر القاف مع الباء أيضاً، وهاتان لغتا تميم وربيعة. وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً بل بالواو سواء كسروا القاف أم ضمُّوها، فلا يقولون إلا قِنواً وقُنوا، ولا يقولون قِنيا ولا قُنيا، فخالف الجمعُ مفرده في المادة وهو غريب.
واختُلف في مدلول "القِنْو" فقيل: هو الجُمَّار وهذا يكاد يكون غلطاً، وكيف يُوْصَفُ بكونه دانياً أي: قريب الجنى، والجُمَّار إنما هو في قلب النخلة، والمشهور أنه العِذْق كما تقدم ذلك. قال أبو عبيد: "وإذا ثَنَّيْتَ قِنْواً قلت: قِنوان بكسر النون، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْوٌ وصن صنوان، والإِعراب على النون في الجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير" قال:
2017- .............. * ومالَ بقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أحمرا
قلت: إذا وُقف على "قنوان" المثنى رفعاً وعلى "قنوان" جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت: "عندي قنوان" وقفاً احتمل ما ذكرته من التثنية والجمع، فإذا وصلت وقع الفرق فإنك تجعل الإِعراب على النون حالَ جمعه كغِربان وصِرْدان بكسر النون في التثنية.
(6/349)
---(1/2512)
ويقع الفرق أيضاً بوجوهٍ ـأُخَرَ منها: انقلاب الألف ياءً نصباً وجراً في التثنية نحو: رأيت قِنْوَيْك وصِنْويك ومررت بقنويك وصنويك، ومنها: حذف نون التثنية إضافةً وثبوت النون في الجمع نحو: جاء قنواك وصنو اك وقنوانك وصنوانك، ومنها: في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية فتقول: قِنْوَيّ وصِنْوَي، ولا تحذف الألف ولا النون إذا أردت الجمع بل تقول: قِنْوانيّ وصِنْواني، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً وذلك أن كلاً منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ولم يتغيَّرْ معها بناء الواحد، والفرق ما قدَّمْتُه لك، وأيضاً فإن الجمع مِنْ قنوان وصنوان، إنَّما فهمناه من صيغة فِعْلان لا من الزيادتين، بخلاف الزيدين، فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي ذكرْتُه مِنْ محاسن علم الإِعراب والتصريف واللغة.
وقال الراغب بعد أن ذَكَرَ أنه العِذْق: "والقَناةُ تشبه القِنْوَ في كونهما غصنين، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك لأنها تشبه القناة في الخط والامتداد، وقيل: أصلها مِنْ قَنَيْتُ الشيء إذا ادَّخَرْتَه لأنها مُدَّخِرَةٌ للماء. وقيل: هو مِنْ قاناه أي: خالطه، قال - يعني امرأ القيس -/:
2018- كبِكْرِ مُقاناِ البياضِ بصُفْرةٍ *غَذَاها نُمَيْرُ الماءِ غيرَ مُحَلَّلِ
وأمَّا "القنا" الذي هو الاحْدِيْداب في الأنف فيشبَّه في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقنى وامرأة قَنْواء كأحمر وحمراء". والطَّلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه. قال أبو عبيد: "الطَّلْعُ: الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ عن الإغريض والإِغريض يسمى طَلْعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها، تطلُع إطلاعاً وطلع الطلع يَطْلُع ففرقوا بين الإِسنادين. وأنشدني بعضهم في مراتب ما تثمره النخلة قول الشاعر:
2019- إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ * أسماءَ ما تُثْمِرُه النخيلُ
فاسمَعْه مَوْصوفاً على ما أذكرُ * طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر(1/2513)
(6/350)
---
وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ * ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ
فهذه أنواعُها يا صاحِ * مضبوطةً عن صاحب الصِّحاح
قوله: "وجنَّات" الجمهور على كسر التاء من "جنات" لأنها منصوبة نسقاً على نبات أي: فأخرجنا بالماء النبات وجنات، وهو من عطف الخاص على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وعلى هذا فقوله {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} جملةٌ معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة، وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للمِنَّة به؛ لأنه من أعظم قوت العرب؛ لأنه جامع بين التفكُّه والقوت، ويجوز أن ينتصب "جنات" نسقاً على "خضراً". وجوَّز الزمخشري - وَجَعَلَهُ الأحسنَ - أن ينتصب على الاختصاص كقوله "والمقيمي الصلاة" قال: "بفضلِ هذين الصنفين" وكلامُهُ يُفْهم أن القراءة الشهيرة عنده برفع "جنات"، والقراءة بنصبها شاذة، فإنه أولُ ما ذكر توجيهُ الرفع كما سيأتي، ثم قال: "وقرئ "وجنات" بالنصب" فذكر الوجهين المتقدمين.
(6/351)
---(1/2514)
وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم "وجنات" بالرفع وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف. واختلفت عبارة المعربين في تقديره: فمنهم مَنْ قَدَّره متقدِّماً، ومنهم من قَدَّره متأخراً، فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثَمَّ دنات، وقدَّره أبو البقاس "ومن الكرم جنات"، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله "ومن النخل" أي: من النخل كذا ومن الكرم كذا، وقَدَّره النحاس "ولهم جنَّات"، وقدَّره ابن عطية: "ولكم جنات"، ونظيره قراءة {وَحُورٌ عِينٌ} بعد قوله: "يطوف عليهم وِلْدانٌ مخلدون بأكواب" أي: ولهم حورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه والكسائي والفراء. وقدَّره متأخراً فقال: أي وجنات من أعناب أخرجناها. قال الشيخ: "ودل على تقديره [قوله] قبلُ "فأخرجنا" كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه أي: وأخوه أكرمته". قلت: وهذا التقدير سبقه إليه ابن الأنباري، فإنه قال: "الجناتُ" رُفِعت بمضمر بعدها تأويلها: وجناتُ من أعناب أخرجناها، فجرى مَجْرَى قول العرب: "أكرمت عبدَ الله وأخوه" تريد: وأخوه أكرمته. قال الفرزدق:
2020- غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ * حصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ
فرفع "الخمر" وهي مفعولة، على معنى: والخمر أَحَلَّها الطعنة. الوجه الثاني: أن يرتفع عطفاً على "قنوان"، تغليباً للجوار، كما قال الشاعر:
2021- ...................... * وزجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
فنسق "العيون" على "الحواجب" تغليباً للمجاورة، والعيونُ لا تُزَجَّج، كما أن الجنات من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نصُّ مذهب ابن الأنباري أيضاً، فتحصَّل له في الآية مذهبان، وفي الجملة فالجواب ضعيف، وقد تقدم أنه من خصائص النعت.
(6/352)
---(1/2515)
والثالث: أن يعطف على "قنوان". قال الزمخشري: "على معنى: محاطة أو مُخْرجة من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي: من نبات أعناب. قال الشيخ: "وهذا العطفُ هو على أن لا يُلْحَظَ فيه قيدٌ من النخل فكأنه قال: ومن النخل قنوان دانية وجنات من أعناب حاصلة كما تقول: "من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان". قلت: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوجه أعني عطفها على "قنوان"، وضعَّفه ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على "قنوان" قال: "لأن العنب لا يخرج من النخل". وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة. قال أبو حاتم: "هذه القراءة محال؛ لأن الجنات من الأعناب. لا تكون من النخل". قلت: أمَّا جواب أبي البقاء فيما قاله الزمخشري، وأمَّا جوابُ أبي عبيد وأبي حاتم فيما تقدم من توجيه الرفع. و "من أعناب" صفة لجنات فتكون في محل رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف.
قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} لم يقرأهما أحد إلا منصوبين، ونصبهما: إمَّا عطفٌ على جنات وإمَّا على نبات، وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: "وقرئ "وجنات" بالنصب عطفاً على "نباتَ كل شيء" أي: وَأَخْرَجْنا به جناتٍ من أعناب، / وكذلك قوله: و الزيتونَ والرُّمَّان". ونصَّ أبو البقاء على ذلك فقال: "وجنات بالنصب عطفاً على نبات، ومثله: الزيتونَ و الرمانَ". وقال ابن عطية: "عطفاً على "حَبَّاً". وقيل على "نبات" وقد تقدم لك أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين، أحدهما: عطفه على ما يليه، والثاني: عطفه على الأول نحو: مررت بزيدٍ وعمروٍ وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد أو عمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو: "مررت بك وبزيد وبعمرو" فإن جعلته عطفاً على الأول لَزِمَت الباء وإلاَّ جازت.
(6/353)
---(1/2516)
والزيتون وزنه فَيْعُول فالتاءُ مزيدةٌ، والنون أصلية لسقوط ذيك في الاشتقاق وثبوت ذي، قالوا: أرض زَتِنَة أي كثيرة الزيتون، فهو نظير قيصوم، ولأنَّ فَعْلولاً مفقودٌ أو نادر، ولا يُتَوَهَّم أن تاءَه أصلية ونونَه مزيدة بدلالة الزيت فإنهما مادتان متغايرتان، وإن كان الزيت معتصراً منه، ويقال: زات طعامه أي: جعل فيما زيتاً، وزاتَ رأسَه أي: دَهَنَه به، وازْدات: أي ادَّهن أُبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازدجر وازادان. والرُّمَّان وزنه فُعَّال نونه أصلية فهو نظير عُنَّاب وحُمَّاض لقولهم: أرض رَمِنَةٌ أي: كثيرتُه.
قوله: {مُشْتَبِهاً} حال: إمَّا من "الرمان" لقربه، وحذفت الحال من الأول تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللون، وعدم التشابه أي في الطعم. وقيل: هي حال من الأول وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدم لك في الخبر المحذوف، نحو: "واللهُ ورسوله أحقُّ أن يُرْضوه" وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال: "والزيتون مشتبهاً وغير مشتبه والرمان كذلك كقوله:
2022- رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي * بريئاً .................
قال الشيخ: "فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي: بريئاً، والبيت لا يتعين فيه ما ذَكَرَ؛ لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق، فيصحُّ أن يُخْبَرَ به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون "بريئاً" خبر "كان" على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه، إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً منهما، إذ لو كان لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين". قال أبو البقاء: "حال من الرمان ومن الجميع"، فإن عنى في المعنى فصحيح ويكون على الحذف كما تقدَّم، وإن أراد في الصناعة فليس بشيء لأنه كان يلزم المطابقة.
(6/354)
---(1/2517)
والجمهور على "مشتبهاً" وقرئ شاذاً متشابهاً وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري: "كقولك: اشتبه الشيشان وتشابها كاستويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً". انتهى. وأيضاً فقد جَمَعَ بينهما في هذه الآية في قوله "مشتبهاً وغير متشابه".
قوله: {إِلِى ثَمَرِهِ} متعلِّق بـ "انظروا" وهي بمعنى الرؤية، وإنما تَعَدَّتْ بـ إلى لِما تَتَضَمَّنه من التفكر. وقرأ الأخوان "ثُمُرِه" بضمتين، والباقون: بفتحتين، وقُرِئَ شاذاً بضم الأول وسكون الثاني.
فأمَّا قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه، أحدها: أن تكون اسماً مفرداً كطُنُب وعُنُق. والثاني: أنه جمع الجمع فَثُمُر جمع ثِمار وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أُكُم جمع إكام وإكام جمع أَكَمَة فهو نظير كُثْبان وكُثُب. والثالث: أنه جمع ثَمَرَ كما قالوا: أسَد وأُسُد. والرابع: أنه جمع ثمرة، قال الفارسي: "والأحسن أن يكون جمع ثَمَرَة كخشبة وخُشُب، وأكمة وأُكُم ونظيره في المعتل: لابة ولُوْب، وناقة ونوق، وساحة وسوح.
(6/355)
---(1/2518)
وأما قراءة الجماعة فالثَمَر اسم جنس مفرده ثمرة كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجزر وجزرة. وأما قراءة التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين، وقيل: بل هي جمع ثَمَرَة كبُدْن جمع بَدَنَة، ونقل بعضهم أنه يقال ثَمُرَة بزنة سَمُرة، وقياسها على هذا ثَمُر كسَمُر بحذف التاء إذا قُصِدَ معهُه، وقياسُ تكسيرِه أثمار كعَضُد وأعضاد، وقد قرأ أبو عمرو الذي في سورة الكهف بالضم وسكون الميم، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مستندها النقل. وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل "خُشْب". والباقون بالضم، فهذه القراءة نظير تِيك. وهذا الخلاف أعني في "ثَمَرِه" والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس. وأما الذي في سورة الكهف ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس، فاستمرَّ على عمل واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث / فاستمرا على عمل واحد، وأمَّا نافع وابن كثير وابن عامر فقرؤوا ما في الأنعام ويس بفتحتين وقرؤوا ما في الكهف بضمتين، وأمَّا أبو عمرو فقرأ ما في النعام ويس بفتحتين وما في الكهف بضمة وسكون. وقد ذكروا في توجيه الضمتين في الكهف ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم المال، وبالفتح المأكول.
وقوله: {إِذَآ أَثْمَرَ} ظرق لقوله: "انظروا"، وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه.
(6/356)
---(1/2519)
قوله: {وَيَنْعِهِ} الجمهور على فتح الياء مِنْ "ينعه" وسكون النون. وقرأ ابن محيصن بضم الياء وهي قراءة قتادة والضحاك. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان. والينع بالفتح والضم مصدر: يَنَعَتِ الثمرة أي: نضجت، والفتح لغة الحجاز، وال1م لغة بعض نجد، ويقال أيضاً يُنُع ويُنُوع بواو بعد ضمتين. وقيل: اليَنْع بالفتح جمع يانِع كتاجِر وتَجْر وصاحِب وصَحْب، ويقال: يَنَعَت الثمرة وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى. وقال الحَجَّاج: "أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها". ويانع اسم فاعل وقيل: أينعت الثمرة وينعت احمرَّت، قاله الفراء، ومنه الحديث في الملاعنة: "إنْ وَلَدَتْهُ أحمرَ مثلَ اليَنَعَة" وهي خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العقيق أو نوع منه. ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل هذا قول أبي عبيد وأنشد:
2023- ................. * حولها الزيتونُ قد يَنَعَا
وقال الليث بعكس هذا: أي بكسرها في الماضي وبفتحها في المستقبل. وناسب ختامَ هذه الآية بقوله "لقوم يؤمنون" كونُ ما تقدَّم دالاً على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة، فلا بُدَّ لها مِنْ مدبِّر مع أنها نابتةٌ من أرضٍ واحدةٍ وتُسْقَى بماءٍ واحد، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين المتدبِّرين دون غيرهم.
* { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }
(6/357)
---(1/2520)
قوله تعالى: {شُرَكَآءَ الْجِنَّ}: الجمهور على نصب "الجن" وفيه خمسة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنَّ "الجن" هو المفعول الأول، والثاني هو "شركاء" قُدِّم، و "لله" متعلِّق بشركاء. والجَعْل هنا بمعنى التصيير، وفائدةُ التقديم كما قالَه الزمخشري استعظامُ أن يُتَّخَذَ لله شريكٌ مَنْ كان مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً ولذلك قُدِّم اسم الله على الشركاء" انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع كما جاء في التفسير. وقيل: ثم طائفة من الملائكة يسمَّون الجن ك ان بعض العرب يعبدها.
(6/358)
---(1/2521)
الثاني: أن يكون "شركاء" مفعولاً أول و "لله" متعلقٌ بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و "الجنّ" بدل من "شركاء"، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء وكي بن أبي طالب، إلا أنَّ مكِّيَّاً لمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ "لله" متعلقةً بجَعَلَ فإنه قال: "الجنَّ مفعولٌ أولُ لَجَعَلَ و "شركاءَ" مفعولٌ ثانٍ مقدَّم، واللام في "لله" متعلقة بشركاء، وإن شِئْتَ جَعَلْتَ "شركاء" مفعولاً أول، والجن بدلاً من شركاء، و "لله" في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة بجعل". قلت: بعد أن جعل "لله" مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّر أن يَجْعَلَ اللامَ متعلقةً بالجعلِ؟ هذا ما لا يجوز لأنَّه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّنَ تعلُّقُهُ بمحذوف على ما عرفته غيرَ مرة. قال الشيخ: "وما أجاوزه - يعني الزمخشري ومن ذُكِرَ معه - لا يجوز؛ لأنه يصِحُّ للبدل أن يحلَّ محلَّ المبدل منه فيكونَ الكلام منتظماً، لو قلت: وجعلوا لله الجنَّ لم يَصِحَّ، وشرطُ البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يَصِحُّ هنا البتَةَ لِما ذكرنا" قلت: هذا القول المنسوب للزمخشري ومَنْ ذُكِرَ معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قُدِّم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون "الجن" بدلاً من "الشركاء" ومفسِّراص للشركاء هذا نصُّ عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كونَ البدل مفسراً، فلا معنى لردِّ هذا القول، وأيضاً فقد رَدَّ هو على الزمخشري عند قوله تعالى {إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ} فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل مَحَلَّ المبدلِ منه، قال: "ألا ترى إلى تجويز النحويين "زيد مررت به أبي عبد الله" ولو قلت: "زيد مررت بأبي عبدالله" لم يجز إلا على رأي الأخفش" وقد سبق هذا في المائدة، فقد قرر / هو أنه لا يلزم حلول البدل محلَّ المبدل منه فكيف يَرُدُّ به(1/2522)
(6/359)
---
هنا؟
الثالث: أن يكون "شركاء" هو المفعول الأول و "الجن" هو المفعول الثاني، قاله الحوفي، وهذا لا يَصِحُّ لِما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل، وتقرَّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ والنكرة خبراً، من غير عكس إلا في ضرورة، تقدَّم التنبيه على الوارد منها.
الرابع: أن يكون "شركاء الجن" مفعولين على ما تقدَّم بيانه. و "لله" متعلق بمحذوف على أنه حال من "شركاء"؛ لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي: مملوكين، وهذه حال لازمة لا تنفك، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيدَ فيها هنا، وأيضاً فإنَّ فيه تهيئةَ العامل في معمول وقَطْعَه عنه؛ فإن "شركاء" يطلب هذا الجارَّ ليعمل فيه والمعنى منصبٌّ على ذلك.
الخامس: أن يكون "الجنَّ" منصوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدَّر، كأن سائلاً سأل فقال بعد قوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ}: مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجنَّ، أي: جعلوا الجن، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدَّم قال: "ويُؤَيِّد ذلك قراءةُ أبي حيوة ويزيد بن قطيب "الجنُّ" رفعاً على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: [من] جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكاً لله تعالى. وقال مكي: "وأجاز الكسائي رفع "الجن" على معنى هم الجن"، فلم يَرْوِها عنه قراءةً، وكأنه لم يطَّلع على أن غيرَه قرأها كذلك.
(6/360)
---(1/2523)
وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً "شركاءَ الجنِّ" بخفض "الجن"، قال الزمخشري: "وقرئ بالجر على الإِضافة التي للتبيين فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم كما أطاعوا الله". قال الشيخ: "ولا يتضح معنى هذه القراءة، إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله". قلت: معناها واضح بما فسَّره الزمخشري في قوله، والمعنى: أَشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سَمَّاها إضافة تبيين، أي إنه بيَّن الشركاء كأنه قيل: الشركاء المطيعين للجن.
قوله: {وَخَلَقَهُمْ} الجمهور على "خَلَقَهم" بفتح اللام فعلاً ماضياً، وفي هذه الجملة احتمالان، أحدهما: أنها حالية فـ "قد" مضمرةٌ عند قومٍ وغير مضمرة عند آخرين. و الثاني: أنها مستأنفة لا محَلَّ لها، والضمير في "خلقهم" فيه وجهان، أحدهما: أنه يعود على الجاعلين أي: جعلوا له شركاء مع أنهم خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممَّن لا تأثيرَ له في خلقهم؟ والثاني: أنه يعود على الجن أي: والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟
(6/361)
---(1/2524)
وقرأ يحيى بن يعمر: "وَخَلْقهم" بسكون اللام. قال الشيخ: "وكذا في مصحف عبد الله". قلت: قوله "وكذا في مصحف عبد الله" فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحفُ السَّلفِ منها مجردة، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمرٌ حادث، يقال: إن أول مَنْ أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُنسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما: أن يكون "خَلْقهم" مصدراً بمعنى اختلافهم. قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإِفك يعني: وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم "والله أمَرَنا بها" انتهى. فيكون "لله" هو المفعول الثاني قُدِّم على الأول. والتأويل الثاني: أن يكون "خَلْقهم" مصدراً بمعنى مخلوقهم. فيكون عطفاً على "الجن"، ومفعوله الثاني محذوف تقديره: وجعلوا مخلوقَهم وهو ما ينحِتون من الأصنام كقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} شركاءَ لله تعالى.
قوله تعالى: "وخَرَقوا" قرأ الجمهور "خَرَقوا" بتخفيف الراء ونافع بتشديدها. وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: "يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه"، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل. وقال الزمخشري: "ويجوز / أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي: اشتقُّوا له بنين وبنات". وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي: زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل.
(6/362)
---(1/2525)
وقوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيه وجهان. أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف أي: خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيفُ المعنى، والثاني: - وهو الأحسنُ - أن يكونً منصوباً على الحال من فاعل "خرقوا" أي: افتعلوا الكذبَ مصاحبين للجهل وهو عدم العلم.
* { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {بَدِيعُ}: قرأ الجمهور برفع العين، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ، فيكون الوقفُ على قوله "والأرض" فهي جملة مستقلة بنفسها. الثاني: أنه فاعلٌ بقوله "تعالى"، أي تعالى بديع السموات، وتكون هذه الجملةُ الفعليةُ معطوفةٌ على الفعلِ المقدَّرِ قبلَها وهو الناصبُ لسبحان فإنَّ "سبحان" كما تقدَّم من المصادر اللازم إضمارُ ناصبِها. الثالث: أنه مبتدأ وخبرُه ما بعده من قوله {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}. وقرأ المنصور "بديعِ" بالجر، قال الزمخشري: "رداً على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه" كذا قاله، ولم يُبَيِّنْ على أيِّ وجهٍ من وجوهِ الإِعراب هو، وكذا الشيخُ حكاه عنه ومرَّ عليه، ويريد بالردّ كونَه تابعاً إمَّا: لله، أو للضمير المجرور في "سبحانه"، وتبعيَّتُه له على كونه بدلاً من "لله" أو من الهاء في "سبحانه"، ويجوز أن يكون نعتاً لله على أن تكون إضافةُ "بديع" محضةً كما ستعرفه، وأما تبعيَّتُه للهاءِ فيتعيَّنُ أن يكونَ بدلاً، ويمتنعُ أن يكون نعتاً وإن اعتقَدْنا تعريفَه بالإِضافة لمعارِضٍ آخر: وهو أن الضميرَ لا يُنعت، إلا ضميرَ الغائب على رأيِ الكسائي، فعلى رأيه قد يجوز ذلك.
(6/363)
---(1/2526)
وقرأ أبو صالح الشامي "بديعَ" نصباً، ونصبه على المدح وهي تؤيد قراءةَ الجر. وقراءةُ الرفع المتقدمة يحتمل أن يكون أصلها الإِتباعُ بالجرَّ على البدل ثم قطع التابع رفعاً. وبديع يجوز أن يكونَ بمعنى مُبْدِع، وقد سَبَقَ معناه، أو يكونَ صفةً مشبهة أضيفت لمرفوعها كقولك: فلان بديع الشعر أي: بديعٌ شعرُهُ، وعلى هذين القولين فإضافته لفظية لأنه في الأول من بابِ إضافة اسم الفاعل لمنصوبه، وفي الثاني من بابِ إضافةِ الصفة المشبهة لمرفوعها، ويجوز أن يكونَ بمعنى عديم النظير والمِثْل فيهما، كأنه قيل: البديع في السموات والأرض، فالإِضافةُ على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ.
قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أنَّى بمعنى كيف أو مِنْ أين، وفيها وجهان أحدهما: أنها خبر كان الناقصة و "له" في محل نصب على الحال، و "ولد" اسمُها، ويجوز أن تكون منصوبةً على التشبيه بالحالِ أو الظرفِ كقوله "كيف تكفرون بالله" والعاملُ فيها قال ابو البقاء: "يكن"، وهذا على رأي مَنْ يُجيز في "كان" أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما، و "له" خبر يكون و "ولد" اسمها. ويجوز في "يكون" أن تكونَ تامةً، وهذا أحسنُ، أي: كيف يُوْجَدُ له ولدٌ وأسباب الوَلَدِيَّةِ منتفيةٌ؟
قوله: "ولم تكنْ له صاحبةٌ" هذه الواو للحال، والجملةُ بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة أيك كيف يوجد له ولد والحال أنه لم يكن له زوج، وقد عُلِمَ أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك.
والجمهور على "تكن" بالتاء من فوق. وقرأ النخعي بالباء من تحت وفيه أربعة أوجه، أحدها: أن الفعل مسند إلى "صاحبة" أيضاً كالقراءة المشهورة، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله:
2024- لقد وَلَدَ الأخيطِلَ أمُّ سوءٍ * .............
وقوله:
2025- إنَّ امرَأً غَرَّه في الدنيا واحدةٌ * بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
(6/364)
---(1/2527)
وقال ابن عطية: "وتذكيرُ كان وأخواتها مع تأنيث اسمِها أسهلُ من ذلك في سائر الأفعال". قال الشيخ: "ولا أعرفُ هذا عن النحويين ولم يُفَرِّقوا بين كان وغيرها". قلت: هذا كلام صحيح، ويؤيده أن الفارسي وإن ك ان يقول بحرفية بعضها كـ ليس فإنه لا يُجيز حَذْفَ التاء منها، لو قلت: "ليس هند قائمة" لم يجز. الثاني: أن في "يكون" ضميراً يعود على الله تعالى، و "له" خبر مقدم، و "صاحبة" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر "يكون". الثالث أن يكون "له" وحدَه هو الخبر، و "صاحبةٌ" فاعل به لاعتماده / وهذا أَوْلَى ممَّا قبله؛ لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفرد، والأصل في الأخبار الإِفراد. الرابع: أنَّ في "يكون" ضميرَ الأمر والشأن و "له" خبرق مقدَّمٌ، و "صاحبةٌ" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر "يكون" مفسِّرة لضمير الشأن، ولا يجوزُ في هذا أن يكون "له" هو الخبر وحده و "صاحبةٌ" فاعلٌ به كما جاز في الوجه قبله. والفرق أنَّ ضمير الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ صريحة، وقد تقدَّم أنَّ هذا النوعَ من قبيل المفردات. و "تكن" يجوز أن تكونَ الناقصة أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها.
وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} هذه جملة إخبارية مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً، وهي حال لازمة.
* { ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }
(6/365)
---(1/2528)
قوله تعالى: {ذالِكُمُ}: أي: ذلكم الموصوفُ بتلك الصفاتِ المتقدمةِ اللهُ، فاسم الإِشارة مبتدأ و "الله" خبره، وكذا "ربكم" وكذا الجملةُ من قوله {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ}، وكذا "خالق". قال الزمخشري: "وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة". قلت: هذا عند مَنْ يجيز تَعَدُّد الخبرِ مطلقاً، ويجوز أن يكون "الله" وحده هو الخبر ما بعده أبدال، كذا قال أبو البقاس، وفيه نظر من حيث إنَّ بعضها مشتقٌّ والبدلُ يَقِلُّ بالمشتقات، وقد يقال إن هذه، وإن كانت مشتقة، ولكنها بالنسبة غلى الله تعالى من حيث اختصاصُها به صارت كالجوامد، ويجوز أن يكون "الله" هو البدل، وما بعده أخبارٌ أيضاً، ومَنْ منع تعدُّدَ الخبرِ قَدَّر قبلَ كل خبرٍ مبتدأ، أو يجعلها كلَّها بمنزلة اسم واحد كأنه قيل: ذلكم الموصوفُ هو الجامعُ بين هذه الصفات.
* { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
قوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ}: إنما ذَكَّر الفعلَ لشيئين: أحدهما الفصلُ بالمفعول، والثاني كون التأنيث مجازياً. والبصائر جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء، ومنه قيل للدم الدالِّ على القتيل بصرة. والبصيرة مختصة بالقلب كالبصر للعين، هذا قول بعضهم. وقال الراغب: "ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر، قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقد تقدَّم تحقيق هذا في أوائل البقرة.
و{مِن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم، و"مِنْ" في الوجهين لابتداء الغاية مجازاً.
(6/366)
---(1/2529)
قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ} يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، فالفاء جوابُ الشرط على الأول، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثاني، ولا بد قبل لام الجر مِنْ محذوف يَصِحُّ به الكلامُ، والتقدير: فالإِبصار لنفسه ومَنْ عَمِي فالعَمَى عليها. والإِبصار والعَمَى مبتدآن، والجارُّ بعدهما هو الخبر، والفاء داخلة على هذه الجملةِ الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدَؤُها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال: "فلنفسه نَفْع ذلك، ومَنْ عمي فعليها ضررُ ذلك". وقال الزمخشري: "فَمَنْ أبصر الحقَّ وآمن فلنفسه أبصر وإياها نَفَعَ، ومَنْ عمي فعليها أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضَرَّ". قال الشيخ: "وما قَدَّرناه من المصدر أَوْلى، وهو فالإِبصار والعمى، لوجهين، أحدهما: أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عمدةً لا فَضْلة، وفي تقديره هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ. والثاني: - وهو أقوى - وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت "مَنْ" شرطيةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاءً ولا جامداً، ووقع جوابَ شرط أو خبرَ مبتدأ مشبه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت: "مَنْ جاءني فأكرمتُه" لم يَجُزْ بخلافِ تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء، ولا يجوز حَذْفُها إلا في الشعر". قلت: هذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري مسبوقٌ إليه سبقه إليه الكلبي فإنه قال: "فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّق فعلى نفسه جَنَى العذاب". وقوله "إن الفاء لا تدخل فيما ذكر" قد يُنازَعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ويظهر فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فالماضي بدخولها أَوْلى وأَحْرى.
(6/367)
---(1/2530)
* { وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ}: الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزجاج: "ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم"، وقدَّره غيرُه: نُصَرِّف الآيت في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة.
قوله: "ولِيقولوا" الجمهور على كسرِ اللامِ، وهي لام كي، والفعلُ بعدهها منصوب بإضمار "أَنْ" فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وكقوله:
2026- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب * ..................
(6/368)
---(1/2531)
أي: لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز. وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين: أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال: "واللام لام العاقبة أي: إن أمرَهم يَصير إلى هذا" وقيل: إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم" يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال: "المعنى: يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً، ونحو: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}. وأبو علي جعلها في بعض الراءات لام الصيرورة، وفي بعضها لام العلة فقال: "واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى: لئلا يقولوا أي: صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة". قلت: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها. قال الشيخ "وما أجازه من إضمارِ "لا" بعد اللام المضمر بعدها "أَنْ" هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد "أَنْ" المظهرة في {أَن تَضِلُّواْ}، ولا يجيز البصريون إضمار "لا" إلا في القسم على ما تبيَّن فيه".
(6/369)
---(1/2532)
ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً. قال الزمخشري: "وليقولوا جوابه محذوف تقديره: وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها. فإن قلت: أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه، وقيل: ليقولوا كما قيل لنبيِّه". قلت: فقد نص هنا على أن لام "ليقولوا" علة مجازية. وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة. قال ابن الأنباري: "دخلت الواو في "وليقولوا" عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا". قلت: وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً بـ "نُصَرِّف". وقال الشيخ: "ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام، والمعنى عليه يتمكن، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي: بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي: نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا، فإنه لا اكتراث بدعواهم".
(6/370)
---(1/2533)
وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه، وأيضاً فإنَّ بعده / ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمالا أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد. وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال: "وليقولوا جوابه محذوف" فقال: "وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله "وليقولوا" جوابا ًاصطلاحٌ غريب، لا يقال في "جئتَ" من قولك "جئت لتقوم" إنه جواب". قلت: هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله {وَلِتَصْغَى} أيضاً. وقال الشيخ هناك: "وهذا اصطلاحٌ غريب"، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل. تقول: أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ؟ فيُجاب به، فسُمِّي جواباً بهذا الاعتبار، وأضيف إلى الجارِّ في قوله "وليقولوا" جوابه، لأن الإِضافة [تقع] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد.
وأمَّا القراءات التي في "دَرَسَتْ" فثلاث في المتواتر: فقرأ ابن عامر "دَرَسَتْ" بزنة ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو "دارَسْتَ" بزنة قابلْتَ أنت، والباقون "درسْتَ" بزنة ضربْت أنت. فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا اساطير الأولين.
(6/371)
---(1/2534)
وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها، كما حَكى عنهم فقال: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} وفي التفسير: أنهم كانوا يقلون: هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً. وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم "وقالوا أساطيرُ الأولين اكتَتَبَها فهي تُمْلى عليه بُكْرة وأصيلا" أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها. وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة: فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة "دُرِسَتْ" فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: "يُحتمل أن يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ". وقال أبو القاسم: "بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ". قال الشيخ: "أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ، وأمَّا "دَرَس" بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً". قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثثه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا.
(6/372)
---(1/2535)
وقرئ "دَرَّسْتَ" فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: دَرَّسك غيرُك الكتبَ، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ "دُوْرِسْتَ" مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ غيرك.
وقرئ "دارسَتْ" بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمي رالجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها.
وقرئ "دَرُسَتْ" بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها. وقرأ أُبَيّ / "دَرَسَ" وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس.
وقرأ الحسن في رواية "دَرَسْنَ" فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ "دَرَّسْنَ" الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم. وقرئ "دارسات" جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دُروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي: هنَّ دارسات، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها.
(6/373)
---(1/2536)
وقوله {وَلِنُبَيِّنَهُ} تقدَّم أن هذا عطفٌ على ما قبله فحكمه حكمه. وفي الضمير المنصوب أربعةُ احتمالات، أحدها: أنه يعود على الآيات، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن. الثاني: أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه، ويُقَوِّي هذا أنه فاعل لدَرَسَ في قراءةِ مَنْ قرأه كذلك. الثالث: أنه يعود على المصدر المفهوم مِنْ نُصَرِّف أي نبيِّن التصريف. الرابع: أن يعود على المصدر المفهوم من "لنبينه" أي: نبيِّن التبيين نحو: ضَرَبْتُه زيداً أي ضربت الضرب زيداً. و "لقوم" متعلق بالفعلِ قبلَه. و "يَعْلَمُون" في محل جر صفة للنكرة قبلها.
* { اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }
وقوله تعالى: {مَآ أُوحِيَ}: يجوز أن تكون اسمية، والعائد هو القائم مقام الفاعل. و "إليك" فضلةٌ، وأجازوا أن تكون مصدريةً والقائمُ مقامَ الفاعل حينئذ الجار المجرور أي: الإِيحاء الجائي مِنْ ربك، و "مِنْ" لابتداء الغاية مجازاً فـ "مِنْ ربك" متعلِّقٌ بأُوْحِي. وقيل: بل هو حال من "ما" نفسها. وقيل: بل هو حال من الضمير المستتر في "أوحي" وهو بمعنى ما قبله.
قوله: {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} جملة معترضة بين هاتين الجملتين الأمريتين، هذا هو الأحسن. وجَوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً من "ربك" وهي حال مؤكدة تقديره: من ربك منفرداً.
* { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }
(6/374)
---(1/2537)
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ}: مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شاء الله إيمانهم، وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لغرابته. وقوله: "جَعَلْناك" هي بمعنى صيَّر، فالكاف مفعول أول و "حفيظاً" هو الثاني، و "عليهم" متعلق به قُدِّم للاهتمام أو للفواصل. ومفعول "حفيظ" محذوف أي: حفيظاً عليهم أعمالَهم. قال أبو البقاء: "هذا يؤيد قول سيبويه في إعمال فعيل" يعني أنه مثالُ مبالغة، وللناس في إعماله وإعمال فَعِل خلاف أثبته سيبويه ونفاه غيره، وكيف يؤيده وليس شيء في اللفظ يَشْهد له؟
وقوله: {وَمَآ أَنتَ} يجوز أن تكون الحجازية، فيكون "أنت" اسمها و "بوكيل" خبرها في محل نصب، ويجوز أن تكون التميميةَ فيكون "أنت" مبتدأ و "بوكيل" خبره في محل رفع، والباء زائدة على كلا التقديرين، و "عليهم" متعلِّقٌ بوكيل قُدِّم لِما تقدَّم فيما قبله. وهذه الجملة هي في معنى الجملة قبلها؛ لأنَّ معنى ما أنت وكيل عليهم هو بمعنى ما جعلناك حفيظاً عليهم أي: رقيباً.
* { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله تعالى: {مِن دُونِ اللَّهِ}: يجوز أن يتعلَّق بـ "يَدْعُون" وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائده المحذوف أي: يَدْعُونهم حالَ كونهم مستقرِّين من دون الله.
(6/375)
---(1/2538)
قوله: {فَيَسُبُّواْ} الظاهر أنه منصوب على جواب النهي بإضمار أن بعد الفاء أي: لا تَسُبُّوا آلهتَهم؛ فقد يترتي عليه ما يكرهون مِنْ سَبِّ الله، ويجوز أن يكون مجزوماً نسقاً على فعل النهي قبله كقولهم "لا تَمْدُدْها فتشقَّها" وجاز وقوع "الذين" وإن كان مختصًّاً بالعقلاء على الأصنامِ التي لا تَعْقِلُ معاملةً لها معاملةَ العقلاء كما أوقع عليها "مَنْ" في قوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ويجوز أن يكون ذلك للتغليب لأن المعبود من دون الله عقلاء كالمسيح وعُزَيْر والملائكة وغيرهم، فغلَّب العاقل، ويجوز أن يراد بالذين يَدْعون المشركون أي: لا تَسُبُّوا الكَفَرة الذين يَدْعون غير الله من دونه. وهو وجه واضح.
(6/376)
---(1/2539)
قوله {عَدْواً} الجمهور على فتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو، ونصبه من ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على المصدر لأنه نوعُ من العامل فيه، لأن السَّبَّ من جنس العَدْوِ. والثاني: أنه مفعول من أجله أي لأجل العدو، وظاهر كلام الزجاج أنه خلط القولين فجعلهما قولاً واحداً، فإنه قال: "وعَدْواً منصوبٌ على المصدر لأن المعنى: فَتَعْدُوا / عَدْواً" قال: "ويكون بإرادة اللام والمعنى: فيسُبُّوا الله للظلم. والثالث: أنه منصوب على أنه واقع موقع الحال المؤكدة لأن السَّبَّ لا يكون إلا عَدْواً. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وقتادة وسلام وعبد الله بن زيد "عُدُوَّاً" بضم العين والدال وتشديد الواو، وهو مصدرُ أيضاً لـ "عدا" وانتصابُه على ما تقدَّم من ثلاثة الأوجه. وقرأ ابن كثير في رواية - وهي قراءة أهل مكة فيما نقله النحاس - "عَدُوَّا" بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو بمعنى أعداء، ونصبه على الحال المؤكدة و "عدوّ" يجوز أن يقع خبراً عن الجمع، قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} وقال تعالى {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً}. ويقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواوعُدُوَّاً وعُدْواناً وعَداءً. و "بغير عِلْم" حالٌ أي: يَسُبُّونه غير عالمين أي: مصاحبين للجهل؛ لأنه لو قَدَّره حَقَّ قَدْره لما أَقْدَموا عليه. وقوله "كذلك" نعتٌ لمصدر محذوف أي: زَيَّنَّا لهؤلاء أعمالَهم تزييناً مثلَ تزيينِنا لكلِّ أمةٍ عَمَلَهم، وقيل: تقديره: مثلَ تزيينِ عبادةِ الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لكلِّ أمة عَمَلَهم وهو قريب من الأول.
* { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
(6/377)
---(1/2540)
وقوله تعالى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: قد تقدَّم الكلام عليه في المائدة. وقرأ طلحة بن مصرف: "لَيُؤْمَنَنْ" مبنياً للمفعول مؤكداً بالنون الخفيفة. قوله "وما يُشْعِركم": "ما" استفهامية مبتدأة، والجملة بعدها خبرها، وفاعلُ "يشعر" يعود عليها، وهي تتعدى لاثنين الأول ضمير الخطاب، والثاني محذوف، أي: وأي شيء يُدْريكم إيمانُهم إذا جاءتهم الآيت التي اقترحوها؟
وقرأ العامَّة "أنها" بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر - بخلاف عنه - بكسرها. فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية. قال سيبويه: "سألْتُ الخليل عن هذه القراءة - يعني قراءة الفتح - فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال "وما يُشْعركم"، ثم ابتدأ فأنجب فقال {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ولو فَتَح فقال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لكان عُذْراً لهم". وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: "لأنك لو فتحت "أنَّ" وجعلتها التي في نحو "بلغني أن زيداً منطلق" لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: "إن زيداً لا يؤمن" فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقمةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم. وقال الزمخشري "وقرئ "إنها" بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون".
(6/378)
---(1/2541)
وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه، أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل "أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً" أي: لعلك، فهذا من كلام العرب - كما حكاه الخليل - شاهد على كون "أنَّ" بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس:
2027- أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني * أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا
قال امرؤ القيس: - أنشده الزمخشري -
2028- عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا * نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ
وقال جرير:
2029- هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا * نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام
وقال عدي بن زيد:
2030- أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي * إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر:
2032- قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ * أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ
فـ "أنَّ" في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته "وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون" ونُقِلَ عنه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ}، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ "لعل" قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى: وما يُدْريك لعلَّ الساعةَ قريب" "وما يُدْريك لعلَّه يَزَّكَّى" وممَّنْ جعل "أنَّ" بمعنى "لعل" أيضاً يحيى بن زياد الفراء.
(6/379)
---(1/2542)
ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: "زعم سيبويه عن الخليل أن معناها "لعلها" قال: "وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود"، / ونسب القراءة لأهل المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال: "التوقع الذي تدل عليه "لعلَّ" لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون" ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى "لعل" لم يجعلها معمولة لـ "يُشْعِركم" بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله "وما يُشْعركم" اعتراضاً بين العلة والمعلول.
الثاني: أن تكون "لا" مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال: "ومثله {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدة لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال "والذي ذكر أن "لا" لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن "لا" غير لغو" فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد.
وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: "يجوز أن تكون "لا" في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر:
2032- أبى جودُه لا البخلَ واستعجَلْت نَعَمْ * به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ
(6/380)
---(1/2543)
يُنشد بالوجهين أي بنصب "البخل" وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف "لا" إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون "لا" مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ "لا"، ولفظ "لا" هو بخل. وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى {وَلاَ الضَّآلِّينَ} في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ
}. الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم.
الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: "وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون" فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه.
(6/381)
---(1/2544)
الخامس: أنَّ "لا" غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من غيمانهم. وقال الزمخشري: "وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل: "وما يدريكم أنهم لا يؤمنون" على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون ي إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا الآية التي قال اله فيها {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها /. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال: "ولا يحتاج الكلام إلى زيادة "لا" ولا إلى هذا الإِضمار" - يعني حَذْفَ المعطوف - "ولا إلى "أنَّ" بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها".
السادس: أنَّ "ما" حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ لـ "يُشْعركم" فاعلٌ. فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو لـ {يُشْعِرُكُمْ} و {يَنصُرْكُمُ} ونحوِهما عند قوله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.(1/2545)
(6/382)
---
وقرأ الجمهور: "لا يؤمنون" بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى.
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله "وما يشعركم" أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة "لا" أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ "أنَّ" بمعنى لعلَّ مع كون "لا" نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا "أنَّ" معمولةً لـ "يُشْعركم" وجَعَلْنَا "لا" نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعً على قلوبكم.
وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم.
(6/383)
---(1/2546)
فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في "وما يشعركم" جائزاً فيه وجهان، أحدهما: أنه مخطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.
وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون "أنَّ" بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره. وقال الشيخ في هذه القراءة: "الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون" يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: "ويبعد جداً أن يكون الخطاب في "وما يشعركم" للكفار". قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في "أنَّ" هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه. وقد جعل الشيخُ في مجموع {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع قراءات قال: "وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن / عطية: "ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة "لا تؤمنون" بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات: الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة" ثم قال: "القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في "وما
(6/384)(1/2547)
---
يُشْعركم" للمؤمنين وفي "تؤمنون" للكفار. ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في "تؤمنون" لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة "أنها"، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ "يؤمنون" إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ "تؤمنون" بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في "يؤمنون" حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة.
وقوله "لا يُؤْمنون" متعلَّقُه محذوفة للعلم به أي: لا يؤمنون بها.
قوله: {ونُقَلِّب} في هذه الجملة وجهان، أحدهما - ولم يقل الزمخشري غيره - أنها وما عطف عليها من قوله "وَيذَرُهم" عطف على "يُؤْمنون" داخلٌ في حكم وما يُشْعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم" وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، والثاني: أنها استئناف إخبار، وجعله الشيخُ الظاهرَ، والظاهرُ ما تقدَّم.
* { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
(6/385)
---(1/2548)
والأفْئِدة: جمع فؤاد وهو القلب، ويُطلق على العقل. وقال الراغب: "الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبِرَ به معنى التَّفَؤُّد أي التوقُّد يقال: فَأَدْتُ اللحم: شَوَيْتُه ومنه لحم فئيد أي مَشْويٌّ، وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب ويقال له فُؤاد بالواو الصريحة، وهي بدلٌ من الهمزة لأنه تخفيفٌ قياسيٌّ وبه يَقْرأ ورش فيه وفي نظائره، وصلاً ووقفاً، وحمزة وقفاً، ويُجْمع على أفئدة، وهو جمعٌ منقاس نحو غُراب وأغْرِبة، ويجوز أفْيدة بياء بعد الهمزة، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم وسيأتي.
قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ و "ما" مصدرية، والتقدير: - كما قال أبو البقاء - تقليباً ككفرهم عقوبةً مساوية لمعصيتهم، وقَدَّره الحوفي بلا يُؤْمنون به إيماناً ثابتاً كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقيل: الكاف هنا للتعليل أي: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم لعدم إيمانهم به أولَ مرة. وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال بعضُ المفسِّرين: "الكافُ هنا معناها المجازاة أي: لمَّا لم يؤمنوا به أولَ مرة نجازيهم بأَنْ نُقَلِّب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم، فكأنه قيل: ونحن نقلِّب أفئدتهم جزاءً لما لم يؤمنوا به أول مرة قاله ابن عطية. قال الشيخ: "وهو معنى التعليل الذي ذكرناه، إلا أن تسميتَه ذلك بالمجازاة غريبة لا تُعْهَدُ في كلام النحويين". قلت: قد سُبِقَ ابن عطية إلى هذه العبارة، قال الواحدي: "وقال بعضهم: معنى الكاف في {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} معنى الجزاءِ، ومعنى الآية: ونقلِّب أفئدتَهم وأبصارهم عقوبةً لهم على تَرْك الإِيمان في المرة الأولى، والهاء في "به" تعود على الله تعالى أو على رسوله أو على القرآن، أو على القلب المدلول عليه بالفعل، وهو أبعدها / و "أول مرة" نصبٌ على ظرف الزمان وقد تقدَّم تحقيقه.
(6/386)
---(1/2549)
وقرأ إبراهيم النخعي "ويُقَلِّب - ويَذَرُهم -" بالياء، والفاعلُ ضمير الباري تعالى. وقرأ الأعمش: "وتُقَلَّبُ أفئدتهم وأبصارهم" على البناء للمفعول ورفعِ ما بعده على قيامه مَقامَ الفاعل، كذا رواها الزمخشري عنه، والمشهورُ بهذه القراءةِ إنما هو النخعي أيضاً، ورُوي عنه "ويذرهم" بياء الغَيْبة كما تقدم وسكون الراء. وخَرَّج أبو البقاء هذا التسكينَ على وجهين: أحدهما: ألتسكين لتوالي الحركات. والثاني: أنه مجزوم عطفاً على "يؤمنوا"، والمعنى: جزاء على كفرهم، وأنه لم يذرْهم في طغيانهم بل بَيَّنَ لهم". وهذا الثاني ليس بظاهر. و "يَعْمَهون" ي محلِّ حال أو مفعول ثان؛ لأن الترك بمعنى التصيير.
* { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلاائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوااْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }
قوله تعالى: {قُبُلاً}: قرأ نافع وابن عامر "قِبَلاً" هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون. وقرأ أُبَيّ والأعمش "قبيلاً" بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة. وقرأ طلحة بن مصرف "قَبْلا" بفتح القاف وسكون الباء.
(6/387)
---(1/2550)
فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى مُقَابلة أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتصابه على هذا على الحال، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال: "لَقِيته قِبَلاً" أي عِياناً. وقال ابن الأنباري: "قال ابو ذر: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنبيَّاً كان آدم؟ فقال: نعم كان نبياً، كلَّمه الله قِبَلاً" وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم. والثاني: أنها بمعنى ناحية وجهه، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم: لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ، وما قِبَلك حق. ويقال: لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّه بمعنى واحد، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَِمَه الله تعالى وجزاه خيراً.
وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه أحدها: أن يكون "قُبُلاً" جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب. وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج: "جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفيلاً بصدق محمد عليه السلام"، ويُقال: قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر اي: تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد، وإنما سُمِّيت الكفارة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة. وقال الفراء في سورة الأنعام: "قُبُلاً" جمع "قبيل" وهو الكفيل". قال: "وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاائِكَةِ قَبِيلاً} يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات.
(6/388)
---(1/2551)
الثالث: أن يكون "قُبْلاً" بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي: مواجهةً ومعاينةً، ومنه "آتيك قُبُلاً لا دُبُراً" أي: آتيك من قِبَل وجهك، وقال تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} وقُرِئ {لقُبُل عِدَّتِهِنَّ} أي: لاستقبالها. وقال الفراء: "وقد يكون قُبُلاً: من قِبَل وجوههم".
وأمَّا الذي في الكهف فإنه يَصِحُّ فيه معنى المواجهة والمعاينة والجماعة صنفاً صنفاً؛ لأن المراد بالعذاب الجنس وسيأتي له مزيد بيان.
و "قُبُلاً" نصب على الحال - كما مَرَّ - مِنْ "كلَّ" وإن كان نكرةً لعمومه وإضافته، وتقدَّم أنه في أحد أوجهه يُنْصَبُ على الظرف عند المبرد. وأمَّا قراءة الحسن فمخفَّفةٌ من المضموم، وقرأه أُبَيٌّ بالأصل وهو المفرد. وأمَّا قراءة طلحة فهو ظرفٌ مقطوعٌ عن الإِضافة معناه: أو يأتيَ بالله والملائكة قَبْلَه، ولكن كان ينبغي أن يُبْنَى لأن الإِضافة مُرادة.
وقوله: {مَّا كَانُواْ} جواب "لو" وقد تقدَّم أنه إذا كان منفيَّاً امتنعَتِ اللام. وقال الحوفي: "التقدير لَمَا كانوا، حُذِفَتْ اللام وهي مرادةٌ"، وهذا ليس بجيد لأن الجوابَ المنفيَّ بـ "ما" يَقِلُّ دخولُها بل لا يجوز عند بعضهم، والمنفيُّ بـ "لم" ممتنع البتة. وهذه اللام لام الجحود جارَّةٌ للمصدر المؤول من "أَنْ" والمنصوب بها، وقد تقدَّم تحقيق هذا كلِّه بعَوْن الله تعالى.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} يجوز أن يكون متصلاً أي: ما كانوا ليؤمنوا في سائرِ الأحوال إلا في حال مشيئة الله أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته. وقيل: إنه استثناء من علة عامة أي: ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله تعالى. والثاني: أن يكون منقطعاً، نقل ذلك الحوفي وأبو البقاء واستبعده الشيخ.
(6/389)
---(1/2552)
* { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ}: الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزمخشري / كما خَلَّيْنا بينك وبين أعدائك كذلك فَعَلْنا بمَنْ قَبْلك"، وقال الواحدي: "وكذلك" منسوقٌ على قوله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا} أي: كما فَعَلْنا ذلك كذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً". ثم قال: "وقيل: معناه جَعَلْنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء، فيكون قولُه "وكذلك" عَطْفاً على معنى ما تَقَدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ على معناه على أنه جعل له أعداءً و "جَعَل" يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر. وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي هنا نحوَ إعرابِهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} فيكونُ المفعول الأول "شياطين الإِنس" والثاني "عَدُوَّا"، و "لكلِّ" حال من "عدوَّاً" لأنه صفتُه في الأصل، أو متعلِّق بالجَعْل قبلَه، ويجوز أن يكون المفعول الأول "عدوَّاً" و "لكلِّ" هو الثاني قُدِّم، و "شياطين" بدل من المفعول الأول.
(6/390)
---(1/2553)
والإِضافة في {شَيَاطِينَ الإِنْسِ} يُحتمل أن تكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها، والأصل: الإِنس والجن الشياطين نحو: جَرْد قطيفة، ورجَّحْتُه بأنَّ المقصودَ التَّسَلِّي والأتِّساء بمن سَبَق من الأنبياء إذ كان في أممهم مَنْ يُعادلهم كما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون من الإِضافة التي بمعنى اللام، وليست من باب إضافة صفة لموصوف، والمعنى: الشياطين التي للإِنس، والشياطين التي للجن، فإنَّ إبليس قسَّم جنده قسمين: قسمٌ مُتَسَلِّط على الإِنس، وآخر على الجن كذا جاء في التفسير، ووقع "عَدُوَّاً" مفعولاً ثانياً لشياطين على أحد الإِعرابين بلفظ الإِفراد لأنه يكتفي به في ذلك، وتقدَّم شواهده ومنه:
2033- إذا أنا لم أَنْفَعْ صديقي بودِّه * فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُمُ بُغْضي
فأعاد الضمير مِنْ "يَضُرَّهُم" على "عدّو" فدلَّ على جمعيته.
قوله {يُوحِي} يحتمل أن يكون مستأنفاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من "شياطين" وأن يكون وصفاً لعدو، وقد تقدَّم أنه واقع موقع أعداء، فلذلك عاد الضمير عليه جمعاً في قوله "بعضهم".
قوله {غُرُوراً} قيل: نصبٌ على المفعول له أي: لأَنْ يَغُرُّوا غيرهم وقيل: هو مصدرٌ في موضع الحال أي غارِّين، وأن يكون منصوباً على المصدر، لأن العاملَ فيه بمعناه كأنه قيل: يَغُرُّون غُروراً بالوحي والزخرف: الزينة، وكلامٌ مُزَخْرَف مُنَمَّق، وأصلُه الذَّهب، ولمَّا كان الذهب مُعْجِباً لكل أحد قيل لكل مُسْتَحْسَن مزيَّن: زخرف. وقال أبو عبيدة "كلُّ ما حَسَّنْتَه وزَيَّنْتَه وهو باطل فهو زُخْرف" وهذا لا يلزم إذ قد يُطْلق على ما هو زينةٌ حَقٌّ، وبيت مزخرف أي: مُزَيَّنُ بالنقش، ومنه الحديث: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أَمَرَ بالزخرف فَنُجِّي" يعني أنهم كانوا يزينون الكعبة بنقوش وتصاوير مُمَوَّهة بالذهب فأُمِرْنا بإخراجها.
(6/391)
---(1/2554)
قوله: {وَمَا يَفْتَرُونَ} "ما" موصولةٌ اسميةٌ أو نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا هذين القولين محذوف، أي: وما يفترُونه، أو مصدرية، وعلى كلِّ قول فمحلُّها نصبٌ، وفيه وجهان أحدهما: أنها نسقٌ على المفعول في "فَذَرْهُمْ" أي: اتركهمْ واتركْ افتراءهم. والثاني: أنها مفعول معه، وهو مرجوحٌ لأنه متى أَمْكَنَ العطفُ من غير ضعف في التركيب أو في المعنى كان أَوْلَى من المفعول معه.
* { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }
قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى}: في هذهِ اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لامُ كي والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ. وفيما يتعلَّق به احتمالان: الاحتمال الأول أن يتعلق بيُوحي على أنها نَسَقٌ على "غروراً"، وغروراً مفعول له والتقدير: يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو، ولكن لمَّا كان المفعول له والتقدير: يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو، ولكن لمَّا كان المفعول له الأول مستكمِلاً لشروط النصب نُصِب، ولما كان هذا غيرَ مستكملٍ للشروط وَصَلَ الفعلُ إليه بحرف العلة، وقد فاته من الشروط كونُه لم يتَّحد فيه الفاعل، فإنَّ فاعلَ الوحي "بعضهم" وفاعلَ الصَّغْو الأفئدة، وفات أيضاً من الشروط صريحُ المصدرية. والاحتمالُ الثاني: أن يتعلَّق بمحذوف متأخرٍ بعدها، فقدَّره الزجاج: ولتَصْغى إليه فَعَلُوا ذلك، وكذا قدَّرَه الزمخشري فقال: "ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا الزمخشري فقال: "ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيّ عدُوَّاً، على أن اللام لام الصيرورة".
الوجه الثاني: / أن اللام لام الصيرورة وهي التي يعبرون عنها بلام العاقبة، وهو رأيُ الزمخشري كما تقدَّم حكايته عنه أيضاً.
(6/392)
---(1/2555)
الوجه الثالث: أنها لامُ القسم. قال أبو البقاء: "إلا أنها كُسِرَتْ لمَّا لم يؤكِّد الفعل بالنون" وما قاله غيرُ معروفٍ، بل المعروفُ في هذا القول أنَّ هذه لامُ كي، وهي جواب قسم محذوف تقديره: والله لَتَصْغَى فوضع "لِتَصْغَى" موضع لَتَصْغَيَنَّ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد كقولك: "واللهِ لَيقومُ زيدٌ" أي: أحلفُ بالله لَقيامُ زيد، هذا مذهبُ الأخفش وأنشد:
2034- إذا قلتُ قَدْني قال بالله حَلْفَةً * لِتُغْنِيَ عن ذا إناثك أجمعا
فقوْله "لتُغْني" جوابُ القسم، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لامَ كي، غايةُ ما في الباب أنها وقعت موقع جواب القسم لا أنها جواب بنفسها، وكُسِرَتْ لَمَّا حَذَفَتْ منها نون التوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك أن النونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب باقيةٌ على فتحها قال:
2035- لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ * لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
فقوله "لَيَعْلَمُ" جوابُ القسم الموطَّأ له باللام في "لِئنْ"، ومع ذلك فهي مفتوحةٌ مع حَذْفِ نون التوكيد، ولتحقيقِ هذه المسألةِ مع الأخفش موضوعٌ غيرُ هذا.
والضمير في قوله "ما فعلوه" وفي "إليه" يعود: إمَّا على الوحي، وإمَّا على الزخرف، وإمَّا على القول، وإمَّا على الغرور، وإمَّا على العداوة لأنها بمعنى التعادي. ولتصغى أي تميل، وهذه المادة تدل على الميل ومنه قولُه تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وفي الحديث: "فأصغى لها الإِناء"، وصاغِيَةُ الرجل قرابتُه الذين يميلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائلة، قال الأعشى.
2036- ترى عينها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤْقِها * تُراقب في كَفِّي القطيعَ المحرَّما
(6/393)
---(1/2556)
والصَّغا: مَيْلٌ في الحَنَك والعين، وصَغَت الشمس والنجوم: أي مالت للغروب. ويقال: صَغَوْتُ وصَغِيْتُ وصَغَيْتُ، فاللام واو أو ياء، ومع الياءِ تُكْسَرُ غين الماضي وتُفْتَحُ. قال الشيخ: "فمصدرُ الأول صَغْوٌ، والثاني صُغِيٌّ، والثالث صَغَاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين" قلت: قد حكى الأصمعي في مصدر صَغَا يَصْغُو صَغَاً، فليس "صَغَاً" مختصاً بكونِه مصدراً لـ "صَغِي" بالكسر. وزاد الفراء "صُغِيَّاً" و "صُغُوَّاً" بالياء والواو مُشَدَّدتين. وأمَّا قولُه "ومضارعُها أي مضارع الأفعال الثلاثة يَصْغَى بفتح العين، فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي صَغَوْتُ أصغو، وكذا ابن السكيت حكى: صَغَوُْ أَصْغُو، فقد خالفوا بين مضارعِها، وصَغَوْت أَصْغُو هو القياس الفاشي، فإنَّ فَعَل المعتل اللام بالواو قياسُ مضارعِه يَفْعُل بضم العين. وقال الشيخ أيضاً: "وهي - يعني الأفعال الثلاثة - لازمة" أي؛ لا تتعدَّى، وأصغى مثلُها لازم، ويأتي متعدِّياً فتكون الهمزة للنقل، وأنشد على "أَصْغَى" اللازم قول الشاعر:
2037- ترى السَّفيهَ به عن كل مُحْكِمَةٍ * زَيْغٌ وفيه إلى التشبيه إصغاء
قلت: ومثلُه قول الآخر:
2038- تُصْغِي إذا شدَّها بالرَّحْلِ جانحةً * حتى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ
وتقول: أصغى فلانٌ بأذنه إلى فلان. وأنشد على طأصغى" المتعدي قول الآخر:
2039- أَصاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغى لها أُذُنَاً * صِماخُها بدخيس الذوق مستور
قلت: وفي الحديث "فأصغى لها الإِناء"، وهذا الذي زعمه مِنْ كون صغَى أو صَغِيَ أو صَغَا يكون لازماً غير موافق عليه، بل قد حكى الراغب أنه يقال: صَغَيْتُ الإِناء وأصغيتُه، وصَغِيت بكسر الغين يحتمل أن يكون من ذوات الياء، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو، وإنما قُلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كقَوِي وهو من القوة. وقراءة النخعي والجراح بن عبد الله: "ولِتُصْغَى" من اصغى رباعياً وهو هنا لازم.
(6/394)
---(1/2557)
وقرأ الحسن: "وَلْتَصْغى ولْيَرْضَوْه / ولْيقترفوا" بسكون اللام في الثلاثة. وقال أبو عمر الداني: "قراءة الحسن إنما هو "ولِتَصْغِي" بكسر الغين" قلت: فتكون كقراءة النخعي. وقيل: قرأ الحسن "ولِتصغى" بكسر اللام كالعامة، ولْيرضوه ولْيقترفوا بسكون اللام، وخَرَّجوا تسكين اللام على أحد وجهين: إمَّا أنها لام كي وإنما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع ما بعدها مُجْرى كَبِد ونَمِر، قال ابن جني: "وهو قويٌّ في القياس شاذٌّ في السماع". والثاني: أنها لام الأمر، وهذا وإن تَمَشَّى في ليرصوه وليقترفوا فلا يتمشَّى في "ولتصْغَى" إذ حرفُ العلة يحذف جزماً. قال أبو البقاء: "وليست لامَ الأمر لأنه لم يُجْزم الفعل". قلت قد ثبت حرفُ العلَّة جزماً في المتواتر فمنها: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرْتَعي وَيَلْعَبْ} {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ} {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} {لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى} ، وفي كل ذلك تأويلاتٌ ستقفُ عليها إن شاء الله تعالى فلتكنْ هذه القراءة الشاذة مثل هذه المواضع، والقولُ بكون لامِ "لتصغى" لام كي سُكِّنت لتوالي الحركات واللامين بعدها لامَيْ أمرٍ بعيدٌ وتَشَهٍّ. وقال النحاس: "ويُقْرا ولْيقترفوا" يعني بالسكون قال: "وفيه معنى التهدد". قلت يريد أنه أَمْرُ تهديد كقوله: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} ولم يَحْكِ التسكينَ في "لتصْغَى" ولا في "ليرضوه".
و "ما" في ماهم مُقْتَرِفون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على كلا القولين الأولين محذوفٌ أي: ما هم مقترفوه. وقال أبو البقاء: "وأثبت النونَ لَمَّا حُذِفَتْ الهاء" يريد أن الضمير المتصل باسم الفاعل المثنى والمجموع على حَدِّه تُحْذَفُ له نون التثنية والجمع نحو: هذان ضرباه وهؤلاء ضاربوه، فإذا حذف الضمير زال الموجب فتعود النون، وهذا هو الأكثر أعني حذف النون مع اتصال الضمير وقد ثبتت قال:
(6/395)
---(1/2558)
2040- ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه * جميعاً وأيدي المعتفين رواهقهْ
وقال:
2041- هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونهُ * ............
والاقتراف: الاكتساب، واقترف فلان لأهله أي: اكتسب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب، ويطلق في الخير قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} وقال ابن الأنباري: "قَرَف واقْتَرَف اكتسب. وأنشد:
2042- وإني لآتٍ ما أَتَيْتُ وإنني * لِمَا اقترفَتْ نفسي عَليَّ لَراهِبُ
وأصلُ القِرْف والاقتراف قِشْرُ لِحاء الشجر، والجِلْدَةُ من أعلى الحَرَج وما يُؤْخذ منه قِرْف، ثم استعير الاقترافُ للاكتساب حسناً كان أو سيئاً وفي السَّيِّء أكثر استعمالاً، وقارف فلان أمراً: تعاطَى ما يُعاب به. وقيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، وردل مُقْرِف أي هجين قال:
2043- كم بجودٍ مُقْرِفٍ نال العُلى * وشريفٍ بُخْلُه قد وضَعَهْ
وقَرَفْتُه بكذا اتهمته أو عبته به.
* { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِيا أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ}: يجوز نصب "غير" من وجهين أحدهما: أنه مفعولٌ لأبتغي عليه وَوَلِيَ الهمزة لِما تقدم في قوله {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} ويكون "حكماً" حينئذ: إمَّا حالاً وإمَّا تمييزاً لـ "غير" ذكره الحوفي وأبو البقاء وابن عطية كقولهم: "إن لنا غيرها إبلاً". والثاني: أن ينتصب "غير" على الحال مِنْ "حَكَماً" لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له، و "حَكَماً" هو المفعول به فتحصَّل في نصب "غير" وجهان.
(6/396)
---(1/2559)
وفي نصب "حكماً" ثلاثة أوجه: كونه حالاً أو مفعولاً أو تمييزاً. والحَكَمُ أبلغُ من الحاكم قيل: لأنَّ الحَكَم مَنْ تكرَّر منه الحُكْمُ بخلاف الحاكم فإنه يُصَدِّق غيره. وقيل: لأن الحَكَم لا يَحْكمُ إلا بالعدل والحاكم قد يجور. وقوله "وهو الذي أنزل" هذه الجملة في محل نصب على الحال مِنْ فاعل "أبتغي"، و "مفصلاً" حال من "الكتاب".
وقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} مبتدأ و "يعلمون" خبره، والجملة مستأنفة، و "من ربك" لابتداء الغاية مجازاً، و "بالحق" خال من الضمير المستكنّ في "مُنَزَّل" أي: ملتبساً بالحق فالباء للمصاحبة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم "مُنَزَّل" بتشديد الزاي، والباقون بتخفيفها. وقد تقدَّم أن أنزل ونزَّل لغتان أو بينهما فرقٌ.
* { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قوله تعالى: {صِدْقاً وَعَدْلاً}: في نصبهما ثلاثة أوجه أحدها: أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: تَمَّتِ الكلمات صادقاتٍ في الوعد عادلاتٍ في الوعيد. الثاني: أنهما نصب على التمييز، قال ابن عطية: "وهو غير صواب" وممن قال بكونه تمييزاً الطبري وأبو البقاء. الثالث: أنهما نصب على المفعول من أجله أي: تَمَّتْ لأجل الصدق والعدل الواقعين منهما، وهو محلُّ نظر، ذكر هذا الوجهَ أبو البقاء.
(6/397)
---(1/2560)
وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في قوله {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوااْ} {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} "كلمة" بالإِفراد، وافقهم ابن كثير وأبو عمرو على ما في يونس وغافر دون هذه السورة، والباقون بالجمع في المواضع الثلاثة. قال الشيخ: "قرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن "كلمة" بالإِفراد، ونافع جميع ذلك "كلمات" بالجمع، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا" قلت: كيف نسي ابن عامر؟ لا يقال إنه قد أسقطه الناسخ وكان الأصل "ونافع وابن عامر" لأنه قال "تابعه" ولو ك ان كذلك لقال "تابعهما". ووجه الإِفراد إرادة الجنس وهو نظير: رسالته ورسالاته. وقراءةُ الجمع ظاهرةٌ لأنَّ كلماته تعالى متبوعة بالنسبة إلى الأمرِ و النهي والوعد والوعيد، وقد أُجْمع على الجمع في قوله {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
(6/398)
---(1/2561)
}. وقوله {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}: يحتمل أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب لأنها مستأنفة، وأن تكونَ جملةً حالية من فاعل "تَمَّتْ". فإن قلت: فأين الرابط بين ذي الحال والحال؟ فالجواب أن الرَّبْطَ حصل بالظاهر، والأصل: لا مبدِّل لها، وإنما أُبْرزت ظاهرة تعظيماً لها ولإِضافتها إلى لفظ الجلالة الشريفة. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أَنْ يكونَ حالاً من "ربك" لئلا يُفْصَلَ بين الحال وصاحبها بالأجنبي وهو "صدقاً وعدلاً" إلا أن يُجْعَلَ "صدقاً وعدلاً" حالاً من "ربك" لا من "الكلمات". قلت: فإنه إذا جعل "صدقاً وعدلاً" حالاً من "ربك" لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ لأنهما حالان لذي حال، ولكنه قاعدته تمنع تعدُّدَ الحال لذي حال واحدة، وتمنع أيضاً مجيء الحال من المضاف إليه، وإن كان المضاف بعض الثاني، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك. والرسم في "كلمات" في المواضع التي أشرْتُ إلى اختلاف القراء فيها مُحْتَمِلٌ لخلافهم، فإنه في المصحف الكريم مِنْ غير ألفٍ بعد الميم.
* { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }
وقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ}: و {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} "إنْ" نافية بمعنى ما في الموضعين. والخَرْص: الحَزْرُ، ويُعَبَّر به عن الكذب والافتراء، وأصله من التظنّي وهو قولُ ما لم يستيقن ويتحقق قاله الأزهري، ومنه خَرَص النخل يقال: خَرَصها الخارص خَرْصاً فهي خِرْص فالمفتوحُ مصدرٌ، والمكسور بمعنى مفعول كالنَّقض والنِّقض والذَّبح والذِّبْح.
* { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
(6/399)
---(1/2562)
قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ}: في "أعلم" هذه قولان أحدهما: أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل: إن ربك هو يعلم. قال الواحدي: "ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابِقُ {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
والثاني: أنها على بابها من التفضيل. ثم اختلف هؤلاء في محلِّ "مَنْ": فقال بعض البصريين: هو جرٌّ بحرفٍ مقدَّرٌ حُذِف وبقي عملُه لقوة الدلالة عليه بقوله {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وهذا ليس بشيء لأنه لا يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى أثرُه إلا في مواضعَ تقدَّمَ التنبيهُ عليها، وما وَرَدَ بخلافها فضرورةٌ كقوله:
2044- ............... * أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ
[وقوله]:
2045- ................... * حتى تبذَّخ فارتقى الأعلامِ
الثاني: أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله:
2046- تمرُّون الديار ولم تعوجوا * ...................
قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يطَّرد. والثاني: أن أَفْعلَ التفضيل لا تَنْصِبُ بنفسها لضعفها. الثالث: - وهو قول الكوفيين - أنه نُصِب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل. الرابع: أنها منصوبةٌ بفعل مقدَّر يدل عليه افعل، قاله الفارسي، وعليه خَرَّج قول الشاعر:
2047- أكَرَّ وأَحْمَى للحقيقةِ منهمُ * وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانِسا
(6/400)
---(1/2563)
فالقوانِس نُصِبَ بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القوانس، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر. الخامس: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء، و "يضلُّ" خبره، والجملة مُعَلِّقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصبٍ بها، كأنه قيل: أعلمُ أيُّ الناس يضلُّ كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى} وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي. إلا أن الشيخ رَدّ هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به / وأفعل لا يعمل فيه فلا يُعَلَّق". والراجح من هذه الأقوال نَصْبُها بمضمر وهو قول الفارسي، وقواعد البصريين موافقة له، ولا يجوز أن تكون "مَنْ" في محل جر بإضافة أفعل إليها؛ لئلا يلزم محذور عظيم: وذلك أن أفعل التفضيل لا تُضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت: "زيد أعلمُ الضالين" لزم أن يكون "زيد" بعضَ الضالين أي متَّصِفٌ بالضلال، فهذا الوجهُ مستحيل في هذه الآية الكريمة. هذا عند مَنْ قرأ "يَضِلُّ" بفتح حرف المضارعة.
أمَّا مَنْ قرأ بضمِّه: "يُضِلّ" - وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج - فقال أبو البقاء: "يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة "أفعل" إليها. قال: "إمَّا على معنى هو أعلم المضلين أي: مَنْ يجد الضلال، وهو مَنْ أضللته أي: وجدته ضالاًّا مثل أَحْمَدْتُه أي: وجدتُه محموداً أو بمعنى أنه يضلُّ عن الهدى". قلت: ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة، وكان قد عَبَّر قبل ذلك بعبارات استعظمْتُ النطق بها فضربت عنها إلى أمثلةٍ من قولي. والذي تُحْمَلُ عليه هذه القراءة ما تقدَّم من المختار وهو النصب بمضمر. وفاعل "يُضِلّ" على هذه القراءة ضمير يعود على الله تعالى عل ىمعنى يجده ضالاً أو يخلُق فيه الضلال، لا يُسأل عما يَفعل. ويجوز أن يكون ضمير "مَنْ" أي: أعلم مَنْ يضلُّ الناس. والمفعول محذوف. وأمَّا على القراءة الشهيرة فالفاعل ضمير "مَنْ" فقط. و "مَنْ" يجوز أن تكون موصولةً وهو الظاهر، وأن تكون نكرةً موصوفة، ذكره أبو البقاء.(1/2564)
(6/401)
---
* { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى: {فَكُلُواْ}: في هذه الفاءِ وجهان أحدهما: أنها جوابُ شرطٍ مقدر. قال الزمخشري بعد كلام: "فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإِيمان فكُلوا". والثاني: أنها عاطفة على محذوف قال الواحدي: "ودخلت الفاءُ للعطف على ما دلَّ عليه أولُ الكلام كأنه قيل: كونوا على الهدى فكلوا، والظاهر أنها عاطفة على ما تقدَّم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل: اتَّبِعوا ما أمركم الله مِنْ أكل المُذَكَّى دون الميتة فكُلوا.
* { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }
(6/402)
---(1/2565)
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ}: مبتدأ وخبر، وقوله "أن لا تأكلوا" فيه قولان أحدهما: هو على حذف حرف الجر أي: أيُّ شيء استقر في منع الآكل ممَّا ذُكِرَ اسم الله عليه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج فلمَّا حُذِفَتْ "في" جرى القولان المشهوران، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. والثاني: أنها في محل نصب على الحال والتقدير: وأيُّ شيءٍ لكم تاركين للأكل، ويؤيد ذلك وقوعُ الحال الصريحة في مثل هذا التركيب كثيراً نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} إلا أن هذا مردود بوجهين أحدهما: أنَّ "أنْ" تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال فكيف يقع ما بعدها حالاً؟ والثاني: أنها مع ما بعدها مؤولة بالمصدر وهو أشبه بالمضمرات كما تقدم تحريره، والحال إنما تكون نكرة. قال أبو البقاء: "إلا أن يُقَدَّر حَذْفُ مضاف فيجوز أي: "وما لكم ذوي أن لا تأكلوا" وفيه تكلف، ومفعول "تأكلوا" محذوف بقيت صفته، تقديره: شيئاً مما ذُكِرَ اسم الله، ويجوز أن لا يُراد مفعول، بل المراد وما لكم أن لا يقع منكم الأكل، وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية أي: أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسمُ الله، وزُعِم أن "لا" مزيدةٌ، وهذا فاسد إذ لا داعي لزيادتها.
قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببنائهما للمفعول، ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول، ولم يأت عكس هذه. وقرأ عطية العوفي كقراءة الأخوين، إلا أنه خَفَّف الصاد من "فصل"، والقائم مقام الفاعل هو الموصول، وعائده من قوله "حَرَّم عليكم". والفاعلُ في قراءة مَنْ بنى للفاعل ضميرُ الله تعالى، والجملة في محل نصب على الحال.
(6/403)
---(1/2566)
قوله: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ} فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء منقطع، قاله ابن عطية والحوفي. والثاني: أنه استثناء متصل قال أبو البقاء: "ما" في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى لأنه وبَّخهم بترك الأكل مما سُمِّي عليه، وذلك يتضمن الإِباحة مطلقاً". قلت: الأول أوضح والاتصال قلق المعنى. ثم قال: "وقوله وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم أي: في حال الاختيار وذلك / حلال حالض الاضطرار".
قوله {لَّيُضِلُّونَ} قرأ الكوفيون بضم الياء، وكذا التي في يونس {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} والباقون بالفتح، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها، و القراءتان واضحتان فإنه يقال: ضَلَّ في نفسه وأضلَّ غيره، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين، وهي أبلغُ في الذمِّ فإنها تتضمَّن قُبْحَ فِعْلهم حيث ضلَّوا في أنفسهم وأَضَلُّوا غيرهم كقوله تعالى: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} وقراءةُ الفتح لا تحوج إلى حذف فرجَّحها بعضهم بهذا، وأيضاً فإنهم أجمعوا على الفتح في ص عند قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
}. وقوله: {بِأَهْوَائِهِم} متعلق بيضلون، والباء سببيَّة أي: بسبب اتِّباعهم أهواءهم وشهواتهم. وقوله "بغير علم" متعلق بمحذوف لأنه حال أي: يضلُّون مصاحبين للجهل أي: ملتبسين بغير علم.
* { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
(6/404)
---(1/2567)
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}: هذه الجملة فيها أوجه، أحدهما: أنها مستأنفة قالوا: ولا يجوز أن تكون منسوقةً على ما قبلها، لأن الأولى طلبية وهذه خبرية، وتُسَمَّى هذه الواوُ واوَ الاستئناف. والثاني: أنها منسوقةٌ على ما قبلها ولا يُبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقد أَوْرَدْتُ من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره. والثالث: أنها حالية أي: لا تأكلوه والحال أنه فسق. وقد تبجَّح الإِمام الرازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قَلَبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك أنهم يمنعون مِنْ أَكْلِ متروك التسمية، والشافعية لا يمنعون منه، استدلَّ عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي: "هذه الجملة حالية، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلباً وخبراً فتعيَّن أن تكون حالية، وإذا كانت حالية كان المعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً، ثم هذا الفسق مجمل قد فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني أنه إذا ذُكر على الذبيحة غيرُ اسم الله فإنه لا يجوز أكلُها لأنه فسقٌ" ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يُذْكَر اسمُ اله ولا اسمُ غيره أن تكون حراماً لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه. وللنزاع فيه مجال من وجوه، منها: أنها لا نُسَلِّم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدَّمْتُه عن سيبويه، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف كما تقدَّم وما بعدها مستأنف، وإن سُلِّم أيضاً فلا نُسَلِّم أنَّ "فسقاً" في الآية الأخرى مُبَيِّن للفسق في هذه الآية، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبيِّن لأن له شروطاً ليست موجودةً هنا.
(6/405)
---(1/2568)
وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال "فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أَكْلِ ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه بنسيانٍ أو عَمْد. قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالميتة وبما ذُكر غيرُ اسمِ الله عليه كقوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجَّح به.
والضمير في "إنَّه" يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه بـ "لا تأكلوا" وأن يعود على الموصول، وفيه حينئذ تأويلان: أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغةً أو على حذف مضاف أي: وإن أكله لفسق، أو على الذِّكْرِ المفهوم من قوله "ذُكر". قال الشيخ: "والضمير في "إنه" يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه". قلت: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول، وذكر التأويلين المتقدمين فقال: "الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرفُ النهي بمعنى: وإن الأكل منه لفسق، أو على الموصول على أن أكلَه لفِسْق، أو جَعَلَ ما لم يُذكر اسمُ الله عليه [في] نفسه فسقاً".
(6/406)
---(1/2569)
قوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ} متعلقٌ بـ "يُوحُون" أي: يوحون لأجل مجادلتكم. وأصل "يُوحون": يُوحِيُون فأُعِلّ. "وإن أَطَعْتموهم" قيل: إنَّ لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدَّر بقوله "إنكم لمشركون" وحُذِف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مَسَدَّه، وجاز الحذف لأنَّ فعل الشرط ماض. وقال أبو البقاء: "حَذَفَ الفاء من جواب الشرط، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أَطَعْتموهم". قلت: كأنه زعم أن جواب الشرط هو الجملة من قوله "إنكم لمشركون"، والأصل "فإنكم" بالفاء لأنها جملة اسمية، ثم حُذِفت الفاءُ لكونِ فعل الشرط بلفظ المُضيّ، وهذا ليس بشيء فإن القَسَمَ مقدر قبل الشرط، ويدل على ذلك حذفُ اللام الموطئة قبل "إن" الشرطية وليس فعل الشرط ماضياً كقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} فههنا لا يُمْكنه أن يقول: إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع، وكأن أبا البقاء - والله أعلم - أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء، وردَّه الشيخ بنحو مما تقدم.
* { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(6/407)
---(1/2570)
قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ}: "أو مَنْ كان" قد تقدَّم أن هذه الهمزة يجوز أن تكونَ مقدَّمةً على حرفِ العطف وهو رأي الجمهور، وأن تكونَ على حالها وبينها وبين الواو فعل مضمر. و "مَنْ" في محلِّ رفع بالابتداء و "كمَنْ" خبره وهي موصولة، و "يمشي" في محلِّ نصب صفةً لـ "نوراً" و "مَثَلُه" مبتدأ، وفي الظلمات خبره / والجملةُ صلةُ "مَنْ" و "مَنْ" مجرورة بالكاف والكافُ ومجرورها كما تقدَّم في محل رفع خبراً لـ مَنْ الأولى، و "ليس بخارج" في محلِّ نصب على الحال من الموصول أي: مثل الذي استقر في الظلمات حال كونه مقيماً فيها. وقال أبو البقاء: "ليس بخارجٍ في موضع الحال من الضمير في "منها"، ولا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في "مَثَلُه" للفصل بينه وبين الحال بالخبر". وجعل مكي الجملة حالاً من الضمير المستكنِّ في "الظلمات". وقرأ طلحة بن مصرف "أَفَمَنْ كان" بالفاء بدل الواو.
قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ} نعتٌ لمصدر فقدَّره بعضهم: زُيِّن للكافرين تزييناً كما أحيينا المؤمنين، وقدَّره آخرون: زُيّن للكافرين تزييناً لكونِ الكافرين في ظلمات مقيمين فيها، والفاعل المحذوف مِنْ "زُيِّن" المنوبُ عنه هو الله تعالى، ويجوز أن يكون الشيطان، وقد صَرَّح بكل من الفاعلين مع لفظ "زَيَّن" قال تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هو القائمُ مقامَ الفاعل، و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسميةً أو حرفيةً أو نكرة موصوفة، والعائد على القول الأول والثالث محذوف دون الثاني عند الجمهور، على ما عُرِفَ غيرَ مرة. وقال الزجاج: "موضع الكاف رفعٌ، و المعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك زُيِّن للكافرين أعمالهم".
* { وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }(1/2571)
(6/408)
---
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَا} قيل: "كذلك" نَسَقٌ على "كذلك" قبلها ففيها ما فيها، وقَدَّره الزمخشري بأن معناه: وكما جعلنا في مكة صناديدَها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" واللام في "ليمكروا" يجوز أن تكون للعاقبة وأن تكون للعلةِ مجازاً، و "جَعَلَ" تصييريةٌ فتتعدَّى لاثنين، واختُلف في تقديرهما، والصحيح أن تكون {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول، والأول "أكابرَ" مضافاً لمجرميها. والثاني: أن {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعول أيضاً مقدم، "أكابر" هو الأول و "مجرميها" بدلٌ من "أكابر" ذكر ذلك أبو البقاء. الثالث: أن يكون "أكابر" مفعولاً ثانياً قُدِّم و "مجرميها" مفعول أول أُخِّرَ، و التقدير: جَعَلْنا في كل قرية مجرميها أكابر، فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله، ذكر ذلك ابن عطية.
قال الشيخ: "وما أجازاه - يعني أبا البقاء وابن عطية - خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي: أن أفعل التفضيل إذا كانت بـ "مِنْ" ملفوظاً بها أو مقدَّرة أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أم مثنى أم مجموع، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعت أو أُنِّثَتْ طابقت ما هي له ولَزِمَها أحد أمرين: إمَّا الألفُ واللامُ وإمَّا الإِضافةُ لمعرفة، وإذا تقرر ذلك فالقول بكون "مجرميها" بدلاً أو يكون مفعولاً أول و "أكابر" مفعولٌ ثانٍ خطأ لاستلزام أن يبقى "أكابر" مجموعاً وليست فيه ألف ولام ولا هي مضافة لمعرفة" قال: "وقد تنبَّه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال: "أضاف "أكابر" إلى "مجرميها" لأن أفعل لا يُجْمَعث إلا مع الألف واللام أو مع الإِضافة". قال الشيخ: "وكان ينبغي أن يُقَيَّد بالإَِافة إلى معرفة".
(6/409)
---(1/2572)
قلت: أمَّا هذه القاعدة فمُسَلَّمة، ولكن قد ذكر مكي مثل ما ذكر ابن عطية سواء وما أظنه أخذ إلا منه، وكذلك الواحدي أيضاً ومنع أن تُجَوَّز إضافة "أكابر" إلى مجرميها" قال رحمه الله: "والآية على التقديم والتأخير تقديره: جَعَلْنا مجرمميها أكابر، ولا يجوز أن تكون الأكابر مضافة لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت: "جعلت زيداً" وسكتَّ لم يُفِد الكلام حتى تقول: رئيساً أو دليلاً أو ما أشبه ذلك، ولأنك إذا أَضَفْتَ الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند البصريين". قلت: هذان الوجهان اللذان ردَّ بهما الواحدي ليسا بشيء، أمَّا الأول فلا نسلِّم أنَّا نُضْمِرُ المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وأمَّا ما أورده من الأمثلة فليس مطابقاً لأنَّا نقول: إن المفعول الثاني هنا مذكور مُصَرَّح [به] / وهو الجار والمجرور السابق. وأمَّا الثاني فلا نُسَلِّم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها لأن المجرمين أكابر وأصاغر، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف.
الرابع: أن المفعول الثاني محذوف قالوا: وتقديره: جَعَلْنا في كل قرية أكابر مجرميها فُسَّاقاً ليمكروا، وهذا ليس بشيء، لأنه لا يُحذف شيء إلا لدليل، والدليل على ما ذكروه غير واضح. وقال ابن عطية: "ويقال أكابِرَة كما يقال أحمر وأحامرة". قال الشاعر:
2048- إن الأحامرة الثلاثة أتلفتْ * ما لي وكنت بهنَّ قِدْماً مُوْلَعا
(6/410)
---(1/2573)
قال الشيخ: "ولا أعلم أحداً أجاز في جمع أفضل أفاضلة، بل نصَّ النحويون على أن أَفْعَل التفضيل يُجْمع للمذكر على الأَفْضَلِين أو على الأفاضل". قلت: وهذه التاء يذكرها النحويون [على] أنها تكون دالة على النسب في مثل هذه البِنْية قالوا: الأزارقة والأشاعثة في الأزرق ورَهطه والأشعث وبنيه، وليس بقياس، وليس هذا من ذلك في شيء. والجمهور على "أكابر" جمعاص. قرأ ابن مسلم: "أكبر مجرميها" بالإِفراد، وهو جائز وذلك أن أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأريد بها غير الإِفراد والتذكير جاز أن يطابق كالقراءة المشهور هنا، وفي الحديث: "أحاسنكم أخلاقا" وجاز أن يفرد، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
}.
* { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }
قوله تعالى: {حَيْثُ يَجْعَلُ}: في "حيث" هذه وجهان أحدهما: أنها خرجت عن الظرفية، وصارت مفعولاً بها على السعة، وليس العاملُ "أعلم" هذه لما تقدم من أنَّ أفعل لا ينصب المفعول به. قال أبو علي: "لا يجوز أن يكون العامل في "حيث": "أعلم" هذه الظاهرة، ولا يجوز أن تكون "حيث" ظرفاً لأنه يصير التقدير: الله أعلمُ في هذا الموضع، ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع وأوقات، لأنَّ عِلْمَه لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإذا كان كذلك كان العامل في "حيث" فعلاً يدلُّ عليه "أعلم"، و "حيث" لا يكون ظرفاً بل يكون اسماً، وانتصابه على المفعول به على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب "حيث" على المفعول به اتساعاً قول الشماخ:
2049- وحَلأها عن ذي الأراكةِ عامرٌ * أخو الخُضْرِ يَرْمي حيث تُكْوى النواحِزُ
(6/411)
---(1/2574)
فـ "حيث" مفعولة لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكون النواحز إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع". وتبع الناس الفارسيَّ على هذا القول فقال الحوفي: "ليست ظرفاً لأنه تعالى لا يكون في مكانٍ أعلم منه في مكان آخر، وإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً بها على السعة، وإذا كانت مفعولاً لم يعمل فيها "أعلم" لأنَّ "أعلم" لا يعمل في المفعول به فيقدَّر لها فعل"، وعبارة ابن عطية وأبي البقاء نحوٌ من هذا. وأخذ التبريزيُّ كلامَ الفارسي فنقله وأنشد البيت المتقدم.
والثاني: أنها باقية على ظرفيتها بطريق المجاز، وهذا القول ليس بشيء، ولكنْ أجازه الشيخ مختاراً له على ما تَقَدَّم فقال: "وما أجازوه من أنه مفعول به على السَّعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأنَّ النحويين نصُّوا على أن "حيث" من الظروف التي لا تتصرَّف، وشذَّ إضافةُ "لدى" إليها وجرُّها بالباء و بـ "في"، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّع فيه لا يكون إلا متصرِّفاً، وإذا كان كذلك امتنع نصب "حيث" على المفعول به لا على السَّعة ولا على غيرها.
والذي يظهر لي إقرارُ "حيث" على الظرفية المجازية على أن يُضَمَّن "أعلم" معنى ما يتعدَّى إلى الظرف فيكون التقدير: الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته أي: هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يَجْعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجاز كما قلنا". قلت: قد ترك ما قاله الجمهور وتتابعوا عليه وتأوَّل شيئاً هو أعظمُ مما فرَّ منه الجمهورُ، وذلك أنه يلزمه على ما قَدَّر أنَّ عِلءمَ الله في نفسه يتفاوت بالنسبة غلى الأمكنة فيكون في مكانٍ أبعدَ منه في مكان، ودعواه مجازَ الظرفية لا ينفعه فيما ذكرته من الإِشكال، وكيف يُقال مثلُ هذا؟ وقوله "نَصَّ النحاة على عدمِ تصرُّفها" هذا معارض أيضاً بأنهم نصُّوا على أنها قد تتصرف بغير ما ذَكَرَ هو مِنْ كونها مجرورةً بـ "لدى" أو إلى أو في، فمنه: أنها جاءت اسماً لإِنَّ في قول الشاعر:
(6/412)
---(1/2575)
2050- إنَّ حيث استقرَّ مَنْ أنت راجيـ * ــهِ حِمَىً فيه عزةٌ وأمانُ
فحيث اسم "إنّ" و "حمى" خبرها أي: إن مكاناً استقرَّ مَنْ أنت راعيه مكانٌ يُحمى فيه العزُّ والأمان. ومِنْ مجيئها مجرورةً بإلى قوله:
2051- فشدَّ ولم يَنْظر بيوتاً كثيرة * إلى حيث أَلْقَتْ رَحْلَها أَمُّ قَشْعَمِ
وقد يُجاب عن الإِشكال الذي أَوْرَدْتُه عليه بأنه لم يُرِدْ بقوله "أنفذ علماً" التفضيل وإن كان هو الظاهر، بل يريد مجردَ الوصف، ويدل على ذلك قوله: أي هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته، ولكن كان ينبغي أن يصرِّح بذلك فيقول: وليس المرادُ التفضيلَ. ورُوِي "حيثَ يجعل" بفتح الثاء، وفيها احتمالان أحدهما: أنها فتحةُ بناءٍ طَرْداً للباب. والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ لأنها معربة في لغة بني فَقْعس حكاها الكسائي.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم "رسالته" بالإِفراد، والباقون: رسالاته بالجمع، وقد تقدَّم توجيه ذلك في المائدة، إلا أنَّ بعض مَنْ قرأ هناك بالجمع - وهو حفصٌ - قرأ هنا بالإِفراد، وبعض مَنْ قرأ هناك بالإِفراد - وهو أبو عمروَ والأخوان وأبو بكر عن عاصم - قرأ هنا بالجمع.
قوله: {عِندَ اللَّهِ} يجوز أن ينتصبَ بـ "يصيب"، ويجوز أن ينتصب بصَغار لأنه مصدر، وأجازوا أن يكون صفة لصَغار فيتعلَّق بمحذوف، وقَدَّره الزجاج فقال: "ثابت عند الله". والصَّغار: الذلُّ والهوان يقال منه: صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً فهو صاغر، وأمَّا ضدُّ الكِبَر فيقال منه: صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغير، هذا قول الليث، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر والفعل. وقال غيره: إنه يقال صَغُر وصغَر مِنَ الذل.
والعنديَّة هنا مجازٌ عن حَشْرهم يوم القيامة أو عن حكمه وقضائه بذلك كقولك: ثبت عند فلان القاضي أي: في حكمه، ولذلك قَدَّم الصَّغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا. و "بما كانوا" الباء للسببية و "ما" مصدرية. ويجوز أن تكون بمعنى الذي.(1/2576)
(6/413)
---
* { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ}: كقوله: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} و "مَنْ" يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي: مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه، و "أن يهديه" مفعول الإِرادة. والشرح: البسط والسَّعة قاله الليث، وقال ابن قتيبة: "هو الفتحُ ومنه: شَرَحْتُ اللحم أي فتحته" وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان. و "للإِسلام" أي: لقبوله.
(6/414)
---(1/2577)
وقوله: "يَجْعَلْ" يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية، وأن تكون بمعنى سمَّى، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا، فعلى الأول يكون "ضيقاً" مفعولاً عند مَنْ شدَّد ؤاءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها ساكنة ويكون فيه لغتان: التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيءت وهيِّن وهين. وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضَيقاً كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} يقال: ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو: رجل عدل، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي: يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً، و الذين يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان. وقال الكسائي: / "الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام، وبالتخفيف في المعاني".
(6/415)
---(1/2578)
ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره. قال الفارسي: "والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم "اتَّسر" من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد". وقال ابن الأنباري: "الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن} أن يلتبس فعيل بـ "فَعْل، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين فعيل وفَعْل. والذين خَفَّفُوا الياء قالوا: أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس. وقال البصريون: وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف. قال: "وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين، وقالوا: لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً" قلت: قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} فليُراجَعْ ثَمة. وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية؟ خلاف مرَّت له نظائره.
وإذا كانت "يَجْعَل" بمعنى يخلق فيكون "ضيقاً" حالاً، وإن كانت بمعنى "سَمَّى" كانت مفعولاً ثانياً، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً.
وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها: هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال: رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر:
(6/416)
---(1/2579)
2052- لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ * .....................
قال الفراء: "هو في كسره ونصبه بمنولة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف". وفرَّق الجاج والفارسي بينهما فقالا: المقتوح مصدر والمكسورة اسم فاعل. قال الزجاج: "الحَرَج أضيق الضيق، فَمَنْ قال: رجل حرَج - يعني بالفتح - فمعناه ذو حَرَج في صدره، ومن قال حرِج - يعني بالكسر - جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف". وقال الفارسي: "مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو: فَمَن وحَرضً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين". وقيل: الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب، والمكسور صفة كدَنِف، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج:
2053- عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ
الحِراج: جمع جِرْج، وحِرْج جمع حَرَجة. ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: فهكذا قلب الكافر، هذه رواية عبيد بن عمير. وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب فقال: "قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً، فأتَوْه به فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال: الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها / راعيةٌ ولا وحشية. فقال عمر: "وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير".
(6/417)
---(1/2580)
وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال: "قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال: يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال: شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير. قال الشيخ: "وهذا تنبيه - والله أعلم - على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر" قلت: ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو: حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي: صار كالناقة، واستحجر الطين أي: صار كالحجر، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة، وأنت إذا قلت: حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول: صار كالحَرَجة، بل معناه تزايدَ ضيقُه، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم "حَرِجاً" بكسر الراء، والباقون بتفحها، وقد عُرِفا. فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل.
(6/418)
---(1/2581)
ونصبه على القراءتين: إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول: "زيدٌ كاتب شاعر فقيه" ثم تقول: ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً، فتقول: "زيداً" مفعول أول "كاتباً" مفعول ثان "شاعراً" مفعول ثالث "فقيهاً" مفعول رابع، كما تقول: خبر ثان وثالث ورابع، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ، فليس هذا كقولك في: أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله "ضيقاً حَرَجاً" ليس فيه تكرار. وقال مكي: "ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد" قلت: إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول: كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [وقوله]:
2054- ................. * وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[وقوله]:
2055- ............... * وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ
وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك. وقال أبو البقاء: "وقيل هو جمع "حَرَجَة" مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة" ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟
وقوله: "كأنما" "ما" هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
(6/419)
---(1/2582)
}. وقرأ ابن كثير: "يَصْعَد" ساكنَ الصاد مخفَّف العين، مضارع صَعِد أي ارتفع، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف، وأصلها يتصاعد أي: يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل: يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود.
وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما: أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها، والثاني: أن يكون حالاً، وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: هو الضميرُ المستكنُّ في "ضيِّقا"، والثاني: هو الضمير في "حَرَجا" و "في السماء" متعلِّق بما قبله.
قوله: {كَذالِكَ يَجْعَلُ} هو كنظائِرِه، وقدَّره الزجاج: مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل، أي: فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف، فلك أن ترفعَ "مثل" وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب كما قدَّره الناس وهو: مثل ذلك الجَعْل - أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً - يجعل اللهُ الرجس، كذا قدَّره مكي وغيره، و "يجعل" يُحتمل أن تكونَ بمعنى "ألقى" وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر، ولذلك تَعدَّتْ هنا بـ على، و المعنى: كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي: يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم، والتقدير الصناعي: مستقراً عليهم.
* { وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }
(6/420)
---(1/2583)
وقوله تعالى: {مُسْتَقِيماً}: حال من "صراط"، والعامل فيه أحد شيئين: إمَّا "ها" لِما فيها من معنى التنبيه، وإمَّا "ذا" لما فيه من معنى الإِشارة وهي حال مؤكدة لا مبيِّنة، لأنَّ صراط الله لا يكون إلا كذلك.
* { لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ}: يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة فلا محلَّ لها كأن سائلاً سأل عَمَّا أعدَّ الله لهم فقيل له ذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل "يَذَّكَّرون" ويحتمل أن يكون وصفاً لقوم، وعلى هذين الوجهين فيجوز أن تكون الحال أو الوصف الجارَّ والمجرور فقط ويرتفع "دار السلام" بالفعالية، وهذا عندهم أولى؛ لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة، والأصل ف يالوصف والحال والخبر الإِفراد فما قَرُبَ إليه فهو أَوْلَى.
و {عِندَ رَبِّهِمْ} حال من "دار"، والعامل فيها الاستقرار في "لهم". والسلامُ والسَّلامة بمعنى، كاللَّداد واللَّدادة، ويجوز أن ينتصب "عند" بنفس السلام لأنه مصدر أي: يُسَلِّم عليهم عند ربهم أي: في جنته، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في "لهم". وقوله "وهو وليُّهم" يحتمل أيضاً الاسنئناف، وأن يكون حالاً أي: لهم دار السلام، والحال أن الله وليُّهم وناصرهم. و "بما كانوا" الباء سببية و "ما" بمعنى الذي أو نكرةٌ أو مصدريَّة.
* { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِيا أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }
(6/421)
---(1/2584)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ}: يجوزُ أن ينتصب بفعل مقدَّر فقدَّره أبو البقاء تارةً بـ "اذكر" وتارةً بالقول المحذوف العامل في جملة النداء من قوله "يا مَعْشَر" أي: ويقول: يا معشرَ يوم نحشرهم، وقَدَّره الزمخشري: "ويوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يوصف لفظاعته". قال الشيخ: "وما قلنا أَوْلَى" يعني مِنْ كونه منصوباً بـ "يقول" المحكي به جملة النداء" قال: "لاستلزامه حذفَ جملتين إحداهما جملة "وقلنا" والأخرى العاملة في الظرف". وقَدَّره الزجاج بفعل قول مبني للمفعول: يُقال لهم يا معشر يوم نحشرهم، وهو معنى حسن، كأنه نظر إلى معنى قوله "ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم" فبناه للمفعول، ويجوز أن ينتصب "يوم" بقوله "وليُّهم" لما فيه من معنى الفعل أي: هو يتولاَّهم بما كانوا يعملون ويتولاَّهم يوم يحشرهم. و "جميعاً" حال أو توكيد على قول بعض النحويين. وقرأ حفص "يحشرهم" بياء الغيبة ردَّاً على قوله "ربهم" أي: ويوم يحشرهم ربُّهم.
قوله: {يَامَعْشَرَ} في محلِّ نصب بذلك القول المضمرِ أي: يقول أو قلنا، وعلى تقدير الزجاج يكون في محل رفعٍ لقيامِه مَقام الفاعل المنوب عنه. والمعشرُ: الجماعة قال:
2056- وأبغضُ مَنْ وضعتُ إليَّ فيه * لساني معشرٌ عنهم أذودُ
والجمع: معاشر، كقوله عليه السلام: "نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث" وقال الأودي:
2057- فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ * وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا
(6/422)
---(1/2585)
وقوله {مِّنَ الإِنْسِ} في محلّ نصب على الحال أي: أولياءهم حال كونهم من الإِنس، ويجوز أن تكون "مِنْ" لبيانِ الجنس؛ لأنَّ أولياءهم كانوا إنساً وجِنَّاً والتقدير: أولياؤهم الذين هم الإِنس. وربَّنا حُذِفَ منه حرف النداء. والجمهور على "أَجَلَنا" بالإِفراد لقوله "الذي". وقرئ "آجالنا" بالجمع على أفعال، "الذي" بالإِفراد / والتذكير، وهو نعت للجمع، فقال أبو علي: "هو جنس أوقع الذي موقع التي". قال الشيخ: "وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي، وحينئذٍ يكون جنساً ولا يكون إعرابُه نعتاً لعدم المطابقة بينهما".
قوله "خَالِدِينَ" منصوبٌ على الحال وهي حالٌ مقدرة. وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها: أنه "مثواكم" لأنه هنا اسمُ مصدر لا اسم مكان، والمعنى: النار ذات ثوائكم، أي إقامتكم في هذه الحال، ولذلك ردَّ الفارسي على الزجاج حيث قال: المثوى المقام أي: النار مكان ثوائكم أي إقامتكم. قال الفارسي: "المَثْوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملاً فيها، واسم المكان لا يعمل عملَ الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه، وإذا لم يكن مكاناً ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها خالدين، فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضاً بالإِضافة، ومثلُ هذا قولُ الشاعر:
2058- وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ * مُغَارَ ابنِ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعما
وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المضاف، المعنى: وما هي إلا إزارٌ وعِلْقة وقت إغارة ابن همام، ولذلك عدَّاه بعلى، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك: "آتيك خفوقَ النجم ومقدَمَ الحاج" ثم قال: "وإنما حَسُن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان، ألا ترى أنه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أن الزمان كذلك" وذكر كلاماً كثيراص اختصرتُه.
(6/423)
---(1/2586)
والثاني: أن العامل فيها فعلٌ محذوف، أي: يَثْوُون فيها خالدين، ويدلُّ على هذا الفعلِ المقدر "مثواكم" ويراد بمثواكم مكان الثواء. وهذا واب عن قول الفارسي المعترض به على الزجاج. الثالث: قاله أبو البقاء أن العامل معنى الإِضافة، ومعنى الإِضافة لا يصلُح أن يكون عاملاً البتةَ فليس بشيء.
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} اختلفوا في المستثنى منه: فقال الجمهور: هو الجملة التي تليها وهي قوله {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ} وسيأتي بيانه عن قرب. وقال أبو مسلم: "هو مستثنى من قوله "وبلغْنا أجَلَنا الذي أجَّلْتَ لنا" أي: إلا مَنْ أهلكته واخترمْتَه قبل الأجل الذي سَمَّيْته لكفرِه وضلاله.
وقد ردَّ الناس عنه هذا المذهبَ من حيث الصناعة ومن حيث المعنى: أمَّا الصناعة فَمِنْ وجهين أحدهما: أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا ما شئت، ليطابق قوله "أجَّلْتَ"، والثاني: أنه قد فَضَل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله "قال النار مثواكم خالدين فيها، ومثل ذلك لا يجوز. وأمَّا المعنى فلأن القول بالأجلين: أجل الاخترام والأجل المسمَّى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع.
(6/424)
---(1/2587)
ثم اختلفوا في هذا الاستثناء: هل هو متصل أو منقطع؟ على قولين فذهب كي بن أبي طالب وأبو البقاء في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى: قال النار مثواكم إلا مَنْ آمن منكم في الدنيا كقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} أي: لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا، كذلكهذا، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا. وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرون إلى أنه متصل، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟ فقال قوم: هو ضمير المخاطبين في قوله "مَثْواكم" أي إلا مَنْ آمن في الدنيا بعد أن كان مِنْ هؤلاء الكفرة. و "ما" هنا بمعنى "مَنْ" التي للعقلاء، وساغ وقوعُها هنا لأن المراد بالمستثنى نوعٌ وصنف، و "ما" تقع على أنواع مَنْ يعقل وقد تقدَّم تحقيق هذا في قوله {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ
}. ولكن قد اسْتُبعِد هذا من حيث إن المستثنى مخالفٌ للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما، ولا بد أن يشتركا / في الزمان لو قلت: "قام القوم إلا زيداً" كان معناه إلا زيداً فإنَّه لم يقم، ولا يَصحُّ أن يكون المعنى: فإنه سيقوم في المستقبل، ولو قلت: "سأضرب القوم إلا زيداً" كان معناه: فإنِّي لا أضربه في المستقبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضربته فيما مضى، اللهم إلا أن يُجْعَلَ استثناء منقطعاً كما تقدَّم تفسيره.
(6/425)
---(1/2588)
وذهب قوم إلى أنَّ المستثنى منه زمان، ثم اختلف القائلون بذلك، فمنهم من قال: ذلك الزمانُ هو مدةُ إقامتهم في البَرْزَخ أي: القبور. وقيل: هو المدة التي بين حشرِهم إلى دخولهم النار، وهذا قولُ الطبري قال: "وساغ ذلك من حيث العبارةُ بقوله "النار مَثْواكم" لا يَخُصُّ بها مستقبلَ الزمان دون غيره". وقال الزجاج: "هو مجموع الزمانين أي: مدةَ إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار". وقال الزمخشري: "إلا ما شاء الله أي: يُخَلَّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد رُوِيَ أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالَهم فيتعاوَوْن ويطلبون الرَّدَّ إلى الجحيم" وقال قوم: "إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد، ووقعت "ما" عليهم لأنهم نوع كأنه قيل: إلا النوعَ الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يُخَلَّدون فيها. والظاهر أن هذا استثناءٌ حقيقةً، بل يجب أن يكون كذلك. وزعم الزمخشري أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يَزَلْ يُحَرِّق عليه أنيابه وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خناقه: "أهلكني الله إن نَفَّسْتُ عنك إلا إذا شئت" وقد عَلِمَ أنه لا يشاء ذلك إلا التشفِّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف، فيكون قوله "إلا إذا شئت" من أشدِّ الوعيد مع تهكم". قلت: ولا حاجة إلى ادِّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع. وقال الحسن البصريُّ: "إلا ما شاء الله أي: مِنْ كونهم في الدنيا بغير عذاب"، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعدُ ممَّا تقدَّم.
(6/426)
---(1/2589)
وقال الفراء: - وإليه نحا الزجاج - "المعنى إلا ما شاء الله من زياةٍ في العذاب". وقال غيره: إلا ما شاء الله من النَّكال، وكل هذا إنما يتمشَّى على الاستثناء المنقطع. قال الشيخ: "وهذا راجعٌ إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام؛ إذ المعنى: يُعَذَّبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يُعَذِّبهم به، ويكون إذ ذاك استثناءً منقطعاً إذ العذابُ الزائد على عذاب النار لم يندرجْ تحت عذاب النار". وقال ابن عطية: "ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبةً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وليس مما يُقال يومَ القيامة، والمستثنى هو مَنْ كان مِنً الكفرة يومئذٍ يؤمن في علم الله، كأنه لمَّا أخبرهم أنه يقال للكفار: النار مثواكم استثنى لهم مَنْ يمكن أن يُؤْمن ممَّن يَرَوْنه يومئذٍ كافراً، وتقع "ما" على صفة مَنْ يعقل، ويؤيد هذا التأويلَ أيضاً قوله {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} أي: بمن يمكن أن يؤمن منهم". قال الشيخ: "وهو تأويلٌ حسن وكان قد قال قبل ذلك: "والظاهر أن هذا الاستثناء هو مِنْ كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسيرُ الاستثناء، وقال ابن عطية،" ثم ساقه إلى آخره، فكيف يَسْتَحْسن شيئاً حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مُخْرِجَةٍ للَّفظ عن ظاهره؟
* { وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ نُوَلِّي}: أي: كما خَذَلْنا عصاةَ الإِنس والجن حتى استمتع بعضُهم ببعض كذلك نَكِلُ بعضَهم إلى بعض في النصرة والمعونة، فهي نعت لمصدر محذوف، أو في محل رفع أي: الأمرُ مثل تولية بعض / الظالمين، وهو رأي الزجاج في غير موضع. و {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ظاهر كنظائره.
(6/427)
---(1/2590)
* { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }
قوله تعالى: {مِّنْكُمْ}: في محل رفعٍ صفةً لرسل فيتعلَّق بمحذوف وقوله "يَقُصُّون" يحتمل أن يكون صفةً ثانية، وجاءت كذا مجيئاً حسناً حيث تقدَّم ما هو قريبٌ من المفرد على الجملة، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: هو "رسل" وجاز ذلك وإن كان مكرةً لتخصُّصِه بالوصف. والثاني: أنه الضمير المستتر في "منكم". وقوله {رُسُلٌ مِّنْكُمْ} زعم الفراء أن في الآية حَذْفَ مضاف أي: ألم يَأتِكم رسلٌ من أحدكم يعني من جنس الإِنس" قال: كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} وإنما يَخْرجان من الملح، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وإنما هو في بعضها، فالتقدير: يخرج مِنْ أحدهما وجعل القمر في إحداهن، فحُذِفَ للعلم به"، وإنما احتاج الفراء إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصةٌ بالإِنس، يعني أنه لم يعتقد أن الله أَرْسَل للجن رسولاً منهم، بل إنما أرسل إليهم الإِنس كما يُرْوى في التفسير وعليه قام الإِجماع أنَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ للإِنس والجن وهذا هو الحق، أعني أنَّ الجنَّ لم يُرْسَلْ منهم إلا بواسطة رسالة الإِنس، كما جاء في الحديث مع الجن الذين لمَّا سَمِعُوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم، ولكن لا يُحْتاجُ إلى تقدير مضاف وإن قلنا إنَّ رسل الجن من الإِنس، للمعنى الذي ذكرتُه وهو أنه يُطْلق عليهم رسل مجازاً لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإِنس، وقد زعمَ قومٌ أن الله أرسل للجن رسولاً منهم يُسَمَّى يوسف.
(6/428)
---(1/2591)
* { ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }
قوله تعالى: {ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ}: فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه مبتدأٌ محذوف الخبرِ أي: ذلك الأمر. الثاني: عكسه أي الأمر ذلك. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعل أي: فَعَلْنا ذلك، وإنما يظهر المعنى إذا عُرِفَ المشار إليه، وهو يحتمل أن يكون إتيان الرسل قاصِّين الآيات ومنذرين بالحشر والجزاء، وأن يكون ذلك الذي قَصَصْنا مِنْ أَمْرِ الرسل، وأَمْر مَنْ كَذَّب ويحتمل أن يكون إشارةً إلى السؤال المفهوم من قوله "ألم يأتكم".
وقوله "أن لم يكن" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه على حذف لام العلة أي: ذلك الأمر الذي قَصَصْنا، أو ذلك الإِتيان أو ذلك السؤال لأجل أن لم يكن، فلمَّا حُذِفَت اللامُ احتمل موضعُها الجرَّ والنصبَ كما عُرِفَ غير مرة. والثاني: أن يكون بدلاً من "ذلك".
قال الزمخشري: "ولك أَنْ تجعلَه بدلاً من "ذلك" كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} انتهى. فيجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ أو نصب على ما تقدم في ذلك، إلا أن الزمخشري القائل بالبدلية لم يذكر في محل ذلك إلا الرفعَ على خبر مبتدأ مضمر، و "أَنْ" يجوز أن تكونَ الناصبة للمضارع، وأن تكون المخففة واسمها ضمير الشأن، و "لم يكن" في محل رفع خبرها، وهي نظير قوله {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} وقوله:
2059- في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلَمُوا * أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
(6/429)
---(1/2592)
و "بظلمٍ" يجوز فيه وجهان، أظهرهُما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "ربك" أو من الضمير في "مُهْلِكَ" أي: لم يكن مهلك القرى ملتبساً بظلم، ويجوز أن يكون حالاً من القرى أي: ملتبسة بذنوبها، والمعنيان منقولان في التفسير. والثاني: أنه يتعلق بمُهْلِك على أنه مفعول وهو بعيد، وقد ذكره أبو البقاء. وقوله: "وأهلُها غافلون" جملة حالية.
* { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ}: حُذِف المضاف إليه للعلم به أي: ولكلِّ فريق من الجن والإِنس. وقوله: "مما عملوا" في محل رفع نعتاً لدرجات وقيل: ولكل من المؤمنين خاصة. وقيل: ولكل من الكفار خاصة، لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار، إلا أنه يبعده قوله "درجاتٌ" وقد يُقال إنَّ المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير. وقوله "عمَّا يعملون" قرأ العامة بالغيبة ردَّاً على قوله "ولكل درجات". وقرأ ابن عامر بالخطاب مراعاةً لما بعده في قوله "يُذْهِبْكم"، "من بعدكم"، "أنشأكم".
* { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ}: يجوز أن يكون "الغنيُّ" ذو الرحمة خبرين أو وصفين، و "إن يشأ" وما بعده خبر الأول أو يكون الغنيّ وصفاً، و "ذو الرحمة" خبر، والجملة الشرطية خبر ثان أو مستأنف. وقوله "ما يشاء" يجوز أن تكون "ما" واقعةً على م اهو من جنس الآدميِّين، وإنما أتى بـ "ما" وهي لغير العاقل للإِبهام الحاصل. ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنه يأتي بجنس آخر، ويجوز أن تكون واقعة على النوع من العقلاء كما تقدم.
(6/430)
---(1/2593)
قوله {كَمَآ أَنشَأَكُمْ} فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر لقوله "ويَسْتخلف"، لأنَّ معنى يستخلف يُنْشئْ. والثاني: أنها نعت مصدر محذوف تقديره: استخلافاً مثل ما أنشأكم. وقوله {مِنْ ذرِّيَّة} متعلق بأنشأكم. وفي "مِنْ" هذه أوجه أحدها: أنها لابتداء الغاية أي: ابتدأ إنشاءكم من ذرية قوم. والثاني: أنها تبعيضية قاله ابن عطية. الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري - وتبعه مكي بن أبي طالب - "هي كقولك: "أخذت من ثوبي درهماً" أي: بدله وعوضه، وكون "مِنْ" بمعنى البدل قليل أو ممتنع، وما ورد منه مؤولٌ كقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} وقوله:
2060- جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا * ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا
أي: بدلكم وبدل البقول، والمعنى: من أولاد قوم متقدمين أصلهم آدم. وقال الزمخشري: "من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثلِ صفتكم وهم أهل سفينة نوح". وقرأ أُبَيّ بن كعب "ذَرِّيَّة" بفتح الذال، وأبان بن عثمان "ذَرِيَّة" بتخفيف الراء مكسورة، ويروى عنه أيضاً "ذَرْية" بوزن ضَرْبَة وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
* { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ}: "ما" بمعنى الذي وليست الكافة، و "توعدون" صلتها، والعائد محذوف أي: إنَّ ما توعدونه، و "لآتٍ" الخبر مؤكَّد باللام. وقرأ الأخَوان هنا "مَنْ يكون له عاقبة الدار"، وفي القصص، بالياء، والباقون بالتاء من فوق. وهما واضحتان فإنَّ تأنيثها غير حقيقي، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ
}.
* { قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
(6/431)
---(1/2594)
وقرأ العامَّة {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} هنا وفي جميع القرآن بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم: "مكاناتكم" بالجمع في الجميع، فَمَنْ أفرد فلإِرادة الجنس ومَنْ جمع فليطابق ما بعدها فإن المخاطبين جماعة وقد أضيفت إليهم، وقد علم أنَّ لكل واحد مكانه. واختلف في ميم "مكان ومكانة" فقيل: هي أصلية وهما مِنْ مكن يمكن، وقيل: هما من الكون فالميم زائدة، فيكون المعنى على الأول: اعملوا على تمكُّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه أبو إسحاق، وعلى الثاني: اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها.
وقوله: {مَن تَكُونُ لَهُ} يجوز في "مَنْ" هذه وجهان أحدهما: أن تكون موصولةً وهو الظاهر، فهي في محل نصب مفعولاً به، و "علم" هنا متعديةٌ لواحد لأنها بمعنى العرفان. والثاني: أن تكون استفهامية فتكون في محل رفع بالابتداء. و {تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} تكون واسمها وخبرها في محل رفع خبراً لها، وهي وخبرها في محل نصب: إمَّا لسدِّها مَسَدَّ مفعول واحدٍ إن كانت "علم" عرفانية، وإمَّا لسدِّها مَسَدَّ اثنين إن كانت يقينية.
* { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }
(6/432)
---(1/2595)
قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ}: "جعل" هنا بمعنى صيَّر فيتعدى لاثنين أوَّلُهما قوله "نصيباً"، و الثاني قوله "لله"، و "ممَّا ذَرَأ" يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف لأنه كان في الأصل صفة لـ "نصيباً فلما قُدِّم عليه انتصب حالاً، والتقدير: وجعلوا نصيباً ممَّا ذَرَأ لله، و "من الحَرْث" يدوز أن يكون بدلاً مِنْ "ممَّا ذرأ" بإعادة العامل كأنه قيل: وجعلوا لله من الحرث والأنعام نصيباً. ويجوز أن يتعلق بـ "ذرأ"، وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف، وفي الكلام حذفُ مفعول اقتضاه التقسيم والتقدير: وجعلوا لله نصيباً من كذا ولشركائهم نصيباً منه، يدلُّ عليه ما بعده مِنْ قوله: {فَقَالُواْ هَاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا } و "هذا لله" جملة منصوبةُ المحل بالقول، وكذلك قوله "وهذا لشركائنا".
وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} فيه وجهان أحدهما: أن يتعلَّق بـ "قالوا" أي: فقالوا ذلك القولَ بزعم لا بيقين واستبصار. وقيل: هو متعلِّق بما تعلَّق به الاستقرار من قول "لله". وقرأ العامة بفتح الزاي من "زَعمهم" ف يالموضعين، وهذه لغة الحداز وهي الفصحى. وقرأ الكسائي "بزُعمهم" بالضم / وهو لغة بني أسد، وهل الفتح والضم بمعنى واحد، أو المفتوح مصدر والمضموم ا سم؟ خلاف مشهور. وقرأ ابن أبي عبلة "بزَعَمهم" بفتح الزاي والعين. وفيه لغة رابعة لبعض قيس وبني تميم وهي كسر الزاي، ولم يُقْرأ بهذه اللغة فيما علمت. وقد تقدم تحقيق الزعم.
(6/433)
---(1/2596)
وقوله: {لِشُرَكَآئِنَا} يجوز فيه وجهان أحدهما: أن الشركاء من الشرك، ويعنون بهم آلهتهم التي أشركوا بينها وبين الباري تعالى في العبادة، وليست الإِضافة إلى فاعل ولا إلى مفعول، بل هي إضافة تخصيص والمعنى: الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في العبادة. والثاني: أن الشركاء من الشركة، ومعنى كونهم سَمُّوا آلهتهم شركاءهم أنهم جعلوهم شركاء في أموالهم وزروعهم وأنعامهم ومتاجرهم وغير ذلك، فتكون الإِضافة إضافةً لفظيةً: إمَّا إلى المفعول أي: شركائنا الذين شاركونا في أموالنا، وإمَّا إلى الفاعل أي: الذين أشركناهم في أموالنا.
(6/434)
---(1/2597)
وقوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} قد تقدم نظيرها غير مرة، وقد أعربها الحوفي هنا فقال: "ما" بمعنى الذي والتقدير: ساء الذي يحكمون حكمُهم فيكون "حكمُهم" مبتدأ وما قبله الخبر وحُذِف لدلالة "يحكمون" عليه، ويجوز أن تكون "ما" تمييزاً على مذهب مَنْ يجيز ذلك في "بئسما" فتكون في موضع نصب، التقدير: ساء حكماً حكمهم، ولا يكون "يحكمون" صفة لـ "ما" لأن الغرض الإِبهام، ولكنْ في الكلام حذفٌ يدل عليه "ما" والتقدير: ساء ما يحكمون، فحذف "ما" الثانية" قلت: و "ما" هذه إن كانت موصولة فمذهب البصريين أنَّ حَذْفَ الموصول لا يجوز، وقد عرف ذلك، وإن كانت نكرة موصوفة ففيه نظر، لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ "ما" نكرةً موصوفة. وقال ابن عطية: "وما" في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن تجري "ساء" هنا مجرى نِعْم وبئس؛ لأن المفسَّر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله {سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ} لأن المفسَّر ظاهر في الكلام". قال الشيخ: "وهذا كلامُ مَنْ لم ترسخ قدمه في العربية بل شدا فيها شيئاً يسيراً؛ لأنها إذا جرت "ساء" مجرى بئس كان حكمها كحكمها سواء لا يختلف في شيء البتة مِنْ فاعل ظاهر أو مضمر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح أو الذم والتمييز بها لدلالة الكلام عليه. فقوله "لأن المفسَّر هنا مضمرٌ ولا بد من إظهاره باتفاق" قوله ساقط، ودعواه الاتفاق على ذلك - مع أن الاتفاق على خلافه - عجب عُجاب".
* { وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
(6/435)
---(1/2598)
قوله تعالى: {وَكَذالِكَ زَيَّنَ}: هذا في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف كنظائره، فقدّره الزمخشري تقديرين فقال: "ومثل ذلك التزيين وهو تزيينُ الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيينِ البليغ الذي عُلِم من الشياطين". قال الشيخ: "قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون "كذلك" مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زَيَّن" قلت: والمنقول عن ابن الأنباري أنه مشار به إلى ما قبله، نقل الواحدي عنه أنه قال: "ذلك إشارة غلى ما نعاه الله عليهم مِنْ قَسْمهم ما قسموا بالجهل فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أَتوه في القَسْم جهلاً وخطأً زَيَّن لكثير من المشركين فشبَّه تزيين الشركاء بخطابهم في القسم، وهذا معنى قول الزجاج.
وفي هذه الآية قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان، الأولى: قرأ العامة "زَيَّنَ" مبنياً للفاعل و "قَتْلَ" نصب على المفعولية و "أولادهم" خفض بالإِضافة، و "شركاؤهم" رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب. وقرأ ابن عامر: "زُيِّن" مبنياً للمفعول، "قَتْلُ" رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعله، "أولادَهم" نصباً على المفعول بالمصدر، "شركائهم" خفضاً على إضافة المصدر إليه فاعلاً. وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرَّأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سنداً وأقدمهم هجرة: أمَّا علوُّ سندِه فإنه قرأ على أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على عثمان نفسه، وأمَّا قِدَمُ هجرته فإنه وُلِد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك به أن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري أخذ عن أصحاب أصحابه، وترجمته متسعة ذكرتها في "شرح القصيد"، وإنما ذكرت هنا هذه العُجالة تنبيهاً على خطأ مَنْ ردَّ قراءته وسبه إلى لَحْنٍ أو اتباع مجرد المرسوم فقط.
(6/436)
---(1/2599)
قال أبو جعفر النحاس: "وهذا يعني الفصلَ بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره، ولا يجوز في شعرٍ ولا غيره". وهذا خطأ من ابي جعفر لِمَا سنذكره من لسان العرب، وقال أبو علي الفارسي: "هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها - يعني ابن عامر - كان أَوْلى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف، وإنما أجازوه في الشعر" قال: "وقد فصلوا به - أي بالظرف - في كثير من المواضع نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} وقولِ الشاعر:
2061- على أنني بعدما قد مَضَى * ثلاثون للهَجر حَوْلاً كميلا
وقول الآخر:
2062- فلا تَلْحَنِي فيها فإنَّ بحبِّها * أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه
ففصل بين إنَّ واسمها بما يتعلَّق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يَجُزْ، الاى ترى أنك لو قلت: "إن زيداً عمراً ضارب" على أن يكون "زيداً" منصوباً بضارب لم يَجُز، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام، وإنما يجوز في الشعر كقوله:
2063- كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً * يهوديٍ يقارِبُ أو يُزيلُ
فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك على ضَعْفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حَدِّ ما قرأه. قال الطرماح:
2064- يَطُفْنَ بحوزيِّ المراتعِ لم تَرُعْ * بواديه مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكنائِنِ
وأنشد أبو الحسن:
2065- ............... * زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
(6/437)
---(1/2600)
وقال أبو عبيد: "وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرؤونها "زُيِّن" بضم الزاي، "قتلُ" بالرفع، "أولادَهم" بالنصب، "شركائهم" بالخفض، ويتأوّلون "قتل شركائهم أولادَهم" فيفرقون بين الفعل وفاعله". قال أبو عبيد: "ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه، والقراءة عندنا هي الأَوْلَى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمِصْرَين بالعراق عليها" وقال سيبويه في قولهم" "يا سارق الليلةِ أهلَ الدار" بخفض "الليلة" على التجوز وينصب الأهل على المفعولية، ولا يجوز "يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار" إلا في شعر كراهةَ أن يفصلوا بين الجار والمجرور. ثم قال: "وممَّا جاء في الشعر قد فُصل بينه وبين المجرور قولُ عمرو بن قميئة:
2066- لمَّا رأت ساتيدَ ما استعبرتْ * لله درُّ اليومَ مَنْ لامها
وذكر أبياتاً أخر ستأتي. ثم قال: "وهذا قبيح، ويجوز في الشعر على هذا: "مررت بخيرِ وأفضلِ مَنْ ثَمَّ". وقال أبو الفتح ابن جني: "الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضورة الشاعر". وقال مكي بن أبي طالب: "ومن قرأ هذه القراءة ونصب "الأولاد" وخفض "الشركاء" فهي قراءة بعيدة، وقد رُوِيَتْ عن ابن عامر، ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر، وأكثر ما يكون بالظرف". وقال ابن عطية رحمه الله: "وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يُجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال:
2067- كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً * يهوديٍ .............
/ البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش:
2068- فَزَجَجْتها بمَزَجَّةٍ * زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
وفي بيت الطرماح وهو قوله:
(6/438)
---(1/2601)
2069- يَطُفْنَ بحُوزِيِّ المراتع لم تَرُعْ * بواديه من قَرْع القِسيَّ الكنائِنِ
وقال الزمخشري - فأغلظ وأساء في عبارته - "وأمَّا قراءة ابن عامر - فذكرها - فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سَمِيحاً مردوداً كما سَمُج ورُدَّ:
........................ * زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المُعْجِز بحسن نظمه وجزالته"؟ الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحق "شركائهم" مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر "الأولاد" و "الشركاء" - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوَجَدَ في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب" قلت: سيأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسم أن يقرأه ابن عامر، وأنه قد قرأ به، فكأن الزمخشري لم يَطَّلِعْ على ذلك فلهذا تمنَّاه.
وهذه الأقوال التي ذكرتُها جميعاً لا ينبغي أن يُلْتفت إليها لأنها طَعْنُ في المتواتر، وإن كانت صادرةً على أئمةٍ أكابرَ، وأيضاً فقد انتصر لها مَنْ يقابلهم، وأورد من لسانِ العرب نظمِه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغةً: قال أبو بكر ابن الأنباري: "هذه قراءة صحيحة، وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بين المتضايفين بالجملة في قولهم: "هو غلامُ إن شاء الله أخيك" يريدون: هو غلام أخيك فأنْ يُفْصَل بالمفرد أسهل" انتهى. وسمع الكسائي قول بعضهم: "إن الشاةَ لتجترُّ فتسمع صوتَ واللهِ ربِّها" أي: صوت ربها والله، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة، وقرأ بعض السلف: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلَهُ} بنصب "وعدَه" وخفض "رسله"، وفي الحديث عنه عليه السلام: "هل أنتم تاركو لي صاحبي، تاركو لي امرأتي" أي: تاركو صاحبي لي، تاركو امرأتي لي.
(6/439)
---(1/2602)
وقال ابن جني في الخصائص: "باب ما يَرِد عن العربي مخالفاً للجمهور، إذا اتفق شيء من ذلك: نُظِر في ذلك العربي وفيما جاء به: فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فَيَحْسُن الظنُّ به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك مِنْ لغةٍ قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عوف عن ابن سيرين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر عِلْمَ قوم لم يكن لهم عِلْمٌ أصحُّ منه، فجاء الإِسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغَزْوِ فارس والروم ولَهَت عن الشعر وروايتِه، فلمَّا كثُر الإِسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوانٍ مُدَوَّنٍ ولا إلى كتاب مكتوب، وأَلِفُوا ذلك وقد هلك مَنْ هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم كثيره. قال: وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: قال: "ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير". قال أبو الفتح: "فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [إذا] سُمِع منه ما يخالف الجمهورَ بالخطأ ما وُجِد طريق إلى تقبُّل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده". قلت: وقراءة هذا الإِمام بهذه الحيثيَّة بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترةً فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان: "سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنَّم بهذا البيت:
2070- تَنْفي يداها الحصَى في كل هاجرة * نَفْيَ الدَّراهيمَ تَنْقادِ الصيارِيف
(6/440)
---(1/2603)
بنصب "الدراهيم" وجرّ "تنقاد"، وقد روي بخفض "الدراهيم" ورفع "تنقاد" وهو الأصل وهو المشهور في الرواية. وقال / الكرماني: "قراءة ابن عامر وإن ضَعُفَتْ في العربية للإِحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويَّةٌ في الرواية عالية" انتهى. وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثق بعربيته: "تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها سَعْيٌ في رَداها" أي: تَرْكُ نفسِك يوماً مع هواها سَعْيٌ في هَلاكها، وأمَّا ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليلٌ، فمِن الفصلِ بالظرف قولُ الشاعر:
2071- فَرِشْني بخيرٍ لا أكونَنْ ومِدْحتي * كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيل
تقديره: كناحت صخرةٍ يوماً، ومثله قول الآخر:
2072- كما خُطَّ الكتابُ بكف يوماً * يهوديَّ ................
وقول الآخر:
2073- قد سَأَلَتْني أمُّ عمروٍ عن الـ * أرضِ التي تجهل أَعْلامَها
لَمَّا رَأَتْ ساتِيْدَ ما اسْتَعْبَرَتْ * للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها
تَذَكَّرَتْ أرضاً بها أهلَها * أخوالَها فيها وأعمامَها
يريد: لله دَرُّ مَنْ لامَها اليوم. و "ساتيد ما" قيل: ولا تبرح القتلى عنده. وقيل: "ساتيد" كلُّه اسمٌ و "ما" مزيدةٌ. ومثالُ الفصل بالجارِّ قولُه:
2074- هما أخوا في الحرب مَنْ لا أخاله * إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فدعاهما
وقوله:
2075- لأنتَ مُعْتادُ في الهيجا مصابَرَةٍ * يَصْلى بها كلُّ مَنْ عاداك نيرانا
وقوله:
2076- كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بنا * أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفراريج
وقوله:
2077- تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وقد شَفَتْ * غلائلَ عبدُ القيسِ منها صدورِها
يريد: هما أخوا مَنْ لا أخاله في الحرب، ولأنت معتاد مصابرة في الهجاء، وكأن أصواتَ أواخر الميس، وغلائل صدورِها. ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر:
2078- فَزَجَجْتُها بمَزَجَّةٍ * زجَّ القَلوصَ أبي مزادَه
(6/441)
---(1/2604)
ويروى: فَزَجَجْتها فتدافعَتْ، ويُروى: فزجَجْتها متمكناً، وهذا البيت كما تقدَّم أنشده الأخفش بنصب "القلوص" فاصلاً بين المصدر وفاعله المعنوي، إلا أن الفراء قال بعد إنشاده لهذا البيت: "ونحويُّو أهل المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص" قال: "والصواب: زَجَّ القلوصِ بالخفض" قلت: قوله "والصوابُ يحتمل أن يكون من حيث الرواية، أي: إن الصوابَ خَفْضُه على الرواية الصحيحة، وأن يكون من حيث القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنصب. وقال في موضع آخر من كتابه "معاني القرآن": "وهذا مما كان يقوله نحويُّو أهلِ الحجاز ولم نجد مثله في العربية" وقال أبو الفتح: "فُصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوصِ أبو مزادة كقولك: "سَرَّني أكلُ الخبزِ زيدٌ" بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعاً على أصله، وهذا معنى قول الفراء الأول "والصواب جر القلوص" يعني ورفع الفاعل. ثم قال ابن جني: "وفي هذا البيت عندي دليلٌ على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب هذه الضرورةَ مع تمكُّنِه مِنْ تَرْكِها لا لشيء غيرَ الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول، ومن الفصل بالمفعول به أيضاص قولُ الآخر:
2079- وحِلَقِ الماذيِّ والقوانِسِ * فداسَهم دونسَ الحصادَ الدائِسِ
أي: دوس الدائس الحصادَ. ومثله أيضاً:
2080- يَفْرُك حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ * بالقاع فَرْكَ القطنَ المحالجِ
يريد: فَرْك المحالجِ القطنَ، وقول الطرماح:
2081- ................. * بواديه من قَرْع القِسِيَّ الكنائنِ
(6/442)
---(1/2605)
يريد: قرع الكنائنِ القسيَّ، قال ابن جني في هذا البيت: "لم نجد فيه بُدَّاً من الفصل لأن القوافي مجرورة" وقال في "زجَّ القلوصَ": فصل بينهما بالمفعول به/ هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم. يعني أنه لو أنشد بيت الطرماح بخفض "القسيّ" ورفع الكنائن لم يَجُز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت الأخفش، فإنه لو خفض "القلوص" ورفع "أبو مزادة" لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنُه. قلت: ولو رفع "الكنائن" في البيت لكان جائزاً وإن كانت القوافي مجرورةً ويكون ذلك إقواء، وهو أن تكونَ بعضُ القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول امرئ القيس:
2082- تَخْدي على العِلاَّتِ سامٍ رأسُها * رَوْعاءُ مَنْسِمُها رثيمٌ دامِ
ثم قال:
جالَتْ لتصرَعني فقلت لها اقصِري * إني امرؤٌ صَرْعي عليك حرامُ
فالميمُ مخفوضةٌ في الأول مرفوعة في الثاني، فإن قيل: هذا عيبُ في الشعر. قيل: لا يتقاعد ذلك عن أن يكونَ مثلُ هذه للضرورة، والحق إن الإِقواء أفحشُ وأكثر عيباً من الفصل المذكور، ومن ذلك أيضاً:
2083- فإن يكنِ النِّكاحُ أَحَلَّ شيءٍ * فإنَّ نكاحها مطرٍ حرامُ
أي: فإن نكاحِ مطرٍ إيَّاها، فلمَّا قُدِّم المفعول فاصلاً بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قَدِر عليه متصلاً فلا يَعْدِلُ إليه منفصلاً. وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصلُ بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله:
2084- بعثتُ إليه من لساني حديقة * سقاها الحيا سَقْيَ الرياضَ السحائبِ
أي: سقي السحائبِ الرياضَ. وأمَّا الفصلُ بغير ما تقدَّم فهو قليل، فمنه الفصلُ بالفاعل كقوله:
2085- ................ * غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها
ففُصِل بين "غلائل" وبين "صدورها" بالفاعل وهو "عبد القيس" وبالجار وهو "منها" كما تقدم بيانه، ومثلُه قول الآخر:
2086- نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي * ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ
(6/443)
---(1/2606)
فأهواؤنا فاعلٌ بالمصدر وهو "نَقْض" وقد فُصِل بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم، ومثله قول الآخر:
2087- أَنْجَبَ أيام والداهُ به * إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
يريد: أيام إذ نجراه، ففصل بالفاعل وهو "والداه" المرفوع بـ "أنجب" بين المتضايفين وهما "أيام - إذ ولداه". قال ابن خروف: "يجوز الفصلُ بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله، وعليه قراءة ابن عامر". قلت: هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استُحْسِن الفصل بالمفعول دون الفاعل. ومن الفصل بغير ما تقدَّم أيضاً الفصلُ بالنداء كقوله:
2088- وفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ منقِذٌ لك من * تعجيل مُهْلِكَةٍ والخلدِ في سَقَرَ
وقول الآخر:
2089- إذا ما أبا حفصٍ أَتَتْكَ رَأَيْتَها * على شعراء الناس يعلو قصيدها
وقول الأخر:
2090- كأنَّ بِرْذَوْنَ ابا عصامِ * زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ
يريد: وفاق بجيرٍ يا كعب، وإذا ما أتتك يا أبا حفص، وكأن بِرْذون زيد يا أبا عصام. ومن الفصل ايضاً الفصلُ بالنعت كقول معاوية يخاطب به عمرو بن العاص:
2091- نَجَوْتَ وقد بَلَّ المُراديُّ سيفَه * من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ
وقول الآخر:
2092- ولئن حَلَفْتُ على يديكَ لأحْلِفَنْ * بيمينِ أصدقَ مِنْ يمينك مُقْسِمِ
يريد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب، فَصَلَ به بين أبي وبين طالب، ويريد: لأحلفن بيمينٍ مقسم أصدقَ مِنْ يمينك، فأصدق نعت لقوله بيمين، فصل به بين "يمين" وبين "مقسم". ومن الفصل أيضاً الفصل بالفعل الملغى:
2093- ألا يا صاحِبَيَّ قِفا المَهارى * نسائلْ حيَّ بثنةَ أين سارا
بأيِّ تَرَاهُمُ الأرَضينَ حَلُّوا * أالدبران أم عَسَفثوا الكِفارا
يريد: بأي الأرضين تراهم حلُّوا، فَفَصَلَ بقوله "تراهم" بين "أيْ" وبين "الأرضين". ومن الفصلِ أيضاً الفصلُ بمفعولٍ ليس معمولاً للمصدر المضاف إلى فاعل كقول الشاعر:
(6/444)(1/2607)
---
2094- تَسْقي امتياحاً ندى المسواكَ ريقتِها * كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنَةِ الرَصفُ
أي: تسقي ندى ريقتها المسواكَ فالمسواك مفعول به ناصبه "تسقي" فَصَل به بين / "ندى" وبين "ريقتها"، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة ابن عامر صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل، ولا التفات إلى قول مَنْ قال: إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة "شركائهم" بالياء"، وهذا وإن كان كافياً في الدلالة على جَرِّ "شركائهم" فليس فيه ما يدل على نصب "أولادهم" إذ المصحفُ مهملٌ من شكل ونقط فلم يبقَ له حجةٌ في نصب الأولاد إلا النَّقْلُ المحض.
(6/445)
---(1/2608)
وقد نُقِل عن ابن عامر أنه قرأ بجرَِّ "الأولاد" كما سيأتي بيانُه وتخريجهُ، وأيضاً فليس رسمها "شركائهم" بالياء مختصَّاً بمصحف الشام بل هي كذلك أيضاً في مصحف أهل الحجاز. قال أبو البرهسم: "في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز "أولادهم شركائهم" بالياء، وفي إمام أهل العراق "شركاؤهم" ولم يَقْرأ أهل الحجاز بالخفض في "شركائهم" لأنَّ الرسمَ سُنَّةٌ مُتَّبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق". إلا أن الشيخ أبا شامة قال: "قلت ولم تُرْسَمُ كذلك إلا باعتبار قراءتين: فالمضموم عليه قراءة معظم القراء" ثم قال: "وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة ابن عامر" وسيأتي كلام أبي شامة هذا بتمامه في موضعه، وإنما أَخَذْتُ منه [بقدر] الحاجة هنا. فقوله "إن كل قراءة تابعةٌ لرسم مصحفها" تُشْكِلُ بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرؤوا بذلك. وقد نقل أبو عمرو الداني أن "شركائهم" بالياء إنما هو في مصحف الشام دون مصاحف الأمصار فقال: "في مصاحف أهل الشام "أولادهم شركائهم" بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو". قلت: هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الضام، ولكنْ أبو البرهسم ثقة ايضاً فنقبل ما ينقله. وقد تقدَّم قولُ الزمخشري: "والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء".
(6/446)
---(1/2609)
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: "ولا بُعْدَ فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عُهد تقدُّمُ المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرت له هذه المرتبةُ مع الفاعل المرفوع تقديراً فإن المصدر لو كان منوناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو: "أعجبني ضربٌ عمراً زيدٌ" فكذا في الإِضافة وقد ثَبَتَ جوازُ الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثرَ من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعلى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} {فَبِمَا رَحْمَةٍ} فـ "ما" زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً، ولا التفات إلى قول مَنْ زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مِثْلُه لأنه نافٍ، ومَنْ أسند هذه القراءة مُثْبِت، والإِثبات مُرَجَّح على النفي بإجماع، ولو نُقِل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه ابن الأنباري يعني مما تقدَّم حكايته من قولهم "هو غلامُ إن شاء الله أخيك" فيه الفصلُ في غير الشعر بجملة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر: "زُيِّن" مبنياً للمفعول، "قَتْلُ" رفعاً على ما تقدم، "أولادِهم" خفضاً بالإِضافة، "شركاؤهم" رفعاً، وفي رفعه تخريجان أحدهما: - وهو تخريج سيبويه - أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره: زَيَّنه شركاؤهم، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: مَنْ زَيَّنه لهم؟ فقيل: شركاؤهم، وهذا كقوله تعالى: "يُسَبَّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال" أي: يُسَبِّحه رجال، وقول الآخر:
2095- ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ لخصومةٍ * ................
(6/447)
---(1/2610)
والثاني: - وهو تخريج قطرب - أن يكون "شركاؤهم" رفعاً على الفاعلية بالمصدر، والتقدير: زُيّن للمشركين أنْ قَتَلَ أولادَهم شركاؤهم كما تقول: / "حُبِّب لي ركوبُ الفرسِ زيدٌ" تقديره: حبب لي أَنْ ركب الفرس زيد. والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامَّة في كون الشركاء مُزَيِّنين للقتل وليسوا قاتلين، والثاني: [أن] يكون الشركاء قاتلين، ولكن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنهم لَمَّا زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائهم وكانوا سبباً فيه نُسِبَ إليهم القتل مجازاً. وقال أبو البقاء: "ويمكن أن يقعَ القَتْلُ منهم حقيقةً"، وفيه نظرٌ لقوله "زُيّن" والإِنسان إنما يُزَيَّن له فِعْلُ نفسه كقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}.
(6/448)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 7 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية(1/2611)
وقال غير أبي عبيد: "وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر إلا أنهم خَفَضُوا "الأولاد" ايضاً، وتخريجُها سَهْلٌ: وهو أن تجعلَ "شركائهم" بدلاً من "أولادهم" بمعنى أنهم يُشْركونهم في النسب والمالِ وغير ذلك. قال الزجاج: "وقد رُوِيت "شركايهم" بالياء في بعض المصاحف، ولكن لا يجوزُ إلا على أن يكونَ "شركاؤهم" من نعتِ الأولاد لأنَّ أولادَهم شركاؤهم في أموالهم. وقال الفراء: بعد أن ذكر قراءة العامة وهي "زَيَّن" مبنياً للفاعل، "شركاؤهم" مرفوعاً على أنه فاعل - "وقراءة "زُيِّن" مبنياً للمفعول "شركاؤهم" رفعاً على ما تقدم من أنه بإضمار فعل، وفي مصحف أهل الشام شركايهم بالياء، فإن تكنْ مثبتةً عن الأولين فينبغي أن تقرأ "زُين" ويكون الشركاء هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث، وإن كانوا يقرؤون "زَيَّن" - يعني بفتح الزاي - فلست أعرفُ جهتَها، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عشايا، ويقولون في تثنية حمراء: حمرايان، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايُهم، يعني بياء مضمومة لن "شركاؤهم" فاعل كما مر في القراءة العامة" قال: "وإن شئت جعل زين فعلاً إذا فتحته لا يُلبس، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد". قال أبو شامة: "قلت: يعني تقدير الكلامِ زَيَّن بزُين، فقد اتجه "شركائهم" بالجر أن يكون نعتاً للأولاد سواءٌ قُرئ زين بالفتح أو الضم".
(7/1)
---
وقرأت فرقة من أهل الشام - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - "زِيْنَ" بكسر الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حَدّ قيل وبيع. وقيل: مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله، وأولادَهم بالنصب، وشركائِهم بالخفضن والتوجيه واضج مما تقدم فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في الباب أنه أُخذ مِنْ زان الثلاثي وبُني للمفعول فأُعِلَّ بما قد عرفته في أول البقرة.(1/2612)
واللام من قوله "لكثير من المشركين" متعلقة بزين، وكذلك اللام في قوله "ليُرْدُوهم". فإن قيل: كيف تُعَلِّق حرفَيْ جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب: أن معناهما مختلف فإنَّ الأولى للتعدية والثانية للعِلِّيَّة. وقال الزمخشري "إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السَّدَنة فهي للصيرورة" يعني أن الشيطانَ يفعل التزيين، وغرضه بذلك الإِرداء، فالتعليل فيه واضح، وأمَّا السَّدَنةُ فإنهم لم يزيِّنوا لهم ذلك وغرضُهم غهلاكهم، ولكن لمَّا كان مآل حالهم إلى الإِرداء أتى باللام الدالَّة على العاقبة والمآل.
قوله "وليَلْبِسوا" عطف على "ليُرْدوا"، عَلَّلَ التزيين بشيئين: بالإِرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجمهورُ على "وليَلْبِسوا" بكسر الباء مِنْ لبَسْت عليه الأمر ألبِسُه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقد تقدم بيانه في قوله "ولَلَبَسْنا عليهم ما يَلْبِسون". وقرأ النخعي: "وليلبَسوا" بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: "لَبَسْتُ عليه الأمر لفتح الباء وكسرها ألبِسه وألبَسه، والصحيح أن لَبِس بالكسر بمعنى/ لبس الثياب، وبالفتح بمعنى الخلط، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطةً بهم.
(7/2)
---
وقوله: "ما فعلوه" الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوقُ للحديث عنه. وقيل: المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين، وقيل: المنصوب لِلَّبْسِ المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد. وقال الزمخشري: "لما فعل المشركون ما زُيِّن لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السَّدَنَة التزيين أو الإِرداء أو اللبس، أو جميع ذلك إن جَعَلءتَ الضمير جارياً مَجْرى اسم الإِشارة".(1/2613)
وقوله {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} تقدَّم نظيره.
* { وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
(7/3)
---
قوله تعالى: {أَنْعَامٌ}: قرأها الجمهور كذلك على صيغة الجمع، وأبان بن عثمان "نَعَمٌ" بالإِفراد وهو قريب، لأن اسم الجنس يقوم مقام الجمع. وقرأ الجمهور "حِدْر" بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم. ونُقِل عن أبان بن عثمان ضَمُّ الحاءِ والجيم معاً. وقال هرون: "كان الحسن يضمُّ الحاء من "حجر" حيث وقع في القرآن غلا موضعاً واحداً [وهو]: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} والحاصل أن هذه المادة تدل على المنع والحصر ومنه: فلانٌ في حِجْر القاضي أي: في مَنْعه، وفي حِجْري اي: ما يمنع من الثوب أن ينفلتَ منه شيء، وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء فقوله تعالى {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ممنوع، فـ "فِعْل" بمعنى مفعول كالذِّبْح والنِّطْح بمعنى مذبوح ومنطوح. فإن قيل: قد تقدم شيئان: وهما أنعام وحرث وجيء بالصفة مفردة فالجوا بأنه في الأصل مصدر والمصدر يُذَكَّر ويُوَحَّد مطلقاً. وقال الزمخشري: "ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنَّ حكمَه حكم الأسماء غير الصفات" قلت: يعني بكونه حكمه حكم الأسماء أنه في الأصل مصدرٌ لا صفةٌ، فالاسم هنا يُراد به المصدرُ وهو مقابل الصفة.
(7/4)
---(1/2614)
وأمَّا بقيَّةُ القراءات فقال أبو البقاء: "إنها لغات تفي الكلمة" وفَسَّر معناها بالممنوع. قلت: ويجوز أن يكون المضمومُ الحاء والجيم مصدراص وقد جاء من المصادر للثلاثي ما هو على وزن فُعُل بضم الفاء والعين نحو: حُلُم. ويجوز أن يكون جمع "حَجْر" بفتح الحاء وسكون الجيم، وفُعُل قد جاء قليلاً جمعاً لفَعْل نحو: سَقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن، وأن يكونَ جمعاً لفِعْل بكسر الفاء، وفُعُل أيضاً قد جاء جمعاً لفِعْل بكسر الفاء وسكون العين نحو حِدْج وحُدُج. وأما حُجْر بضم الحاء وسكون الجيم فهو مخفف من المضمومِها فيجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً لحَجْر أو حِجْر. وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعكرمة وعمرو ابن دينار والأعمش: حِرْج بكسر الحاء وراء ساكنة مقدمة على الجيم، وفيها تأويلان، أحدهما: أنها من مادة الحَرَج وهو التضييق، قال أبو البقاء: "وأصلُه حَرِج بفتح الحاء وكسر الراء ولكنه خُفِّف ونُقِل مثل فَخْذ في فخِذ". قلت: ولا حاجةَ إلى ادِّعاء ذلك، بل هذا جاء بطريق الأصالة على وزن فِعْل. والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ حجر قُدِّمَتْ لام الكلمة على عينها ووزنه فِلْع كقولهم ناء في نأى ومعيق في عميق، والقلب قليل في لسانهم. وقد قدَّمْتُ منه جملة صالحة عند قوله تعالى: "أشياء" في المائدة /.
قوله: {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ} هذه الجملة في محل رفع نعتاً لأنعام، وَصَفوه بوصفين أحدهما: أنه حجر، والثاني: أنه لا يأكله إلا من شاؤوا، وهم الرجال دون النساء أو سَدَنة الأصنام. و "من يشاء" فاعل بـ "يَطْعَمُها" وهو استثناء مفرغ و "بزعمهم" حال كما تقدم في نظيره.
(7/5)
---(1/2615)
قوله: "افتراءً" فيه أربعة أوجه أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مفعول من أجله أي: قالوا ما تقدَّم لأجل الافتراء على الباري تعالى. الثاني: مصدر على غير الصدر لأن قولهم المحكيَّ عنهم افتراء، فهو نظير "قعد القرفصاء" وهو قول الزجاج. الثالث: أنه مصدرٌ عاملُه من لفظه مقدر أي: افْتَرَوا ذلك افتراءً. الرابع: أنه مصدر في موضع الحال أي: قالوا ذلك حالَ افترائهم، وهي تشبه الحال المؤكدة؛ لأن هذا القولَ المخصوصَ لا يكون قائله إلا مفترياً. وقوله "على الله" يجوز تعلُّقه بـ "افتراء" على القول الأول والرابع، وعلى الثاني والثالث بقالوا لا بافتراء؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ صفةً لافتراء، وهذا جائز على كل قولٍ من الأقوال السابقة. وقوله "بما كانوا" الباء سببية، و "ما" مصدرية أو موصوفةٌ أو بمعنى الذي.
* { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {خَالِصَةٌ}: الجمهور على "خالصة" بالتأنيث مرفوعاً على أنه خبر "ما" الموصولة، والتأنيث: إمَّا حَمْلاً على المعنى؛ لأن الذي في بطون الأنعام أنعام، ثم حُمِلَ على لفظها في قوله "ومحرَّم"، وإمَّا لأنَّ التأنيث للمبالغة كهو في عَلاَّمة ونسَّابة وراوية، وإمَّا لأن "خالصة" مصدر على وزن فاعلة كالعاقبة والعافية. وقال تعالى: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} وهذا القول قول الفراء، والأول له أيضاً ولأبي إسحاق الزجاج، والثاني للكسائي، وإذا قيل: إنها مصدر كان ذلك على حذف مضاف أي: ذو خلوصٍ أو على المبالغةِ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل كنظائره. وقال الشاعر:
2096- وكنتِ أُمْنِيَّتي وكنتِ خالصتي * وليس كلُّ امرِئٍ بمؤتمنِ
(7/6)
---(1/2616)
وهذا مستفيضٌ في لسانهم: فلان خالصتي أي ذو خلوصي. و "لذكورنا" متعلِّقٌ به، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه وصف لخالصة وليس بالقوي.
وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة "خالص" مرفوعاً على ما تقدَّم من غير هاء. و "لذكورنا" متعلق به أو بمحذوف كما تقدَّم. وقرأ ابن جبير أيضاً فيما نقله عنه ابن جني "خالصاً" نصباً من غير تاء، ونصبُه على الحال، وفي صاحبه وجهان أظهرهما: أنه الضمير المستتر في الصلة. الثاني: أنه الضمير المستتر في "لذكورنا" فإنَّ "لذكورنا" على هذه القراءة خبر المبتدأ، وهذا إنما يجوز على مذهب أبي الحسن لأنه يجيز تقديم الحال على عاملها المعنوي نحو: "زيد مستقراً في الدار"، والجمهور يمنعونه، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة بتفصيلها ودلائلها.
وقرأ ابن عباس أيضاً والأعرج وقتادة: "خالصةً" نصباً بالتأنيث، والكلام في نصبه وتأنيثه كما تقدم في نظيره، وخرَّجه الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعاقبة. وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة: "خالصُه" برفع "خالص" مضافاً إلى ضمير "ما". ورفعه على أحد وجهين: إمَّا على البدل من الموصول، بدلِ بعض من كل، و "لذكورنا" خبر الموصول، وإمَّا على أنه مبتدأ، و "لذكورنا" خبره والجملة خبر الموصول، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أه حيث قلنا: إن "خالصة" مصدر أو هي للمبالغة فليس في الكلام حَمْلٌ على معنى ثم على لفظ، وإن قلنا: إن التأنيث فيها لأجل تأنيث ما في البطون كان في الكلام الحَمْلُ على المعنى أولاً ثم على اللفظ في قوله "مُحَرَّمُ" ثانياً، وليس لذلك في القرآن نظير، أعني الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً.
(7/7)
---(1/2617)
إلا أن مكِّيَّاً زعم في غير "إعراب القرآن" له أن لهذه الآية نظائر فذكرها، وأما في إعرابه فلم يذكر أن غيرها في القرآن شاركها في ذلك، فقال في إعرابه "وإنما أَنَّث الخبر / لأنَّ ما في بطون الأنعام أنعامٌ فحمل التأنيث على المعنى، ثم قال: "ومُحَرَّمٌ" فذكَّر حَمْلاً على لفظِ "ما"، وهذا نادرٌ لا نظير له، وإنما يأتي في "مَنْ" و "ما" حَمْلُ الكلام أولاً على اللفظ ثم على المعنى بعد ذلك فاعرفه فإنه قليل". وقال في غير "الإِعراب": "هذه الآية في قراءة الجماعة أَتَتْ على خلاف نظائرها في القرآن؛ لأنَّ كلَّ ما يُحْمل على اللفظ مرةً وعلى المعنى مرة إنما يتبدئ أولاً بالحمل على اللفظ ثم يليه الحَمْل على المعنى نحو: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ثم قال: "فلهم أجرُهم"، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، وهذه الآية تَقَدَّم فيها الحَمْلُ على المعنى فقال "خالصة"، ثم حُمِلَ على اللفظ فقال: "ومُحرَّمٌ"، ومثله {كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} في قراءة نافع ومَنْ تابعه فأنَّث على معنى "كل" لأنها اسم لجميع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخطايا ثم قال: "عند ربك مكروهاً" فذكَّر على لفظ "كل" وكذلك {مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ}، جَمَعَ الظهور حملاً على معنى "ما" ووحَّد الهاءَ حَمْلاً على لفظ "ما"، وحُكي عن العرب: "هذا الجرادُ قد ذهب فأراحنا مِنْ أَنْفُسِه" جمع الأنفس ووحَّد الهاء وذكَّرها.
(7/8)
---(1/2618)
قلت: أمَّا قوله "هكذا أتى في القرآن" فصحيح، وأمَّا قوله "وكلام العرب" فليس ذلك بمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْلِ على المعنى، ثم على اللفظ، وإن كان عكسُه هو الكثير، وأمَّا ما جعله نظيرَ هذه الآية في الحَمْل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً فليس بمُسَلَّم أيضاً، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية ممَّا حُمِلَ فيها على المعنى أولاً، ثم على اللفظ ثانياً. وبيان ذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول: صلة "ما" جار ومجرور، وهو متعلق بمحذوف فتقدره مسنداً لضمير مذكَّر أي: ما استقرَّ في بطون هذه الأنعام، ويبعد تقديره باستقرَّت، إذا عُرِف هذا فيكون قد حَمَل أولاً على اللفظ في الصلة المقدرة ثم على المعنى ثانياً. وأمَّا "كل ذلك كان سَيِّئةً" فبدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللفظ في قوله "كان" فإنه ذكَّر ضميره المستتر في "كان" ثم حمل على المعنى في قوله "سيِّئة" فأنَّث. وكذلك "لتَسْتَووا" فإنَّ قبله "ما تركبون"، والتقدير: ما تركبونه، فحمل العائد المحذوف على اللفظ أولاً ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً، وكذلك في قولهم "هذا الجراد قد ذهب" حُمِلَ على اللفظ فأفرد الضمير في "ذهب"، ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً فجمع في قوله "أنفسه"، وفي هذه المواضع يكون قد حمل فيها أولاً على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن في القرآن من ذلك أيضاً ثلاثة مواضع: آية المائدة: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، ولقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، والطلاق: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ
(7/9)
---(1/2619)
}. قوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} قرأ ابن كثير "يكن" بياء الغيبة مَيْتَةٌ رفعاً، وابن عامر: "تكن" بتاء التأنيث، ميتة رفعاً، وعاصم في رواية أبي بكر "تكن" بتاء التأنيث "ميتةً" نصباً، والباقون "تكن" كابن كثير، "ميتةً" كأبي بكر. والتذكير والتأنيث واضحان لأن الميتة تأنيث مجازي لأنها تقع على الذكر والأنثى من الحيوان فَمَنْ أنَّث فباعتبار اللفظ، ومَنْ ذكَّر فباعتبار المعنى، هذا عند مَنْ يرفع "ميتة" بـ "تكن"، أمَّا من ينصبها فإنه يسند الفعل حينئذٍ إلى ضميرٍ فيذكِّر باعتبار لفظ "ما" في قوله "ما في بطون" ويؤنث باعتبار معناها. ومن نصب "ميتة" فعلى خبر "كان" الناقصة. ومَنْ رفع فيحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون التامة، وهذا هو الظاهر أي: وإن وجد ميتة أو حَدَثَتْ، وأن تكون الناقصة، وحينئذٍ يكون خبرُها محذوفاً أي: وإن يكن هناك أو في البطون ميتة وهذا راي الأخفش، فيكون تقدير قراءة ابن كثير: وإن يَحْدُثْ حيوان ميتة أو: وإن يكن في البطون ميتة، على حسب التقديرين تماماً ونقصاناً، وتقدير قراءة ابن عامر كتقدير قراءته، إلا أنه أنَّث الفعل باعتبار لفظ مرفوعه، وتقدير قراءة أبي بكر: وإن تكنِ الأنعامُ أو الأجنَّة ميتةً، فأنَّث حَمْلاً على المعنى، وقراءة الباقين كتقدير قراءته إلا أنهم ذكَّروا باعتبار اللفظ، قال أبو عمرو بن العلاء: "ويُقَوِّي هذه القراءةَ - يعني قراءة التذكير والنصب - قوله "فهم فيه" ولم يقل فيها". ورُدَّ هذا / على ابي عمرو بأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل: وإن يكن ميتاً فهم فيه، يعني فلم يَصِرْ له في تذكير الضمير في "فيه" حُجَّةٌ.
(7/10)
---(1/2620)
ونقل الزمخشري قراءة ابن عامر عن أهل مكة فقال: "قرأ أهل مكة "وإن تكنْ ميتةٌ" بالتأنيث والرفع" فإن عنى بأهل مكة ابن كثير - ولا أظنه عناه - فليس كذلك وإن عنى غيره فيجوز، على أنه يجوز أن يكون ابن كثير قرأ بالتأنيث أيضاً، لكن لم يُشْتهر عنه اشتهارَ التذكير. وقرأ يزيد "مَيِّتة" بالتشديد. وقرأ عبد الله: "فهم فيه سواء" وأظنها تفسيراً لا قراءةً لمخالفتها السواد.
* { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوااْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوااْ}: هذا جواب قسم محذوف. وقرأ ابن كثير وابن عامر - وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن - "قَتَّلوا" بالتشديد مبالغة وتكثيراً، و الباقون بالتخفيف، و "سفهاً" نصب على الحال أي: ذوي سَفَهٍ، أو على المفعول من أجله وفيه بُعْدٌ، لأنه ليس علة باعثة أو على أنه مصدر لفعل مقدر أي سفهوا سفهاً، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سَفَهٌ. وقرأ اليماني "سُفَهاء" على الجمع وهي حال، وهذه تقوِّي كونَ قراءةِ العامة مصدراً في موضع الحال حيث صرَّح بها. و "بغير علم": إمَّا حال أيضاً، وإمَّا صفةٌ لسفهاً وليس بذاك.
* { وَهُوَ الَّذِيا أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوااْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
(7/11)
---(1/2621)
قوله تعالى: {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ}: منصوب على الحال، وفيها قولان أحدهما: أنها حال مقدرة لأن النخل والزرع وقت خروجِهما لا أَكْلَ فيهما حتى يقال فيه متفق أو مختلف، فهو كقوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وكقولهم: "مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً" أي: مقدِّراً الاصطياد به. والثاني: أنها حال مقارنة وذلك على حذف مضاف أي: وثمر النخل وحَبّ الزرع. و "أُكُلُه" مرفوع بـ "مختلفاً" لأنه اسم فاعل، وشروط الإِعمال موجودة. والأُكُل: الشيء المأكول، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضم الكاف وسكونها ومضى تحقيقه في البقرة.
والضمير في "أُكُله": الظاهر أنه يعود على الزرع فقط: إمَّا لأنه حذف حالاً من النخل لدلالة هذه عليها تقديره: والنخل مختلفاً أكله، والزرع مختلفاً أكله، وإمَّا لأن الزرع هو الظاهر فيه الاختلافُ بالنسبة إلى المأكول منه كالقمح والشعير والفول والحمص والعََس وغير ذلك. وقيل إنها تعود عليهما، قال الزمخشري: "والضمير للنخل، والزرعُ داخلٌ في حكمه لكونه معطوفاً عليه". قال الشيخ: "وليس بجيد، لأن العطفَ بالواو لا يُجَوِّزُ إفراد ضمير المتعاطفين". وقال الحوفي: "والهاء في "أكلُه" عائدةٌ على ذِكْرِ ما تقدَّم من هذه الأشياء المنشآت"، وعلى هذا الذي ذكره الحوفي لا تختص الحال بالنخل والزرع بل يكون لِما تقدَّم جميعه.
(7/12)
---(1/2622)
قال الشيخ: "ولو كان كما زعم لكان التركيب "أكلها"، إلا إنْ أُخذ ذلك على حذف مضاف أي: ثمر جنات، وروعي هذا المحذوفُ فقيل: "أُكُلُه" بالإِفراد على مراعاته، فيكون ذلك كقوله: "أو كظلمات في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج" أي: أو كذي ظلمات؛ ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه". قلت: فيبقى التقدير: مختلفاص أكل ثمر الجنات وما بعدها، وهذا يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الأُكُل كما تقدم غير مرة أنه الثمر المأكول. قال الزمخشري في الأكل: "وهو ثمره الذي يؤكل". وقال ابن الأنباري: "إن مختلفاً نُصب على القطع فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أُكُلُهما" وهذا رأي الكوفيين وقد تقدم إيضاحه غير مرة.
وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} إلى قوله: {إِذَآ أَثْمَرَ} قد تقدم إيضاحه.
قوله "حصادِه" قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان في المصدر لقولهم جَداد وجِداد، وقَطاف وقِطاف، وحَران وحِران. قال سيبويه: "جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثالِ فِعال، وربما قالوا فيه فَعال" يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، فالحصدُ ليس فيه دلالةٌ على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحَصاد والحِصاد. ونسب الفراء الكَسْرَ لأهل الحجاز / والفتح لتميم ونجد. واختار أبو عبيد الفتح قال: "للفخامة، وإن كانت الأخرى فاشية غير مدفوعة"، ومكي الكسرَ قال: "لأنه الأصل وعليه أكثر الجماعة".
(7/13)
---(1/2623)
وقوله {يَوْمَ حَصَادِهِ} فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بـ "آتوا" أي: أعطوا واجبه يوم الحصاد. واستشكل بعض الناس ذلك بأن الإِيتاء إنما يكون بعد التصفية فكيف يوجب الإِيتار في يوم الحصيد؟ وأجيب بأن ثَمَّ محذوفاً والتقدير: إلى تصفيته قالوا: فيكون الحصاد سبباً للوجوب المُوَسَّع والتصفية سبب للأداء، وأحسنُ من هذا أن يكون المعنى: واهتموا بإيتاء الزكاة الواجبة فيه واقصدوه في ذلك اليوم.
والثاني: أنه منصوب بلفظ "حقه" على معنى: وأعطوا ما استحق منه يوم حصاده، فيكون الاستحقاق ثابتاً يوم الحصاد والأداء بعد التصفية، ويؤيد ذلك تقديرُ المحذوف عند بعضهم كما قَدَّمْتُه، وقال في نظير هذه الآية: {انْظُرُوااْ إِلِى ثَمَرِهِ} وفي هذه "كُلُوا" قيل: لأن الأولى سِيْقَتْ للدلالة على كمال قدرته وعلى إعادة الأجسام من عُجْب الذَّنَب فأمر النظر والتفكُّر في البداية والنهاية، وهذه سِيْقَت في مَعْرِض كمال الامتنان فناسب الأمر بالأكل، وتحصَّل من مجموع الآيتين الانتفاعُ الأخروي والدنيوي، وهذا هو السبب لتقدم النظر على الأمر بالأكل.
* { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {حَمُولَةً وَفَرْشاً}: منصوبان على أنهما نُسِقا على جنات أي: وأنشأ من الأنعام حمولة. والحَمولة: ما أطاق الحملَ عليه من الإِبل. والفَرْش صغارُها، هذا هو المشهورُ في اللغة. وقيل: الحَمولة كبارُ الأنعام أعني الإِبل والبقر والغنم، والفَرْش صغارها قال: "ويدل له أنه أبدل منه قولَه بعد ذلك ثمانية أزواج من الضأن" كما سيأتي. وقال الزجاج: "أجمع أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغار الإبل، وأنشد:
2097- أَوْرَثَني حَمولةً وفَرْشاً * أَمُشُّها في كل يومٍ مَشَّا
(7/14)
---(1/2624)
وقال الآخر: 2098- وَحَوَيْنا الفَرْشَ مِنْ أنعامكم * والحَمُولاتِ وربَّاتِ الحجالْ
قال أبو زيد: "يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمصدر لأنَّ الفَرْشَ في الأًصل مصدر". والفَرْش لفظٌ مشترك بين معانٍ كثيرة منها ما تقدَّم، ومنها متاع البيت، والفضاء الواسع، واتساع خفِّ البعيرِ قليلاً، والأرض الملساء، عن أبي عمرو بن العلاء، ونباتٌ يلتصق بالأرض، ومنه قول الشاعر:
2099- كمِشْفَر الناب تلوك الفَرْشا
وقيل: الحَمُولة: كلُّ ما حُمِل عليه، من إبل وبقر وبغل وحمار، والفَرْشُ هنا ما اتُّخِذَ من صوفه ووبره وشعره ما يفترش، وأنشدوا للنابغة:
2100- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍ مُمَنَّعٍ * تَخَالُ به راعي الحَمولَةِ طائرا
وقال عنترة: 2101- وما راعني إلا حَمُولة أهلها وسطَ الديارِ تَسُفُّ حب الخِمْخِمِ
* { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
(7/15)
---(1/2625)
قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}: في نصبه ستةُ أوجه، أحسنُها: أن يكونَ بدلاً من "حَمولة وفرشاً" لولا ما نقله الزجاج من الإِجماع المتقدم، ولكن ليس فيه أن ذلك محصورٌ في الإِبل، والقول بالبدل هو قول الزجاج والفراء. والثاني: أنه منصوب بـ "كلوا" الذي قبله أي: كلوا ثمانيةَ أزواج، ويكون قوله "ولا تَتَّبِعُوا" إلى آخره كالمعترض بين الفعل ومنصوبه وهو قول علي بن سليمان وقَدَّره: كُلوا لحمَ ثمانية. وقال أبو البقاء: "هو منصوب بـ "كلوا" تقديره: كُلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج، ولا تُسْرفوا معترض بينهما". قلت: صوابه أن يقول: "ولا تتَّبعوا" بدلَ "ولا تسرفوا" لأنَّ "كُلوا" الذي يليه "ولا تسرفوا" ليس منصبّاً على هذا لأنه بعيد منه، ولأنَّ بعده ما هو أَوْلَى منه بالعمل، ويُحتمل أن يكون الناسخ غلط عليه، وإنما قال هو "ولا تَتَّبعوا" ويدل على ذلك أنه قال "تقديره: كلوا ممَّا رزقكم الله"، وكلوا الأولُ ليس بعده "مما رزقكم" إنما هو بعد الثاني. الثالث: أنه عطف على "جنات" أي: أنشأ جنات وأنشأ ثمانية أزواج، ثم حُذِفَ الفعل وحرف العطف وهو مذهب الكسائي. قال أبو البقاء: "وهو ضعيف" قلت: الأمر كذلك، وقد سُمِع ذلك في كلامهم نثراً ونظماً، ففي النثر قولهم: "أكلت لحماً سمكاً تمراً" وفي نظمهم قول الشاعر:
2102- كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا يزرَعُ الودَّ في فؤاد الكريمِ
(7/16)
---(1/2626)
أي: أكلت لحماً وسمكاً وتمراً، وكيف أصبحت وكيف أمسيت، وهذا على أحد القولين في ذلك. والقول الثاني أنه بدل بداء. ومنه الحديث: "إن الرجلَ ليصلِّي الصلاة، وما كُتِبَ له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى أن وصل إلى العَشْر". الرابع: أنه منصوب بفعل محذوف مدلولٍ عليه بما في اللفظ تقديره: كلوا ثمانيةَ أزواج، وهذا أضعفُ ممَّا قبله. الخامس: أنه منصوبٌ على الحال، تقديره: / مختلفةً أو متعددة، وصاحب الحال "الأنعام" فالعامل في الحال ما تعلَّق به الجار وهو "مِنْ". السادس: أنه منصوب على البدل مِنْ محلِّ "ممَّا رزقكم الله".
قوله: {مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} في نصب "اثنين" وجهان أحدهما: أنه بدلٌ من "ثمانية أزواج" وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: "والدليل عليه "ثمانية أزواج" ثم فَسَّرها بقوله "من الضأن اثنين" الآية. وبه صَرَّح أبو البقاء فقال: "واثنين بدل من الثمانية وقد عُطِفَ عليه بقية الثمانية". والثاني: أنه منصوبٌ بأنشأ مقدَّراً، وهو قول الفارسي، و "مِنْ" تتعلَّق بما نصب "اثنين".
والجمهور على تسكين همزة "الضأن" وهو جمع ضائن وضائنة كتاجِر وتاجرة وتَجْر، وصاحب وصاحبة وصَحْب، وراكب وراكبة ورَكْب. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر "الضَّأَن" بفتحها، وهو إمَّا جمع تكسير لضائن كما يقال خادم وخدم وحارس وحرس وطالب وطَلَب، وإمَّا اسم جمع. ويُجْمع على ضَئين كما يقال: كلب وكليب، قال:
2103- ................ * ... فبذَّتْ نَبْلَهمْ وكليبُ
(7/17)
---(1/2627)
وقيل: الضَّئين والكليب اسما جمع، ويقال ضِئين بكسر الضاد، وكأنها إتباع لكسر الهمزة نحو: بِعير وشِعير بكسر الباء والشين لكسر العين. والضأن معروفٌ وهو ذو الصوف من الغنم، والمعز ذو الشعر منها. وقرأ أبان بن عثمان "اثنان" بالرفع على الابتداء والخبر الجار قبله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المَعَز بفتح العين، والباقون بسكونها، وهما لغتان في جمع ماعِز، وقد تقدَّم أن فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارة وعلى فَعَل أخرى كتاجر وتَجْر وخادِم وخَدَم، وقد تقدَّم تحقيقُه، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى، وبها قرأ أُبَيّ، قال امرؤ القيس:
1104- ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى * كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ
وقال أبو زيد: إنه يُجْمع على أُمْعوز، وأنشد:
2105- .............. * كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ
ويجمع أيضاً على مَعِيز، وأنشدوا لامرئ القيس:
1106- ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ * معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ
والإِبل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدُه جمل وناقة وبعير، ولم يجئ اسم على فِعِل عند سيبويه غيره، وزاد غير سيبويه بِكِراً وإِطِلاً ووِتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الغاشية إن شاء الله، والنسبة إليه إبَلي بفتح الباء لئلاَّ يتوالَى كسرتان مع ياءين.
قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} الذَّكَرَيْن منصوب بما بعده، وسببُ إيلائه الهمزةَ ما تقدم في قوله "أأنت قلتَ للناس" و "أم" عاطفة للأُنْثَيَيْن على الذكرين، وكذلك أم الثانية عاطفة ما الموصولة على ما قبلها فمحلُّها نصبٌ تقديره: أم الذي اشتملت عليه أرحام، فلما التقت الميم ساكنة مع ما بعدها وجَب الإِدغامُ.
(7/18)
---(1/2628)
* { وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
و "أم" في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ}: منقطعة ليست عاطفةً؛ لأن بعدها جملةً مستقلة بنفسها فتُقَدَّر بـ بل والهمزة والتقدير: بل أكنتم شهداء. و "إذ" منصوب بشهداء أنكر عليهم ما ادَّعَوْه، وتهكَّم بهم في نسبتهم إلى الحضور في وقتِ الإِيصاء بذلك. و "بهذا" إشارة إلى جميع ما تقدَّم ذِكْرُه من المحرَّمات عندهم.
* { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {مُحَرَّماً}: منصوبٌ بقوله "لا أَجِدُ" وهو صفة لموصوف محذوف حُذِفَ لدلالة قوله على "طاعم يَطْعَمُه" والتقدير: لا أجد طعاماً محرَّماً. و "على طاعم" متعلق بمحرَّماً و "يَطْعَمُه" في محل جرّ صفةً لطاعم. وقرأ الباقر - ونقلها مكي عن أبي جعفر - "يَطَّعِمُه" بتشديد الطاء وأصلها يَطْتَعِمه افتعالاً من الطعم، فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد طاء للتقارب فوجب الإِدغام. وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية وأصحاب عبد الله بن مسعود "تَطَعَّمه" بالتاء من فوق وتشديد العين فعلاً ماضياً.
(7/19)
---(1/2629)
قوله {إِلاَّ أَن يَكُونَ} منصوبٌ على الاستثناء وفيه وجهان، أحدهما: أنه متصل قال أبو البقاء: "استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا الميتة" والثاني: أنه منقطع، قال مكي: "وأن يكون في موضع نصب على الاستثناء المنقطع". وقال الشيخ: "وإلا أن يكون" استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون موضعه نصباً بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز" يعني أن الاستثناء / المنقطع فيه لغتان إحداهما لغة الحجاز وهو وجوبُ النصبِ مطلقاً، ولغة التميميين يجعلونه كالمتصل، فإن كان في الكلام نفي أو شبهه رُجِّح البدلُ، وهنا الكلام نفي فيترجَّح نصبُه عند التميميين على البدل دون النصب على الاستثناء فنصبُه من وجهين، وأمَّا الحجاز فنصبُه عندهم مِنْ وجهٍ واحد، وظاهر كلام أبي القاسم الزمخشري أنه متصل فإنه قال: "محرماً أي: طعاماً محرماً من المطاعم التي حَرَّمتموها، إلا أن يكون ميتة" إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة" وقرأ ابن عامر في رواية: "أوحَى" بفتح الهمزة والحاء مبنياً للفاعل.
وقوله تعالى: {قُلْ الذَّكَرَيْنِ} وقوله "نَبِّئوني"، وقوله أيضاً "الذكرين" ثانياً وقوله "أم كنتم شهداء" جمل اعتراضٍ بين المعدودات التي وقعَتْ تفصيلاً لثمانية أزواج. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف فصل بين المعدود وبين بعضه ولم يُوالِ بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غيرَ أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل مَنَّ على عباده بإنشاء الإِنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على مَنْ حرَّمها، والاحتجاج على مَنْ حرَّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تُساق إلا للتوكيد".
(7/20)
---(1/2630)
وقرأ ابن عامر "إلا أَنْ تكونَ ميتةٌ" بالتأنيث ورفع ميتة يعني: إلا أن يوجدَ ميتة، فتكون تامة عنده، ويجوز أن تكون الناقصة والخبرُ محذوفٌ تقديره: إلا أن يكون هناك ميتة، وقد تقدَّم أن هذا منقولٌ عن الأخفش في قوله مثل ذلك {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً}. وقال أبو البقاء: "ويُقْرا برفع "ميتة" على أنَّ "تكون" تامة، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب". فلت: كيف يُضَعِّف قراءة متواترة؟ وأما قوله "لأن المعطوف منصوب" فذلك غير لازم؛ لأن النصب على قراءة مَنْ رفع "ميتة" يكون نَسَقَاً على محلِّ "أن تكون" الواقعة مستثناةً تقديره: إلا أن يكون ميتة، وإلا دماً مسفوحاً، وإلا لحم خنزير. وقال مكي ابن أبي طالب "وقرأ أبو جعفر "إلا أن تكون" بالتاء، ميتةٌ بالرفع"، ثم قال: "وكان يلزم أبا جعفر أن يقرأ "أو دمٌ" بالرفع وكذلك ما بعده". قلت: هذه هي قراءة ابن عامر نسبها لأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني شيخ نافع وهو محتمل، وقوله "كان يلزمه" إلى آخره هو معنى ما ضَعَّف به أبو البقاء هذه القراءةَ، وقد تقدَّم جوابُ ذلك، واتفق أن ابن عامر يقرأ "وإن تكنْ ميتةٌ" بالتأنيث والرفع وهنا كذلك.
وقرأ ابن كثير وحمزة "تكون" بالتأنيث، "ميتةً" بالنصب على أن اسم "تكون" مضمر عائد على مؤنث أي: إلا أن يكون المأكول، ويجوز أن يعودَ الضميرُ مِنْ "تكون" على "محرَّماً"، وإنما أنَّث الفعلَ لتأنيث الخبر كقوله {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن} ينصب "فتنتهم" وتأنيث "تكن". وقرأ الباقون "يكون" بالتذكير، "ميتة" نصباً، واسم "يكن" يعود على قوله "مُحَرَّماً" أي: إلا أن يكون ذلك ذلك المحرَّم. وقدَّره أبو البقاء ومكي وغيرهما: "إلا أن يكون المأكولُ" أو "ذلك ميتة".
(7/21)
---(1/2631)
قوله: "أو دماً" "دماً" على قراءةِ العامة معطوفٌ على خبر "يكون" وهو "ميتة"، وعلى قراءة ابن عامر وأبي جعفر معطوفٌ على المستثنى وهو "أن يكون" وقد تقدم تحرير ذلك. ومسفوحاً صفة لـ "دماً". والسَّفْحُ: "الصَّبُّ. وقيل: السَّيَلان وهو قريب من الأول، وسفح يُستعمل قاصراً ومتعدِّياً يقال: سَفَحَ زيدٌ دمعه ودمه أي: أهراقَه وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي يقال: سَفْح، وفي اللازم يقال سُفُوح، ومن التعدِّي قوله تعالى: "أو دماً مسفوحاً" فإن اسم المفعول التام لا يُبْنى إلا مِنْ متعدٍّ، ومن اللزوم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة:
2107- أقول ودَمْعي واكفٌ عند رسمها * عليك سلامُ الله والدمعُ يَسْفَح
قوله: "أو فِسْقاً" فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه عطف على خبر يكون أيضاً أي: إلا أن يكون فسقاً. و "أُهِلَّ" في محل نصب لأنه صفة له كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاًّ به لغير الله، جعل العينَ المحرَّمة نفسَ الفسق مبالغة، أو على حذف مضاف ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله: / {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. الثاني: أنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي: إلا أن يكون ميتة أو إلا فسقاً. وقوله "فإنه رجْسٌ" اعتراض بين المتعاطفين. والثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه قوله "أُهِلَّ" مقدَّم عليه، ويكون قد فصل بين حرف العطف وهو طأو" وبين المعطوف وهو الجملة من قوله "أُهِلَّ" بهذا المفعول من أجله، ونظيره في تقديم المفعول له على عامله قوله:
2108- طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ * ولا لِعِباً مني وذو الشيب يَلْعَبُ
(7/22)
---(1/2632)
و "أُهِلَّ" على هذا الإِعراب عَطْفٌ على "يكون"، والضمير في "به" عائد على ما عاد عليه الضمير المستتر في "يكون"، وقد تقدَّم تحقيقُه، قاله الزمخشري. إلا أن الشيخ تَعَقَّب عليه ذلك فقال: "وهذا إعرابٌ متكلَّف جداً وتركيب على هذا الإِعراب خارج عن الفصاحة وغيرُ جائزٍ على قراءةِ مَنْ قرأ {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} بالرفع، فيبقى الضمير في "به" ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يُتكلَّفَ بالرفع، فيبقى الضمير في "به" ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يُتكلَّفَ محذوفٌ حتى يعود الضمير عليه، فيكون التقدير: أو شيء أهِلَّ لغير الله به؛ لأنَّ مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر". قلت: يعني بذلك أنه لا يُحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام "مِنْ" التبعيضية كقولهم: "منا ظَعَنَ ومنا أقام" أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن لم يكن فيه "مِنْ" كان ضرورة كقوله:
2109- تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أرمى البشَرْ
أي: بكفَّيْ رجل، وهذا راي بعضهم، وأمَّا غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي.
(7/23)
---(1/2633)
وقوله: "فإنه" الهاء فيها خلاف، والظاهر عَوْدُها على "لحم" المضاف لخنزير. وقال ابن حزم: "إنها تعود على خنزير لأنه أقرب مذكور" ورُجِّح الأول بأن اللحم هو المحدِّث عنه، والخنزير جاء بعرَضيَّة الإِضافة إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: "رأيت غلام زيد فأكرمته" أن الهاء تعود على الغلام لأنه المحدَّث عنه المقصودُ بالإِخبار عنه، لا على زيد؛ لأنه غير مقصود. ورُجِّح الثاني بأن التحريم المضاف للخنزير ليس مختصاً بلحمه بل شحمُه وشعره وعظمه وظِلْفُه كذلك، فإذا أعدنا الضمير على خنزير كان وافياً بهذا المقصود، وإذا أَعَدْنا على "لحم" لم يكن في الآية تعرُّضٌ لتحريم ما عدا اللحمَ مما ذكر. وقد أُجيب عنه بأنه إنما ذُكِر اللحم دون غيره، وإن كان غيرُه مقصوداً بالتحريم؛ لأنه أهمُّ ما فيه وأكثر ما يُقصد منه اللحم، كما ذلك في غيره من الحيوانات، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللحم بالذِّكر، ولو سُلِّم فإنه يكون من باب مفهوم اللقب وهو ضعيف جداً. وقوله "فإنه رِجْسٌ": إمَّا على المبالغة بأَنْ جُعل نفس الرجس، أو على حَذْفِ مضاف وله نظائر.
* { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ}: متعلق بحرَّمْنا، وهو يُفيد الاختصاص عند بعضهم كالزمخشري والرازي، وقد صَرَّح به الرازي هنا أعني تقديمَ المعمول على عامله.
(7/24)
---(1/2634)
وفي "الظفر" لغات خمس، أعلاها: ظُفُر وهي قراءة العامة، وظُفْر بسكون العين وهي تخفيف المضمومها، وبها قرأ الحسن في روايةٍ وأبي بن كعب والأعرج، وظِفِر بكسر الظاء والفاء، ونسبها الواحدي لأبي السمَّال قراءةً، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف المكسورها، ونسبها الناس للحسن أيضاً قراءة، واللغة الخامسة أُظْفور ولم يُقرأ بها فيما علمت، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
2110- ما بين لُقْمَتِها الأولى إذا انحدَرَتْ * وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفورِ
وجمع الثلاثي أظفار، وجمع أظفور أظافير وهو القياس، وأظافر من غير مدّ وليس بقياس، وهذا كقوله:
2111- ................ * ..... العينين والعواوِرِ
وقد تقدَّم تحقيق ذلك في قوله مفاتح الغيب.
(7/25)
---(1/2635)
قوله: "ومن البقر" فيه وجهان أحدهما: أنه معطوف على "كل ذي" فتتعلق "مِنْ" بحرَّمنا الأولى لا الثانية، وإنما جيء بالجملة الثانية مفسرة لما أبهم في "من" التبعيضية مِن المحرم فقال: "حَرَّمْنا عليهم شحومهما" والثاني: أن يتعلق بحرَّمْنا المتأخرة والتقدير: / وحرَّمنا على الذين هادوا من البقر والغنم شحومهما، فلا يجب هنا تقديرم المجرور بها على الفعل، بل يجوز تأخيره كما تقدَّم، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل فيقال: حرَّمنا عليهم شحومَهما من البقر والغنم لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة. وقال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون "مِن البقر" متعلقاً بـ "حَرَّمنا" الثانية". قال الشيخ: "وكأنه توهَّم أنَّ عَوْد الضمير مانع من التعلق، إذ رتبةُ المجرور بـ مِنْ التأخير لكن عَمَّاذا؟ أما عن الفعل فمسلَّم، وأما عن المفعول فغير مُسَلَّم" يعني أنه إن أراد أنَّ رتبة قوله "من البقر" التأخير عن شحومهما فيصير التقدير: حرَّمْنا عليهم شحومهما من البقر فغير مُسَلَّم. ثم قال الشيخ: "وإن سَلَّمنا أنَّ رُتْبَتَه التأخير عن الفعل والمفعول فليس بممنوع بل يجوز ذلك كما جاز: "ضرب غلامَ المرأة أبوها" و "غلامَ المرأة ضرب أبوها"، وإن كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبتهُ التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة؟ أعني في كونهما فضلةً فلا يُبالى فيهما بتقديم أيِّهما شِئْتَ على الآخر، قال الشاعر:
2112- ................. * وقد رَكَدَتْ وسطَ السماء نجومُها
فقدَّم الظرفَ وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف". قلت: لقائلٍ أن يقول لا نُسَلِّم أن أبا البقاء إنما مَنَعَ ذلك لِما ذكره حتى يُلْزَمَ بما ألزمته بل قد يكون منعه لأمر معنوي.
(7/26)
---(1/2636)
والإِضافة في قوله "شحومهما" تفيد الدلالة على تأكيد التخصيص والربط، إذ لو أتى في الكلام "من البقر والغنم حرَّمْنا عليهم الشحوم" لكان كافياً في الدلالة على أنه لا يُراد إلا شحومُ البقر والغنم، هذا كلام الشيخ وهو بَسْطُ ما قاله الزمخشري فإنه قال: "ومن البقر والغنم حَرَّمْنا عليهم شحومهما كقولك: "مِنْ زيد أخذت ماله" تريد بالإِضافة زيادة الربط.
قوله: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} "ما" موصولة في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم أي: إنه لم يُحَرِّم الشحم المحمول على الظهر، ثم إن شئت جعلت هذا الموصول نعتاً لمحذوف أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما، كذا قدَّره الشيخ، وفيه نظر، لأنه هو قد نَصَّ على أنه لا يُوصف بـ "ما" الموصولة وإن كان يُوصف بالذي، وقد ردَّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير، وإن شِئْتَ جَعَلْته موصوفاً بشيء محذوف أي: غلا الذي حملته ظهورهما من الشحم، وهذا الجارُّ هو وصف معنوي لا صناعي فإنه لو أظهر كذا لكان إعرابه حالاً.
وقوله "ظهورهما" يحتمل أن يكون من باب {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} بالنسبة إلى ضمير البقر والغنم من غير نظر إلى جمعيتهما في المعنى، ويحتمل أن يكون جَمَعَ "الظهور" لأن المضاف إليه جمع في المعنى، فهو مثل "قَطَعْت رؤوس الكبشين" فالتثنية في مثل هذا ممتنعة.
(7/27)
---(1/2637)
قوله: {أَوِ الْحَوَايَآ} في موضعها من الإِعراب ثلاثة أوجه، أحدها: - وهو قول الكسائي - أنها في موضع رفع عطفاً على "ظهورهما" أي: وإلا الذي حَمَلَتْه الحوايا من الشحم فإنه أيضاً غير محرَّم، وهذا هو الظاهر. الثاني: أنها في محل نصب نسقاً على "شحومهما" أي: حَرَّمْنا عليهم الحوايا أيضاً أو ما اختلط بعظم فتكون الحوايا والمختلط مُحَرَّمَيْن، وسيأتي تفسيرهما، وإلى هذا ذهب جماعة قليلة، وتكون "أو" فيه كالتي في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} يُراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد كما تقول: "هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَوا فاعصِ هذا أو هذا" فالمعنى: حَرَّم عليهم هذا وهذا.
وقال الزمخشري: "أو بمنزلتها في قولهم: "جالس الحسن أو ابن سيرين".
(7/28)
---(1/2638)
قال الشيخ: "وقال النحويون "أو" في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآية إذا قلنا إن "الحوايا" معطوف على "شحومهما" أن تكون "أو"/ فيه للتفصيل فصَّل بها ما حَرَّم عليهم من البقر والغنم". قلت: هذه العباة التي ذكرها الزمخشري سبقه إليها أبو إسحاق فإنه قال: "وقال قوم: حُرِّمت عليهم الثُروب وأُجلَّ لهم ما حملت الظهور، وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم نسقاً على ما حرَّم لا على الاستثناء، والمعنى على هذا القول: حُرِّمَتْ عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير مُحَرَّم، وأدخلت "أو" على سبيل الإِباحة كما قال تعالى {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}، والمعنى: كل هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَى فاعصِ هذا أ"أو" بليغةٌ في هذا المعنى لأنك إذا قلت: "لا تُطع زيداً وعمراً" فجائز أن تكون نَهَيْتَني عن طاعتهما معاً في حالة، فإذا أطعتُ زيداً على حِدَته لم أكن عاصياً، وإذا قلت: لا تُطع زيداً أو عمراً أو خالداً فالمعنى: أن كل هؤلاء أهل أن لا يُطاع فلا تُطِع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثلُه: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس المعنى: أني آمرك بمجالسةِ واحدٍ منهم، فإنْ جالَسْتَ واحداً منهم فأنت مصيب، وإن جالَسْتَ الجماعة فأنت مصيب. وأمَّا قوله "فالأحسن أن تكون "أو" فيه للتفصيل" فقد سَبَقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال: و "أو" هنا بمعنى الواو لتفصيل مذاهبهم أو لاختلاف أماكنها، وقد ذكرناه في قوله {كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى}. وقال ابن عطية ردَّاً على هذا القول أعني كون الحوايا نسقاً على شحومهما: "وعلى هذا تدخل الحوايا في التحريم، وهذا قولٌ لا يعضُده لا اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه" ولم يبيِّن وجهَ الدفع فيهما. الثالث: أن "الحوايا" في محل نصب عطفاً على المستثنى وهو ما حَمَلَتْ ظهورُهما كأنه قيل: إلا ما حملت الظهور أو إلا الحوايا(1/2639)
(7/29)
---
أو إلا ما اختلط، نقله مكي، وأبو البقاء بدأ به ثم قال: "وقيل: هو معطوف على الشحوم". ونقل الواحدي عن الفراء أنه قال: "يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن يريد أو شحوم الحوايا فيحذف الشحوم ويكتفي بالحوايا كما قال تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يريد أهلها، وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيد أنه قال: قلت للفراء: هو بمنزلة قول الشاعر:
2113- لا يَسْمعُ المرءُ فيها ما يُؤَنِّسُهُ * بالليل إلا نئيمَ البُوْمِ والضُّوَعا
فقال لي: نعم، يذهب إلى أن "الضوع" عطف على "النئيم" ولم يعطف على "البوم"، كما عُطِفت الحوايا على "ما" ولم تعطف على الظهور. قلت: فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون "الحوايا" عطفاً على "ما" المستثناة، وفي معنى ذلك قَلَقٌ بَيِّنٌ.
هذا ما يتعلق بإعرابها، وأما ما يتعلق بمدلولها فقيل: هي المباعر، وقيل: المصارين والأمعاء، وقيل: كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار، وقيل: هي الدوارة التي في بطن الشاة. والختُلِفَ في مفرد "الحوايا" فقيل: حاوية كضاربة وقيل: حَوِيَّة كطريفة وقيل: حاوياء كقاصِعاء. وقد جوَّز الفارسي أن يكون جمعاً لكل واحد من الثلاثة يعني أنه صالح لذلك. وقال ابن الأعرابي: هي الحَوِيَّة والحاوية ولم يذكر الحاوياء. وذكر ابن السكيت الثلاثة فقال "يقال: حاوية وحوايا مثل زاوية وزوايا، وراوية وروايا" ومنهم من يقول حَوِيَّة وحوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويُركب فوقها، ومنهم مَنْ يقول لواحدتها "حاوياء" وأنشد قول جرير:
2114- تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ * في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعارِ
وأنشد أبو بكر ابن الأنباري:
2115- كأنَّ نقيق الحَبّ في حاويائه * فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارب
(7/30)
---(1/2640)
فإن كان مفردها حاوية فوزنُها فواعل كضاربة وضوارب ونظيرها في المعتل: زاوية وزوايا وراوية وروايا، والأصل حواوي كضوارب فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها تالي حرفي لين اكتنفا مدة مَفاعِل، فاسْتُثقِلت همزة مكسورة فقُلِبَتْ ياءً فاستثقلت الكسرة على الياء فجُعِلَتْ فتحة، فتحرك حرف العلة وهو الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحةٍ فقُلِبَتْ ألفاً فصارت حوايا، وإن شئت قلت: قُلِبَتْ الواو همزة مفتوحة فتحرَّكَتْ الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فصارت همزة مفتوحة بين ألفَيْن يشبهانها فقلبت الهمزة ياء، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} / واختلافُ أهل التصريف في ذلك، وكذلك إذا قلنا مفردها "حاوياء" كان وزنها فواعل أيضاً كقاصِعاء وقواصِع وراهِطاء ورواهِط، والأصل حواوي أيضاً فَفُعِل به ما فُعل فيما قبله، وإن قلنا إن مفردها حَوِيَّة فوزنها فعائل كطرائف، والأصل حوائي فقُلِبت الهمزةُ ياءً مفتوحة، وقُلبت الياء التي هي لام ألفاً فصار اللفظ "حوايا" أيضاً فاللفظُ متَّحد والعمل مختلف.
وقوله "أو ما اختلط بعظم" فيه ما تقدَّم في حوايا، ورأى الفراء فيه أنه منصوبٌ نَسَقاً على "ما" المستثناة في قوله "إلا ما حَمَلَتْ ظهورهما" والمراد به الأَلْيَة وقيل: هو كلُّ شحمٍ في الجَنْب والعين والأذن والقوائم.
(7/31)
---(1/2641)
قوله: {ذالِكَ جَزَيْنَاهُم} فيه أوجهٌ أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك، قاله الحوفي ومكي وأبو البقاء. الثاني: أنه مبتدأ، والخبر ما بعده، والعائد محذوف، أي: ذلك جزيناهموه، قاله أبو البقاء وفيه ضعف، من حيث إنه حَذَفَ العائد المنصوب وقد تقدَّم ما في ذلك في المائدة عند قوله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون}، وأيضاً فقدَّر العائد متصلاً، وينبغي أن لا يُقَدَّر إلا منفصلاً ولكنه يشكل حَذْفُه وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وقال ابن عطية: "ذلك في موضع رفع" ولم يبيِّنْ على أي الوجهين المتقدمين وينبغي أن يُحْمَلَ على الأول لضعف الثاني. الثالث: أنه منصوب على المصدر، وهو ظاهر كلامِ الزمخشري فإنه قال: "ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم الطيبات". إلا أن هذا قد ينخدش بما نقله ابن مالك وهو أن المصدر إذا أشير إليه وَجَبَ أن يُتْبع بـ "ذلك" المصدرُ فيقال: "ضربت ذلك الضرب" و "قمت هذا القيام" ولو قلت: "ضربت زيداً ذلك" و "قمت هذا" لم يَجُزْ، ذكر ذلك في الرد على من أجاب عن قول المتنبي:
2116- هذي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رسيسا * ثم انصرفْتِ وما شَفَيْتِ نسيا
فإنهم لَحَّنوا المتنبي من حيث إنه حذف حرف النداء من اسم الإِشارة إذ الأًلأ: يا هذي، فأجابوا عنه بأنَّا لا نُسَلِّم أن "هذي" منادى بل إشارةٌ إلى المصدر كأنه قال: بَرَزْتِ هذي البَرْزة. فردَّ ابن مالك هذا الجواب بأنه لا يَنْتَصِبُ اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر إلا وهو متبوع بالمصدر. وإذا سُلِّم هذا فيكون ظاهر قول الزمخشري "إنه منصوب على المصدر" مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بيت أبي الطيب، إلا أنَّ رَدَّ ابن مالك ليس بصحيح لورود اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر غيرَ متبوع به، قال الشاعر:
2117- يا عمرُو إنك قد مَلِلْت صَحابتي * وصحابَتيك إخالُ ذاك قليلُ
قال النحويون: "ذاك" إشارة إلى مصدر "خال" المؤكِّد له، وقد أنشده هو على ذلك.
(7/32)
---(1/2642)
الرابع: أنه منصوب على أنه مفعولٌ ثانٍ قُدِّم على عامله لأنَّ "جزى" يتعدَّى لاثنين، والتقدير: جَزَيْناهم ذلك التحريم. وقال أبو البقاء ومكي: إنه في موضع نصب بجَزَيْناهم، ولم يُبَيِّنا على أي وجه انتصب: هل على المفعول الثاني أو المصدر؟
وقوله {لَصَادِقُونَ} معمولُه محذوفٌ أي: لصادقون في إتمام جزائهم في الآخرة إذ هو تعريضٌ بكذبهم حيث قالوا: نحن مُقْتدون في تحريم هذه الأشياءِ بإسرائيل والمعنى: لَصادقون في إخبارنا عنهم ذلك، ولا يقدَّر له معمول أي: من شأننا الصدق. و الضمير في "كذَّبوك" الظاهر عَوْدُه على اليهود لأنهم أقرب مذكور. وقيل: يعود على المشركين لتقدُّم الكلام معهم في قوله {نَبِّئُونِي بِعِلْم} و {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء}.
* { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }
وقوله تعالى: {ذُو رَحْمَةٍ}: جيء بهذه الجملة اسمية وبقوله {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} فعليةً تنبيهاً على مبالغة سَعَة الرحمة، لأن الاسمية أدلُّ على الثبوت والتوكيد من الفعلية. وقوله: {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يحتمل أن يكون مِنْ وَضْع الظاهر موضعَ المضمر تنبيهاً على التسجيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَدُّ بأسُه عنكم. وقال أبو البقاء: "فإن كَذَّبوك" شرط، جوابه "فقل ربكم ذو رحمة واسعة" والتقدير: فقل يصفح عنكم بتأخير العقوبة، وهذا تفسير معى لا إعراب.
* { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }
(7/33)
---(1/2643)
وقوله تعالى: {وَلاَ آبَاؤُنَا}: عطف على الضمير المرفوع المتصل / ولم يأتِ هنا بتأكيد بضمير رفع منفصل ولا فاصل بين المتعاطفين اكتفاءً بوجود "لا" الزائدة للتأكيد فاصلة بين حرف العطف والمعطوف، وهذا هو على قواعد البصريين. وأمَّا الكوفيون فلا يشترطون شيئاً من ذلك وقد تقدَّم إتقان هذه المسألة.
وفي هذه الآية لم يُؤَّكَّد الضمير وفي آية النحل أكَّد فقال تعالى: {مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاا آبَاؤُنَا}، وهناك أيضاً قال "من دونه" مرتين وهنا قالها مرة واحدة فقال الشيخ: "لأنَّ لفظَ العبادة يَصِحُّ أن ينسب إلى إفراد الله بها، وهذا ليس بمستنكرٍ، بل المستنكرُ عبادةُ غير الله أو شيء مع الله فناسب هنا ذكر "من دونه" مع العبادة، وأمَّا لفظ "ما أشركنا" فالإِشراك يدلُّ على إثبات شريك فلا يتركَّب مع هذا الفعلِ لفظُ "من دونه" لو كان التركيب في غير القرآن "ما أشركنا مِنْ دونه" لم يصِحَّ المعنى، وأمَّا "من دونه" الثانية فالإِشراك يدلُّ على تحريم أشياء وتحليل أشياء فلم يَحْتَجْ إلى لفظ "من دونه" وأمَّا لفظ العبادة فلا يدلُّ على تحريم شيء كما يدل عليه لفظ "أشرك" فقيَّد بقوله "من دونه"، ولمَّا حَذَفَ "مِنْ دونِه" هنا ناسب أن يحذف "نحن" ليطَّرِدَ التركيب في التخفيف". قلت: وفي هذا الكلام نظرٌ لا يَخْفى. وقوله "من شيء": "مِنْ" زائدة في المفعول أي: ما حَرَّمنا شيئاً، و "مِنْ دونه" متعلق بحرَّمْنا أي: ما حرَّمنا من غير إذنه لنا في ذلك. و "كذلك" نعت لمصدر محذوف أي: مثل التكذيب المشار إليه في قوله "فإن كَذَّبوك". وقرئ "كَذَب" بالتخفيف.
(7/34)
---(1/2644)
وقوله: {حَتَّى ذَاقُواْ} جاء به لامتداد التكذيب أو الكذب، وقوله "مِنْ علم": يحتمل أن يكون مبتدأ و "عندكم" خبر مقدم، وأن يكون فاعلاً بالظرف لاعتماده على الاستفهام، و "مِنْ" زائدة على كلا التقديرين. وقرأ النخعي وابن وثاب "إن يتَّبعون" بياء الغيبة، قال ابن عطية: "وهذه قراءة شاذة يُضَعِّفها قولُه {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} يعني أنه أتى بعدها بالخطاب فبَعُدَتْ الغيبةُ. وقد يُجاب عنه بأن ذلك من باب الالتفات.
* { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }
وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ}: بين "قل" وبين "فللّه" شيء محذوف، فقدَّره الزمخشري شرطاً جوابه: فلله. قال: "فإن كان الأمرُ كما زعمتم مِنْ كونكم على مشيئة الله فلله الحجة". وقَدَّره غيره جملةً اسمية والتقدير: قل أنتم لا حُجَّةَ لكم على ما ادَّعَيْتُمْ فلله الحجة البالغة عليكم.
* { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
(7/35)
---(1/2645)
قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ}: "هلمَّ" هنا اسم فعل بمعنى أحْضِروا، و "شهداءَكم" مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تَعَدٍّ ولُزوم. واعلم أنَّ "هلمَّ" فيها لغتان لغةُ الحجازيين ولغة التميميين: فأمَّا لغة الحجاز فإنها فيها بصيغةٍ واحدةٍ سواء أُسْنِدَتْ لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث نحو: هلمَّ يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيُّرِها، والتزمت العرب فَتْحَ الميم على هذه اللغة وهي حركة بناء بُنِيت على الفتح تخفيفاً، وأمَّا لغة تميم وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تَلْحق سائر الأفعال فيُقال: هلمَّا هلمُّوا هلمِّي هَلْمُمْن. وقال الفراء: "يقال هَلُمِّين يا نسوة" وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرَّف. هذا قول الجمهور، وقد خالفَ بعضُهم في فعليَّتها على هذه اللغة وليس بشيء، والتزمت العرب أيضاً فيها على لغة تميم فَتْحَ الميم إذا كانت مسندةً لضمير الواحد المذكر، ولو يُجيزوا فيها ما أجازوا في ردَّ وشدَّ من الضم والكسر.
(7/36)
---(1/2646)
واختلف النحويون فيها: هل هي بسيطة أو مركبة؟ ثم القائلون بتركيبها اختلفوا فيما رُكِّبت منه: فجمهور البصريين على أنها مركبة من "ها" التي للتنبيه، ومن "المم" أمراً مِنْ لَمَّ يَلُمُّ، فلما ركِّبتا حُذِفَتْ ألف "ها" لكثرة الاستعمال، وسقطت همزة الوصل للاستغناء عنها بحركة الميم المنقولة إليها لأجل الإِدغام، وأدغمت الميم في الميم، وبُنيت على الفتح فقيل: بل نُقِلت حركة الميم للام فسقطت الهمزةُ للاستغناء عنها فلما جيء بـ "ها" التي للتنبيه التقى ساكنان: ألف ها واللام مِنْ "لَمَّ" لأنها ساكنة تقديراً، ولم يَعْتَدُّوا بهذه الحركة لأنَّ حركة النقل عارضة، فحذفت ألفُ "ها" لالتقاء الساكنين تقديراً. وقيل: بل حذفت ألف "ها" لالتقاء الساكنين، وذلك أنه لَمَّا جيء بها مع الميم سَقَطَتْ همزة الوصل في الدرج فالتقى ساكنان: ألف "ها" ولام "المم" / فحُذِفت ألف "ها" فبقي هَلْمُم، فنُقِلَتْ حركة الميم إلى اللام وأدغمت. وذهب بعضهم إلى أنها مركبة من "ها" التي للتنبيه أيضاً ومن "لَمّ" أمراً مِنْ "لَمَّ الله شَعْثَه" أي جمعه، والمعنى عليه في هلم، لأنه بمعنى: اجمع نفسك إلينا، فحُذِفت الف "ها" لكثرة الاستعمال، وهذا سهلٌ جداً، إذ ليس فيه إلا عملٌ واحد هو حَذْفُ ألف "ها" وهو مذهب الخليل وسيبويه. وذهب الفراء إلى أنها مركبة من هل التي للزجر ومن أمّ أمراً من الأَمّ وهو القصد، وليس فيه إلا عملٌ واحد وهو نقل حركة الهمزة إلى لام هل. وقد رُدَّ كل واحد من هذه المذاهب بما يطول الكتاب بذكره من غير فائدة. و "هَلُمَّ" تكون متعدية بمعنى أَحْضِر، ولازمةً بمعنى أقبلْ، فمَنْ جَعَلَها متعدية أخذها مِن اللَّمِّ وهو الجمع، ومَنْ جَعَلَها قاصرةً أخذها من اللَّمَمِ وهو الدنو والقرب.
(7/37)
---(1/2647)
* { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ}: في "ما" هذه ثلاثة أوجه أظهرها: أنها موصولةً بمعنى الذي والعائد محذوف أي: الذي حَرَّمه، والموصول في محل نصب مفعولاً به. والثاني: أن تكون مصدريةً أي: حَرَّمه، والموصول في محل نصب مفعولاً به. والثاني: أن تكون مصدريةً أي: أتل تحريم ربكم، ونفس التحريم لا يُتْلَى وإنما هو مصدرٌ واقع موقع المفعول به أي: أتلُ مُحَرَّم ربكم الذي حرَّمه هو. والثالث: أنها استفهامية في محل نصب بحرَّم بعدها، وهي مُعَلِّقة لأتْل والتقدير: أتل أيَّ شيء حرَّم ربكم، وهذا ضعيف لأنه لا تُعَلَّقُ إلا أفعالُ القلوب وما حُمِل عليها. وأمَّا "عليكم" ففيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بَحَرَّم، وهذا اختيار البصريين. والثاني: أنه متعلق بأَتْلُ وهو اختبار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإِعمال، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمالُ الثاني، واختيارَ الكوفيين إعمالُ الأول.
(7/38)
---(1/2648)
قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} فيه أوجه أحدها: أنَّ "أَنْ" تفسيرية لأنه تَقَدَّمَها ما هو بمعنى القول لا حروفه و "لا" هي ناهية و "تشركوا" مجزومٌ بها، وهذا وجهٌ ظاهر، وهو اختيار الفراء قال: "ويجوزُ أن يكون مجزوماً بـ "لا" على النهي كقولك: أمرتك أَنْ لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم. ثم قال: والجزم في هذه الآية أحبُّ إليَّ كقوله تعالى: {أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} قلت: يعني فعطفُ هذه الجملة الأمرية يُقَوِّي أنَّ ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام، وهو اختيار الزمخشري أيضاً فإنه قال: "وأَنْ في "أن لا تشركوا"مفسرة و "لا" للنهي" ثم قال بعد كلام: "فإن قلت: إذا جعلت "أن" مفسرةً لفعل التلاوة وهو معلَّق بما حرَّم ربكم وَجَبَ أَنْ يكون ما بعده منهيَّاً عنه مُحَرَّماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرفُ النهي فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لَمَّا وَرَدَت هذه الأوامرُ مع النواهي، وتقدَّمهن جميعاً فعلُ التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه عُلم أن التحريمَ راجعٌ إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين، وبَخْسُ الكيل والميزان، وتَرْكُ العدلِ في القول، ونكثُ العهد".
(7/39)
---(1/2649)
قال الشيخ: "وكونُ هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم، وكونُ التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيدٌ جداً وإلغازٌ في التعامي ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك". قلت: ما استبعده ليس ببعيدٍ وأين الإِلغاز والتعمِّي من هذا الكلامِ حتى يرميَه به. ثم قال الشيخ: "وأمَّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حَيِّز "أن" التفسيرية، بل هي معطوفة على قوله {تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ}، أمرهم أولاً بأمرٍ يترتب عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح. والثاني: أن تكون الأوامر معطوفةً على المناهي وداخلةً تحت "أن" التفسيرية، ويصحُّ ذلك على تقدير محذوف تكون "أن" مفسرةً له وللمنطوق قبله الذي دلَّ على حَذْفِه، والتقدير: وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حَرَّم عليه، لأن معنى ما حَرَّم ربكم: ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى: تعالوا أتلُ ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون "أن" تفسيرية لفعل / النهي الدالِّ عليه التحريمُ وفعل الأمر المحذوف، ألاى ترى أنه يجوز أن تقول: "أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً" إذ يجوز أن يُعْطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال:
2118- ................ * يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ
وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإنَّ في جواز العطف فيها خلافاً" انتهى.
(7/40)
---(1/2650)
الثاني: أن تكون "أَنْ" ناصبةً للفعل بعدها، وهي وما في حَيِّزها في محل نصب بدلاً من "ما حرم". الثالث: أنها الناصبة أيضاً وهي وما في حَيِّزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير: ما حَرَّمه، وهو في المعنى كالذي قبله. و "لا" على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ} و {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ}. قال الشيخ: "وهذا شعيف لانحصار عموم المُحَرَّمِ في الإِشراك، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً في المُحَرَّم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادِّعاء زيادة "لا" فيه لظهور أنَّ "لا" فيه للنهي". ولمَّا ذكر مكي كونَها بدلاً مِنْ "ما حرم" لم ينبِّه على زيادة "لا" ولا بد منه. وقد منع الزمخشري أن تكون بدلاً مِنْ "ما حرم" فقال: "فإن قلت: هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت "أن لا تشركوا" بدلاً من "ما حرم". قلت: وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله "بالوالدين إحساناً"؛ لأنَّ التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وأَوْفوا وإذا قلتم فاعدِلوا، وبعهد الله أَوْفوا". فإن قلت: فما تصنع بقوله {وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} فيمَنْ قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفُه على "أَنْ لا تشركوا" إذا جعلت "أن" هي الناصبة حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفي الإِشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت: أجعل قولَه "وأن هذا صراطي مستقيماً" علةً للاتِّباع بتقدير اللام كقوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي أنه مستقيم".
(7/41)
---(1/2651)
واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو "فإن قلت: هَلاَّ قلت هي الناصبة" إلى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} فقال: "لا يتعيَّنْ أن تكونَ جميعُ الأوامر معطوفة على ما دخل عليه "لا" لأنَّا بيَّنَّا جواز عطف "وبالوالدين إحساناً" على "تعالَوا" وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله "وبالوالدين إحساناً" معطوفاً على أن لا تشركوا".
الرابع: أن تكون "أَنْ" الناصبة وما في حَيِّزها منصوبةً على الإِغراء بـ "عليكم"، ويكون الكلامُ الأول قَدْ تمَّ عند قوله "ربكم"، ثم ابتدأ فقال: عليكم أن لا تشركوا، أي: الزموا نفي الإِشراك وعدمه، وهذا - وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري - ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذهن.
الخامس: أنها وما في حَيِّزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير: أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا، وهذا منقول عن أبي إسحاق، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمرٌ معطوف بالواو ومناهٍ معطوفة بالواو أيضاً فلا يناسب أن يكونَ تبييناً لِما حرَّم، أمَّا الأمرُ فمِنْ حيث المعنى، وأمَّا المناهي فمِنْ حيث العطف.
السادس: أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمارٍ فعلٍ تقديره: أوصيكم أن لا تشركوا؛ لأن قوله "وبالوالدين إحساناً" محمول على أوصيكم بالوالدين إحساناً، وهو مذهب أبي إسحاق أيضاً.
السابع: أن تكون "أَنْ" وما في حَيِّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: المُحَرَّمُ أن لا تشركوا، أو المتلوُّ أن لا تشركوا، إلا أن التقدير بنحو المتلوّ أحسنُ؛ لأنه لا يُحْوج إلى زيادة "لا"، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى.
(7/42)
---(1/2652)
الثامن: أنها في محل رفع أيضاً على الابتداء، والخبر الجارُّ قبله والتقدير: عليكم عَدَمُ الإِشراك، ويكون الوقف على قوله "ربكم" كما تقدَّم في وجه الإِغراء، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال: "ويجوز أن يكونَ في موضع رفع بـ "على" كما تقول: عليكم الصيام والحج".
التاسع: أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارِّ قبلها، وهو ظاهر قول ابن الأنباري المتقدم، والتقدير: استقرَّ / عليكم عدم الإِشراك. وقد تحصَّلت في محل "أن لا تشركوا" على ثلاثة أوجه، الرفع والنصب والجر، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدَّم تحريرها.
و "شيئاً" فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول به. والثاني: أنه مصدر أي إشراكاً أي: شيئاً من الإِشراك.
وقوله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} تقدم تحريره في البقرة.
قوله: {مِّنْ إمْلاَقٍ} "مِنْ" سببية متعلقة بالفعل المنهيّ عنه أي: لا تقتلوا أولادَكم لأجل الإِملاق. والإِملاق: الفقر في قول ابن عباس. وقيل: الجوع بلغة لخم، نقله مؤرج. وقيل: الإِسراف، أَمْلق أي: أسرف في نفقته، قاله محمد بن نعيم الترمذي. وقيل الإِنفاق، أملق مالَه أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد. والإِملاق: الإِفساد أيضاً قاله شمر، قال: "وأَمْلَقَ يكون قاصراً ومتعدياً، أَمْلَقَ الرجل: إذا افتقر فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر أي: أفسده" وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر.
2119- ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي * وأملق ما عندي خطوبُ تَنَبَّلُ
أي: تَذْهب بالمال. تَنَبَّلَتْ بما عندي: أي ذهبت به.
(7/43)
---(1/2653)
وفي هذه الآية الكريمة {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فقدَّم المخاطبين، وفي الإِسراء قَدَّمَ ضمير الأولاد عليهم فقال {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} فقيل: للتفنُّنِ في البلاغة. وأحسن منه أن يقال: الظاهر من قوله "من إملاق" حصول الإِملاق للوالد لا توقُّعُه وخشيته فبُدِئ أولاً بالعِدَةِ برزق الآباء بشارةً لهم بزوال ما هم فيه من الإِملاق، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم مُوْسرون وإنما يخشَوْن حصول الفقر ولذلك قال: خَشْيَةَ إملاقٍ، وإنما يُخْشى الأمور المتوقعة فبُدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم، فهذه الآية تفيد النهيَ للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبِّسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد.
قوله {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} في محل نصب بدلاً من الفواحش بدلَ اشتمال أي: لا تَقْرَبوا ظاهرها وباطنها كقولك: ضربْتُ زيداً ما ظهر منه وما بطن، ويجوز أن تكون "مَنْ" بدل البعض من الكل. و "منها" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعل "ظهر". وحُذِفَ منها بعد قوله "بطن" لدلالة قوله "منها" في الأول عليه.
قوله {إِلاَّ بِالْحَقِّ} في محلِّ نصب على الحال من فاعل "تقتلوا" أي: لا تقتلوها إلا متلبِّسين بالحق، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أي: إلا قَتْلاً متلبِّساً بالحق، وهو أن يكون القتل للقِصاص أو للرِدَّة أو للزنا بشرطه كما جاء مبيَّناً في السنَّة. وقوله: "ولا تَقْتلوا" هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاص بعد العام اعتناءً بشأنه؛ لأن الفواحشَ يندرج فيها قَتْلُ النفسِ، فجرَّد منها هذا استفظاعاً له وتهويلاً، ولأنه قد استثنى منه في قوله "إلا بالحق" ولو لم يَذْكر هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاستثناء من عموم الفواحش، لو قيل في غير القرآن: "لا تَقْرَبوا الفواحشَ إلا بالحق" لم يكن شيئاً.(1/2654)
(7/44)
---
قوله {ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ} في محله قولان أحدهما: أنه مبتدأ، والخبر الجملة الفعلية بعده. والثاني: أنه في محل نصب بفعلٍ مقدَّر من معنى الفعل المتأخر عنه، وتكون المسألة من باب الاشتغال، و التقدير: ألزمكم أو كلَّفكم ذلك، ويكون "وصَّاكم به" مفسِّراص لهذا العامل المقدر كقوله تعالى: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، وناسب قوله هنا "لعلكم تعقلون" لأنَّ العقل مَنَاطُ التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة.
* { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: استثناء مفرغ أي: لا تَقْرَبُوه إلا بالخَصْلة الحسنى، فيجوز أن يكون حالاً، وأن يكون نعت مصدر، وأتى بصيغة التفضيل تنبيهاً على أنه يَتَحَرَّى في ذلك، ويَفْعل الأحسنَ ولا يَكْتفي بالحسن.
قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ} هذه غايةٌ من حيث المعنى فإن المعنى: احفظوا ما لَه حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ولو / جعلناه غاية للفظ كان التقدير: لا تقربوه حتى يبلغَ فاقربوه، وليس ذلك مراداً.
(7/45)
---(1/2655)
والأَشَدُّ: اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل: هو جمع لا واحد له، وهو قول الفراء فإنه قال: "الأشدُّ واحدها "شَدّ" في القياس ولم أسمع لها بواحد"، وقيل: هو مفردٌ لا جمعٌ، نقل ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة ذلك، وأنه بمنزلة الآنُك، ونَقَلَ الشيخ عنه أن هذا الوجه مختاره في آخرين، ثم قال: "وليس بمختار لفقدان أَفْعُل في المفردات وضَْعاً" وقيل: هو جمع "شِدَّة"، وفِعْلة يجمع على أَفْعُل كنِعْمَة وأنعُم، قاله أبو الهيثم وقال: "وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة، وكان الأصل نِعم وشِدّ فجمعا على أَفْعُل كما قالوا: رجل وأرجُل وقدح وأقْدُح وضِرس وأضرُس. وقيل: هو جمع شُد بضم الشين نقله ابن الأبناري عن بعض البصريين قال: "كقولك: هو وُدٌّ، وهم أَوَدّ. وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها وهو محتمل. والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحُلُمِ في قول الأكثر لأه مَظِنَّة ذلك. وقيل: هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة. وقيل: هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن يبلغ ثلاثة وثلاثين. وقيل: اربعين. وقيل: ستين، وهذه لا تليق بهذه الآية، إنما تليق بقوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}. والأَشَدُّ: مشتق من الشِدَّة وهي القوة والجَلادة، وأنشد الفراء:
2120- قد ساد وهو فتىً حتى إذا بلغت * أَشُدُّهُ وعلا في الأمر واجتمعا
وقيل: أصله من الارتفاع، مِنْ شَدَّ النهارُ إذا ارتفع وعلا، قال عنترة:
2121- عهدي به شَدَّ النهار كأنما * خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
(7/46)
---(1/2656)
والكَيْل والميزان: هما الآلة التي يُكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة. والميزان: مِفْعال من الوَزْن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يُستصبح به ويُقاس، وأصل ميزان مِوْزان ففُعِلَ به ما فُعِلَ بميقات وقد تقدم في البقرة. و "بالقسط" حال من فاعل "أَوْفوا" أي: أوفوهما مُقْسِطين أي: ملتبسين بالقسط، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي: أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامَّين. وقال أبو البقاء: "والكَيْلُ هنا مصدر في معنى المكيل، وكذلك الميزان. ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف، تقديره: مكيل الكيل وموزون الميزان"، ولا حاجة إلى ما ادَّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدراً إلا أنه يعضُد قولَه ما قاله الواحدي فإنه قال: "والميزان أي: وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان، كما أنه قال "وأَوْفوا الكيل" ولم يقل المِكْيال فهو من باب حذف المضاف" انتهى. والظاهرُ عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطْلق على نفس المكيال حتى يقول "ولم يقل المكيال".
قوله {لاَ نُكَلِّفُ} معترض بين هذه الأوامر، وقوله "ولو كان" أي: ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة. وقد تقدَّم نظير هذا التركيب مراراً. وقوله "وبعهدِ الله" يجوز أن يكونَ من باب إضافة المصدر لفاعله أي: بما عاهدكم الله عليه، وأن يكون مضافاً لمفعوله أي: بما عاهدتم الله عليه كقوله {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} {عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ} وأن تكن الإِضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمرُ بحفظه، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين.
(7/47)
---(1/2657)
وخُتِمَت هذه بالتذكُّر لأنَّ الأربعة قبلها خفيَّةٌ تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقفَ متعاطيها على العدل فناسبها التذكُّر، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة بحسبِ تعقُّلها وتفهُّمها فلذلك خُتِمَت بالفعل. وتَذَكَّرون حيث وقع يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتخفيف، و الباقون بالتشديد والأصل: تتذكرون، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إحدى الياءين، وهل هي تار المضارعة أو تاء التفعُّل؟ خلاف مشهور. ومَنْ ثقَّل أدغم التاء / في الذال.
قوله {وَأَنَّ هَاذَا} قرأ الأخوان بكسر "إن" على الاستئناف و "فاتبعوه" جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله "فاتبعوه"، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في "فاتَّبِعوه" كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي.
(7/48)
---(1/2658)
وقرأ ابن عامر "وأَنْ" بفتح الهمزة وتخفيف النون، و الباقون بالفتح أيضاً والتشديد. فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه، أحدها:- وهو الظاهر - أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي: أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي، والمراد بالمتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل، وهذا قول الفراء قال: "بفتح "أن" مع وقوع "أتلُ" عليها يعني: أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً. والثاني: أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاص على "أن لا تشركوا" إذا قلنا بأنَّ "أَنْ" المصدرية وأنها وما بعدها بدل من "ما حَرَّم" قاله الحوفي. الثالث: أنها علاى إسقاط لام العلة أي: ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ} قال أبو علي: "من فتح "أنَّ" فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على "فاتَّبعوه" والتقدير: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه كقوله: {وَأنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. قال سيبويه: "ولأن هذه أمتكم" وقال في قوله تعالى: "وأن المساجد لله": ولأن المساجد". قال بعضهم: وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ ... فَلْيَعْبُدُواْ}، والفاء على هذا كهي في قولك: زيداً فاضرب، ويزيد فامرر. وقد تقدم تقريره في البقرة. قال الفارسي: "قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في "زيد فقائم" قلت: سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به، بل قال به غيرُه. الرابع: أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في "به" أي: ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا، وهو قول الفراء أيضاً. وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما: العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار. والثاني: أنه يصير المعنى: وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ". قلت: والوجهان مردودان، أمَّا(1/2659)
(7/49)
---
الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال: "حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها". وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه.
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا: "أنْ" فيها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن أي: "وأنَّه" كقوله تعالى: {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ} وقوله:
2122- ............... * أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْفَى ويَنْتَعِلُ
وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة. و "مستقيماً" حال، العامل: إمَّا "ها" التنبيه، وإمَّا اسم الإِشارة، وفي مصحف عبدالله "وهذا صراطي" بدون "أنَّ" وهي قراءة الأعمش، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف.
قوله: {فَتَفَرَّقَ} منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على "فتفرق" بتاء خفيفة، والبزي بتشديدها، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين، ومَنْ شدَّد أدغم، وتقدم هذا آنفاً في {تَتَذَكَّرُونَ}. و "بكم" يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي: فيفرقكم، ويجوز أن تكون حالاً أي: وأنتم معها كقوله:
2123- .................. * تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا
وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار.
* { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيا أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }
(7/50)
---(1/2660)
قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا}: أصل "ثم" المهلة في الزمان، وقد تأتي للمهلة في الأخبار. وقال الزجاج: "هو معطوف على "أتل" تقديره: أتل ما حَرَّم ثم أتل آتينا، وقيل: هو عطف على "قل" على / إضمار قل أي: ثم قل آتينا. وقيل: تقديره ثم أخبركم آتينا. وقال الزمخشري: "عطف على وصَّاكم به". قال: "فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بـ ثم، والإِيتاء قبل التوصية به بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة لم يزل تتواصاها كل أمة على لسان نبيها فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ}. وقال ابن عطية: "مُهْلَتُها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال: ثم ممَّا وصَّيناه أنَّا آتينا موسى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمان على محمد عليه السلام". وقال ابن القشيري: "في الكلام محذوف تقديره: ثم كنَّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام". وقال الشيخ: "والذي ينبغي أن يُسْتعمل للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وبذلك قال بعض النحويين". قلت: وهذه استراحة، وأيضاً لا يلزمُ من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مُهْلَةٍ على أن الفرض في هذه الآية عدمُ الترتيب في الزمان.
قوله: {تَمَاماً} يجوز فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله أي: لأجل تمام نعمتنا. الثاني: أنه حال من الكتاب أي: حال كونه تماماً. الثالث: أنه نصب على المصدر لأنه بمعنى: آتيناه إيتاء تمامٍ لا نقصان. الرابع: أنه حال من الفاعل أي متمّين. الخامس: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، ويكون مصدراً على حذف الزوائد والتقدير: أممناه إتماماً.
(7/51)
---(1/2661)
و {عَلَى الَّذِيا} متعلق بـ "تماماً" أو بمحذوف على أنه صفة، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكِّداً فإنْ جُعِلَ تَعَيَّن جَعْلُه صفة.
و {أَحْسَنَ} فيه وجهان أظهرهما: أنه فعلٌ ماضٍ واقع صلةً للموصول، وفاعله مضمر يعود على موسى أي: تماماً على الذي أحسن، فيكون الذي عبارة عن موسى. وقيل: كل مَنْ أحسن. وقيل: "الذي" عبارة عن ما عمله موسى وأتقنه أي: تماماً على الذي أحسنه موسى. والثاني: أن "أحسن" اسم على وزن أفعل كأفضل وأكرم، واستغنى بوصف الموصول عن صلته، وذلك أن الموصول متى وُصِف بمعرفة نحو: "مررت بالذي أخيك"، أو بما يقارب المعرفة نحو: "مررت بالذي خيرٍ منك وبالذي أحسن منك" جاز ذلك واستغنى به عن صلته، وهو مذهب الفراء وأنشد:
2124- حتى إذا كانا هما اللَّذيْنِ * مثلَ الجَدِيْلَيْنِ المُحَمْلَجَيْنِ
بنصب مثل على أنه صلة لـ "اللذين" المنصوب على خبر كان. ويجوز أن تكون "الذي" مصدرية، وأحسن فعل ماض صلتها، والتقدير: تماماً على إحسانه أي إحسان الله إليه وإحسان موسى إليهم، وهو رأي يونس والفراء كقوله:
2125- فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حَسَنٍ * تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِرُوا
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا.
وفتحُ نون "أحسن" قراءة العامة. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق برفعها، وفيها وجهان، أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: على الذي هو أحسن، فحذف العائد، وإن لم تَطُل الصلة فهي شاذة من جهة ذلك، وقد تقدَّم ذلك بدلائله عند قوله: {مَّا بَعُوضَةً} فيمن رفع "بعوضة". والثاني: أن يكون "الذي" واقعاً موقع الذين، وأصل "أَحْسن" أَحْسَنوا بواو الضمير حُذِفَت الواو اجتزاءً بحركة ما قبلها، قاله التبريزي وأنشد:
2126- فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حولي * وكان مع الأطبار الأُساةُ
وقول الآخر:
2127- إذا ما شاءُ ضرُّوا مَنْ أرادوا * ولا يألوهُمُ أحدٌ ضِرارا
وقول الآخر:
2128- شَبُّوا على المجد وشابوا واكتهلْ
(7/52)
---(1/2662)
يريد: اكتهلوا فحذف الواو وسكن الحرف قبلها، وقد تقدَّم أبياتُ أُخَرُ كهذه في تضاعيف هذا التصنيف، ولكن جماهير النحاة تخصُّ هذا بضرورة الشعر /.
وقوله: "وتفصيلاً" وما عُطِف عليه منصوب على ما ذُكِر في "تماما".
* { وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قوله تعالى: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}: يجوز أن يكون كتاب وأنزلناه ومبارك إخباراً عن اسم الإِشارة عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الخبر مطلقاً، أو بالتأويل عند مَنْ لم يُجَوِّز ذلك. ويجوز أن يكون أنزلناه ومبارك وَصْفَيْن لكتاب عند مَنْ يجيز تقديمَ الوصف غير الصريح على الوصف الصريح. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في السورة قبلها في قوله {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، قال أبو البقاء: "ولو كان قُرِئ "مباركاً" بالنصب على الحال لجاز" ولا حاجة إلى مثل هذا وقُدِّم الوصف بالإِنزال لأن الكلام مع منكري أن الله ينزِّل على البشر كتاباً ويرسله رسولاً، وأمَّا وصفُه بالبركة فهو أمر متراخٍ عنهم، وجيء بصفة الإِنزال بجملةٍ فعلية أُسند الفعل فيها إلى ضمير المعظِّمِ نفسه مبالغة في ذلك بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.
* { أَن تَقُولُوااْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ }
(7/53)
---(1/2663)
قوله تعالى: {أَن تَقُولُوااْ}: فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول من أجله. قال الشيخ: "والعاملُ فيه "أنزلناه" مقدَّراً مدلولاً عليه بنفس "أنزلناه" الملفوظ به لئلا يلزمَ الفصلُ بين العامل ومعموله بأجنبي، وذلك أن "مبارك": إمَّا صفة وإمَّا خبر وهو أجنبي بكل من التقديرين، وهذا الذي مَنَعَه هو ظاهر قول الكسائي والفراء. والثاني: أنها مفعول به، والعامل فيه "واتقوا" أي: واتقوا قولكم كيت وكيت، وقوله "لعلكم ترحمون" معترضٌ جارٍ مجرى التعليل، وعلى كونه مفعولاً من أجله يكون تقديرُه عند البصريين على حذف مضاف تقديره: كراهةَ أن تقولوا، وعند الكوفيين يكون تقديره: أن لا تقولوا كقوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: أن لا تميد بكم وهذا مطَّردٌ عندهم في هذا النحوِ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقرا الجمهور "تقولوا" بتاء الخطاب وقرأه ابن محيصن "يقولوا" بياء الغيبة.
قوله: {وَإِنْ كُنَّا} "إنْ" مخففةٌ من الثقيلة عند البصريين، وهي هنا مهملةٌ ولذلك وَلِيَتْها الجملة الفعلية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأن الكوفيين يجعلونها بمعنى "ما" النافية، واللام بمعنى إلا، والتقدير: ما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال الزجاج بمثل ذلك، فنحا نحو الكوفيين. وقال قطرب: "إنْ" بمعنى قد واللام زائدة. وقال الزمخشري بعد أَنْ قَرَّر مذهب البصريين كما قدمته: "والأصل: إنَّه كنا عن عبادتهم" فقدَّر لها اسماً محذوفاً هو ضمير الشأن، كما يُقَدِّر النحويون ذلك في طأَنْ" بالفتح إذا خُفِّفَتْ، وهذا مخالف لنصوصهم وذلك أنهم نصُّوا على أنَّ "إنْ" بالكسر إذا خُفِّفت ولِيَتْها الجملة الفعلية الناسخة فلا عَمل لها لا في ظاهر ولا مضمر. و "عن دراستهم" متعلق بخبر "كنا" وهو "غافلين"، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى إلا، ولا يجوز أن يعمل ما بعد "إلا" فيما قبلها فكذلك ما هو بمعناها.
(7/54)
---(1/2664)
قال الشيخ: "ولهم أن يجعلوا "عنها" متعلقاً بمحذوف". وتقدَّم أيضاً خلاف أبي علي في أن هذه اللام ليست لامَ الابتداء بل لامٌ أخرى، "ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق فجاز أن يتقدَّم معمولُها عليها لمَّا وقعت في غير ما هو لها أصل، كما جاز ذلك في: "إنَّ زيداً طعامَك لآكل" حيث وقعت في غير ما هو لها أصلٌ، ولم يَجُز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ". وقال أبو البقاء: "واللام في "لغافلين" عوض أو فارقة بين إنْ وما" قلت: قوله "عوض" عبارة غريبة، وأكثر ما يقال إنها عوضٌ عن التشديد الذي ذهب من إنَّ، وليس بشيء.
* { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُواءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ }
وقوله تعالى: {فَقَدْ جَآءَكُمْ}: جواب شرط مقدر فقدَّره الزمخشري: إن صدقتم فيما كنتم تعدُّون من أنفسكم فقد جاءكم وهو من أحسن الحذوف" وقدَّره غيره: إن كنتم كما تزعمون أنكم إذا أنزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى فقد جاءكم. ولم يؤنث الفعل؛ لأن التأنيث مجازي وللفصل بالمفعول، و "من ربكم" يجوز أن يتعلق بجاءكم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "بيِّنة". وقوله: وهدىً ورحمةً محذوف بعدهما: من ربكم.
وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} الظاهر أنها جملة مستقلة. وقال بعضهم: هي جواب شرط مقدر تقديره: فإن كذَّبتم فلا أحدَ أظلمُ منكم.
(7/55)
---(1/2665)
والجمهور على "كذَّب" مشدداً، وبآيات الله متعلق به. وقرأ يحيى ابن وثاب وابن أبي عبلة "كَذَبَ" بالتخفيف، وبآيات الله يجوز أن يكون مفعولاً، وأن يكون حالاً / أي: كذَّب ومعه آيات الله. وصَدَفَ مفعوله محذوف أي: وصدف عنها غيرَه.و قد تقدم تفسير ذلك.
* { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلاائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيا إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُوااْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: تقدم أنه على حذف مضاف. وقرأ الأخوان: {إِلاَّ أَن يَأْتِيهُمُ الْمَلاائِكَةُ} بياء منقوطة من تحت لأن التأنيث مجازي وهو نظير {فناداه الملائكة}. وأبو العالية وابن سيرين: "يوم تأتي بعض" بالتأنيث كقوله {تَلْتَقِطْه بعضُ السيَّارة}.
قوله: {يَوْمَ يَأْتِي} الجمهور على نصب "اليومَ"، وناصبه ما بعد "لا"، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في "لا" وهي أنها يتقدم معمول ما بعدها عليها مطلقاص، ولا يتقدَّم مطلقاص، ويُفَصَّل في الثالث: بين أن يكون جواب قسم فيمتنع، أو لا فيجوز. وقرأ زهير الفرقبي "يومُ" بالرفع وهو مبتدأ، وخبره الجملة بعده، والعائد منها إليه محذوف اي: لا تنفع فيه.
وقرأ الجمهور "ينفع" بالياء من تحت. وقرأ ابن سيرين: تنفع بالتاء من فوق. قال أبو حاتم: "ذكروا أنه غلط". قلت: وذلك لأن الفعل مسند لمذكر، وجوابه أنه لما اكتسب بالإِضافة التأنيث أجرى عليه حكمه كقوله:
2129- وتَشْرَق بالقول الذي قد اَذَعْتَهُ _
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا في أول السورة، وأنشد سيبويه على ذلك:
2130- مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تسفَّهَتْ * أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ
(7/56)
---(1/2666)
وقيل: لأن الإِيمان بمعنى العقيدة فهو كقولهم: "أتته كتابي فاحتقرها" أي: صحيفتي ورسالتي. وقال النحاس: "في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه: وذلك أن الإِيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنَّث الإِيمان إذ هو من النفس وبها". وأنشد سيبويه "مَشَيْن كما اهتزَّت" البيت. وقال الزمخشري في هذه القراءة "لكون الإِيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم: "ذهبت بعض أصابعه". قال الشيخ: "وهو غلطٌ؛ لأن الإِيمان ليس بعضاً للنفس" قلت: قد تقدَّم آنفاً ما يَشْهد لصحة هذه العبارة من كلام النحاس في قوله عن سيبويه: "وذلك أنَّ الإِيمان والنفس كلٌّ منهما مشتملٌ على الآخر، فَأَنَّثَ الإِيمانَ إذ هو من النفس وبها" فلا فرقَ بين هاتين العبارتين، أي لا فرق بين أن يقولَ هو منها وبها أو هو بعضها، والمرادُ في العبارتين المجازُ.
قوله: "لم تكنْ آمَنَتْ" في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنها في محل نصب لأنها نعتٌ لنفساً، وفَصَل بالفاعل وهو "إيمانها" بين الصفة وموصوفها لأنه ليس بأجنبي، إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز: "ضرب هنداً غلامُها القرشية" وقوله "أو كسبت" عطف على "لم تكن آمنت".
(7/57)
---(1/2667)
وفي هذه الآية بحوثٌ حسنة تتعلق بعلم العربية، وعليها تُبْنى مسائل من أصول الدين، وذلك أن المعتزلي يقول: مجردُ الإِيمان الصحيح لا يكفي بل لا بد من انضمام عَمَلٍ يقترن به ويصدِّقه، واستدل بظاهر هذه الآية، وذلك كما قال الزمخشري "لم تكنْ آمَنَتْ من قبلُ" صفة لقوله "نفساً" وقوله "أوكسبت في إيمانها خيراً" عُطِفت على "آمنت" والمعنى: أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آياتٌ مُلْجئةٌ مضطرة ذهب أوانُ التكليف عندها فلم ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غيرَ مقدِّمَةٍ إيمانَها قبل ظهور الآيات أو مقدِّمةً إيمانَها غير كاسبة خيراً في إيمانها، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإِيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله {الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} جَمْعٌ بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوزَ صاحبُهما ويَسْعَدَ، وإلا فالشِّقوة والهلاك". وقد أجاب الناس عن هذا الظاهر بأن المعنى بالآية الكريمة: أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك، ولا ينفع نفساً سَبْقُ إيمانها وما كسبت فيه خيراً، فقد عَلَّق نفع نفي الإِيمان بأحد وصفين: "إمَّا نفي سبق الإِيمان فقط وإمَّا سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإِيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير، ومفهوم الصفة قوي فيُسْتدل بالآية لمذهب أهل السنة فقد قَلَبوا دليلهم دليلاً عليهم.
(7/58)
---(1/2668)
وقد أجاب القاضي ناصر الدين بن المنيّر عن قول الزمخشري فقال: "قال أحمد: هو يرومُ الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوّى في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتمُّ ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ باللفِّ وأصله: يوم يأتي بعض ىيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعدُ ولا نفساً لم تكسب خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعدُ، فلَّف الكلامَيْن فجعلهما كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغةً، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتسابُ الخير وإن نفع الإِيمان المتقدم من الخلود، فهي بالردِّ على مذهبه أَوْلى من أن تدلَّ له"/.
الثاني: أن هذه الجملةَ في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، قاله أبو البقاء يعني من "ها" في إيمانها. الثالث: أن تكون مستأنفة. وبهذا بدأ أبو البقاء وثَّنى بالحال، وجعل الوصفَ ضعيفاً كأنه استشعر ما ذكره الزمخشري ففرَّ مِنْ جَعْلها نعتاً، والشيخ جعل الحال بعيداً والاستئناف أبعد منه.
* { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
وقرأ الأخوان: {فَارَقُوا}: من المفارقة وفيها وجهان أحدهما: أن فاعَلَ بمعنى فَعَّل نحو: ضاعَفْتُ الحساب وضعَّفْتُه. وقيل: هي من المفارقة، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق الدين القيم. وقرأ الباقون فرَّقوا بالتشديد. وقرأ الأعمش وأبو صالح وإبراهيم فَرَقوا مخف الراء. قال أبو البقاء: "وهو بمعنى المشدد، ويجوز أن يكون بمعنى فَصَلثوه عن الدين الحق" وقد تقدم معنى الشيع.
وقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ} في محل رفع خبراص لإِنَّ، و "منهم" هو خبر "ليس" إذ به تتمُّ الفائدة كقول النابغة:
2131- إذا حاولْتَ في أسد فُجورا(1/2669)
(7/59)
---
ونظيره في الإِثبات: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وعلى هذا فيكون "في شيء" متعلقاً بالاستقرار الذي تعلق به منهم أي: لست مستقراً منهم في شيء أي: مِنْ تفريقهم. ويجوز أن يكون "في شيء" الخبر و "منهم" حال مقدمة عليه، وذلك على حذف مضاف أي: لست في شيء كائن من تفريقهم، فلمَّا قُدِّمت الصفة نصبت حالاً.
* { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: إنما ذكَّر العددَ والمعدودُ مذكَّر لأوجه منها: أنَّ الإِضافة لها تأثيرٌ كما تقدَّم غيرَ مرة فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث فأُعطي حكمَ المؤنث من سقوط التاء من عدده؛ ولذلك يؤنث فعلُه حالةَ إضافتهِ لمؤنث نحو: "تلتقطه بعض السيارة"، [وقوله]:
2132- ................ * كما شَرِقت صدرُ القَنَاةِ .....
[وقوله]:
2133- ................... * تسفَّهت أعاليَها مرُّ الرياح...
إلى غير ذلك مما تقدم تحقيقه. ومنها: أن هذا المذكر عباة عن مؤنث، فروعي المراد دون اللفظ وعليه قوله:
2134- وإنَّ كلاباً هذه عشرُ أَبْطُنٍ * وأنت برئ من قبائلها العشرِ
لم يُلْحِق التاء في عدد أبطن وهي مذكرة لأنها عبارة عن مؤنث وهي القبائل فكأنه قيل: وإن كلاباً هذه عشر قبائل، ومثله قول عمر ابن أبي ربيعة:
2135- وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنت أتَّقي * ثلاثُ شُخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ
لم يُلحِق التاء في عدد "شخوص" وهي مذكرة لَمَّا كانت عبارة عن النسوة، وهذا أحسنُ مما قبله للتصريح بالمؤنث في قوله: كاعبان ومعصر، وهذا كما أنه إذا أريد بلفظ مؤنث معنى مذكر فإنهم ينظرون إلى المراد دون اللفظ فيُلْحقون التاء في عدد المؤنث، ومنه قول الشاعر:
2136- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذُوْدٍ * لقد جار الزمانُ على عِيالي
(7/60)
---(1/2670)
فألحق التاءَ في عدد "أنفس" وهي مؤنثة لأنها يراد بها ذكور، ومثله: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} في أحد الوجهين وسيأتي إن شاء الله في موضعه.
ومنها: أنه راعى الموصوف المحذوف والتقدير: فله عشرُ حسناتٍ أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقام صفته مُقامَه تاركاً العدد على حاله، ومثله "مررت بثلاثة نسابات" ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاةً للموصوف المحذوف، إذ الأصل: بثلاثة رجال نسابات. وقال أبو علي: "اجتمع ههنا أمران كلُّ منهما يوجب التأنيث، فلمَّا اجتمعا قوي التأنيث، أحدهما: أن الأمثالَ في المعنى "حسنات" فجاز التأنيثُ كقوله:
2137- .................. * ثلاثُ شخوصٍ كاعبان ومعصر
أراد بالشخوص النساء، الآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنَّث وإن كان مذكراً كقول من قال: "قُطِعَتْ بعض أصابعه" {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ
}. وقرأ يعقوب والحسن وسعيد بن جبير والأعمش وعيسى بن عمر بالتنوين "أمثالُها" بالرفع صفة لعشر أي: فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة، وهذه القراءة سالمةٌ من تلك التآويل المذكورة في القراءة المشهورة.
* { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {دِيناً}: نصبه من أوجه، أحدها: أنه مصدر على المعنى أي: هداني هداية دين قيم، أو على إضمار "عَرَّفني ديناً" أو الزموا ديناً. وقال أبو البقاء: "إنه مفعول ثان لهداني، وهو غلط؛ لأن المفعول الثاني هنا هو المجرور بإلى فاكتفى به. وقال مكي: إنه منصوب على البدل من محل "إلى صراط". وقيل: بهداني مقدرةً لدلالة "هداني" الأول عليها، وهو كالذي قبله في المعنى.
(7/61)
---(1/2671)
وقرأ الكوفيون وابن عامر: "قِيَماً" بكسر القاف وفتح الياء خفيفة والباقون بفتحها وكسر الياء شديدة، وتقدَّم توجيه إحدى القراءتين في / النساء والمائدة. و "مِلَّة" بدل من "ديناً" أو منصوب بإضمار أعني. و "حنيفاً" قد ذكر في البقرة.
وقرأ نافع ومَحْيايْ بسكون ياء المتكلم وفيها الجمع بين ساكنين. قال الفارسي كقوله "التقت حَلْقتا البطان" "ولفلان ثلثا المال" يعنون الألفين. وقد طعن بعض الناس على هذه القراءة بما ذكرت من الجمع بين الساكنين، وتعجَّبْتُ من كون هذا القارئ يحرِّك ياء "مماتي" ويُسَكِّن ياء "مَحْياي". وقد نقل بعضهم عن نافع الرجوع عن ذلك. قال أبو شامة: "فينبغي أن لا يَحِلَّ نَقْلُ تسكين ياء "محياي" عنه". وقرأ نافع في رواية "محيايِ" بكسر الياء وهي تُشْبه قراءة حمزة في "مُصْرخِيِّ" وستأتي إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى الجحدري: ومَحْيَيَّ" بإبدال الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هذيل، وقد أنشدْتُ عليها قول أبي ذؤيب:
2138- سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهُمُ * فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
في سورة البقرة. ومن هنا إلى آخر السورة إعرابُه ظاهر لِما تكرر من النظائر. وأكَّد قوله "لغفور" باللام دلالةً على سَعة رحمته، ولم يؤكد سرعة العقاب بذلك هنا وإن كان قد أكد ذلك في سورة الأعراف، لأن هناك المقامَ مقامُ تخويف وتهديد وبعد ذكر قصة المعتدين في السبت وغيره فناسب تأكيدَ العقاب هناك، وأتى بصفتي الغفران والرحمة، ولم يأت في جانب العقاب إلا بصفة واحدة دلالة على حلمه وسَعَة مغفرته ورحمته.
في سورة الأعراف، لأن هناك المقامَ مقامُ تخويف وتهديد وبعد ذكر قصة المعتدين في السبت وغيره فناسب تأكيدَ العقاب هناك، وأتى بصفتي الغفران والرحمة، ولم يأت في جانب العقاب إلا بصفة واحدة دلالة على حلمه وسَعَة مغفرته ورحمته.(1/2672)
سورة الأعراف
* { المص }
قوله تعالى: {المص}: قد تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في أول هذا الموضوع.
* { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {كتابٌ}: يجوز أن يكون خبراً عن الأحرف قبله، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو كتاب، كذا قدَّره الزمخشري. ويجوز أن يكون "كتاب" مبتدأ، و "أُنْزِل" صفته، و "فلا تكن" خبره، والفاء زائدة على راي الأخفش اي: كتاب موصوف بالإِنزال إليك، لا يكن في صدرك حرج منه. وهو بعيد جداً. والقائمُ مقامَ الفاعل في "أُنْزِل" ضميرٌ عائدٌ على الكتاب. ولا يجوز أن يكون الجارَّ لئلا تخلوَ الصفةُ من عائد.
قوله: "منه" متعلقٌ بـ "حَرَجٌ". و"مِنْ" سببيَّة أي: حَرَجٌ بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضِقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له أي: حرج كائن وصادر منه. والضمير في "منه" يجوز أن يعود على الكتاب وهو الظاهر، ويجوز أن يعود على الإِنزال المدلول عليه بـ "أُنْزِل"، أو على الإِنذار أو على التبليغ المدلولِ عليهما بسياقِ الكلام، أو على التكذيب الذي تضمَّنه المعنى. والنهيُ في الصورة للحرج، والمرادُ الصادرُ منه، مبالغة في النهي عن ذلك، كأنه قيل: لا تتعاطَ أسباباً ينشأُ عنها حَرَجٌ، وهو من باب "لا أُرَيَنَّك ههنا": النهي متوجه على المتكلم والمرادُ به المخاطبُ، كأنه قال: لا تكنْ بحضرتي فأراك. ومثله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ
(7/63)
---(1/2673)
}. قوله: لتنذرَ به" في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه أحدها: أها متعلقة بـ "أُنْزِل" أي: أُنْزِلَ إليك للإِنذار، وهذا قول الفراء قال: "اللام في "لتنذرَ" منظوم بقوله "أُنْزِل" على التقديم والتأخير، على تقدير: كتابٌ أُنزل إليك لتنذرَ به فلا يكن". وتبعه الزمخشري والحوفي وأبو البقاء. وعلى هذا تكونُ جملةُ النهي معترضةً بين العلة ومعلولها، وهو الذي عناه الفراء بقوله "على التقديم والتأخير". والثاني: أن اللامَ متعلقةٌ بما تعلَّق [به] خبر الكون، إذ التقديرُ: فلا يكنْ حرجٌ مستقراً في صدرك لأجل الإِنذار. كذا قاله الشيخ عن ابن الأنباري، فإنه قال: "وقال ابن الأنباري: التقدير: "فلا يكنْ في صدرك حرجٌ منه كي تنذرَ به فَجَعَلَه متعلقاً بما تعلَّق به "في صدرك"، وكذا علَّقه به صاحب "النظم"، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ معترضةً". قلت: الذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللامَ متعلقةٌ بالكون، وعن صاحب "النظم" أن اللام بمعنى "أن" وسيأتي بنصَّيْهما إن شاء الله، فيجوز أن يكون لهما كلامان.
(7/64)
---(1/2674)
الثالث: أنها متعلقةٌ بنفس الكون، وهو مذهب ابن الأنباري والزمخشري، وصاحب / "النظم" على ما نقله الشيخ. قال أبو بكر ابن الأنباري: "ويجوز أن تكونَ اللامُ صلةً للكون علىمعنى: فلا يكن في صدرك شيءٌ لتنذر، كما يقول الرجل للرجل: لا تكن ظالماً ليقضي صاحبك دَيْنَه، فَتَحْمِل لامَ كي على الكون". وقال الزمخشري: "فإن قلت: بمَ تَعَلَّق به "لتنذر"؟ قلت بـ "أُنْزِل" أي: أُنْزل لإِنذارك به، أو بالنهي، لأنه إذا لم يُخِفْهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنه من عند الله شَجَّعه اليقين على الإِنذار". قال الشيخ: "فقوله بالنهي ظاهره أنه يتعلَّق بفعل النهي، فيكون متعلقاً بقوله "فلا يكن"، وكان [عندهم] في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلافٌ، ومبناه على أنَّ "كان" الناقصة هل تدلُّ على حَدَثٍ أم لا؟ فمن قال إنها تدلُّ على الحدث جوَّز ذلك، ومَنْ قال لا تدلُّ عليه مَنَعَه". قلت: فالزمخشري مسبوقٌ إلى هذا الوجهِ، بل ليس في عبارته ما يدل على أنه تعلُّق بـ "يكون" بل قال "بالنهي" فقد يريد بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصحيحُ أن الأفعالَ الناقصة كلَّها لها دلالةٌ على الحدث إلا "ليس"، وقد أقمت على ذلك أدلةً وأَثْبَتُّ من أقوال الناس بما يشهدُ لصحة ذلك كقول سيبويه وأضرابه، في غير هذا الموضوع.
وقال صاحب "النظم": "وفيه وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ اللامُ بمعنى أَنْ والمعنى: لا يَضِقْ صدرُك ولا يضعُفْ عن أن تنذرَ به، والعرب تضعُ هذه اللامَ في موضع "أَنْ" كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} وفي موضع آخر: {لِيُطْفِئُواْ} فهما بمعنى واحد" قلت: هذا قول ساقط جداً، كيف يكون حرفٌ يختصُّ بالأفعال يقع موقع آخرَ مختصٍ بالأسماء؟
(7/65)
---(1/2675)
قوله: {وَذِكْرَى} يجوز أن يكونَ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ أو جَرّ. فالرفعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطفٌ على "كتابٌ" أي: كتاب وذكرى أي تذكير، فهي اسمُ مصدرٍ وهذا قول الفراء. والثاني من وجهي الرفع: أنها خبرُ مبتدأ مضمر أي: هو ذكرى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج. والنصبُ من ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ من لفظه تقديره: وتَذَكَّرْ ذكرى أي: تذكيراً. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب نسقاً على موضع "لتنذرَ" فإنَّ موضعَه نصبٌ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى، وهذا كما تُعْطَف الحال الصريحة على الحال المؤولة كقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} ويكونُ حينئذ مفعولاً من أجله كما تقول: "جئتك لتكرمَني وإحساناً إليّ". والثالث: قال أبو البقاء: - وبه بدأ - "إنها حالٌ من الضمير في "أُنْزِل" وما بينهما معترض". وهذا سهوٌ فإن الواو مانعة من ذلك، وكيف تدخل الواوُ على حال صريحة؟
والجرُّ من وجهين أيضاً، أحدهما: العطف على المصدر المُنْسَبِكِ من "أَنْ" المقدرة بعد لام كي والفعل، والتقدير: للإِنذار والتذكير. والثاني: العطفُ على الضمير في "به"، وهذا قول الكوفيين. والذي حَسَّنه كونُ "ذكرى" في تقدير حرفٍ مصدري - وهو "أَنْ" - وفِعْلٍ ولو صَرَّح بـ "أَنْ" لحَسُنَ معها حذفُ حرف الجر، فهو أحسنُ مِنْ "مررت بك ويزدٍ" إذ التقديرُ: لأَنْ تُنْذِرَ به وبأن تُذَكِّر.
و "للمؤمنين" يجوز أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول به تقويةً له، لأنَّ العاملَ فرعٌ، والتقدير: وتُذَكر المؤمنين. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفة لذكرى.
* { اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
(7/66)
---(1/2676)
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بأُنْزِل، وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية المجازية. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده القائمِ مقامَ الفاعل.
قوله: {مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}: "من دونه" يجوز أن يتعلق يالفعل قبله، والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان. والثاني: أن يتعلق بمحذوف، لأنه كان في الأصل صفةً لأولياء، فلما تقدَّم نُصِبَ حالاً، وإليه يميل تفسيرٌ الزمخشري فإنه قال: "أي لا تتولَّوا مِنْ دونِه مِنْ شياطين الإِنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبِدَع". والضمير في "دونِه" يُحْتمل - وهو الظاهر - أن يعودَ على "ربكم"؛ ولذلك قال الزمخشري: "مِنْ دون الله"، وأن يعودَ على "ما" الموصولة، وأن يعودَ على الكتاب المنزل، والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى الكتبِ المنسوخةِ. وقرأ الجحدري: "ابتَغُوا" بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: "ولا تبتغوا" من الاتغاء أيضاً.
قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} قد تقدَّم نظيرُ هذا في قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} وهو أنَّ "قليلاً" نعتُ مصدرٍ محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تَذَكَّرون، أو نعتُ ظرفِ زمانٍ محذوفٍ أيضاً أي: زماناً قليلاً تَذَكَّرون، فالمصدرُ أو الظرفُ منصوبٌ بالفعل بعده، و "ما" مزيدةٌ للتوكيد، وهذا إعراب جليٌّ واضح. وقد أجاز الحوفي أن يكونَ / نعتَ مصدرٍ محذوف لقوله "ولا تَتَّبعوا" أي: ولا تتبعوا مِنْ دونِه أولياءَ اتِّباعاً قليلاً، وهو ضعيف، لأنه يَصير مفهومُه أنهم غيرُ مَنْهِيِّين عن اتباع الكثير، ولكنه معلومٌ من جهة المعنى فلا مفهوم له.
(7/67)
---(1/2677)
وحكى ابن عطية عن أبي عليّ أن "ما" مصدريةٌ موصولةٌ بالفعل بعدها، واقتصر على هذا القَدْر، ولا بد من تتمةٍ له، فقال بعض الناس: "ويكون "قليلاً" نعت زمانٍ محذوف، وذلك الزمانُ المحذوف في محل رفع خبراً مقدماً، و "ما" المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتقدير: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنهم لا يقع تذكُّرهم إلا في بعض الأحيان، ونظيرُه: زمناً قليلاً قيامُك". وقد قيل: إن "ما" هذه نافيةٌ، وهو بعيد؛ لأن "ما" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى: ما تذكَّرون قليلاً، وليس بطائل، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} عند مَنْ جَعَلَها نافيةً.
وهناك وجهٌ لا يمكنُ أن يأتيَ ههنا وهو: أن تكون "ما" مصدريةً، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية بـ "قليلاً" الذي هو خبر "كان"، والتقدير: كانوا قليلاً هجوعُهم، وأمَّا هنا قلا يمكن ذلك لعدمِ صحة نصب "قليلاً" بقوله: "ولا تتَّبعوا" حتى تجعل "ما تذكَّرون" مرفوعاً به. ولا يجوز أن يكونَ "قليلاً" حالاً من فاعل "تَتَّبعوا" و "ما تذكَّرون" مرفوعٌ به، إذ يصير المعنى: أنهم نُهوا عن الاتِّباع في حالِ قلةِ تذكُّرهم، وليس ذلك بمراد.
وقرأ الأخَوان وحفص: تَذَكَّرون" بتاء واحدة وتخفيف الذال، وابن عامر بتاءين وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذال، وهنَّ واضحات، تقدم معناها في الأنعام.
* { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }
(7/68)
---(1/2678)
قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: في "كم" وجهان، أحدهما: أنها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ الجملةُ بعدها، و "من قرية" تمييز، والضمير في "أهلكناها" عائدٌ على معنى كم. وهي هنا خبرية للتكثير، والتقدير: وكثير من القرى أهلكناها. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه جعل "أهلكناها" صفةً لقرية، والخبرُ قوله: "فجاءها بأسنا" قال: "وهو سهوٌ لأنَّ الفاء تمنعُ من ذلك". قلت: ولو ادَّعى مُدَّعٍ زيادتَها على مذهب الأخفش لم تُقْبَلْ دعواه؛ لأن الأخفش إنما يزيدها عند الاحتياج إلى زيادتها.
والثاني: أنها في موضع نصبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن "كم"؛ لأن لها صدر الكلام، والتقدير: وكم من قريةٍ أهلكناها أهلكناها، وإنما كان لها صدرُ الكلام لوجهين أحدهما: مضارعتُها لـ "كم" الاستفهامية. والثاني: أنها نقيضةُ "رُبَّ" لأنها للتكثير و "رُبَّ" للتقليل، فحُمِل النقيضُ على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره.
(7/69)
---(1/2679)
ولا بد من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله تعالى: "أو هم قائلون" فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف، ثم منهم مَنْ قَدَّره قبل "قرية" أي: كم من أهل قرية، ومنهم مَنْ قدَّره قبل "ها" في "أهلكناها" أي: أهلكنا أهلَها، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن التقادير إنما تكون لأجل الحاجة، والحاجةُ لا تدعو إلى تقديرِ هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين، لأن إهلاكَ القرية يمكن أن يقع عليها نفسِها، فإن القرى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريق والغَرَق ونحوه، وإنما يُحتاج إلى ذلك عند قوله "فجاءها" لأجل عَوْدِ الضمير من قوله: "هم قائلون" عليه، فيُقَدَّر: وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلَها بأسُنا. قال الزمخشري: "فإن قلت: هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو الأهل قبل "قرية" أو قبل الضمير في طأهلكناها"؟ قلت: إنما يُقَدَّر المضافُ للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تَهْلَكُ كما يَهْلَك أهلُها، وإنما قدَّرناه قبل الضمير في "فجاءها" لقوله "أو هم قائلون".
(7/70)
---(1/2680)
وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس، وبعده يقع الإِهلاك. فمن النحاة من قال: الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضعيفٌ. و الجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنه على حَذْف الإِرادة أي: أردنا إهلاكها كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}،"إذا دخل أحدكم الخَلاءَ فَلْيُسَمِّ الله". الثاني: أن المعنى أهلكناها أي خذلناهم ولم نوفِّقْهم فنشأ عن ذلك هلاكُهم، فعبَّر بالمُسَبَّب عن سببه وهو باب واسع. وثَمَّ أجوبةٌ ضعيفة منها: أن الفاءَ هنا تفسيرية نحو: "توضأ فغسل وجهَه ثم يديه" فليست للتعقيب، ومنها: أنها للترتيب في القول فقط كأنه أخبر عن قرىً كثيرة أنها أهلكها ثم قال: فكان من أمرها مجيء البأس./ ومنها ما قاله الفراء وهو أن الإِهلاك هو مجيء البأس، ومجيء البأس هو الإِهلاك، فلمَّا كانا متلازمَيْن لم تُبالِ بأيهما قدَّمْتَ في الرتبة كقولك: "شتمني فَأَساء" و "أساء فشتمني" فالإِساءةُ والشتمُ شيء واحد فهذه ستة أقوال.
واعلم أنه إذا حُذِف مضافٌ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه جاز لك اعتباران، أحدهما: الالتفاتُ إلى ذلك المحذوف، والثاني - وهو الأكثر - عدم الالتفات إليه، وقد جُمِعَ الأمران ههنا فإنه لم يُراعِ المحذوفَ في قوله "أهلكناها فجاءها" وراعاه في قوله "أو هم قائلون، هذا إذا قدَّرْنا الحذفَ قبل "قرية"، أمَّا إذا قدَّرنا الحذفَ قبل ضمير "فجاءها" فإنه لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط، وهو غيرُ الأكثر.
(7/71)
---(1/2681)
قوله: "بَيَاتاً" فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوبٌ على الحال، وهو في الأصل مصدر، بات يبيتُ بَيْتاً وبَيْتَةً وبَيَاتاً وبَيْتُوتة. قال الليث: "البَيْتوتَةُ دخولُك في الليل" فقوله "بياتاً" أي بائتين. وجَوَّزوا أن يكون مفعولاً له، وأن يكون في حكم الظرف. وقال الواحدي: "قوله بياتاً: أي ليلاً"، وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفاً، لولا أن يُقال: اراد تفسير المعنى.
قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نسقاً على الحال. و "أو" هنا للتنويع لا لشيء آخر كأنه قيل: أتاهم بأسنا تارةً ليلاً كقوم لوط، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. وهل يحتاج إلى تقديرِ واوِ حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين. قال الزمخشري: "فإن قلت: لا يقال: "جاء زيد هو فارس" بغير واو فما بالُ قوله تعالى "أو هم قائلون"؟ قلت: قَدَّر بعض النحويين الواوَ محذوفةً، وردَّه الزجاج وقال: "لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس، أو: جاءني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد على الأول". والصحيح أنها إذا عُطِفَتْ على حال قبلها حُذِفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفَيْ عطفٍ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: "جاء زيد راجلاً أو هو فارس" كلام فصيح واردٌ على حَدِّه، وأمَّا "جاءني زيد هو فارس" فخبيث". قال الشيخ: "أما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء. وأمَّا قول الزجاج [في] التمثيلين: لم تحتج فيه إلى الواو لأن الذِّكْرَ قد عاد على الأول ففيه إبهامٌ، فتعيينه أنه يمتنع دخولها في المثال الأول، ويجوز في المثال الثاني، فليس انتفاءُ الاحتياج على حدٍّ سواء، لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرته لا لامتناعه". قلت: أمَّا امتناعها في المثال الأول فلأن النحويين نصُّوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها، والعلةُ فيه المشابهة اللفظية، ولأن واو الحال في(1/2682)
(7/72)
---
الأصل عاطفة.
ثم قال الشيخ: "وأمَّا قولُ الزمخشري فالصحيحُ إلى آخره فتعليلُه ليس بصحيح، لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عطف فيلزم مِنْ ذكرها اجتماعُ حرفَيْ عطفٍ؛ لأنها لو كانَتْ حرفَ عطف لَلَزِم أن يكون ما قبلها حالاً حتى تعطفَ حالاً على حال، فمجيئُها فيما لا يمكن أن يكونَ حالاً دليلٌ على أنها ليست واوَ عطفٍ ولا لُحِظ فيها معنى واو عطف تقول: "جاء زيد والشمسُ طالعةٌ" فجاء زيد ليس بحالٍ فتعطف عليها جملة حال، وإنما هذه الواوُ مغايرةٌ لواو العطف بكل حال، وهي قِسْمٌ من أقسام الواو، كما تأتي للقَسَمِ وليست فيه للعطف كما إذا قلت: "والله ليخرجَنَّ". قلت: أبو القاسم لم يدَّعِ في واوِ الحال أنها عاطفةٌ، بل يدَّعي أن أصلَها العطف، ويدل على ذلك قولُه: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفةً على حالها لما قال: استعيرت، فدلَّ قولُه ذلك على أنها خرجَتْ عن العطف واسْتُعْمِلت لمعنى آخر، لكنها أُعْطيت حكم أصلها في المتناع مُجامعها لعاطف آخر. وأمَّا تسميتُها حرفَ عطفٍ فباعتبار أصلها، ونظير ذلك واو "مع" فإنهم نَصُّوا على أن أصلَها واوُ العطف، ثم اسْتُعْمِلَتْ في المعيَّة، فكذلك واوُ الحال، لا امتناعَ أن يكونَ أصلُها واوَ العطف/.
(7/73)
---(1/2683)
ثم قال الشيخ: "وأما قولُه فخبيث فليس بخبيث؛ وذلك أنه بناه على أن الجملةَ الحالية إذا كانَتْ اسميةً وفيها ضمير ذي الحال فحذفُ الواوِ منها شاذٌّ وتبع في ذلك الفراءَ، وليس بشاذ بل هو كثيرٌ في النظم والنثر". قلت: قد سبق ابا القاسم في تسمية هذه الواوِ حرفَ عطفٍ الفراءُ وأبو بكر ابن الأنباري. قال الفراء: "أوهم قائلون فيه واو مضمرة، المعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقاص على إثرِ نسقٍ، ولو قيل لكان صواباً". قلت: قد تقدم أن الشيخ نقل أن الواو ممتنعة في هذا المثال ولم يَحْكِ خلافاً، وهذا قول الفراء: "ولو قيل لكان صواباص" مُصَرِّحٌ بالخلاف له. وقال أبو بكر: "أُضمرت واوُ الحال لوضوح معناها كما تقول العرب: "لقيت عبد الله مسرعاص أو هو يركض" فيحذفون الواوَ لأَمْنِهم اللَّبْسَ، لأن الذِّكْرَ قد عاد على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ "أو" حرفُ عطف والواو كذلك، لاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني". قلت: فهذا تصريحٌ من هذين الإِمامين بما ذكره أبو القاسم، وإنما ذكرتُ نصَّ هذين الإِمامين لأُعْلِمَ اطِّلاعَه على أقول الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غيرَ مرة.
و "قائلون" من القَيْلُولة. يقال: قال يَقيل قَيْلولة فهو قائل كبائع. والقيلولة: الراحةُ والدَّعَةُ في الحر وسط النهار وإن لم يكن معها نوم. وقال الليث: هي نَوْمَةُ نصف النهار. قال الأزهير: "القيلولة: الراحة وإن لم يكن فيها نوم، بدليل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} والجنةُ لا نومَ فيها" قلت: ولا دليلَ فيما ذكر لأنَّ المقيل هنا خرج عن موضوعه الأصلي إلى مجرد الإِقامة بدليل أنه لا يُراد أيضاً الاستراحة في نصف النهار في الحر، فقد خَرَجَ عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرته لك. والقيلولة مصدرٌ ومثلها: الثائلة و القَيْل والمَقيل.(1/2684)
(7/74)
---
* { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوااْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} جَوَّزوا في "دعواهم" وجهين، أحدهما: أن يكون اسماً لـ "كان" و "إلا أَنْ قالوا" خبرها، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جُعِل اسماً، و الأعرفَ جُعِل خبراً، وقد فهمت ذلك في أول الأنعام عند {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}. والثاني: أن يكون "دعواهم" خبراً مقدماً و "إلا أن قالوا" اسماً مؤخراً، ذكر ذلك الزمخشري، ومكي ابن أبي طالب، وسبقهما إلى ذلك الفراء والزجاج، واختاره الزجاج. ولكن ذلك يُشْكل مِنْ قاعدةً أخرى ذكرها النحاة وهو أن الاسمَ والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهما وَجَبَ تقديمُ الاسم وتأخيرُ الخبر نحو: كان موسى صاحبي، وما كان دعائي إلا أن استغفرتُ، قالوا: لأنهما كالمفعول والفاعل، فمتى خفي الإِعرابُ التَزَمَ كلٌ في مرتبته، وهذه الآيةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذلك، بل كيف يختاره الزجاج؟ وقد رأيتُ كلامَ الزجاج هنا فيمكن أن يؤخذَ منه جوابٌ عن هذا المكان وذلك أنه قال: "إلا أن الاختيارَ إذا كانت "الدعوى" في موضع رفع أن يقول: فما كانت دعواهم، فلمَّا قال: "كان دعواهم" دَلَّ على أن الدعوى في موضعِ نصبٍ، غيرَ أنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانَتْ رفعاً" قلت: فمِنْ هنا يقال: تذكيرُ الفعل فيه قرينةٌ مرجِّحة لإِسناد الفعل إلى "أن قالوا"، ولو كان مسنداً للدعوى لكان الأرجح "كانت" كما قال، وهو قريب من قولك: "ضربت موسى سلمى" فقدَّمْتَ المفعولَ بقرينة تأنيث الفعل، وأيضاً فإن ثَمَّ قرينةً أخرى وهي كونُ الأعرفِ أحقَّ أن يكون اسماً من غير الأعرف.
(7/75)
---(1/2685)
والدَّعْوى تكون بمعنى الدعاء وبمعنى الادِّعاء، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى الاعتراف. فمِنْ مجيئها بمعنى الدعاء ما حكاه الخليل: "اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين" تريد في صالح دعائهم، وأنشدوا:
2139- وإنْ مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُك أشتفي * بدَعْواكَ مِنْ مَذْلٍ بها فتهونُ
/ ومنه قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} وقال الزمخشري: "ويجوز: فما كان استغاثتُهم إلا قولَهم هذا لأنه لا يُستغاث من الله تعالى بغيره، مِنْ قولهم دعواهم يالكعب". وقال ابن عطية: "وتحتمل الآية أن يكون المعنى: فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى الاعتراف كقول الشاعر:
2140- وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها * قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم
و "إذ" منصوب بـ "دعواهم".
وقوله: {إِنَّا كُنَّا} "كنَّا" وخبرُها في محلِّ رفع خبراً لإِنَّا، وإنَّ وما في حيِّزها ف يمحلِّ نصب محكياً بـ "قالوا"، و "قالوا" وما في حيزه لا محلَّ له لوقوعه صلةً لأَنْ. وأَنْ وما في حيِّزها في محل رفع أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم مِنْ كونها اسماً أو خبراً.
* { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}: القائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرور.
* { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ }
وقوله تعالى: {بِعِلْمٍ}: في موضع الحال من الفاعل، والباء للمصاحبة أي: لنقصَّنَّ على الرسل والمرسلِ إليهم حالَ كوننا ملتبسين بالعلم. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}.
* { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(7/76)
---(1/2686)
قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}: "الوزنُ" مبتدأ، وفي الخبر وجهان، أحدهما: هو الظرفُ أي: الوزن كائنٌ أو مستقر يومئذ أي: يوم إذ نسأل الرسل والمرسل إليهم. فحذف الجملةَ المضافَ إليها "إذ" وعَوَّض منها التنوين. هذا مذهب الجمهور خلافاً للأخفش. وفي "الحق" على هذا الوجهِ ثلاثةُ أوجه أحدها: أنه نعتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف كأنه جوابُ سؤال مقدر مِنْ قائل يقول: ما ذلك الوزنُ؟ فقيل: هو الحق لا الباطل. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الظرف. وهو غريب ذكره مكي.
والثاني من وجهي الخبر: أن يكون الخبرُ "الحق"، و "يومئذ" على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف ناصبُه "الوزن" أي: يقع الوزنُ ذلك اليوم. والثاني: أنه مفعول به على السَّعة. وهذا الثاني ضعيف جداً لا حاجة إليه. ولمَّا ذكر أبو البقاء كونَ "الحق" خبراً، وجَعَل "يومئذ" ظرفاً للوزن قال: "ولا يجوز على هذا أن يكونَ صفةً، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصول وصلتِه". قلت: وأين الفصل؟ فإن التركيب القرآني إنما جاء فيه "الحق" بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يوصفَ. تقول"ضَرْبُك زيداً يوم الجمعة الشديدُ حسنٌ" فالشديدُ صفة لضربك. فإن توهَّم كونَ الصفة محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فكأنها مقدمة في التقدير فحصل الفصلُ تقديراً، فإن هذا لا يُلتفت إليه، لأن تلك المعمولاتِ من تتمة الموصول فلم يكُ إلا الموصول. وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمانعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنك إذا جعلت "يومئذ" ظرفاً للوزن و "الحق" صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر.
(7/77)
---(1/2687)
وقد طوَّل مكي بذكر تقدير تقديم "الحق" على "يومئذ" وتأخيره عنه باعتبار الإِعرابات المتقدمة، وهذا لا حاجة إليه لأنَّا مقيَّدون في القرآن بالإِتيان بنظمه. وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه، يعني أنه لو قرئ به لكان جائزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه.
وموازين فيها قولان: أحدهما: أنها جمع ميزان: الآلة التي يُوْزَنُ بها، وإنما جُمِع لأنَّ كلَّ إنسانٍ له ميزانٌ يخصُّه على ما جاء في التفسير، أو جُمع باعتبار الأعمال المُكْثِرة، وعبَّر عن الحالِّ بالمحلِّ. والثاني: أنها جمع موزون وهي الأعمال، والجمع حينئذ ظاهر.
* { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُوااْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ}: متعلِّقٌ بـ "خسروا" و "ما" مصدرية و "بآياتنا" متعلق بـ "يظلمون" قُدِّم عليه للفاصلة. وتعدَّى "يظلمون" بالباء: إمَّا لتضمُّنه معنى التكذيب نحو {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، وإمَّا لتضمُّنه معنى الجحد نحو {وَجَحَدُواْ بِهَا
}.
* { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {وجَعَلْنا لكم}: يجوز أن تكون بمعنى "خلق" فتتعدَّى لواحد فيتعلَّق الجارَّان بالجَعْل، أو بمحذوفٍ على أنهما حالان مِنْ "معايش" لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين. ويجوز أن تكونَ التصييرية فتتعدَّى لاثنين أولهما "معايش"، والثاني أحد الجارَّين، والآخر: إمَّا حال فيتعلق بمحذوف، وإمَّا متعلق بنفس الجعل / وهو الظاهر.
(7/78)
---(1/2688)
ومعايش جمع معيشة وفيها ثلاثة مذاهب، مذهب سيبويه والخليل: أن وزنها مَفْعُلة بضم العين أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأول جُعِلت الضمةُ كسرةً ونُقِلَتْ إلى فاء الكلمة. وقياس قول الأخفش في هذا النحو أن يُغَيَّر الحرفُ لا الحركةُ، فمعيشة عنده شاذة إذ كان ينبغي أن يُقال فيها مَعُوشة. وأما على قولنا إن أصلها مَعْيِشة بكسر العين فلا شذوذَ فيها. ومذهب الفراء أنَّ وزنها مَفْعَلة بفتح العين وليس بشيء. و المعيشة اسمٌ لما يُعاشُ به أي يُحْيا، وهي في الأصل مصدرٌ لعاش يعيش عَيْشاً وعِيْشة قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ومعاشاً: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} ومَعِيشاً قال رؤبة:
2141- إليك أشكو شِدَّةَ المعيشِ * وجُهْدَ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
والعامَّةُ على "معايش" بصريح الياء. وقد خرج خارجة فروى عن نافع "معائش" بالهمز. وقال النحويون: هذه غلطٌ؛ لأنه لا يُهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المد زائداً نحو: صحائف ومدائن، وأما "معايش" فالياءُ أصلٌ لأنها من العَيْش. قال الفارسي عن أبي عثمان: "أصلُ أَخْذِ هذه القراءةِ عن نافع". قال: "ولم يكن يدري ما العربية؟". قلت: قد فَعَلَتْ العربُ مثل هذا، فهمزوا منائر ومصائب جمع منارة ومصيبة، والأصل: مناوِر ومصاوب. وقد غلَّط سيبويه مَنْ قال مصائب، ويعني بذلك أنه غلط بالنسبة إلى مخالفة الجادَّة، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: "واعلم أنَّ بعضَهم يغلطُ فيقول: "إنهم أجمعون ذاهبون" قال: "ومنهم مَنْ يأتي بها على الأصل فيقول: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع مقال ومقام: مَقَاوِم ومَقاوِل في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النحويون على ذلك:
2142- وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن * جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها
(7/79)
---(1/2689)
ووجهُ همزِها أنهم شبَّهوا الأصليَّ فتوهَّموا أن معيشة بزنة صحيفة فهمزوها كما همزوا تِيْك. قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصلي بالزائد قولهم في جمع مَسِيل: مِسْلان توهَّموه على أنه على زنة قضيب وقِضبان وقالوا في جمعه أَمْسِلة كأنهم توهَّموا أنه بزنة رغيف وأرغفة، وإنما مسيل وزنه مَفْعِل لأنه من سَيَلان الماء. وأنشدوا على مَسيل وأَمْسِلة قولَ أبي ذؤيب الهذلي:
2143- بِوادٍ لا أنيسَ به يَبابٍ * وأَمْسِلةٍ مَذانِبُها خَلِيفُ
وقال الزجاج: "جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ، ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيهَ بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة". قلت: وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جِلَّةٌ معه، فإنها منقولةٌ عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصحابة كعثمان وأبي الدرداء ومعاوية، وقد سبق ذلك في الأنعام، وقد قرأ بها قبل ظهور اللحن وهو عربي صريح. وقرأ بها أيضاً زيد بن علي وهو على جانب من الفصحاةِ والعلمِ الذي لا يدانيه إلا القليلُ. وقرأ بها أيضاً الأعمشُ والأعرجُ وكفى بهما في الإِتقان والضبط. وقد نقل الفراء أن قَلْبَ هذه الياء تشبيهاً لها بياء صحيفة قد جاء وإنْ كان قليلاً.
وقوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} كقوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
}.
* { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوااْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ }
(7/80)
---(1/2690)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا}: اختلف الناس في "ثم" في هذين الموضعين: فمنهم مَنْ لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو فإنَّ خَلْقَنا وتصويرَنا بعد قوله تعالى للملائكة "اسجدوا". ومنهم مَنْ قال: هي للترتيب الزماني وهذا هو موضوعُها الأصلي. ومنهم مَنْ قال: الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري. واختلفت عبارة القائلين بأنها للترتيب في الموضعين فقال بعضهم: إنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقدير: ولقد خلقنا آباءكم ثم صَوَّرْنا آباءكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم عليه السلام. والترتيب الزماني هنا ظاهر بهذا التقدير. وقال بعضهم: الخطاب في "خلقناكم وصوَّرناكم" لآدم عليه السلام وإنما خاطبه/ بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ولأنه أصلُ الجميع، والترتيب أيضاً واضح.
وقال بعضهم: المخاطبُ بنو آدم والمراد به أبوهم، وهذا من باب الخطاب لشخصٍ والمرادُ به غيره كقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} إلى آخره، وإنما المُنَجَّى والذي كان يُسامُ سُوءَ العذاب أسلافُهم. وهذا مستفيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك قوله:
2144- إذا افتخرَتْ يوماً تميمٌ بقوسها * وزادَتْ على ما وطَّدَتْ مِنْ مناقب * فأنتم بذي قارٍ أمالَتْ سيوفُكمْ * عروشَ الذين استرهنوا قوسَ حاجبِ
وهذه الوقعةُ إنما كانت في أسلافهم.
(7/81)
---(1/2691)
والترتيبُ أيضاً واضحٌ على هذا. ومن قال: إن الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم: المراد بالخطاب الأول آدمُ وبالثاني ذريتُه، والترتيبُ الزماني واضح، و "ثم" الثانية للترتيب الإِخباري. وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثم صوَّرناكم في بطونِ أمَّهاتكم. وقال بعضهم: ولقد خلقنا أزواجكم ثم صوَّرنا أجسامكم. وهذا غريبٌ نقله القاضي أبو يعلى في "المعتمد". وقال بعضهم: خلقناكم نُطَفاً في أصلاب الرجال ثم صوَّرْناكم في أرحام النساء. وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوَّرْناكم فيها بعد الخلق بشَقِّ السمع والبصر، فـ "ثم" الأولى لترتيب الزمان، والثانية لترتيب الإِخبار.
وقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} تقدَّم الكلام عليه في البقرة. وقوله "لم يكن" هذه الجملةُ استئنافيةٌ لأنها جواب سؤال مقدر، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة "ابى". وتقدم أن الوقف على إبليس. وقيل: فائدة هذه الجملة التوكيدُ لِما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس. وقال أبو البقاء: "إنها في محل نصب على الحال أي: إلا إبليس حال كونه ممتنعاً من السجود". وهذا كما تقدم له في البقرة من أن "أبى" في موضع نصب على الحال.
* { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
(7/82)
---(1/2692)
قوله تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ}: في "لا" هذه وجهان، أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد. قال الزمخشري: "لا" في "أن لا تسجد" صلةٌ بدليل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ومثلُها: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} بمعنى ليعلم. ثم قال: "فإن قلت: ما فائدةُ زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ليتحقَّق علمُ أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتُلْزمَه نفسك إذ أمرتك؟ وأنشدوا على زيادة "لا" قولَ الشاعر:
2145- أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ * به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائلُه
يروى "البخل" بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديرُه: أبى جودُه البخلَ. وأمَّا في روايةِ الجر فالظاهرُ منها عدمُ الدلالة على زيادتها. ولا حجةَ في هذا البيتِ على زيادة "لا" في رواية النصب، ويتخرَّجُ على وجهين أحدهما: أن تكون "لا" مفعولاً بها و "البخل" بدل منها لأنَّ "لا" تُقال في المنع فهي مؤدِّية للبخل. والثاني: أنها مفعول بها أيضاً، والبخل مفعول من أجله والمعنى: أبى جودُه لفظ "لا" لأجل البخل أي كراهة البخل، ويؤيد عدمَ الزيادة روايةُ الجر. قال أبو عمرو بن العلاء: "الرواية فيه بخفض "البخل" لأن "لا" تُسْتعمل في البخل"، وأنشدوا أيضاً على زيادتها قول الآخر:
2146- أَفَعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه * غابٌ تَسَنَّمَه ضِرامٌ مُثْقَبُ
(7/83)
---(1/2693)
يريد: أفعنك برقٌ. وقد خَرَّجه الشيخ على احتمال كونِها عاطفةً وحَذْفِ المعطوف، والتقدير: أفعنك لا عن غيرك. وكونُ "لا" في الآية زائدةً هو مذهب الكسائي والفراء وأبي إسحاق. وما ذكرته من كون "البخل" بدلاً من "لا" و "لا" مفعولٌ بها هو مذهب الزجاج. وحكى بعضهم عن يونس قال: "كان أبو عمرو بن العلاء يجرُّ "البخل" ويجعل "لا" مضافة غليه، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل لأن طلا" قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له: "امنع الحق" أو "لا تعط المساكين" فقال: "لا" كان جوداً. قلت: يعني فتكون الإِضافة للتبيين، لأن "لا" صارت مشتركةً فميَّزها بالإِضافة وخصَّصها به. / وقد تقدم طرف جيد من زيادة "لا" في أواخر الفاتحة وأقوال الناس في ذلك.
وقد زعم جماعةٌ أن "لا" في هذه الآية الكريمة غيرُ زائدة، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم: في الكلام حَذْفٌ يصحُّ به النفي، والتقدير: ما منعك فأحوجك أن لا تسجد؟ وقال بعضهم: المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد؟ وهذا تمحُّل مَنْ يتحرَّج مِنْ نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدَّم تحقيقه، وأنَّ معنى الزيادة على معنىً يفهمه أهلُ العلم وإلا فكيف يُدَّعى زيادةٌ في القرآن بالعُرْف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.
و "ما" استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء، والخبرُ بعدها أي: أيُّ شيء منعك. و "أَنْ" في محل نصبٍ أو جر لأنها على حَذْفِ حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و "إذ" منصوب بتسجد أي: ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به. وقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} لا محلَّ لهذه الجملةِ لأنها كالتفسير والبيان للخبرية.
* { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }
(7/84)
---(1/2694)
وقوله تعالى: {مِنْهَا}: و "فيها" الضميرُ يعود على الجنة لأنه كان من كسانها. عن ابن عباس: أنهم كانوا في عدن لا في جنة الخلد. وقيل: يعود على السماء، لأنه يُروى في التفسير أنه وَسْوس إليهما وهو في السماء. وقيل: على الأرض أُمِر أن يَخْرج منها إلى جزائر البحار، ولا يدخل في الأرض إلا كالسارق. وقيل: على الرتبة المنيفة والمنزلة الرفيعة. وقيل: على الصورة والهيئة التي كان عليها لأنه كان مُشْرق الوجه فعاد مُظْلِمَه. وقوله: "فاخرجْ" تأكيدٌ لـ "اهبط" إذ هو بمعناه.
وقوله: "فيها" لا مفهومَ له، يعني أنه لا يُتَوَهَّم أنه يجوز أن يتكبَّر في غيرها. ولمَّا اعتبر بعضهم هذا المفهوم احتاج إلى تقدير حذف معطوف كقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قال: "والتقديرُ فما يكون لك أن تتكبَّر فيها ولا في غيرها".
* { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
والضمير في {يُبْعَثُونَ}: يعود على بني آدم لدلالة السياق عليهم، كما دلَّ على ما عاد عليه الضميران في منها وفيها كما تقدَّم.
* { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }
قوله تعالى: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي}: في هذه الباء وجهان أحدهما: أن تكون قسميةً وهو الظاهر. والثاني: أن تكون سببيَّة، وبه بدأ الزمخشري قال: "فبما أغويتني: فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم" ثم قال: "والمعنى: فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم. فإن قلت: بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها بـ "لأقعدن" يصدُّ عنه لام القسم لا تقول: واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ؟ قلت: تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي: فبسبب إغوائك أُقْسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي: فأقسم بإغوائك لأعقدنَّ". قلت: وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة.
(7/85)
---(1/2695)
وقال الشيخ: "وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء بـ "لأقعدَنَّ" ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ". قلت: أمَّا الخلافُ فنعم. لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى "لمَنْ تَبِعك منهم لأملأنَّ" في قراءة مَنْ كسر اللام في "لمن"، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله.
و "ما" تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها: أنها مصدرية أي: فبإغوائك إياي. والثاني: أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي اغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ قم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله "لأعدنَّ". وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ "ما" الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم: عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقوله:
2147- على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ * كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ
والثالث: أنها شرطية، وهو قولُ ابن الأنباري، ولا بد من إيراد نصِّه قال: - رحمه الله - "ويجوز أن تكونَ "ما" بتأويل الشرط، والباءُ من صلة الإِغواء، والفاءُ المضمرة جواب الشّرط، والتقدير: فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك" فتُضْمر الفاءَ [في] جواب الشرط كما تضمرها في قولك "إلى ما أومأتَ إني قابلُه، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع". وهذا الذي قاله ضعيف جداً، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقوله:
2148- مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها * والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان
أي: فالله. وكان المبرد / لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور:
مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره * ..............
(7/86)
---(1/2696)
فعلى رأي أبي بكر يكون قوله "لأقعدنَّ" جوابَ قسم محذوف، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني قواللهِ لأعقدنَّ. هذا يُتَمِّمُ مذهبه.
وقوله: "صراطَك" في نصبه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض. قال الزجاج: "ولا اختلاف بين النحويين أنَّ "على" محذوفة كقولك: "ضُرِب زيدٌ الظهرَ والبطنَ" أي: على الظهر والبطن". إلا أن هذا الذي قاله الزجاج - وإن كان ظاهرهُ الإِجماع - ضعيفٌ من حيث إن حرف الجر لا يَطَّرِدُ حذفه، بل هو مخصوص بالضرورة أو بشذوذ كقوله:
2149- تمُرُّون الديارَ فلم تعوجوا * ...................
[وقوله]:
2150- ................. * ............ لولا الأسى لقضاني
[وقوله]:
2151- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنني * ................
والثاني: أنه منصوب على الظرف والتقدير: لأقعدنَّ لهم في صراطك. وهذا أيضاً ضعيف لأن "صراطك" ظرفُ مكانٍ مختصٌّ، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بـ "في"، تقول: صليت في المسجد ونمت في السوق. ولا تقول: صَلَّيْتَ المسجد، إلا فيما استثني في كتب النحو، وإنْ ورد غير ذلك كان شاذاً كقولهم "رَجَع أدراجَه" و "ذهبت" مع "الشام" خاصة. أو ضرورة كقوله:
2152- جزى الله بالخيراتِ ما فعلا بكم * رفيقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ معبدِ
أي: قالا في خيمتي. وجعلوا نظيرَ الآية في نصب المكان المختص قولَ الآخر:
2153- لَدْنٌ بهزِّ الكفِّ يَعْسِل مَتْنَه * كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
(7/87)
---(1/2697)
وهذا البيت أنشده النحاة على أنه ضرورة. وقد شذَّ ابن الطراوة عن مذهب النحاة فجعل "الصراط" و "الطريق" في هذين الموضعين مكانين مُبْهمين. وهذا قولٌ مردودٌ لأن المختصَّ من الأمكنة ما له أقطارٌ تحويه وحدودٌ تحصره، و الصراط والطريق من هذا القبيل. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول به لأنَّ الفعلَ قبله وإن كان قاصراً فقد ضُمِّن معنى فعلٍ متعدٍّ. والتقدير: لألزمَنَّ صِراطك المستقيم بعقودي عليه.
* { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
(7/88)
---(1/2698)
قوله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ}: جملةٌ معطوفة على جواب القسم أيضاً، وأخبر أنه بعد أن يقعد على الصراط يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حرف الجر فجرَّ الأَوَّلَيْن بـ "مِنْ" والثانَيْين بـ "عن" لنكتة ذكرها الزمخشري. قال رحمه الله: "فإن قلت كيف قيل: مِنْ بين أيديهم ومِنْ خلفهم بحرف الابتداء، وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عُدِّي إليه الفعلُ نحو تعديتهِ إلى المفعول به، فكما اختلفَتْ حروفُ التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغةً تُؤْخَذُ ولا تُقاسُ، وإنما يُفَتَّشُ عن صحة موقعها فقط، فلمَّا سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله قلنا: معنى "على يمينه" أنه تَمَكَّن من جهة اليمين تمكُّنَ المستعلي من المستعلَى عليه. ومعنى "عن يمينه" أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غيرَ ملاصقٍ له منحرفاً عنه، ثم كَثُر حتى استعمل في المتجافي وغيرِه كما ذكرنا في تعالَ. ونحوُه من المفعول به قولهم: "رميت على القوس وعن القوس ومن القوس"، لأنَّ السهم يُبْعِدُ عنها ويَسْتعليها إذا وُضع على كَبِدِها للرمي، ويبتدئ الرميُ منها فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومِنْ بين يديه، ومن خلفه، لأنَّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئت من الليل تريد بعض الليل". قلت: وهذا كلامُ مَنْ رسخت قدمُه في فهم كلام العرب. وقال الشيخ: "وهو كلامٌ لا بأسَ به" فلم يوفِّه حقَّه.
(7/89)
---(1/2699)
ثم قال: "وأقول: وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان.
والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْفُل، قال:
2154- يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ * والشمائل يُعَبَّر بها عن الأخلاق والشيم تقول: له شمائلُ حسنة ويُعَبَّر عن الحسنات باليمين، وعن السيئات بالشمال، لأنهما منشأ الفعلين: الحسن والسيِّئ. ويقولون: اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال:
2155- أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني * فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ
يَكْنون بذلك عن عِظَم المنزلة عند الشخص وخِسَّتها وقال:
2156- رأيت بني العَلاَّاتِ لمَّا تضافروا * يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل
والشمائل: جمع شَمَال بفتح الشين وهي الريح. قال امرؤ القيس:
2157- وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى * صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ
والألف في الشمال زائدةٌ، لذا يُزاد فيها الهمزةُ أيضاً بعد الميم فيقولون شَمْأَل، وقبلها فيقولون شَأْمَل، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطُه في التصريف قالوا: "شَمَلَت الريح" إذا هبَّت شَمالاً.
(7/90)
---(1/2700)
قوله: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ} الوجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي: لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين،أو لا تعلم أكثرهم شاكرين، فشاكرين حالٌ على الأول، مفعول ثان على الثاني. وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق. ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم، فتكونَ معطوفةً على قوله "لأقعدَنَّ"، أَقْسَمَ على جملتين مُثْيَتَتَيْن وأخرى منفية.
* { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }
قوله تعالى: {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}: حالان من فاعل "اخرج" عند مَنْ يجيز تَعدُّدَ الحال لذي حال واحدة. ومَنْ لا يُجِزْ ذلك فَمَدْحُوراً صفةٌ لمذؤوماً أو هي حالٌ من الضمير في الحال قبلها فيكون الحالان متداخلين. ومَذْؤوماً مدحوراً اسما مفعول مِنْ ذَأَمه ودَحَره. فأمَّا ذَأَمَه فيقال بالهمز: ذَأَمه يَذْأَمه كَرأَمه يَرْأَمُهُ، وذامه يَذيمه كباعه يبيعه من غير همز، وعليه قولهم: "لن يَعْدَمَ الحسناء ذاماً" يُروى بهمزةٍ ساكنة أو ألف، وعلى اللغة الثانية قول الشاعر:
2158- تَبِعْتُك إذْ عَيْني عليها غِشاوةٌ * فلما انجلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَذِيْمُها
فمصدرُ المهموز ذَأْم كرَأْس، وأما مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف، وحكى ابن الأنباري فيه ذَيْماً كيَنْعٍ قال: "يقال ذَأَمْتُ الرجل أَذْأَمُه وذِمْتُه أَذِيْمُه ذَيْماً وذَمَمْتُه أَذُمُّه ذَمَّاً بمعنىً. وأنشد:
2159- وأقاموا حتى انبرَوا جميعاً * في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُوْمُ
(7/91)
---(1/2701)
والذَّامُ: العَيْبُ ومنه المثل المتقدم: "لن يَعْدَمِ الحسناءُ ذاما" أي كلُّ امرأة حسنة لا بد أن يكون فيها عيبٌ ما. وقالوا: أردتَ أن تَذيمه فمدحتَه أي: تَعيبه فمدحته، فأبدل الحاء هاءً. وقيل: الذام الاحتقارُ، ذَأَمْتُ الرجل: أي احتقرته قاله الليث. وقيل: الذام الذَّمُّ، قاله ابن قتيبة وابن الأنباري.
والجمهور على "مَذْؤوماً" بالهمز. وقرأ أبو جعفر والأعمش والزهري "مَذُوْمَاً" بواو واحدة من دون همز. وهي تحتمل وجهين أحدهما: - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنه تخفيف "مذؤوماً" في القراءة الشهيرة بأَنْ أُلْقِيَتْ حركةُ الهمزة على الذال الساكنة، وحُذِفَت الهمزةُ على القاعدة المستقرة في تخفيف مثله، فوزن الكلمة آل إلى مَفُول لحذف العين. والثاني: أن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ لغة مَنْ يقول: ذِمْتُه أَذيمه كبِعْتُه أَبيعه، وكان مِنْ حق اسم المفعول على هذه اللغةِ مَذيم كمبيع قالوا: إلا أنه أُبْدلت / الواو من الياء على حَدِّ قولهم "مكول" في "مكيل" مع أنه من الكيل. ومثل هذه القراءة في احتمال الوجهين قولُ أمية بن أبي الصلت:
2160- وقالَ لإِبليسَ ربُّ العبادِ *[أن] اخرُجْ لعيناً دحيراً مَذُوْمَا
أنشد على ذلك الواحدي على لغة ذامه بالألف يَذيمه بالياء، وليته جعله محتملاً للتخفيف مِنْ لغة الهمز.
والدَّحْر: الطَّرْدُ والإِبعاد يقال: دَحَره يَدْحَرُه دَحْراً ودُحوراً، ومنه: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} وقول أمية في البيت المتقدم "لَعيناً دحيراً" وقوله أيضاً:
2161- وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ * إلا لعيناً خاطِئاً مَدْحورا
وقال الآخر:
2162- دَحَرْتُ بني الحصيب إلى قَدِيدٍ * وقد كانوا ذوي أَشَرٍ وفَخْرِ
(7/92)
---(1/2702)
قوله: {لَّمَن تَبِعَكَ} في هذه اللامِ وفي "مَنْ" وجهان أظهرهما: أن اللام لامُ التوطئة لقسم محذوف و "مَنْ" شرطية في محل رفع بالابتداء و "لأملأنَّ" جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسدِّ جوابِ القسم مسدَّه. وقد تقدم إيضاح ذلك غير مرة. والثاني: أن اللامَ لامُ ابتداء، "مَنْ" موصولة و "تبعك" صلتها، وهي في محل رفع بالابتداء أيضاً، و "لأملأنَّ" جواب قسم محذوف، وذلك القسمُ المحذوفُ وجوابُه ف يمحلِّ رفع خبراً لهذا المبتدأ، والتقدير: للذي تبعك منهم والله لأملأنَّ جهنم منكم. فإن قلت: أين العائد من الجملة القسمية الواقعة خبراً عن المبتدأ؟ قلت: هو متضمِّنٌ في قوله "منكم" لأنه لمَّا اجتمع ضميرا غيبة وخطاب غَلَّب الخطاب على ما عُرِف غير مرة.
وفَتْحُ اللام هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر من بعض طرقهِ والجحدري: "لِمَنْ" بكسرها، وخُرِّجتْ على ثلاثة أوجه أحدها: - وبه قال ابن عطية - أنها تتعلق بقوله "لأَملأنَّ" فإنه قال: "لأجل مَنْ تبعك منهم لأملأنَّ"، وظاهر هذا أنها متعلقةٌ بالفعل بعد لام القسم. قال الشيخ: "ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها". والثاني: أن اللام متعلقةٌ بالذَّأْمِ والدَّحْر، والمعنى: اخرج بهاتين الصفتين لأجل تُباعك. ذكره ابو الفضل الرازي في ك تاب "اللوائح على شاذ القراءة". قلت: ويمكن أن تجيء المسألةُ من باب الإِعمال لأن كلاً من مذؤوماً ومدحوراً يطلب هذا الجارَّ عند هذا القائل من حيث المعنى ويكون الإِعمال للثاني كما هو مختار البصريين للحذف من الأول.
(7/93)
---(1/2703)
والثالث: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديره: لمن تبعك منهم هذا الوعيدُ، ودلَّ على قوله "هذا الوعيد" قولُه "لأملأن جهنم"، لأن هذا القسمَ و جوابَه وعيدٌ، وهذا أراده الزمخشري بقوله: "بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله "لأملأن جهنم" على أنَّ "لأملأنَّ" في محل الابتداء و "لمن تبعك" خبره. قال الشيخ: "فإن اراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنَّ قولَه "لأملأنَّ" جملةٌ هي جوابُ قسم محذوف، من حيث كونُها جملةً فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذ ذاك من هذه الحيثيَّة لا موضع لها من الإِعراب، ومن حيث كونُها مبتدأ لها موضع من الإِعراب، ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإِعراب لا موضع لها من الإِعراب، وهو محال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع، داخلٌ عليها عاملٌ غيرُ داخل عليها عاملٌ، وذلك لا يُتَصَوَّر".
قلت: بعد أن قال الزمخشري: "بمعنى لِمَنْ تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ" كيف يحسن أن يُتردد بعد ذلك فيُقال: إن أراد ظاهر كلامه، كيف يريده مع التصريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قوله "على أن لأملأنَّ في محل الابتداء" فإنما قاله لأنه دالٌ على الوعيد الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدالِّ ما يُنْسب إلى المدلول من جهة المعنى. وقول الشيخ أيضاً "ومن حيث كونُها جواباً / للقسم المحذوف أيضاً إلى آخره كلامُ متحمِّلٍ عليه، لأنه يريد جملة الجواب فقط البتة، إنما يريد الجملة القسمية برُمَّتها، وإنما استغنى بذكرها عن ذكر قسيمها لأنها ملفوظ بها، وقد تقدَّم لك ما يشبه هذا الاعتراضَ الأخير عليه وجوابه. وأمَّا قولُ الشيخ: "ولا يجوز أن تكون الجملةُ لها موضعٌ من الإِعراب لا موضعَ لها من الإِعراب" إلى آخر كلامه كله شيءٌ واحدٌ ليس فيه معنى زائد.
(7/94)
---(1/2704)
وقوله تعالى: {أَجْمَعِينَ} تأكيد. واعلم أن الكثر في أجمع وأخواته المستعملة في التأكيد إنما يؤتى بها بعد "كل" نحو: {فَسَجَدَ الْمَلاائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وفي غير الأكثر قد تجيء بدون "كل" كهذه الآية الكريمة، فإنَّ "أجمعين" تأكيد لـ "منكم"، ونظيرها فيما ذكرتُ لك أيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
}.
* { ويَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }
وفي البقرة: {رَغَداً}: وهو محذوفٌ لدلالة الكلام عليه.
* { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }
قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا}، أي: فَعَلَ الوسوسة لأجلهما. والفرق بين وسوس له ووسوس إليه أنَّ وسوس له بمعنى لأجله كما تقدم، ووسوس إليه ألقى إليه الوسوسة.
والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوَسْواس وهو صوت الحَلْيِ، والوَسْوَسة أيضاً الخَطْرة الرديئة ووسوس لا يتعدى إلى مفعول بل هو لازم ويقال: رجل مُوَسْوِس بكسر الواو ولا يقال بفتحها، قاله ابن الأعرابيّ. وقال غيره: يقال: مُوَسْوَس له ومُوَسْوَس إليه. وقال الليث: "الوسوسة حديثُ النفس والصوت الخفي من ريحٍ تهزُّ قصباً ونحوه كالهمس". قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وقال رؤبة بن العجاج يصف صياداً:
أي: لَمَّا اراد الصيدَ وَسْوس في نفسه: ايخطئ أم يصيب؟ وقال الأزهري: "وسوس ووَزْوَزَ بمعنى واحد".
(7/95)
---(1/2705)
قوله: {لِيُبْدِيَ} في هذه اللام قولان أظهرهما: أنها لامُ العلة على أصلها، لأنَّ قَصْدَ الشيطان ذلك. وقال بعضهم: اللام للصيرورة والعاقبة، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة، فالمعنى: أن أمرهما آيل إلى ذلك. والجواب: أنه يجوزُ أن يُعْلم ذلك بطريق من الطرق المتقدمة في قوله {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
}. قوله: {مَا وُورِيَ} "ما" موصولة بمعنى الذي وهي مفعولٌ لـ "يُبدي" أي ليُظْهِر الذي سُتِر. وقرأ الجمهور "وُوْري" بواوين صريحتين وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله وارَى كضارب فلمَّا بُني للمفعول أُبدلت الألفُ واواً كضُوْرِبَ، فالواو الأولى فاء والثانية زائدة. وقرأ عبدالله: أُوْرِيَ بإبدال الأولى همزةً وهو بدلٌ جائزٌ لا واجب. وهذه قاعدة كلية وهي: أنه إذا اجتمع في أول الكلمة واوان، وتحركت الثانية أو كان لها نظيرٌ متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النوع الأول "أُوَيصل" و "أواصل" تصغير واصل وتكسيره، فإن الأصل: وُوَيْصِل، وواصل فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدال الأولى همزة. ومثال النوع الثاني أُوْلى فإن أصلها وُوْلَى، فالثانية ساكنة لكنها قد تتحرك في الجمع في قولك أُوَل كفُضْلى وفُضَل. فإن لم تتحرك ولم تُحْمَلْ على متحرك جاز الإِبدال كهذه الآية الكريمة. ومثله وُوْطِئ وأُوْطِئ.
وقرأ يحيى بن وثاب "وُرِيَ" بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكأنه من الثلاثي المتعدي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه.
والمُواراة: السَّتْرُ، ومنه قوله عليه السلام لمَّا بلغه موت أبي طالب: "لعلِّي أذهب مُوارٍ" ومنه قول الآخر:
2164- على صَدىً أسودَ المُواري * في التُّرْب أمسى وفي الصفيح
وقد تقدم تحقيق هذه المادة.
(7/96)
---(1/2706)
والجمهور على قراءة "سَوْءاتهما" بالجمع من غير نقلٍ ولا إدغام. وقرأ مجاهد والحسن "سَوَّتِهما" بالإِفراد وإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها. وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر وشَيْبَة بن نصاح "سَوَّاتِهما" بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم. وقرأ أيضاً سَواتِهما / بالجمع أيضاً إلا أنه نَقَل حركةَ الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخر، وكلُّ ذلك ظاهر: فَمََنْ قرأ بالجمع فيحتمل وجهين، أظهرهما: أنه من باب وَضْعِ الجمع مَوْضعَ التثنية كراهيةَ اجتماع تثنيتَيْن والجمع أخو التثنية فلذلك ناب منابها كقوله {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة. ويحتمل أن يكون الجمعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً ودبراً، والسَّوْءات كناية عن ذلك فهي أربعٌ؛ فلذلك جيء بالجمع، ويؤيد الأولَ قراءةُ الإِفراد فإنه لا تكون كذلك إلا والموضع موضع تثنية نحو: "مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنهما".
قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَا} استثناءٌ مفرغ وهو مفعول من أجله، فيقدّره البصريون إلا كراهةَ أن تكونا، وقدَّره الكوفيون إلا أن لا تكونا، وقد تقدَّم غيرَ مرة أن قول البصريين أَوْلى لأن إضمارَ الاسم أحسنُ من إضمار الحرف.
والجمهور على "مَلَكَيْن" بفتح اللام. وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير "مَلِكين" بكسرها. قالوا: ويؤيِّد هذه القراءة قولُه في موضع آخر: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى}، والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله "من الخالدين" ولم يقل "أو تكونا خالدَيْن" مبالغةً في ذلك؛ لأن الوصف بالخلود أهم من المِلْكية أو المُلْك، فإن قولك: "فلان من الصالحين" أبلغُ من قولك صالح، وعليه {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
}.
* { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ }
(7/97)
---(1/2707)
قوله تعالى: {وقَاسَمَهُمَا}: المفاعلةُ هنا تحتمل أن تكون على بابها، فقال الزمخشري: "كأنه قال لهما: أُقسم لكما إني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا، فَجعَل ذلك مقاسمةً بينهم، أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أَخْرج قسمَ إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهادَ المُقاسِم". وقال ابن عطية: "وقاسمهما: أي حلف لهما، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره، وإن كان بادئَ الرأي يعطي أنها من واحد"، ويحتمل أن يكون فاعَل بمعنى أفعل كباعَدْته وأبعدته، وذلك أن الحَلْفَ إنما كان من إبليس دونهما وعليه قول خالد بن زهير:
2165- وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ * ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها
قوله: {لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين} يجوز في "لكما" أن يتعلق بما بعده على أن أل معرفةٌ لا موصولة، وهذا مذهبُ أبي عثمان، أو على أنهاا الموصولة ولكن تُسُومح في الظرف وعديله ما لا يتسامح في غيرهما اتساعاً فيهما لدوَرانهما في الكلام، وهو رأي بعض البصريين وأنشد:
2166- رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا * كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا
فـ "بالعصا" متعلق بأُجْلَد وهو صلة أَنْ، أو أن ذلك جائز مطلقاً ولو في المفعول به الصريح، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا:
2167- .................. * وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي
أي: أن تسألي خابراً، أو أنه متعلقٌ بمحذوف على البيان أي: أعني لكما كقولهم: سقياً لك وزعياً، أو تعلَّق بمحذوف مدلول عليه بصلة أل أي: إني ناصحٌ لكما. ومثلُ هذه الآية الكريمة: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}: وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مسالة أل الموصولة إذا كانت مجرورة بـ مِنْ.
(7/98)
---(1/2708)
ونَصَح يتعدى لواحد تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر، ومثله شكر، وقد تقدم، وكال ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر أو التعدي بنفسه أو كلٌّ منهما أصل؟ الراجح الثالث. وزعم بعضُهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوفٌ وأن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحتُ لزيدٍ فالتقدير: نصحت لزيد الرأيَ. وكذلك شَكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه ووَزَنْتُ له متاعه فهذا مذهب رابع. وقال الفراء: "العربُ لا تكاد تقول: نصحتك، إنما يقولون نصحتُ لك وأنصح لك"، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة:
2168- نصحتُ بني عوفٍ فلم يتقبَّلوا * رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي
وهذا يقوِّي أن اللام أصل.
والنُّصْحُ: بَذْلُ الجهد في طلب الخير خاصة، وضده الغش. وأمَّا "نصحت لزيد ثوبه" فمتعدٍ لاثنين لأحدهما بنفسه، وللثاني بحرف الجر باتفاق، وكأن النصح الذي هو بذل الجهد في الخير مأخوذ مِنْ أحد معنيين: إمَّا مِنْ نَصَح أي أخلص، ومنه: ناصح العسل أي خالصه، فمعنى نصحه أخلصَ له الوُدَّ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْد والثوب إذا أحكمتَ خياطتهما، ومنه الناصح للخيَّاط والنَّصاح للخيط، فمعنى نَصَحه أي: أحكم رأيه منه. ويقال: نَصَحه نُصوحاً ونَصاحة قال تعالى: {تُوبُوااْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} (قراءة لا تصنف) بضم النون في قراءة أبي بكر، وقال الشاعر في "نَصاحة":
2169- أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ * .....................
وذلك كذُهوب وذَهاب.
* { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }
(7/99)
---(1/2709)
قوله تعالى: {فدلاهما بغرور}: الباء للحال أي: مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي: دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما. والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله، والتقدير: بغُروره إياهما. وقوله: "فدلاَّهما" يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما. قال أبو جندب الهذلي:
2170- أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه * فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ
وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي: فجرَّاهما قال:
2171- أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي * وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم
وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين، كقولهم: تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال:
2172- تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ
والذَّوْق: وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل. وقيل: الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه: ذاق يذوق ذَوْقاً مثل: صام يصوم صوماً، ونام ينام نوماً.
قوله: {وَطَفِقَا} طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و "أَنْ" للاستقبال، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله:
3173- وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ * من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ
وشرطية كإذا كقول عمر: "فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخْرج أَرْسَلَ رسولاً" ويقال: طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِق بالباء الموحدة أيضاً. والألف اسمها و "سخصفان" خبرها.
والخَصْف الخَرْز في النِّعال، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما، والمِخْصَف: ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال:
(7/100)
---(1/2710)
2174- ........................ * ............... أَنْفِها كالمِخْصَف
والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر، والخَصَفُ: الثياب الغليظة، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها، وقال العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
2175- ...... طِبْتَ في الظلال وفي * مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ
يشير إلى الجنة أي حيث يخرز ويطابق بعضها فوق بعض.
قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي: فقال: ألم أنْهَكما، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً. وقال الشيخ: "الأَوْلى أن يعود الضمير في "عليهما" على عورتيهما كأنه قيل: يَخْصِفان على سَوْءاتيهما، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد، لا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد، فلو جَعَلْنا الضميرَ في "عليهما" عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي "يَخْصِفُ" إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في "يَخْصِفان"، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره: يَخْصٍفان"، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره: يَخْصِفان على بَدَنَيْهما" قلت: ومثلُ ذلك فيما ذكر {وَهُزِّى إِلَيْكِ} {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقول الشاعر:
2176- هَوِّنْ عليك فإن الأمور * بِكَفِّ الإِله مقاديرُها
وقوله أيضاً:
2177- دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته * ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ
(7/101)
---(1/2711)
و {مِن وَرَقِ} يحتمل أن تكون "مِنْ" لابتداء الغاية وأن تكون للتبعيض. وقرأ أبو السَّمَّال "وطَفِقا" بفتح الفاء وهي لغة كما تقدم.
وقرأ الزهري "يُخْصِفان" مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما: أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل. والثاني: أن تكون الهمزةُ للتعدية، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي: يَخْصِفان أنفسهما أي: يدعلان أنفسَهما خاصِفين. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب / "يَخِصِّفان" بفتح الياؤ وكسر الخاء والصادُ مشددةٌ، والأصل: سختصفان، فأُدْغمت التاء في الصاد ثم أُتْبعت الخاءُ للصاد في حركتها، وسيأتي لهذه القراءة نظيرٌ في يونس ويس نحو {يَهِدِّيا} و {يَخِصِّمُون} إن شاء الله تعالى. وروى محبوب عن الحسن كذلك إلا أنه فتح الخاء فلم يُتْبِعْها للصاد، وهي قراءة يعقوب أيضاً وابن بريدة. وقرأ عبد الله "يُخُصِّفان" بضم الياء والخاء وكسر الصاد مشددة وهي مِنْ خصَّف بالتشديد، إلا أنه أتبع للياء قبلها في الحركة وهي قراءة عَسِرةُ النطق، ويدل على أن أصلها مِنْ خَصَّف بالتشديد قراءةُ بعضهم "يُخَصِّفَان" كذلك إلا أنه بفتح الخاء على أصلها.
قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} هذه الجملةُ في محل نصب بقول مقدر ذلك القولُ حالٌ تقديره: وناداهما قائلاً ذلك. ولم يُصَرِّحْ هنا باسم المنادي للعلم به. و "لكما" متعلق بـ "عدو" لِما فيه من معنى الفعل. ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بمحذوف على أنها حال من "عدوّ" لأنها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفاً له.
* { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(7/102)
---(1/2712)
قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ}: هذا شرطٌ حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدر عليه، فإنَّ قَبْلَ حرف الشرط لامَ التوطئة للقسم مقدرةً كقوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ}، ويدلُّ على ذلك كثرةُ ورودِ لامِ التوطئة قبل أداة الشرط في كلامهم. وما بعد ذلك قد تقدَّم إعرابُه في البقرة.
* { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }
قوله تعالى: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}: قرأ الأَخَوان وابن ذكوان "تَخْرُجون" هنا، وفي الجاثية: {فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ} وفي الزخرف: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} وفي أول الروم: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ} قرؤوا الجميعَ مبنياً للفاعلَ، والباقون قرؤوه مبنياً للمفعول، وفي أول الروم خلافٌ عن ابن ذكوان. وتحرَّزْتُ بأول الروم من قوله: {إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه قُرئ مبنياً للفاعل من غير خلاف، ولم يذكر بعضهم موافقةَ ابنِ ذكوان للأخَوَيْن في الجاثية. والقراءتان واضحتان.
و [في] قوله: {قَالاَ رَبَّنَا}: فائدةُ حَذْفِ حرف النداء هنا تعظيم المنادى وتنزيهه. قال مكي: "ونداء الربِّ قد كَثُر حَذْفُ "يا" منه في القرآن، وعلةُ ذلك أن في حذف "يا" من نداء الرب معنى التعظيم والتنزيه، وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَفٌ من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد فمعناه: تعالَ يا زيد، أدعوك يا زيد، فحُذِفت "يا" من نداء الرب ليزولَ معنى الأمر وينقص لأنَّ "يا" تُؤَكِّده وتُظهر معناه فكان في حذف "يا" الإِجلالُ والتعظيم والتنزيه".
* { يَابَنِيا ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
(7/103)
---(1/2713)
قوله تعالى: {يُوَارِي}: في محلِّ نصبٍ صفةً للباساً. وقوله "وريشاً" يُحْتمل أن يكونَ من باب عطف الصفات، و المعنى: أنه وصف اللباس بشيئين: مواراةِ السَّوْءة والزينة، وعبَّر عنها بالريش، لأنَّ الريش زينةٌ للطائر، كما أن اللباس زينة للآدميين ولذلك قال الزمخشري: "والريش لباسُ الزينة"، استعير مِنْ ريش الطير لأنه لباسُه وزينتُه". ويُحْتَمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره أي: أَنْزَلْنا عليكم لباسَيْن لباساً موصوفاً بالمواراة ولباساً موصوفاً بالزينة، وهذا اختيار الزمخشري فإنه قال بعدما حَكَيْتُه عنه آنفاً: "أي: أنزلنا عليكم لباسَيْن لباساً يواري سَوْءاتكم ولباساً يُزَيِّنُكم، لأن الزينةَ غرضٌ صحيح كما قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} وعلى هذا فالكلام في قوة حذف موصوف وإقامة صفته مُقامه والتقدير: ولباساً ريشاً أي: ذا ريش".
والرِّيْشُ فيه قولان، أحدهما: أنه اسم لهذا الشيءِ المعروف. والثاني: أنه مصدرٌ يُقتل" راشَه رِيْشاً إذا جعل فيه الرِّيش، فينبغي أن يكون الريشُ مشتركاً بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق. وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسُّلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: "ورِياشاً"، وفيها تأويلان أحدهما - وبه قال الزمخرشي - أنه جمع رِيْش فيكون كشِعْب وشِعاب. والثاني: أنه مصدرٌ أيضاً فيكون ريش ورياش مصدَريْن لـ راشه الله رَيشاً ورياشاً أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: "اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا: لِبْس ولِباس". قلت: وقد جَوَّز الفراء أن يكون مصدراً فأخذ الزمخشري بأحد القولين، وغيرُه بالآخر، وأنشدوا:
2178- ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ * وإن كانت زيارتُكم لِماما
(7/104)
---(1/2714)
قوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} قرأ نافع وابن عامر والكسائي "لباسَ" بالنصب والباقون "لباسُ" بالرفع. فالنصب نسقاً على "لباساً" أي: أنزلنا لباساً موارياً وزينة، وأنزلنا أيضاً لباس التقوى، وهذا يُقَوِّي كون "ريشاً" صفةً ثانية للباساً الأول إذ لو أراد أنه صفة لباسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه كما أبرز هذا اللباسَ المضاف للتقوى.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ خمسة أوجه، أحدها: أن يكون "لباس" مبتدأ، و "ذلك" مبتدأ ثان و "خير" خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابطُ هنا اسمُ الإِشارةِ وهو أحدُ الروابط الخمسة المتفق عليها، ولنا سادسٌ فيه خلافٌ تقدَّم التنبيه عليه. وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأعاريب في هذه الآية الكريمة. الثاني: أن يكون "لباس" خبرَ مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وكأن المعنى / بهذه الجملة التفسيرُ للّباس المتقدم، وعلى هذا فيكون قوله "ذلك" جملةً أخرى من مبتدأ وخبر. وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزجاج فقال: "وسَتْر العورة لباس التقوى". الثالث: أن يكون "ذلك" فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحداً من النحاة أجاز ذلك، إلا أن الواحديَّ قال: "ومَنْ قال إن "ذلك" لغوٌ لم يَلْقَ على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا". قلت: فقوله "لغو" هو قريب من القول بالفصل؛ لأنَّ الفصلَ لا محلَّ له من الإِعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين. الرابع: أن يكون "لباس" مبتدأً و "ذلك" بدلٌ منه أو عطفُ بيان له أو نعت و "خير" خبره، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري، إلا أنَّ الحوفي قال: "وأنا أرى أن لا يكون "ذلك" نعتاً للباس التقوى؛ لأن الأسماءَ المبهمة أعرف ممَّا فيه الألفُ واللام وما أضيف إلى الألف واللام، وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلَّ منه تعريفاً، فإن كان قد تقدَّمَ قولُ أحدٍ به فهو سهوٌ".
(7/105)
---(1/2715)
قلت: أمَّا القول به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري، ونصَّ عليه أبو علي في "الحجة" أيضاً وذكره الواحدي. وقال ابن عطية: "هو أنبل الأقوال"، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة: أعني كونه بدلاً أو بياناً أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعةُ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذَكَر من كونِ الإِشارات أعرفَ من ذي الأداة، ولكن قد يقال: القائلُ بكونه نعتاً لا يجعله أعرفَ مِنْ ذي الألف واللام. الخامس: جوَّز أبو البقاء أن يكون "لباسُ" مبتدأً، وخبره محذوف أي: ولباسُ التقوى ساتر عوراتكم" وهذا تقديرٌ لا حاجةَ إليه.
وإسنادُ الإِنزال إلى اللباس: إمَّا لأن أنزل بمعنى خلق كقوله: {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، وإمَّا على ما يسمِّيه أهلُ العلم التدريجَ وذلك أنه ينزل أسبابه، وهي الماء الذي هو سببٌ في نبات القطن والكتَّان والمرعى الذي تأكله اليهائم ذواتُ الصوفِ والشعر والوبر التي يُتَّخَذُ منها الملابسُ، ونحو قولِ الشاعر يصف مطراً:
2179- أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ * اسنِمة الآبال في ربابَهْ
فجعله جائياً لأسمه... الإِبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها، وقريب منه قول الآخر:
2180- إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ * رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
وقال الزمخشري: "جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء لأنه قضى ثَمَّ وكتب، ومنه "وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ". وقال ابن عطية: "وأيضاً فَخَلْقُ الله وأفعالُه إنما هي من علوٍّ في القَدْر والمنزلة".
(7/106)
---(1/2716)
وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ "ولباس التقوى خير" بإسقاط "ذلك"، وهي مقوِّيةٌ للقول بالفصل والبدل وعطف البيان. وقرأ النحوي: "ولبُوسُ" بالواو ورفع السين. فأمَّا الرفعُ فعلى ما تقدَّم في "لباس"، وأمَّا "لبوس" فلم يُبَيِّنوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثلَ قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} أو بضم اللام على أنه جمعٌ وهو مُشْكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْس بكسر اللام بمعنى ملبوس.
وقوله: ذلك مِنْ آيات الله" مبتدأٌ وخبر، والإِشارة به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللباسِ والريش ولباس التقوى. وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباسُ التقوى فقط.
* { يَابَنِيا ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ}: هو نهيٌ للشيطان في الصورة، والمراد نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإِصغاءِ إليه، وقد تقدم معنى ذلك في قوله {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}. وقرأ ابن وثاب وإبراهيم: "لا يُفْتِنَنَّكم" بضم حرفِ المضارعة مِنْ أفتنه بمعنى حَمَلَه على الفتنة. وقرأ زيد بن علي "لا يَفْتِنْكم" بغير نون توكيد.
(7/107)
---(1/2717)
قوله: {كَمَآ أَخْرَجَ} نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي: لا يَفْتنكم فتنةً مثلَ فتنة إخراج أبوَيْكم. ويجوز أن يكون التقدير: لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم. وقوله: "يَنْزِع" جملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: أنه الضمير في "أخرج" العائدُ على الشيطان، والثاني: أنه الأبوين، وجاز الوجهان لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍ من التقديرين، والصناعةُ مساعدةٌ لذلك؛ فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان. قال الشيخ: "فلو كان بدل "ينزع" نازعاً تعيَّن الأولُ، لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له فكان يجب إبراز الضمير، وذلك على مذهب البصريين". قلت: يعني أنه يفرَّق / بين الاسم والفعل إذا جريا على غير ما هما له في المعنى: فإن كان اسماً كان مذهبُ البصريين ما ذكر، وإن كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك. وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه المسألة، وأن الشيخ جمال الدين بن مالك سَوَّى بينهما، وأن مكبَّاً له فيها كلام مُشْكل.
(7/108)
---(1/2718)
و {يَنْزِعُ} جيء بلفظ المضارع على أنه حكاية حال كأنها قد وقَعَتْ وانقضَتْ. والنَّزْعُ: الجَذْبُ بقوة للشيء عن مقرِّه، ومنه {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} ومنه نَزْع القوس، وتستعمل في الأعْراض، ومنه نَزْعُ العداوة والمحبة من القلب، ونُزِع فلانٌ كذا سُلِبَه، ومنه {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} لأنها تَقْلع أرواح الكفرة بشدة، ومنه المنازعةُ وهي المخاصمة، والنَّزْع عن الشيء كفٌّ عنه، والنزوع: الاشتياق الشديد، ومنه نَزَع إلى وطنه ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً، وأنزع القومُ: نَزَعَتْ إبلهم إلى مواطنها، ورجل أَنْزَعُ أي زال شعرُه، والنَّزْعتان بياض يكتنف الناصية، والنَّزْعة أيضاً الموضع مِنْ رأس الأنزع، ولا يقال امرأة نَزْعاء إلذا كان بها ذلك، بل يقال لها: زَعْراء، وبئر نَزُوع أي قريبة القَعْر لأنها يُنزع منها باليد.
قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}: "هو" تأكيد للضمير المتصل ليسوغَ العطفُ عليه، كذا عبارة بعضهم. قال الواحدي: "أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} قلت: ولا حاجةَ إلى التأكيد في مثل هذه الصورةِ لصحة العطف، إذ الفاصلُ هنا موجودٌ وهو كافٍ في صحة العطف، فليس نظيرَ {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}. وقد تقدَّم لك بحثٌ في {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} وهو أنه ليسَ من باب العطف على الضمير لمانعٍ ذُكر ثَمَّةَ.
(7/109)
---(1/2719)
و {وَقَبِيلُهُ} المشهورُ قراءته بالرفع نسقاً على الضمير المستتر، ويجوز أن يكونَ نسقاً على اسم "إنَّ" على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سيما عند مَنْ يقول: يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع. ويجوز أن يكون مبتدأْ محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثة أوجه. وقرأ اليزيدي "وقبيلَه" نصباً وفيها تخريجان، أحدهما: أنه منصوب نسقاً على اسم إنَّ لفظاً إنْ قلنا إنَّ الضميرَ عائد على الشيطان، وهو الظاهر. والثاني: أنه مفعولٌ معه أي: يراكم مصاحباً لقبيله. والضمير في "إنه" فيه وجهان الظاهرُ منهما كما تقدَّم أنه للشيطان. والثاني: أن يكون ضمير الشأن، وبه قال الزمخشري، ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك.
والقبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعداً من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد. والقبيلةُ: الجماعةُ من أب واحد، فليست القبيلةُ تأنيثَ القبيل لهذه المغايرة.
قوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} "مِنْ" لابتداء غاية الرؤية، و "حيث" ظرفُ لمكان انتفاء الرؤية، و "لا تَرَوْنهم" في محل خفض بإضافة الظرف إليه، هذا هو الظاهر في إعراب هذه الآية.
(7/110)
---(1/2720)
وثَمَّ كلامٌ مُشْكل منقول عن أبي إسحاق، رأيت ذِكْرَه لئلا يَتَوَهَّم صحتَه مَنْ رآه. قال أبو إسحاق: "ما بعد "حيث" صلةٌ لها وليست بمضافةٍ إليه". قال الفارسي: "هذا غيرُ مستقيم، ولا يَصِحُّ أن يكون ما بعد "حيث" صلةً لها؛ لأنه إذا كان صلة لها وَجَبَ أن يكونَ للموصول فيه ذكرٌ، كما أن في سائر صلات الموصول ذِكْراً للموصول، فخلُّو الجملة التي بعد "حيث" من ضميرٍ يعود على "حيث" دليلٌ على أنها ليست صلة لحيث، وإذا لم تكن صلةً كانت مضافة. فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نقدِّر العائدَ في الموصولات، فإذا قلت: "رأيتك حيث زيد قائم" كان التقدير: حيث قائمه، ولو قلت: رأيتك حيث قام زيد" كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم اتُّسِع في الحرف فَحُذِف فاتصل الضمير فحذف، كما يُحْذف في قولك: "زيد الذي ضربت" أي: الذي ضربته. قيل: لو أريد ذلك لجاز استعمالُ هذا الأصل، فَتَرْكُم لهذا الاستعمالِ دليلٌ على أنه ليس اصلاً له".
قلت: أبو إسحاق لم يَعْتقد كونَها موصولةً بمعنى الذي، لا يقول بذلك أحد، وإنما يزعم أنها ليست مضافةً للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي كالزيادة، وهو كلامٌ متهافت، فالردُّ عليه من هذه الحيثيَّةِ لا من حيثية اعتقادِه لكونها موصولةً. ويُحتمل أن يكون مرادُه أن الجملة لَمَّا كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرةٌ إليها كافتقار الموصول لصلته أُطْلق عليها هذه العبارة، ويَدُلُّ على ما قلته أنَّ مكياً ذكر في علة بنائها فقال: "ولأنَّ ما بعدها مِنْ تمامها كالصلة والموصول" إلا أنه يَرضى أنها مضافةٌ لما بعدها.
(7/111)
---(1/2721)
وقرئ {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُ} بالإِفراد، وذلك يحتمل وجهين أحدهما: يكون الضميرُ عائداً على الشيطان وحده دون قبيله، لأنه هو رأسُهم وهم تَبَعٌ له ولأنه المَنْهيُّ [عنه] أول الكلام، وأن يكون عائداً عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضميرَ إجراءً له مُجرى اسم الإِشارة في قوله تعالى "عَوَانٌ بين ذلك". ونظير هذه القراءة / قول رؤبة:
2181- فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ * كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ
وقد تقدم هذا البيتُ بحكايته معه في البقرة.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا} يحتمل أن يكون بمعنى صَيَّر أي: صَيَّرْنا الشياطينَ أولياءَ. وقال الزهراوي: "جعل هنا بمعنى وصف" وهذا لا يُعْرَفُ في "جعل"، وكأنه فرارٌ من إسناد جَعْل الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى الله تعالى وكأنها نزعةٌ اعتزالية. و "للذين" متعلق بأولياء لأنه في معنى الفعل، ويجوز أن يتعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لأولياء.
* { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ}: هذه الجملةُ الشرطية لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافية وهو الظاهر، وجوَّز ابنُ عطية أن تكونَ داخلةً في حَيِّز الصلة لعطفها عليها. قال ابن عطية: "ليقع التوبيخُ بصفةِ قومٍ قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذ أشبه فعلُهم فِعْلَ الممثَّل بهم" وقوله: "وَجَدْنا" يُحْتمل أن تكون العِلْمِيَّة أي: عَلِمْنا طريقتهم أنها هذه، ويحتمل أن تكونَ بمعنى لَقِيْنا، فيكون "عليها" مفعولاً ثانياً على الأول، وحالاً على الثاني.
وقوله {لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ} حُذِف المفعولُ الأول للعلم به أي: لا يأمر أحداً، أو لا يأمركم بأمر... ذلك.
(7/112)
---(1/2722)
وقوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مفعولٌ به، وهذا مفرد في قوة الجملة، لأنَّ ما لا يعلمون - ممَّا يتقوَّلونه على الله تعالى - كلامٌ كثير من قولهم {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} كتبحير البحائر وتسييب السوائب وطوافهم بالبيتِ عُراةً إلى غير ذلك، وكذلك أيضاً حُذِف المفعول من قوله {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
}.
* { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }
قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على الأمر المقدر أي: الذي ينحلُّ إليه المصدر وهو "بالقسط"، وذلك أن القِسْط مصدرٌ فهو ينحلُّ لحرفٍ مصدري وفعل، فالتقدير: قل: أمر ربي بأن أقسِطوا وأقيموا، وكما أن المصدر ينحلُّ لـ "أَنْ" والفعل الماضي نحو: "عجبت من قيامِ زيد وخرج" أي: من أن قام وخرج، ولـ "أَنْ" والفعل المضارع كقولها:
2182- لَلُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني * ............
أي: لأَنْ ألبس وتَقَرَّ، كذلك ينحلُّ لـ "أَنْ" وفعل أمر لأنها بالثلاث الصيغ: الماضي والمضارع والأمر بشرط التصرُّف. وقد تقدَّم لنا تحقيقُ هذه المسألةِ وإشكالِها وجوابِه، وهذا بخلاف "ما" فإنها لا تُوصل بالأمر، وبخلاف "كي" فإنها لا تُوْصَلُ إلا بالمضارع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى "ما" وفعل أمر، ولا إلى كي وفعلٍ ماضٍ أو مضارع. وقال الزمخشري: "وأقيموا وجوهكم: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته". وهذا من أبي القاسم يحتمل تاويلين، أحدهما: أن يكونَ قولُه "قل" أراد به أنه مقدَّرٌ غيرُ هذا الملفوظ به، فيكون "أقيموا" معمولاً لقولٍ أمرٍ مقدرٍ، وأن يكون معطوفاً على قوله "أَمَر ربي" فإنه معمول لـ "قل". وإنما أظهر الزمخشري "قل" مع "أقيموا" لتحقيق عطفيَّته على "أَمَر ربي". ويجوز أن يكونَ قولُه "وأقيموا" معطوفاً على أمرٍ محذوفٍ تقديرُه: قل أَقْبِلوا وأقيموا.(1/2723)