قوله: {طَوْعاً وَكَرْهاً} فيهما وجهان أحدُهما: أنهما مصدران في موضع الحال والتقدير: طائعين وكارهين. والثاني: أنهما مصدران على غير الصدر، قال أبو البقاء: "لأنَّ أسلم بمعنى انقاد وأطاع"، وتابع الشيخ على هذا، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ هذا ماشٍ في "طوعاً" لموافقته لمعنى الفعل قبله، وأمّضا "كَرْهاً" فكيف يقال فيه ذلك، والقول بأنه يُغتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل غيرُ نافعٍ هنا. ويقال: طاع يَطُوع، وأطاع يُطيع يمعنى. وقيل: طاعة يَطُوعه انقادَ له، وأطاعه أي: رَضِي لأمره، وطاوَعَهُ أي: وافقه.
وقرأ الأعمش: "كُرْهاً" بالضم، وسيأتي أنها قراءة للأَخوين في سورة النساء، وللكوفيين وابن ذكوان في الأحقاف، وهناك تكلَّمْنا عليها، وتقدم لنا أيضاً ذِكْرُ هذه المادة في البقرة.
قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً فلا محلَّ لها، وإنما سِيقت للإِخبار بذلك لتضمُّنها معنى التهديد العظيم والوعيدِ الشديد، ويجوزُ أن تكونَ معطوفةٌ على الجملةِ من قولِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ} فتكونُ حالاً أيضاً، ويكونُ المعنى أنه نَعَى عليهم ابتغاءَ غير دين مَنْ أسلم له جميعُ مَنء في السموات والأرض طائِعين ومُكْرَهين ومَنْ مَرجِعُهم إليه.
وقرأ حفص عن عاصم: "يُرْجَعُون" بياء الغيبة ويَحْتَمِل ذلك وجوهاً. أحداها: أَنْ يعودَ الضميرُ على مَنْ أسلم وهو واضح. الثاني: أن يعود على مَنْ عاد عليه ضميرُ "يَبْغَون" في قراءة مَنْ قرأه بالغيبة، وهو أيضاً واضحٌ، ولا التفاتَ في هذين الوجهين. والثالث: أن يعودَ على مَنْ عاد إليه الضمير في "تَبْغَون" في قراءة الخطاب فيكون التفاتاً حينئذٍ. وقرأ الباقون: "تَبْغُون" بالخطاب، فَمَن قرأ "تبغون" بالخطاب فهو واضح، ومَنْ قرأه بالغيبة فيكون هذا التفاتاً منه، ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
(4/75)
---(1/1355)
* { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} في هذه الآية احتمالان أحدُهما: أن يكونَ المأمورُ بهذا المقولِ ـ وهو آمنَّا إلى آخره ـ محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِف معطوفُه لفهم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنَّا بالله، وهذا تقديرُ ابن عطية. والثاني من المعنيين أنَّ المأمور هنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وحدَه، وإنما خُوطب بلفظِ الجمع تعظيماً له. قال الزمخشري: "ويجوز أن يُؤْمَرَ بأَنْ يتكلَّم عن نفسِه كما تتكلم الملوكُ إِجلالاً مِنَ الله لقَدْرِ نبيه" قلت: وهو معنًى حسن. والاحتمال الثاني: أن يكونَ المأمور بهذا المقولِ مَنْ تَقَدَّم، والتقدير: قل لهم قولوا آمنَّا، فآمنذَا منصوبٌ بقُل على الاحتمالِ الأول، وبقولوا المقدرِ على الثاني، وذلك القولُ المضمر منصوبٌ المحل.
(4/76)
---(1/1356)
وهذه الآية شبيهةٌ بالتي في البقرة، إلاَّ أنَّ هنا تعديةَ أنزل بعلى، وهناك بإلى. فقال الزمخشري: "لوجودِ المعنيين جميعاً لأنَّ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارةً بأحد المعنيين وأخرى بالآخر" وقال ابن عطية: "الإِنزالُ على نبي الأمة إنزالٌ عليها"، وهذا لا طائل فيه بالنسبة إلى طلب الفرق. وقال الراغب: "إنَّما قال هنا "على" لأن ذلك لَمَّا كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ كان لفظُ "على" المختصُّ بالعلو أَوْلى به، وهناك لَمَّا كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظُ "إلى" المختصُّ بالإِيصال أَوْلى، ويجوزُ أَنْ يقال: "أَنْزَلَ عليه" إنما يُحمل على ما أُمِرَ المُنَزَّلُ عليه أَنْ يُبَلِّغه غيرَه، و"أَنْزَل إليه" على ما خُصَّ به في نفسِه وإليه نهايةُ الإِنزال، وعلى ذلك قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} خُصََّ هنا بإلى لَمَّا مخصوصاً بالذكر [الذي] هو بيانُ المُنَزَّل، وهذا كلامٌ في ألأَوْلى لا في الوجوب".
وهذا الذي ذكره الراغب رَدَّهُ الزمخشري فقال: "ومَنْ قال: إنما قيل "علينا" لقوله "قل"، و"إلينا" لقوله "قولوا" تفرقةً بين الرسول والمؤمنين، لأنَّ الرسولَ يأتيه الوحيُ على طريقِ الاستعلام ويأتيهم على وجه الانتهاء فقد تَعَسَّف، [ألا ترى] إلى قوله {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ} وإلى قوله: {آمِنُواْ بِالَّذِيا أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ
(4/77)
---(1/1357)
}. وفي البقرة: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} وهنا "والنبيون" لأنَّ التي في البقرةِ لفظُ الخاطبِ فيها عامٌّ، ومِنْ حُكْمِ خطابِ العام البسطُ دونَ الإِيجاز بخلافِ الخطاب هنا فإنه خاصٌّ فلذلك اكتفى فيه بالإِيجاز دون الإِطناب. وبابقي كلماتِ جملِ الآية تقدََّم الكلام عليها في البقرة.
* { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
قوله تعالى: {يَبْتَغِ غَيْرَ}: العامَّة على إظهار هذين المِثْلين؛ لأن بينهما فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقة، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم، وروُي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإِظهارُ على الأصل ولمراعادةِ الفاصلِ الأصلي، والإِدغامُ مراعاةً للَّفظ، إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأنَّ ذلك الفاصل مستحقٌّ الحذفَ لعاملِ الجزم، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآيةِ بل كلما التقى فيه مِثْلان بسببِ حذف حرف، لعلَّةٍ اقتضت ذلك جرى فيه الوجهان نحو: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} {وَإِن يَكُ كَاذِباً}، وقد استُشْكِلَ على هذا نحو: {ياقَوْمِ مَا لِيا أَدْعُوكُمْ} و{ياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي} فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلافٌ في إدغامها، وكان القياس يقتضي جوازَ الوجهين لأنَّ ياءَ المتكلم فاصلةً تقديراً.
قوله: {دِيناً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنه مفعولُ يَبْتَغِ، و{غَيْرَ الإِسْلاَمِ} حالٌ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّمت عليه نُصِبَت حالاً.
الثاني: أن يكونَ تمييزاً لغير لإِبهامها، فَمُيِّزَت كما مُيِّزَت "مثل" و"شبه" وأخواتهما، وسُمع من العرب: "إنَّ لنا غيرَها إبلاً وشاء". والثالث: أن يكونَ بدلاً مِنْ "غير"، وعلى هذين الوجهين فغيرَ الإسلامِ هو المفعولُ به ليبتَغِ.
(4/78)
---(1/1358)
وقوله: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} كقولِهِ: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} في الإعراب وسيأتي ما بينَهما في المعنى. وقيل: "أل" معرفةٌ لا موصولةٌ فلم يمنعْ من تعلُّق ما قبلها. بما بعدها، وهذه الجملة يجوزُ أَنْ لا يكونَ لها محلٌّ لا ستئنافها، ويجوزُ أن تكونَ في محل جزم نسقاً على جواب الشرط وهو "فلن يُقْبل"، ويكون قد ترتَّب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدمُ القبول والخسران.
* { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوااْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي} كقولِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} وقيل الاستفهامُ هنا معناه النفي، وأنشد:
1351ـ كيفَ نومي على الفراشِ وَلمَّا * تَشْمَلِ الشامَ غارةٌ شَعْراءُ
وقول الآخر:
1352ـ فهذي سيوفٌ يا صُدَّيُّ بنُ مالكٍ * كثيرٌ ولكن كيف السيفِ ضارِبُ
قوله: {وَشَهِدُوااْ} في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها معطوفةٌ على "كفروا" و"كفورا" في محلِّ نصبٍ نعتاً لقوماً، أي: كيف يهدي مَنْ جَمَعَ بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطية والحوفي وأبو البقاء، إلا أنَّ مكيّاً قد رَدَّ هذا الوجهَ فقال: "لا يجوزُ عطفُ "شهدوا" على "كفروا" لفسادِ المعنى"، ولم يُبَيِّن جهةَ الفسادِ فكأنه فَهِمَ الترتيبَ بين الفكرة والشهادة، فلذلك فَسَدَ المعنى، وهذا غير لازمٍ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطية: "والمعنى مفهومٌ أنَّ الشهادةَ قبل الكفرِ والواوُ لا تُرَتِّب".
(4/79)
---(1/1359)
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من واو "كفروا"، والعاملُ فيها الرافعُ لصاحبِها، و"قد: مضمرةٌ معها على رأي، أي: كفروا وقد وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعة كالزمخشري وأبي البقاء وغيرهما، قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون العامل "يَهْدي" لأنه يهدي مَنْ شَهِدَ أن الرسول حق، يعني أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من "قوماً"، والعاملُ في الحال "يَهْدِي" لِما ذَكَر من فساد المعنى/.
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "إيمانهم" لما تضمَّنه من الانحلال لجملةٍ فعلية، إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة، قال الزمخشري: "أن يُعْطف على ما في "إيمانهم" من معنى الفعل، لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقولِهِ تعالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} وقوله:
1353ـ مشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً * ولا ناعبٍ إلا بَيْنٍ غرابُها
انتهى. وجهُ تنظيره ذلك بالآية والبيت تَوَهُّمُ وجودِ ما يُسَوِّغُ العطفَ عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جُزِم على التوهم أي: لسقوط الفاء، إذ لو سقطت لا نجزم في جوابِ التحضيض، وكذا يقولون: تَوَهَّم وجودَ الباءِ فجَرَّ، وفي العبارة بالنسبة إلى القرآن سوءُ أدبٍ، ولكنهم لم يقصِدوا ذلك حاش لله، وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أَوْلى كقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ}، إذ هو في قوة: إن الذين صدقوا وأقرضوا، وفي هذه الآيةِ بحثُ سيمر بك إن شاء الله تعالى.
وقال الواحدي: "عُطِف الفعلُ على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعلَ تقديرُه: كفروا بالله بعد أَنْ آمنوا، فهوعطفٌ على المعنى كما قال:
1354ـ لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني * أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
(4/80)
---(1/1360)
معناه: لأِنْ ألبس وتقرَّ عيني" فظاهرُ عبارة الزمخشري والواحدي أن الأولَ يُؤَوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر، لأنَّا إنما نحتاج إلى ذلك لكونِ الموضع يطلبُه فعلاً كقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} لأنَّ الموصول يَطْلُبُ جملةً فعلية فاحتْجنا أَنْ نتأوَّل اسمَ الفاعل بفعلٍ، وعَطَفْنا عليه "وأقرضوا"، وإما "بعد إيمانهم" وقوله "للبسي عباءة" فليس مكانُ الاسمِ محتاجاً إلى فعل، فالذي ينبغي: أن نتأول الثاني باسمٍ ليصِحَّ عطفُه على الاسم الصريح قبله، وتأويلُه بأن نأتي معه بـ"أن" المصدرية مقدرةً، وتقديرُه: بعد إيمانهم وأَنتْ شَهِدوا، أي: وشهادتهم، ولهذا تأوَّل النحويون قولَها: "لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ": وأَنء تقرَّ، إذ التقدير: وقرةُ عيني، وإلى هذا الذي ذكرته ذهب أبو البقاء فقال "التقدير: بعد أَنْ آمنوا وأن شهدوا، فيكونُ في موضعِ جَرٍّ". انتهى، يعني أنه على تأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المصدرِ الصريح المجرور بالظرف، وكلام الجرجاني فيه ما يَشْهد لهذا ويَشْهَدُ لتقدير الزمخشري فإنه قال: قوله "وشَهِدوا" منسوقٌ على ما يُمكنُ في التقدير، وذلك أنَّ قولَه "بعد إيمانهم" يمكن أن يكونَ بعد "أن آمنوا" وأَنْ الخفيفة مع الفعلِ بمنزلةِ المصدرِ كقولهِ: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: والصوم:، ومثلُه مِمَّا حُمِل فيه على المعنى قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ} فهو عطفٌ على قوله: {إِلاَّ وَحْياً}، ويمكن فيه: إلا أن يُوحى إليه، فلما كان قوله {إِلاَّ وَحْياً} بمعنى: إلا أنْ يُوحَى إليه حَمَله على ذلك، ومثله من الشعر قوله:
1355ـ فَظَلَّ طُهاةٌ اللحم من بين مُنْضِحٍ * صَفيفَ شِواءٍ أو قديرٍ مُعَجَّلٍ
(4/81)
---(1/1361)
خَفَضَ قولَه "قدير" لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله "منضجٍ" لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف فَحَمَله على ذلك" قلت: فإتْيانُه بهذا البيت نظيرُ إيتان الزمخشري بالآية الكريمة والبيت المتقدمين، لأنه جَرَّ "قدير" هنا على التوهم، كأنه تَوَهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفاً فَجَرَّ على التوهم، كأنه تَوَهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفاً فَجَرَّ على التوهم، كما تَوَهَّم الآخرُ وجودَ الباءِ في قوله: "ليسوا مصلحين"، لأنها كثيراً ما تزاد في خبر ليسي. وقوله: {أَنَّ الرَّسُولَ} الجمهورُ على أنه وصف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالة فيكون مصدراً وقد تقدَّم ذلك.
* { أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }
قوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ}: يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأ ثانياً، و"أنَّ عليهم" إلى آخره في محلِّ رفعٍ خبراً لجزاؤهم، والجملةُ خبر لأولئك. والثاني: أن يكونَ "جزاؤهم" بدلاً من "أولئك" بدلَ اشتمال، و"أن عليهم" إلى آخره خبرُ أولئك. وقال هنا: {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} وهناك {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ} دون "جزاؤهم" قيل: لأنَّ هناك وَقَعَ الإِخبارُ عَمَّن توفي على الكفر، فمن ثَم حَتَّم الله عليه اللعنةَ بفخلاه هنا، فإنَّ سببَ النزولِ في قومٍ ارتُّدوا ثم رجَعوا للإسلام. ومعنى "جزاؤهم" أي: جزاءُ كفرِهم وارتدادهم. وتقدَّم قراءةُ الحسنِ {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وتخريجُها.
* { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
قوله تعالى: {خَالِدِينَ}: حالٌ من الضمير في "عليهم" والعاملُ فيها الاستقرارُ أو الجارُّ لقيامه مقامَ الفعل وتقدَّمَتْ نظائرُه. والضمير في "فيها" للعنة. و{لاَ يُخَفَّفُ} جملةٌ حالية أو مستأنفة.
(4/82)
---(1/1362)
* { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ}: استثناءٌ متصلٌ.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
قوله تعالى: {كُفْراً}: تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، والأصلُك ثم ازداد كفرهُم، والدالُ الأولى بدلٌ من تاءِ الافتعالِ لوقوعِها بعد الزاي، كذا أعربه الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ المعنى على أنه مفعول به، وذلك أنَّ الفعلَ المتعدِّيَ لاثنين إذا جُعِل مطاوعاً نَقَص مفعولاً، وهذا من ذاك، لأن الأصل: زِدْتُ زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصلُ الآية الكريمة، زادهم الله كفراً فازدادوه.
ولم يُؤْتَ هنا بالفاء داخلةً على "لن" وأتى بها في "لن" الثانيةِ. قيل: لأنَّ الفاءَ مُؤْذِنَةٌ بالاستحقاق بالوصفِ السابق، لأنه قد صَرَّح بقيدِ موتهم على الكفر/ بخلافِ "لن" الأولى فإنه لم يُصَرِّح معها به،فلذلك لم يُؤْتَ بالفاء.
وقرأ عكرمة: "لن نقبل" بنونِ العظمة، "توبتَهم" بالنصب، فلذلك قرأ: "فلن نقبل مِنْ أحدِهم ملء" بالنصب.
(4/83)
---(1/1363)
قوله: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ في محلٍّ رفعٍ عطفاً على خبر إنَّ، أي: إنَّ الذي كفروا لن تُقْل توبتُهم وإنهم أولئك هم الضالمون. الثاني: أن تُجْعَلَ معطوفة على الجملة المؤكدة بإن، وحينئذٍ فلا محلَّ لها من الإِعرابِ لعطفِها على ما لا محلَّ له. الثالث: وهو أغربُها أن تكونَ الواو للحال، فالجملة بعدها نصب على الحال، والمعنى: لن تُقْبَل توبتُهم من الذنوب والحالُ أنهم ضالون، فالتوبةُ والضلال متنافيان لا يَجْتمعان، قاله الراغب، وهو بعيد في التركيب، وإنْ كانَ قريبَ المعنى. قال الشيخ: "ويَنْبو عن هذا المعنى هذا التركيبُ، إذ لو أُريد هذا المعنى لم يُؤْتَ باسم الإِشارة".
وقوله: {فَلَن يُقْبَلَ} قد تقدم أن عكرمة [قرأ] "نقبل" بالنون، "ملءَ" بالنصب مفعولاً به، وقرأ بضعهم: فلن يَقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى، و"ملءَ" بالنصب كما تقدم. وقرأ أبو جعفر وأبو السمَّال: "مِل الأرض" بطرح همزة "ملء"، نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وبعضُهم يُدْغم نحو هذا، أي: لام "ملء" في لام "الأرض" بعروضِ التقائِهما.
والملءُ مقدارُ ما يملأ الوعاءَ، والمَلْءُ بفتح الميم هو المصدر. يقال: "مَلأتُ القِرْبة أملؤها مَلْئَاً"، والمُلاءة المِلْحَفة بضم الميم والمد.
(4/84)
---(1/1364)
و"ذَهَبا" العامة على نصبه تمييزاً، وقال الكسائي: "على إسقاط الخافض" وهذا كالأول، لأنَّ التمييزَ مقدَّرٌ بـ"مِنْ" واحتاجت "ملء" إلى تفسير لإِبهامها، لأنها دالةٌ على مقدار. كالقَفِيز والصَّاع. وقرأ الأعمش "ذهبٌ" بالرفع، قال الزمخشري: "رَدّاً على مِلْءُ" كما يقال: "عندي عشرون نفساً رجالٌ" يعني بالرد البدل، ويكونَ نكرة من معرفة، قال الشيخ: "ولذلك ضَبَط الحُذَّاق قوله "لك الحمدُ ملءُّ السموات" بالرفع، على أنه نعتٌ للحمد، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة" قلت: لا يتعيََّنُ نصبُه على الحال حتى يلزَم ما ذكره من الضعفش، بل هو منصوبٌ على الظرف، أي: إنَّ الحمد يقع مِلئاً للسموات وللأرض.
قوله: {وَلَوِ افْتَدَى} الجمهورُ على ثبوتِ الواو وهي واو الحال، قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف موقعُ قولِه : {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}؟ قلت: هو كلامٌ محمولٌ على المعنى كأنه قيل: فَلَنْ يُقبل من أحدِهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرض". انتهى. والذي ينبغي أن يُحْمل عليه أن الله تعالى أخبر أنَّ مَنْ ماتَ كافراً لا يُقْبل منه ما يَملأ الأرض من ذَهبٍ، على كل حال يَقْصِدُها ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أنَّ حالة الافتداءِ حالةٌ لا يمتَنُّ فيها المفتدي على المفتدَى منه إذ هي حالةُ قهرٍ من المفتدَى منه للمفتدِي.
قال الشيخ: "وقد قَرَّرنا من نحوِ هذا التركيب أنَّ "لو" تأتي مَنْبَهَةً على أَنَّ ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، ومابعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يُظَّنُّ أنها لا تندَرجُ فيما قبلها، كقوله عليه السلام: "اعطُوا السائل ولو جاء على فرس" و"رُدُّوا السائل ولو بِظِلْفٍ مُحْرَق"، كأنَّ هذه الأشياء كان ممَّا ينبغي أن لا يُؤْتى بها، لأنَّ كونَ السائلِ على فرسٍ يُشْعر بغناه فلا يناسبُ أَنْ يُعْطى، وكذلك الظِّلْفُ المُحرَقُ لا غناءَ فيه، فكان يناسِبُ ألاَّ يُرَدَّ به السائل".
(4/85)
---(1/1365)
وقيل: الواو هنا زائدةٌ، وقد يتأيَّج هذا بقراءة ابن أبي عبلة "لو افتدى به" دون واوٍ، ومعناها أنه جُعِل الافتداءُ شرطاً في عدم القبول فلم يتَعمَّمْ نَفْيُ وجود القبولِ. و"لو" قيل: هي هنا شرطية بمعنى إنْ، لا التي معناها لِما كان سيقع لوقوع غيره، لأنها مُعَلَّقة بمستقبل، وهو قوله: {فَلَن يُقْبَلَ} وتلك مُعَلَّقَةٌ بالماضي.
وافتدى: افْتَعَلَ من لفظِ الفِدْيَة وهو متعدٍّ لواحدٍ لأنه بمعنى فَدَى، فيكونُ افْتَعَل فيه وفَعَل بمعنىً نحو: شَوَى واشتوى، ومفولُه محذوف تقديره: افتدَى نفسَه.
والهاءُ في "به" فيها أقوال، أظهُرها: عودُها على "ملء" لأنه مقدارُ ما يلمؤها، أي: ولو افتدى بملء الأرض. والثاني: أن يعودَ على "ذهبا" قاله أبو البقاء، قال الشيخ: "ويوجد في بعضِ التفاسير أنها تعنود على المِلء أو على الذهب، فقوله: "أو على الذهب" غلطٌ" قتل: كأن وجهَ الغلطِ فيه أنه ليس مُحَدَّثاً عنه/، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره فَضْلةً. الثالث: أن يعود على "مثل" محذوفٍ، قال الزمخشري: "ويجوز أَنْ يُرادَ "ولو افتدى بمثله" كقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} والمِثلُ يُحذف في كلامهم كثيراً، كقولك "ضَرَبْتُ ضربَ زيدٍ" تريد مثلَ ضربه، أبو يوسف أو حنيفة" أي مثلُه، و:
1356ـ لا هيثمَ الليلةَ للمَطيّ
(4/86)
---(1/1366)
و"قضية ولا أبا حسنٍ لها" تريد: لا مثلَ هثيم ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد في قولهم: "مثلُك لا يفعل كذا" يريدون: أنت لا تفعل، وذلك أن المثلين يَسُدُّ أحدهما مَسَدَّ الآخر، فكانا في حكم شيء واحد". قال الشيخ: "و لاحاجةَ إلى تقدير "مثل" في قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}، وكأن الزمخشري تَخَيَّل أنَّ ما نُفِي أَنْ يُقْبَلَ لا يمكن أن يُفْتَدَى به فاحتاج إلى إضمار "مثل" حتى يُغايِرَ بين ما نُفِيَ قَبُوله وبين ما يُفْتَدَى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفَرَض والتقدير، إذ لا يمكن عادةً أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث إنه لو بَذَله علىأي جهة بَذَله لم يُقْبَلْ منه، بل لو كان ذلك مُمْكِناً لم يَحْتَجْ إلى تقدير "مثل" لأنه نُفِي قبولُه حتى في حالة الافتداء، وليس ما قَدَّر في الآية نظيرَ ما مَثَّل به، لأَنَّ هذا التقدير لا يُحتاج إليه ولا معنى له، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يُقَدَّر، وأما ما مَثَّل به من نحو: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف وأبو حنيفة" فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير "مثل"، إذ ضربُك يستحيل أن يكون ضرب زيد، وذاتُ أبي يوسف يستحيل أن تكونَ ذات أبي حنيفة، وأما "لا هيثم الليلة للمطي" فَدَلَّ على حذف "مثل" ما تقرَّر في اللغة العربية أن "لا" التي لنفي الجنس لا تدخُل على الأعلام فتؤثِّر فيها فاحتيج إلى إضمار "مثل" لتبقى على ما تقرَّر فيها إذ تقرَّر فيها أنها لا تعملُ إلا في الجنس، لأن العَلَمية تنافي عمومَ الجنس، وأما قوله "كما يُزاد في نحو: "مثلُك لا يفعل" تريد أنت" فهذا قولٌ قد قِيل [به]، ولكن المختارَ عند حُذَّاق النحويين أنَّ الأسماء لا تزاد". قلت: وهذا الاعتراضُ على طولِه جوابُه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافة: "فاللغوي وإن عَلَكَ اللغة بِلَحْيَيْه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره".
(4/87)
---(1/1367)
قوله: {أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يجوزُ أنْ يكونَ "لهم" خبراً لا الإشارة، و"عذابٌ" فاعلٌ به، وعَمِل لاعتمادِه على ذي خبر، أي: أولئك استقر لهم عذاب، وأن يكونَ "لهم" خبراً مقدماً، و"عذاب" مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبر عن اسم الإِشارة، والأولُ أحسنُ، لأنَّ الإِخيرا بالمفرد أقربُ من الإِخبار بالجملة، والأول من قَبيلِ الإِخبار بالمفرد.
قوله: {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} يجوزُ أَنْ يكونَ "من نصارين" فاعلاً، وجاز عَمَل الجار لاعتماده على حرف النفي أي: وما استقر لهم من نصارين. والثاني: أنه خبر مقدم و"من ناصرين" مبتدأ مؤخر، و"مِنْ" مزيدةٌ على الإِعرابين لوجود الشرطين في زيادتها. وأتى بناصرين جمعاً لتوافِقَ الفواصلَ.
* { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ}: النَّيْل: إدراكُ الشيء ولُحوقُه، وقيل هو العطية، وقيل: هو تناوُلُ الشيء باليد، يقال: نِلْتُه أناله نَيْلاً. قال تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً}. وأمَّا النَّوْلُ بالواو فمعناه التناول، يقال: نِلته أنوله أي: تناولته، وأنلته زيداً أَنوله إياه أي: ناولته إياه، كقولك: عَطَوْتُه أعطوه بمعنى تناولته، وأعطيته إياه إذا ناولته إياه.
وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُواْ} بمعنى إلى أن، و"مِنْ" في {مِمَّا تُحِبُّونَ} تبعيضيةٌ، يدلُّ عليه قراءةُ عبدالله : "بعضَ ما تحبون"، وهذه عندي ليست قراءةً بل تفسيرُ معنى. "ما" موصولةٌ وعائدها محذوف، والقولُ بكونها نكرةً موصوفة لا معنى له، وقد جَوَّز ذلك أبو البقاء فقال: [ "أو نكرةٌ موصوفة، ولا تكون مصدريةً لأنَّ المحبةَ لا تُنْفَقُ، فإنْ جُعِلَتِ المحبة بمعنى المفعول جاز على رأي عليّ"] يعني يبقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان، والأول أضعف.
(4/88)
---(1/1368)
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ} تقدم نظيره في البقرة.
* { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِيا إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {حِلاًّ}: الحِلُّ: بمعنى الحلال وهو في الأصل مصدر لحَلَّ يَحِلُّ كقولك: عَزَّ يَعِزُّ عِزّاً، ثم يُطلق على الأشخاص مبالغة، ولذلك يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث كقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ}، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: "كنت أُطَيِّبُه صلى الله عليه وسلم لحِلّه ولحَرَمِه" أي: لإحلاله ولإِحرامه، وهو كالحِرْم واللِّبْس بمعنى الحَرام واللباس، قال تعالى: "وحِرْمٌ" وقرىء "وحرام". و"لبني" متعلق بحِلّ.
قوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى/ من أسمِ كان. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ مستثنى من ضميرِ مستتر في "حِلاً" فقال: "لأنه استثناء من اسم كان، والعاملُ فيه "كان"، ويجوزُ أن يعملَ فيه "حِلاً" ويكون فيه ضميرٌ يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاً وحَلالاً في موضعِ اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح".
وفي هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصل، والتقدير: إلا ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسه، فَحُرِّم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات وادعوا صِحَّة ذلك. والثاني: أنه منقطع، والتقدير: لكنْ حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه خاصةً ولم يُحَرِّمْه عليهم، والأول هو الصحيح.
(4/89)
---(1/1369)
قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بحَرّم أي: إلا ما حَرَّم مِنْ قبلِ، قاله أبو البقاء. قال الشيخ: "ويَبْعُد ذلك، إذ هو من الإِخبار بالواضح، لأنه معلومٌ أنَّ ما حَرَّم إسرائيل على نفسه هو مِنْ قبل إنزال التوراةِ ضرورةَ لتباعدِ ما بين وجود إسرائيل وإنزالِ التوراة". والثاني: أنها تتعلَّقُ بقوله: كان حِلاً" قال الشيخ: "ويظهر أنه متعلّقٌ بقولِه {كَانَ حِلاًّ لِّبَنِيا إِسْرَائِيلَ} أي: مِنْ قبلَ أَنْ تُنَزَّل التوراة، وفَصَل بالاستثناء إذ هو فصلٌ جائز، وذلك على مذهبِ الكسائي وأبي الحسن في جواز أَنْ يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: "ما حُبِس إلا زيدٌ عندَكَ، وما أوَى إلا عمروٌ إليك، وما جاء إلا زيدٌ ضاحكاً" وأجازَ الكسائي ذلك في المنصوبِ مطلقاً نحو: ما ضَرَب إلا زيدٌ عمرو، وأمَّا تخريجُه على غيرِ مذهبِ الكسائي وأبي الحسن فيُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ جنسِ ماقبله، وتقديرُه هنا: حَلَّ من قبلِ أَنْ تُنَزَّل التوراة".
* { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ}: في وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بافترى، وهذا هو الظاهرُ، والثاني: جَوَّزه أبو البقاء وهو أَنْ يتعلَّقَ بالكذب، يعني الكذبَ الواقعَ مِنْ بعد ذلك. وفي المشار إليه بذلك ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: استقرارُ التحريم المذكور في التوراة، إذ المعنى: إلاَّ ما حَرَّم إسرائلُ على نفسِه ثم حَرَّمته التوراة عليهم عقوبةً له. الثاني: التلاوةُ، وجاز تذكيرُ اسمِ الإِشارة لأنَّ المرادَ بها بيانُ مذهبهم. والثالث: الحالُ بعد تحريمِ إسرائيل على نفسه.
(4/90)
---(1/1370)
وهذه الجملةُ ـ أعني قولَه {فَمَنِ افْتَرَى} ـ يجوز أن تكون استئنافية فلا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ نسقاً على قوله: "فَأْتوا بالتوراة" فتندرجَ في المقول. و"مَنْ" يجوز أن تكون شرطية أو موصولة، وحَمَل على لفظِها في قولِه: "افترى" فلذلك وَحَّد الضميرَ، وعلى معناها فَجُمِع في قولِه: {فَأُوْلَائِكَ} إلى أخره.
* { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ}: أي: قل لهم. والعامةُ على إظهارِ لام "قُل" مع الصادِ، وقرأ أبان بن تغلب بإدغامِها فيه، وكذلك أدغمَ اللامَ في السين في قوله: {قُلْ سِيرُواْ}، وسيأتي أنَّ حمزة والكسائي وهشاماً أَدْغموا اللامَ في السينِ مِنْ قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
}. قال أبو الفتح: "علةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفين في الفَمِ وانتشارُ الصوتِ المنَبثِّ عنهما فقارَبَتا بذلك مَخْرَجَ اللامِ فجازَ إدغامُها فيهما وهو مأخوذٌ من كلامِ سيبويه، فإنَّ سيبويه قال: "والإِدغامُ ـ يعني إدغامَ اللام مع االطاء والصاد وأخواتِهما ـ جائزٌ وليس ككثرتِه مع الراء، لأنَّ هذه الحروفَ تراخَيْن عنها وهي من الثنايا" قال: "وجوازُ الإِدغام لأن آخرَ مخرجِ الام قريبٌ من مَخْرجها. انتهى". وقال أبو البقاء عبارةً توضِّح ما تقدَّم وهي: "لأن الصاد فيها انبساطٌ وفي اللام انبساطٌ، بحيث يتلاقى ظرفاهما فصارا متقاربين" وقد تقدَّم إعراب قولِه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} فأعنى عن أعادته.
* { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }
(4/91)
---(1/1371)
قوله تعالى: {وُضِعَ لِلنَّاسِ}: هذه الجملة في موضعِ خفضٍ صفةً لبيت. وقرأ العامة: "وُضِع" مبيناً للمفعول، وعكرمة وابن السَّمَيفَع: "وَضَع" مبيناً للفاعل، وفي فاعله قولان، أظهرهما، أنه ضمير إبراهيم لتقدُّم ذكره، ولأنه مشهورٌ بعِمارته، والثاني: أنه ضميرُ الباري تعالى. و"للناس" متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ فيه للعلةِن و"لَلَّذي بِبَكَّةَ" خبرٌ إنَّ، وأَخْبر هنا بالمعرفة وهو الموصول عن النكرة وهو "أولَ بيت" لتخصيص النكرة بشيئين: الإِضافةِ والوصفِ بالجملة بعده، وهو جائزٌ في باب إنَّ، ومن عبارةِ سيبويه: "إنَّ قريباً منك زيدٌ" لَمَّا تخصص "قريباً" بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرته لك، وزاده حُسناً هنا كونُه اسماً "إنَّ"، وقد جاءَتِ النكرةُ اسماً لإِنَّ وإنْ لم يكن تخصيصٌ. قال:
1357ـ وإنَّ حَراماً أَنْ أَسُبَّ مجاشعاً * بآبائيَ الشُمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
(4/92)
---(1/1372)
و"ببكة" صلةٌ، والباءُ فيه ظرفيةٌ أي: في مكة، وبَكَّةُ فيها أوجه، أحدُها أنها مدرادفةٌ لمكة فَأُبدلت ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا عليَّ ضَرْبَةُ لازم ولازِب، وهذا أمرٌ راتِب وراتِم، والنَّمِيط والنَّبيط، وسَبَدَ رأسه وسَمَدَها، وِأَعْبطت الحُمَّى وأَعْمَطَت، وقيل: اسمٌ لبطن مكة، وقيل: لمكان البيت، وقيل: للمسجدِ نفسِه، وأيَّدوا هذا بأن التباكَّ وهو الازدحام إنما يحصُل عند الطواف، يقال: تَبَاكَّ الناسُ أي: ازدحموا. وهذا القولُ يُفْسِده أَنْ يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضُهم، وهو فاسدٌ لأنَّ البيتَ في المسجدِ حقيقةً، وسُمِّيت بَكَّة، لازدحام الناس، وقيل: لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة، أي تَدُقُّها، وسُمِّيتْ مكة من قولهم: "تَمَكَّكْتُ المُخَّ من العظم" إذ استقصيتَه ولم تترك منه شيئاً، ومنه "امْتَكَّ الفصيلُ ما في ضَرْع أمه" إذا لم يترك فيه لبناً، ورُوي أنه قال: "لا تُمَكِّكُوا على غرمائِكم".
ثم في تسميتها بذلك أوجهٌ، فقال ابن الأنباري: "سُمِّيَتْ بذلك لقلة مائها وزرعها وقلة خِصْبها، فهي مأخوذةٌ من "مَكَكْتُ العظمَ" إذا لم تترك فيه شيئاً. وقيل: لأنَّ مَنْ ظلم فيها مَكَّه الله أي استقصاه بالهلاك. وقيل: لأنها وسط الأرضِ كالمخ وسطَ العظم، وهذا قولُ الخليل بن أحمد، وهو حسن. والمَكُّوك كأس يُشْرب به ويُكال به كالصُّواع.
(4/93)
---(1/1373)
قوله: {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان: إمَّا من المضمرِ في "وُضِع" كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه، وفيه نظرٌ، مِنْ حيث إنه يَلْزَمُ الفصلُ بين الحال وبين العامل فيها بأجنبي، وهو خبر إنَّ، وذلك غير جائز لأنَّ الخبرَ معمولٌ لإِنَّ، فإنْ أضْمَرْتَ عاملاً وهو "وُضِع" بعد "للذي ببكة" أي و"وُضِع" جاز، والذي حَمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضع بهذا القيد. والظاهرُ أنَّ "وهدى" نَسَقٌ على "مباركاً". وزعم بعضُهم أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديره: وهو هدىً، وهو ساقطٌ الاعتبار به.
والبركة: الزيادةُ، يقال: باركَ الله لك أي: زادَك خيراً، وهو متعدٍّ، ويَدُلُّ عليه: {أَن بُورِكَ مَن} ويُضَمَّنُ معنى [ما يتعدى] بعلى كقوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ}. و"تبارَكَ" لا يَتَصَرَّف ولا يُسْتعمل مسنداً إلا الله تعالى، ومعناه في حَقِّه تعالى: تزايَدَ خيرُه وإحسانه، وقيل: البَرَكَةُ ثبوتُ الخيرِ، مأخوذٌ من مَبْرَك البعير. وإمَّا من الضميرِ المستكنِّ في الجار، وهو "ببكة" لوقوعِه صلةً، والعاملُ فيها الجارُّ بما تضمَّنه من الاستقرارِ أو العاملُ في الجار، ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إضمارِ فعلِ المدح أو على الاختصاصِ، ولا يَضُرُّ كونُه نكرةً، وقد تقدَّم دلائل ذلك. و"للعالمين" كقوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} أولَ البقرة.
* { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }
(4/94)
---(1/1374)
قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ}: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل نصبٍ على الحال: إمَّا من ضمير "وُضع"، وفيه ما تقدَّم من الإشكال، وإمَّا من الضميرِ في "ببكة" وهو واضحٌ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ لذي حالٍ واحدٍ، وإمَّا مِنَ الضمير في "للعالمين"، وإمَّا من "هدى"، وجازَ ذلك لتخصُّصهِ بالوصفِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في "مباركاً". ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ في محل نصب نعتاً لهدى بعد نعتِه بالجار قبلَه، ويجوزُ أَنْ يكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها بياناً وتفسيراً لبركتِه وهُداه، ويجوزُ أَنْ تكونَ الحالُ أو الوصفُ على ما مَرَّ تفصيله هو الجارَّ والمجرورُ فقط، و"آياتٌ" مرفوعٌ بها على سبيل الفاعلية، لأنّ الجارَّ متى اعتمد على أشياءَ ذكرتها في أولِ هذا الموضوعِ رَفَع الفاعل، وهذا أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر، لأنَّ هذه الأشياءَ ِـ أعني الحال والنعت والخبر ـ أصلُها أَنْ تكونتَ مفردةً فما قَرُب منها كان أولى، والجارُّ قريبٌ من المفرد، ولذلك تقدَّم المفردُ ثم الظرف ثم الجملةُ فيما ذَكَرْتُ، وعليه الآيةُ الكريمة: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فقدَّم الوصف بالمفرد وهو "مؤمن"، وثَنّى بما قَرُب منه وهو "من آل فرعون"، وثَلَّث بالجملة وهي "يكتم إيمانه"، وقد جاءَ في الظاهر عكسُ هذا، وسأُوضِّح هذه المسألة إنْ شاء الله عند قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
(4/95)
---(1/1375)
}. قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فيه أوجه، أحدها أنَّ "مقام" بدلٌ من "آيات"، وعلى هذا يُقال: إنَّ النحويين نَصُّوا على أنه متى ذُكِرَ جمعٌ لا يُبْدَلُ منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع فتقول: "مررت/ برجالٍ زيدٍ وعمرٍو وبكر" لأنَّ أقلَّ الجَمْعِ الصحيح ثلاثةٌ، فإن لم يُوفِّ قالوا: وَجَبَ القطعُ عن البدلية: إمَّا إلى النصب بإضمارِ فعلٍ، وإمّا إلى الرفعِ على مبتدأٍ محذوفٍ الخبر، كما تقولُ في المثال المتقدم: "زيداً وعمراً" أي أعني زيداً وعمراً، أو "زيد وعمرو" أي: منهم زيد وعمرو، ولذلك أعربوا قولَ النابغة:
1358ـ تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
رَمادٌ ككحلِ العَيْن لأْياً أُبينه *ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشعُ
على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونُؤْيٌ، وكذا قَولُه تعالى: {حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: أعني أو أذُمُّ فرعون وثمود، على أنه قد يقال: إنَّ المرادَ بفرعون وثمودَ هما ومَنْ تَبِعَهما مِنْ قومهما، فذكرُهما وافٍ بالجَمْعية، وفي الآيةِ الكريمةِ هنا لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقَامُ وأَمْنُ داخلِه، فكيف يكلان بدلاً؟ وهذا الإِشكالُ أيضاً واردٌ على قول مَنْ جَعَلَه خبرَ مبتدأ محذوف أي: هي مقامُ إبراهيم كيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟.
(4/96)
---(1/1376)
وفيه أجوبةٌ، أحدُها: أنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما ذهب إليه بعضهم، قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يُراد: فيه آيات: مقامُ إبراهيم وأمنُ مَنْ دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة". الثاني: أن "مقام إبراهيم" وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يَشْتم على آياتٍ كثيرة، لأنَّ القدمين في الصخرةِ الصَمَّاءِ آيةٌ، وغَوْصُهُمَا فيها إلى الكعبين آية، وإلانَةُ بعضِ الصخرةِ دونَ بعض آية، وإبقاؤه على مَرّ الزمان، وحفظُه من الأعداء آية، واستمرارُه دون آيات سائر الأنبياء ـ خلا نبيِّنا صلى الله عليه وعلى سائرهم ـ آيةٌ، قال معناه الزمخشري. الثالث: أن يكونَ هذا من باب الطَيّ، وهو أن يُذْكَرَ جمعٌ ثم يُؤْتَى ببعضِه ويُسْكَتَ على ذِكْر باقيه لغرضٍ للمتكلم ويسمى طَيَّاً، وأنشد الزمخشري عليه قول جرير:
1359ـ كانَتْ حُنْفَيةُ أثلاثاً فثُلْثُهُمُ * مِنَ العبيدِ وثُلْثٌ مِنْ مَواليها
وأوردَت منه قولَه عليه الصلاة والسلام: "حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكم ثلاثٌ: الطِّيب والنساء، وقُرَّةُ عيني في الصلاة" ذَكَر اثنين وهما الطِّيب والنساءُ، وطَوَى ذِكْرَ الثالثة، لا يقال: إن الثالثة قوله: "وقُرَّة عيني في الصلاة" لأنها ليست من دُنْياهم، إنماهي من الأمورِ الأُخْروية، وفائدةُ الطيّ عندهم تكبيرُ ذلك الشيء، كأنه تعالى لَمَّا ذكر جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثيرٌ سواهما. وقال ابن عطية: "والأرجح عندي أن المَقام وأمنَ الداخلِ جُعلا مثالاً مِمَّا في حَرَم الله تعالى من الآيات، وخُصَّا بالذكر لعِظَمِهما وأنهما تقومُ بهما الحجةُ على الكفار، إذ هم مُدْرِكون لهاتين الآيتين بحواسِّهم".
(4/97)
---(1/1377)
الوجه الثاني: أن يكونَ "مقامُ إبراهيم" عطفَ بيان، قال الزمخشري وردَّ علي الشيخ هذا مِنْ جهةِ تَخَالُفِهما تَعْريفاً وتنكيراً فقال: "قوله مخالف لإِجماع البصريين والكوفيين فلا يُلتفت إليه، وحكمُ عطفِ البيان عند الكوفيين حكمُ النعتِ فَيُتْبِعون النكرةَ النكرةَ والمعرفةَ المعرفةَ، وتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي، وأمّا البصريون فلا يجوز عندهم إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوزُ أن يكونا نكرتين، وكلُّ شيء أورده الكوفيون مِمَّا يُوهم جوازَ كونِه عطفاً جعلَه البصريونَ بدلاً، ولم يَقُمْ دليلٌ للكوفيين". قلت: وهذه المسألةُ ستأتي إنْ شاءَ اللهُ محررةً عند قوله تعالى: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} وعند قوله تعالى: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ
(4/98)
---(1/1378)
}. ولَمّا أعرب الزمخشري مقامَ إبراهيم وأَمْنَ داخِله بالتأويل المذكور اعتَرَضَ على نفسِه بما ذكرْتُه مِنْ إبدال غيرِ الجمع من الجمعِ، وأجاب بما تقدَّم، واعترض أيضاً على نفسه، بأنه كيف تكون الجملةُ عطفَ بيان للأسماء المفردة؟ فقال: "فإنْ قلت: كيف أَجَزْتَ أن يكونَ مقامُ إبراهيم والأمنُ عطفَ بيان، وقولُه {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} جملةٌ مستأنفةٌ: إمَّا ابتدائيةٌ وإمَّا شرطيةٌ. قلت: أَجَزْتُ ذلك من حيث المعنى، لأن قوله {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} دلَّ على أَمْنِ مَنْ دخله، فكأنه قيل: "فيه آياتٌ بينات: مقامُ إبراهيم وأَمْنُ مَنْ دخله" ألا ترى أنك لو قلت: "فيه آيةٌ بَيِّنَةٌ: مَنْ دَخَله كان آمناً" صَحَّ، لأن المعنى: فيه آيةٌ بينةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَه". قال الشيخ: "وليس بواضحٍ لأنَّ تقديرَه وأَمْنُ الداخل هو مرفوعٌ عطفاً على/ "مقام إبراهيم" وفَسَّر بهما الآياتِ، والجملةُ من قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا موضعَ لها من الإِعراب فَتدافَعا، إلاَّ إن اعتقد أن ذلك معطوفٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما بعده، فيمكن التوجيهُ، لا يُجْعَلُ قولُه {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} في معنى "وأَمْنُ داخِلِه" إلا من حيثُ تفسيرُ المعنى لا تفسيرُ الإِعراب" وهي مُشاحَّةٌ لا طائلَ تحتها، ولا تدافُعَ فيما ذَكَر، لأنَّ الجملة متى كانَتْ في تأويلِ المفردِ صَحَّ عطفُها عليه، ثم المختارُ أن يكونَ قولُه "مقام إبراهيم" خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لا كما قَدَّروه حتى يلزمَ الإِشكالُ المتقدم، بل تقدِّرُه: أحدها مقام إبراهيم، وهذا هو الوجه الثالث. و"مَنْ" يجوز أن تكونَ شرطيةً وأن تكون موصولة، ولا يَخْفى الكلام عليهما ممَّا تقدم.
(4/99)
---(1/1379)
وقرأ أُبَيٌ وعمرُ وابن عباس وأبو جعفر ومجاهد: "آيةٌ بينة" بالتوحيد، وتخريجُ "مقام" على الأوجه المتقدمة سهلٌ: مِنْ كونها بدلاً أو بياناً عند الزمخشري، أو خبرَ مبتدأ محذوف، وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرةِ مطلقاً، والكوفيون لا يُبْدِلون منها إلا بشرطِ وصفِها وقد وُصِفَتْ.
قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} فيه ستة أوجه، أحدهما أنَّ "مَنْ" بدلٌ من "الناس" بدلُ بعضٍ من كل، وبدلُ البعضِ وبدلُ الاشتمالِ لا بد من كلٍّ منهما مِنْ ضميرٍ يعودُ على المُبْدَلِ منه نحو: أَكْلْتُ الرغيفَ ثلثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس ضميرٌ، فقيل: هو محذوفٌ تقديره: مَنْ استطاع منهم. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، إذ المرادُ بالناس المذكورين خاصٌّ، والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ ا لذي قبلَه يُقال فيه: عامٌّ مخصوصٌ، وهذا يُقالُ فيه: عامٌّ أُريد به الخاصُّ، وهو فرقٌ واضح، وهاتان العبارتان مأخوذتان مِنْ عبارة الإِمام الشافعي رضي الله عنه. الثالث: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو مَنْ استطاع. الرابعُ: أنَّها مصدريةٌ بإضمارِ فعلٍ أي: أعني مَن استطاع، وهذان الوجهان في الحقيقة مأخوذان من وجهِ البدل، فإنَّ كلَّ ما جاز إبدالُه ممَّا قبله جاز قَطْعُه إلى الرفع أ والنصب المذكورين آنفاً. الخامس: أنَّ "مَنْ" فاعلٌ بالمصدرِ وهو "حَجٌّ" والمصدرُ مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن يَحُجَّ من استطاع منهم سبيلاً البيتَ، وهذا الوجه قد رَدَّه جماعة مِنْ حيثُ الصناعةُ ومن حيث المعنى: أمَّا من حيثُ الصناعةُ فلأنه إذا اجتمع فاعلٌ ومفعولٌ مع المصدرِ العامل فيهما فإنما يُضاف المصدرُ لمرفوعِه دونَ منصوبِه فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلت: "ضربُ عمرٍو زيدٌ" لم يَجُزْ إلا في ضرورة كقوله:
1360ـ أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ * قَرْعُ القواقيزِ أفواهُ الأباريقِ
(4/100)
---(1/1380)
يروى بنصب "أفواه" على إضافةِ المصدر وهو "قَرْع" إلى فاعله، وبالرفعِ على إضافته إلى مفعولِه، وقد جَوَّزه بعضُهم في الكلامِ على ضَعْفٍ، والقرآنُ لا يُحْمَلُ على ما في الضرورةِ ولا على ما فيه ضعف. وِأما من حيث المعنى فلأنه يؤدِّي إلى تكليفِ الناس جميعِهم مستطيعهم وغيرِ مستطعيعهم أن يُحجَّ مستطيعُهم، فيلزمُ من ذلك تكليفُ غيرِ المستطيعِ بأن يَحُجَّ المستطيعُ وهو غيرُ جائزٍ، وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم نقول بموجبه، وأن الله تعالى كَلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يُحَجَّ المستطيعون لَزِم غيرُ المستطيعين أن يأمروهم بالحج حَسْبَ الإِمكان؛ لأن إحجاج الناسِ إلى الكعبة وعرفَة فرضٌ واجبٌ. و"مَنْ" على الأوجهِ الخمسة موصولةٌ بمعنى الذي. السادس: أنها شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ يدل على ما تقدَّم أو هو نفسُ المتقدمِ على رَأْي، ولا بُدَّ من ضميرٍ يعود مِنْ جملةِ الشرطِ على الناسِ تقديرُه: مَنِ استطاعَ منهم إليه سبيلاً فالله عليه أن يَحُجَّ، ويترجَّحُ هذا بمقابلتِه بالشرطِ بعدَه وهو قولُه: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
(4/101)
---(1/1381)
وقوله: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} جملةٌ من مبتدأ وخبر وهو قوله "لله"، و"على لناس" متعلقٌ بما تَعَلَّق [به] الخبر/ أو متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجار، والعامل فيه أيضاً ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكونَ "على الناس" هو الخبرَ، و"لله" متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ، ويمتنع فيه أن يكونَ حالاً من الضمير في "على الناس" وإن كان العكسُ جائزاً كما تقدم، والفرقُ أنه يلزم هنا تقديرمُ الحالِ على العاملِ المعنوي، والحالُ لا تتقدَّم على العامل المعنوي بخلافِ الظرف وحرفِ الجر فإنهما يتقدَّمان على عامِلهما المعنوي للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك يُجَوِّزُ تقديمها على العامل المعنوي إذا كانت هي ظرفاً أو حرف جر والعاملُ كذلك، ومسألتنا في الآيةِ الكريمةِ من هذا القبيل.
وقرأ الأخوان وحفص عن عاصم: "حِج" بكسر الحاء، والباقون بفتحها، فقيل: لغتان بمعنى، والكسرُ لغة نجد والفتح لغة أهل العالية، وفَرَّق سيبويه فَجَعَلَ المكسور مصدراً أو اسماً للعمل، وأما المفتوحُ فمصدرٌ فقظ. وقد تقدَّم في البقرة أنه قرىء في الشاذ بكسر الحاء، وتكلَّمْتُ هناك على هاتين اللفظتين وما ذَكَرَ الناسُ فيهما واشتقاقِ المادة فأغنى عن إعادتِهِ ولله الحمد والمِنَّةُ.
وقد جِيء في هذه الآية بمبالغاتٍ كثيرة منها قوله : {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يعني أنه حَقٌّ واجبٌ عليهم لله في زمانهم لا ينفكُّون عن أدائِهِ والخروجِ عن عُهْدَتِهِ. ومنها أنه ذَكَرَ "الناس" ثم أَبْدل منهم {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفيه ضربان من التأكيدِ، أحدُهما: أنَّ الإِبدالَ تثنيةُ المرادِ وتكريبٌ له، والثاني: أن التفصيلَ بعد الإجمال والإِيضاحَ بعد الإِبهام إيرادٌ في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري على عادةِ فصاحتِهِ وتخليصِهِ المعنى بأقرب لفظ.
(4/102)
---(1/1382)
والألفُ واللام في "البيت" للعهدِ لتقدُّم ذِكْرِه، وهو عَلَمٌ بالغلَبَة كالثريا والصَّعِق، فإذا قيل "زار البيت" لم يتبادرِ الذهنُ إلا إلى الكعبة شَرَّفها الله تعالى، وقال الشاعر:
1361ـ لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكْرِمُ أهلَه * وأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بالأَصائلِ
أنشد الشيخُ هذا البيتَ في هذا المَعْرِضِ وفيه نظرٌ، إذ ليس في الظاهرِ الكعبةُ. والضمير في "إليه" الظاهرُ عَوْدُهُ على الحج لأنه مُحَدَّثٌ عنه، والثاني: عَوْدُه على البيت "وإليه" متعلِّقٌ باستطاع، و"سبيلا" مفعولٌ به لأنَّ "استطاع" متعدٍّ، قال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} إلىغيره من الآيات.
قوله: {وَمَن كَفَرَ} يجوزُ أَنتْ تكونَ الشرطيةَ وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ، ودَخَلَتِ الفاءُ شَبهاً للموصولِ باسمِ الشرطِ وقد تقدَّم تقريرهُ غيرَ مرةٍ، ولا يَخْفَى حالُ الجملتين بعدَها بالاعتبارين المذكورتين. ولا بُدَّ من رابطٍ بين الشرطِ وجزائِهِ أو المبتدأ وخبرِهِ، ومَنْ جَوَّز إقامةَ الظاهِرِ مُقامَ المُضْمَرِ أكتفى بذلك في قوله: {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} :ان قال: غني عنهم.
* { قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
(4/103)
---(1/1383)
قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ}: "لِمَ" متعلقٌ بالفعلِ بعده، و"مَنْ آمن" مفعولٌ، وقولُه "يَبْغُونها" يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ جِيء بعدها بجملةٍ حاليةٍ أيضاً وهي قوله: {وأنتم تَشْهَدون} فتتفقُ الجملتان في انتصابِ الحالِ عن كل منهما، ثم إذا قلنا بأنها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان، أحدُهما: أنه فاعل "تَصُدُّون"، والثاني: أنه "سبي الله" وإنما جاز الوجهان لأن الجملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما.
والعامة على "تَصُدُّون" بفتح التاء من صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً، ويستعمل لازماً ومتعدياً. وقرأ الحسن: "تُصِدُّون" بضمِّ التاء من أَصَدَّ مثل أَعَدَّ، ووجُهه أَنَّ يكونَ عَدَّى "صَدَّ" اللازم بالهمزة، قال ذو الرمة:
1362ـ أُنساٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ * .......................
و"عِوَجا" فيه وجهان، أحدُهما: أنه معفولٌ به، وذلك أن يُراد تبغون: تَطْلُبون، قال الزجاج والطبري: "تطلبون لها اعواجاجاً، تقول العربُ: "ابغِني كذا" بوصلِ. الألف أي: اطلبه لي و"أَبْغني كذا" بقطع الألف أي: أَعِنِّي على طلبه، قال الأنباري: "البَغْيُ يُقْتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بَغَيْتُ المال والأجر والثواب، وهنا أريد: يبغون لها عوجاً، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا: "وَهَبْتُك درهماً" يريدون: وَهَبْتُ لك، ومثلُه: "صَدْتُكَ ظَبْياً" أي: صُدْتُ لك، قال الشاعر:
1363ـ فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادَى * أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارا
يريد: أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه: "جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً" والأصلُ: جَنَيْتُ لك، فَحَذَفَ ونَصَبَ".
(4/104)
---(1/1384)
والثاني: أنه حالٌ من فاعل "يَبْغُونَها" وذلك أَنْ يُرادَ بـ"تَبْغُون" معنى تتعَدَّوْن، والبَغْيُ التعدِّي، والمعنى: تَبْغُون عليها أو فيها. قال الزجاج: "كأنه قال: تَبْغُهنا ظالِّين".
والعِوَج ـ بالكسر ـ والعَوَج ـ بالفتح ـ المَيْلُ، ولكنَّ العرب فَرَّقوا بينهما، فَخَصُّوا المكسورَ بالمعاني والمفتوحَ بالأعيانِ، تقول: في دينه وكلامِه عِوَجٌ ـ بالكسر ـ، وفي الجِدارِ عِوَجٌ ـ بالفتح ـ. قال أبو عبيدة: "العِوَج ـ بالكسر ـ المَيْلُ في الدين والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع" وقال صاحب "المجمل":
"بالفتح في كلِّ منتصبٍ كالحائط، والعِوج ـ يعني بالكسر ـ ما كان في بساطٍ أو دين أو أرض أو معاش" فقد جعل الفرقَ بينهما بغير ما تقدم. وقال الراغب: "العَوِجُ: العَطْفُ عن حالِ الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعيرَ بزِمامه، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع، والعَوَج ـ يعني بالفتح ـ/يقال فيما يُدْرك بالبصر كالخشب المنتصِب ونحوه، والعِوَج يقال فيما يدرك بفكرٍ وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبصيرة وكالدين والمعاش" قلت: وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه.
وقد سأل الزمخشري في سورة طه عند قوله {لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاا أَمْتاً} حاصلُه يرجع إلى أنه كيف قيل: عِوَج ـ بالكسرـ في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟ وأجاب هناك بجواب حسن سيأتي بيانه إن شاء الله، والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجاج المتقدم، وأمَّا على قول ابن فارس والراغب فلا يَرِدُ.
ومِنْ مجيءِ العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملةُ قولُه:
1364ـ تَمُرَّون الديارَ ولم تَعُوجوا * كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
وقولُ امرىء القيس:
1365ـ عُوجا على الطَّلَلِ المُحيل لأننا * نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ
(4/105)
---(1/1385)
أي: ولم تميلوا، ومِيلا. وأَمَّا قولهم: "ما يعيج زيدٌ بالدواء" أي: ما ينتفِعُ به فمِنْ مادةٍ أخرى ومعنى آخر. والعاجُ: هذا العظمُ ألفُه مجهولةٌ، لا نعلم: أمنقلبةُ عن واو أو ياء، وفي الحديث: أنه قال لثوبان "اشترِ لفاطمةَ سِواراً من عاج" قال القتيبي: "العاجُ: الذَّبْلُ"، وقال أبو خراش الهذلي في امرأة:
1366ـ فجاءَتْ كخاصِي العَيْر لم تَحْلَ جاجةً * ولا عاجةً منه تلوحُ على وَشْمِ * قال الأصمعيّ: "العاجةُ: الذَّبْلَةُ، والجاجة: تخمينُ خرزةٍ ما يساوي فلساً، وقوله كخاصي العَيْر: هذا مَثَلٌ تقوله العرب لِمَنْ جاء مُسْتَحْيِياً من أمرٍ فيقال: ""جاء كخاصِي العَيْر" والعَيْر: الحِمار، يعنون جاء مستحيياً.
ويقال: عاجَ بالمكانِ وعَوَج به أي: أقام وقطن وفي حديث اسماعيل عليه السلام: "ها أنتم عَائجون" أي مقيمون، وأنشدوا لجرير:
1367ـ هَلَ انْتُمْ عائِجُونَ بِنَا لَغَنَّا * نَرَى العَرَصاتِ أو أثرِ الخيامِ
كذا أنشدَ هذا البيتَ الهرويُّ مستشهداً به على الإِقامةِ، وليس بظاهر، بل المرادُ بعائجون في البيت مائِلُون وملتفتون، وفي الحديث: "ثم عاجَ رأسَه إليها" أي التفت إليها.
و"ها" في "يَبْغُونها" عائدةٌ على سبيل، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث كما تقدَّم، ومن التأنيث هذه الآيةُ، وقوله تعالى: {هَاذِهِ سَبِيلِيا} وقول الآخر:
1368ـ فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتى أُناسٍ * سيصبحُ سالكاً تلك السَّبيلا
قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} حال: إمَّا من فاعلٍ "تَصُدُّون" وإمَّا من فاعل "تَبْغُون"، وإمَّا مستأنفٌ، وليس بظاهرٍ، وتقدَّم أنَّ "شهداء" جمعُ شيهد أو شاهد.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
قوله تعالى: {يَرُدُّوكُم}: "رَدَّ" يجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ معنى "صَيَّر" فنيصِبَ مفعولين، ومنه قولُ الشاعر:
(4/106)
---(1/1386)
1369ـ رَمَى الحَِدْثانُ نسوةَ آلِ حرب * بمِقْدَارٍ سَمَدْن له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً *ورَدَّ وجوهَهن البِيضَ سُودا
ويجوز ألاَّ يتضمَّن، فيكونُ المنصوبُ الثاني حالاً. وقوله: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوز أن يكونَ منصوباً بيردُّكم، وأَنْ يتعلَّق بكافرين، ويَصيرُ المعنى كالمعنى في قوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
}.
* { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}: جملةٌ حالية من فاعل "تكفرون"، وكذلك {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي: كيف يُوجَدُ منكم الكفرُ مع وجودِ هاتين الحالين؟
والاعتصام: الامتناعُ، يُقال: اعتصم واستعصم بمعنى واحد، واعتصم زيدٌ عمراً أي: هَيَّأَ له ما يَعْتَصِمُ به، وقيل: الاعتصام: الإِمساك، واستعصم بكذا: أي استمسك به، والعِصَّامُ: ما يُشَدُّ به القِرْبةة وبه يُسَمَّى الأشخاص، والعِصْمَةُ مستعلمةٌ بالمعنيين لأنها مانعةٌ من الخطيئةِ وصاحبُها مستمسِك بالحقِّ، والعِصْمَةُ أيضاً: شِبْهُ السوار، والِعْصَمُ: مَوْضِعُ العِصْمة، ويُسَمَّى البياضُ الذي في الرسغ "عُصْمة" تشبيهاً بها، وكأنهم جَعَلوا ضمةَ العينِ فارقةً، والأَعْصَمُ من الوُعولِ: ما في معاصِمِها بياضٌ وهي أشدُّها عَدْواً، قال:
1370ـ لو أَنَّ عُصْمَ عَمايتين ويَذْبُلٍ * سمعا حديثك.................
وفي الحديث في النساء: "لا يَدْخُلُ الجنةَ منهن إلا كالغراب الأَعْصم" وهو الأَبيضُ الرِّجلْلين. وقيل: الأبيضُ الجناحين، والمرادُ بذلك التقليلُ.
وقوله: {فَقَدْ هُدِيَ} جوابُ الشرطِ، وجِيء في الجواب بـ"قد" دلالةً على التوقُّعِ لأنَّ المعتصِمَ متوقعُ الهداية.
(4/107)
---(1/1387)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ}: فيه وجهان:/ أَنَّ "تقاة" مصدرٌ، وهو من بابِ إضافة الصفةِ إلى موصوفها؛ إذ الأصلُ: اتقوا الله التقاةَ الحقَّ أي: الثابت كقولِك: "ضربْتُ زيداً اشدَّ الضَّرْبِ تريد: الضربَ الشديد، وقد تقدَّم تحقيقُ كون "تقاة" مصدراً في أولِ السورة، وزادَ ابن عطية هنا أن "تُقاة" يجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً، وهو في ذلك المخالِفِ للإِجماع فقال: "ويَصِحُّ أن يكونَ "التقاة" في هذه الآيةِ جمعَ فاعل، وإنْ كان لم يتصَّرفْ منه فيكونُ كرماة ورامٍ، أو يكونُ جمعَ تَقِيّ، إذ فَعِيل وفاعل بمنزلة، ويكونُ المعنى على هذا: اتقوا اللهَ كما يَحِقُّ أن يكونَ مُتَّقُوه المختصُّون به، ولذلك أُضيفوا إلى ضمي رالله تعالى". قال الشيخ: "وهذا المعنى يَنْبُو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهرُ مِنْ قولِهِ {حَقَّ تُقَاتِهِ} من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، كما تقول: "ضربْتُ زيداً شديدَ الضرب" أي الضربَ الشديدَ، وكذلك هذا أي: اتقوا اللهَ الاتقاءَ الحقَّ اي: الواجبَ الثابتَ، أمَّا إذا جَعَلْتَ التقاةَ جمعاً فإن المعنى يصيرُ مثل: اضرِبْ زيداً حقَّ ضِرابِهِ، فلا يَدُلُّ هذا التركيبُ على معنى: اضربْ زيداً كما يحِقُّ أن يكونَ ضِرابُه، بل لو صَرَّح بهذا التركيب لاحتيجَ في فهم معناه إلى تقديرِ أشياءَ يَصِحُّ بتقديرِها المعنى، والتقديرُ: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يَحِقُّ أن يكونَ ضربُ ضِرابِه، و لاحاجةَ تَدْعو إلى تحميلِ اللفظِ غيرَ ظاهرِهِ وتكلُّفِ تقاديرَ يَصِحُّ بها معنىً لا يَدُلُّ عليها اللفظُ".
(4/108)
---(1/1388)
قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} هو نَهْيٌ في الصورة عن مَوْتهم إلاَّ على هذه الحالة، والمرادُ دوامُهم على الإِسلام، وذلك أن الموتَ لا بُدَّ منه، فكأنه قيل: دُوموا على الإِسلام إلى الموت، وقريبٌ منه ما حكى سيوبيه: "لا أُرَيَنَّك ههنا" أي لا تكنْ بالحضرةِ فتقَعَ عليك رؤيتي. والجملةُ مِنْ قولِهِ: {وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال والاستثناءُ مفرغٌ من الأحوالِ العامة أي: لا تموتُنَّ على حالةٍ من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنة، وجاء بها جملةً اسميةً لانها أبلغُ وآكد، إذ فيها ضميرٌ متكررٌ، ولو قيل: "إلاَّ مسلمين" لم يُفِدْ هذا التأكيدَ، وتقدَّم إيضاحُ هذا التركيب في البقرة عن قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
}.
* { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {بِحَبْلِ}: الحَبْلُ في الأصل هو السَبَبُ، وكلُّ ما وصلك إلى شيء فهو حَبْل، وأصلُه في الأجرام واستعمالُه في المعاني من باب المجاز، ويجوزُ أن يكونَ حنيئذٍ من باب الاستعارة، ويجوز أن يكونَ من بابِ التمثيل، ومن كلامِ الأنصار رضي الله عنهم: "يا رسول الله إنَّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها" ـ يَعْنُون العهود الحِلْف. قال الأعشى:
1371ـ وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً * أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها
(4/109)
---(1/1389)
يعني العهودَ، قيل: والسببُ فيه أنَّ الرجلَ كان إذا سافرَ خافَ فيأخذُ من القبيلةِ عهداً إلى أخرى، ويُعْطَى سهماً أو حبلاً يكونُ معه كالعلامةِ، فَسُمِّي العهدُ حبلاً لذلك، وهذا معنًى غيرُ طائلٍ، وبل سُمِّي العهدُ حبلاً للتوصُّلِ به إلى الغرض. وقال آخر:
1372ـ ما زِلْتُ معتصِماً بحبلٍ منكُم * ......................
والمرادُ بالحبل هنا القرآنُ، وفي الحديثِ الطويل: "هو حَبْلُ الله المتين
". وقوله: "جميعاً" حالٌ من فاعل "اعتصموا"، و"بحبل الله" متعلِّقٌ به. قوله: "ولا تَفَرَّقوا" قرأه البزي بتشديد التاء وصلاً، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرة عند قولِه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ}، والباقوُن بتخفيفها على الحَذْفِ.
وقوله: {نِعْمَتَ اللَّهِ} مصدرٌ مضاف لفاعله إذ هو المُنْعِم، و"عليكم" يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بنفس "نعمة" لأنَّ هذه المادَة تتعدَّى بـ "على" [نحو:] {لِلَّذِيا أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} ويجوز أَن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من "نعمة" فيتعلَّقُ بمحذوفٍِ أي: مستقرة وكائنة عليكم.
قوله: {إِذْ كُنْتُمْ} "إذ" منصوبةٌ بنعمة ظرفاً لها، ويجوزُ أَنْ يكون متعلقاً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه "عليكم" إذا قلنا: إنَّ "علكيم" حالٌ من النعمة، وأمّضا إذا عَلَّقْنا "عليكم" بنعمة تَعَيَّن الوجُه الأول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ منصوباً باذكروا، يعني مفعولاً به لا أنه ظرفٌ له لفسادِ المعنى، إذ "اذكروا" مستقبلٌ، و"إذ" ماضٍ.
(4/110)
---(1/1390)
قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ} أصبحَ من أخواتِ "كان" فإذا كانَتْ ناقصة كانت مثلَ "كان" في رفعِ الاسمِ ونَصْبِ الخبر، وإذا كانَتْ تامةً رفَعَتْ فاعلاً واستغنَتْ به، فإن وجد منصوب بعدها فيه حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: "أصبحَ زيد" أي دخل في الصباح، ومثلُها في ذلك "أمسى"، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} وفي أمثالهم: "إذا سَمِعْتُ بسُرى القَيْن فاعلَمْ أنَّه مُصبح" لأنَّ القَيْنَ ـ وهو الحَدَّاد ـ ربما قَلّت صناعتهن في أحياءِ العرب فيقول: أنا غداً مسافرٌ ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيمُ ويتركُ السفر، فأخرجُوه مَثَلا لمن يقول/ قولاً ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى "صار" عملاً ومعنى كقوله:
1373ـ فَأَصْبحوا كأنهَّهم ورقٌ جَفْفَ * فَأَلْوَتْ به الصَّبا والدَّبُورُ
أي: صارو. "إخواناً" خبرُها، وجَوَّزوا فيها هنا أن تكون على بابِها من دلالتِها على اتِّصاف الموصوفِ بالصفة في وقت الصباح، وأن تكون بمعنى صار، وأن تكون التامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصةً على بابها فالأظهرُ أن يكونَ "إخواناً" خبرَها.
و"بنعمته" متعلِّقٌ بـ"إخْواناً"، لِما فيه مِنْ معنى الفعلِ أي: تآخيتم بنعمتِه، والباءُ للسببيةٍ. وجَوَّز الشيخُ أَنْ يتعلَّق بأصبحتم، وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف، وجوَّز غيرُه أَنْ يَتَعلَّق بمحذوف على أنه حال من فاعل "أصبحتم" أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من "إخواناً" لأنه في الأصل صفةً له. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ "بنعمته" هو الخبرَ، و"إخواناً" حالٌ، والباءُ بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى "صار" جَرَى فيها ما تقدَّم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامةً فإخواناً حالٌ، و"بنعمتِه" فيه ما تقدَّم من الأوجهُ خلا الخبريةِ.
(4/111)
---(1/1391)
قال ابن عطية: "فأصبحتم" عبارةٌ عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصةً بوقت، وإنما خُصَّتْ هذه اللفظةُ بهذا المعنى من حيث هي مبدأُ النهار، وفيها مبدأُ الأعمالِ، فالحالُ التي يُحِسُّها المرءُ مِنْ نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومُه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
1374ـ أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السِّلاح ولا * أَمْلِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا
قال الشيخ: "وهذا الذي ذكره مِنْ أَنَّ "أصبح" للاستمرار، وعَلَّله بما ذكره لم أَرَ أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذيْنِ ذكرناهما" قتل: وهذا الذي ذكره ابنُ عطية معنًى حسنٌ، وإذا لم ينصَّ عليه النحويون لا يُدْفَعُ، لأَنَّ النحاةَ غالِباً إنما يتحدثون بِما يتعلَّقُ بالألفاظ، وأمَّا المعاني المفهومةُ من فحوى الكلامِ فلا حاجةَ لهم بالكلامِ عليها غالباً.
والإِخْوان: جمع أَخٍ، وإخوة اسمُ جمعٍ عند سيبويه وعند غيرِه هي جمع. وقال بعضُهم: "إنَّ الأَخَ في النسَب يُجْمع على "إخوة"، وفي الدَّين على "إخْوان"، هذا أَغلبُ استعمالِهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ونفسُ هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المرادُ إخوةُ الدين والصداقة، قال أبو حاتم: "ثم قال أهلُ البصرة: الإِخوةُ في النسبِ والإِخْوان في الصداقة" قال: "وهذا غَلَط، يقال للأصدقاء والأنسباء إخوة وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} لم يَعْنِ النسبَ، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وهذا في النسبِ" قلتُ: رَدُّ أبي حاتم يتَّجِهُ على هذا النقلِ المطلقِ، ولا يَرِدُ على النقلِ الأول لأنهم قَيَّدوه بالأغلبِ في الاستعمالِ.
(4/112)
---(1/1392)
قوله: {عَلَى شَفَا} شفا الشيء: طرفُه وحَرْفُه، وهو مقصورٌ من ذواتِ الواو، يُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن، ويُكتب بالألف، ويُجْمع على أَشْفاء، ويُستعمل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمِن الأول: {شَفَا جُرُفٍ} ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا أي: قَارَبه، ومنه أَشْفى المريضُ على الموت، قال يعقوب: "يُقال للرجلِ عند موتهِ، وللقمر عند محاقِه، وللشمسِ عن غروبها: "ما بَقي منه ـ أو منها ـ إلا شفا" أي: إلا قليلٌ". وقال بعضهم: يُقال لِما بين الليلِ والنهارِ عند غروبِ الشمسِ إذا غاب بعضُها: شفا، وأنشد:
1375ـ أَدْرَكْتُه بلا شَفا أو بشَفا * والشمسُ قد كادَتْ تكونُ دَنِفا
وقال الراغب: "والشفاءُ من المرضِ موافاةُ شَفا السلامة، وصار اسماً للبُرء، والشَّفا مذكَّرٌ".
وأمَّا عَوْدُ الضميرِ في "منها" ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على "حفرة".
والثاني: أنه عائدٌ على "النار" قال الطبري: "إنَّ بعضَ الناسِ يُعيده على الشَّفا، وأنَّثَ مِنْ حيثُ كان الشَّفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير:
1376ـ أرى مَرَّ السنين أَخَذْنَ مني * كما أخَذَ السِّوارُ مِن الهلال
(4/113)
---(1/1393)
قال ابن عطية: "وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يُحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم نجد للضمير معاداً إلا الشفا، أَما ومَعَنا لفظٌ مؤنثٌ يعودُ الضميرُ عليه/ ويَعْضُده المعنى المُتَكَلَّمُ فيه فلا يُحتاج إلى تلك الصناعةِ" قال الشيخ: "وأقول: لا يَحْسُنُ عَوْدُه إلاَّ على الشَّفا؛ لأنَّ كينونتَهم على الشَّفا هو أحدُ جُزْأَي الإِسناد، فالضميرُ لا يعودُ إلا عليه، وأمَّا ذِكْرُ الخفرةِ فإنما جاءَتْ على سبيل الإِضافةِ إليها، ألا ترى أنَّك إذا قلت: "كان ذِكْرُ الحفرةِ فإنما جاءَت على سبيل الإِضافةِ إليها، ألا ترى أنَّك إذا قلت: "كان زيدٌ غلامَ جعفر" لم يكن جعفر مُحَدَّثاً عنه، وليس أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وكذا لو قلت: "زيد ضربَ غلامَ هندٍ" لم تُحَدِّث عن هندٍ بشيءٍ، وإنَّما ذكرْتَ جعفراً وهنداً مخصصاً للمُحَدَّث عنه، وأمَّا ذِكْرُ النارِ فإنما ذُكِر لتخصيصِ الحفرة، وليست أيضاً أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وليست أيضاً مُحَدَّثاً عنها، فالإِنقاذ من الشفا أبلغُ من الإِنقاذِ من الحفرة ومِن النارِ، لأنَّ الإِنقاذَ من الشفا [يستلزم الإِنقاذَ من الحفرة ومن النار، والإِنقاذَ منهما لا يستلزِمُ الإِنقاذَ من الشفا] فعودُه على الشَّفا هو الظاهرُ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى".
وقد قال الزجاج: "وقولُه: "منها" الكنايةُ راجعةٌ إلى النار إلى الشفا؛ لأنَّ القصدَ الإِنجاءُ من النار لا مِنْ شَفا الحفرة". وقال غيرُه: "يعودُ على الحفرة، فإذا أنقذهم اللهُ من الحفرةِ فقد أَنْقذهم من شَفاها لأنَّ شَفاها منها".
قال الواحدي: "على أنه يجوزُ أَنْ يَذْكُرَ المضافُ والمضافُ إليه ثم تعودَ الكنايةُ إلى المضافِ إليه دونَ المضاف، كقول جرير: "أرى مرَّ السنين أخَذْنَ" البيت. فَذَكَر مَرَّ السنين، ثم أخبر عن السنين، وكذلك قول العَجَّاج:
1377ـ طولُ الليالي أَسْرَعَتْ في نَقْضِِي * طَوَيْنَ طولي وَطَوَيْنَ عَرْضي(1/1394)
(4/114)
---
قال: "وهذا إذا المضافُ من جنسِ المضافِ إليه، فإنَّ مَرَّ السنين هو السنون، وكذلك شَفا الحفرة من الحُفْرَة، فَذَكَر الشَّافا وعادَتِ الكنايةُ إلى الحفرةِ" قلت: وهذان القولان نصٌّ في ردِّ ما قاله الشيخ، إلاَّ أنَّ المعنى الذي ذَكَره أَوْلَى، لأنه إذا أنقذَهم من طَرَفِ الحفرة فهو أبلغُ مِنْ إنقاذِهم من الحفرةِ، وما ذكره من الصناعةِ أيضاً واضحٌ.
والإِنقاذُ: التخليصُ والتنحية، قال الأزهري: "يقال أَنْقَذْتُه ونَقَذْتُه واستنقَذْتُه بمعنىً، ويقال: فرسٌ نقيذٌ" إذا كان مأخوذاً من قومِ آخرين لأنه استُنْقِذَ منهم، والحُفْرة: فُعْلَة بمعنى مَفْعُولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفة.
وقوله: {كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} نعتٌ لمصدرٍ محذوف أو حالٌ من ضميره أي: يبيِّن لكم تبيناً مثلَ تبيينه لكم الآياتِ الواضحةَ. وقوله: {مِّنَ النَّارِ} صفة لحفرة فيتعلَّقُ بمحذوفٍ.
* { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(4/115)
---(1/1395)
قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ}: يجوزُ أَنْ تكونَ التامةَ أي: وَلْتُوجد منكم أمةٌ، فتكون "امة" فاعلاً، و"يَدْعُون" جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة، و"منكم" متعلِّقٌ بتكن على أنها تبعيضيةٌ، ويجوز أن يكونَ "منكم" متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "أمة" إذى كان يجوز جَعْلُه صفةً لها لو تأخّر عنها، ويجوز أن تكون "مِنْ" للبيان لأن المُبَيَّن وإنْ تأخَّر لفظاً فهو مُقَدَّمٌ رتبةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ فأمه اسمها و"يَدْعُوه" خبرها، و"منكم" متعلِّقٌ: إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من "أمة". ويجوزُ أن يكونَ "منكم" هو الخبرَ و"يَدْعُون" صفةً لأمة، وفيه بُعدٌ. وقرأ العامة: "ولتكن". وقرأ الحسن والزهري والسُّلمي بكسرها، وهو الأصل.
وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} من باب ذكر الخاص بعد العلم اعتناءً به كقوله: {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن اسم الخير يقعُ عليهما بل هما أعظمُ الخيور. وقوله: {جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} لم يؤنِّثِ الفعلَ للفصلِ وللكونِه غيرَ حقيقي بمعنى الدلائل.
* { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }
(4/116)
---(1/1396)
قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ، أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمَّنه "لهم" والتقديرُ: وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ. وقيل: العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه: يُعََّبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ. وقيل: العاملُ فيه "عظيم" وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم. وهذا الضعيفُ ضعيفٌ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ ففي غيره أَوْلى، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم. وقيل: العاملُ "عذاب". وهذا ممتنعٌ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [بعدَ] وَصْفِه.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي: "تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ" بكسر التاء هي لغةُ تميم، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصينِ وأبو الجوزاء: "تَبياضُّ وتَسوادُّ" بألف فيهما، وهي أبلغ فإنَّ "ابياضَّ" أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من أبيضَّ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد.
قوله: {أَكْفَرْتُمْ} هذه الجلمةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله:
1378ـ فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ * ولكنَّ في عِراضِ المواكبِ
أي: فلا قتالَ.
(4/117)
---(1/1397)
وقال صاحب "أسرار التنزيل": "بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم: "لَمَّا حُذِف "يُقال" حُذِفت الفاءُ" بقولِه تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فَحَذَف "يُقال: ولم يَحْذِفِ الفاء، فلمَّا بَطَل هذه تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فوقعَ ذلك جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، فقوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جوابٌ للشرطين معاً، وليس "أفلم" جوابَ "أمَّا" بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ، والتقدير: أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي".
قال الشيخ: "وهو كلامٌ أديبٍ لا كلامُ نحوي، أمَّا قولُه: "قد اعتُرِض على النحاة" فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب: وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه. فأمَّا ما اعترض به من قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} وأنه قَدَّروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فَحَذَف "فيقال" ولم يَحْذِف الفاءَ فَدَلَّ على بُطْلان هذه التقدير" فليس بصحيحٍ، بل هذه الفاءُ التي بعد الهمزة في "أفلم" ليست فاءَ "فيقال" التي هي جوابُ "أمَّا حتى يُقَالَ حَذَف "يقال" وبقيت الفاءُ، بل الفاءُ التي هي جواب "أمّا" و"يقال" بعدهات محذوفٌ، وفاء "أفلم" تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون زائدة، وقد أنشد النحويون على زيادةِ الفاء قولَ الشاعر:
(4/118)
---(1/1398)
1379ـ يموتُ أُناسُ أو يَشيبُ فتاهُمُ * ويَحْدُثُ ناسٌ والصغيرُ فكيبُرُ
أي: والصغيرُ يَكْبُرُ، وقولَ الآخر:
1380ـ لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جِرْمُها * فَتركْتُ ضاحِي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي: تركت، وقال زهير:
1381ـ أراني إذا ما بِتُّ بِتُّ على هوى * فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غادِيا
يريد: ثم إذا، وقال الأخفش: "وزعموا أنهم يقولون: "أخوك فوجَد" يريدون: أخوك وجَدَ". والوجه الثاني: أن تكونَ الفاءُ تفسيريةً. والتقدير: "فيقالُ لهم ما يَسُوْءُهم فألم تكن آياتي" ثم اعتُنِي بحرف الاستفهام فقُدِّم على الفاءِ التفسيرية، فَقُدَّم كما تَقَدَّم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} وهذا على رأي مَنْ يُثْبِتُ أنَّ الفاءَ تفسيرية نحو: "توضَّأ زيدٌ فَغَسَل وجهَه ويديه إلى آخر أفعالِ الوضوء" فالفاءُ هنا ليسَتْ مُرَتِّبةً وإنَّما هي مفسِّرةٌ للوضوءِ، كذلك تكونُ في {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} مفسرةً للقولِ الذي يَسُوْءُهم.
وقولُ هذا الرجلِ: "فَلَمَّا بَطَلَ هذا تعيَّن أن يكون الجوابُ: فذوقوا" أي تعيَّن بطلانُ حَذْف ما قدَّره النحويون من قوله ""فيقال لهم" لوجودِ هذه الفاء في "أفلم تكن" وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب "أمَّا" هو"فيقال" في الموضعين ومعنى الكلام عليه.
(4/119)
---(1/1399)
وأمْا تقديره: "أأهملتكم فلم تكن آياتي تُتْلَى" فهذه بدعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يُقَدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يَصِح عطفُ ما بعدها عليه، ولا يَعْتقد أنَّ الفاء والواو وثم إذا دَخَلَتْ عليها الهمزةُ أَصلُهُنَّ التقديمُ على الهمزة، لكن اعتُنِيَ بالاستفهامِ فَقُدِّم على حرف العطف، كما ذهب إليه سيبويه وغيرُه من النحويين. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة/ في ذلك، وبُطْلانُ قولِه الأول مذكورٌ في النحو، وقد تقدم في هذا الكتاب حكايةُ مذهبِ الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل "أهملتكم" فلا بد من إضمارِ القولِ وتقديرِه: فيقال أأهملتكم، لأنَّ هذا المقدَّرَ هو خبر المبتدأ، والفاءُ جوابُ أمَّا، وهو الذي يدل عليه الكلامُ ويقتضيه ضرورةً، وقولُ هذا الرجل: "فوقع ذلك جواباً له ولقولِهِ: أكفرتم" يعني أنَّ "فذوقوا العذاب" جوابٌ لـ"أمَّا" ولقولِهِ "أكفرتم" والاستهامُ هنا لا جوابَ له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإِرذال بهم. وأمَّا قولُ هذا الرجل: "ومِنْ نظم العرب إلى أخره" فليس كلامُ العرب على ما زعم بل يُجْعل لكلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدرٌ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} الآية وزعمُه أنَّ قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جوابٌ للشرطين فقولٌ رُوِيَ عن الكسائي، وزعم بعضُ الناسِ أنَّ جوابَ الشرط الأول محذوفٌ تقديرُه: فاتبعوه، والصحيح أنَّ الشرط الثاني وجوابَه جوابُ الشرط الأول، وتقدَّمت هذه الأقوالُ الثلاثة عند قوله تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} انتهى.
(4/120)
---(1/1400)
وقوله: {أَكْفَرْتُمْ} الهمزةُ فيه للإِنكارِ عليهم والتوبيخِ لهم والتعجيب من حالهم، وفي قوله: {أَكْفَرْتُمْ} نوعٌ من الالتفاتِ وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوينِ الخطاب، وذلك أنَّ قولَه: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة، وقولُه بعد ذلك: {أَكْفَرْتُمْ} خطابُ مواجهة.
* { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}: فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الجار متعلِّقٌ بخالِدون. و"فيها" تأكيدٌ لفظي للحرفِ، والتقديرُ: فهم خالدون في رحمةِ الله فيها، وقد تقرَّر أنه لا يُؤَكَّد الحرفُ تأكيداً لفظياً إلا بإعادةِ ما دَخَلَ عليه أو بإعادةِ ضميرِه كهذه الآيةِ، ولا يجوز أن يعودَ وحدَه إلا في ضرورةِ كقوله:
1382ـ حَتَّى [تراها] وكأنَّ وكأنْ * أعناقَها مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيتَ، وأصرحُ منه في البابِ:
1383ـ فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي * ولا لَلِما بهمْ أبداً دواءُ
ويَحْسُنُ ذلك إذا اختلف لظفُهما كقولِه:
1384ـ فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عن بما به * .......................
اللهم إلا أَنْ يكونَ ذلك الحرفُ قائماً مقامَ جملةٍ فيكرَّرُ وحدَه كحروف الجواب كنعم نعم وبلى بلى ولا لا.
والثاني: أنَّ قولَه: {فَفِي رَحْمَةِ} خبرٌ لمتبدأٍ مضمرٍ، والجلمة بأسرها جوابُ "أمَّا" والتقديرُ: فهم مستقرون في رحمةِ الله، وتكون الجملَةُ بعدَه مِنْ قولِهِ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملةً مستقلةً من مبتدأ وخبرٍ دَلَّتْ على أنَّ الاستقرارَ في الرحمةِ على سبيلِ الخلود، فلا تَعَلُّقَ لها بالجملةِ قبلَها من حيثُ الإِعرابُ.
(4/121)
---(1/1401)
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيفَ موقعُ قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بعد قولِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}؟ قلت: موقعُ الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لايَظْعَنُون عنها ولا يموتون".
وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر "اسوادَّتْ وابياضَّتْ" بألف، وقد تقدَّم أن قراءتَهما: تَبياضُّ وتَسْوَادُّ وهذا قياسُها. وأصلُ افْعَلَّ هذا أن يكون دالاً على لو أو عيب حسي كاعْوَرَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ، وألاَّ يكون من مضعفٍ كأُحِمَّ، ولا معتلِّ اللام كَأَلْهى، وألاَّ يكونَ للمطاوعة، ونَدَر "أنهارَّ الليل" و"اشْعارَّ الرجل" أي تفرَّق شعره، إذ لا دلالة فيهما على عيب ولا لون، ونَدَرَ أيضاً "ارعَوَّى" فإنه معتلُّ اللام مطاوعٌ لـ "رَعَوْتُه" بمعنى كففته، وليس دالاًّ على عيبٍ ولا لونٍ، وأمَّا دخولُ الألف في افْعَلَّ هذا فدالٌّ على عُروض ذلك المعنى، وعدمُها دالٌّ على ثبوتِهِ واستقرارِهِ، فإذا قلت: اسودَّ وجهه دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه، وإذا قلت "اسوادَّ" دلَّ على حدوثِهِ، هذا هو الغالب وقد يُعْكَسُ قال تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} والقصدُ به الدلالةُ على لزومِ الوصفِ بذلك للجنتين، وقولُه تعالى: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} القصدُ به العروضُ لازْوِرار الشمس لا الثبوتُ والاستقرار، كذا قيل، وفيه نظرٌ محتمل، لأنَّ المقصود وصفُ الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصة.
وقوله: {فَذُوقُواْ} من بابِ الاستعارة، جَعَلَ العذابَ شيئاً يُدْرَكُ بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورةِ ما ما يُذاق. وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباءُ سببةٌ، و"ما" مصدريةٌ ولا تكونُ بمعنى الذي لا حتياجِها إلى العائد،/ وتقديرُهُ غيرُ جائزٍ لعدمِ الشروطِ المجوِّزَةِ لحَذْفِهِ.
* { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ }
(4/122)
---(1/1402)
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، و"نَتْلوها" جملة حالية، وقيل: {آيَاتُ اللَّهِ} بدلٌ من "تلك" و"نتلوها جملةٌ واقعةٌ خبراً للمبتدأ، و"بالحق" حالٌ من فاعل "نَتْلوها" أو مفعولِه، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأنه تعالى يُنَزِّلها إلا على هذه الصفةِ.
وقال الزجاج: "في الكلام حذفٌ تقديرُه: تلك آياتُ القرآن حُجَجُ اللهِ ودلائلُه". قال الشيخ: "فعلى هذا الذي قَدَّره يكون خبرُ المبتدأ محذوفاً لأنه عنده بهذا التقدير يَتِمُّ معنى الآية، وهذا التدقيرُ لا حاجةَ إليه، إذ المعنى تامٌّ بدونِهِ". والإِشارة بـ"تلك" إلى الآياتِ المتقدمةِ المتضمنةِ تعذيبَ الكفارِ وتنعيمَ الأبرار.
وقرأ العامة: "نَتْلوها" بنونِ العظمة وفيه التفاتٌ من الغَيْبة إلى التكلم. وقرأ أبو نُهَيك "يتلوها" بالياءِ من تحتُ، وفيه احتمالان، أحدهما: أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ الباري تعالى لتقدُّم ذِكْرِه قي قوله: {آيَاتُ اللَّهِ} ولا التفاتَ في هذا التقديرِ بخلافِ قراءةِ العامة. والثاني: أن يكونَ الفاعل ضميرَ جبريل.
قوله: {لِّلْعَالَمِينَ} اللامُ زائدةٌ لا تعلَّق لها بشيءٍ، زِيدت في مفعولِ المصدرِ وهو ظلم. والفاعلُ محذوفٌ، وهو في التقدير ضميرُ الباري تعالى، والتقدير: وما اللهُ يريد أن يَظْلِمَ العالمين، فزيدت اللامُ تقويةً للعامل لكونِه فرعاً كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وقيل: معنى الكلام: وما اللهُ يريدُ ظلمَ العالمين بعضَهم لبعض. ورُدَّ هذا بأنه لو كان المرادُ هذا لكان التركيبُ بـ"مِنْ" أولى منه باللام، فكان يقال "ظُلماً من العالمين" فهذا معنى يَنْبُو عنه اللفظُ. ونَكَّرَ "ظلماً" لأنه سياقِ النفي، فهو يَعُمُّ كلَّ نوعٍ من الظلمِ.
(4/123)
---(1/1403)
* { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}: في "كان" هذه ستةُ أقوال، أحدها: أنها ناقصةٌ على بابها، وإذا كانت كذلك فلا دلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: "كان زيد قائماً" وتصلح للدوام نحو: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}، فهي هنا بمنزلَةٍ "لم يَزَلْ" وهذا بحسَبِ القرائن.
(4/124)
---(1/1404)
وقال الزمخشري: "كان" عبارةٌ عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق ولا على انقطاع طارىء، ومنه قولُه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: وُجِدْتُم خيرَ أمة". قال الشيخ: قوله "لم تَدُلَّ على عدمٍ سابقٍ" هذا إذا لم تكن بمعنى "صار" فإذا كانت بمعنى "صار" دلَّت على عدمٍ سابقٍ، فإذا قتل: " كان زيد عالماً" بمعنى "صار زيد عالماً" دَلَّتْ على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم، وقولُه: "ولا على انقطاع طارىء" قد ذكرنا قبلُ أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يَدُلُّ لفظ المُضِيِّ منها على الانقطاع، ثم قد تُسْتعمل حيث لا انقطاعَ، وفَرْقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: "هذا اللفظُ يَدُلُّ على العموم" ثم قد يستعمل حيث لا يُرادُ العمومُ بل يرُاد الخصوصُ. وقوله: "كأنه قيل وُجِدْتُم خيرَ أمة" هذا يعارِضُ قولَه "إنها مثلُ قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} لأن تقديرَه "وُجِدتم خير أمة" يَدُلُّ على أنها التامة وأن "خير أمة" حالٌ. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} لا شك أنها هنا الناقصةُ فتعارضا" قلت: لا تعارُضَ لأنَّ هذا تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ.
الثاني: أنها بمعنى "صِرْتُم" و"كان" تأتي بمعنى "صار" كثيرا كقوله:
1385ـ بتهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها * قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُها
أي: صارَتْ فراخاً.
الثالث: أنها تامةٌ بمعنى وُجِدْتُم، و"خيرَ أمة" على هذا منصوبٌ على الحال أي: وُجدتم في هذه الحال.
(4/125)
---(1/1405)
الرابع: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: انتم خيرُ أمةٍ، وهذا قولٌ مرجوحٌ أوغَلَطٌ لوجهين، أحدُهما: أنها لا تُزاد أولاً، وقد نَقَلَ ابن مالك الاتفاقَ على ذلك. والثاني: أنها لا تعمل في "خير" مع زيادتِها، وفي الثاني نظرٌ، إذ الزيادةُ لا تنافي العملَ، وقد تقدَّم عليه دلائلُ في البقرة عند قولِه: {أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}. الخامس: أنها على بابِها، والمرادُ: كنتم في علمِ الله، أو في اللوح المحفوظ.
السادس: أن هذه الجملةَ متصلةٌ بقوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أي: فيُقال: لهم في القيامة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}، وهو بعيدٌ جداً.
قوله: {أُخْرِجَتْ} يجوزُ في هذه الجملة أن تكونَ في محلِّ جز نعتاً لـ"أمة" وهو الظاهرُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ"خير"، وحينئذٍ يكونُ قد رُوعي لفظُ الاسمِ الظاهر بعد ورودِهِ بعد ضمير الخطاب، ولو رُوعي ضميرُ الخطاب لكان جائزاً أيضاً، وذلك أنه إذا تقدَّم ضميرُ حاضرٍ متكلماً كان أو غائباً، ثم جاء بعده خبرُه أسما ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسمِ الظاهرِ ما يصلُح أن يكونَ وصفاً له كان للعرب فيه طريقان، إحداهما: مراعاةُ ذلك الضميرِ السابق فيطابقهُ بما في تلك الجملةِ الواقعةِ صفةً للاسم/ الظاهر، والثانية: مراعاةُ ذلك الاسمِ الظاهر فيعيدُ الضميرَ عليه منها غائباً، وذلك [نحو] قولك: "أنتَ رجلٌ تأمرُ بمعروفٍ" بالخطابِ مراعاةً لـ"أنت"، و"يأمر" بالغَيْبَةِ مراعاةَ لـ"رجل"، "وأنا امرؤ أقولُ الحق" بالمتكلم مراعاةً لـ"أنا" و"يقولُ الحقَّ" مراعاةً لامرىء. ومن مراعاةِ الضمير قولُه تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، وقوله"وإنك امرؤٌ فيك جاهلية" وقول الشاعر:
1386ـ وأنت امرؤٌ قد كَثَّأَتْ لك لِحْيَةٌ * كأنك منها قواعدٌ في جُوالِقِ
(4/126)
---(1/1406)
ولو قيل في الآية الكريمة "أُخْرِجْتُم" مراعاة لـ"كنتم" لكان جائزاً من حيث اللفظُ، ولكن لا يجوز أن يُقرأ به، لأن القراءةَ سنةٌ متبعة، فالأَولى أن تُجْعل الجملةُ صفةً لـ"أمة" لا لـ"خير" لتناسبَ الخطابُ في قولِه: "تأمرون".
قوله: "للناسٍ" فيه أوجه، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بـ"أُخْرجت"، والثاني: أن يتعلَّق بـ"خير" والفرقُ بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزَمُ أن يكونوا أفضلَ الأمم في الوجهِ الثاني من هذا اللفظ، بل من موضعٍ أخر. والثالث: أنه متعلقٌ من حيثُ المعنى لا من حيث الإِعراب بـ"تأمرون" على أنَّ مجرورَها مفعولٌ به، فلمَّا قُدِّمَ ضَعُفَ العاملُ فَقَوِيَ بزيادةِ اللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أي تَعْبُرون الرويا.
قوله: "تأمرون" في هذه الجملةِ أوجهُ أحدُها: أنها خبرٌ ثاني لـ"كنتم"، ويكون نقد راعاى الضميرَ المتقدم في "كنتم"، ولو راعى الخبرَ لقال: "يأمرون" بالغيبةِ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، قاله الراغب وابن عطية. الثالث: أنها في محلِّ نصب نعتاً لخير أمة، وأتى بالخطابِ لِما تقدَّم، قاله الحوفي. الرابع: أنها مستأنفةٌ بَيَّنَ بها كونَهم خيرَ أمة، كأنه قيل: السببُ في كونِكم خيرَ الأممِ هذه الخصالُ الحميدة، وهذا أغربُ الأوجه.
قوله: {لَكَانَ خَيْراً} اسمُ "كان" ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المدلولِ عليه بفعلِهِ، والتقديرُ: لكان الإِيمانُ خيراً كقولهم: : "مَنْ كَذَبَ كان شراً له" ِأي: كان الكذبُ شَرَّاً له، ونحوُه: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ}، [وقوله]:
1387ـ إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه * وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إليه السَّفَهُ.
(4/127)
---(1/1407)
والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيراً لهم مِنْ كفرهم وبقائِهم على جهلهم. والمرادُ بالخيرية في زعمهِم: وقال ابن عطية: "ولفظةٌ "خير" صيغةُ تفضيل ولا مشاركة بين كفكرهم وإيمانهم في الخيرِ، وإنما جاز ذلك لِما في لفظ "خير" من الشِّياع وتشعُّبِ الوجوهِ، وكذلك هي لفظة "أفضل" و"أحب" وما جرى مجراهما". قال الشيخ: وإبقاؤها على موضوعِها الأصلي أَوْلى إذا أَمْكَنَ ذلك، وقد أَمْكَنَ ذلك إذ الخيريةُ مطلقةٌ فتحصُلُ بأدنى مشاركة.
قوله: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} إلى آخره: جعل مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك.
* { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَذًى}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه متصلٌ، وهو استثناءٌ مفرغٌ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يَضُرُّوكم ضرراً البتة إلا ضرَر لا يُبَالى به من كلمةِ سوءٍ ونحوِها. والثاني: أنه منقطع أي: لن يَضُرُّوكم بقتالٍ وغَلَبة، ولكن بكلمةِ أذى ونحوِها.
(4/128)
---(1/1408)
قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مستأنفٌ، ولم يُجْزَمْ عطفاً على جواب الشرط،ـ لأنه كان يتغير المعنى، وذلك أن الله تعالى أخبر بعدمِ نصرتهم مطلقاً، ولو عطفناه على جواب الشرط للزِم تقييدُه بمقاتلتِهم لنا، وهم غيرُ منصورين مطلقاً: قاتَلوا أَوْلم يقاتلوا. وزعم بعضُ مَنْ لا تحصيلَ له أن المعطوف على جوابِ الشرط بـ"ثم" لا يجوزُ جَزْمُه البتةَ، قال: "لأنَّ المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، وجوابُ الشرطِ يقع بعدَه وعقيبَه، و"ثم" تقتضي التراخيَ فيكف يُتَصَوَّرُ وقوعُه عقيبَ الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع "ثم". وهذا فاسدٌ جداً لقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوااْ أَمْثَالَكُم} فـ"لا يكونوا" مجزومٌ نسقاً على "يستبدل" الواقعِ جواباً لشرط والعاطفُ "ثم". و"الأدبارَ" مفعولٌ ثاني ليولُّوكم، لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعول آخرَ.
* { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوااْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
قوله تعالى: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوااْ}: أينما شرطٌ وهي طرفُ مكان و"ما" مزيدةٌ فيها، فـ"ثُقفوا" في محلِّ جزمٍ بها، وجوابُ الشرط: إمَّا محذوفٌ أي: أينما ثُقِفوا غُلِبوا وذُلُّوا، دلَّ عليه قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}، وإمَّا نفسُ "ضُرِبَتْ" عند مَنْ يُجيز تقديمَ جواب الشرطِ عليه، فـ{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} لا محلَّ له على الأول ومحلُّه الجزمُ على الثاني.
(4/129)
---(1/1409)
قوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ} هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو استثناءٌ مفرغٌ من الأحوال العامة. قال الزمخشري: "وهو استثناءٌ من عامِّ أعمِّ الأحوال، والمعنى: "ضُرِبَتْ عليهم الذِّلَّةُ في عامة الأحوال إلاَّ في حال اعتصامهم بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس"، وعلىهذا فهو استثناءٌ متصلٌ وقال الزجاج والفراء: "هو استثناءٌ منطقعٌ". فقدَّره الفراء: "إلاَّ أَنْ يَعْتصموا بحبل من الله"، فَحَذَف ما يتعلَّق به الجارُّ، كما قال حميد بن ثور الهلالي:
1388ـ رَأَتْني بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافةً * وفي الحبلِ رَوْعاءُ الفؤادِ فَروُقُ
أراد: أقلت بحبلَيْها، فَحَذَفَ الفعلَ للدلالة عليه. ونظَّره ابن عطية بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} قال: "لا، باديَ الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما في الكلام محذوف/ يدركه فهمُ السامعِ الناظرِ في الأمر، وتقديرُه في آيتنا: "فلا نجاة من الموتع إلا بحبلٍ" قال الشيخ: "وعلى ما قَدَّره لا يكونُ استثناء منقطعاً لأنه مستثنى من حملة مقدرة وهي قوله: "فلا نجاة من الموت" وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورةَ أنَّ الاستثناءَ الواحدَ لا يكونُ منقطعاً متصلاً، والاستثناءُ المنقطعُ كما تقرَّر في علمِ النحو على قسمين: منه ما يُمْكِنُ أَنْ يتسلَّط عليه العاملُ، ومنه ما لا يمكن في ذلك، ومنه هذه الآيةُ على تقديرِ الانقطاعِ، إذ التقديرُ: لكنَّ اعتصامَهم بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من الناس يُنْجِيهم من القتلِ والأسْر وسَبْيَ الذَّراري واستئصالِ أموالِهم، ويَدُلُّّ على أنه منقطعٌ: الإِخبارُ بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} فلم يَسْتَثْنِ هناك". وما بعدَ هذه الآيةِ قد تقدَّم إعرابه.
(4/130)
---(1/1410)
* { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }
قوله تعالى: { لَيْسُواْ سَوَآءً}: الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على"سواء" تامٌ، فإنَّ الواوَ اسمُ "ليس"، و"سواءً" خبر، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم، والمعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} فانتفى استواؤُهم. و"سواء" في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد، وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ القرة.
وقال أبو عبيدة: "الواو في "ليسوا" علامةٌ جمعٍ وليست ضميراً، واسمُ "ليس" على هذا "أمةٌ" و"قائمةٌ" صفتها، وكذا "يَتْلُون"، وهذا على لغة "أكلوني البراغيث" كقوله الآخر:
1389ـ يَلُومونني في اشتراءِ النخيلِ * أَهْلي فكلُّهمُ أَلْوَمُ
قالوا: "وهي لغةٌ ضعيفةٌ". ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفةً، ونَسبَها بعضُهم لأزدِ شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآنِ مثلُها، وسيأتي تحقيقُ هذا في المائدة بزيادةِ بيان.
قال ابن عطية: "وما قاله أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يُبَيِّن وجهَ الخطأ، وكأنه تَوَهَّم أنَّ اسم "ليس" هو "أمة قائمة" فقط، وأنه لا محذوف ثمَّ، إذ ليس الغرضُ تفاوتَ الأمةِ القائمة التالية، فإذا قُدِّر ثَمَّ محذوفٌ لم يكنن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً، إلا أن بعضهم رَدَّ قوله بأنها لغة ضعيفة، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يَصِحُّ به المعنى، أي: ليس سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ موصوففةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فهذا تقديرٌ يَصِحُّ به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة.
(4/131)
---(1/1411)
وقال االفراء: "إنَّ الوقف لا يَتِمُّ على "سواء"، فجعل الواوَ اسمَ "ليس" و"سواءً" خبرها، كما قال الجمهور، و"أمة" مرتفعة بـ"سواء" ارتفاعَ الفاعل، أي: ليس أهلُ الكتاب مستوياً منهم أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فَحُذِفَتِ الجملةُ المعادِلة لدلالةِ القسمِ الأولِ عليها كقولِ الشاعر:
1390ـ عداني إليها القلبُ إني لأِمْرِها * سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ، فَحُذِف "الغَيّ: لدلالةِ ضدِّه عليه، مثلُه قولُ الآخر:
1391ـ أراكَ فما أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَه * وذو الهَمِّ قِدْماً خاشِعٌ مُتَضائِلُ
أي: أَهَمٌّ هممته أم غيرُه، فَحُذِفَ للدلالةِ، وهو كثيرٌ، قال الفراء: "لأنَّ المساواة تقتضي شيئين كقولِهِ {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }، وقوله {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}. وقد ضُعِّف قولُ الفراء من حيث الحذفُ ومن حيث وَضْعُ الظاهرِ موضِعَ المضمر، إذ الأصل: منهم أمةٌ قائمة، فَوُضِعَ ":أهلِ الكتابِ" موضعَ الضمير.
والوجه أن يكونَ "ليسوا سواءً" جملةً تامة، وقولُه: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ} جملةٌ برأسها، وقولُه: {يَتْلُونَ} جملةً أخرى مبيِّنَةً لعدم استوائِهم، كما جاءَتِ الجملةُ مِنْ قولِه: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} إلخ مبيِّنَةً للخيرية. ويجوزُ أن يكونَ "يتلون" في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة.
ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من "أمة" لتخصُّصِها بالنعتِ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ في "قائمة"، وعلى كونِها حالاً من "أمة" يكونُ العامل فيها الاستقرارَ الذي تَضَمَّنه الجارُّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في هذا الجارِّ لوقوعهِ خبراً لأمة.
(4/132)
---(1/1412)
قوله: {آنَآءَ اللَّيْلِ} ظرفٌ لـ"يتلون". والآناء: الساعات، واحدها: "أنَى" بفتح الهمزة والنون بزنة "عَصَا" او "إنَى" بكسر الهمزة وفتح النون بزنة "مِعَى"، أو "أَنْيٌ" بالفتح والسكونث بزنة "ظَبْي" أو: إنيٌْ" بالكسر والسكون بزنة "نِحْي"، أو "إنْوٌ" بالكسر والسكون مع الواو بزنة "جِرْو"، فالهمزة في "آناء" منقلبةٌ عن ياء على الأقوالِ الأربعةِ كرِداء، وعن واوٍ على القولِ الأخير، نحو: "كِساء" وستأتي بقيةُ هذه المادةِ في مواضع.
ولا يجوز ُ أن يكونَ "آناء الليل" ظرفاً لـ"قائمة" قال أبو البقاء: "لأنَّ "قائمة" قد وُصِفَتْ فلا تعملُ فيهما بعد الصفة" وهذا على التقدير أن يكونَ "يَتْلُون" وصفاً لقائمة، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى ليس على جَعْلِ هذه الجملةِ صِفةً لما قبلها، بل على الاستئنافِ للبيان المتقدم، وعلى تقديرِ جَعْلِها صفةً لِما قبلها فهي صفةً لـ"أمة" لا لـ"قائمة" لأنَّ الصفةَ لا تُوصَفُ، إلا أَنْ يكونَ معنى الصفةِ الثانيةِ لائقاً بما قبلها نحو: "مرَرْتُ برجلٍ ناطقٍ فصيحٍ" فـ"فصيح" صفة لناطق، لأن معناه لائق به. وبعضهم يجعله وصفاً لرجل، وإنما المانعُ من تعلٌّقِ هذا الظرفِ بـ"قائمة" ما ذكرْتُه من استئناف جملته.
قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يجوزُ أن تكونَ حالاً من فاعلِ "يَتْلُون" أي: يَتْلُون القرآن وهم ساجِدون، وهذا قد يكونُ في شريعتِهم مشروعيةُ التلاوة في السجودِ بخلافِ شريعتنا، وبهذا يُرَجَّح قولُ مَنْ يقول: إنهم غيرُ أمةِ محمد. ويجوز أن تكونَ/ حالاً من الضمير في "قائمة" قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ للاستئناف المذكور، ويجوز أن تكون مستأنفة.
* { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }
(4/133)
---(1/1413)
قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ}.. إلى آخره: إمَّا استئنافٌ وإمَّا احوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً دلالةَ على الاستقرار، وصُدِّرت بضمير، وبُنِي عليه جملةٌ فعليةٌ ليتكرَّرَ الضميرُ فيزدادَ الكلامُ بتكرارِ توكيداً، وجيء بالخبرِ مضارعاً دلالةَ على تجدُّدِ السجود في كلِّ وقتٍ، وكذلك جيء بالجمل التي بعدها أفعالاً مضارعة، ويُحتمل أن يكون "تؤمنون" خبراً ثانياً لقوله: "هم"، ولذلك تُرِك العاطفُ ولو ذُكِر لكان جائزاً. وقوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} يجوز في "مِنْ" أن تكونَ للتبعيض وهو الظاهر. وَجَعَلها ابنث عطية لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ مبهمٌ فتبيِّنْه هذه.
* { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ}: قرأ الأخوان وفحص: "يفعلوا" و"يُكْفَروه" بالغيبة، والباقون بالخطاب، فالغيبةُ مراعاةُ لقوله: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} فَجَرى على لفظِ الغَيْبة، أَخْبَرَنَا تعالى أنَّ "ما يفعلوا" مِنْ خير بَقِي لهم غيرَ مكفورٍ. والخطابُ على الرجوعِ إلى خطاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قولِه: "كنتم". ويجوزُ أَنْ يكون التفاتاً من الغَيْبة في قوله {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} إلى آخره إلى خطابهم، وذلك أنه آنَسَهم بهذا الخطابِ، ويؤيِّد ذلك أنه اقتَصَر على ذِكْر الخير دونَ الشرِّ ليزيدَ في التأنيسِ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ الأَخَوين، فإنها كالنص في أنَّ المرادَ قولُه {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ}.
و"كَفَر" يتعدَّى لواحد، فكيف تعدَّى هنا لاثنين، أولُهما قام مقامَ الفاعل، والثاني: الهاءُ في "يُكْفروه"؟ فقيل: إنه ضُمِّنَ معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو "حَرَم" فكأنه قِيل: فَلَنْ تُحْرَمُوه، و"حَرَم" يتعدَّى لاثنين.
(4/134)
---(1/1414)
* { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَاذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوااْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ}: "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسمية، وعائدُها محذوفٌ لا ستكمالِ الشروطِ أي: ينفقونه.
وقوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ} خبرُ المبتدأ، وعلى هذا الظاهِر ـ أعني تشبيهَ الشيء المنَفق بالريحِ ـ استُشْكِل التشبيهُ لأنَّ المعنى على تشبيهه بالحرَرْث ـ أي الزرعِ ـ لا بالريح. وقد أُجيب عن ذلك بأحد أوجه: الأول: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه يقابِلُ الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية، ولا يقابلُ الأفراد بالأفراد، وهذا قد مر تحقيقه عند قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ}، وهذا اختيار الزمخشري.
الثاني: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذَكَر أحدَ المُشَبَّهين وتَرَك ذِكْر الآخر، وذَكَر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر، فقد حَذَف مِنْ كلِّ اثنين ما يَدُلُّ عليه نظيرُه، وقد مَرَّ نظيرُ هذا في البقرة عند قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ
}. واختار هذا ابن عطية، وقال "هذه غايةُ البلاغةِ والإِعجازِ". الثالث: أنه على حَذْف مضاف: إمَّا من الأول تقديرُه: "مَثَلُ مَهْلِكِ ما ينفقونه"، وإمَّا من الثاني تقديرُه: كمثل مَهْلِك ريح. وهذا الثاني أظهرُ؛ لأنه يؤدِّي في الأول إلى تشبيه الشيء المُنْفَقِ المُْلَكِ بالريح، وليس المعنى عليه أيضاً، ففيه عَوْدٌ لِما فُرَّ منه.
(4/135)
---(1/1415)
وقد ذكر الشيخ التقديرَ المشارَ إليه، ولم ينبِّه عليه، اللهم إلا أن يريد بـ"مَهْلِك" اسمَ مصدر أي: مثلَ إهلاك ما ينفقون، ولكن يُحتاج إلى تقديرِ مثل هذا المضاف أيضاً قبل "ريح" تقديره: مَثَلٌ إهلاك ما ينفقون كمثلِ أهلاك ريح. ويجوزُ أَنْ تكونَ "ما" مصدريةٌ، وحينئذ يكونُ قد شَبَّه إنفاقَهم في عدمِ نفعِه بالريحِ الموصوفةِ بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
قوله: {فِيهَا صِرٌّ} في محل جر نعتاً لـ"ريح"، ويجوز أن يكونَ "فيها صِرٌّ" جملةً من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون "فيها" وحدَه هو الصفةَ، و"صِرُّ" فاعلٌ به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسنُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأوصافِ الإِفرادُ، وهذا قريبٌ منه.
والصِرُّ" قيل: البردُ الشديد المحرق، قال:
1392ـ لا يَعْدِلنَّ أتاوِيِّونَ تضرِبُهم * نكباءُ صِرٌّ بأصحابِ المُحِلاَّتِ
وقيل: "الصِرُّ" بمعنى الصَّرْصَر، وهو الشيء البارد، قالت ليلى الأخيلية:
1393ـ ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الأَلَدَّ ويَمْلأ * الجِفانَ سَدِيفاً يومَ نكباءً صرصرِ
وأصلُهُ مأخوذٌ من الشَّدَّ والتعقيد، ومنه: الصُرَّة للعٌقْدة، وأَصَرَّ على كذا: لَزِمه. وقال بعضُهم: "الصِرُّ" صوتُ لهيبِ النار، يكون في الريح مِنْ: صَرَّ الشيءُ يَصِرُّ صريراً أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروفِ، ومنه: صرير الباب. قال الزجاج: "والصِرُّ: صوت النار التي في الريح" وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا: الصِرُّ: البردُ الشديد أو هو صوتُ النار التي في الريح" وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا: الصِرُّ: البردُ الشديد أو هو صوتُ النار أو صوتُ الريح، فظرفية الريحِ له واضحةٌ، وإنْ كان الصِرُّ صفةَ الريح كالصرصر فالمعنى:/ فيها قِرَّةٌ صِرٌّ، كما تقول: برد بارد، وحُذِف الموصوفُ وقامت الصفةُ مَقَامَه، أو تكونُ الظرفيةُ مجازاً جُعِل الموصوفُ ظرفاً للصفة كما قال:
1394ـ ................... * وفي الرحمنِ للضُّعفاء كافِي(1/1416)
(4/136)
---
ومنه قولُهم: "إنْ ضَيَّعني فلانٌ ففي اللهِ كافٍ" المعنى: الرحمن كافٍ، واللهُ كافٍ. وهذا فيه بُعْدٌ.
قوله: أصابَتْ" هذه الجملة في محل جر أيضاً صفةً لـ"ريح"، ولا يجوز أن تكونَ صفةً لـ"صِرّ" لأنه مذكر. وبدأ أولاً بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة. هذا إنْ أعربنا "فيها" وحده صفةً، ورَفَعْنا به "صِر" أمَّا إذا أعربناه خبراً مقدماً و"صِرٌّ" مبتدأ فهما جملة أيضاً.
قوله: "ظلموا" صفة لـ"قوم"، والضمير في "ظلمهم" يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك. وجَوَّز الزمخشري وغيره أن يعودَ على المنفقين، وإليه نحا ابنُ عطية، ورجَّحه بأنَّ أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للردِّ عليهم ولا للتبيين ظلمهِم، بل لمجردِ التشبيه بهم.
قوله: {وَلَاكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} العامةُ على تخفيف "لكن" وهي استدراكيةٌ، و"أنفسَهم" مفعولٌ مقدم، قُدِّم للاختصاص أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلا بأنفسهم خاصةً لا يتخطَّاهم، ولأجلِ الفواصل أيضاً. وقرأها بعضهم مشددة، ووَجْهُها أن يكونَ "أنفسَهم" اسمها، و"يظلمون" الخبرُ، والعائدُ من الجملة الخبرية على الاسم محذوفٌ تقديرُه: ولكنَّ ِأنفسَهم يظلمونها، فحُذِف، وحَسَّن حذفَه كونُ الفعلِ فاصلة، فلو ذُكِرَ مفعولُه لفات هذا الغرضُ. وقد خَرَّجه بعضُهم على أن يكون اسمُها ضميرَ الأمر والقصة حُذِف للعلم به، و"أنفسَهم" مفعولٌ مقدَّمٌ ليظلمون كما تقدَّم، والجملةُ خبرٌ لها، وقد رُدَّ هذا بأنَّ حَذْفَ اسمِ هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله:
1395ـ إنَّ مَنْ يدخلِ الكنيسةَ يوماً * يَلْقَ فيها جآذراً وظباءَ
(4/137)
---(1/1417)
على أن بعضَهم لا يَقْصُره على الضرورة، مستشهداً بقوله عليه السلام: "إنَّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المُصَوِّرون"، قال: "تقديره إنه"، ويُعْزى هذا للسكائي، وقد ردَّه بعضهم، وخَرَّج الحديث على زيادة "مِنْ" والتقدير: إنَّ أشدَّ الناس. والبصريون لا يُجيزون زيادة "من" في مثل هذا التركيبِ لِما عُرِفَ غيرَ مرة إلا الأخفش.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {مِّن دُونِكُمْ}: يجوز أن يكون صفة لـ"بِطانة" فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: كائنةً من غيركم. وقدَّره الزمخشري: "من غيرِ أبناء جنسكم، وهم المسلمون" ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بفعل النهي. وجَوزَّ بعضُم أن تكون "مِنْ" زائدةً، والمعنى: دونَكم في العمل والإِيمان.
وبِطانة الرجل: خاصَّتُه الذين يُباطِنُهم في الأمور، ولا يُظْهر غيرَهم عليها مشتقةً من البَطْن، والباطنُ: دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشِّعار والدِّثار في ذلك. قال عليه السلام: "الناسُ دِثار والأنصارُ شِعار". والشِّعار ما يلي جسدك من الثياب. ويقال: "بَطَن فلانٌ بفلان بُطوناً وبِطانة". قال الشاعر:
1396ـ أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانتي * وهم عَيْبَتي مِنْ دونِ كلِّ قريب
قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يقال: "أَلاَ في الأمر يَأْلُو فيه" أي: قَصَّر نحو: غزا يغزو، فأصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر كما ترى.
(4/138)
---(1/1418)
واختُلِف في نصب "خَبالا" على أوجهٍ. أحدُها: أنه معفولٌ ثانٍ. والضميرُ هو الأول، وإنما تَعَدَّى لاثنين للتضمين. قال الزمخشري: "يقال: ألا في الأمر يَأْلُو فيه أي: قَصَّر، ثم استُعْمِل مُعَدَّىً إلى مفعولين في قولهم: "لا آلوك نُصْحاً ولا ألوك جُهْداً" على التضمين، والمعنى: لا أمنعُك نُصْحاً ولا أَنْقُصُكه".
الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرفِ الجر، والأصل: لا يألونكم في خَبال أي: في تخبيلكم وهذا غيرُ منقاسٍ، بخلافِ التضمين فإنه منقاسٌ، وإنْ كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث: أن ينتصبَ على التمييز، وهو حينئذٍ تمييز منقول من المفعولية، والأصلُ: لا يَألون خبالكم أي: في خبالكم: ثم جُعِل الضميرُ المضاف إليه مفعولاً بعد إسقاط الخافض، فنُصِب "الخبال" الذي كان مضافاً تمييزاً، ومثله قولُه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} أي: "عيون الأرضِ" فَفُعلِ به ما تقدَّم، ومثلُه في الفاعلية: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} الأصل: "شيبُ الرأس"، وهذا عند مَنْ يُثْبت كونَ التمييز منقولاً من المفعوليةِ. وقد مَنَعَه بعضُهم، وتأوَّل قولَه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} على أنَّ "عيوناً" بدلُ بعضٍ من كل، وفيه حَذْفُ العائدِ أي: عيوناً منها. وعلى هذا التخريجِ يجوزُ أَنْ يكونَ "خبالاً" بدلَ اشتمال من "كم"، والضميرُ أيضاً محذوفٌ أي: "خبالاً منكم" وهذا وجه رابع.
الخامس: أنه/ مصدرٌ في موضع الحال أي: مُتَخَبِّلين. السادس: قال ابن عطية: معناه: لا يُقَصِّرون لكم فيما فيه من الفسادِ عليكم"، فعلى هذا الذي قَدَّره يكونُ المضمر و"خبالاً" منصوبين على إسقاطِ الخافض وهو اللام و"في".
(4/139)
---(1/1419)
وهذه الجملةُ فيها ثلاثةُ أوجه. أحدُها: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها وبالجملِ التي بعدَها لبيانِ حالِ الطائفةِ الكافرة حتى يَنْفِروا منها فلا يتخذوها بِطانةً، وهو وجه حسن. والثاني: أنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في "مِنْ دونكم" على أنَّ الجارَّ صفةٌ لـ"بطانة". والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ"بطانة" أيضاً.
والأَلْوُ بزنة "الغَزْو" التقصيرُ كما تقدَّم، قال زهير:
13997ـ سَعَى بعدَهم قومٌ لكي يُدْرِكوهمُ * فلم يَفْعَلوا ولم يُلِيموا ولم يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس:
1398ـ وما المرءُ مادَامَتْ حُشاشَةُ نفسِه * بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخطوبِ ولا آلِ
يقال: آلَى يُؤْلِي بزنة "أَكْرم"، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ألفاً، وأنشدوا:
1399ـ .................... * فما آلَى بَنِيَّ ولا أساؤوا
ويقال: أئتلَى يَأْتَلي بزنة "اكتسب" يكتسب، قال امرؤ القيس:
1400ـ ألا رُبَّ خصمٍ فيكِ أَلْوى رَدَدْتُه * نصيحٍ على تَعْذالِه غيرُ مُؤْتَلِ
فتيحدُ لفظُ "آلى" بمعنى قصَّر و"آلى" بمعنى حَلَف، وإنْ كان الفرقُ بينهما ثابتاً من حيث المادةُ؛ لأنَّ لامَه من معنى الحَلْف ياء، ومِنْ معنى التقصير واو.
وقال الراغب:"وأَلَوْتُ فلاناً أي: أوْلَيْتُه تقصيراً نحو: كسبته أي: أوليته كَسْباً وما أَلَوْتُه جُهْداً أي: ما أَوْلَيْتُه تقصيراً بحسَبِ الجُهْد، فقولُك: "جُهْداً" تمييز. وقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} منه، أي: لا يُقَصِّرون في طلبِ الخَبَال. وقال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ} قيل: هو يفتعل من أَلَوْت، وقيل: هو من آليت أي: حَلَفْتُ.
(4/140)
---(1/1420)
والخَبالُ: الفسادُ، وأصلُه ما يلحَقُ الحيوانَ من مرضٍ وفتورٍ فيورِثُه فساداً واضطراباً، يقال منه: خَبَله وخَبَّله بالتخفيف والتشديدِ فهو خابلٌ ومُخْبَلٌ ومَخْبول ومُخَبَّل. ويقال: خَبْل وخَبَل وخَبال. وفي الحديث: "مَنْ شرب الخمر ثلاثاً كان حقاً على اللهِ أن يَسْقِيَه من طينه الخَبال" وقال زهير ابن أبي سلمى:
1401ـ هنالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخْبِلوا * وإنْ يَسْأَلوا يُعْدُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت: أنهم ذا طُلِب منهم إفسادُ شيء من إبلِهم أفسدوه، وهذا كنايةٌ عن كرمِهم.
قوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أَوْجَهُها: أن تكونَ مستأنفةً كما هو الظاهرُ فيما قبلها. والثاني: أنها نعتٌ لـ"بِطانة" فمحَلُّها نصبٌ. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في "يأْلونكم". و"ما" مصدريةٌ، و"عَنِتُّم" صِلَتُها، وهي وصلتُها مفعولُ الوَداداة أي: عَنَتُكم أي: مَقْتكُم. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ في البقرةِ عند [قوله] {لأَعْنَتَكُمْ}. قال الراغب هنا: "المعاندَةُ والمعانَتَهُ يتقاربان، لكنَّ المعاندة هي الممانعة، والمعانتةُ أَنْ يَتَحَرَّى مع الممانَعَةِ المَشَقَّةُ.
قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ} هذه الجملةُ كالتي قبلها، وقرأ عبدالله: "بدا" من غيرتاء، لأنَّ الفاعلَ مؤنثٌ مجازي ولأنَّها في معنى البغض. والبغضاء مصدرٌ كالسَّراء والضَّرَّاء. يقال مه: بَغُض الرجل فهو نغيض كظَرُفَ فهو ظريف.
(4/141)
---(1/1421)
وقوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} متعلِّقٌ بـ"بَدَتْ" و"مِنْ" لابتداء الغاية. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً أي: خارجةً من أفواههم. والأَفْواه: جمعُ فم، وأصلُه: فوه، فلامُه هاء، يَدُلُّ على ذلك جَمْعُه على "أفواه"، وتصغيرُه على "فُوَيْه"، والنسبُ إليه على فَوْهِيّ، وهل وزنُه فَعْل بسكون العين أو فعَل بفتحِها؟. خلافٌ للنحويين، وإذا عَرَفْتَ ذلك فاعلَمْ أنهم حَذَفوا لامَه تخفيفاً فبقي آخرُه حرف علة فأَبْدَلوها ميماً لقُربها منها لأنهما من الشَّفَة، وفي الميم هَوِيٌّ في الفم يضارع المدَّ الذي في الواو، هذا كلُّه إذا أفردوه عن الإِضافةِ، فإنْ أضافوه لم يُبْدِلوا حرفَ العلة كقوله:
1402ـ فُوهٌ كشَقِّ العَصا لأْياً تَبَيَّنُهُ * .......................
وقد عُكِس الأمرُ في الطرفين، فَأَتى بالميمِ في الإِضافةِ وبحرفِ العلةِ في القطعِ عنها، فمِنَ الأولِ قولُه:
1403ـ يُصْبحُ ظمآنَ وفي البحرِ فَمُهْ
وخَصَّه الفارسي وجماعةٌ بالضرورةِ، وغيرُهم جَوَّزه سَعَةً، وجَعَل منه قولَه عليه السلام/: "لَخُلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ مِنْ ريحِ المسك"، ومِن الثاني قوله:
1404ـ خالَطَ مِنْ سَلْمى خياشيمَ وفَا
أي: "وفاها"، وإنما جاز ذلك لأنَّ الإِضافةَ كالمنطوق بها، وقالت العرب: "رجلٌ مُفَوَّه" إذا كان يجيد القول، وهو أَفْوَهُ منه أي: أوسع فماً، وقال لبيد:
1405ـ .................... * وما فاهوا به أبداً مُقميمُ
وفي الفم تسع لغات، وله أربعُ مواد: ف وه، ف م و، ف م ي، ف م م، بدليل أفواه وفَمَوَيْن وفَمَيَيْن وأفمام.
قوله: {وَمَا تُخْفِي} يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: تُخْفيه، فَحُذِف، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: وإخفاءُ صدروهم، وعلى كِلا التقديرين فـ"ما" مبتدأٌ، و"أكبرُ" خبرُه، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أكبرُ من الذي أَبْدَوه بأفواهِهم.
(4/142)
---(1/1422)
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ} شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ ما تقدَّم عليه، أو هو ما تقدَّم عند مَنْ يرى جوازَه.
* { هَآأَنْتُمْ أُوْلااءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوااْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله تعالى: {هَآأَنْتُمْ أُوْلااءِ تُحِبُّونَهُمْ}: قد تقدَّم نظيرُه وتحقيقُه مرتين، ونزيد هنا أن يكونَ "أولاء" في موضعِ نصبٍ بفعل محذوف، فتكونُ المسألةُ من الاشتغال نحو: "أنا زيداً ضربته" وقوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} يُحتمل أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ وأَنْ يكونَ جملةً حالية. و"الكتاب" يجوز أَنْ تكونَ الألفُ واللامُ للجنس، والمعنى بالكتبِ كلها، فاكتفى الواحد، ويجوزُ أن تكونَ للعهدِ، والمرادُ به كتابٌ مخصوصٌ،
وقوله: "عليكم". متعلِّقٌ بـ"عَضَّوا"، وكذلك: "من الغيظِ". و"مِنْ" فيه لابتداءِ الغاية، ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى اللام فتفيدَ العلة أي: من أجلِ الغَيْظِ. وجَوَّز أبو البقاء في "عليكم" وفي "من الغيظ" أن يكونا حالَيْن، فقال: "ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاَ أي: حَنِقين عليكم، "من الغيظِ" متعلِّقٌ بـ"عَضُّوا" أيضاً، و"مِنْ" لابتداء الغايةِ أي: من أجلِ الغيظِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: مغتاظين" انتهى. وقولُه: "ومِنْ لابتداء الغاية أي: من أجل الغيظ" كلامٌ متنافر، لأنَّ التي للابتداء لا تُفَسَّر بمعنى "من أجل" فإنه معنى العلة، والعلةُ والابتداء متغايران، وعلى الجملةِ فالحاليةُ فيها لا يَظْهَرُ معناها، وتقديرُه الحالَ ليس تقديراً صناعياً، لأنَّ التقديرُ الصناعِيَّ إنما يكون بالأكوان المطلقةِ.
(4/143)
---(1/1423)
والعَضُّ: الأَزْمُ بالأسنانِ وهو تحامُلُ الأسنانِ بعضِها على بعضٍ. يقال: عَضِضْتُ بكسر العين في الماضي ـ أعَضُّ ـ بالفتحِ ـ عَضَّاً وعَضيضاً. قال امرؤ القيس:
1406ـ ............... * كفَحْلِ الهجانِ يَنْتَحي للعضيضِ
ويُعَبَّرُ به عن الندمِ المفرط، ومنه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} وإنْ لم يكن ثَمَّ عضٌّ حقيقةً. قال أبو طالب:
1407ـ وقد صالَحُوا قوماً علينا أَشِحَّةً * يَعَضُّون غيظاً خَلْفَنا بالأنامِلِ
جَعَلَ الباءَ زائدةً في المعفول، إذ الأصلُ: يَعَضُّون خلفَنا الأنامل، وله نظائرُ مرت. وقال آخر:
1408ـ قدَ أفنى أنامِلَه أزْمُهُ * فَأَمْسَى يَعَضُّ عليَّ الوَظِيفا
وقال الحارث بن ظالم المُرِّي:
1409ـ وأقتلُ أقواماً لِئاماً أذِلَّةً * يَعَضَّون مِنْ غيظٍ رؤوسَ الأباهِهِ
وقال آخر:
1410ـ إذا رَأَوْني أطالَ اللهُ غيظَهُمُ * عَضُّوا من الغيظِ أَطْرَافَ الأباهيم
والعَضُّ كلُّه بالضادِ إلاَّ في قولِهم: "عَظَّ الزمانُ" ِأي اشتدَّ، وعَظَّتِ الحربُ، فإنهما بالظاءِ أختِ الطاء، وأنشد:
1411ـ وعَظَّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ * من المالِ إلاَّ مُسْحتاً أو مُجَلَّفُ
وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء: "وعَضُّ زمان" بالضاد.
والعَضُّ: ـ بضمِّ الفاء ـ عَلَف من نوىً مرضوضٍ وغيرِه، ومنه: بعير عُضاضِيٌّ أي: سمينٌ كأنه منسوبٌ إليه، وأَعَضَّ القومُ: إذا أكلَتْ إبلُهم ذلك والعِضُّ ـ بكسر الفاء ـ الداهية من الرجال كأنهم تَصَوَّروا عَضَّه وشدته. وزمنٌ عضوضٌ أي: جَدْب، والتَّعْضُوضُ: نوعٌ من التمرِ سُمِّي بذلك لشدة مَضْغِه وصعوبتِه.
والأناملُ: جمع أَنْمُلة وهي رؤوس الأصابع، قال الرمااني: "واشتقاقُها من النملِ هذا الحيوانُ المعروف، شُبِّهَتْ به لدِقَّتها وسرعةِ تصرُّفها وحركتها ومنه قالوا للنمَّام: نَمِل ومُنْمِل لذلك قال:
1412ـ ولستُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ * ولا مُنْمِشٍ منهمُ مُنْمِلُ(1/1424)
(4/144)
---
وفي ميمها الضم والفتح.
والغَيْظُ: مصدر عاظَه يَغْيظه أي: أغضبه، وفَسَّره الراغب بأنه أشدُّ الغضب قال: هو الحرارة التي يَجِدُها الإِنسان من ثَوَران دم قلبه" قال: وإذا وُصِف به اللهُ تعالى فإنما يُراد الانتقامُ. والتغيظ: إظهارُ الغيظ، وقد يكونُ مع ذلك صوتٌ. قال تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
}. والجملةُ من قولِه : "وتؤمنون" معطوفةٌ على: "تُحِبُّونهم" ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة./ وقال الزمخشري: "والواو في "وتؤمنون" للحالِ وانتصابُها من "لا يُحِبُّونكم" أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالُكم تُحِبُّوهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم" قال الشيخ: "وهو حسنٌ، إلاَّ أنَّ فيه من الصناعة النحوية ما يَخْدِشُه، وهو أنه جعل الواوَ في "وتؤمنون" للحال وانتصابها من "لا يحبونكم"، والمضارعُ المثبتُ إذا وَقَع حالاً لا تدخُلُ عليه واو الحال تقول: "جاء زيدٌ يضحك" ولا يجوز: "ويضحك". فامَّا قولُهم: "قمتُ وأَصُكُّ عينَه" ففي غاية الشذوذِ، وقد أُوَّلَ على إضمارِ مبتدأ ِأي: "وأنا أصُكُّ عينه: فتصيرُ الجملةُ اسميةً, ويُحتمل هذا التأويلُ هنا أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمون بالكتاب كله، لكنَّ الأَوْلى ما ذكرناه من كونها للعطف" يعني فإنه لا يُحْوِج إالى حَذْفٍ بخلافِ تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل. وثَمَّ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها السياقُ، والتقدير: وتُؤمْنون بالكتاب كله ولا يُؤمنون هم به كلِّه، بل يقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض.
قوله: {بِغَيْظِكُمْ} يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للحالِ أي: موتوا ملتبسين بغيظِكم لا يُزايلكم، وهو كنايةٌ عن كثرةِ الإِسلام وفُشُوِّه، لأنه لكما ازداد الإِيمان زاد غيظُهم. ويجوز أن تكونَ للسببية أي: بسبب غيظم.
(4/145)
---(1/1425)
وقوله: {مُوتُواْ} صورتُه أمر ومعناه الدعاء، وقيل: معناه الخبر أي: إن الأمر كذلك، وقد قال بعضهم: "إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة فإنَّ دعودته لا تُرَدُّ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية، ولا يجوز أن يكونَ بمعنى الخبرِ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أَخْبَر ولم يؤمِنْ أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المَعْنَيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد، ومثله: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} "إذا لم تَسْتَح فا صنع ما شئت". وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّ مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إنْ قصد به الدعاء، ولا تحت الخبر إنْ قَصَدَ به الإِخبار.
* { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
وقرأ العامة: {إِن تَمْسَسْكُمْ} بالتأنيث، مراعاةً للفظ "حسنة"، وقرأ أبو عبدالرحمن بالياء من تحت، لأن تأنيثها مجازي، وقياسُه أن يقرأ: "وإنْ يصبكم سيئة" بالتذكير أيضاً، ولا أحفظ عنه فيها شيئاً.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يُحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، أخبر تعالى بذلك؛ لأنهم كانةوا يُخْفُون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذل كلهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي: قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول. ومعنى قوله "بذات" أي: بالمضمرات ذواتِ الصدور، فـ"ذات" هنا تأنيث "ذي" بمعنى صاحب، فَحُذِف الموصوف وأقيمت صفتُه مُقامه أي: عليم بالمضمراتِ صاحبةِ الصدور، وجُعِلَتْ صاحبةً للصدور لملازمتها لها وعدمِ انفكاكها عنها نحو: أصحاب الجنة، أصحاب النار.
واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة: هل يُوقف عليها بالتاء أو بالهاء؟
(4/146)
---(1/1426)
فقال الأخفش والفراء وابن كيسان: "الوقفُ عليها بالتاء إتباعاً لرسم المصحف". وقال الكسائيّ والجرميّ: "يُوقَفُ عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث، كهي في "صاحبه". وموافقةُ الرسم أَوْلى، فإنه قدثَبَتَ لنا الوقفُ على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم، بخلاف عكسِه.
قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "يَضِرْكم" بكسر الضاد وجَزْم الراء على جواب الشرط من ضاره يَضيره، ويقال أيضاً: ضاره يَضوره، ففي العين لغتان. ويقال: ضاره يضيرُه ضَيْراً فهو ضائر وهو مَضِير، وضاره يَضُوره ضَوْراً فهو ضائرٌ وهو مَضُور، نحو: قلتُه أقوله فأنا قائل وهو مقول.
وقرأ الباقون: "يَضُرُّكم" بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة. وفي هذه القراءة أوجه، أحدها: أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط، وإنما دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم، إذ التقدير: لا يَضُرُّكم أنْ تصبروا وتتقوا فلا يَضُرُّكم"، فَحُذِف "فلا يضركم" الذي هو الجواب لدلالةِ ما تقدم عليه، ثم أُخِّر ما هو دليل على الجواب، وهذا الذي ذكرته هو تخريج سيبويه وأتباعِه. وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذه الشطط لِما رأوا من عدم الجزم في فعل/ مضارع لا مانعَ من إعمال الجازم فيه، ومثلُ هذا قولُ الآخر:
1413ـ يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ * إنَّك إنْ يَصْرَعْ أخوك تُصْرعُ
برفع "تُصْرع" الأخير، وكذلك قوله:
1414ـ وإنْ أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ * يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
برفع "يقول" إلاَّ أنَّ هذا النوع مُطَّرِطٌ بخلافِ ما قبله، أعني كون فعلَيْ الشرطِ والجزاءِ مضارعين فإنَّ المنقولَ عن سيبويه وأتباعِه وجوبُ الجزم إلا في ضرورة كقوله: "إنْ يُصْرعَ أخوك تُصْرعُ"، وتخريجُه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة فاعلم ذلك:
(4/147)
---(1/1427)
الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ ارتفعَ لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفع ليس إلا، كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} والتقدير: فلا يَضُرُّكم، والفاء حُذِفت في غير محل النزاع كقوله:
1415ـ مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها * والشرُّ بالشر عند الله سِيَّانِ
أي: فالله يشكرها. وهذا الوجهُ رأيت بعضَهم ينقله عن المبرد، وفيه نظر، من حيث إنهم لمَّا أنشدوا البيتَ المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حَذْفَ هذه الفاء البتة لا ضرورةً ولا غيرَها، وينقلونعنه أن كان يقول: "إنما الرواي في هذا البيت:
منْ يفعلِ الخيرَ فالرحمنُ يَشْكُرُه
وَردُّوا عليه بأنه إذا صَحَّت روايةٌ فلا يَقْدَح فيها غيرُها. ورأيت بعضَهم ينقله عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب.
الوجه الثالث: أن الحركَة حركةُ إتباع، وذلك أن الأصل: لا يَضْرِرْكم بالفك لسكونِ الثاني جزماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخرِ فعلٍ سَكَن ثانيهما جزماً أو وفقاً فللعرب فيه مذهبان: الإدغامُ ـ وهو لغة تميم ـ والفكُّ ـ وهو لغة الحجاز ـ، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطُررنا إلى تحريك المثلِ الثاني فَحَرَّكناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمةُ التي على الحرفِ قبلَه، فحرَّكناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركةُ في الحقيقة حركةُ إتباعٍ لا حركةُ إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب.
واعلم أنه متى أُدْغِم هذا النوع: فإمَّا أن تكونَ فاؤه مضمومةً أو مفتوحة أو مكسورة، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم "مُدَّ" ففيه ثلاثة أوجه حالةَ الإِدغام: الضمُّ للإِتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول: مُدُّ ومُدَّ ومُدِّ، ورُدُّ ورُدَّ ورُدِّ. ويُنشْدون على ذلك قولَ جرير:
(4/148)
---(1/1428)
1416ـ فَغُضِّ الظرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ * فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا
بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك، وسيأتي أنَّ الآية قرىء فيها بالأوجه الثلاثة. وإن كانت مفتوحة نحو: عَضَّ، أو مكسورة نحو: فِرَّ، كان في اللامِ وجهان: الفتح والكسرُ، إذ لا وجهَ للضم، لكن لك في نحو: "فِرَّ" أن تقول الكسرُ من وجهين: إمّا الإِتباعِ وإمَّا التقاءِ الساكنين، وكذلك لك في الفتح نحو: "عَضَّ" وجهان أيضاً: إمَّا الإِتباعُ وإمَّا التخفيفُ، هذا كلُّه إذا لم يتصلْ بالفعلِ ضميرُ غائبٍ، فأِمَّا إذا اتصل به ضمير غائب نحو: رُدَّه" ففيه تفصيلٌ ولغاتٌ يكثُر القولُ فيها ولا يليقُ التعرُّضُ لذلك في هذا النوع.
وقرأ عاصم فيما رواه عنه المفضَّل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف/، وهي عندهم أَوْجَهُ من ضم الراء. وقرأ الضحاك بن مزاحم: "لا يَضُرِّكم" بضمِّ الضاد وتشديدِ الراء مكسورة على ما ذكرْتُه لك مِن التقاء السكانين، وكأنَّ ابن عطية لم يحفَظْها قراءةً فإنه قال: "وأمَّا الكسرُ فلا أعرفُها قراءةً". وعبارةٌ الزجاجِ في ذلك مُتَجَوَّزٌ فيها إذ يظهر من دَوْج كلامِهِ أنها قراءة. قلت: قد بَيَّنْتُ أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد.
والكَيْدُ: المَكْرُ والاحتيالُ. وقال الراغب: "وهو نوع من الاحتيال، وقد يكونُ ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان يستعمل في المذموم أكثرَ". قال ابن قتيبة: "وأصلهُ من المشقةِ مِنْ قَوْلِهِم: "فلان يكيدُ بنفسِه" أي يَجُوز بها غمرات الموت ومشقاته". ويقال: كِدْتُ فلاناً أَكِيده كبِعْتُه أَبيعهُ. قال:
1417ـ مَنْ يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه * كالشَّجا بين حَلْقِه والوَرِيد
وقرأ أُبَيٌّ: "لا يَضْرِرْكم" بالفكِّ وهي لغة الحجاز، وعليها قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}.
(4/149)
---(1/1429)
وقوله: "شيئاً" منصوبٌ نصبَ المصادر أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره، وقرأ العامة: "بما يعملون محيطٌ" بالغَيْبة وهي واضحة. وقرأ الحسن بالخطاب: إمَّا على الالتفاتِ وإمَّا على إضمارِ "قل لهم يا محمد".
* { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ} العامل في "إذ" مضمرٌ تقديرهُ: واذكر إذ غدوت، فينتصِبُ انتصابَ المفعول به لا على الظرف. وجَوَّز بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على "فئتين" في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتين وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُعَرَّج عليه.
والغدوُّ: الخروجُ أولَ النهار يقال: غَدا يَغْدُو أي: خَرَجَ غُدْوَةً، ويُسْتعمل بمعنى صار عند بضعهم، فيكونُ ناقصاً يرفع الاسم وينصبُ الخبر، وعليه قولُه [عليه] السلام: "لو تكلمتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لرزقكم كما يَرزق الطيرَ تَغْدُو خِماصاً وتروُح بِطاناً
". وقوله: {مِنْ أَهْلِكَ} متعلق بـ"غَدَوْتَ" وفي "من" وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية أي: من بين أهلك، قال أبو البقاء: "وموضعُه نصب تقديره: فارقْتَ أهلك" وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ولا تفسير معنى، فإن المعنى على غير ما ذكر. والثاني: أنها بمعنى مع أي: مع أهلك، وهذا لا يساعده لا لفظٌ ولا معنى.
قوله: {تُبَوِّىءُ} الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل "غدوت"، وهي حال مقدرة أي: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغدو ليس وقتاً للتَبْوِئة. ويحتمل أن تكون مقارنةً؛ لأنَّ الزمان متسع.
وتُبَوِّىءُ أي: تُنَزِّلُ فهو يتعدى لمفعولين إلى أحدهما نفسه وإلى آخر بحرف الجر، وقد يُحْذف كهذه الآية. ومِنْ عدم الحذف قولُه تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} وأصله من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال:
(4/150)
---(1/1430)
1418ـ وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً * بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِ
وقال آخر:
1419ـ كم مِن أخٍ لي صَالحٍ * بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا
وقد تقدَّم اشتقاق هذه اللفظة. وقيل: "اللام في قوله "لإبراهيم" مزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدياً للاثنين نفسه".
ومقاعد جمع "مَقْعَد". والمراد به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في المَثَل خاصة. وقال الزمخشري: "وقد اتُّسِع في قعد وقام حتى أُجْريا مُجرى صار". قال الشيخ: "أمَّا إجراء "قَعَد" مُجْرى "صار" فقال بعض أصحابنا إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل في قولهم: "شَحَذَ شَفْرَته حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبة"، وكذلك نَقَد على الزمخشري تخريجَه قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} بمعنى: فتصيرَ، لأنه لا يَطِّرِدُ إجراء قَعَد مُجْرى صار" قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشري صحيح من كون "قعد" يكون بمعنى صارَ في غير ما أشار إليه هذا القائل، حكى أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي أن العرب تقول: "قَعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً" أي صار. ثم قال الشيخ: "وأمَّا إجراء "قام" مجرى "صار" فلا أعلم أحداً عَدَّها في أخوات "كان"، ولا جعلها بمعنى صار، إلا ابن هشام الخضرواي فإنه ذَكَر في قول الشاعر:/
1420ـ على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ * كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رماد
قلت: وغيرُه من النحويين يجعلُها زائدةً، وهو شاذ أيضاً.
(4/151)
---(1/1431)
وقرأ العامة: "تُبَوِّىءُ" عَدَّوْه بالتضعيف. وعبدالله: "تُبْوِىءُ" بكسون الباء عَدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أَبْوأَ كأكرام، وقرأ يحيى بن وثاب "تُبْوي" كقراءة عبدالله، إلا أنه سَهَّل الهمزة بإبدالها ياء فصار لفظه كالفظ "تُحْيي" كقولهم: تُقْري في تُقْرىءكز وقرأ عبدالله: "للمؤمنين" بلام الجر كقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ}. وتقدَّم أنَّ في هذه اللامِ قولين. والظاهرُ أنها مُعَدِّية؛ لأنه قبل التضعيفِ والهمزةِ غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكونَ قد ضَمَّنه هنا معنى "تُهَيِّىء"، و"ترتِّب".
وقرأ الأشهب: "مقاعدَ القتالِ" بإضافتها للقتال. واللام في "للقتال" في قراءة الجمهور فيها وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة بـ"تُبَوِّىء" على أنها لام العلة، والثاني: أنها متعلقة بمحذوف لأنها صفة لـ مقاعد أي: مقاعد كائنة ومهيئة للقتال، ولا يجوز تعلقها بـ"مقاعد" وإن كانت مشتقةً، لأنها مكانٌ والأمكنة لا تعمل.
* { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ} في هذا الظرف أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من "إذ غَدَوْت" فالعامل فيه العامل في المبدل منه. الثاني: أنه ظرف لـ"غَدَوْتَ". الثالث: أنه ظرف لـ"تُبَوِّىءُ" وهذه الأوجه تحتاج إلى نَقْل تاريخي في اتحاد الزمانيين. الرابع: أن الناصب له "عليم" وحدَه، ذكره أبو البقاء. الخامس: أن العامل فيه: إمَّا "سميع" وإما "عليم" على سبيل التنازع، وتكون المسألة حينئذ من إعمال الثاني، إذ لو أَعمل الأَول لأضمر في الثاني، ولم يَحْذف منه شيئاً كما قد عرفته غير مرة.
(4/152)
---(1/1432)
وقال الزمخشري: "وأعمل فيه معنى "سميع عليم". قال اشيخ "وهذا غيرُ مُحَرَّرٍ، لأنَّ العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكونُ المسألة من التنازع". قتل: لم يُرِدِ الزمخشري بذلك إلاَّ ما ذكرتُه من إرادة التنازع، ويَصْدُق أَنْ يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور لا أنهما عَمِلا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدِعاً قولاً، إذ الفراء يرى ذلك، ويقولُ في نحو: "ضربت وأكرمت زيداً" إنَّ "زيداً" منصوبٌ بهما وإنهما تسلَّطا عليه معاً، ولتنقيح هذه المسألةِ موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرتها فيه بحمد الله تعالى.
والهمُّ: العَزْم. وقيل: بل هو دونَه، وذلك أن أوَّل ما يرم بقلبِ الإِنسان يسمى خاطراً، فإذا قَوِيَ سُمِّي حديثَ نفس، فإذا قوي سُمِّي هَمَّاً، فإذا قوي سُمِّي عزماً، ثم بعده إما قول أو فعل، وبعضهم يُعَبِّر عن الهَمِّ بالإِرادة، تقول العرب: هَمَمْت بكذا أهُمُّ به ـ بضم الهاء ـ، ويقال: "هَمْتُ" بميم واحدة، حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً كما قالوا: مَسْتُ وظَلْت وحَسْت في مَسَسْتُ وظَلَلْتُ وحَسَسْت، وهو غير مقيس. والهمُّ أيضاً: الحُزْن الذي يذيب صاحبه وهو مأخوذٌ من قولهم: "هَمَمْتُ الشحم" أي: أذبته. والهمُّ الذي في النفس قريب منه؛ لأنه قد يؤثر في نفس الإِنسان كما يُؤَثِّر الحزن، ولذلك قال الشاعر:
1421ـ وَهمُّك ما لم تُمْضِه لك مُنْصِبٌ * ....................
أي: إنك إذا هممت بشيء ولم تفعله، وجال في نفسك فأنت في تعب منه حتى تقضيه.
قوله: {أَن تَفْشَلاَ} متعلق بـ"هَمَّتْ" لأنه يتعدَّى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل "أَنْ" الوجهان المشهوران. والفَشَل: الجُبْن والخَوَر. وقال بعضهم: "الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإِعياء وعدم النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر" والفعل منه "فَشِل" بكسر العين، وتفاشَل الماء إذا سال.
(4/153)
---(1/1433)
وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله: "فَلْيتوكل" قُدِّم للاختصاص ولتناسِب رؤوس الآي. وقد تقدَّم القولُ في نحو هذه الفاء. وقال أبو البقاء: "ودخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى: إنْ فَشِلوا فتوكلوا أنتم، أو إن صَعُب الأمُر فتوكلوا.
* { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {بِبَدْرٍ}: متعلق بـ"نَصَرَكم" وفي الباء حينئذ قولان، أظهرهما: أنها ظرفية أي: في بدر كقولك: زيد بمكة أي: في مكة. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها باءُ المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال أي: مصاحبين لبدْرٍ. وبدر اسم ماء بين مكة والمدينة سُمِّي بذلك لصفائِه كالبَدْر، وقيل: لاستدراته، وقيل: باسم صاحبه وهو بدر بن كلدة. وقيل: هو اسم واد. وقيل: اسم بئر.
والتوكُّل:/ تفعُّل: إمَّا من الوَكالة وهي تفويضُ الأمر إلى مَنْ تَثِق بحسن تدبيره ومعرفته في التصرف، وإمَّا مِنْ وَكَلَ أمره إالى فلان إذا عَجِز عنه. قال ابن فارس: "هو إظهارُ العَجْزِ والاعتمادُ على غيرك، يقال: فلانُ وَكَلَهٌ تُكَلَةٌ أي: عاجز يَكِل أمره إلىغيره". والتاء في "تُكَلة" بدلٌ من الواو كتُخَمة وتُجاه.
قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محلِّ نصب على حال من المفعول "نصركم". و"أَذِلَّة" جمع ذليل، وجُمِع جَمْعَ قلة إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، وفعيل الوصفُ قياسُ جمعِه على فُعَلاء كظريف وظرفاء وشريف وشرفاء، إلا أنه تُرِك في المضعف تخفيفاً، أَلا ترى إلى ما يُؤدِّي إليه قولُك ذُلَلاء وخُلَلاء من الثقل من جمع ذليل وخليل.
* { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاائِكَةِ مُنزَلِينَ }
(4/154)
---(1/1434)
قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن هذا الظرفُ بدلٌ من قولِه: "إذ هَمَّتْ". الثاني: أنه منصوبٌ بـ"نصركم". الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار "اذكر"، وهل هذه الجملةُ من تمام قصة بدر ـ وهو قول الجمهور ـ فلا اعتراضَ في هذا الكلام، أو من تمام أُحُد، فيكون قولُه {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} مُعْترضاً بين الكلامين؟ خلافُ مشهور.
قوله: {أَن يُمِدَّكُمْ} فاعلُ "ألن يكفيكم" أي: ألن يكفيَكم إمدادُ ربكم. والهمزةُ لَمَّا دَخَلَتْ على انلفي قَرَّرَتْه على سبيل الإِنكار، وجيء بـ"لن" دونَ "لا" لأنها أبلغُ في النفي. وفي مصحف أُبَيّ: "لا" دون "لم" كأنه قَصَدَ تفسير المعنى.
و"بثلاثة" متعلق بـ"يُمِدَّكم". وقرأ الحسن البصري: "ثلاثَهْ آلاف" بهاء في الوصل ساكنة. وكذلك "بخسمهْ آلاف" كأنه أَجرى الوصل مُجرى الوقف، وهي ضعيفةٌ لكونها في متضايفين يقتضيان الاتصال. قال بن عطية: "ووجهُ هذه القرءاة ضعيف، لأنَّ المضافَ والمضافَ إليه كالشيء الواحد فيقتضيان الاتصالَ والثاني كمالُ الأول، والهاء إنما هي أَمارةُ وقفٍ فيقلقُ الوقفُ في موضع إما هو للاتصال، لكن جاء نحو هذا في مواضعَ للعرب، فمن ذلك ما حكاه الفراء من قولهنم: "أكلت لحما شاة" يريدون: "لحمَ شاة" فَمَطلوا الفتحةَ حتى نشأت عنها ألفٌ كما قالوا في الوقفِ: "قالا" يريدون "قالَ"، ثم يَمْطُلون الفتحة في القوافي ونحوِها من مواضعِ الرويَّة والتثبُّت، ومن ذلك في الشعر قوله:
1422ـ يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ * زَيَّافَةٍ مثلِ الفنيق المُكْدَمِ
يريد: "يَنْبَع" فمِطَلَ، ومثلُه قول الآخر:
1423ـ أقول إذ خَرَّتْ على الكَلْكال * يا ناقتي ما جُلْت مِنْ مَجَال
يريد "الكلكل" فمطَلَ، ومثلُه قول الآخر:
1424ـ فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى * ومن ذمِّ الرجال بمُنْتزاحِ
(4/155)
---(1/1435)
يريد: بمنتزَح., قال أبو الفتح: "فإذا جاز أن يَعْتَرِضَ هذا التمادي بين أثناءِ الكلمة الواحدة جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه إذ هما اثنان". قال الشيخ ـ بعد كلام ابن عطية ـ: "وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مُجرى الوقف، أَبْدلها [هاءً] في الوصل كما أَبْدلوها في الوقف، وموجودٌ في كلامهم إجراءُ الوصل مُجرى الوقف، وإجراءُ الوقفِ مُجْرى الوصل. وأما قوله: "لكن قد جاء نحوُ هذا للعرب في مواضع" وجميعُ ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباعُ الحركةِ ليس نحوَ إبدالِ التاءِ هاءً في الوصل، وإنما نظيرُ هذا قولهم: "ثلثهَ أربعة" أَبْدل التاء هاء، ونقل حكة همزة "أربعة" إليها، وحذفَ الهمزة، فأَجرى الوصلَ مُجرى الوقف في الإبدال وأَجْرى الوصلَ مُجرى الوقف، إذا النقلُ لا يكون إلا في الوصل".
وقُرىء شاذاً أيضاً: "بثلاثةْ" بتاءٍ ساكنة وهي أيضاً من إجراء الوصل مُجرى الوقف من حيث السكونُ. اختُلف في هذه التاء الموقوف عليها الآن: أهي تاءُ التأنيث التي كانت فسكنت فقط، أو هي بدلٌ من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ وهو خلاف لا طائل تحته.
وقوله: {مِّنَ الْمَلاائِكَةِ} يجوز أن تكون "مِنْ" للبيان، وأَنْ تكونَ "من" ومجرورُها في موضعِ الجر صفةً لـ"ثلاثة" أو لـ"آلاف".
(4/156)
---(1/1436)
قوله: {مُنزَلِينَ} صفةٌ لثلاثة آلاف، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من "الملائكة" والأولُ أَظهرُ. وقرأ ابنعام: "مُنَزَّلين" بالتضعيف، وكذلك شَدَّد قوله في سورة العنكبوت: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ}، إلا أنه هنا اسم مفعول وهناك اسم فاعل. والبقاون خففوهما. وقرأ ابن أبي عبلة هنا: "مُنَزِّلين" بالتشديد مكسور الزاي مبنياً للفاعل. وبعضهم قرأه كذلك إلا أنه خَفَّف الزاي، جَعَلَه من أنزل كأكرم، والتضعيف والهمزةُ كلاهما للتعدية، فَفَعَّل وأَفْعل بمعنى، وقد تقدَّم أن الزمخشري يجعل التشديد دالاً على التنجيم، وتقدَّم البحث معه في ذلك. وفي القراءتين الآخيرتين يكون المفعول/ محذوفاً أي: مُنْزِلين النصرَ على المؤمنين والعذاب على الكافرين.
قوله: "بلى" حرفُ جواب وهو إيجاب للنفي في قوله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} وقد تقدم الكلام عليه مشبعاً. وجواب الشرط قوله : {يُمِدَّكُمْ}.
والفَوْر: العجَلةُ والسرعة ومنه: "فارَت القِدْر" اشتدَّ غَلَيانها وسارع ما فيها إلى الخروج، يقال: فارَ يفُور فَوْراً، ويُعَبَّر به عن الغضب الحِدَّة؛ لأنَّ الغَضْبانَ يسارع إلى البطش بمَنْ يغضب عليه، فالفور في الأصل مصدرٌ ثم يُعَبَّر به عن الحالة الي لا رَيْثَ فيها ولا تعريج عن شيء سواها.
* { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاافٍ مِّنَ الْمَلاائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }
(4/157)
---(1/1437)
قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ}: كقوله: مُنْزَلين". وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول. فأما القراءة الأولى فتحتمل أن تكون من السَّوْم وهو تَرْكُ الماشية ترعى، والمعنى أنهم سَوَّموا خيلَهم أي: أعطَوهنا سَوْمَها من الجري والجوَلان وتركوها كذلك مكا يَفْعل مَنْ يَسِيمُ ماشِيتَه في المَرْعى، ويحتمل أن يكون من السَّوْمَة وهي العلامة، على معنى أنهم سَوَّموا أنفسهم أو خيلهم، ففي التفسير أنهم كانوا بعمائَم بيضٍ إلا جبريلَ فبعمامةٍ صفراء، وروُي أنه كانوا على خيل بُلْق. ورجَّح ابن جرير هذه القراءة بما وَرَد في الحديث عنه عليه السلام يوم بدر "تَسوَّا فإنَّ الملائكة قد سَوَّمَتْ
". وأما القراءة الثانية فواضحةٌ بالمعنيين المذكورين فمعنى السَّوْم فيها: أنَّ الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مُرْسَلين مِنْ عندِ الله لنصرةِ نبيِّه والمؤمنين. حكى أبو زيد: سَوَّم الرجل خيلَه: أي أرسلها، وحكى بعضهم: "سَوَّمْتُ غُلامي" أي: أرسلْتُه، ولهذا قال أبو الحسن الأخفش: "معنى مُسَوَّمين: مُرْسَلين". ومعنى السَّومةِ فيها أنَّ الله تعالى سَوَّمَهم أي: جَعَل عليهم علامَةً وهي العمائم، أو الملائكةُ جَعَلوا خيلَهم نوعاً خاصاً وهي البُلْق، فقد سَوَّموا خيلَهم.
* { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
(4/158)
---(1/1438)
قوله تعالى: {إِلاَّ بُشْرَى}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروططُ نصبِه موجودةٌ وهي اتحاد الفاعل والزمان وكونُه مصدراً سيق للعلة. والثاني: أنه مفعولٌ ثان لجَعَل على أنها تصييريةٌ. والثالث: أنها بدلٌ من الهاءِ في "جَعَله" قاله الحوفي، وجعل الهاءَ عائدةً على الوعدِ بالمَدَدِ. والبُشْرى مصدرٌ على فُعْلى كالرُّجْعَى.
قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على "بشرى" هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّت باللام لاختلالِ شرطٍ من شروطِ النصب وهو عَدَمُ اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ الجَعْل هو الله تعالى وفاعلَ الاطمئان القلوبُ، فلذلك نُصِب المعطوفُ عليه لاستكمال الشروط، وجُرَّ المعطوفُ باللام لاختلالِ شرطه، وقد تقدَّم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف ِأي: ولتطمئن قلوبُكم فَعَلَ ذلك، أو كانَ كيتَ وكَيتَ.
وقال الشيخ: "وتطمئنَّ منصوبٌ بإضمار "أَنْ" بعد لام "كي" فهو من عطفِ الاسم على تَوَهُّم موضِع اسم آخر". ثم نَقَل عن ابن عطية أنه قال: "واللام في "ولتطمئن" متعلقةٌ بفعلٍ مضمر يَدُلُّ عليه "جعله"، ومعنى الآية: "وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئنَّ به قلوبكم". قال الشيخ: "وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أَنْ يُعْطَف "ولتطمئن" على "بشرى" على الموضع؛ لأنَّ مِنْ شرطِ العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع، ولا مُحْرزَ هنا، لأنَّ عاملَ الجر مفقود، ومَنْ لم يشترطِ المُحْرز فيجوِّز ذلك، ويكونُ من باب العطف على التوهم". قلت: وقد جعل بعضُهم الواوَ في "ولتطمئن" زائدةً وهو لائقٌ بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلَّق اللامُ بالبشرى، أي: إن البُشْرى علةٌ للجَعْل، والطمأنينة علةٌ للبُشْرى فهي علة العلة.
(4/159)
---(1/1439)
وقال الفخر الرازي: "في ذِكْر الإِمدادِ مطلوبان، أحدهما: إدخالُ السرور في قلوبِهم وهو المرادُ بقوله {إِلاَّ بُشْرَى} والثاني: حصولُ الطمأنينة بالنصرِ فلا يَجْبُنوا، وهذا هو المقصود الأصلي ففرَّق بين هاتين العبارتين تنهبياً على حصول التفاوت بين الأمرين، فعَطَفَ الفعلَ على الاسم، ولَمَّا كان الأقوى حصولَ الطمأنينة أَدْخَلَ حرفَ التعليل". قال الشيخ: "ويناقَشُ في قوله: عَطْفُ الفعلِ على الاسم" إذ ليس من عطف الفعل/ على الأسم، وفي قوله: "أدخلَ حرفَ التعليل" وليس ذلك كما ذكر". انتهى. قلت: إنْ عنى الشيخ أنه لم يُدْخِلْ حرفَ التعليل البتة فهوغيرُ مُسَلَّم ولا يمكنُ إنكارُ، وإنْ عَنَى أنه لم يُدْخِلْه بالمعنى الذي قصده الإِمام فيسهُلُ.
وقال الجرجاني في "نَظْمه": "هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشِّركم ولتطمئِنَّ، وَمَنْ أجازَ إقحامَ الواو وهو مذهب الكوفيين جعلها مقحمةً في "ولتطمئِنَّ" فيكونُ التقدير: وما جعله الله إلاَّ بُشْرى لكم لتطمئن قلوبكم به.
والضميران في قوله: "وما "جعله" و"به" يعودان على إلامداد المفهومِ من الفعل المتقدم وهو قوله: "يُمْدِكْكم" وقيل: يعودان على النصر، وقيل: على التسويم. وقيل: على التنزيل. وقيل: على العَدَد، وقيل: على الوعد.
وفي هذه الآية قال: "لكم" وتركها في سورة الأنفال لأن تيك مختصرُ هذه، وكأنَّ الإِطناب هنا أَوْلى، لأن القصة مُكَمِّلةٌ هنا فناسب إيناسُهم بالخطابِ المواجَهِ. وأخَّر هنا "به" وقَدَّم في سورة الأنفال؛ لأنَّ الخطابَ هنا موجودٌ في "لكم" فَأَتْبَعَ الخطابَ الخطابَ. وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وجاء بهما في جملةٍ مستأنفةٍ في الأنفال في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لأنه لمَّا خاطبهم هنا حَسُن تعجيلُ بِشارتهم بأنه عزيزٌ حكيم أي: لا يغالَبُ وأنَّ أفعالَه كلها متقنةٌ حكمةٌ وصوابٌ.
(4/160)
---(1/1440)
* { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوااْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }
قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ}: في متعلِّق هذه اللام سبعةُ أوجه: أحدها: أنها متعلِّقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ} قاله الحوفي، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. الثاني: أنها متعلقةٌ بالنصر في قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بين المصدر ومتعلَّقه بأجنبي وهو الخبر.
الثالث: أنها متعلقة بما تعلق به الخبر وهو قوله: {مِنْ عِندِ اللَّهِ} والتقدير: وما النصر إلا كائن ـ أو إلا مستقر ـ من عند الله ليقطع. الرابع: أنها متعلقة بمحذوف تقديره": أمدَّكم ـ أو أنصركم ـ ليقطع. الخامس: أنها معطوفةٌ على قوله: "ولتطمئِنَّ"، حَذَفَ حرف العطف لفهم المعنى كقوله: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ من قولِه: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} اعتراضيةً بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهو ساقِطٌ الاعتبارِ. السادس: أنها متعلقةٌ بالجَعْل قاله ابن عطية. السابع: أنها متعلقةٌ بقولِه: "يُمْدِدْكم"، وفيه بُعْدٌ للفواصلِ بينهما.
والطَّرَفُ: المرادُ به جماعة وطائفة، و"من الذين" يجوز أن يكون متعلقاً بالقطع فتكونَ "مِنْ" لابتداء الغاية. ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها وصفٌ لـ"طرفاً" وتكون "مِنْ" للتبعيض.
قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} عطفٌ على "لِيقطعَ". و"أو" قيل: على بابها من التفصيلِ أي: ليقطعَ طرفاً من البعضِ ويكبِتَ بعضاً آخرين. وقيل: بل هي بمعنى الواو أي: يجمع عليهم الشيئين.
(4/161)
---(1/1441)
والكَبْتُ: الإِصابة بمكروهٍ. وقيل: هو الصَّرْعُ للوجهِ واليدين، وعلى هذين فالتاءُ أصليةٌ، وليست بدلاً من شيء بل هي مادةٌ مستقلة. وقيل: أصلُه مِنْ كَبَده إذا أصابه بمكروهٍ، أثَّر في كَبدِه وَجَعاً كقولك: رَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حميد: "أو يكبِدَهم" بالدال، والعربُ تُبْدِلُ التاءَ من الدال قالوا: هَرَتَ الثوبَ وهَرَده، وسَبَتَ رأسَه وسَبَدَه. وقد قيل: "إنَّ قراءةَ لاحِق أصلُها التاء، وإنما أُبْدِلَتْ دالاً كقولِهم: سَبَدَ رأسه وهَرَدَ الكثوب، والأصلُ فيهما: التاء".
وقوله: {فَيَنقَلِبُواْ} مُرَتَّبٌ على ما تقدَّم. والخَيْبَةُ: عَدَمُ الظفر بالمطلوب، خاب يَخيب خَيْبَة. و"خائبين" نصب على الحال.
* { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ}: في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على الأفعالِ المنصوبةِ قبلَه تقديرُه: ليقطعَ أو يكبِتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذِّبَهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه "ليس لك من الأمرِ شيءٌ" جملةً اعتراضيةً بين المتعاطِفَيْنِ، والمعنى: أنَّ الله تعالى هو المالِكُ لأمرهم، فإنْ شاء قطع طرفاً منهم أو هزمهم، أو يتوبَ عليهم إن أسلما ورَجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوا على كفرهم، وإلى هذا التخريجِ ذهب جماعة من النحاة كالفراء والزجاج.
والثاني: أن "أو" هنا بمعنى "إلاَّ أَنْ" كقولِهم: "لألزَمَنَّك أو تقضِيَني حقي" أي: إلاَّ أَنْ تقضيني.
الثالث: [أنّ] "أو" بمعنى "حتى" أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوبَ. وعلى هذين القولين فالكلامُ متصلٌ بقولِه: "ليس لك من الأمر شيء" والمعنى:/ ليس لك من الأمر شيء إلاَّ أَنْ يتوب عليهم بالإِسلامِ فيحصُل لك سرورٌ بهدايتِهم إليه أو يعذبهم بقتلٍ أو نارٍ في الآخرةِ. فيتَشَفَّى بهم.
(4/162)
---(1/1442)
ومِمَّنْ ذهب إلى ذلك الفراء وأبو بكر ابن الأنباري. قال الفراء: "ومثلُ هذا الكلامِ: "لأُذَمَّنَّك أو تعطيَني" على معنى: إلا أَنْ تعطيَني، وحتى تعطيني. وأنشد ابن الأبناري في ذلك قول امرىء القيس:
1425ـ فقلتُ له لاَ تبْكِ عينُك إنَّما * تحاولُ مُلْكَاً أو تموتَ فَتُعْذَرا
أراد: حتى تموتَ، أو: إلاَّ أن تموتَ" قلت: وفي تقديره بيتَ امرىء القيس بـ"حتى" نظرٌ، إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعلْ ذلك لأجلِ اهذه الغايةِ والنحويون لم يقدِّروه إلا بمعنى "إلاَّ".
الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار "أَنْ" عطفاً على قوله: "الأمر" كأنه قيل: "ليس لك من الأمرِ أو من تَوْبته عليهم أو تعذيبِهم شيءٌ"، فلمَّا كان في تأويلِ الاسم عُطفِ على الاسمِ قبلَه فهو من باب قولِه:
1426ـ ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعِزَّةً * وآلُ سُبَيْعٍ أو أَسُوْءَكَ علقما
وقولها:
1427ـ لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني * أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوف
الرابع: أنه معطوفٌ بالتأويلِ المذكور على "شيء" والتقدير: ليس لك من الأمرِ من شيءٌ أو توبةُ اللهِ عليهم أو تعذيبُهم أي: ليس لك أيضاً توبتُهم ولا تعذيبُهم، إنما ذلك راجعٌ إلى الله تعالى.
وقرأ أُبَيّ: "أو يتوبُ، أو يعذِّبُهم" برفعهما على الاستئناف في جملةٍ اسميةٍ أضمر مبتدَؤُها أي: أو هو يتوبُ ويعذِّبُهم.
* { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(4/163)
---(1/1443)
قوله تعالى: {أَضْعَافاً}: جمع ضِعْف، ولَمَّا كان جمعَ قلةٍ والمقصودُ الكثرةُ أتبعه بما يدلُّ على ذلك وهو الوصف بمضاعفة. وقال أبو البقاء: "أضعافاً" مصدرٌ في موضع الحال من "الربا". وقد تقدَّم لنا الكلامُ على "أضعاف" ومفردُه في البقرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر: "مُضَعَّفَةً" مشدَّدَ العينِ دونَ ألف، والباقون بالتخفيف والألفِ. وقد تقدَّم الكلامُ أيضاً على التشديدِ والتخفيفِ في البقرة أيضاً.
* { وَسَارِعُوااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {وَسَارِعُوااْ}: قرأ نافع وابن عامر: "سارعوا" دون واو. والباقون بواو العطف. فَمَنْ أَسْقطها استأنف الأخير بذلك، أو أراد العطفَ ولكنه حَذَفَ العاطفَ للدلالة كقوله تعالى: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وقد تقدَّم ضعفُ هذا المذهب. ومَنْ أثبت الواو عطفَ جملةً أمريةً على مثلها. وبعد اتِّباعِ الأثرِ في التلاوة اتَّبَع كلُّ رسمَ مصحَفه فإنَّ الواو ساقطةٌ من مصاحف المدينة والشام ثابتةٌ فيما عداها.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفةً لـ "مغفرة" و"مِنْ" للابتداء مجازاً. وقوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ} لا بد من حذف أي: مثلُ عرض السموات، يدل عليه قوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ} والجملةٌ في محلِّ جرِّ صفةً لـ"جنة".
(4/164)
---(1/1444)
قوله: {أُعِدَّتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها الجرَّ صِفةً ثانية لـ"جنة"، ويجوز أن يكونَ محلُّها النَصبَ على الحال من "جنة"؛ لأنها لَمَّا وُصِفَتْ تَخَصَّصَتْ فَقَرُبت من المعارف. قال أبو البقاء: "ويجوز أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من المضاف إليه لثلاثة أشياء، أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأولٌ وعلى ضعفه. والثاني: العَرْضُ هنا لاَ يُراد به المصدرُ الحقيقي بل يُرادُ به المسافة. والثالث: أنَّ ذلك يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الحال وبين صاحبِ الحالِ بالخبر" معنى بالخبر قولَه "السموات" وهو ردٌّ صحيح.
* { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ}: يجوزُ في محلِّه الألقابُ الثلاثةُ، فالجَرُّ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ والرفعُ على القطعِ المُشْعِر بالمدح.
قوله: {وَالْكَاظِمِينَ} يجوزُ فيه الجَرُّ والنصبُ على ما تقدَّم فيما قبله. والكَظْمُ: الحَبْسُ. كَظَمَ غيظَه أي: حَبَسَه وكَظَم القِرْبة والسِّقاء: إذا شَدَّ فَمَوَيْهِما مانعاً من خروجِ ما فيهما، ومنه: الكِظامُ لِسَيْرٍ تُشَدُّ به القِرْبَةُ والسِّقاء كذلكَ. والكَظْمُ في الأصلِ: مَخْرَجُ النفس، يُقال: أخَذَ بَكَظْمِه أي: مَخْرَجد نَفَسه. الكُظُوم: احتباسُ النَّفَس، ويُعَبَّر به عن السكون كقولهم: "فلان لا يتنفَّس". والمَكْظُوم: الممتلِىءُ غيظاً وكأنه لغيظه لا يستطيع أن يتكلَّمَ ولا يُخْرِجَ نَفَسه، والكَظِيمُ: الممتلِىءُ أَسَفاً، قال أبو طالب:
1428ـ فَحَضَضْتُ قومي واحتَسَبْتُ قتالَهم * والقومُ من خوفِ المَنايا كُظَّمُ
وكَظَم البعيرُ: إذا ترك الاجترارَ من ذلك، ومنه قولُ الراعي:
1429ـ وأفَضْنَ بعدَ كُظومِهِنَّ بِجِرَّةٍ * مِنْ ذي الأباطِحِ إذ رَعَيْنَ حَقِيلا
(4/165)
---(1/1445)
والحقيل: نبت، وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعولٌ به وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شَذَّ عدمُ جرِّه بـ"في" لأنه ظرفُ مكانٍ مختصٌّ، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: إذ رَعَيْنَ الكَلأ في حَقيلٍ، ولا تَقْطَعُ الإِبلُ جِرَّتَها إلا عند الفزعِ، ومنه قولُ أعشى باهلة يصفُ رجلاً يُكْثِر نَحْرَ الإِبل:
1430ـ قد تَكْظِمُ البُزْلُ منه حين تُبْصِرُه * حتى تَقَطَّع في أَجْوافِها الجِررُ
والجِرَرُ جمعُ جِرَّة. الكِظامَةُ: حَلْقَةٌ من حديدٍ تكونُ في طرف الميزان تُجْمَعُ فيها خيوطه، وهي أيضاً السَّيْر الذي يُوصل بوتَرِ القوس، والكَظَائِمُ: خُروقٌ بين اليدين يَجْري منها الماءُ إلى الأخرى، كلُّ ذلك تشبيهاً بمَجْرى النفس/.
* { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوااْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على الموصولِ قبلَه، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكونُ الجملةُ من قولِه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} جملةً اعتراضٍ بين المتعاظٍِفَيْن، ويجوزُ أَنْ يكونَ "والذين" مرفوعاً بالابتداء، و"أولئك" مبتدأٌ ثانٍ، و"جزاؤهم" مبتدأٌ ثالثٌ، و"مغفرةٌ" خبرُ الثالث، والثالثُ وخبرُه خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبر الألو. وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرطٌ جوابُه "ذكروا" وقوله: {فَاسْتَغْفَرُواْ} عطفٌ على الجواب، والجملةُ الشرطية وجوابُها صلةُ الموصولِ، والمفعولُ الأولُ لا ستغفر محذوفٌ، أي: استغفروا اللهَ لذنوبِهِم. وقد تقدَّم الكلامُ على "استغفر"، وأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وليس هو هذه اللامَ بل "مِنْ"، وقد تُحْذَفُ، وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ} استفهامٌ معناه النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناءُ.
(4/166)(1/1446)
---
وقوله: {إِلاَّ اللَّهُ} بدلٌ من الضمير المستكنِّ في "يغفرُ" التقديرُ: لا يغفرُ أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ، والمختارُ هنا الرفعُ على البدلِ لكونِ الكلامِ غيرَ إيجاب، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}. وقال ابو البقاء: "ومَنْ" مبتدأ، و"يغفر" خبرُه، و{إِلاَّ اللَّهُ} فاعلٌ أو بدلٌ من المضمر وهو الوجه، لأنك إذا جَعَلْتَ اللهَ تعالى فاعلالاً احتجْتَ إلى تقدير ضمير أي: ومَنْ يغفر الذنوبَ له غيرُ الله" وهذا الذي قاله ـ أعني جَعْلَه الجلالَةَ فاعلاً ـ يَقْرُب من الغلط فإنَّ الاستفهامَ هنا لا يُراد به حقيقتُه، إنما يُرادُ النفيُ، والوجهُ ما تقدَّم من كونِ الجلالةِ بدلاً من ذلك الضميرِ المستترِ العائدِ على "مَنْ" الاستفهامية.
قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكونَ جملةً حاليةً من فاعلِ "استغفروا" أي: استغفروا غيرَ مُصِرِّين، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ منسوقَةً على "فاستغفروا" أي: ترتَّب على فِعْلهم الفاحشةَ ذِكْرُ اللهِ تعالى والاستغفارُ لذنوبهم وعدمُ إصرارِهم عليها، وتكونُ الجملةُ مِنْ قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} على هذين الوجهين معترضةً بين المتعاطفين على الوجه الثانَي، وبين الحالِ وذوي الحالِ على الأول.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن تكونَ حالاً ثانيةً من فاعل "استغفروا" وأن تكونَ حالاً من فاعل "يُصِرُّوا"، ومفعولٌ "يَعْلَمُون" محذوفٌ للعلمِ به، فقيل: تقديرُه: يعلمونَ أنَّ الله يتوبُ على مَنْ تَابَ، قاله مجاهد. وقيل: يعملون أنَّ تَرْكَه أَوْلى، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يَعْلَمُون المؤاخذةَ بها أو عَفْوَ اللهِ عنها. و"ما" في قوله: {عَلَى مَا فَعَلُواْ} يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.
(4/167)
---(1/1447)
والإِصرارُ: المداوَمةٌ على الشيء وتَرْكُ الإِقلاعِ عنه وتأكيدُ العزم على ألاَّ يتركَه، مِنْ صَرَّ الدنانيرَ: إذا رَبَطَ عليها، ومنه "صُرَّةُ الدارهم" لما يُرْبَطُ بها. وقال الحطيئة يصف خيلاً:
1431ـ عوابِسُ بالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا * عُلالَتَها بالمُحْصَداتِ أَصَرَّتِ
أي: ثَبَتَتْ وأقامَتْ مداومةً على ما حُمِلَتْ عليه. وقال الشاعر:
1432ـ يُصِرُّ بالليلِ ما تُخْفِي شواكِلُه * يا ويحَ كلِّ مُصِرِّ القلبِ خَتَّارِ
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوااْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( *)
* { أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّهِمْ}: في محلِّ رفعٍ نعتاً لمغفرة، و"مِنْ" للتبعيض أي: مِنْ مغفرات ربهم. قوله: {خَالِدِينَ} حال من الضمير في "جزاؤهم" لأنه مفعولٌ به في المعنى، لأنَّ المعنى: يَجْزيهم اللهُ جناتٍ في حالِ خلودِهم، وتكونُ حالاً مقدرةً. ولا يجوز أن تكون حالاً من "جنات" في اللفظِ وهي لأصحابِها في المعنى، إذ لو كان ذلك لبرز الضمير لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. والجملةُ من قولِه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} في محلِّ رفعٍ نعتاً لـ"جنات". وتقدَّم إعرابُ نظيرِ هذه الجملةِ، والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ في قولهِ: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} تقديرُه: ونِعْمَ أجرُ العامِلين الجنةُ.
* { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }
(4/168)
---(1/1448)
قوله تعالى: {مِن قَبْلِكُمْ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ"خَلَتْ" ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "سنن"؛ لأنه في الأصلِ يجوز أَنْ يكونَ وصفاً فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً.
والسُّنَنُ: جمع "سُنَّة" وهي الطريقةُ التي يكونُ عليها الإِنسانُ ويلازِمُها، ومنه "سنة الأنبياء" عليهم السلام. قال خالد الهذلي لخاله أبي ذؤيب:
1433ـ فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتَها * فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها
وقال أخر:
1434ـ وإنَّ الأُلَى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ * تَأَسَّوا فَسَنُّوا للكرامِ التآسِيا
وقال لبيد:
1435ـ مِنْ آمةٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم * ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُها
وقال المفضل: "السُّنَّةُ الأُمَّة"، وأنشد:
1436ـ ما عايَنَ الناسُ مِنْ فضلٍ كفضلكمُ * ولا رُئِيْ مثلُه في سائِرِ السُّنَنِ
ولا دليلَ فيه لاحتمالِه. وقال الخليل: "سَنَّ الشيءَ بمعنى صَوَّره". ومنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أي: مُصَوِّر. وقيلأ: سَنَّ الماءَ والدرع إذا صَبَّهما، وقوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ منه، ولكنَّ منه، ولكنَّ نسبةَ الصبِّ إلى الطين بعيدةٌ. وقيل "مَسْنون" أي متغير. قال بعض أهل أهل اللغة: "هي فُعْلَة من سَنَّ الماءً يَسُنُّه إذا والى صَبَّه. والسَّنُّ: صَبُّ الماءِ والعرق ونحوهما، وأنشدَ لزهيرٍ:
1437ـ نُعَوِّدها الطِّرادَ فكلَّ يومٍ * تُسَنُّ على سنابِكها القُرونُ
أي: يُصَبُّ عليها العرقُ. وقيل: سُنَّة: فُعْلَة بمعنى مفعول كالغُرْفَة والأُكْلَة. وقيل: اشتقاقُها من سَنَنْتُ النَّصْلَ أَسُنُّه سَنَّاً إذا حَدَدْتَه، والمعنى أن الطريقة الحسنة معتنىً بها كما يُعْتنى بالنصل ونحوه. وقيل: مِنْ سَنَّ الإِبلَ: أذا أحسن رَعْيَها. والمعنى: أَنَّ صاحبَ السنة يقومُ على أصحابهِ كما يقومُ الراعي على إبلِه، وقد مَضَى مِنْ ذلك جملةٌ صالحةٌ في البقرة.
(4/169)
---(1/1449)
وقوله: {فَسِيرُواْ} جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلَها. والتسبيبُ في هذه الألفاظِ ظاهرٌ أي: سَبَبُ الأمرِ بالسير لينظُروا نَظَرَ اعتبارٍ خُلُوُّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم. وقال أَبو البقاء: "ودَخَلَتِ الفاء في "فسيروا"/ لأنَّ المعنى على الشرطِ أي: إن شَكَكْتُم فسيروا.
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} "كيف" خبرُ مقدم واجبُ التقديم؛ لتضمُّنِه معنى الاستفهامِ وهو مُعَلِّقٌ لـ"انظروا" قبلَه، فالجملةُ في محل نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ إذ الأصل: انظروا في كذا.
* { هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {لِّلنَّاسِ}؛ يجوز أن يتعلَّق بالمصدر قبلَه، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ له. قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أنْ يكونَ وصفاً أيضاً ويجوزُ أن يتعلَّقَ بما قبله، وهو محتمِلٌ لأنْ يكونَ من التنازع، وهو على أعمالِ الثاني للحذفِ مِن الأول.
* { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا}: الأصلُ: "تَوْهِنُوا" فَحُذِفَتِ الواوُ لوقوعها بين ياءٍ وكسرةٍ في الأصلِ، ثم أُجْرِيَتْ حروفُ المضارعةِ مُجْراها في ذلك. ويقال: وَهَنَ ـ بالفتح في الماضي ـ يَهِن ـ بالكسر في المضارع. ونُقِل أنه يقال: وَهُن وَوهِن بضم الهاء وكسرِها في الماضي. وَوَهَن يُسْتعمل لازماً ومتعدياً تقول: وَهَن زيدٌ أي: ضَعُفَ، قال تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ووهَنْتُه أي: أَضْعَفْتُه. ومنه الحديثُ: "وهَنَتْهُم حُمَّى يثرب" والمصدرُ على الوَهَن والوَهْنِ، بفتح العين وبسكونِها. وقال زهير:
1438ـ ..................... * فأصبحَ الحبلُ مِنْها واهِناً خَلَقَا
أي: ضعيفاً.
(4/170)
---(1/1450)
قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعل "تَهِنوا" أو "تحزنوا" والاستئنافُ فيها غيرُ ظاهرٍ. والأَعْلَوْن: جمعُ أَعْلى والأصل: أَعْلَيُون فتحرَّكت الفاءُ وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً فَحُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وبقيت الفتحة لتدلَّ عليها، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَتْ الضمةُ على الياء فَحُذِفت فالتقى ساكنان أيضاً الياء والواو، فَحُذِفت ا لياء لا لتقاء الساكنين، وإنما احتِجْنا إلى ذلك لأنَّ واوَ الجمعِ لا يكونُ ما قبلها إلاَّ مضموماً لفظاً أو تقديراً، وهذا مثالُ التقديرِ. قولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ أي: فلا تَهِنُوا ولا تحَْزَنوا.
* { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {قَرْحٌ}: قرا الأخَوان وأبو بكر: "قُرْح" بضم القاف، وكذلك "القُرْح" معرَّفاً، والباقون بالفتح فيهما، فقيل: هما بمعنى واحد. ثم اختلف القائلون بهذا فقال بعضهم: "المرادُ بهما الجرحُ نفسه". وقال بعضُهم: ـ منهم الأخفش ـ المرادُ بهما المصدرُ. يُقال قَرِحَ الجرحُ يَقْرَحُ قَرَحاً وقَرْحاً. قال امرؤ القيس:
1439ـ وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامياً بعد صحةٍ * لعلَّ منايانا تَحَوَّلنَ أَبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز، والضمُّ لغةُ غيرِهم فهما كالضَّعْف والضُّعْف والكَرْه والكُرْه. وقال بعضُهم: "المفتوح: الجُرحُ، والمضموم: ألمة".
وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع بفتح القاف والراء وهي لغةٌ كالطَّرْد والطَّرَد. وقال أبو البقاء: هو مصدرٌ قَرُحَ يَقْرُح إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى دَمِي. وقرىء "قُرُح" بضمِّها. قيل: وذلك على الإِتباع كاليُسْر واليُسْر والطنُّنْب والطُّنُبِ.
(4/171)
---(1/1451)
وقرأ الأعمش: "نْ تَمْسَسْكم" بالتاء من فوق، "قروحٌ" بصيغة الجمع، والتأنيث واضح. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على الخُلوصِ ومنه: الماء القَراح أي: لا كُدروةَ فيه، قال:
1440ـ فساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلاً * أَكادُ أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وأرضُ قَرْحَة أي: خالصةُ الطين ومنه: قريحةُ الرجلِ لخالصِ طبعِهِ. وقال الراغب: "القَرْحُ: الأثَرُ من الجراحةِ، من شيءٍ يصيبُه من خارجٍ، والقُرْحُ ـ يعني بالضم ـ أثرُها مِنْ داخلٍ كالبَثْرةِ ونحوِها، يقال: قَرَحْتُه نحو: جَرَحْتُه. قال الشاعر:
1441ـ لا يُسْلِمُون قريحاً حَلَّ وسطُهُمُ * يومَ اللِّقاءِ ولا يُشْوُون مَنْ قَرَحُوا
أي: جرحوا: وقَرِح: خرج به قَرْحٌ، وقَرَحَ الله قلبَه وأقرحه ـ يعني: فَفَعَل وأفْعَل فيه بمعنى ـ وفَرَسٌ قارح: إذا أصابَه أثرٌ من ظهورِ نابِه، والأُنثى: قارحةٌ، وروضةٌ قَرْمحاءُ إذا كان في وسطها نَوْرٌ، وذلك تشبيهٌ بالفرس القَرْحاءِ. والاقتراحُ: الابتداعُ والابتكارُ. ومنه قالوا: اقترح عليه فلانٌ كذا، واقترحْتُ بئراً: استخرجْتُ منها ماءً قَراحاً، والقريحَةُ في الأصل: المكانُ الذي يَجْتمع فيه الماءُ المُسْتَنْبَطُ، ومنه استُعِيرَتْ قريحةُ الإِنسانٍ".
قوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ} للنحويين في مثل هذا تأويلٌ وهو أَنْ يُقَدِّروا شيئاً مستقبلاً، لأنه لا يكونُ التعليقُ إلا في المستقبلِ، وقوله {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ماضٍ محقق، وذلك التأويلُ هو التبيين: فقد تبيَّن مسُّ القَرْحِ للقوم، وسيأتي له نظائر/ نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ}. وقال بعضُهم "وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: "فتأسَّوا" ونحوُ ذلك. وقال الشيخ: "مَنْ جَعَلَ جوابَ الشرط "فقد مَسَّ" فهو ذاهِلٌ". قلت: غالبُ النحاةِ جَعَلوه جواباً متأوِّلين له بما ذَكَرْتُ.
(4/172)
---(1/1452)
قوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} يجوزُ في "الأيام" أَنْ تكونَ خيراً لـ"تلك". و"نُداوِلُها" جملةً حاليةٌ العاملُ فيها معنى اسم الإِشارة أي: أُشير إليها حالَ كونِها متداولةً. ويجوزُ أن تكونَ "الأيام" بدلاً أو عطفَ بيانٍ أو نعتاً لاسم الإِشارة، والخبرُ هو الجملةُ من قوله: {نُدَاوِلُهَا}، وقد مَرَّ نحوُه في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا} إلا أَنَّ هناك لا يجيءُ القولُ بالنعتِ لِما عَرَفْتَ أنَّ اسمَ الإشارة لا يُنْعَتُ إلا بذِي آل.
و"بين" متعلقٌ" بـ"نُداوِلُها". وجَوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من مفعولِ "نُداولها" وليس بشيءٍ. والمُدَاوَلَةُ: المناوَبَةُ على الشيء والمعاوَدَةُ وتَعَهُّدُه مرةً بعد أخرى. يقال: داوَلْتُ بينَهم الشيءَ فتداولوه، كأن "فاعَل" بمعنى "فَعَل". قال الشاعر:
1442ـ يَرِِدُ المياهَ فلا يزالُ مُداوِلاً * في الناسِ بين تَمَثُّلٍ وسَمَاعِ
وأدالَ فلانٌ فلاناً جَعَلَ له دَوْلَة، ويقال: دُولة ودَولة بضمِّ الفاء وفتحها، وقد قُرىء بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
واختلف الناس: هل اللفظتان بمعنًى أم بينهما فرقٌ؟ فذهب بعضُهم كالراغب وغيرِه إلى أنهما سيَّان، فيكونُ في المصدر لغتان. وقال غيرُ هؤلاء: "بينهما فرقٌ" واختلف أقوالُ هؤلاء فقال بعضُهم: "الدَّوْلة" بالفتح في الحربِ والجاهِ، وبالضمِّ في المالِ، وهذا تَرُدُّه القراءاتان في سورة الحشر. وقيل: بالضمِّ اسمُ الشيء المتداوَلِ، وبالفتح نفس المصدر وهذا قريب. وقيل: الدُّولة بالضم هي المصدر، وبالفتح الفِعْلَةُ الواحدة فلذلك يُقال "في دَوْلة فلان" لأنها مرة في الدهر. والدَّوْرُ أعمُّ من الدَّوْل؛ لأن الدَّوْل باللام لا يكون إلا في الحظوظ الدنيوية. والدَّوَلْوَل: الداهيةُ، والجمعُ: دَأَليل.
(4/173)
---(1/1453)
قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين، قال: "أحدُهما: أنَّ اللامَ صلةٌ لفعلٍ مضمرٍ يَدُلُّ عليه أولُ الكلامِ بتقدير: ولِيعلمَ اللهُ الذين آمنوا نُداولها. والثاني: أنَّ العامل فيه "نُدَاولها" المذكورُ بتقديرِ: نُداوِلها بين الناسِ لنُظْهِرَ أمرَهم ولنبيِّن أعمالَهم، وليعلَم اللهُ الذين آمنوا، فلمَّا ظهرَ معنى اللام المضمرةِ في "ليُظْهِرَ" و"ليبيِّن" جَرَتْ مَجْرى الظاهرة فجاز العطفُ عليها.
وجَوَّز أبو البقاء وجهاً وهو أن تكونَ الواوُ زائدةً، وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بـ"نُداوِلُها" مِنْ غيرِ تقدير شيءٍ. ولكنَّ هذا لا حاجةَ إليه، ولم يَحْتَجْ إلى زيادة الواو إلا الأخفشُ في مواضعَ ليس هذا منها، وبعضُ الكوفيين يوافِقُه على ذلك. وقَدّره الزمخشري بـ"فَعَلْنا ذلك ليكونَ كيتَ وكيتَ وليَعلَمَ"، فقدَّر عاملاً وعَلَّق به علةً محذوفة عَطَف عليها هذه العلةَ. قال الشيخ: "ولم يُعَيِّنْ فاعلَ العلةِ المحذوفةِ، إنما كَنَى عنه بكيت وكيت، ولا يُكْنى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حَذْفُ العلةِ وحَذْفُ عامِلِها وإبهامُ فاعِلها، فالوجهُ الأولُ أظهرُ إذ ليس فيه غيرُ حَذْفِ العامل" يعني بالوجهِ الأول أَنَّه قَدَّره: "وليَعْلَمَ اللهُ فَعَلْنا ذلك" وهو المداوَلَةُ أو نَيْلُ الكفار منكم.
والعلمُ هنا يجوزُ أن يتعدَّى لواحدٍ قالوا: لأنه بمعنى عرف، وهو مُشْكِلٌ لأنه لا يجوزُ وصفُ الله تعالى بذلك لِما تقدَّم من أن المعرفة تستدعي جهلاً بالشيء، أو أنها متعلقة بالذوات دون الأحوال، ويجوز أن يكونَ متعدياً لاثنين، فالثاني محذوفٌ تقديرُه: وليعلم الذين آمنوا مميَّّزين بالإِيمان مِنْ غيرهم.
(4/174)
---(1/1454)
وقُرِىء شاذاً: "يُداوِلُها" بياء الغَيْبة وهو موافِقٌ لِما قبله ولِما بعده. وقراءةُ العامةِ على الالتفاتِ المفيدِ للتعظيمِ. قوله: "منكم" الظاهرُ أنَّ "منكم" متعلقٌ بالاتخاذِ، وجَوَّزوا فيه أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "شهداء" لأنه في الأصلِ صفةٌ له.
* { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }
وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ}: معطوفٌ على "لِيَعْلَمَ" وتكونُ الجملةُ من قولِه: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} جملةً معترضةً بين هذه العللِ. والتمحيصُ: التخليص من الشيء، وقيل: المَحْص كالفحص، ولكنّ الفحصَ يقال في إبراز شيء من أثناء ما يَخْتلط به وهو منفصل، والمَحْصُ يُقال في إبرازه عمَّا هو متصلٌ به، يقال: مَحَصْتُ الذهبَ ومَحَّصْتُه إذا أزلتُ عنه ما يَِيُوبه من خَبَثٍ. ومَحَصَ الثوبَ: إذا أَزال عنه زِئْبَرَه، ومحص الحَبْلُ أي أخلق حتى ذهب عنه زِئْبَرُه، ومَحَص الظبيُ: عدا، فَمَحَصَ بالتخفيفِ يكون قاصراً ومتعدِّياً، هكذا رَوَى الزجاج هذه اللفظةَ: "الحَبْل"، ورواها النقاش: "مَحَصَ الجملُ" إذا ذهبَ وَبَرُه/ وأَمْلَسَ، والمعنيان واضحان.
وقال الخليل: "التمحيص: التخليصُ من الشيء المَعِيب. وقيل: هو الابتلاءُ والاختبارُ" وأنشد:
1443ـ رأيْتُ فُضَيْلاً كان شيئاً مُلَفَّفَاً * فكشَّفَه التمحيصُ حتى بداليا
وروى الواحدي عن المبرد بسند متصلٍ: مَحَص الحبلُ يَمْحَصُ مَحْصاً إذا ذهب زِئْبَرُه حتى تَمَلَّص، وحَبْلٌ محيصٌ ومليص بمعنى واحد. قال: "يُسْتَحَبُّ في الفرس أن تَمَحَصَ قوائمُه أي: تَخْلُص، وأنشد ابن الأنباري على ذلك يصف فرساً:
1444ـ صُمِّ النُّسورِ صِحاحٍ غيرِ عاثِرَةٍ * رُكَّبْنَ في مَحِصاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
(4/175)
---(1/1455)
أي: في قوائمَ متجرداتٍ من اللحم ليس فيها إلا العَظْمُ والعَصَبُ والجِلْد. قال المبردُ: "ومعنى قولِ الناس: "مَحِّصْ عَنَّا ذنوبنا" أي أَذْهِبْ ما تعلَّق بنا من الذنوب". مقال الواحدي: "وهذا الذي قاله المبرد تأويلُ المَحَصِ فتح الحاء وهو واقعٌ، والمَحْص بسكونِ الحال مصنوعٌ، مقال الخليل: "يقال مَحَصْتُ الشيءَ أَمْحَصُه إذا أَخْلَصْتَه من كلِّ عيب" وفي جَعْلِه تسكينَ الحاءِ مصنوعاً نظرٌ، لأنَّ أهلَ اللغةِ نَقَلُوه سكانها، وهو قياسُ مصدر الثلاثي. ومَحَصْتُ السيفَ والسِّنان: جَلَوْتُهما حتى ذهب صَدَؤُهما. قال أسامة الهذلي:
1445ـ وشَقُّوا بمَحوص السِّنانِ فؤادَه * ........................
أي: بمَجْلُوِّ، ومنه استعير ذلك في وَصْفِ الحبل بالملاسَةِ والبَريق. قال رؤبة يصف فرساً:
1446ـ شديدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ السَّوَى
والسَّواء: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِعه: "فَعَلْتُه حتى انقطع سَواي" أي ظهري. وقد تقدَّمت مادة "مَحَق" في البقرة.
* { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }
(4/176)
---(1/1456)
قوله تعالى: {مْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ}: في "أم" هذه أوجهٌ أظهرُها: أنها منقطعةٌ مقدَّرة بـ"بل" وهمزةِ الاستفهام، ويكون معناه الإِنكارَ. وقيل: "أم" بمعنى الهمزةِ وحدَها، ومعناه كما تقدَّم: التوبيخُ والإِنكارُ، وقيل: هذا استفهامٌ معناه النهيُ قاله أبو مسلم الأصفهاني. وقيل: هي متصلةٌ. قال ابن بحر: "هي عديلةُ همزةٍ تتقدَّر مِنْ معنى ما تقدَّم، وذلك أنَّ قولَه: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} إلى آخر القصةِ يقتضي أن يَتَبَع ذلك: أتعلمون أنَّ التكليف يُوجِبُ ذلك أم حسبتم. و"حَسِبَ" هنا على بابها من ترجيحِ أحد الطرفين. و{أَن تَدْخُلُواْ} سادٌّ مسدَّ المفعولين على رأيِ سيبويه ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ على رأيِ الأخفش.
(4/177)
---(1/1457)
قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} جملةٌ حالية. وقال الزمخشري: "ولَمَّا بمعنى "لم" إلاَّ أنَّ فيه ضَرْباً من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يُستقبل. وتقول: "وعدني أن يفعل كذا ولَمَّا" تريد: "ولَمْ يَفْعَلُ وأنا أتوقع فِعْلَه". قال الشيخ: "وهذا الذي قاله في "لَمَّا": أنها تَدُلُّ على توقُّع الفعلِ المنفيِّ بها فيما يُستقبل لا أَعْلَمُ أحداً من النحويين ذَكَره، بل ذكروةا أنك إذا قلتَ: "لَمَّا يخرج زيد" دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نَفْيُه إلى وقت الإِخبار، أمَّا أنَّها تدلُّ على توقُّعِهِ في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري، قال: "لَمَّا" لتعريضِ الوجودِ بخلافِ "لم". قلت: "والنَّحْويون إنما فَرَّقوا بينهما مِنْ جهة أنَّ المنفيَّ بـ لَمْ" هو فعلٌ غيرُ مقرونٍ بـ"قد" و"لَمَّا" نفيٌ له مقروناً بها، وقد تَدُلُّ على التوقع، فيكونُ كلامُ الزمخشري صحيحاً من هذه الجهةِ، ويَدُلُّ على ما قلته من كونِ "لم" لنَفْيِ فَعَل، و"لَمَّا" لنفي قد فَعَل نصُّ النحاة على ذلك: سيبويه فَمَنْ دونَه. وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة وتحقيقُ القول فيها بما يُغْني عن إعادتِه فعليك بالالتفات إليه.
وقوله: "منكم" حالٌ من "الذين". و{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} بكسرِ الميمِ على أصلِ التقاء الساكنين. وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها. وفيها وجهان. أحدهما: أنَّ الفتحةَ فتحةُ إتباعٍ، أتبعَ الميمَ للام قبلها والثاني: أنه على إرادةِ النونِ الخفيفةِ، والأصلُ: "ولَمَّا يَعْلَمَنْ" والمنفيُّ بـ لَمَّا قد جاء مؤكداً بها كقوله:
1447ـ يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما * شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّماً
فلمَّا حَذَفَ النونَ بقي آخرُ الفعل مفتوحاً كقوله:
1448ـ لا تُهِينَ الفقيرَ عَلَّك أَنْ تَرْكَعَ * يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ
(4/178)
---(1/1458)
[وعليه تُخَرَّج قِراءةُ: "ألم نشرحَ] بفتح الحاء، وقولُ الآخر:
1449ـ في أيِّ يَوميَّ من الموتِ أفِرّْ * أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ
قوله: "ويَعْلَم" العامةُ على فتحِ الميم وفيها تخريجان، أشهرهما: أنَّ الفعلَ منصوبٌ. ثم هل نصبُه بـ"أَنْ" مقدرةً بعد الواوِ المقتضيةِ للجمع كهي في قولِك: "لا تأكلِ السمكَ وتَشْربَ اللبن" أي: لا تجمع بينهما وهو مذهب البصريين، أو بواو الصرف، وهو مذهب الكوفيين، يَعْنُون أنه كان مِنْ حَقِّ هذا الفعل أن يُعْرَبَ بإعراب ما قبله، فلمَّا جاءت الواو صَرَفَتْه إلى وجهٍ آخرَ من الإِعراب. وتقرير المذهبين في غيرِ هذا الموضوع.
والثاني: أنَّ التحةَ فتحةُ التاء سكانين والفعلُ مجزومٌ، فلمَّا وقع بعده ساكنٌ آخراُ احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحةُ أَوْلَى لأنها أخف وللإِتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحدِ التخريجين لقراءةِ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} بفتح الميم، والأولُ هو الوجه.
وقرأ الحسن وبان يعمر وأبو حيوة بكسرِ الميم عطفاً على "يَعْلَمِ" المجزوم بـ"لم".
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء: "وَيَعْلَمُ" بالرفع، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه مستأنفٌ، أخبر تعالى: بذلك. وقال الزمخشري: "وعلى أن الواو للحال، كأنه [قال]: ولَمَّا يُجاهِدوا وأنتم صابرون. قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ ما قال، لأنَّ واوَ الحال لا تدخل على المضارعِ، لا يجوزُ: "جاء زَيدٌ ويضحك" وأنت تريد: جاء زيد يضحك، لأنَّ المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز "جاء زيد وضاحكاً" كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك، فإنْ أُوِّلَ على أنَّ المضارعَ خبرُ مبتدأ محذوف أَمْكَنَ ذلك التقديرُ أي: وهو يعلمُ الصابرين كما أَوَّلُوا قولَ الشاعر:
1450ـ ..................... * نَجَوْتُ وَأَرْهُنُهمْ مالِكا
(4/179)
---(1/1459)
ِأي: وأنا أَرْهُنُهم" قلت: قولُه: "لا تَدْخُل على المضارعِ" هذا اليس على إطلاقِه، بل ينبغي أن يقولَ: على المضارعِ المثبت أو المنفي بـ"لا: لأنها تدخُل على المضارع المنفيِّ بـ لم ولما، وقد عُرِف ذلك غير مرة.
* { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ}: قرأ البزي بخلاف عنه بتشديد تاء "تَّمَنَّوْنَ"، ولا يمكنُ ذلك إلا في الوصلِ، وقاعدتُه أنه يَصِلُ ميم الجمعِ بواوٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ
}. والضميرُ في "تَلْقَوه" فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه.
والجمهور على كسر اللام من "قبل"؛ لأنها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبل لقائِه. وقرأ مجاهد بن جبر: "من قبلُ" بضم اللام وقطعها عن الإِضافة كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}، وعلى هذا فـ"أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلُ اشتمال من الموت أي: تَمَنَّون لقاء الموتِ كقولك: "رَهَبْتُ العدوَّ لقاءَه". وقرأ الزهري والنخعي: "تُلاقُوه" ومعناه معنى "تَلْقَوه" لأن "لَقِي" يستدعي أن يكونَ بين اثنين عادةً وإنْ لم يكن على المفاعلة.
قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهرُ أن الرؤيةَ بصريةٌ فتكفي بمفعول واحد، وجَوَّزوا أن تكونَ عِلْمية فتحتاجَ إلى مفعول ثان هو محذوف أي: فقد علمتموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحد المفعولين في باب "ظن" ليس بالسهل، حتى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضرورة كقول عنترة:
1451ـ وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه * مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني.
(4/180)
---(1/1460)
قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ حاليةً، وهي حالٌ مؤكدة رَفَعَتْ ما تحتملُه الرؤيةُ من المجاز أو الاشتراك، أي: بينهما وبين رؤية القلب، ويجوزُ أن تكونَ مستأنفةً، بمعنى: وأنتم تنظرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحرب هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم. وقال ابن الأنباري: "رأيتموه" أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونكم، ولهذه العلةِ ذَكَرَ النظرَ بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأنَّ الأولَ بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين" وهذا غيرُ معروفٍ عند أهل اللسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المقابلة والمواجهة، وعلى تقدير صحتِه فتكونُ الجملةُ من قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملةً حاليةً مبينِّة لا مؤكدةً؛ لأنها أفادَتْ معنىً زائداً على معنى عاملها، ويجوز أن يُقَدَّر لـ"ينظرون" مفعولاً، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر، إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. واللهُ تعالى اعلمُ ولله الحمد والمِنَّة.
* { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ}: "ما" نافيةٌ ولا عملَ لها هنا مطلقاً أعني على لغة الحجازيين والتميميين، لأنَّ التميميين لا يُعْملونها البتمة، والحجازيون يُعْملونها بشروط منها: ألاَّ ينتقضَ النفيُ بـ"إلا"، إذ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله وهو شَبَهُها بـ"ليس" في نفي الحال، فيكونُ "محمد" مبتدأً، و"رسول" خبرَه، هذا هو مذهب الجمهور، أعني إهمالَها إذا نُقِضَ نفيُها، وقد أجاز إعمالَها منتقضةً النفيِ بإلاَّ يونس وأنشد:
1452ـ وما الدهرُ إلا منجَنوناً بأهلِه * وما صاحبُ الحاجات إلا مُعَذَّبا
(4/181)
---(1/1461)
فَنَصَبَ "منحنوناً" وم"مُعَذَباً" على خبرِ "ما"، وهما بعدَ :"إلاَ"، ومثلُه قول الآخر:
1543ـ وما حَقُّ الذي يَعْتُو نهاراً * ويَسْرِقُ ليلَه إلاَّ نَكالا
فـ"حق" اسمُ "ما" ونَكالاً" خبرُها. وتأوَّلَ الجمهور هذه الشواهدَ على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وهذا المنصوبُ معمولٌ لذلك الخبر المحذوفِ والتقديرُ: وما الدهرُ إلاَّ يدورُ دورانَ منجنون، فحُذِفَ الفعلُ الناصبُ لـ"دروان"، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه في الإِعراب، وكذا "إلا معذباً" تقديره: يُعَذَّب تعذيباً، فَحُذِفَ الفعل وأُقيم "مُعَذَّباً" مُقامَ "تَعْذيب" كقولِه: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: كلَّ تمزيق، وكذا إلا نكالاً" وفيه التكلُّفِ ما ترى.
قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"رسولِ". والثاني: أنها في محمل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في "رسول"، وفيه نظرٌ لجريانِ هذه الصفةِ مَجْرى الجوامد فلا تتحمَّل ضميراً.
و"من قبله": فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بـ"خَلَتْ". والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من "الرسل" مُقَّدَماً عليها، وهي حينئذٍ حالٌ مؤكدة، لأنَّ الخلوِّ يُشْعِرُ بالقبلية. وقرأ ابن عباس: "رسُل" بالتنكير. قال أبو الفتح: "ووجهُها أنه موضعُ تبشيرٍ لامر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكانُ تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وهكذا يُفْعل في أماكن الاقتصاد نحو: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} وقال أبو البقاء: "وهو قريب من معنى المعرفة" كأنه يُريدُ أنَّ المرادَ بالرسلِ الجنسُ، فالنكرةُ قريبةٌ منه بهذه الحيِثِيَّةِ، وقراءةُ الجمهور أَوْلى لأنَّها تَدُلُّ على تفخيمِ الرسل وتعظيمِهم.
(4/182)
---(1/1462)
قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزةُ لاستفهام الإِنكار، والفاءُ للعطف ورتبتُها التقديمُ لأنها حرفُ عطف، وإنما قُدِّمَت الهمزة لأنَّها لها صَدْرُ الكلام، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينهما فِعْلاً محذوفاً تَعْطِفُ الفاءُ عليه ما بعدَها. وقال ابن خطيب زَمَلَّكى: "الأوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ محذوفٌ بعد الهمزة وقيل الفاء تكونُ الفاءُ عاطفةً عليه، ولو صرح به لقيل: أتؤمنون به مدةَ حياته فإنْ مات ارتدَدْتم فتخالِفوا سُنَنَ اتِّباع الأنبياءِ قبلَكم في ثباتِهم على مِلَلِ أنبيائِهم بعد مَوْتِهم" وهذا هو مذهب الزمخشري، إلاَّ أنَّ الزمخشري هنا عَبَّر بعبارةٍ لا تقتضي مذهبَه الذي هو حَذْفُ جملةٍ بعد الهمزةِ فإنه قال: "الفاءُ مُعَلَّقةٌ للجملةِ الشرطيةِ بالجملةِ قبلَها على معنى التسبيبِ، والهمزةُ لإِنكار أَنْ يَجْعَلُوا خُلُوَّ الرسلِ قبلَه سبباً لا نقلابِهم على أَعْقابِهم بعدَ هلاكِه بموتٍ أو قَتْلٍ، مع عِلْمِهِم أَنَّ خُلُوَّ الرسلِ قبله وبقاءَ ديِنهم مُتَمَسَّكاً به يجبُ أَنْ يُجْعَلَ سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلابِ عنه" فظاهرُ هذا الكلام أنَّ الفاءَ عَطَفَتْ هذه الجملةَ المشتملة على الإِنكارِ على ما قبلها من قوله: {قَدْ خَلَتْ} مِنْ غير تقديرِ جملةٍ أخرى.
وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنَّه قال: "الهمزةُ عند سيبويه في موضِعها، والفاء تدلُّ على تعلُّقِ الشرطِ بما قبله". انتهى. لا يقال: إنه جَعَل الهمزةَ في موضعِها فيُوهِمُ هذا أنَّ الفاءَ ليست مُقَدَّمَةً عليها لأنه جَعَلَ هذا مقابلاً لمذهبِ يونس، فإنَّ يونس يزعم أنَّ هذه الهزةَ في مِثْلِ هذا التركيبِ داخلةٌ على جوابِ الشرط، فهي في مَذْهَبِه [في] غيرِ موضِعها. وسيأتي تحريرُ هذا كلِّه.
(4/183)
---(1/1463)
و"إنْ" شرطيةٌ. و"ماتَ" و"انقلبتم" شرطٌ وجزاءٌ، ودخولُ الهمزةِ على أداةِ الشرطِ لا يغيِّر شيئاً مِنْ حكمِها، وزَعَم يونس أنَّ الفعلَ الثاني الذي هو جزاءُ الشرطِ ليس بجزاءٍ للشرطِ، إنما هو المُسْتَفْهَمُ عنه، وأنَّ الهمزةَ داخلةٌ عليه تقديراً فيُنْوى به التقديمُ وحينئذ فلا يكونُ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ، ولا بد إذ ذاك من أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً، إذ لا يُحْذَفُ الجوابُ إلا والشرطُ ماضٍ، ولا اعتبارَ بالشعرِ فإنه ضرورةٌ، فلا يجوزُ عندَه أَنْ تقولَ:"أإنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك" [لا بجَزْمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني] لأنَّ الشرط مضارعٌ، ولا: "أإن أكرمتني أكرمْك" بجزم "أكرمْك" لأنه ليس الجوابَ بل دالاً عليه، والنيةُ به التقديمُ، فإنْ رَفَعْتَ "أكرمك" وقلت: "أإنْ أكرَمْتَني أكرمُك" صَحَّ عنده، فالتقديرُ عند يونس: آنقلبتم على أعقابِكم إنْ ماتَ محمدٌ؟ لأنَّ الغرضَ إنكارُ انقلابِهم على أعقابِهم بعد مَوْتِه.
(4/184)
---(1/1464)
وبقولِ يونس قال كثيرٌ من المفسرين، فإنَّهم يقولون: ألفُ الاستفهامِ دَخَلَتْ في غير موضعها، لأنَّ الغرضَ إنما هو: أتنقلبون إنْ ماتَ محمد". وقال أبو البقاء: "وقال يونُس: الهمزة في مثلِ هذا حَقُّها أَنْ تَدْخُلِ على جوابِ الشرطِ تقديرُه: "أتنقلبون إنْ مات"؛ لأنَّ الغرضَ التنبيهُ أو التوبيخُ على هذا الفعلِ المشروط. ومذهبُ سيبويه الحقُّ لوجهينِ، أحدهما: أنك لو قَدَّمْتَ الجوابَ لم يكن للفاءِ وجهٌ إذ لا يَصِحُّ أَنْ تقولَ: "أتزورُوني فإنْ زُرْتُكِ"، ومنه قولُه تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}، والثاني: أنَّ الهمزةَ لها صدرٌ الكلام، و"إنْ" لها صدرُ الكلامِ، فقد وقعا في موضِعِهما، والمعنى يَتِمُّ بدخولِ الهمزةِ على جملةِ الشرط والجواب، لأنهما كالشيءِ الواحد" انتهى. وقد رَدَّ النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} فإنَّ الفاءَ في قولِه: "فهم" تُعَيِّنُ أن يكون جواباً للشرط. ولهذه المسألةِ موضعٌ هو أليقُ بها من هذا الكتاب. وأتى هنا بـ"إنْ" التي تقتضي الشك، والموتُ أمرٌ محقق، إلا أنه أُورد مَوْرِدَ المشكوك فيه للتردُّدِ بين الموتِ والقتلِ.
قوله: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} فيه و جهان، أظهرُهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ"انقلبتم". والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ "انقلبتم" كأنه قيل: انقلبتم راجعين. وقرأ ابن أبي إسحاق: "ومَنْ ينقلِبْ علىعَقِبه" بالإِفراد. و"شيئاً" نُصِبَ على المصدرِ أي: شيئاً مِنَ الضررِ لا قليلاً ولا كثيراً. وقد تقدَّم نظيرُه.
* { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }
(4/185)
---(1/1465)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ}: "أًَنْ تموتَ: في محل رفع اسماً لـ"كان". و:"لنفس" خبرٌ مقدم فيتعلَّقُ بمحذوف و{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حالٌ من الضمير في "تموت" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وهو استثناء مفرغ، والتقدير: وما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة.
وقال أبو البقاء: و{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الخبر، واللامُ للتبيينِ متعلقةٌ بـ"كان". وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: الموتُ لنفس، و"أن تموت" تببينٌ للمحذوفٍ، ولا يجوز أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بـ"تموت" لِما فيه من تقديمِ الصلةِ على الموصولِ". وقال بعضُهم:"إنَّ "كان" زائدةٌ فيكونُ "أَنْ تموتَ" مبتدأ، و"لنفسٍ" خبره". وقال الزجاج: "تقديرُه: وما كانت نفسٌ لتموتَ، ثم قُدِّمَتِ اللامُ" فجُعِل ما كان اسماً لـ"كان" وهو "أن تموتَ" خبراً لها، وما كان خبراً وهو "لنفسٍ" اسماً لها. فهذه خمسةُ أقوالٍ، أ ظهرُها الأول.
أمَّا قولُ أبي البقاء "واللامُ للتبيين فتتعلَّقُ بمحذوفٍ" ففيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنَّ "كانم" الناقصةَ لا تعمل في غيرِ اسمِها وخبرِها، ولئِنْ سُلِّم ذلك فاللامُ التي للتبيين إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحوِ: "سُقياً لك".
وأمَّا مَنْ جَعَل "لنفسٍ" متعلقةً بمحذوفٍ تقديرُه: "الموتُ لنفسٍ" ففاسِدٌ لأنه ادَّعى حَذْفَ شيءٍ لا يجوزُ، لأنه إنْ جَعَل "كان" تامةً أو ناقصةً امتنع حَذْفُ مرفوعِها لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ المصدر وإبقاءَ معمولِه وهو لا يجوزُ. وكذلك قولُ مَنْ جَعَلَ "كان" زائدةً. وأمَّا قولُ الزجاجِ فإنَّه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ فتعودُ الأقوالُ أربعةً/.
(4/186)
---(1/1466)
قوله: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملة التي قبلَه، فعاملُه مضمرٌ تقديرُه: "كَتَب الله ذلك كتاباً"، نحو: {صُنْعَ اللَّهِ}، {وَعْدَ اللَّهِ}، و{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. والثاني: أنه منصوبٌ على التمييزِ. ذكره ابنُ عطية، وهذا غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّ التمييزَ منقولٌ وغيرُ منقولٍ، وأقسامُه محصورةٌ وليس هذا شيئاً منها. وأيضاً فأين الذاتُ المبهمةُ التي تحتاج إلى تفسير. والثالثُ: أنه منصوب على الإغراءِ، والتقديرُ: الزَموا كتاباً مؤجلاً وآمِنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك.
وقرأ ورش: "مُوَجَّلاً" بالواوِ بدلَ الهمزةِ وهو قياسُ تخفيفِها.
قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ} "مَنْ مبتدأُ وهي شرطيةٌ. وفي خبرِ هذا المبتدأِ الخلافُ المشهورُ. وأَدْغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر ـ بخلافٍ عنه ـ دالَ "يُرِدْ" في الثاء، والباقون بالإِظهار.
(4/187)
---(1/1467)
وقرأ أبو عمرو بالإِسكانِ في هاء "نؤتيه" في الموضعين وَصْلاً ووقفاً، وقالون وهشام ـ بخلاف عنه ـ بالاختلاسِ وَصْلاً، والباقون بالإِشباعِ وصلاً. فامَّا السكونُ فقالوا: إنَّ الهاء لَمَّا حَلَّتْ مَحَلَّ ذلك المحذوفِ أُعْطيت ما كان يَسْتَحِقُّه من السكون. وأمّضا الاختلاسُ فلا ستصاحبِ ما كانَتْ عليه الهاءُ قبلَ حذفِ لامِ الكلمة، فإنَّ الأصل: نُؤتيه، فَحُذِفَتْ الياءُ للجزم، ولم يُعْتَدَّ بهذا العارِض فبقيتِ الهاءُ على ما كانت عليه. وأمَّا الإِشباعُ فنظراً إلى اللفظِ لأنَّ الهاءَ بعد متحرِّكٍ في اللفظِ، وإنْ كانت في الأصلِ بعد ساكن وهو الياء التي حُذِفَتْ للجزم. والأَوْلى أَنْ يُقال: إن الاختلاسَ والإِسكانَ بعد المتحرك لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب، حكى الكسائي: لَهْ مالٌ وبِهْ داءٌ" بسكونِ الهاء، واختلاسِ حركتها، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ مَنْ قال: "إسكانُ الهاءِ واختلاسُها في هذا النحو لا يجوزُ إلا ضرورةً" ليس بشيءٍ، أمَّا غيرُ بني عُقَيْل وبني كلام فنعم لا يوجد ذلك عندهم إلا في ضرورةٍ كقولِه:
1454ـ لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حادٍ * إذا طَلَبَ الوسيقَةَ أو زميرُ
باختلاسِ هاء "كأنه"، وقول الآخر:
1455ـ وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عَطَشٌ * إلاَّ لأنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها
بسكونِها. وجعل ابنُ عصفور أنَّ الضرورةَ في البيت الثاني أحسنُ منها في الأولِ قال: لأنه إذهابٌ للحركةِ وصلتِها فهي جَرْيٌ على الضرورةِ إجراءً كاملاً" وإنما ذَكَرْتُ هذه التعليلاتِ لكثرة ورودِ هذه المسألة نحو {يَرْضَهُ لَكُمْ} و{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وقُرىء: "يُؤْتِه" بياء الغائب، والضميرُ لله تعالى، وكذلك: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} بالنون والياء.
(4/188)
---(1/1468)
* { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }
قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ}: هذه اللفظةُ قيل: مركبةٌ من كافِ التشبيه ومن "أيٍّ"، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من "كم" الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير: "كذا" في قولِهم: "له عندي كذا كذا درهماً" والأصلُ: كاف التشبيه و"ذا" الذي هو اسمُ إشارةٍ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير، وكم الخبريةُ و"كأيِّن" و"كذا" كلُّها بمعنى واحد، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ، ألا تَرَى أنَّ "لولا" حَدَثَ لها معنىً جديد. وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً، إلا أنَّ الصحابة كتبتها: "كأيِّن" بثبوتِ النونِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم المصحف. ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك ـ عن الكسائي ـ عليها: "كأي" من غير نونٍ على القياس. واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها، منها: أنَّ الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغاتٌ خمس. أحدها: كَأَيِّنْ" وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كثير. وقال الشاعر:
1456ـ كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ * أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ
والثانية: "كائِنْ" بزنةِ "كاعِنْ" وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ، وهي أكثرُ استعمالاً من "كَأَيْن" وإنْ كانت تلك الأصلَ. قال الشاعر:
1457ـ وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ * يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا
وقال:
1458ـ وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ * ...........................
(4/189)
---(1/1469)
واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها سم فاعل من: كان يكون فهو كائن، واستبعده مكي قال: لاتيانِ "مِنْ" بنعده ولبنائِه على السكون". وكذلك أبو البقاء قال: "وهو بعيدٌ الصحة، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير: لا يقال: هذا يُحْمَلُ على المبرد، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه مثلُ ذلك كما تقدم في "كذا" و"لولا" ونحوِهما، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير. وقيل: هذه القراءةُ أصلُها "كأيِّنْ" كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ "كائِن" مثل "جاعِن".
واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهم الياءُ المشددة، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما قالوا في "أيُّهما": أيْهُما، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبوها في نحو: "آية" والأصل: أَيَّة، وكما قالوا: طائي، والأصل: طَيْئِي، فصارَ اللفظُ: كائِن كجاعِن كما ترى، ووزنُه "كَعْفٍ"؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى موضعِ اللامِ، واللامُ قد حُذِفَتْ.
الوجه الثاني: أنه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هي عينٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي لامٌ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ "كائِن" ووزنُه: كَلْفٍ.
(4/190)
---(1/1470)
الوجه الثالث: ـ ويُعْزى للخليل ـ أنه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء، فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح اما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان: الألفُ المنقبلةُ عن الياءِ والهمزةُ بعدها سكانةٌ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ قاضٍ وغازٍ.
الوجه الرابع: أنه قُدِّمَتِ الياءُ المتحركةُ فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنةً فحذفها التنوينُ مثل قاضٍ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء، وإنما الأعمالُ تختلف.
اللغة الثالثة: "كَأْيِن" بياء خفيفةٍ بعد الهمزة على مثالِ: كَعْيِن، وبها قرأ ابن محيصن والأشهب العقيلي، ووجْهُها أنَّ الأصلَ: كَأَيِّن كقراءة الجماعمة: فَحُذِفَتْ الياء الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان: الياءُ والتنوينُ، فكُسِرت الياءُ لا لتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا: "فهو" و"فهي".
اللغة الرابعة: "كَيْئِن" بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ، وهذه مقلوبُ القراءةِ التي قبلَها، وقرأ بها بعضُهم.
واللغةُ الخامسةُ: "كَئِنْ" على مثال كَعٍ، ونَقَلها الداني قراءةً عهن ابن محيصن أيضاً. وقال الشاعر:
1459ـ كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا * أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُ
وفيها وجهان أحدُهما: أنه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لا متزاجِ الكلمتين بالتركيبِ، والثاني: أنه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تقدَّم تقريرُه، ثم حَذَف الأخرى لالتقائِها ساكنةً مع التنوينِ، ووزنُه على هذا: "كَفٍ" لِحَذْفِ العينِ واللامِ منه./
(4/191)
---(1/1471)
واختلفوا في "أيَّ": هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا؟ فذهب جماعةٌ إالى أنها ليسَتْ مصدراً وهو ظاهرُ قولِ أبي البقاء فإنه قال: "وكأيِّن الأصلُ فيه: "أي" التي هي بعض من كل، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التشبيه" وفي عبارتهِ عن "أي" بأنها بعض من كلٍّ نظرٌ، لأنها ليست بمعنى بعض من كل، نعم إذا أُضيفت إلى معرفةٍ فحكمُها حكمُ "بعض" في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو: أيُّ الرجلين قام؟ ولا تقول: "قاما"، وليست هي التي "بعض" أصلاً.
وذهب ابن جني أنها في الأصل مصدر "أَوَى يَأْوي" إذا انضمَّ واجتمع، والأصلُ: أَوْيٌ نحو: طَوَى يَطْوي طَيَّاً، الأصلُ: طَوْي، فاجتمعت الياءُ والواو وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمت في الياء، وكأنَّ ابن جني ينظر إلى معنى المادة من الاجتماعِ الذي يدل عليه "أيّ" فإنها للعمومِ، والعمومُ يستلزمُ الاجتماع.
وهل هذه الكافُ الداخلةُ على "اي" تتعلَّق بشيء كغيرها من حروف الجرِّ أم لا؟ والصحيحُ أنها لا تتعلَّقُ بشيء أصلاً لأنَّها مع "أي" صارتا بمنزلةِ كملةٍ واحدةٍ وهي "كم"، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصلي وهو التشبيه.
وزعم الحوفي أنها تتعلَّق بعاملٍ، ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لتقفَ عليه فإنه كلام غريب. قال: أما العاملُ في الكاف فإن جَعَلْنَاها على حكمِ الأصل فمحمولُ على المعنى، والمعنى: أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّم مِن الأنبياء وأصحابِهم، وإنْ حَمَلْنا الحكمَ على الانتقالِ إلى معنى "كم" كان العاملُ بتقديرِ الابتداء وكانت في موضعِ رفع، و"قُتِل" الخبر، و"مِنْ" متعلقة بمعنى الاستقرار، والتقدير الأول أَوضحُ لحَمْل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في "أي" وإذا كانَتْ "أي" على بابها من معاملة اللفظِ فـ"مِنْ" متعلقةٌ بما تعلَّقت به الكافُ من المعنى المدلولِ عليه". انتهى.
(4/192)
---(1/1472)
واختار الشيخ أَنَّ "كأيِّنْ" كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ وأنَّ آخرَها نون هي من نفس الكلمة لا تنوينٌ، لأنَّ هذه الدَّعاوي المتقدمة لا يقومُ عليها دليل، والشيخُ سَلَكَ في ذلك الطريقَ الأسهلَ، والنحويون ذَكَروا هذه الأشياءَ محافظةً على أصولِهم، مع ما ينضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتشحيذِ الذهن وتمررينِه. هذا ما يتعلَّق بـ"كأنِّن" من حيث الإِفرادُ.
أمَّا ما يتعلق بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداء وفي خبرِها أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه "قُتِل" فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ والتقدير: كثيرٌ من الأنبياء قتل. قال أبو البقاء: "والجيدُ أَنْ يعودَ الضميرُ على لفظِ "كأيِّنْ" كما تقولُ: "مئة نبين قُتِل" فالضميرُ للمئة، إذ هي المبتدأ. فإنْ قلت: لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلت: "قُتِلَتْ. قيل: هذا محمولٌ على المعنى، لأنَّ التقديرَ: كثير من الرجال قُتِل. انتهى" كأنه يعني بغير الجيد عَوْدَه على لفظ "نبي"، فعلى هذا يكون "معه ربِّيِّون" جملةً في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في "قُتِل" [وهو أَوْلَى لأنه من قبيلِ المفردات، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفة أن تكونَ مفردةً]. ويجوزُ أَنْ يكونَ "معه" وحده هو الحالَ و"رِبِّيُّون" فاعلٌ به، ولا يَحْتاج ه نا إلى واوِ الحال لأنَّ الضمير هو الرابطُ، أعني الضمير في "معه"، ويجوز أن يكونَ حالاً من "نبي" وإن كان نكرة لتخصيصه بالصفةِ حينئذ، ذكره مكي، وعَمِل الظرفُ هنا لاعتمادِه على ذي الحال. قال الشيخ: "هي حكايةُ حالٍ ماضيةٍ فلذلك ارتفع "ربِّيُّون" بالظرف وإن كان العاملُ ماضياً لأنه حكى الحال الماضية كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} وهذا على رأي البصريين، وأما الكسائي فيُعْمِل اسمَ الفاعلِ العاري من أل مطلقاً". وفيه نظرٌ لأنَّا لا نسلِّم أنَّ الظرفَ يتعلق باسم فاعل حتى يَلزمَ عليه ما قال من تأويله اسمَ الفاعل بحال ماضية، بل(1/1473)
(4/193)
---
نَدَّعي تعلقَه بفعل تدقيره: استقر معه ربيون.
الوجه الثاني: أن يكون "قُتِل" جملةً في محل جر صفةً لـ"نبي" و"معه ربيون" هو الخبر، ولك الوجهان المتقدمان في جعله حالاً، أعني إن شئت أن تجعل "معه" خبراً مقدماً و"ربيون" مبتدأً مؤخراً، والجملةُ خبر "كأين"، وإن شئت أن تجعلَ "معه" وحدَه هو الخبرَ، و"ربيون" فاعلٌ به، لاعتمادِ الظرف على ذي خبر.
الوجه الثالث: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديره: "في الدنيا" أو "مضى" او "صائر" ونحوه، وعلى هذا فقولُه: "قتل" في محلِّ جر صفة لـ"نبي"، و"معه ربيون" حال من الضمير في "قتل" على ما تقدم تقريره، ويجوز أن يكون "معه ربيون" صفةً ثانية لـ"نبي" وُصِفَ بصفتين: بكونه "قتل" وبكونه "معه ربيون".
الوجه الرابع: أن يكون "قُتِل" فارغاً من الضمير مسنداً إلى "ربيون"، وفي هذه الجملة حينئذ احتمالان، أَحدُهما: أن تكونَ خبراً لـ"كائن"، والثاني: أن تكونَ في محلِّ جر صفة لـ"نبي"، والخبر محذوف على ما تقدَّم، وادِّعاءُ حذفِ الخبرِ ضعيفٌ لاستقلال الكلام بدونه. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أَنْ يكونَ "قَتِل" صفة لربيين، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة "نبي" ويجوز أن تكون خبراً، فيصير في الخبر أربعةُ أوجه، ويجوزُ أن تكونَ صفة لـ"نبي" والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا". أَمَّا قولُه "صفة لـ"ربيين" يعني أن القتل من صفتهم في المعنى. وقوله: "فيصير فيه أربعة أوجه" يعني مع ما تقدّضم له من أوجهٍ ذكرَها. وقولُه: فلا ضميرَ فيه على هذا، والجملةُ صفةُ نبي" غلطٌ لأنَّه يبقى المبتدأ بلا خبر. فإنْ قلت: إنَّما يزعم هذا لأنهُ يُقَدِّر خبراً محذوفاً. قلت: قد ذَكَر هذا وجهاً آخرَ حيث قال: "ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لـ"نبي" والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا".
(4/194)
---(1/1474)
ورَجَّح كونَ "قُتِل" مسنداً إلى ضميرِ النبي أنَّ القصةَ بسبب غزوة أحد وتجادل المؤمنين حين قيل: إنَّ محمداً قد مات مقتولاً، ويؤيِّدهُ قولُه: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} وإليه ذهب ابن عباسِ والطبري وجماعةٌ، وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}: "النبي يُقْتل فكيف لا يُخان. وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أنَّ القَتْلَ للربّيّين قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حربٍ قط. ونَصَر الزمخحشري هذا بقراءة "قُتِّل" بالتشديد، يعني أن التكثير لا يتأتَّى في الواحد وهو النبي. وهذا الذي ذَكَره الزمخشري سَبَقَهُ إليه ابن جني، وسيأتي تأويل هذا.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر: "قُتِل" مبنياً للمفعول، وتقادة كذلك إلا أنه شدَّد التاء، وباقي السبعة: "قاتَل"، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعال يَصْلُح أَنْ يرفعَ ضمير "نبي" وأن يرفعَ ربِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه. وقال ابن جني: "إنَّ قراءة "قُتِّل" بالتشديد يتعيِّن أن يُسْنَدَ الفعل فيهنا إلى الظاهر، أعني ربيين. قال" لأنَّ الواحدَ لا تكثيرَ فيه". قال أبو البقاء: "لا يمتنعُ أنْ يكونَ فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة" انتهى. يعني أنَّ "من بني" فردٍ، إذا القتلُ لا يتكثَّر في كلِّ فرد. وهذا الجوابُ الذي أجابَ به أبو البقاء استشعر به أبو الفتح وأجابَ عنه. قال: "فإِنْ قيل: يُسْنَدُ إلى "نبي" مراعاةً لمعنى "كم" فالجوابُ: أنَّ اللفظَ قد فَشَا على جهةِ الإِفرادِ في قوله: {مِّن نَّبِيٍّ}، ودلَّ الضميرُ المفردُ في "معه" على أن المرادَ إنما هو التمثيلُ بواحدٍ، فخرج الكلامُ عن معنَى "كم". قال: "وهذه القراءةُ تُقَوِّي قولَ مَ،ْ قال: إنَّ "قُتِل" و"قاتَل" يُسْندان إلى الربِّيِّين.
(4/195)
---(1/1475)
قال الشيخ: "وليس بظاهر لأنَّ "كأين" مثلُ "كم"، وأنت إذا قلت: "كم مِنْ عانٍ فككتُه" [فأفرَدْتَ] راعَيْت لفظَها، ومعناها جَمعٌ، فإذا قتل: "فَكَكْتُهم" راعيتَ المعنى، فلا فرق بني "قُتل معه ربيون" و"قُتِل معهم رِبِّيّثون"، وإنما جاز مراعاة ُ اللفظِ تارةً والمعنى أخرى في "كم" و"كأين" لأنَّ معناهما "جَمْعٌ"، و"جَمْعٌ" يجوزُ فيه ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فراعى اللفظَ في قولِه "منتصِرٌ" ورجّح بعضُهم قراءةَ "قاتل" لقوله بعد ذلك: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: "وإذا قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك؟ إنما يُوصف بهذا الأحياءُ، والجوابُ: أنَّ معناه "قُتِل" بعضُهم"، كما تقول: "قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا". وقال ابن عطية: "قراءةُ مَنْ قرأ "قاتل" أعمُّ في المدح، لأنه يدخُل فيها مَنْ قُتِل ومَنْ بقي، ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين، وعلى قراءة "قُتِل" إسنادُه إلى "نبي". قال الشيخ: "
بل "قُتِل" أمدحُ/ وأبلغُ في مقصودِ الخطاب، فإنَّ "قُتِل" يستلزم المقاتلة من غير عكس".
وقوله: {مِّن نَّبِيٍّ} تمييز لـ"كأيِّن" لأنها مثل "كم" الخبرية. وزعم بعضُهم أنه يلزمُ جَرُّه بـ"مِن"، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيل إلا كذا، وهنذا هو الأكثرُ الغالِبُ كما قال، وقد جاء تمييزها منصوباً, قال:
1460ـ اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ * آلمِاً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وقال آخر:
1461ـ وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً * قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِ
وأمَّا جرُّه فممتنع لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ.
(4/196)
---(1/1476)
والربيُّون: جمعُ "رِبِّي" وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإنما كُسرت راؤه تغييراً في النسب نحو: "إمْسِيّ" بالكسرِ منسوبٌ إلى "أَمْس". وقيل: كُسِر للإِتباع، وقيل: لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ. وهذه القراءةُ بكسرِ الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن: "رُبِّيُّون" بضمِّ الراء، وهو من تغيير النسب إنْ قلنا هو منسوبٌ غلى الرَّبِّ، وقيل: لا تغييرَ وهو منوسب إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ، وفيها لغتانِ: الكسر والضم، وقرأ ابن عباس في رواية قتادة: "رَبَّيُّون" بفتحِها على الأصل، إنْ قلنا: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النسب إنْ قلنا: إنَّه منسوبٌ إلى الرُّبَّة. قال ابن جني: "والفتحُ لغة تميم". وقال النقاش: هم المُكْثِرون العلمَ من قولهم: "رَبا يربُو" إذا كَثُر". وهذا سَهْوٌ منه لاختلافِ المادتين، لأنَّ تَيْكَ من راء وياء وواو، وهذه من راء وباء مكررةٍ. و"كثيرٌ" صفة لـ"ربّيّون" وإنْ كان بلفظِ الإِفراد لأنَّ معناه جمعٌ.
قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} الضميرُ في "وَهَنوا" يعودُ على الرِّبِّيين وبجملتهم إنْ كان "قُتِل" مسنداً إلى ضمير النبي، وكذا في قراءة "قاتل" سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي أو إلى الربِّيِّين، وإنْ كان مسنداً إلى الربيين فالضميرُ يعودُ على بعضِهم، وقد تقدَّم ذلك عند الكلام في ترجيح قراءة "قاتل".
والجمهورُ على "وَهَنوا" بفتحِ الهاء، والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرِها، وهما لغتان: وَهَن يَهِنُ، كوعَد يَعِدُ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل، ورُوِي عن أبي السَّمَّال أيضاً وعكرمة: "وَهْنوا" بكسونِ الهاء، وهو من تخفيفِ فَعِل لأنه حلق نحو: نَعْم وشَهْد في: نعِم وشَهِد.
(4/197)
---(1/1477)
و"لَمَّا" متعلِّقٌ بـ"وَهَنوا"، و"وما" يجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً اسميةً أو مصدريةً أو نكرةً موصوفةً. والجمهورُ قرؤوا: "ضَعُفوا" بضمِّ العَيْن، وقُرىء: "ضَعَفوا" بتفحها، وحكاها الكسائي لغةً.
وقوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنه استَفعل من الكونِ، والكونُ: الذُّلُّ، وأصلُه: اسْتَكْوَن، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف، ثم قُلِبَتِ الواوُ ألفاً. وقال الأزهري وأبو عليّ: "هو من قول العرب: "بات فلان بِكَيْنَةِ سوءٍ" على وزِن "جَفْنة" أي: بحالةِ سوءٍ" فألفُه على هذا من ياءِ، والأصلُ: اسْتَكْيَنَ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها.
الثالث: قال الفراء: "وزنُه افْتَعَل من السكون، وإنما أُشْبعت الفتحةُ فتولدُ منها ألفٌ كقوله:
1462ـ أعودُ باللهِ من العَقْرابِ * الشَّائِلاتِ عُقَدَ ا لأَذْنَابِ
يريد: العَقْرَب الشائلةَ". ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع تصاريفِ الكلمةِ نحو: استكانَ يَسْتيكن فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ. وكلاهما لا يَلْزَمُه: أمَّا الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا: تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به، وكذا تَمَدْرَع، وهما من النَّدْل والدَّرْع. وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردَّ فإنه قال: "لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ على هذا الحدِّ".
ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل "فما ضَعُفوا عن كذا، وما استكانوا لكذا" للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما.
(4/198)
---(1/1478)
* { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيا أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ}: الجمهورُ على نصبِ "قولَهم" خبراً مقدماً، والاسمُ هو "أَنْ" وما في حَيِّزها تقديرُه: وما كان قولَهم إلا قولُهم هذا الدعاءَ، أي: هو دَأْبُهم ودَيْدَنُهم. وقرأ ابن كثير وعاصم في روايةٍ عنهم برفع "قولُهم" على أنه اسم، والخبر "أَنْ" وما في حَيِّزها. وقراءةُ الجمهور أَوْلى؛ لأنه إذا اجتمعَ معرفتان فالأَوْلى أن يُجْعَل الأعرفُ اسماً، و"أن" وما في حَيِّزها أعرفُ، قالوا: لأنها تُشْبِهُ المُضْمَِرَ مِنْ حيثُ إنها لا تُضْمَرُ ولا تُوصَفُ ولا يُوصف بها، و"قولهم" مضافٌ لمضمرٍ فهو في رتبة العَلَم فهو أقلُّ تعريفاً.
ورَجَّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين، أحدهما هذا، والآخر: أنَّ ما بعد "إلاَّ" مُثْبَتٌ، والمعنى: كان قولُهم: ربنا اغفر لنا دَأْبَهم في الدعاء وهو حسن، والمعنى: وما كان قولُهم شيئاً من الأقوال إلا هذا القولَ الخاص.
و{فِيا أَمْرِنَا} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بالمصدر قبله يقال: أَسْرَفْت في كذا. والثاني: أنه يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال منه أي: حالَ كونِه مستقراً في أمرنا، والأولُ أَوْجَهُ.
* { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
وقرأ الجحدري: {فأثابهم}: من لفظِ الثواب.
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ }
وقوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ}: جوابُ {إِن تُطِيعُواْ}. و{خَاسِرِينَ} حال.
* { بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ }
(4/199)
---(1/1479)
قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ}: مبتدأ وخبر، وقرأ الحسن: "اللهَ" بنصب الجلالة على إضمار فعل يَدُلُّ عليه الشرط الأول، والتقدير: "لا تُطيعوا الذين كفروا بل أطيعوا الله". و{مَوْلاَكُمْ} صفته. قال مكي: "وأجاز الفراء: بل اللهَ بالنصب" كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
* { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {سَنُلْقِي}: الجمهورُ بنون العظمة وهو التفات من الغيبة في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}، وذلك لتنبيه على عِظَم ما يُلقيه تعالى. وقرأ أيوب السختياني: "سيُلقي" بالغيبة جَرْياً على الأصل. وقُدِّم المجرورُ على المفعول به اهتماماً بذكر المحلِّ قبل ذِكْرِ الحالِّ. والإِلقاء هنا مجاز لأن أصله في الأجرام، فاستعير هنا كقوله:
1463ـ هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما * على النابحِ العاوي أشدُّ رِجامِ
وقرأ ابن عامر والكسائي: "الرُّعًب" و"رُعُباً" بالضم، والباقون بالإِسكان. فقيل: لغتان، وقيل: الأصلُ الضمُّ وخُفِّف، وهذا قياسٌ مُطرَّد، وقيل: الأصلُ السكونُ، وضُمَّ إتباعاً كالصُّبْح والصُّبُح، وهذا عكسُ المعهودِ من لغةِ العرب.
[والرعبُم الخَوْفُ. يقال: رَعَبْتُه فهو مَرْعُوب، وأصلُه من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض أي: ملأتُه، وسيل راعِب، أي: ملأ الوادي. والسلطان: الحُجَّة والبرهان، واشتقاقُه: إمَّا مِنْ سَلِيط السِّراج الذي يُوقَدُ به.......، لإِنارتِه ووضوحه، وإمَّا من السَّلاطة وهي الحِدَّةُ والقَهْر].
(4/200)
---(1/1480)
و{فِي قُلُوبِ} متعلِّقٌ بالإِلقاءِ. وكذلك {بِمَآ أَشْرَكُواْ}، ولا يَضُرُّ تعلُّق الحرفين لاختلافِ معناهما، فإنَّ "في" للظرفية والباءَ للسببية. و"ما" مصدريةٌ. و"ما" الثانيةٌ مفعولٌ به لـ"أشْركوا"، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، أو نكرةٌ موصوفة. والراجعُ الهاءُ في "به"، ولا يجوز أن تكونَ مصدريةً عند الجمهور لعَوْد الضمير عليها. وتَسَلَّط النفيُ على الإِنزال لفظاً والمقصودُ نفيً السلطان، أي: الحُجَّة، كأنه قيل: لا سلطانَ على الإِشراكِ فَيُنَزَّلَ كقوله:
1464ـ .................. * ولا تَرَى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: لا ينجحر الضبُّ بها فيُرى، وقولِه:
1465ـ على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِه * ........................
أي: لا منارَ له فيُهْتدى به، فالمعنى على نفيِ السلطان والإِنزالِ معاً. و"سلطاناً" مفعول لـ"يُنَزِّل".
وقوله: {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مثواهم، أو النار. والمَثْوى: مَفْعَل من ثَوَيْتُ أي: أَقَمْتُ، فلامه ياء، وقُدِّم المأوى ـ وهو المكان الذي يَأْوي إليه الإِنسان ـ على المَثْوى ـ وهو مكانُ الإِقامةِ، لأنه على الترتيبِ الوجودي يأوي ثم يَئْوي، ولا يلزم من المأوى الإِقامةُ، بخلافِ عَكْسِه.
* { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
(4/201)
---(1/1481)
قوله تعالى: {صَدَقَكُمُ}: "صَدَقَ" يتعدَّى لاثنين، أحدهما بنفسِه والآخرُ بالحرفِ، وقد يُحْذَفُ كهذهِ الآيةِ، والتقدير: صَدَقَكم في وعدِه كقولهم: "صدقتُه الحديث"، و"في الحديث". ,و"إذ تَحُسُّونهم" معمولٌ لـ"صَدَقَكم" أي: صَدَقَكم في ذلك القوت، وهو وقتُ حَسِّهم أي قَتْلِهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: "وعدَه"، وفيه نظرٌ لأنَّ الوعدَ متقدم على هذا الوقت. يقال: "حَسَسْتُه أَحُسُّه" أي: قتلتُه. وقرأ أبو عبيد: "تُحِسُّونهم" رباعياً أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل. و"بإذنه" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل "تُحِسُّنهم" أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك/.
قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} في "حتى" هذه قولان، أحدهما: أنها حرف جر بمعنى "إلى" وفي متعلِّقها حينئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنها متعلقةٌ بـ"تَحُسُّونهم" أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"صدقكم"، وهو ظاهرُ قول الزمخشري قال: "ويجوز أن يكونَ المعنى: صَدَقَكم اللهُ وعدَه إلى وقت فشلكم". والثالث: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه السياق، قال أبو البقاء: "تقديره: دامَ لكم ذلك إلى وقتِ فشلكم"؟.
(4/202)
---(1/1482)
القول الثاني: أنها حرفُ ابتداءٍ داخلةٌ على الجملة الشرطية، و"إذا" على بابها من كونها شرطية، وفي جوابها حنيئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه "وتنازعتم" قال الفراء: "وتكونُ الواوُ زائدةً". والثاني: أنه "ثُمَّ صَرَفَكُم" و"ثُمَّ" زائدةٌ، وهذا القولان ضعيفان جداً. والثالث ـ وهو الصحيح ـ : أنه محذوفٌ، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّره ابن عطية: "انهزمتم"، وقَدَّره الزمخشري: "مَنَعَكم نَصْرَه"، وقَدَّره أبو البقاء: "بان لكم أمرُكم"، ودل على ذلك قوله: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}، وقَدَّره غيره: "امتُحِنْتُم"، وقَدَّره الشيخ: "انقسمتم إلى قسمين، وَيَدُلُّ عليه ما بعده، وهو نظير: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}. قال الشيخ: "لا يُقال كيف يقال: انقسمتم إلى مريدِ الدنيا وإلى مريد الآخرة فيمَنْ فَشِل وتنازع وعصى؛ لأنَّ هذه: الأفعالَ لم تصدُرْ من كلِّهم بل من بعضِهم".
واختلفوا في "إذا" هذه، هل هي على بابها أم بمعنى "إذ"؟ والصحيح الأول سواءً قلنا إنها شرطيةً أم لا.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفلإ على ما قبله، والجملتان من قوله: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} اعتراضٌ بين المتعاطفين. وقال أبو البقاء: "ثم صرفكم" معطوفٌ على الفعل المحذوف" يعني الذي قَدَّره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه. "وليبتليَكم" متعلِّقٌ بـ"صرفكم" و"أََنْ" مضمرةٌ بعد اللام.
* { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيا أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(4/203)
---(1/1483)
قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ}: العاملُ في "إذ" قيل: مضمر إي: اذكروا. وقال الزمخشري: "صَرَفَكم ليبتلِيَكم". وقال أبو البقاء: "ويجوز أن تكونَ ظرفاً لـ"عَصَيْتُم" أو "تنازَعْتم" أو فَشِلتم". وقيل: "هو ظرفٌ لـ"عفَا عنكم". وكلُّ هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونُه ظرفاً لـ"صرفكم" جيدٌ من جهة المعنى، ولـ"عفا" جيدٌ من جهة القرب. وعلى بعض الأقوال تكونُ المسألة من باب التنازع، وتكون على إعمالِ الأخير منها لعدم الإضمار في الأول، ويكون التنازُع في أكثر من عاملين.
والجمهور على "تُصْعدون" بضم التاء وكسر العين من أصْعد في الأرض إذا ذهب فيها، والهمزة فيه للدخول نحو: "أصْبح زيدٌ" أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تَدْخُلون في الصُّعود، ويبيِّن ذلك قراءةُ أبُيّ: "تُصْعِدون في الوادي". والحسن والسلمي: "تَصْعَدون" من صَعِد في الجبل أي رَقِي، والجمع بين القراءتين: أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا في الجبل، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين: أَصْعَدَ وصَعِد. وابو حيوة: "تَصَعَّدُون" بالتشديد، وأصلها: تَتصَعَّدون، فحُذفت إحدى التاءين: إمَّا تاءُ المضارعة أو تاء تَفَعَّل، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم. والجمهور "تُصْعِدون" بتاء الخطاب، وابن محيصن ـ ويروى عن ابن كثير ـ بياء الغَيْبة على الالتفات وهو حسن، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي: والله ذو فضل على المؤمنين إذ يُصْعِدون، فالعامل في إذ: "فَضْل".
يقال: أصعد: أبعد في الذهاب، قال القتبي: "كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع" قال الشاعر:
1466ـ ألا أيُّهذا السائلي أينَ أَصْعَدَتْ * فإنَّ لَها في أهل يَثْربَ مَوْعدا
وقال آخر:
1467ـ قد كُنْتِ تبكين على الإِصعادِ * فاليومَ سُرِّحْتِ وصاح الحادي
(4/204)
---(1/1484)
وقال الفراء وأبو حاتم: "الإِصعادُ: ابتداء السفر والمخرج، والصعود مصدر صَعِد [إذا] رَقِي من سُفْل إلى علوّ" ففرقُّوا هؤلاء بين صَعِد وأَصْعد. وقال المفضل: "صَعِد وصَعِّد وأَصْعد بمعنى واحد، والصعيدُ وجهُ الأرض".
{وَلاَ تَلْوُونَ} الجمهورُ على "تلْوون" بواوين. وقُرىء بإبدال الأولى همزة كراهيةَ اجتماعِ واوين، وليس بقياس لكونِ الضمَّةِ عارضةً، والواوُ المضمومةُ تُبْدَلُ همزةً بشروط تقدَّم ذكرها في البقرة: ألاَّ تكونَ الضمةُ عارضةً كهذه الكلمة، وألاَّ تكونَ مزيدة نحو: "تَرَهْوَك"، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها نحو: "سُوُر" و"نُوُر: جمعُ سِوار ونُوار لأنه يمكن تسكينها فتقول: سُوْر ونُوْر فيخِفُّ اللفظ بها، وألاَّ يُدْغَم فيها نحو: "تَعَوُّد" مصدر تَعَوَّدَ، فنحُو "فُرُوج" يَطَّرد إبدالُه لاستكمال الشروط.
ومعنى لا تَلْوون: لا تَرْجعون، يقال: "لَوَى به" [أي]: ذهب به، ولَوَى عليه: عَطَف. قال:
1468ـ ........................ * أخو الجَهْد لا يَلْوي على مَنْ تَعَذَّرا
وأصل تَلْوون: تَلْوِيُون فأُعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدَّم في قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
}. وقرأ الأعمش: ورُوِيَتْ عن عاصم ـ "تُلْوون" بضم التاء. من أَلْوى هي لغةٌ في "لَوَى" ففَعَل وأفْعَلَ بمعنىً. وقرأ الحسن: "تَلُون" بواو واحدة، وخَرَّجوها على أنه أَبدلَ الواوَ همزةً، ثم نَقَل حركةَ الهمزةَ على اللام ثم حَذَف الهمزةَ على القاعدة، فلم يَبْقَ من الكلمة إلا الفاءُ وهي اللامُ. وقال ابن عطية: "وحُذِفَتْ إحدى الواوين للساكنين"، وكان قد قَدَّم أن هذه القراءةَ مركبةٌ على لغة مَنْ يهمزُ الواو وينقل الحركة، وهذا عجيبٌ بعد أَنْ يجعلَها من باب نَقْل حركة الهمزة كيف يعود يقول: حُذفت إحدى الواوين؟
(4/205)
---(1/1485)
ويمكنُ تخريجُ قراءةِ الحسن على وجهين آخرين، أحدُها: أَنْ يُقالَ: استُثْقِلَتِ الضمُ على الواوِ لأنها أختُها، فكأنه اجتمعَ ثلاثةُ واوات، فَنُقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان: الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي ضمير، فحُذفت الأولى لالتقاء السكانين، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أَوْلى. والثاني: أن يكونَ "تَلُون" مضارَع "ولِيَ كذا" من الوِلاية، وإنما عُدِّي بـ"على" لأنه ضُمِّن معنى العطف.
وقرأ حميد بن قيس: "على أُحْد" بضمتين، يريد الجبل، والمعنى على مَنْ في جبل أحد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عطية: "والقراءةُ الشهيرة أقوى لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه، وإصعادُهم إنما كان وهو يَدْعوهم".
قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} مبتدأٌ وخبر في محلِّ نصب على الحال، العامل فيها: ِ"تَلْوُون".
قوله: {فَأَثَابَكُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على "تُصْعِدون" و"تَلْوون"، ولا يَضُرُّكونُهما مضارعين، لأنهما ماضيان في المعنى، لأنَّ "إذ" المضافة إليهما صَيِّرتهما ما ضيين، فكأن المعنى: إذا صَعِدتم وأَلْويتم.
والثاني: أنه معطوفٌ على "صَرَفكم". قال الزمخشري: "فأثابكم" عطفٌ على "صَرَفَكم". وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. وفي فاعِله قولان، أحدُهما: أنه الباري تعالى، والثاني: أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: "ويجوز أَنْ يكونَ الضميرُ في "فأثابكم" للرسولِ، أي: فآساكم في الاغتمامِ، وكما غَمَّكم ما نَزَل به من كسرِ رباعيته غَمَّه ما نَزَل بكم من فَوْتِ الغنيمة.
(4/206)
---(1/1486)
و"غَمَّاً" مفعولٌ ثانٍ، و"بغمٍّ" يجوزُ في الباءِ أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ للسببية، على معنى أنَّ متعلَّق الغم الأول الصحابة، ومتعلَّق الغمِّ الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر، والمعنى: فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر. وقيل: "متعلَّقُ الغمِّ الرسولُ، والمعنى: أذاقكم الله غَمَّاً بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشَلِكم، أو فأثابكم الرسولُ، أي: آساكم غَمَّاً بسبب غمٍ اغتممتموه لأجله. والثاني: أن تكمونَ الباءُ للمصاحبة أي: غَمَّاً مصاحباً لغَمٍّ، ويكون الغَمَّان للصحابة، فالغَمُّ الأول الهزيمة والقتل. والثاني: إشرافُ خالد بخيل الكفار، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام، فعلى الأول تتعلَّق الباء بـ"أَثَابكم". قال أبو البقاء: "وقيل: المعنى بسبب غَمَّ، فيكونُ مفعولاً به". وعلى الثاني تتعلَّقُ بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ لغَمّ، أي: غَمَّاً مصاحِباً لغَمِّ، أو مُلْتَبِساً بغَمٍّ. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ الباءُ بمعنى "بعد" أو بمعنى "بَدَل"، وجَعَلَها في هذين الوجهين صفةً لـ غَمَّا"، وكونُها بمعنى "بعد" و"بدل" بعيدٌ، وكأنه يريد تفسيراً المعنى، وكذا قال الزمخشري: "غَمَّاً بعد غم".
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ} هل هو حقيقةٌ أو مجاز؟ فقيل: مجاز، كأنه جَعَلَ الغَمَّ قائماً مقام الثواب/ الذي كان يحصُل لولا الفِرارُ، فهو كقوله:
1469ـ أخافُ زياداً أَنْ يكونَ عَطاؤُه * أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
وقوله:
1470ـ .................... * تحيةُ بيْنِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
جعل القيودَ والسياطَ بمنزلة العطاء، والضربَ بمنزلة التحية. وقال الفراء: "الإِثابَةُ هنا بمعنى المعاقبة، وهو يَرْجِعُ إلى المجاز".
(4/207)
---(1/1487)
قوله: {لِّكَيْلاَ} هذه لامُ "كي"، وهي لام جر، والنصبُ هنا بـ"كي" لئلا يلزمَ دخولَ حرفِ جر على مثله. وفي متعلَّق هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنه "فأثابكم"، وفي "لا" على هذا وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ، لأنه لا يترتَّبُ على الاغتمام انتفاءُ الحزنِ، والمعنى: أنه غَمَّهم ليُحْزِنَهم عقوبةً لهم على تركِهم مواقعَهم، قاله أبو البقاء. الوجه الثاني: أنها ليست زائدةً، فقال الزمخشري: "معناه: لكي لا تحزنوا لتتمرَّنوا على تَجَرُّعِ الغُموم، وتَضْرَوا باحتمالِ الشدائدِ فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مصيبٍ في المضارِّ" وقال ابن عطية: "المعنى: أنَّ ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم وَرَّطْتُم أنفسَكم، وعادةُ البشرِ أن يصبرَ للعقوبة إذا جنى، وإنما يكثُرُ قَلَقُه إذا ظَنَّ البراءةَ من نفسه.
والثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّق بـ"عَفا" لأنَّ عَفْوَه أذْهَبَ كلَّ حزنٍ. وفيه بُعْدٌ من جهةِ طولِ الفصلِ.
* { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيا أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
(4/208)
---(1/1488)
قوله تعالى: {أَمَنَةً نُّعَاساً}: في نَصْبِ كلٍّ منها أربعة أوجه، الأولُ من وجوه "أَمَنَةً": أنها مفعولُ "أَنْزَل". الثاني: أنها حال من "نُعاساً" لأنها في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّمْ نُصِبَتْ حالاً. الثالث: أنها مفعولٌ من أجله، وهو فاسدٌ لاختلالِ شرطٍ وهو اتحادُ الفاعل، فإنَّ فاعل "أَنْزل" غيرُ فاعلِ الأمَنةِ. الرابع، أنه حالٌ من المخاطبين في "عليكم"، وفيه حنيئذٍ تأويلان: إمَّا على حَذْفِ مُضافٍ أي: ذوي آمنةٍ، وإمَّا أن يكونَ "أَمَنَةً" جمعَ "آمِن" نحو: بار وبَرَرة، وكافِر وكَفَرة.
وأَمَّا "نُعاساً" فإنْ أَعْربنا "أمنةً" مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدلُ اشتمال، لأنَّ كلاًّ مِنْ الأمنةِ والنعاس يشتمل على الآخر، أو عطفَ بيانٍ عند غيرِ الجمهور، فإنهم لا يشترطون جريانَه في المعارف، أو مفعولاً من أجلِه وهو فاسدٌ بما تقدَّم، وإنْ أَعْرَبْنا "أمنةً" حالاً كان مفعولاً بـ"أَنْزل" عطفٌ على قولِه: "فأثابكم"، وفاعلُه ضميرُ اللهِ تعالى، وأل في "الغمّ" للعهدِ، لتقدُّم ذِكْرِه.
ورَدَّ الشيخ على الزمخشري كونَ "آمنةً" مفعولاً له بما تقدَّم،وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال: "أو مفعولاً له بمعنى: نَعِسْتُمْ أَمَنَةً" فقدَّر له عاملاً يتَّحِدُ فاعلُه مع فاعل "أمنةً" فكأنه استشعر السؤالَ، فلذلك قَدَّر عاملاً، على أنه قد يُقال: إنَّ الأمَنة من الله تعالى، بمعنى أنه أَوْقَعها بهم، كأنه قيل: أنزل عليكم النُّعاس ليُؤْمِنَكم به، و"أمنة" كما تكون مصدراً لمِنْ وَقَع به الأمن تكونُ مصدراً لِمَنْ أَوْقعه.
وقرأ [ الجمهور: "أَمَنَةً" بفتح الميم: إمَّا مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع "آمِن" على ما تقدَّم تفصيله. والنخعي وابن محيصن] بسكون الميم، وهو مصدرٌ فقط، وكلاهما للمَرَّة.
(4/209)
---(1/1489)
قوله: {يَغْشَى} قرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالياء من تحت، وخَرَّجوا قراءةَ حمزة والكسائي على أنها صفةُ لـ"أمَنَة" مراعاةً لها. ولا بُدَّ من تفصيلٍ وهو: إنْ أَعْرَبوا "نُعاساً" بدلاً أو عطفَ بيان أَشْكَلَ قولُهم مِنْ وجهين، أحدُهما: أنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أوعطفُ البيان، قُدِّمتِ الصفةُ وأُخِّر غيرُها. وهنا قد قَدَّموا البدلَ أو عطفَ البيانِ عليها. والثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن تُحَدِّث عن البدل لا عن المبدل منه تقول: "هندٌ حسنُها فاتِنٌ" ولا يجوزُ: "فاتنةٌ" إلا قليلاً، فَجَعْلُهم "نُعاساً" بدلاً من "أمنة" يَضْعُفُ بهذا، فإنْ قيل: قد جاءَ مراعاةُ المبدلِ منه في قوله:
1471ـ فكأنه لَهِقُ السَّراةِ كأنه * ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فقال: "مُعَيَّن" مراعاةً للهاء في "كأنه"، ولم يراعِ البدلَ وهو "حاجَبْيه" ومثلُه قولُه:
1472ـ إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها * تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْن الأعْضَبِ
فقال: "تَرَكَتْ" مراعاةً للسيوف، ولو راعَى البدلَ لقال: "تركا". فالجواب: أن هذا ـ وإنْ كان قد قال به بعض النحويين مستنداً إلى هذين البيتين ـ مؤولٌ بأنَّ "مُعَيَّن" خبرٌ عن "حاجبيه" لجريانهما مَجْرى الشيء الواحدِ في كلام العرب، وأنَّ نَصْبَ "غدوها ورواحها" على الظرفِ لا على البدل، وقد تقدَّم لنا شيء من هذا عند قوله: {عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
(4/210)
---(1/1490)
}. وإنْ أَعربوا "نُعاساً" مفعولاً من أجلِه لَزِم الفصلُ بني الصفة والموصوفِ بالمفعولِ له، وكذا إنْ أَعْربوا"نعاساً" مفعولاً به، و"أَمَنَةً" حالاً يلزم الفصلُ أيضاً، وفي جوازه نظرٌ. والأحسنُ حنيئذٍ أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما حكمُ هذه الأمَنَة؟ فأخبرَ بقوله "تَغْشى"، ومَنْ قرأ بالياء أعاد الضمير على "نُعاساً" وتكون الجملةُ صفةً له. و"منكم" صفة لـ"طائفة" فيتعلق بمحذوف.
قوله: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} في هذه الواو ثلاثةُ اوجهٍ، أحدُها: أنَّها واوُ الحالِ، وما بعدها في محلِّ نصب على الحالِ، والعاملُ فيها "يَغْشى", والثاني: أنها واوُ الاستئنافِ، وهي التي عَبَّر عنها مكمي بواوِ الابتداءِ، والثالث: أنها بمعنى "إذ" ذكره مكي وأبو البقاء وهو ضعيفٌ. و"طائفةٌ" مبتدأ، والخبرُ "قد أَهَمَّتْهُمْ أنفسُهم"، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأحد شيئين: إمَّا للاعتماد على واوِ الحال، وقد عَدَّه بعضُهم مُسَوِّغاً، وإنْ كان الأكثرُ لم يذكروه، وأنشد:
1473ـ سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاءَ فمذْ بدا * مُحيِّاكِ أَخْفَى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ
وإمَّا لأنَّ الموضعَ موضعُ تفصيلٍ، فإنَّ المعنى: يَغْشى طائفةً، وطائفةٌ لم يَغْشَهم، فهو كقولِه:
1474ـ إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له * بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوِّلِ
ولو قُرىء بنصب "طائفةً" على أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقل فإني لم أحفظه قراءة.
(4/211)
---(1/1491)
وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه، أحدها: أنه "قد أَهَمَّتْهُم" كما تقدم، الثاني: أنه "يظنون" والجملةُ قبلَه صفةٌ لـ"طائفة". الثالث: أنه محذوفٌ، أي ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفتان لـ"طائفة"، أو يكونُ "يظنون" حالاً من مفعول "أهمَّتْهم" أو مِنْ "طائفة" لتخصُّصه بالوصف، أو خبراً بعد خبر إنْ قلنا إنَّ "قد أهمتهم" خبرٌ أولُ، وفيه من الخلاف ما مَضَى غيرَ مرة. الرابع: أنَّ الخبر "يقولون"، والجملتان قبلَه على ما تقدَّم من كونهما صفتين أو خبرين، أو إحداهما خبرٌ والأخرى حالٌ، ويجوزُ أَنْ يكون "يقولون" صفةً، أوحالاً أيضاً إنْ قلنا: إنَّ الخبرَ الجملة التي قبله، أو قلنا إنَّ الخبرَ مضمر.
وقوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاء: "غيرَ الحق" مفعولٌ أولُ أي: أمراً غير الحق، و"بالله" هو المفعول الثاني". وقال الزمخشري: "غير الحق" في حكم المصدر، ومعناه: يَظُنُّون باللهِ غيرَ الحق الذي يجب أن يُظَّنَّ به، و"ظنَّ الجاهلِية"، بدلٌ منه، ويجوز أن يكونَ المعنى: "يظنون باللهِ ظَنَّ الجاهلِية"، و"غيرَ الحق" تأكيدٌ لـ"يظنون" كقولِك: "هذا القولُ غيرُ ما تقول"، فَعَلى ما قال لا يتعدَّى "ظنَّ" إلى مفعولين، بل تكونُ الباءُ ظرفيةً للظن، كقولك: "ظننت بزيد" أي: جعلْتُه مكانَ ظنِّي"، وعلى هذا المعنى حَمَل النحويين قوله:
1475ـ فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ * سَراتُهمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
أي: اجعلوا ظنكم في أَلفَي مُدَجَّج. وتحصَّل في نصب "غير الحق" وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ أولُ لـ"يظنون". والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملةِ التي قبلَه بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشري.
(4/212)
---(1/1492)
وف ينصب ِ"ظنَّ الجاهليةَ" وجهان أيضاً: البدلُ من "غيرَ الحق"، أو أنه مصدرٌ مؤكد لـ"يظنون"، و"بالله": إمَّا متعلق بمحذوف على جَعْله/ معفولاً ثانياً، وإمَّا بفعل الظن على ما تقدم, وإضافةُ "الظن" إلى "الجاهلية" قال الزمخشري: "كقولك: "حاتمُ الجودِ، ورجلُ صدقٍ" يريد الظنَّ المختصَّ بالملةِ الجاهلية، ويجوز أن يراد: ظنَّ أهلِ الجاهلية" وقال غيرُه: "المعنى: المدة الجاهلية أي: القديمة قبل الإسلام نحو: حَمِيَّة الجاهلية".
قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ}: "مِنْ" في "من شيء" زائدةٌ في المبتدأ، وفي الخبر وجهان، وأصحُّهما أنه "لنا"، فيكون "من الأمر" في محلِّ نصب على الحال من "شيء" لأنه نعت نكرةٍ قُدِّم عليها فينتصبُ حالاً. ويتعلق بمحذوف. والثاني: ـ أجازه أبو البقاء ـ أن يكون "من الأمر" هو الخبر، و"لنا" تبيين، وبه تتِمُّ الفائدةُ كقولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وهذا ليس بشىء لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلَّق بمحذوف، وإذا كان كذلك فيصير "لنا" من جملةٍ أخرى، فتبقى الجملة من المبتدأ أو الخبر غيرَ مستقلة بالفائدة، وليس نظيراً لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فإن "له" فيها متعلِّق بنفس "كفواً" لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ: "لم يكن أحد قائلاً لبكر" فـ"لبكر" متعلق بنفس الخبر.
(4/213)
---(1/1493)
وهل هذا الاستفهامُ على حقيقتِه؟ فيه وجهان أظهرهما: نعم، ويعنون بالأمر: النصرَ والغلبةَ. والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر ـ أي النصر ـ شيءٌ، وإليه ذهب قتادة وابن جريج، ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ} فإنَّ مَنْ نَفَى عن نفسِه شيئاً لا يُجاب بأَنْ يُثْبَتَ لغيرِه، لأنه مُقِرٌّ بذلك، اللهم إلا أَنْ يُقَدِّر جملةً أخرى ثبوتيةً مع هذه الجملةِ فكأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيء، بل لِمَنْ أَكْرَهَنا على الخروج، وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يَحْسُن الجواب بقوله {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا.
وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراضٌ بين الجمل التي جاءت بعد قوله: {وَطَآئِفَةٌ} فإنَّ قولَه: {يُخْفُونَ فِيا أَنْفُسِهِم} وكذا "يقولون" الثانية: إمَّا خبرٌ عن "طائفة" أو حال مِمَّا قبلها.
وقرأ الجماعة "كلَّه" بالنصب، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه تأكيدٌ لاسم "إن". والثاني ـ حكاه مكي عن الأخفش ـ أنه بدلٌ منه، وليس بواضحٍ. و"لله" خبرُ "إنْ". وقرأ أبو عمرو: "كلُّه" رفعاً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه رفع بالابتداء، و"لله" خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّ" نحو: "إنَّ مالَ زيد كلُّه عنده". والثاني: أنه توكيدٌ على المحلِّ، فـ"إنَّ" اسمُها في الأصل مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزجاج والجرميّ، يُجرون التوابع كلها مُجْى عطفِ النسق، فيكونُ "لله" خبراً لـ"إنَّ" أيضاً. و"يُخْفون": إمَّا خبرُ لـ"طائفة" أو حالٌ مِمَّا قبله كما تقدم. وأما "يقولون" فيحتمل هذين الوجهين، ويحتمل أَنْ يكون تفسيراً لقوله "يُخْفون" فلا محلَّ له حينئذ.
(4/214)
---(1/1494)
وقوله: {مَّا قُتِلْنَا} جوابٌ "لو"، وجاء على الأفصحِ: فإنَّ جوابَها إذا كان منفياً بـ"ما" فالأكثر عدمُ اللامِ، وفي الإِيجاب بالعكس. وقوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ} وقد عُرِف الصحيحُ من الوجهين.
وقد أَعْرَب الزمخشري هذه الجملَ الواقعة بعد قوله: {وَطَآئِفَةٌ} إعراباً أفضى إلى خروجِ المبتدأ بلا خبر، ولا بد من إيراد نَصِّه ليتبيِّنَ ذلك، قال رحمه الله: "فإنْ قلت كيف مواقعُ هذه الجمل التي بعد قوله: {وَطَآئِفَةٌ}؟ قلت: "قد أهَمَّتْهُمْ" صفةٌ لـ"طائفة" و"يظنون" صفةٌ أخرى أو حال، بمعنى: قد أهمَّتْهم أنفسهم ظانِّين، أو استئناف على وجه البيان للجملةِ قبلها، و"يقولون" بدلٌ من "يظنون". فإن قلت: كيف صَحَّ أن يقع ماهو مسألةٌ عن الأمر بدلاً من الإِخبار بالظن؟ قلت: كانت مسألتهم صادرةً عن الظن فلذلك جاز إبدالُه منه، و"يُخفون" حال من "يقولون"، و{إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ} اعتراضٌ بين الحال وذي الحال، و"يقولون" بدلٌ من "يُخْفون"، والأجوُد أَنْ يكون استئنافاً" انتهى كلامه. وهذا من أبي القاسم بناءً على أن الخبر محذوف كما قَدَّمْتُ لك تقريرَه [في]: "ومنكم طائفةٌ" لأنه موضعُ تفصيل.
قوله: {لَبَرَزَ} جاء على الأفصح، وهو ثبوت اللام في جوابها مثبتاً، والجمهورُ "لبرز" مخففاً مبيناً للفاعل، وأبو حيوة: "لبُرِّز" مشدداً مبنياً للمعفول، عدَّاه بالتضعيف. وقرىء "كَتَب" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، "القتلَ" مفعولارً به، والحسن: "القتالُ" رفعاً.
(4/215)
---(1/1495)
قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ قبله، تقديرُه: فَرَض اللهُ عليكم القتالَ ولم ينصُرْكم يومَ أُحد ليبتلي ما في صدوركم وقيل: بفعلٍ بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء. وقيل: الواوُ زائدةٌ واللام متعلقة بما قبلها، وقيل: "وليبتلي" عطفٌ على "ليبتلي" الأولى، وإنما كُرِّرت لطولِ الكلام، فعُطِف عليه "وليمحِّص" قاله ابن بحر. وقيل: هو عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي، وجَعَلَ متعلَّقَ الابتلاءِ ما انطوى عليه الصدورُ، والذي انطوى عليه الصدر هو القلب، لقوله: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وجَعَل متعلَّقَ التمحيص ـ وهو التصفية ـ ما في القلب وهو النيِّياتُ والعقائد.
* { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقوله تعالى: {الْجَمْعَانِ}: إنما ثُنِّي ـ وإن كان اسمَ جمع وقد نَصَّ النحاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ إلا شذوذاً ـ لأنه أُريد به النوعُ، فإنَّ المعنى: جَمْعُ المؤمنين وجَمْعُ المشركين، فلما أُريد به ذلك ثُنِّي كقوله:
1476ـ وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحلٍ وإنْ هما * تعاطَى القَنا قوماً هما أخَوان
والسين في "استَنْزَلَهم" للطلب، والظاهرُ أن استفعل هنا بمعنى أَفْعَل لأنَّ القصةَ تَدُلُّ عليه، فالمعنى حَمَلَهم على الزلة، ويكون كاسْتَبَلَّ وأَبَلَّ.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
(4/216)
---(1/1496)
قولُه تعالى: {إِذَا ضَرَبُواْ}: "إذا" ظرفٌ مستقبل فلذلك اضطربت أقوالُ المُعْرِبين هنا من حيث إنَّ العاملَ فيها: "قالوا" وهو ماضٍ، فقال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف قيل: "إذا ضَرَبوا" مع "قالوا"؟ قلت: هو حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ كقولك "حين يضربون في الأرض". وقال أبو البقاء بعد قوله قريباً من قول الزمخشري: "ويجوز أن يكونَ "كفروا" و"قالوا" ماضيين، ويرادُ بهما المستقبلُ المحكيُّ به الحالُ، فعلى هذا يكون التقديرُ: يكفرون ويقولون" انتهى. ففي كِلا الوجهين حكايةٌ حالٍ، لكنْ في الأولِ حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ، وفي الثاني مستقبلةٌ، وهو من هذه الحيثيَّةِ كقوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} وقد تقدَّم. ويجوزُ أَنْ يُراد بـ"قال" الاستقبالُ لا على سبيلِ الحكاية، بل لوقوعِه صلةً لموصولٍ، وقد نَصَّ بعضُهم على أنَّ الماضيَ إذا وقَع صلةً لموصولٍ صَلَح للاستقبال نحو: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ}، وإلى هذا نحا ابن عطية، قال: "ودخلت إذا ـ وهي حرف استقبال ـ من حيث "الذين" اسمٌ مُبْهَمٌ يَعُمُّ مَنْ قَال في الماضي ومَنْ يقول في الاستقبال، ومِنْ حيث هذه النازلةُ تُتَصَوَّرُ في مستقبلِ الزمان" يعني فتكون حكايةَ حالٍ مستقبلة.
وقيل: "إذا" تقديرُه: "وقالوا لهلاكِ إخوانهم" أي مخافةَ أن يَهْلَكَ إخونُهم إذا سافروا أو غزَوا، فقدَّر العاملَ مصدراً مُنْحَلاًّ لـ"أَنْ" والمضارع حتى يكونَ مستقبلاً قال: "ولكن؟ْ يصيرُ الضميرُ في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} عائداً على "إخوانهم" في اللفظ وهو لغيرهم في المعنى أي: يعودُ على إخوانٍ آخرين وهم الذي تقدَّمَ موتُهم بسببِ سفرٍ أو غزو، وقَصْدُهم بذلك تثبيطُ الباقين، وهو نظيرُ: "درهمٌ ونصفه"، {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وقول النابغة:
(4/217)
---(1/1497)
1477ـ قالَتْ: ألا ليتما هذا الحمامُ لنا * إلى حمامتِنا ونصفُه فَقَدِ
أي. نصفُ درهمٍ آخرَ، ومُعَمَّرٍ أخرَ، وحمامٍ آخرَ".
واللامُ في "لإخوانهخم" للعلةِ، وليسَتْ هنا للتبليغ كالتي في قولِك: "قلت لزيدٍ: افعل كذا".
والجمهورُ على "غُزَّى" بالتشديد جمع "غازٍ" وقياسُه: غُزَاة كرام ورُماة، ولكنهم حَمَلوا المعتلَّ على الصحيح في نحو: ضارِب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم. والزهري والحسن: "غُزَى" بتخفيفها، وفيه وجهان: أنه خَفَّف الزايَ كراهيةَ التثقيلِ في الجمعِ. والثاني: أنَّ أصلَه "غُزاة" كقُضاة ورُماة، ولكنه حَذَفَ تاءَ التأنيث، لأنَّ نفسَ الصيغةِ دالَّة على الجمعِ، فالتاءُ مستغنىً عنها. وقال ابن عطية: وهذا الحذف كثيرٌ في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي:
1478ـ أبى الذَّمُّ أخلاقَ الكسائي وانْتَحى * به المجدُ أخلاقَ الأُبُوِّ السَّوابقِ
يريد: "الأبوة" جمع أب، كما ان "العمومة" جمع عَمّ"، و"البُنُوَّة" جمعُ ابن، وقد قالوا: ابن وبُنُوّ. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا: بأنَّ الحَذْفَ ليس بكثيرٍ، وأنَّ قوله: "حُذِفَت التاءُ من "عُمومة" ليس كذلك، بل الأصل "عُموم" من غير تاء/، ثم أَدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على "فُعول" من غير تاءٍ فهو الأصلُ نحو: عُموم وفُحول، وما جاءَ فيه التاءُ فهو الذي يَحْتاج إلَى تأويِلِه بالجمعِ، لم يُبْنَ على هذه التاءِ حتى يُدَّعى حَذْفُها، وهذا بخلاف "قُضاة" وبابِه بُني عليها فيمكنُ ادِّعاءُ الحَذْفِ فيه، وأما "أُبُوّة" و"بُنُوّة" فليسا جَمْعَيْن بل مصدَرَيْن وأمَّا "أُبُوّ" في البيت فهو شاذ عند النحاةِ من جهةِ أنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يُعِلَّه فيقول: "أُبِيّ" بقلبِ الواوين ياءين نحو: عُصِيّ.
(4/218)
---(1/1498)
ويُقال: غُزَّاء بالمدِّ أيضاَ وهو شاذٌّ، ويتَحَصَّل في "غازٍ" ثلاثةُ جموعٍ في التكسير: غُزاة كقُضاة، وغُزَّى كصُوَّم، وغُزَّاء كصُوّام، وجمعٌ رابع جمعُ سلامة، والجملةُ كلها في محل نصب بالقول.
قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ} في هذه اللام قولان، أحدهما: أنها لام "كي" والثاني: أنها لام العاقبة والصيرورة، وعلى القول الأول فبِمَ تتعلَّق هذه اللام؟ وفيه وجهان، فقيل: التقدير: أَوْقَعَ ذلك أي القول ـ أو المُعْتَقَد ـ ليجعلَه حسرةً، أو نَدَمُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء، وأجاز الزمخشري: أن تتعلَّقَ بجملة النهي، وذلك على منعنيين باعتبارِ ما يرُاد باسمِ الإِشارة على ما سيأتي بيانُه في كلامِه: أمَّا الاعتبارُ الأول فإنه قال: "يعني: لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القول واعتقادِه ليجعله اللهُ حسرةً في قلوبِهم خاصة، ويصونَ منها قلوبَكم" فجعل "ذلك" إشارةً إلى القولِ والاعتقادِ. وأمَّا الاعتبارُ الثاني فإنه قال: "ويجوزُ أَنْ يكونَ "ذلك" إشارةً إلى ما دَلَّ عليه النهيُ أي: لا تكونوا مثلَهم ليجعلَ اللهُ انتفاءَ كونكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم، لأنَّ مخالَفَتهم فيما يقولون، ويعتقدون مِمَّا يَغُمُّهُمْ ويَغيظهم".
(4/219)
---(1/1499)
وقد رَدَّ عليه الشيخ المعنى الأولَ بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، ولا بد من إيراد ليتبيَّنَ لك. قال بعد ما حكى عنه ما نقلْتُه في المعنى الأول: "وهذا كلام مثبج لا تحقيقَ [فيه] لأَنَّ جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا. إنما يكونُ سبباً لحصولِ امتثالِ النهي، وهو انتفاء المماثلةِ، فحصولُ ذلك الانتفاء والمخالفةِ فيما يقولون ويعتقدون يَحْصُل عنه ما يَغيظهم ويَغُمُّهُمْ إذ لم يُوافِقُوهم فيما قالوه واعتَقَدُوه فلا تَضْرِبوا ولا تَغْزوا، فالتبس على الزمخشري استدعاءُ انتقاءِ المماثلةِ بحصولِ الانتفاء،وفَهْمُ هذا فيه خَفاءٌ ودِقَّةٌ" انتهى. ولا أدري ما وجهُ تثبيجِ كلام أبي القاسم، وكيفَ ردَّ عليه على زعمه بكلا مه؟
وقال الشيخ أيضاً: "وقال ابنُ عيسى ـ يعني الرماني ـ وغيرُه اللامُ متعلقةٌ بالكون، أي لا تكونوا كهؤلاءِ ليجعلَ اللهُ ذلك حسرة في قلوبهم دونَكم، ومنه أخَذَ الزمخشري في قولِه، لكنَّ ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بَيَّنَّا فسادَ هذا القول". انتهى. وقوله: "وذلك لم ينصَّ" بل قد نَصَّ، وقال: "فإنْ قلت ما متعلَّقُ ليجعلَ؟ قلت: "قالوا" إلى آخره، أو بقوله: "لا تكونوا"، وأيُّ نصٍ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوزُ تَعَلُّق هذه اللامِ ـ ومعناها التعليل ـ بـ"قالوا" لفساد المعنى، لأنهم لم يقولوه لذلك بل لتثبطِ المؤمنينِ عن الجهاد.
(4/220)
---(1/1500)
وعلى القولِ الثاني ـ أعني كونَها للعاقبةِ ـ تتعلَّقُ بـ"قالوا" والمعنى: أنَّهم قالوا ذلك لغرضٍ من أغراضِهم، فكانَ عاقبةُ قولِهم ومصيرُه إلى الحسرةِ والنَّدامَةِ كقولِه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}، لم يلتِقطوه لذلك، لكنْ كان مآلُه لذلك، ولكنَّ كونَها للصيرورةِ لم يَعْرِفْه أكثرُ النحويين، وإنما هو شيء يَنْسِبونَه للأخفش، وما وَرَدَ من ذلك يؤولونه عَلى العكسِ من الكلام نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ}، وهذا رأي الزمخشري، فإنه شَبَّه هذه اللام باللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً}، ومذهبُه في تَيْكَ أنها للعلة بالتأويل المذكور. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير، و"حسرةً" مفعولٌ ثانٍ، و"في قلوبهم" يجوزُ أن يتعلَّق بالجَعْل ـ وهو أبلغُ ـ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للنكرة قبله.
واختُلف في المُشار إليه بذلك: فعن الزجاج: هو الظن، ظنوا أنهم لو لم يَحْضُروا لم يُقْتَلوا. وقال الزمخشري: "هو النطق بالقول والاعتقاد". وقريبُ منه قول ابن عطية، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يكونَ للنهي والانتهاء معاً. وقيل هو مصدرُ "قال" المدلولِ عليه به.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "يَعْلمون" بالغيبةَ ردَّاً على الذين كفروا، والباقون بالخطابَ ردَّاً على قوله: {لاَ تَكُونُواْ} فهو خطابٌ للمؤمنين. وجاء هنا بصفة البصر، قال الراغب: "عَلَّق ذلك بالبصر لا بالسمعِ، وإنْ كان الصادرُ منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً، لمَّا كان ذلك القولُ من الكافر قصداً منه إلى عمل يُحاوِلُه، فَخَصَّ البصرَ بذلك، كقولك لمَنْ يقولُ شيئاً وهو يَقْصِدُ فِعْلاً يُحاوله: أنا أرى ما تفعله".
* { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
(4/221)
---(1/1501)
قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ}: اللامُ هي الموطِّئةُ لقسمٍ محذوفٍ، وجوابُه قولُه: {لَمَغْفِرَةٌ} وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه لكونِه دالاًّ عليه، وهو الذي عَنَاه الزمخشري بقوله: "وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط" ولا يعني بذلك أنَّه من غيرِ حذفٍ. واللام لام الابتداء، وهي وما بعدها جواب القسم كما تقدم.
و"مغفرةٌ" فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مروفوعةٌ بالابتداء، والمسوِّغات هنا كثيرة: لام الابتداء والعطف عليها في قوله: {وَرَحْمَةٌ} ووصفُها، فإنَّ قوله: {مِّنَ اللَّهِ} صفةٌ لها، ويتعلق حينئذٍ بمحذوف، و{خَيْرٌ} خبرٌ عنها. والثاني: أن تكونَ مرفوعة على خبر ابتداء مضمر، إذا أُريد بالمغفرةِ والرحمةِ القتلُ أو الموتُ في سبيل الله، لأنهما مقترنان بالموتِ في سبيلِ الله، فيكونُ التقدير: فذلك ـ أي الموتُ أو القتلُ في سبيلِ الله ـ مغفرةٌ ورحمةٌ خير، ويكون "خير" صفةً لا خبراً، وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال: "وتحتمل الآية أن يكونَ قولُه: {لَمَغْفِرَةٌ} إشارةً إلى الموت أو القتل في سبيل الله، فَسَمَّى ذلك مغفرةً ورحمة، إذ هما مقترنان به، ويجيء التقدير: فذلك مغفرةٌ ورحمة، وترتفعُ المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله: "خير" صفةٌ لا خبرٌ ابتداء" انتهى. ولكنَّ الوجهَ الأولَ أظهرُ، و"خير" هنا على بابِها من كونِها للتفضيلِ، وعن ابن عباس: "خيرٌ من طِلاع الأرض ذهبةً حمراءَ".
(4/222)
---(1/1502)
وقوله: {وَرَحْمَةٌ} أي: ورحمةٌ من الله، فَحُذِفَتْ صفتُها لدلالة الأولى عليها، ولا بدُدَّ من حَذْفٍ آخر مُصَحِّحٍ لملعنى، تقديرُه: لمغفرة من الله لكم ورحمةً منه لكم. وجاء بالمغفرةِ والرحمةِ نكرتين إيذاناً بأنَّ أَدنى خيرٍ وأقلَّ شيء خيرٌ من الدنيا وما فيها الذي يجمعونه، وهو نظير {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، والتنكيرُ قد يُشْعِرُ بالتقليل، و"ما" في قولِه {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ أي: مِنْ جَمْعِكم المالَ ونحوه.
* { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {مُتُّم} و{مُتُّ}: وبابه بضم الميم، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين، والباقون بالكسر. فأمّا الضم فلأنه فَعَل بفتح العين من ذوات الواو، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه: إمَّا من أول وهلة، وإمَّا بأن نبدلَ الفتحةَ ضمةً ثم نَنْقُلَها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين، فيقال في "قام" وقال وطال: قُمت وقُمنا وقُمن وطُلت وطُلن وما أشبه، ولهذا جاء مضارعُه على يَفْعُل نحو: يَمُوت. وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة مَنْ يقول: مات يمات كخاف يخاف، والأصلُ: مَوِت بكسر العين كَخوِف فجاء مضارعه على يَفْعَل بفتح العين. قال الشاعر:
1479ـ بُنَيَّتي سيدةَ البنات * عِيشي ولا يُؤْمَنُ أَنْ تَماتي
(4/223)
---(1/1503)
فجاء بمضارعه على يَفْعَل بالفتح، فعلى هذه/ اللغة يَلْزَم أن يقال في الماضي المسند إلى التاءِ وإحدى أخواتها: "مِتُّ" بالكسرِ ليس إلا، وهو أنَّا نَقَلْنا حركةَ الواو إلى الفاء بعد سَلْبِ حركتِها دلالةً على بنيةِ الكلمة في الأصلِ. وهذا أَوْلى مِنْ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ "مِتَّ" بالكسر مأخوذٌ من لغة من يقول: "يَمُوت" بالضم في المضارع، وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحاً، وإذا ثَبَتَ ذلك لغةً فلا معنى إلى ادِّعاء الشذوذ فيه. وأمَّا حفص فجمع بين اللغتين.
وقرأ الجماعة: "تَجْتَمعُون" بالخطاب جرياً على قوله: "ولئن قُتِلتم"، وحفص بالغيبة: إمَّا على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
وهذه ثلاثة مواضع: تقدَّم الموتُ على القتل في الأول منها وفي الأخير، والقتلُ على الموت في المتوسط، وذلك أنَّ الأول لمناسبةِ ما قبله من قوله: "إذا ضَرَبَوا في الأرض أو كانوا غُزَّى" فرجعَ الموتُ لِمَنْ ضَرَب في الأرض، والقتلُ لِمَنْ غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلُّ تحريضٍ على الجهاد فَقَدَّم الأهمَّ الأعرفَ، وأمَّا الآخرُ فلأنَّ الموتَ أغلبُ.
وقوله: {لإِلَى الله} اللامُ جوابُ القسم فهي داخلةٌ على {تُحْشَرُونَ}، و"إلى الله" متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاصِ أي: إلى الله لا إلى غيره يكونُ حشرُكُم، أو للاهتمام، وحَسَّنَه كونُه فاصلةً، ولولا الفصلُ لوجب توكيدُ الفعل بنونٍ، لأنَّ المضارعَ المثبت إذا كانَ مستقبلاً وَجَبَ توكيدُه مع اللام خلافاً للكوفيين، حيثُ يجيزون التعاقبَ بينهما، كقوله:
1480ـ وقتيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنه * .....................
فجاءَ بالنونِ دونَ اللامِ، وقوله:
1481ـ لِئَنْ تكُ قد ضَاقَتْ عليكم بيوتُكم * لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسِعٌ
(4/224)
---(1/1504)
فجاء باللامِ دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورةَ. فإنْ فُصِل بين اللام بالمعمول كهذه الآية أو بـ"قد" نحو: "والله قد أقوم" وقوله:
1482ـ كَذَبْتِ لقد أُصْبي على المَرْء عِرْسَه * .........................
أو بحرفِ تنفيس نحو: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} فلا يجوزُ توكيده حينئذ بالنون. قال الفارسي: دخلتِ النونُ فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء، ولامُ الابتداء لا تدخل على الفَضْلة، فبدخول لام اليمين على الفَضْلة حَصَلَ الفرقُ فلم يُحْتَجْ إلى النون، وبدخولِها على "سوف" حَصَل الفرقُ أيضاً فلا حاجةً إلى النونِ، ولامُ الابتداء لا تَدْخُل على الفعلِ إلا إذا كان حالاً، أمَّا مستقبلاً فلا".
* { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
(4/225)
---(1/1505)
قوله تعالى: {فَبِمَا}: في "ما: وجهان، أحدهُما: أنها زائدةٌ للتوكيدِ والدلالةِ على أن لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من الله، ونظيرُه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ}. والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ، بل هي نكرة وفيها وجهان، أحدهُما: أنها موصوفةٌ برحمة، أي: فبشيء رحمةٍ, والثاني: أنها غيرُ موصوفة، و"رحمةٍ" بدلٌ منها، نقله مكي عن ابن كيسان. ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ، و"رحمةٍ" بدلٌ منها، كأنه أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال. وجَوَّز بعضُ الناس ـ وعَزاه الشيخ لابن خطيب الريّ ـ أنَّ "ما" استفهاميةٌ للتعجب تقديرُه: فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم، وذلك فِإنَّ جنايتَهم لَمَّا كانت عظيمة ـ ثم إنه ما أظهر تغليظاً في القول ولا خشونةً في الكلام ـ علموا أنَّ ذلك لا يتأتَّى إلا بتأييد ربَّاني قبلَ ذلك. وردَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ تُجْعَلَ "ما" مضافةً إلى "رحمة"، وهو ظاهرُ تقديرِه كما حكاه عنه، فيَلْزَمُ إضافةُ "ما" الاستفهاميةِ، وقد نَصُّوا على أنه لا يُضاف من أسماءِ الاستفهام إلا "أيّ" اتفاقاً، و"كم" عند الزجاج ، وإمَّا أَنْ لا تجعلَها مضافةً، فتكونُ "رحمةٍ" بدلاً منها، وحينئذ يلزمُ إعادةُ حرف الاستفهام في البدل كما تقرَّر في علم النحو، وأنحى عليه في كلامه فقال: "وليته كان يُغْنيه عن هذا الارتباكِ والتسلُّقِ إلى ما لا يُحْسِنُه قولُ الزجاج في "ما" هذه إنها صلةٌ فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين" انتهى.
(4/226)
---(1/1506)
وليس لقائلٍ أن يقولَ له: أَنْ يجعلَها غيرَ مضافةٍ ولا يجعلَ "رحمة" بدلاً حتى يلزمَ إعادةُ حرفِ الاستفهامِ بل يَجْعَلُها صفةً؛ لأنَّ "ما" الاستفهامية لا تُوصف، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي، كان لا يُجَوِّزُ أن يقال في القرآن: "هذا زائدٌ" أصلاً. وهذا فيه نظرٌ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً لا يَعْنُون أنه يجوزُ سقوطُه ولا أنه مهمل لا معنى له، بل يقولون: زائدٌ للتوكيد، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن، "وما" كما تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين "عَنْ" و"مِنْ" والكاف ومجرورها كما سيأتي.
وقال مكي: "ويجوز أن ترتفعَ "رحمةٍ" على أَنْ تَجْعَلَ "ما" بمعنى الذي، وتُضْمِرَ "هو" في الصلة وتَحْذِفَها كما قرىء: {تماماً على الذين أحسنُ}. وقولُه: "ويجوزُ" يعني من حين الصناعمةُ، وأمَّا كونُها قراءةً فلا أحفظها.
والفَظَاظَة: الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً. قال:
1483ـ أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ * وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى الكَلِمِ
والغُِلْظُ: تكثير الأجزاء، ثم تُجُوِّز به في عدمِ الشفقةِ وكثرةِ القسوة في القلب قال:
1484ـ يُبْكَى علينا و لا نَبْكي على أحدٍ * لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإِبلِ
(4/227)
---(1/1507)
وقال الراغب: الفظُّ كريه الخُلُق وذلك مستعارٌ من الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِش، وذلك مكروه شربُه إلا في ضرورةٍ"، قال: "الغِلْظَةُ: ضدُّ الرِّقة، ويقال: غُلْظة وغِلْظة أي بالكسر والضم" وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ؟ فقيل: قُدِّم ماهو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب، لأنه كما تقدَّم أنَّ الفَظاظةَ: الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً، والغِلْظُ: قساوةُ القلب، هذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً، وجُمِع بينهما تأكيداً. والانفضاضُ: التفرُّق في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه: "فُضَّ خَتْمُ الكتابِ" ثم استُعير عنه "انفضاضُ الناسِ" ونحوِهم.
وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} إلى أخره جحاء على أحسنِ النسق، وذلك أنه أَمَر أولاً بالعفوِ عنهم فيما يتعلَّقُ بخاصةِ نفسه، فإذا انتهَوا إلى هذا المقام أُمِرَ أن يَسْتغفِرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاحَ عنهم التَّبِعَتانت، فلمَّا صاروا إلى هذا أُمِر بأنْ يُشاوِرَهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التَّبِعَتَيْن مُصَفَّيْن منهما، والأمرُ هنا وإنْ كان عاماً فالمرادُ به الخصوص، قال أبو البقاء: "إذ لم يُؤْمَرْ بمشاورتِهم في الفرائِض، ولذلك قرأ ابن عباس: "في بعضِ الأمر". وهذا تفسيرٌ لا تلاوة.
وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه السلام. وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها، على أنها لله تعالى على معنى: فإذا أرشَدْتُك غليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه، وجاء قوله: {عَلَى اللَّهِ} من الالتفات، إذ لو جاء على نَسَقِ هذا الكلامِ لقيل: فتوكَّلْ عليَّ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: "ثم عَزَمَ الله لي" وذلك على سبيل المجاز.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} جارٍ مَجْرى العلةِ الباعثةِ على التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمر/.
(4/228)
---(1/1508)
* { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ}: شرطٌ وجوابُه. وقوله: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} مثلُه، وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، كذا قاله الشيخ، يعني من الغَيْبة في قوله: {لِنتَ لَهُمْ} و{لاَنْفَضُّواْ} و{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ}. وفيه نظرٌ. وجاء قولُه: {فَلاَ غَالِبَ} جواباً للشرط وهو نفيٌ صريح، وقولُه {فَمَن ذَا الَّذِي} وهو متضمِّنٌ للنفي جواباً للشرط الثاني تلَطُّفاً بالمؤمنين حيث صَرَّح لهم بعدم الغَلَبةِ في الأولِ، ولم يُصَرِّحْ لهم بأنه لا ناصِرَ لهم في الثاني، بل أتى في صورةِ الاستفهامِ وإنْ كان معناه نفياً.
وقوله: {فَمَن ذَا الَّذِي} قد تقدَّم مثلُه في البقرة وأقوالُ الناس فيه. والهاءُ في "مِنْ بعدِه" فيها وجهان، أحدُهما ـ وهو الأظهر ـ أنها تعودُ على اللهِ تعالى، وفيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ بعدِ خِذْلانِه. والثاني: أنه لا يُحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلام: إنكم إذا جَوَّزْتموه إلى غيرِه وقد خَذَلكم فَمَنْ تجاوزون إليه وينصُركم؟ والوجه الثاني: أن تعودَ على الخِذْلان المفهوم من الفعلِ وهو نظيرُ: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ
}. قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} إنَّما قَدَّم الجارَّ ليؤذن بالاختصاص أي: ليخُصَّ المؤمنون ربَّهم بالتوكُّل عليه والتفويضِ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواه، وهو معنىً حسن ذكره الزمخشري. وقرأ الجمهور: "ويَخْذُلْكم" بفتح الياء مِنْ "خَذَله" ثلاثياً، وقرأ عبيد بن عمير: "يُخْذِلْكم" بضمها مِنْ أخذل رباعياً، والهمزةُ فيه لجَعْل الشيءِ ، أي: يَجْعَلْكم مخذولين.
(4/229)
---(1/1509)
* { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}: [:"أَنْ يَغُلًّ" في محلِّ رفعٍ اسمَ كان، و"لنبي" خبرٌ مقدم] أي: ما كان له غُلول أو إغْلال على حَسَبِ القراءتين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ "غَلَّ" مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة. وقرأ الباقون "يُغَلَّ: مبنِّياً للمفعول. وهذه القراءةُ فيها احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من "غَلَّ" ثلاثياً، والمعنى: ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه، فهو نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَغُلُّه أحدٌ. والاحتمال الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً، وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من أَغَلَّه: أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم: أَكْذَبْتُه أي: نَسَبْتُه إلى الكذب، وهذا في المعنى كالذي قبله أي: نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول. والثاني: أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم: أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي: وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً. والظاهر أن قراءة "يَغُلَّ" بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ، لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك: "هو يعطي ويمنع" تريدُ إثباتَ هاتَين الصفتين. وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال: "تقديرُه: أَنْ يَغُلَّ المالَ أو الغنيمةَ".
(4/230)
---(1/1510)
واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا: لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ "ما كان لكذا أن يفعل" أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى.
والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة. وأصلُه منْ "خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها" أي: تركَتْه منفرداً، ولهذا قيل لها: خاذِل. ويقال للولدِ المتروك أيضاً: خاذِل، وهذا على النسب، والمعنى أنها مخذولةٌ، قال يُجَيْر:
1485ـ بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ * من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا
ويُقال له أيضاً: خَذول، فَعُول بمعنى مَفْعول. قال:
1486ـ خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ * تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي
ومنه يُقال: تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ" قال الأعشى:
1487ـ بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ * وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ
ومعنى المادة: هذا الترك الخاص.
والغُلول في الأصلِ: تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها، والغَلَلُ: تَدَرُّعُ الشيء وتوسُّطه، ومنه: "الغَلَلُ" للماءِ الجاري بين الشجر، والغِلُّ: الحِقْدُ لكُمونه في الصدر، وتَغَلْغَلَ في كذا: إذا دخَل فيه وتوسَّط، قال:
1488ـ تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ * ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
فالغُلولُ الذي هو الأخْذُ في خُفْيَةٍ مأخوذٌ من هذا المعنى، ومنه: أَغَلَّ الجازِرُ" إذا سرق أو ترك في الإِهاب شيئاً من اللحم. وفَرَّقت العربُ بين الأفعالِ والمصادرِ فقالوا: غَلَّ يَغُلُّ غُلولاً بالضَّمِّ في المصدر والمضارع إذا خان، وغل يَغِلُّ غِلاًَّ بالكسر فيهما. قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي حِقد.
(4/231)
---(1/1511)
قوله: {وَمَن يَغْلُلْ} الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جِيء بها للرَّدْع عن الإِغلالِ. وزعم أبو البقاء أنها يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، ويكونُ التقديرُ: في حال علم الغَالِّ بعقوبةِ الغُلول، وهذا وإنْ كان محتَمَلاً ولكنه بعيدٌ. و"ما" موصولةٌ بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ أي: غِلُّه، ويَدُلُّ على ذلك الحديثُ: "إنَّ أحدَهم يأتي بالشيء الذي أخذَه على رقبتِه". ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونُ على حَذْفِ مضاف أي: بإثمِ غلولِه.
وقولُه: {ثُمَّ تُوَفَّى} هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أنَّ الغالَّ وغيرَه مِنْ جميعِ الكاسبين لا بُدَّ وأن يُجازوا فيندردَ الغالُّ تحت هذا العموم أيضاً فكأنه ذُكِر مرتين. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هَلاَّ قيل: "ثم يُوَفَّى ما كسَب" ليتصلَ به. قلت: جِيء بعامٍّ دخَل تحتَه كلُّ كاسبٍ من الغالِّ وغيرِه فاتَّصل به من حيثُ المعنى، وهو أثبتُ وأبلغُ".
* { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ}: الكلاُ على مثلِه قد تقدَّم مِنْ أنَّ الفاءَ النيةُ بها التقديمٌ على الهمزةِ، وأن مذهبَ الزمخشري تقديرُ فعلٍ بينهما. قال الشيخ: "وتقديرُه في مثلِ هذا التركيبِ متكلَّفٌ جداً". انتهى. والذي يَظْهَرُ من التقديرات: "أحَصَل لكم تمييزُ بين الضالِّ والمُهْتدي، فَمَنِ أتَّبع رضوانَ اللهِ واهتدى ليس كَمَنْ باءَ بخطِه وغلَّ". لأنَّ الاستفهامَ هنا للنفي. و"مَنْ" هنا موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفع بالابتداء، والجارُّ والمجرورُ الخبرُ. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ تكونَ شرطاً، لأنَّ "كَمَنْ" لا يصلُح أن يكونَ جواباً" يعني لأنَّه كان يَجِبُ اقترانُه بالفاءِ، ولأنَّ المعنى يأْباه.
(4/232)
---(1/1512)
و"بسَخَطٍ" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعلِ أي: رَجَع بسَخَطِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: رجَع مصاحباً لسَخَطه أو ملتسباً به. و"مِنَ الله" صفتُه. والسَّخَط: الغضبُ الشديد، ويقال: "سَخَط" بفتحتين وهو مصدرٌ قياسي، ويقال: "سُخط" بضمِّ السين وسكونِ الخاء، وهو غيرُ مقيسٍ، ويقال: "هو في سُخْطَةِ المَلِك" بالتاءِ أي: في كراهةٍ منه له.
قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} في هذه الجملةِ احتمالان: أن تكون مستأنفةً، أخبر أنَّ مَنْ باءَ بسَخَطِه أَوَى إلى جهنَّم. ويُفْهضمُ منه مقابله وهو: أنَّ مَنِ اتَّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سَكَتَ عن هذا ونَصَّ على ذلك ليكونَ أبلغَ في الزجر، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ في هذه الجمل تقديرُه: أفَمَنْ ابتع ما يؤولُ به إلى رضا الله فباء برِضاه كَمَنِ اتَّبع ما يَؤُول به إلى سَخَطه.
والثاني: أنها داخلةٌ في حَيِّز الموصولِ، فتكونُ معطوفةً على "باء بسخط"، فيكونُ قد وَصَل الموصولَ بجملتين اسميةٍ وفعلية، وعلى كلا الاحتمالَيْن لا محلَّ لها من الإِعراب. والمخصوصُ بالذمِّ محذوف أي: وبئس المصيرُ جهنمُ. واشتملت هذه الآياُ على الطباق في قوله: "يَنْصُرْكم ويَخْذُلْكم"، وفي قولِه: "رضوان الله وسخطه"، والتجنيسُ المماثِلُ في قولِه: "يَغْلُلْ" و"بماغلَّ".
* { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ}: متبدأُ وخبرٌ، ولا بُدَّ من تأويل في الإِخبار بالدرجات عن "هك" لأنها ليست إياهم، فيجوزُ أَنْ يكنَ جُعِلوا نفسَ الدرجاتِ مبالغةً، والمعنى: أنَّهم متفاوتون في الجزاءِ على كَسْبهم، كما أنَّ الدرجاتِ متفاوتةٌ، والأصلُ على التشبيه أي:/ هم مثلُ الدرجات في التفاوت، ومنه قوله:
1489ـ أنَصْبٌ للمنيَّةِ تَعْتَرِيهمْ * رجالي أم هُمُ دَرَدُ السُّيولِ
(4/233)
---(1/1513)
ويجوزُ أَنْ يكونَ على حذفِ مضافٍ أي: ذوو درجات أي: أصحاب منازلَ ورتبٍ في الثوابِ العقاب.
وأجاز ابن الخطيب أن يكونَ الأصلُ: "لهم درجات" فحُذفت اللام، وعلى هذا يكونُ "درجاتٌ" مبتدأ ما قبلَها الخبرُ. وقد رَدَّ عليه بعضُ الناس، وجَعَل هذا مِنْ جَهْلِهِ وجهلِ متوعيه من المُفَسِّرين بلسانِ العربِ وقال: "لا مساغَ لحذفِ اللامِ البتة، لأنها إنما تُحْذَفُ في مواضعَ يُضْطَرُّ إليها، وهنا المعنى واضحٌ مستقيمٌ مِنْ غيرِ تقديرِ حَذْفٍ"، ولعَمْري إنَّ ادِّعاء حذفِ اللامِ خطأٌ، والمخطيءُ معذورٌ، ولكن قد نُقِل عن المفسرين هذا، ونُقل عن ابن عباس والحسن: "لكلٍّ درجاتٌ من الجنةِ والنار"، فإنْ كان هذا القائل أَخَذَ من هذا الكلامِ أنَّ اللامَ محذوفةٌ فهو مخطيْ، لأنَّ هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ يُفَسِّرون المعنى لا الإِعرابَ اللفظي. وقرأ النخعي: "درجةٌ" بالإِفراد عل الجنس.
و"عند الله" فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّق بـ"درجات" على المعنى لِما تضمَّنت من معنى الفعل، كأنه قيل: هم متفاضلون عند الله، وأَنْ يتعلق بمحذوفٍ صفةً لدرجات، فيكونَ في محل رفع.
* { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }
(4/234)
---(1/1514)
قوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ}: جوابٌ لقسم محذوف. وقرىء "لِمنْ مَنِّ الله" بـ:مِنْ" الجارة، و"مَنٍّ: بالتشديدِ مجرورٌ بها. وخَرَّجه الزمخشري على وجهين، أحدُهما: أَن يكونَ هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديرُه: "لِمنْ مَنِّ الله على المؤمنين مَنُّه أو بَعْثُه إذ بعث، فحُذِف لقيام الدلالة، والثاني: أنه جُعِل المبتدأُ نفسَ "إذ" بمعنى وقت، وخبرُها الجارُّ قبلَها تقديرُه: لِمْن مَنِّ اللهِ على المؤمنين وقتُ بعثه، ونَظَّره بقولِهم: "أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ إذا كان قائماً". وهذان الوجهانِ في هذه القراءةِ مِمَّا يَدُلاَّن على رسوخِ قدمِه في هذا العلمِ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ عليه الوجَه الثاني بأنَّ "إذ" غيرُ متصرفةٍ، لا تكمونُ إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسمُ زمان، أو مفعولةً باذكر على قولٍ. ونَقَل قولَ أبي علي فيها وفي "إذا" أنها لا تكونان فاعلين ولا مفعولين ولا مبتدأين. قال: "ولا يُحْفَظُ مِنْ كلامِهم: إذ قام زيدٌ طويلٌ" يريد: وقتُ قيامِه طويلٌ، وبأنَّ تنظيرَه القراءةَ بقولِهم: "أخطبُ" إلى آخره خطأ، من حيث إنَّ المشبه متبدأٌ والمُشَبَّه [به] ظرفٌ في موضعِ الخبرِ عند مَنْ يُعْرِبُ هذا الإِعرابَ، ومِنْ حيث إنذَ هذا الخبرَ الذي قد أبْرزه ظاهراً واجبُ الحذفِ لسدِّ الحالِ مسدَّه، نصَّ عليه النحويون الذين يُعْرِبونه هكذا فكيف يُبْرِزُه في اللفظِ". وجوابُ هذا الردَّ واضحٌ، وليت أبا القاسم لم يَذْكُرْ تخريجَ هذه القراءةِ حتى كنا نسمع.
والجمهورُ على ضَمِّ السين من "أنفسهم" أي: مِنْ جملتهم وجنسهم. وقرأت عائشة وفاطمة والضحاك ـ ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم ـ بفتح الفاء من النَّفاسة، وهي الشرف أي: أشرفِهم نسباً وخَلْقاً وخُلُقاً. وعن علي عنه عليه السلام: "أنا أَنْفَسُكم نَسَباً وحَسَباً وصِهْراً".
(4/235)
---(1/1515)
وهذا الجارُّ يَحْتمل وجهين أحدُهما: أَنْ يتعلَّقش بنفس "بعث". والثاني: أن يتعلًَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ لـ"رسولاً" فيكونُ منصوبَ المحلِّ، ويَقْوى هذا الوجهُ على قراءةِ فتح الفاء, وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ} في محل حال أو مستأنف، وقد تقدَّم نظيرُها في البقرة.
وقوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي} هي "إنْ المخففةُ واللام فارقة، وقد تقدَّم الكلامُ على تحقيق هذا والخلافِ فيه. إلاَّ أنَّ الزمخشري ومكيّاً هنا حين جعلاها مخففةً قدَّرا لها اسماً محذوفاً، فقال الزمخشري: "تقديرُه: وإنَّ الشأنَ والحديثَ كانوا من قبل". وقال مكمي: "وأمَّا سيبويهِ فإنه يقول إنّضها محففةٌ واسمُها مضمرٌ، والتدقيرُ: على قولِه: "وإنهم كانوا". وهذا ليس بجيد، لأنَّ "إنْ" المخففةَ إنما تعمل في الظاهرِ على غير الأفصحِ، ولا عمل لها في المضمر، ولا يُقَدَّرُ له اسمٌ محذوفٌ البتَّةَ، بل تُهْمَلُ أو تعمل على ما تقدَّم، مع أنَّ الزمخشري لم يُصَرِّحْ بأنَّ اسمَها محذوفٌ، بل قال: "إنْ هي المخففةُ واللاُ فارقةٌ، وتقديرُه: وإنَّ الشِأن والحديثَ كانوا" فقد يكونُ هذه تفسيرَ معنىً لا إعرابٍ.
وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ, والثاني: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعولِ في "يُعَلِّمُهم" وهو الأظهرُ.
* { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(4/236)
---(1/1516)
قوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ}: الهمزةُ للإِنكار، وجَعَلَها ابن عطية للتقرير، والواوُ عاطفةٌ، والنيةُ بها التقديمُ على الهمزةَ على ما تقرر. وقال الزمخشري: "و" لَمَّا" نصبٌ بقلتم، و"أصابَتْكم" في محجل الجر بإضافة "لَمَّا" إليه، وتقديره، "قلتم حين أصابتكم" و"أنَّى" هذا نُصِب لأنه مقولٌ والهمزةُ للتقريعِ والتقريرِ. فإنْ قلت: علامَ عَطَفَتِ الواوُ هذه الجملةَ؟ قلت: على ما مضى من قصةِ أُحُد من وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}، ويجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على محذوفٍ تقديرُه: أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا" انتهى.
أمَّا جَعْلُه "لَمَّا" بمعنى "حين" أي ظرفاً فهو مذهبُ الفارسي، وقد تقدّضم تقريرُ المذهبين، وأمَّا قولُه: "عَطْفٌ على قصةِ أُحُد"؛ فهذا غيرُ مذهبِه؛ لأنَّ الجاريَ من مذهبه إنما هو تقديرُ جملةٍ يُعْطَفُ ما بعد الواوِ عليها أو الفاءِ أو ثم كما قَرَّره هو في الوجه الثاني.
(4/237)
---(1/1517)
و"أنى هذا" أنَّى: بمعنى "مِنْ أين" كما تقدَّم في قولِه {أَنَّى لَكِ هَاذَا}. ويَدُلُّ عليه قولُه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} و"من عند الله" قاله الزمخشري. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الظرفَ إذا وقَعَ خبراً لا يُقَدَّر داخلاً عليه حرفُ جر غيرُ "في"، "أمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخلاً عليه "مِنْ" فلا، لأنه إنما انتصبَ على إسقاطِ "في" ولذلك إذا أُضْمِر الظرفُ تعدَّى إليه [الفعلُ] بـ"في" إلاَّ أَنْ يُتََّسَعَ فيه. قال: "فتقديرُه غيرُ سائغٍ واستدلاله بقولِه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} {من عند الله} وقوفٌ مع مطابقةِ السؤالِ للجواب في اللفظِ وذُهولٌ عن هذه القاعدةِ". واختار الشيخُ أنَّ "أَنَّى" بمعنى "كيف" قال: "وأنَّى سؤالٌ عن الحالِ هنا، ولا تناسِبُ أَنْ تكونَ بمعنى "أين" أو "متى"؛ لأنَّ الاستفهامَ لم يَقَعْ عن مكانٍ ولا زمانٍ هنا، إنما وقع عن الحالِ التي اقتضَتْ لهم ذلك، سألواعنها على سبيل التعجُّبِ، وجاءَ الجوابُ من حيثُ المعنى لا من حيث اللفظُ في قولِه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}. قال: "السؤلُ" بـ"أنَّى" سؤالٌ عن تعيين كيفيةِ حصولِ هذا الأمرِ، والجوابُ بقولِه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} يضمَّن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السببِ تتعيَّن الكيفيةُ مِنْ حيث المعنى، لو قيل على سبييلِ التعجبِ: كيف لا يَحُجُّ زيدٌ الصالحُ!! فقيل في جوابه: "لعدم استطاعته" لحصل الجواُ وانتظم من المعنى أنه لا يَحُجُّ وهو غيرُ مستطيع" انتهى. أمَّا قولُه: "لا يُقَدَّر الظرفُ بحرفِ جرٍ غير "في" فالزمخشري لم يُقَدَّر "في" مع "أنَّى" حتى يلزَمَه ما قال، إنما جَعَل "أنَّى" بمنزلةِ "من أين" في المعنى. وأمَّا عدوله عن الجوابِ الطابقِ لفظاً فالعكسُ أولى. وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ} في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"مصيبة". و"قلتم" على مذهبِ سيبويه جوابُ لـ"لَمَّا"، وعلى مذهبِ الفارسي ناصبٌ لها، على حَسَبِ ما تقدَّم من مذهبيهما.(1/1518)
(4/238)
---
والضميرُ في قوله "قل" هو راجع على المصيبة من كحيث المعنى. ويجوز/ أن يكون على حذف مضاف مُرَاعَىً أي: سببُها، وكذلك الإشارةُ بقوله: "أنّى هذا" لأنَّ المرادَ المصيبةُ.
* { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ}: "ما" موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء. و{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الخبر، وهو على إضمارٍ تقديرُه: فهو بإذنِ الله، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو: الذي يأتيني فله درهم" وهنذا على ما قَرَّره الجمهورُ مُشْكِلٌ، وذلك أنهم قَرَّروا أنه لا يجوز دخولُ هذه الفاء زائدةً في الخبر إلا بشروط، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى، وذلك أنَّ الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط، والشرط إنما يكونُ في الاستقبالِ لا في الماضي، لو قلت: "الذي أتاني أمس فله درهم" لم يَصِحَّ، و"أصابَكم" هنا ماضٍ في المعنى لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فكيف جاز دخولَ هذه الفاءِ؟
وأجابوا عنه بأنه يُحْمَلُ على البيين أي: "وما تبَيَّن إصابته إياكم" كما تأوَّلوا: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} أي: نْ تَبَيَّن، وهذا شرطٌ صريح. قلت: وإذا صح هذا التأويل فَلتُجْعل "ما" هنا شرطاً صريحاً، وتكونُ الفاء داخلةً وجوباً لكونِها واقعة جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: "يَحْسُن دخولُ الفاءِ إذ1ا كان سببَ الإِعطاءِ، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أَذِن اللهُ فيه فهو الذي أبابكم، لكنْ قَدَّم الأهَمَّ في نفوسِهم والأقربَ إلى حِسِّهم. والإِذْنُ: التمكين من الشيء منع العلم به" وهذا حسنٌ مِِنْ حيث المعنى، فإنَّ الإِصابةَ مترتبةٌ على الإِذْن من حيث المعنى. وأشارَ بقولِه "الأهَمَّ والأَقربَ إلى ما أصابَهم يوم التقى الجَمْعان.
(4/239)
---(1/1519)
قوله: "وَلِيعٍلَمَ" في هذه اللامِ قَوْلان: أحدُهما: أنها معطوفةٌ على معنى قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} عطفَ سببٍ على سببٍ، فتتعلَّقُ بما تتعلَّق به الباءُ. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: ولِيَعْلَمَ فَعَلَ ذلك، وأي: أصابكم, والأول أَوْلَى، وقد تقدَّم أنَّ معنى "ولِيَعْلَمَ اللهُ كذا" أي تمميزاً ويُظْهرَ للناسِ ما كان في عِلْمِه. وزعم بعضُهنم أن ثم مضافاً أي: ليعلم إيمانَ المؤنين ونفاق الذين، ولا حاجة إليه.
* { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }
قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ}: هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ استئنافيةً، أخبر الله أنهم مأمورون: إمَّا بالقتالِ وإمَّا بالدَّفعِ أي: تكثيرِ سواد المسلمين: والثاني: أن تكون معطوفة على "نافقوا"، فتكون داخلةً في حَيِّز الموصول أي: وليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقولُ بكذا، و"تعالوا" "وقاتِلوا" كلاهما قائمٌ مقام الفاعل لـ"قيل" لأنه هو المقولُ، وقد تقدَّم ما فيه. قال أبو البقاء: "إنما لم يَأْتِ بحرفِ العطفِ ـ يعني بين تعالوا وقاتِلوا ـ لأنه قَصَدَ أن تكونَ كلُّ من الجملتين مقصودةً بنفسِها، ويجوز أَنْ يُقال إنَّ المقصودَ هو الأمرُ بالقتال، و"تعالَوا" ذَكَرَ ما لو سَكَتَ عنه لكان في الكلام ما يَدُلُّ عليه، وقيل: الأمر الثاني حال". يعني بقوله: "وتعالوا ذكرَ ما لو سَكَت" أي: المقصودُ إنما هو أمرُهم بالقتالِ لا مجيئُهم وحدَه، وجَعْلُه "قاتلوا" حالاً من "تعالوا" فاسدٌ؛ لأنَّ الجملة الحالية يُشْترط أن تكون خبريةً وهذه طلبيةٌ.
(4/240)
---(1/1520)
قوله: {أَوِ ادْفَعُواْ} "أو" هنا على بابِها من التخييرِ والإِباحة. وقيل: بمعنى الواو لأنه طَلَبَ منهم القتالَ والدفعَ، والأولُ هو الصحيح. وقوله: "قالوا: لو نعلمُ" إنما لم يأتِ في هذه الجملةِ بحرفِ عطفٍ لأنها جوابٌ لسؤالِ سائلٍ: كأنه قيل: فما قالوا لَمَّا قيل لهم ذلك؟ فأُجيب بأنهم قالوا ذلك. و"نعلمُ" ونْ كان مضارعاً فمعناه المُضِيُّ لأن ":لو" تُخَلِّص المضارع ـ إذ كانت لِما سيقع لوقوع غيره ـ [للمضيّ]. ونكَّر "قتالاً" أي: لو عَلِمْنا بعضَ قتالٍ ما.
قوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ} "هم" مبتدأٌ و"أقربُ" خبرُهخ، وهو أفعلُ تفضيلٍ، و"للكفر" متعلقٌ به، وكذلك "للإِيمان". فإنْ قيل: لا يتعلَّقُ حرفا جر متحدان لفظاً ومعنىً بعامل واحدٍ، إلاَّ أن يكون أحدُهما معطوفاً على الآخر أو بدلاً منه، فكيف تعلَّقاً بـ أقرب"؟ فالجواب أنَّ هذا خاصٌّ بأفعلِ التفضيل قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنَّ قولَك: "زيدٌ أفضلُ من عمرو" معناه: يزيدُ فضلُه على فضل عمر. وقال أبو البقاء: "وجاز أن يعملَ "أقربُ" فيهما لأنهما يُشْبِهان الظرف، وكما علم "أطيبُ" في قولهم: "هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطباً" في الظرفينِ المقدَّرين، لأنَّ "أفعلَ" يَدُلُّ على معنيين: على أصل الفعل وزيادتِه، فيعملُ في كلِّ واحدٍ منهما بمعنى غيرِ الآخر، فتقديرُه: يَزيدُ قربُهم إلى الكفرِ على قُرْبِهم إلى الإِيمان". ولا حاجة إلى تشبيه الجارَّيْنِ بالظرفين، لأن ظاهره أن المسوِّغَ لتعلُّقِهما بعاملٍ واحدٍ شِبْهُهُما بالظرفين، وليس كذلك، وقولُه: "الظرفين المقدرين" يعني أنَّ المعنى: هذا في أوانِ بُسْرِيَّتِه أطيبُ منه أوانَ رُطَبِيَّتِه.
(4/241)
---(1/1521)
و"أقربُ" هنا من القُرْب الذي هو ضد البُعْد، ويتعدَّى بثلاثةِ حروفٍ: اللام و"إلى" و"مِنْ"، تقولُ: قَرُبْتُ لك وإليك ومنك، فإذا قلت: "زيدٌ أقربُ من العلمِ من عمروٍ "فـ" مِنْ" الأولى المُعَدِّيةُ لأصلِ معنى القرب، والثانيةٌ هي الجارة للمفضولِ. وإذا تقرَّر هذا فلا حاجةَ إلى ادِّعاء أنَّ اللامَ بمعنى إلى.
و"يومئذ" متعلِّقٌ بـ"أقربُ"، وكذا "منهم"، و"مِنْ" هذه هي الجارَّةُ للمفضولِ بعد أَفْعل، وليسَتْ هي المُعَدِّيةَ لأصلِ الفعل. ومعنى "هم للكفرِ أقربُ مهم يومئذْ للإِيمان" أنهم كانوا قبلَ هذا الوقتِ كاتمين للنفاق، فكانوا في الظاهرِ أبعدَ مِنَ الكفر، فلمَّا ظَهَرَ منهم ما كنوا يكتُمُونه صاروا أقربَ للكفر.
و"إذ" مضافَةٌ لجملةٍ محذوفةٍ عَوِّضَ منه التنوينُ كما تَقَدَّم تقريرُه، وتقديرُ هذه الجملةِ، "هم للكفرِ يومَ إذ قالوا: لو نعلمُ قتالاً لا تَّبعناكم" وقيل: المعنى على حَذْفِ مضافٍ أي: هم لأهلِ الكفر أقربُ لأهلِ الإِيمان. وفُضِّلوا هنا على أنفسِهم باعتبارِ حالين ووقتين. ولولا ذلك لم يَجُزَ. تقولُ: "زيدٌ قاعداً أفضلُ منه قائماً" أو: "زيدٌ قاعداً اليومَ أفضلُ منه قاعداً غداً" ولو قلت: "زيدٌ اليومَ قاعداً أفضلُ منه اليومَ قاعداً" لم يجز.
وحكى النقاش عن بعض المفسرين أنَّ "أقرب" هنا ليست من معنى القرب الذي هو ضد البعد، وإنما هي من القَرَب بفتح القاف والراء، وهو طَلَب الماء، ومنه "قاربَ الماء"، وليلةُ القَرَب: ليلةُ الورود، فالمعنى: هم أطلبُ للكفر، وعلى هذا فتتعيَّن التعديةُ باللام، على حَدِّ قولك" "زيدٌ أضربُ لعمروٍ".
(4/242)
---(1/1522)
قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محالَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في: "أقرب" أي: قَرُبوا للكفر قائلين هذه المقالة. وقوله: "بأفواهِهم" قيل: تأكيدٌ كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}. والظاهرُ أنَّ القولَ يُطلق على اللسانيّ والنفسانيّ فتقييدُه بأفواههم تقييدُ لأحدِ محتملين، اللهم إلا أَنْ يُقال: إنَّ إطلاقَه على النفساني مجازٌ. قال الزمخشري: "وذِكْرُ القلوبِ مع الأفواه تصويرٌ لنفاقِهم، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط" وبهذا الذي قاله الزمخشري ينتفقي كونُه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة.
* { الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ}: جَوَّزوا في موضع "الذين" الألقابَ الثلاثة: الرفعَ والنصبَ والجرَّ، فالرفعُ من ثلاثة أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين. الثاني: أنه بدل من واو "يكتمون". الثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ قولُه: {قُلْ فَادْرَءُوا} ولا بد من حَذْفِ عائدٍ تقديرُه: قل لهم فادرؤوا. والنصبُ من ثلاثة أوجه أيضاً، أحدُها: النصبُ على الذم أي أذُمُّ الذين قالوا. والثاني: أنه بدل من "الذين ناقوا" الثالث: أنه صفةٌ لهم. والجَرُّ من وجهين: البدل من الضميرِ في "بأفواهِهم"، أو من الضمير في "قلوبِهم" كقولِ الفرزدق:
1490ـ على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً * على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ
بجر "حاتم" على أنه بدلٌ من الهاءِ في "جوده"، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المسألة.
(4/243)
---(1/1523)
وقال الشيخ: وجَوَّزوا في إعرابِ "الذين" وجوهاً: الرفع على النعت لـ"الذين نافقوا"، أو عىل أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في "يكتمو"، والنصبُ فذكره إلى أخره. وهذا عجيبٌ منه لأنَّ "الذين نافقوا" منصوبٌ بقوله "وليعلَم"، وهم في الحقيقة عَطْفٌ على "المؤمنين"، وإنما كَرَّر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يَخْفى عليه ما هو أشكلُ من هذا، فيُحتمل أن يكونَ تبع غيره في هذا السهو، وهو الظاهر في كلامه، ولم يَنْظُر في الآية اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأَنْ يُعْتَقَدَ أنَّ "الذين" فاعلٌ بقوله: "وليعلَم" أي: "فَعَلَ الله ذلك ليَعْلم هو المؤمنين وليَعْلم المنافقون" ولكنَّ مثل هذا لا ينبغي أن يجوزَ البتة.
قوله: {وَقَعَدُواْ} يجوز في هذه الجملة وجهان أحدهما: أن تكون حالية من فاعل "قالوا" و"قد" مرادةٌ، أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو وقد، أو بأحدهما، أو بدونهما ثابتٌ من لسان العرب. والثاني: أنها معطوفةٌ على الصلةِ فتكونُ معترضةً بين "قالوا" ومعمولِها وهو "لو أطاعونا.
* { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ}: مفعول أول، و"أمواتاً" مفعولٌ ثان، والفاعلُ: إمّضا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في نظائره.
(4/244)
---(1/1524)
وقرأ حميد بن قيس وهشام ـ بخلاف عنه ـ "يَحْسَبَنَّ" بياء الغيبة. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه مضمرٌ: إمَّا ضميرُ الرسول، أو ضمير مَنْ يَصْلُح للحُسْبان أَيَّ حاسبٍ. والثاني: ـ قاله الزمخشري ـ وهو أن يكون "الذين قُتِلوا" قالِ: "ويجوزُ أَنْ كيون "الذين قُتِلوا" فاعلاً، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإنْ قلت: كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله: "بل أحياءٌ" أي: هم أحياءٌ، لدلالة الكلام عليهما.
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره، وذلك لايجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ، وعدَّ باب: رُبَّه رجلاً، ونِعْم رجلاً زيدٌ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه، والبدلُ على خلاف فيه، وضمير الأمر. قال : "وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [الظاهر] المفسِّر خبراً، وبأنّ حَذْفَ أحد مفعولي "ظن" اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً، نَصَّ عليه الفارسي، ومَنَعه ابن ملكون البتة".
وهذا من تَحَمُّلاته عليه. أمَّا قولُه "يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره" فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمَّا أراد أن يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بفلظ "أنفسهم" المنصوبةِ وهي المفعول الأول، وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفعوةٌ تأكيدٌ للضمير في "قُتلوا"، ولم ينتبه أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً. وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك، وما عليه من أبنِ مَلْكون؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو غيرُه إلى حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً. وتقدَّم الكلام على مادة "حَسِب" ولغاتِها وقراءاتها.
(4/245)
---(1/1525)
وقرأ ابن عامر: "قُتِّلوا" بالتشديد، وهشام وحده في "لو أطاعونا ما قُتِّلوا"، والبقاون بالتخفيف. فالتشديد للتكثير، والتخفيف صالح لذلك.
وقرأ الجمهور "أحياءٌ" رفعاً على "بل هم أحياء" وقرأ ابن أبي عبلة: "أحياءً" وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين، أحدهما أن تكمون عطفاً على "امواتاً" قال: "كما تقول: "ظننت زيداً قائماً بل قاعداً". والثاني: ـ وإليه ذهب الزمخشري أيضاً ـ أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره: بل أحسَبُهم أحياءً. وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في "الإِغفال" قال: "لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ له إلا فعلُ المحسبة، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة: اعقِدْهم أو اجْعَلْهم، وذلك ضعيفلإ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر" انتهى. وهذا تحاملٌ من أبي عليّ. أمَّا قوله: "إنَّ الأمر تعيَّن" يعني أنَّ كونَهم أحياءً أمرٌ متيقن، فكيف يُقال فيه: "أَحْسَبُهم" بفعل يقتضي الشك؟ وهذا غيرُ لازم لأنَّ "حَسِبَ" قد تأتي لليقين. قال:
1491ـ حَسِبْتُ التُّقَى والجودَ خيرَ تجارةٍ * رَباحاً إذا ما المرءُ أَصبح ثاقِلا
وقال آخر:
1492ـ شهدْتِ وفاتوني وكنتُ حَسِبْتُني * فقيراً إلى أَنْ يَشْهدوا وتَغِيبي
فـ"حَسِب" في هذين البيتين لليقين، لأنَّ المعنى على ذلك، وقوله: "وذلك ضعيف" يعني من حيث عدمُ الدلالةِ اللفظيةِ، وليس كذلك، بل إذا أَرْشَد المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءٌ لدلالة المعنى عليه من غير ضَعْف، وإنْ كان دلالةُ اللفظِ أحسنَ. وأمَّا تقديرُه هو "أو اجْعَلْهم" قال الشيخ: "هذا لا يَصِحُّ البتة سواء جَعَلْتَ "أجْعَلْهم" بمعنى: "اخْلُقْهم أو صَيِّرهم أو سَمِّهم أو الْقَهُمْ".
(4/246)
---(1/1526)
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُهما: أَنْ يكونَ خبراً ثانياً لـ"أحياءٌ" على قراءة الجمهور. الثاني: أن يكونَ ظرفاً لـ"أحياء" لأنَّ المعنى: يَحْيَوْن عند ربِّهم. الثالث: أن يكونَ ظرفاً لـ"يُرْزقون" أي: يقعُ رِزْقُهم في هذا المكانِ الشريف. الرابع: أن يكون صفةً لـ"أحياء"، فيكونَ في محلِّ رفعٍ على قراءةِ الجمهورِ ونصبٍ على قراءة ابن أبي عبلة. الخامس: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "أحياء" والمرادُ بالعندية المجازُ عن قربهم بالتكرمة. قال ابن عطية: "هو على حَذْفِ مضاف إي: عند كرامةِ ربهم" ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الأولَ أليق.
قوله: {يُرْزَقُونَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبراً ثالثاً لأحياء، أو ثانياً إذا لم تَجْعَلِ الظرفَ خبراً. الثاني: أنه صفةٌ لـ"أحياء" بالاعتبارين المقتدمين، فإِنْ أعربنا الظرفَ وصفاً أيضاً فيكونُ هذا جاءَ على الأحسنِ، وهو أهن إذا وُصِف بظرفٍ وجملةٍ فالأحسنُ تقديمُ الظرفِ عديلِه لأنه أقربُ إلى المفرد. الثالث: أنه حالٌ من الضمير في "أحياء" أي: يَحْيَون مرزوقينت. والرابع: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الظرف، العاملُ فيه في الحقيقة العاملُ في الظرف. قال أبو البقاء في هذا الوجه: "ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الظرفِ إذا جَعَلْتَه صفةً" أي: إذا جَعَلْت الظرف، وليس ذلك مختصاً بجَعْلِه صفةً فقط، بل لو جَعَلْتَه حالاً جاز ذلك أيضاً، وهذه تُسَمَّى الحالَ المتداخلة، ولو جَعَلْتَه خبراً كان كذلك.
* { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(4/247)
---(1/1527)
قوله تعالى: {فَرِحِينَ}: فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ حالاً من الضمير في "أحياءٌ". الثاني: من الضمير في الطرف. الثالث: من الضمير في "يُرْزَقون": الرابع: أنه منصوب على المدح. الخامس أنه صفةٌ لـ"أحياء"، وهذا يختصُّ بقراءة ابن أبي عبلة. و"بما" يتعلَّقُ بـ"فرحين".
قوله: {مِن فَضْلِهِ} في "مِنْ" وجهان، أحدُهما: أنَّ معناها السببيّة أي: بسبب فضله أي: الذي آتاهم الله متسبِّبٌ عن فضله. الثاني: أنها لابتداءِ الغاية، وعلى هذين الوجهين تتعلق بآتاهم. الثالث: أنها للتعبيضِ ِأي: بعضَ فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير العائد على الموصول، ولكنه حُذِف والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فضله.
قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} فيه أربعة أوجه، أحدها: أن يكونَ من باب عطفِ الفعلِ على الاسم لكونِ الفعلِ في تأويلهِ، فيكونُ عطفاً على "فرحين" كأنه قيل: فَرِحين ومستبشرين، ونَظَّروه بقوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}. والثاني: أنه أيضاً/ يكونُ من باب عطف الفعل على الاسم، لكنْ لأنَّ الاسم في تأويل الفعل. قال أبو البقاء: "هو معطوفٌ على "فرحين"؛ لأنَّ اسم الفاعل هنا يُشْبه الفعل المضارع" يعني أنَّ "فرحين" بمنزلة "يفرحون"، وكأنه جعله من باب قوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ}، والتقديرُ الأولُ أَوْلى، لأنَّ الاسمَ وهو "فرحين" لاضرورةَ بنا إلى أَنْ نجعلَه في مَحلِّ فعلٍ مضارعٍ حتى نتأَوَّل الاسمَ به، والفعلُ فرعٌ عليه، فينبغي أن يُرَدَّ إليه، وإنما فعلنا ذلك في الآيةِ لأنَّ أل الموصولةَ بمعنى الذي، و"الذي" لا تُوصَلُ إلا بجملة أو شبههِا، وذلك الشَّبَهُ في الحقيقةِ يِتأوَّل بجملة.
الثالث: أَنْ يكونَ مستأنفاً، الواو للعطف عَطَفْت فعليةً على اسمية.
(4/248)
---(1/1528)
الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: وهم يستبشرون، وحينئذ يجوز وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الجملةُ حاليةً من الضمير المستكِنِّ في "فرحين" أو من العائد المحذوف من "آتاهم"، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جَعْلِنا إياها حالاً لأنَّ المضارع المثبت لا يجوز اقترانُه بواو الحال لِما تقدَّم غيرَ مرة. والثاني من هذين الوجهين: أن تكونَ استئنافية عَطَفَتْ جملةً اسميةً على مثلها.
واستغفل هنا ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجردِ نحو: استغنى الله، واستمجد المَرْخ والعَفار" بمعنى غَنِي ومَجُد. وقد سمع "بَشِر الرجل" بكسر العين فيكون استبشر بمعناه، قاله ابن عطية. ويجوز أن يكونَ مطاوعَ أبشر نحو: "أكأنه فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأَحْكمه فاستحكم" وهو كثير. وجَعَله الشيخ أظهرَ مِنْ حيث إنَّ المطاوعة تدلُّ على الانفعال عن الغير، فحصلت لهم البشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزمُ إذا كان بمعنى المجرد.
قوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب"يَلْحقوا" على معنى أنهم قد بَقُوا بعدهم، وهم قد تقدَّموهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من فاعل "يلحقوا" أي: لم يحلقوا بهم حالَ كونِهم مُتَخَلِّفين عنهم أي: في الحياة.
قوله: {أَلاَّ خَوْفٌ} فيه وجهان أحدُهما: أنَّ "أَنْ" وما في حَيِّزها في محل جر بدلاً من "بالذين" بدلَ اشتمال أي: يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم فهم المُسْتَبْشَرُ به في الحقيقة لأنَّ الذواتِ لا يُسْتَبْشَر بها. والثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعولٌ من أجله أي: لأنهم لا خوف. و"أَنْ" هذه هي المخففةُ، واسمها ضيمر الشأن، وجملةُ النفي بعدها في محلِّ الخبر، والذواتُ لا يُسْتبشر بها كما تقدّضم فلا بد من حذف مضاف مناسبٍ، والتقدير: ويستبشرون بسلامةِ الذين، أو لُحوقهم بهم في الدرجة.
(4/249)
---(1/1529)
وقال مكيّ بعد أَنْ حَكَى أنها بدلُ اشتمال: "ويجوز أن تكون "أَنْ" في موضع نصب على معنى "بأن لا". وهذا هو بعينِه هو وجه البدلِ المتقدم، غايةُ ما في الباب أنه أعاد مع البدلِ العاملَ في تقديره، اللهم أَنْ يعني أنها وإنْ كانت بدلاً من "الذين" فليست في محلِّ جر بل في محلِّ نصب، لأنها سقطت منها الباءُ فإنَّ الأصل "بأَنْ لا" و"أَنْ" إذا حُذِف منها حرفُ الجر كانت في محلِّ نصب على رأي سيبويه والقراء. وهو بعيد.
* { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ}: قرأ الكسائي بكسر "إنَّ" على الاستئناف. وقال الزمخشري: "إنَّ قراءةَ الكسرِ اعتراضٌ" واسشكل كونَها اعتراضاً، لأنَّها لم تقع بين شيئين متلازمين" ويمكن أن يُجاب عنه بأن "الذين استجابوا" يجوز أن يكون تابعاً لـ"الذين لم يحلقوا" نعتاً أو بدلاً على ما سيأتي، فعلى هذا يُتَصَوُّرُ الاعتراض. ويؤيِّد كونَها للاستئنافِ قراءةُ عبدالله ومصحفه: "والله لا يُضيع". وقرأ باقي السبعة بالفتح عطفاً على قوله: بنعمةٍ" لأنها بتأويل مصدر أي: يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ منه وعدمِ إضاعةِ اللهِ أجرَ المؤمنين.
(4/250)
---(1/1530)
وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ} من غيرِ حرف عطف فيه أوجه، أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّق بهم أنفسِهم دونَ "الذين لم يحلقوا بهم" لاختلاف متعلِّق البشارتين. والثاني: أنه تأكيدٌ للأول لأنه قَصَد بالنعمة والفضل بيانَ متعلَّق الاستبشار الأول، وإليه ذهب الزمخشري. الثالث: أنه بدل من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً أنه لَمَّا كان متعلَّقُه بياناً لمتعلِّق الأول حَسُن أن يقال: بدلٌ منه، وإلاَّ فكيف يُبْدَلُ فِعْلٌ مِنْ فعلٍ موافقٍ له لفظاً ومعنى؟ وهذا في المعنى يََؤُول إلى وجه التأكيد. والرابع: أنه حال من فاعل "يحزنون"، ويحزنون عامل فيه أي: ولاهم يحزنون حالَ كونهم مشتبشرين بنعمة؟ وهو بعيدٌ لوجهين، أحدهما: أنَّ الظاهرَ اختلافُ مَنْ نَفَى عنه الحزن ومن استَبْشَر. والثاني: أنَّ نَفْيَ الحزن ليسي مقيداً ليكون أبلغَ في البشارة، والحالُ قيدٌ فيه فيفوتُ هذا المعنى.
* { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ}: فيه ستة أوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ}. وقال مكيّ هنا : "وخبرُه {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}. وهذا غلطٌ لأنَ هذا ليس بمفيد البتة، بل "مِنْ بعد" متعلِّقٌ باستجابوا. والثاني: خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار "أعني". وهذان الوجهان يَشْملُهما قولُك "القطع". الرابع: أنه بدل من "المؤمنين". الخامس: أنه بدل من "الذين لم يلحقوا" قاله مكمي. السادس: أنه بدلٌ من "المؤمنين". ويجوز فيه وجهٌ سابع: وهو أن يكون نعتاً لقوله: "الذين لم يلحقوا" قياساً على جَعْلِه بدلاً منهم عند مكي. و"ما" في "بعدما أصابَهم" مصدريةٌ، و"للذين أحسنوا" خبرٌ مقدم.
(4/251)
---(1/1531)
و"منهم" فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير في "أحسنوا" وعلى هذا فـ"مِنْ" تكون تبعيضيةً. والثاني: أنها لبيان الجنس. قال الزمخشري: "مثلُها في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} لأنَّ الذين استجابوا قد أحسنوا كلُّهم واتقوا لا بعضُهم". و"أجرٌ" مبتدأ مؤخر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره: إمَّا مستأنفة أو حالٌ إن لم نُعْرِبْ الذين استجابوا مبتدأ، وإمَّا خبرٌ إنْ أعربناه مبتدأ كما تقدَّم تقريره.
* { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}: فيه من الأوجه ما تقدم في "الذين" قبله، إلاَّ في رفعه بالابتداء.
قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} في فاعلِ "زاد" ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه ضمير يعود على المصدر المفهوم من "قال" أي: فزادهم القولُ بكيب وكيت إيماناً نحو: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والثاني أنه يعودُ على المقولِ الذي هو {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلامَ فزادهم إيماناً. الثالث: أنه يعود على الناس، إذ أريد واحدٌ فردٌ كما نقل في القصة، وسبب النزول وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي، نقل هذه الثلاثةَ الأوجهَ الزمخشري. واستضعف الشيخ الوجهين الأخيرين، قال: "مِنْ حيث إنَّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به لا هو في نفسه، ومن حيث إنَّ الثاني إذا أُطلْق على المفردِ لفظُ الجمع مجازاً فإنَّ الضمائرَ تَجْرى على ذلك الجمعِ لا على المفرد. تقول: "مفارقُه شابَتْ" باعتبارِ الجمع، ولا يجوز: "مفارِقُه شاب" باعتبار: مَفْرِقُه شاب".
(4/252)
---(1/1532)
وفيما قاله الشيخ نظرٌ، لأنَّ المقولَ هو الذي في الحقيقة حَصَل به زيادةُ الإِيمان. وأمَّا قوله: "تَجرْي على الجمع لا على الفرد" فغير مُسَلَّم. ويَعْضُده أنهم نَصُّوا على أنه يجوزُ اعتبارُ لفظِ الجمعِ الواقعِ موقعَ المثنى تارةَ ومعناه أخرى فأجازوا: "رؤوس الكبشين قطعتُهُنَّ وقطعتهما" وإذا ثَبَتَ ذلك في الجمع الواقعِ موقعَ المثنى فليَجُزْ في القواقعِ موقع المفرد. ولقائلٍ أَنْ يُفَرِّق بينهما وهو أنه إنما جازَ أَنْ يُراعَى معنى التثنيةِ المُعَبَّرِ عنها بلفظ الجمع لقَرْبها منه، من حيث إنَّ كلاً منهما فيه ضَمُّ شيء إلى مثلِه بخلافِ المفردِ فإنه بعيدٌ من الجمعِ لعدَمِ الضمِّ فلا يَلْزَمُ مِنْ مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاةُ معنى المفرد.
قوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} عَطَفَ "قالوا" على "فزادهم" والجملةُ بعد القولِ في محلِّ النصب به. وقد تقدَّم أنَّ "حَسْب" بمعنى اسم الفاعل أي: "مُحْسِب" بمعنى الكافي، ولذلك كانت إضافتُه غيرَ محضةٍ عند قوله في البقرة: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ
}. وقوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}/ المخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ أي الله.
* { فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قولُه تعالى: {بِنِعْمَةٍ}: فيه وجهان أحدهما: أنها متعلقةٌ بنفس الفعل على أنها باءُ التعدية. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضميرِ في "انقلبوا"والباءُ على هذا للمصاحبةِ كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسينَ بنعمةٍ ومصاحبين لها.
(4/253)
---(1/1533)
قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} هذه الجملةٌ في محل نصب على الحال أيضاً، وفي ذي الحال وجهان أحدهما: أنه فاعلُ "انقلبوا" أي: انقلبوا سالمين من السوء. والثاني: أنه الضميرُ المستكنُّ في "بنعمة" إذا كانت حلاً، والتقديرُ: فانقلبوا مُنَعَّمين بريئين من السوء، والعامل فيها العاملُ في "بنعمة" فهما حالان متداخلتان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً بـ"لم" وفيها ضميرُ ذي الحال حاز دخولُ الواو وعدمُه، فمِن الأول قولُه تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} وقولُ كعب:
1493ـ لا تَأْخُذَنِّي بأقوالِ الوشاةِ ولم * أُذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ
ومن الثاني هذه الآيةُ وقَولُه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً}، وقولُ قيس بن الأسلت:
1494ـ وأضرِبُ القَوْنَسَ يوم الوغى * بالسيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي
وبهذا يُعْرف غلط الأستاذ ابن خروف حيث زعم أنه الواو لازمةٌ في مثل هذا، سواءً كان في الجملة ضميرُ أم لم يكن.
قوله: {وَاتَّبَعُواْ} يجوز في ِهذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها عطف على "انقلبوا". والثاني: أنها حال من فاعل "انقلبوا" أيضاً، ويكونُ على إضمار "قد" أي: وقد اتبعوا.
* { إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ}: "إنما" حرف مكفوف بـ"ما" عن العمل، وقد تقدَّم القول فيها أولَ هذا الكتاب. وفي إعراب هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكون "ذلكم" مبتدأ و"الشيطان" خبره، و{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} حالٌ بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو: {وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً} {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً
(4/254)
---(1/1534)
}. الثاني: أن يكونَ "الشيطانُ" بدلاً أوعطف بيان، و"يُخَوِّفُ" الخبر ذكره أبو البقاء. الثالث: أن كونَ "الشيطان" نعتاً لاسمِ الإشارة، و"يُخَوِّفُ" الخبر، على أن يُراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان. ذكره الزمخشري. قال الشيخ: "وإنما قال: "والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان" لأنه لا يكونُ نعتاً والمرادُ به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علماً بالغلبة كالعَيُّوق، إذ هو في الأصل صفةٌ ثم غَلب على إبليس" وفيه نظر. الرابع: أن يكون "ذلكم" ابتداءً وخبراً، و"يُخَوِّف" جملةً مستأنفة بيانٌ لشيطنته، والمرادُ بالشيطان هو المُثَبِّط للمؤمنين. والخامس: أن يكون: "ذلكم" مبتدأ، و"الشيطانُ" مبتدأ ثانٍ، و"يُخَوِّف" خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول قاله ابن عطية. وقال "وهذا الإِعرابُ خيرٌ في تناسق المعنى من أن يكون "الشيطان" خبر "ذلكم" لأنه يَجِيء في المعنى استعارةً بعيدة.
وَردَّ عليه الشيخ هذا الإِعرابَ إنْ كان الضمير في "أولياءه" عائداً على الشيطان؛ لخلوِّ الجملة الواقعة خبراً مِنْ رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفسَ المبتدأ في المعنى نحو: "هِجِّيرى إبي بكر: لا إله إلا الله"، وإن عاد على "ذلكم" ويُراد بذلك غيرُ الشيطان جاز، ويصير نظيرَ:"إنما هند زيدٌ يضربُ عبدها" والمعنى: إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطانُ يخوفكم أنتم أولياءَه أي: أولياءَ الركب أو أولياء أبي سفيان.
(4/255)
---(1/1535)
والمشار إليه بـ"ذلكم" هل هو عينٌ أو معنى؟ فيه احتمالان، أحدهما: أنه إشارة إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم. والثاني: أنه إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجَزَعِ مَنْ جَزَعَ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف أي: فِعْلَ الشيطان، وقَدَّره الزمخشري: "قولَ الشيطان" أي: قولَه السباق وهو {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وعلى كلا التقديرين ـ أعني كون الإِشارة لأعيانٍ أو معان ـ فالإِخبار بالشيطان عن "ذلكم" مجاز، لأنَّ الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعالِ الصادرة من الكفارِ ليست نفسَ الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك.
(4/256)
---(1/1536)
قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} قد تقدَّم ما محلُّه من الإِعراب، والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قبل التضعيف متعدٍّ إلى واحدٍ وبالتضعيفِ يكتسب ثانياً، وهو من باب أعطى، فجوزُ حَذْفُ مفعوليه أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يَحْتمل أوجهاً، أحدها: أن يكون المفعولُ الأول محذوفاً تقديره: يُخَوِّفكم أولياءه، ويُقَوِّي هذا التقديرَ قراءةُ ابن عباس وابن مسعود هذه الآيةَ كذلك، والمراد بأوليائه هنا الكفارُ، ولا بد من حذف مضاف أي: شَرَّ أوليائه، لأنَّ الذواتِ لا يُخاف منها. والثاني: أن يكونَ المفعول الثاني هو المحذوف، و"أولياءه" هو الأول، والتقدير: يُخَوِّف أولياءه شر الكفار، ويكون المرادَ بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومَنْ [في] قلبه مرض مِمَّن تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج، والمعنى: أنَّ تخويفه بالكفار إنما يَحْصُل للمنافقين الذي هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يَصِل إليكم تخويفُه. والثالث ـ ذكره بعضهم ـ أن المفعولين محذوفانت، و"أولياءه" نصب على إسقاطِ حرف الجر، والتقدير: يُخوِّفكم الشرَّ بأوليائه، والباء للسبب أي: بسبب أوليائه، فيكونون هم آلة التخويف، وكأن هذا القائل رأى قراءة أُبيّ والنخعي: "يُخَوِّف بأوليائه" فظنَّ أن قراءة الجمهور مثلُها في الأصل، ثم حُذِفت الباء، وليس كذلك، بل تخريجُ قراءة الجمهور على ما تقدَّم، إذ لا حاجة إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له. وأمَّا قراءةُ أُبَيّ فتحتمل الباءُ أن تكون زائدةً كقوله:
1495ـ ........................ * سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
فتكونُ كقراءةِ الجمهورِ في المعنى، ويُحتمل أن تكونَ للسببِ والمفعولان محذوفان كما تقدَّم تقريرهُ.
(4/257)
---(1/1537)
قوله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} في الضمير المنصوبِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه يعودُ على أوليائِه أي: فلا تَخافوا أَولياءَ الشيطان، هذا إنْ أُريد بالأولياء كفارُ قريش. والثاني: أن يعود على "الناس" من قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} إنْ كان المرادَ بأوليائه المنافقون. والثالث: أن يعودَ على الشيطان على المعنى. قال أبو البقاء: "إنما جُمِع الضميرُ لأنَّ الشيطانَ جنس". والياءُ ف يقوله: "وخافونِ" من الزوائد، فأثبتها أبو عمرو وصلاً، وحذفَها وقفاً على قاعدتِه، والباقون يحذفونها مطلقاً.
وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ أو متقدِّم عند مَنْ يرى ذلك؟، وهذا من بابِ الإِلهاب والتهييج، وإلاَّ فهم متلبِّسون بالإِيمان.
* { وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(4/258)
---(1/1538)
قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ}: قرأ نافع "يُحْزِنْك" بضم حرف المضارعة من "أحزن" رباعياً في سائر القرِآن إلا التي في قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} فإنه الجماعة. الباقون بفتح الياء من حَزَنه ثلاثياً، فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأَفْعَل بمعنًى"، وقيل: باختلافِ معنى، فَحَزَنَه جعل فيه حُزْناً نحو: دَهَنه وكَحَله أي: جعل فيه دُهْناً وكُحْلاً، وأحزنْتُه إذا جَعَلْتُه حزيناً، ومثلُ حَزَنَه وأَحْزَنَه: فَتنَه وأَفْتَنَه، قال سيبويه: "وقال بعضُ الأعرابِ: أَحْزَنْتُ الرجل وأفْتَنْتُه أي: جَعَلْتُه حزنياً وفاتناً". وقيل: حَزَنْتُه أحدثْتُ له الحُزْنَ، وَأَحْزَنْتُه عَرَّضْتُه للحزن، قاله أبو البقاء. وقد تقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه اللفظة ما قيل فيها. وتقدَّم أيضاً أنه يُقال: حَزِن الرجلُ تالكسر، فإذا أرادوا تعديتَه عَدَّوْه بالتفحةِ فيقولون: "حَزَنْتُه".كـ"شَتِرَتْ عينه وشَتَرها الله". والحقُّ أَنَّ حَرَنَه وأَحْزَنَه لغتان فاشيتان لثبوتهما متواترتين وإنْ كان أبو البقاء قال: "إنَّ أحزن لغةٌ قليلةٌ".
ومِنْ عجيبِ ما اتفق أن نافعاً ـ رحمه الله ـ يقرأ هذه المادة من "أحزن" إلا التي في الأنبياء كما تقدم، وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرؤها من "حَزَنه" ثلاثياً إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعةٌ.
ويُقْرأ: "يُسارعون" بالفتحِ والإِمالةِ. وقرأ النحوي: "يُسْرعون" من أَسْرع في جميع القرآن. مقال ابن عطية: "وقرءاةُ الجماعةِ أبلغُ، لأنَّ الذي يُسارعُ غيرَه أشدُّ اجتهاداً/ مِن الذي يُسْرِعُ وحده.
وقوله: "شيئاً" فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ أي: لا يَضُرُّونه شيئاً من الضرر. والثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض أي: لن يضروه بشيء، وهكذا كلُّ موضعٍ أشبهه ففيه الوجهان.
(4/259)
---(1/1539)
* { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي}؛ قرأ الجمهور "يَحْسَبَنَّ" بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزجاج عن خلقٍ كثير كقراءةِ حمزة إلا أنَّهم كسروا "إنما" ونصبوا "خيراً" وأنكرها أبن مجاهد، وسيأتي إيضاح ذلك، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر "إنما"، وحكى عنه الزمخشري أيضاً أنه قرأ بكسر "إنما" الأولى وفتح الثانية مع الغَيْبة. فهذه خمسُ قراءات.
فأمَّا قراءةُ الجمهور فتخريجُها واضحٌ، وهو أنه يجوز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى "الذين"، و"أنَّ" وما اتصل بها سادٌّ مسدَّ المفعولين عند سيبويه ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عن الأخفش حَسْبما تقدم غير مرة. ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب يُراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي: ولا يحسبن النبيُّ عليه السلام، فعلى هذا يكون "الذين كفروا" مفعولاً أول، وأمام الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، فتتَّحِدُ هذه القراءةُ على هذا الوجه مع قراءة حمزة ـ رحمه الله ـ، وسيأتي تخريجها. و"ما" يجز أَنْ تكونَ موصولة اسمية، فيكونُ العائد محذوفاً لاستكمال الشروط، أي: أنَّ الذي نُمْليه، وأن تكونَ مصدرية أي: إملاءنَا، وهي اسم "أنَّ" و"خير" خبرُها. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ تكونَ كافةً ولا زائدةً، إذ لو كانت كذلك لا نتصَبَ "خيرُ" بـ"نُمْلي"، واحتاجت "أنَّ" إلى خبرٍ إذا كانت "ما" زائدةً، أو قُدِّر الفعلُ يليها، وكلاهما ممتنعٌ". انتهى. وهو من الواضحات، وكتبوا "أنما" في الموضعين متصلةً، وكان من حقِّ الأولى الفصلُ لأنها موصولة.
(4/260)
---(1/1540)
وأمَّا قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوالُ الناس وتخاريجُهم حتى إنه نُقِل عن أبي حاتم أنها لحن. قال النحاس: "وتابعه على ذلك خلقٌ كثير" وهذا لا يُلْتفت إليه لتواتُرها. وفي تخريجها ستةٌ أوجهٍ، أحدها: أن يكون فاعلُ "تحسَبَنَّ" ضميرَ النبي صلى الله عليه وسلم، و"الذين كفروا" مفعولٌ أولُ، و"أنما نُملي لهم خيراً" مفعولٌ ثانٍ. ولا بد على هذا التخريجِ مِنْ حَذْفِ مضافٍ: أمَّا من الأولِ تقديرُه: "ولا تَحْسَبَنَّ شأنَ الذين كفروا، وإمَّا من الثاني تقديرُه: "أصحابَ أنَّ إملاءنا خيرٌ لهم"، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ "أنما نُمْلي" بتأويلِ مصدرٍ، والمصدرُ معنىً من المعاني لا يَصْدُق علىلذين كفروا، والمعفولُ الثاني في هذا البابِ هو الأولُ في المعنى.
الثاني: أن يكونُ "أنما نملي لهم" بدلٌ من "الذين كفروا" وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتَبِعهما جماعةٌ منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش. قال الكسائي والفراء: "وجهُ هذه القراءةِ التكريرُ والتأكيدُ، والتقدير: ولا تتَحْسَبَنَّ الذين كفروا ولا تحْسَبَنَّ أنما نُمْلي". قال الفراء: "ومثلُه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ} أي: ما ينظرون إلاَّ أَنْ تأتِيَهم" انتهى؟ وقد رَدَّ بعضُهُم قول الكسائي والفراء بأَنْ حَذْفَ المعفولِ الثاني في هذه الأفعالِ لا يجوزُ عند أحدٍ، وهذا الردُّ ليس بشيءٍ، لأنَّ الممنوعَ إنما هو حَذْفُ الاقتصارِ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال ابن الباذش: "ويكونُ المفعولُ الثاني حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ التقديرُ: "ولا تحسبنُ الذين كفروا خيريةَ إملائنا لهم ثابتةً أو واقعةً".
(4/261)
---(1/1541)
وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف صَحَّ مجيءُ البدلِ ولم يُذْكَرْ إلا أحدُ المفعولين، ولا يجوزُ الاقتصارُ مِنْ فعلِ الحُسْبان على مفعولٍ واحدٍ؟ قلت: صَحَّ ذلك من حيث إنَّ التعويلَ على البدلِ، والمبدلُ منه في حُكمِ المُنَحَّى، ألا تراك تقول: "جعلت متاعك بعضه فوق بعضٍ" مع امتناعِ سكوتِك على "متاع".
وله البدلُ بدلُ اشتمالٍ ـ وهو الظاهرُ ـ أو بدلُ كلٍ من كل فيكونُ على حذفٍ مضافٍ تقديرُه: "ولا تَحْسَبَنَّ إملاء الذين" فَحَذَف "إملاء" وأبدلَ منه "أنما نملي"؟ قولان مشهوران.
الثالث: ـ وهو أغربُها ـ ان يكونَ "الذين" فاعلاً بـ"تَحْسَبَنَّ" على تأويلِ أَنْ تكونَ التاءُ في الفعلِ للتأنيثِ كقولِه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: "ولا تَحْسَبَنَّ القومَ الذين كفروا" و"الذين" وصفُ "القوم: كقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ} فعلى هذا تَتَّحد هذه القراءةُ مع قراءة الغَيْبة، وتخريجُها كتخريجِها، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيرِه المسمى: بـ"اللباب". وفيه نظرٌ من حيث إنَّ "الذين" جارٍ مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، والجمعُ المذكرُ السالمُ لا يجوز تأنيثُ فعلِه عند البصريين، لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأمَّا اعتذارُه عن ذلك بأنَّ "الذين" صفةٌ للقوم الجائزِ تأنيثُ فعلِهم وإنما حُذِفَ فلا ينفعه، لأنَّ الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدَّرِ، لا يُجيز أحدٌ من البصريين: "قامت المسلمون" على إرادة "القوم المسلمون" البتة. وقال أبو الحسن الحوفي: "أنَّ ما عَمِلَتْ فيه في موضعِ نصبٍ على البدلِ، و"الذين" المفعولُ الأولُ، والثاني محذوفٌ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم.
(4/262)
---(1/1542)
الرابع: أن يكونَ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} بدلاً من "الذين كفروا" بدلَ الاشتمالِ أي: إملاءَنا، و"خيرٌ" بالرفعِ خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو خيرٌ لأنفسهم، والجملةُ هي المفعولُ الثاني. نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم، قال: قلت: ومثلُ هذه القراءة بيتُ الحماسة:
1496ـ مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القوم يَحْسَبُنا * أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح "أنَّا" بعد ذِكْر المفعولِ الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: "حَسِبْتُ زيداً أنه قائمٌ" أي: حَسِبْتُه ذا قيامٍ، فوجهُ الفتحِ أنها وقعت مفعولةً، وهي وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ مفردٍ وهو المفعولُ الثاني لحسبت" انتهى. وفيما قاله نظر؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر "إنَّ" إذا وقعت مفعولاً ثانياً والأولُ اسمُ عينٍ" وأنشدوا البيت المذكور على ذلك، وعللوا وجوبَ الكسر بأنَّا لو فَتَحْنا لكانت في محل مصدر فليزَمُ الإِخبارُ المعنى عن العين.
(4/263)
---(1/1543)
الخامس: أن يكون "الذين كفروا" مفعولاً أولَ، و{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ إِثْمَاً} في موضع المفعول الثاني، و{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخير، اعترض به بين مفعولي "وَتحْسَبَنَّ"، وفي الكلام تقديرمٌ وتأخيرٌ، نُقِل ذلك عن الأخفش. قال أبو حاتم: "سمعت الأخفش يذكر فتحَ "أَنَّ" يحتجُّ بها لأهل القَدَر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديمِ والتأخير، كأنه قلا: "ولا تَحْسَبَنَّ الذين [كفروا" إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسِهم" انتهى. وإنما جاز أن تكون "أَنَّ" المفتوحة مبتدأً بها أولُ الكلامِ لأنَّ مذهب الأخفشِ ذلك، وغيرُه يمنع ذلك، فإنْ تَقَدَّم خبرُها علهيا نحو: "في ظني أنك منطلٌ" أو أمَّا التفصيلية نحو: "أما أنك منطلقٌ فعندي" جاز ذلك إجماعاً، وقولُ أبي حاتم: "يذكرُ فتحَ أنَّ" يعني بها التي في قولهِ: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ}. ووجهُ تمسُّكِ القَدَريَّة به أنَّ اكلله تعالى لا يجوزُ أَنْ يُملي لهم إلا ماهو خيرٌ لأنفسِهم، لأنه يجبُ عندهم رعايةُ الأصلحِ.
[السادس: قال المهدوي: "وقال قوم] قدَّم "الذين كفروا" توكيداً، ثم حالَهم مِنْ قولِه: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} ردَّاً عليهم، والتقدير: ولا تحسبنُ أنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم" انتهى.
وأمَّا قراءة يحيى بكسر "إنما" مع الغيبة فلا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى "الذين" أو إلى ضمير غائب، فإن كان الأولُ كانت "إنما" وما في حيزها معلِّقَةً لـ"يحسبن" وإنْ لم تكن اللام في خبرها لظفاً فهي مقدرةٌ فتكون "إنما" بالكسر في موضع نصب؛ لأنها معلقةٌ لفعلِ الحسبان مع نية اللام، ونظيرُ ذلك تعليقُ أفعالِ القلوب عن المفعولين الصريحين لتقديرِ لامِ الابتداء في قولِه:
1497ـ كذاك أُدِّبْتُ حتى صار مِنْ خُلُقي * إني رأيتُ مِلاكُ الشيمةِ الأَدَبُ
(4/264)
---(1/1544)
فلولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ نصبُ "مِلاك" و"الأدب"، وكذلك في الآية، لولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ "فتحُ "إنما"، ويجوزُ أَنْ يكون المفعولُ الأولُ قد حُذِف وهو ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه، والأصلُ: ولا يحسَبَنَّه أي: الأمرَ، و"إنما نُمْلِي" في موضع المفعول الثاني وفي المفسِّرة للضمير. وإن كان الثاني كان "الذين" مفعولاً أول، و"إنما نملي" في موضع الثاني. وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خَرَّجها هو فقال: "على معنى: ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنَّ إملاءَنا لازدياد الإِثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويَدْخلوا في الإيمان، وقوله {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} اعتراضٌ بين الفعلِ ومعمولِه، معناه: أنَّ إملاءَانا خيرٌ لأنفسِهمخ إنْ عَمِلوا فيه وَعَرَفوا إنعام الله عليهمه بتفسيح المًُدَّة وتَرْكِ المعاجَلَة بالعقوبة" انتهى.
فعلى هذا يكون "الذين" فاعلاً، و"أنما" المفتوحة سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو أحدِهما على الخلاف، واعتُرِض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. مقال النحاس: "وقراءةُ يحيى بن وثاب بكسر إنَّ" حسنةٌ، كما تقول: "حسبت عمراً أبو ه خارجٌ".
(4/265)
---(1/1545)
وأمَّا ما حكاه الزجاج قراءةً عن خلق كثير وهو نَصْبُ "خيراً" على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجَها على أنَّ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} بدلٌ من "الذين" و"خيراً" مفعولٌ ثانٍ. ولا بُدَّ من إيرادِ نَصِّه ليظهرَ لك، قال رحمه اله: "مَنْ قَرَأَ "ولا تَحْسَبَنَّ" بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسرُ "إنَّ" والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاؤنا خيرٌ لهم، ودخلت "إنَّ" مؤكدةً، فإذا فَتَحْتَ صار المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفورا إملاءنا خيرا لهم قال: وهو عندي يجوزُ في هذا الموضعِ على البدلِ من "الذين" المعهنى: ولا تَحْسَبَنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأَ بها خَلْقٌ كثير، ومثلُ هذه القراءةِ من الشعر:
1498ـ فما كانَ قَيْسٌ هُلْكُه هلكَ واحدٍ * ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما
جَعَل "هُلْكُه" بدلاً من "قيس" المعنى: فما كان هُلْكُ قيسٍ هُلْكَ واحد يعني: "فهُلْك" الأول بدلٌ من المرفوع، فبقي "هُلْكَ واحدٍ" منصوباً خبراً لـ"كان"، كذلك {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ}: "أن" واسمُها ـ وهو "ما" الموصولةُ ـ وصلتُها والخبرُ ـ وهو "لهم" ـ في محل نصبٍ بدلاً من الذين كفروا، فبقي "خيراً" منصوباً على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ"تحسبن".
(4/266)
---(1/1546)
إلاَّ أنَّ الفارسي قد رَدَّ هذا على أبي إسحاق بأنَّ هذه القراءةَ لم يَقرأ بها أحدٌ ـ أعنى نصبَ "خيراً" ـ قال أبو عليّ الفارسي: "لا يَصِحُّ البدلُ إلا بنصب "خير" من حيث كان المفعول الثاني لـ"حسبت"، فكما انتصب "هلك واحدٍ" في البيت لَمَّا أبدلَ الأولَ من "قيس" بأنه خبرٌ لكان كذلك ينتصبُ "خيراً لهم" إذا أبدل الإملاءَ من "الذين كفروا" بأنه مفعولٌ ثانٍ لتحسَبَنَّ" قال: "وسألْتُ أحمدَ بن موسى عنها فَزَعم أنَّ أحداً لم يَقْرأ بها" يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإِمامَ المشهور. وقال في "الحجة" له: "الذين كفروا في موضعِ نصبٍ بأنَّها المفعول الأول، والمفعولُ الثاني هو الأولُ في هذا الباب في المعنى، فلا يجوزُ إذاً فَتْحُ "أنَّ" في قولِه: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} لأنَّ إملاءَهم لايكون ياهم" قال:"فإنْ قلت: لِمَ لا يجوزُ الفتحُ في "أنَّ" وتجعلُها بدلاً من "الذين كفروا" كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وكما كان "أنَّ" من قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}. قيل: لا يجوزُ ذلك، وإلا لزمك أَنْ تَنْصِبَ "خيراً" على تقدير: لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيراً لأنفسهم، حيث كان المفعول الثاني لـ"تحسبنَّ" وإذا لم يَصِحَّ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ "إنَّ" على أن تكون "إنَّ" وخبرُها في موضع المفعول الثاني من "تحسبن" انتهى ما ورد به عليه، فلم يبقَ في موضع المفعول الثاني من "تحسبن" انتهى ما ورد به عليه، فلم يبقَ إلا الترجيحُ بين نقل هذه الرجلين، أعني الزجاج وابن مجاهد، ولا شك أن ابن مجاهد أَعْنى بالقراءات، إلا أن الزجاج ثقةٌ، ويقول: قرأ بها خلق كثير"، وهذا يُبْعِدُ غَلَطه فيه، والإِثباتُ مقدَّمٌ على النفي. وما ذكره أبو علي من قولِه: "وإذا لم يَجُزْ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ إنَّ إلى آخره، هذا أيضاً مِمَّا لم يقرأ به(1/1547)
(4/267)
---
أحدٌ. قال مكي: وجهُ القراءةِ لِمَنْ قَرَأ بالتاء ـ يعني بتاءِ الخطاب ـ أنْ يكسر "إنما" فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني ولم يَقْرأ به أحدٌ عَلِمْتُه".
وقد نقل أبو البقاء نصبَ "خيراً" قراءةً شاذة قال: " وقد قِرِىء شاذاً بالنصبِ على أَنْ يكونَ "لأنفسهم" خبرَ "أنَّ"، و"لهم" تبيينٌ أو حالٌ من "خيرا" يَعْني أ نه لَمَّا جعل لأنفسهم الخيرَ جعل "لهم": إمَّا تبييناً تقديرُه: أعني هلم، وإمَّا حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصلِ صفةً لها، والظاهرُ على هذه القراءةِ ما قَدذَمْتُه مِنْ كونِ "لهم" هو الخبرَ، ويكونُ "لأنفسِهم" في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"خيراً" كما كانَ صفةً له في قراءةِ الجمهور، ونَقَلَ أيضاً قراءةَ كسر "إنَّ" وهي قراءة يحيى، وخَرَّجها على أنها جوابُ قسمٍ محذوف، والقسمُ وجوابُه يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولين ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجُها على ما تقدَّم أولى، لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ.
والإِملاء: الإِمهالُ والمَدُّ في العمر، ومنه: "مَلاَوَةُ الدهر" للمدة الطويلة، والمَلَوان: الليل والنهار، وقولهم "مَلاَك اللهُ بنعمةٍ" أي: مَنَحَكها عمراً طويراً. وقيل: المَلَون: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشاعر:
1499 ـ نهارٌ وليلٌ دائمٌ مَلَواهُما * على كلِّ حالِ المرءِ يَخْتلفان
فلو كانا الليلَ والنهارَ لما أُضيفا إليهما، وإذا الشيءُ لا يضاف إلى نفسِه. وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أصلُ الياءِ واو، وإنما قُلِبَتْ ياءً لوقوعها رابعةً.
(4/268)
---(1/1548)
قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ} قد تقدَّم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه، فيما نقله عنه الزمخشري، وتقدَّم تخريجُها، إلا أنَّ الشيخَ قال: "إنه لم يَحْكِها عه غيرُ الزمخشري، بل الذين نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط" قال: "وإنما الزمخشري لِوَلُوعه بمذهبه يرومُ رَدَّ كلِّ شيء إليه". وهذا تحاملٌ عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يُرْوَ.
وأمَّما على قراءة كسرها ففيها وجهان، أحدهما: أنها جملة مستأنفة تعليلٌ للجملةِ قبلَها كأنه قيل: ما بالُهم يَحْسَبون الإِملاءَ خيراً؟ فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. و"إنَّ" هنا مكفوفةٌ بـ"ما"، ولذلك كُتِبَتْ متصلةً على الأصل، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ولا حرفيةً؛ لأنَّ لام كي لا يَصِحُّ وقوعُها خبراً للمبتدأ ولا لنواسِخِه.
والوجه الثاني: أنَّ هذه الجملةَ تكريرٌ للأولى. قال أبو البقاء: "وقيل "أنما" تكريبٌ للأولِ، و"ليزدادوا" هو المفعولُ الثاني لـ"تَحْسَبَنَّ" هذا على قراءةِ التاء، والتقديرُ: لا تَحْسَبَنَّ يا محمد إملاءَ الذين كفروا خيراً ليزدادوا إثماً، بل ليزدادوا إيماناً، ويُرْوى أنَّ بعض الصحابة قرأه كذلك" انتهى. قلت: وفي هذا نظرٌ من حيث إنه جَعَل "ليزدادوا" هو المفعولَ الثاني، وقد تقدَّم أنَّ لامَ "كي" لا تقعُ خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأنَّ هذا إنما يَتِمُّ له على تقديرِ فتح الثانية، وقد تقدَّم أن أحداً لم ينقُلْها إلا الزمخشري عن يحيى، والذي يقرأ "تحسين" بتاء الخطاب لا يفتحها البتة.
واللامُ في "ليزدادوا" فيها وجهان: أحدُها: أنها لامُ كي، والثانيةُ أنها لامُ الصيرورة.
(4/269)
---(1/1549)
وقوله:{وَلَهْمُ عَذَابٌ} في هذه االواوِ قولان، أحدُهما: أنها للعطف، والثاني: أنها للحالِ. وظاهرُ قولِ الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن وثاب فقط، فإنه قال "فإنْ قلت: ما معنى هذه القراءة؟ ـ يعني على قراءةِ يحيى التي نقلَها هوعنه ـ قلت: معناه "ولا يَحْسَبَنَّ أنَّ إملاءَنا لزيادةِ الإِثمِ والتعذيبِ، والواوُ للحالِ، كأنه قيل: ليزدادوا إثماً مُعَدَّاً لهم عذابٌ مهين" قال الشيخ: ـ بعد ما ذكر من إنكارِه عليه نقلَ فتحَ الثانية عن يحيى كما قدمته لك، "ولَمَّا قرَّر في هذه القراءة أنَّ المعنى على نهي الكافر أَنْ يَحْسَب أنما يُمْلي الله لزيادة الإِثم، وأنه إنما يملي لزيادةِ الخير كان قولُه: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يَدْفَعُ هذا التفسيرَ، فَخَرَّج ذلك على أن الواوَ للحالِ ليزولَ هذا التدافُعُ الذي بين هذه القراءةِ وبين آخرِ الآية".
وأصل "ليزدادوا": ليزتادوا بالتاء، لأنه افتعالٌ من الزيادة ولكنَّ تاء الافتعالِ تُقْلَبُ دالاً بعد ثلاثةِ أحرف: الزاي والذال والدال نحو: ادَّكر وادَّان. والفعلُ هنا متعدٍّ لواحدٍ وكانَ في الأصلِ متعدياً لاثنين نحو: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}، ولكنه بالافتعالِ ينقُص أبداً مفعولاً، فإنْ كان الفعلُ قبل بنائِه على افتعل للمطاوعةِ متعدياً لواحدٍ صار قاصراً بعد المطاوعةِ نحو" مدَدْتُ الجبل فامتدَّ"، وإنْ كان متعدياً لاثنين صار بعد الافتعالِ متعدياً لواحدٍ كهذه الآيةِ.
(4/270)
---(1/1550)
وخُتِمَتْ كلُّ واحدةٍ من هذه الآياتِ الثلاثِ بصفةٍ للعذاب غيرِ ما خُتمت به الأخرى لمعنى مناسب، وهو أنَّ الأولى تضمَّنَتْ الإِخبارَ عنهم بالمسارعةِ في الكفر، والمسارعةُ في الاشيء والمبادرةُ إلى تحصيلِه تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاءُهم "عذابٌ عظيمٌ" مقابلةً لهم، ويَدُلُّ ذلك على خساسةِ ما سارَعُوا فيه. وأمَّا الثانيةُ فتضمَّنَتْ اشتراءَهم الكفرَ بالإِيمان، والعادةُ سرورُ المشتري واغتباطُه بما اشتراه، فإذا خَسِرَ تألم، فخُتِمت هذه الآيةُ بألمِ بعذابِ كما يجدُ المُشتري المغبون ألم خسارته. أمَّا الثالثةُ فتضمَّنَتْ الإِملاء وهو الإِمتاعُ بالمال وزينةُ الدينا، وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّر والجبروتَ فخُتِمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانَتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبُّرهم.
* { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
قوله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ}: هذه تُسَمَّى لامَ الجحود، وينصبُ بعدَها المضارعَ بإضمار "أن" ولا يجوزُ إظهارها. والفرقُ بنيهما وبين لام كي أنَّ هذه على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ، ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في "شرح التسهيل".
(4/271)
---(1/1551)
وفي خبر "كان" في هذا الموضع وما أشبهه قولان، أحدهما: ـ وهو قول البصريين ـ أنه محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه، والتقدير: ما كان اللهُ مريداً لأنْ يَذَر، فـ"أن يذر" هو مفعول "مُريداً"، والتقديرُ: ما كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين. والثاني ـ قول الكوفيين ـ: أنَّ اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر "كان"، واللامُ عندهم هي العاملةُ النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار "أَنْ"، والتقديرُ عندهم: ما كان الله يَذَرُ المؤمنين.
وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإنْ كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً، وإن كان النصب بإضمار "أَنْ: فَسَدَ من جهة المعنى لأنَّ "أَنْ" ما في حَيِّزها بتأويل مصدر، والخبرُ في باب "كان" هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على اسمِها وهو مُحال".
أمَّا قولُه: "إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً" فممنوعٌ؛ لأنَّ العمل لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر/ تُزاد وهي عاملةٌ، وكذلك "أَنْ" عند الأخفش و"كان" في قوله:
1500ـ .................... * وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع.
و"يَذَرُ" فعلٌ لا يَتَصرَّف كـ"يَدَعُ" استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو "ترك"، وحُذِفَتِ الواوُ من "يَذَرُ" من غير موجبٍ تصريفي، وإنما حُمِلت على "يَدَعُ" لأنها بمعناها، و"يَدَعُ" حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة، وأمَّا الواوُ في "يَذَرُ" فوقعت بين ياءٍ وفتحة أصلية، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
(4/272)
---(1/1552)
}. قوله: {حَتَّى يَمِيزَ} "حتى" هنا قيل: للغاية المجردة بمعنى "إلى"، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار "أَنْ"، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة. والغايةُ هنا مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب، ومفهومُه أنه إذا وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه. وهذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قطعاً، ويصيرُ هذا نظيرَ قولِك: "لا أُكَلِّم زيداً حتى يَقْدُمَ عمروٌ" فالكلامُ منتفٍ إلى قدومِ عمرو. والجوابُ عنه: أن "حتى" غايةٌ لما يُفْهَمُ من معنى هذا الكلامِ، ومعناه أنه تعالى يُخَلِّص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أَنْ يَميزَ الخبيثَ من الطيب.
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال: "يُمَيِّز" بالتشديد، والباقون بالتخفيف. وعن ابن كثير أيضاً "يُميز" من أماز، فهذه ثلاث لغات، يقال مازَه ومَيَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ، وإنما فَعَّل بالتشديد وأَفْعَل بمعنى المجرد، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلون بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال "مازا" إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت، ولذلك قال أبو معاذ: يقال: "مَيَّزْتُ بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء". وقال بعضُهم عكسَ هذا: مِزْتُ بين الشيئين ومَيِّزْتُ بني الأشياءِ، وهذا هو القياسُ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير وهو لائقٌ بالمتعددات. ورجَّح بعضُهم "مَيَّز" بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا: التمييز، ولم يقولوا: "المَيْز" يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً.
(4/273)
---(1/1553)
قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ} هذا استدراك من معنى الكلام المقتدم، لأنه لَمَّا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ} تُوُهِّم أنه لا يُطْلِعَ أحداً على غيبِه لعمومِ الخطابِ فاستدرك الرسلَ، والمعنى: ولكنَّ اللهَ يجتبي ـ أي يصطفي ـ مِنْ رسلِه من يشاء فيُطْلِعُه على الغيب، فهو ضدُّ لما قبلَه في المعنى، وقد تقدَّم أنها تقعُ بني ضِدِّيْنِ ونقيضين، وفي الخلافين خلافٌ.
و"يَحجْتَبي": يَصْطَفي ويَخْتار، يَفْتَعل من جَبَوْتُ المالَ والماءَ وجَبَتْهُما لغتان، فالياءُ في "يَجْتَبي" يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ عَلى أصلِها، وأَنْ تكونَ منقلبةً من واوٍ لانكسارِ ما قبلَها.
ومفعول "يشاءُ" محذوفٌ، وينبغي أَنْ يُقَّدَّر ما يليقُ بالمعنى، والتقديرُ: مَنْ يشاءُ إطْلاعَه على الغيب.
* { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}: قرأ حمزة بالخطاب، والباقون بالغيبة. فأمَّا قراءةُ حمزة فـ"الذين" مفعولٌ أولُ، و"خيراً" هو الثاني، ولا بُدَّ من حذف مضاف لِيَصْدُقَ الخبرُ على المبدِأ، تقديرُه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون. قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ لأنَّ فيه إضمارَ البخلِ قبل ذِكْر ما يَدُلُّ عليه" وفيه نظرٌ، لأنَّ الدلالةَ على المحذوف قد تكونُ متقدمةً وقد تكون متأخرةً، وليس هذا من بابِ الإِضمارِ في شيء حتى يُشْتَرَطَ فيه تقدُّمُ ما يَدُلُّ على ذلك الضميرِ.
(4/274)
---(1/1554)
و"هو" فيه وجهان، أحدُهما: أنه فَصْلٌ بين مفعولي "تحسبن". والثاني ـ قاله أبو البقاء ـ: أنه توكيدٌ، وهو خطأ، لأنَّ المضمر لا يُؤكِّد المُظْهَر، والمفعول الأول اسمٌ مظهر ولكنه حُذِف كما تقدم، وبعضُهم يُعَبِّر عنه فيقول: "أُضمر المفعولُ الأولُ" يعني حُذِفَ فلا يُغْتَرَّ بهذه العبارةِ، و"هو في هذه المسألةِ يتعيَّن فَصْلِيَّتُه لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ مبتدأ أو بدلاً أو توكيداً، والأول منتفٍ لنصبِ مابعده ـ وهو خيراً ـ وكذا الثاني لأنه كان يلزمُ أَنْ يوافِقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فكان ينبغي أَنْ يُقالَ إياه لا "هو"، وكذا الثالثُ لِما تقدَّم.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فيجوزُ فيها أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى ضمير غائب: إمَّا الرسولُ أو حاسِبٌ ما، ويجوزُ أَنْ يكونَ مسنداً إلى"الذين"، فإنْ كان مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ فـ"الذين" مفعولٌ أولُ على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم ذلك في قراءةِ حمزة أي: بخلَ الذين، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّ الرسولُ ـ أو أحدُ ـ بخلَ الذين يبخلون خيراً. و"هو" فصل كما تقدَّم، فتتحدُ القراءاتان معنىً وتخريجاً. وإنْ كان مسنداً لـ"الذين" ففي المعفولِ الأولِ وجهان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ "يبخلون" عليه كأنه قيل: "ولا يَحْسَبَنَّ الباخِلون بخلَهم هو خيراً لهم" و"هو" فصلٌ. قال ابن عطية: "ودَلَّ على هذا البخلِ "يبخلون" كما دَلَّ "السفيه" على "السَّفَه" في قوله:
1501، إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه * وخالَفَ والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السفة". قال الشيخ: "وليست الدلالةُ فيها سواءً لوجهين، أحدُهما: أنَّ دلالةَ الفعلِ على المصدرِ أَقْوى مِنْ دلالةِ اسمِ الفاعلِ عليه وأكثرُ، ولا يوجَدُ ذلك إلا في هذا البيت أوغيرِه إن ورد. الثاني: أنَّ البيتَ فيه إضمارٌ لا حذفٌ، والآيةُ فيها حَذْفٌ.
(4/275)
---(1/1555)
الوجه الثاني: أنَّ المعفولَ نفس "هو"، وهو ضميرُ البخل الذي دَلَّّ عليه "يبخلون" كقولِه: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، قال أبو البقاء، وهو غلطٌ أيضاً؛ لأنه ينبغي أَنْ يأتِيَ به بصيغةِ المنصوب فيقول: "إياه" لكونِه منصوباً بـ"يَحْسَبَنَّ"، ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نَدَّعي أنه من بابِ استعارةِ ضميرِ الرفع مكانَ النصبِ كقولِهم "ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا" فاستعار ضميرَ الرفعِ مكانَ ضميرِ الجر.
وفي الآية وجهٌ آخرُ غريبٌ خَرَّجه الشيخ قال: "وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال إذا جَعَلْنا الفعلَ مسنداً لـ"الذين"، وذلك أنَّ "يَحْسَبَنَّ" يطلب مفعولين و"يَبْخلون" يطلبُ مفعولاً بحرفِ جر، فقولُه: {مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يطلبه "يحسبن" مفعولاً أولَ ويكون "هو" فَصْلاً، و"خيراً" المفعولُ الثاني، ويطلبه "يبخلون" بتوسُّطِ حرفِ الجر، فأعملَ الثانيَ ـ على الأفصحِ وعلى ما جاء في القرآن ـ وهو "يبخلون" فَعُدِّي بحرف الجر، وأخذ معموله، وحَذَفَ معمول "يحسبن" الأولَ وبقي معمولُه الثاني، لأنه لم يُتنازع فيه، وإنما جاء التنازعُ في الأول، وساغ حذفُه وحدَه كما ساغ حَذْفُ المفعولين في مسألة سيبويه: "متى رأتي أو قلت: زيد منطق" فـ"رأيت" و"قلت" تنازعا في "زيدُ منطلقٌ" وفي الآيةِ لم يتنازعا إلا في الأولِ، وتقديرُ المعنى: "ولا يَحْسَبَنَّ ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناسُ الذي يَبْخلون به" فعلى هذا التقديرِ يكونُ "هو "فَضْلاً لـ"ما آتاهم" المحذوفِ لا لبخلِهم المقدَّرِ في قول الجماعة، ونظيرهُ هذا التركيب: "ظنَّ الذي مَرَّ بِهندٍ هي المنطلقةَ" المعنى: ظَنَّ هنداً الشخصُ الذي مَرَّ بها في المنطقةَ" فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول، فاعمل الفعل الثاني فيه، وبقي الأولُ يطلبُه محذوفاً ويطلبُ الثانيَ مثبتاً إذا لم يقع فيه التنازعُ. انتهى".
(4/276)
---(1/1556)
ومع غرابة هذا التخريجِ وتطويلِه بالنظيرِ والتقدير فيه نظرٌ، وذلك أنَّ النحويينَ نَصُّوا على أنه إذا أعملنا الثانيَ، واحتاج الأولُ إلى ضمير المتنازع فيه، فإنْ كان يطلبه مرفوعاً أُضْمِرَ فيه وإنْ كان يَطْلُبُه غيرَ مرفوعٍ حُذِف، إلاَّ أَنْ يكون أحدَ مفعولي "ظَنَّ" فلا يُحْذَفُ، بل يُضْمَرُ ويُؤَخَّر، وعَلَّلوا ذلك بأنه لو حُذِفَ لبقي خبرٌ دون مُخْبَرٍ عنه أو بالعكسِ، هذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، فإنَّ لقائلٍ أن يقولَ: حُذِفَ اختصاراً لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حَذْفَ إحداهما اختصاراً في غيرِ التنازع فليَجُزْ في تنازعٍ إذ لا فارقَ، وحينئذ يَقْوى تخريجُ الشيخِ بهذا البحثِ أو يُلْتَزَمُ القولُ بمذهب الكوفيين فإنهم يُجيزون الحَذْفَ فيما نحن فيه.
وذكر مكي ترجيحَ كلٍّ مِن القراءتين فقال:
وميراث مصدرٌ كالمِيعاد، ويأؤُه من واوٍ، قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلها وهي ساكنةٌ لأنَّها من الوارثةِ كالميقاتِ والميزانِ من الوقتِ والوزن.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير: "يَعْمَلُون" بالغَيْبة جرياً على قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، والباقون بالخطاب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه التفاتُ، فالمرادُ الذي يبخلون. والثاني: رَدّاً على قوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ}.
* { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
(4/277)
---(1/1557)
قوله تعالى: {قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ}: العامل في "إنَّ" هو "قالوا" فـ"إنَّ" وما في حَيِّزها/ منصوب المحل بـ"قالوا" لا بالقول., وأجاز أبو البقاء أن تكونَ المسألة من باب التنازع ـ أعني بين المصدر وهو "قول" وبين الفعل وهو "قالوا" ـ تنازعا في "أَنْ" وما في حَيِّزها، قال: "ويجوز أن يكون معمولاً لـ"قول" المضافِ لأنه مصدرٌ، وهذا تخريجٌ على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو قولٌ ضعيف، ويزداد هنا ضعفاً بأن الثاني فعلٌ والأولُ مصدرٌ، وإعمالُ الفعل أقوى". وظاهرُ كلامه أنَّ المسألةَ من التنازع، وإنما الضعف عنده من جهةِ إعمال الأول فلو قَدَّرْنا أعمالَ الثاني كان ينبغي أن يجوزَ عنده، لكنه يمنع من ذلك مانعٌ آخر وهو: أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ولا يجوزُ حذفُه، وهو هنا غير مذكور، فدل على [هذا] أنها عنده ليست من التنازع إلا على قول الكوفيين، وهو ضعيف كما ذكر. وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملةَ على ما أسندوه إليه تعالى وإلى عدمِ ذلك فيما أسندوه لأنفسِهم كأنه عند الناس أمرٌ معروف.
قوله: {سَنَكْتُبُ} قرأ حمزة بالياء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، و"ما" وصلُتها قائمٌ مقامَ الفاعلِ. و"قَتْلُهم" بالرفعِ عطفاً على الموصولِ، و"يقول" بياء الغيبة. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، فـ"ما" منصوبةٌ المحلِّ، و"قتلَهم" بالنصبِ عطفاً عليها، و"نقولُ" بالنون أيضاً. وقرأ طلحة ابن مسعود ـ وكذلك هي في مصحفه ـ: "سنكتب ما يقولون ويُقال". والحسن والأعرج: "سَتُكْتب" بالغيبة مبنياً للفاعل أي: الله تعالى أو الملك، و"ما" في جميع ذلك يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ـ وهو الظاهر ـ وحُذِفَ العائِدُ لاستكمالِ شروطِ الحذفِ تقديرُه: سنكتب الذي يقولونه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: قولَهم، ويُراد به إذ ذاك المفعولُ به أي: مقولَهم، كقولهم: "ضَرْب الأمير".
(4/278)
---(1/1558)
* { ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
قوله تعالى: {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ}: مبتدأ وخبر تقديره: ذلك مستحق بما قَدَّمَتْ، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظرٌ تقدَّم مثله. و"ما" يجوز فيه أن تكونَ موصولة وموصوفةً. و"ذلك" إشارةٌ إلى ما تقدَّم من عقابِهم. وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ في محل نصب بالقول عطفاً على "ذُوقوا" كأنه قيل: ونقول لهم أيضاَ: ذلك بما قَدَّمَتْ إيديكم، وُبِّخوا بذلك، وذَكَر لهم السببَ الذي أجب لهم العقابَ. والثاني: ألاَّ تكونَ داخلةً في حكايةِ القول، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ نزولِ الآيةِ، وذُكِرت الأيدي لأن أكثرَ الأعمالِ تُزاوَلُ بها.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} عطفٌ على "ما" المجرورةِ بالباءِ أي: ذلك العقابُ حاصلُ بسببِ كَسْبكم وعدمِ ظلمهِ لكم. وهنا سؤال: وهو أن "ظَلاَّماً" صيغةُ مبالغةٍ تقتضي التكثيرَ، فيه أخصُّ من "ظالمِ"، ولا يَلْزَمُ من نفي الأخصِّ نفيُ الأعَمِّ، فإذا قلت: "زيدٌ ليس بظلاَّم" أي: ليس يُكْثِرُ الظلم، مع جوازِ أَنْ يكونَ ظالماً، وإذا قلت: "ليس بظالم" انتفى الظلمُ مِنْ أصلِه، فكيف قال تعالى: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}؟ وفي ذل خمسَةُ أوجهٍ، ذكر أبو البقاء منها أربعة.
الأول: أن "فَعَّالاً" قد لا يُراد به التكثيرُ كقوله طرفة:
1502ـ ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاعِ لبيته * ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
(4/279)
---(1/1559)
لا يُريد هنا أنه يَحُلُّ التلاعَ قليلاً؛ لأنَّ ذلك يَدْفَعُه آخرُ البيت الذي يَدُلُّ على نفي البخلِ على كلِّ حال، وأيضاَ تمامُ المدحِ لا يَحْصُل بإرادة الكثرة. الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لَمَّا كان مقابَلاً بالعباد وهم كثيرون ناسب أن يُقابَلُ الكثيرُ بالكثير. والثالث: أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى القليلُ ضرورةً؛ لا، الذي يَظْلم إنما يَظْلِمُ لانتفاعِه بالظلمِ، فإذا تَرَكَ الظلمَ الكثيرَ مع زيادةِ نَفْعِه في حَقِّ مَنْ يجوزُ عليه النفعُ والضُّرُّ كان للظلمِ القليلِ المنفعةِ أتركَ. والرابع: أن يكونَ على النسبِ أي: لا يُنْسَبُ إليه ظلمٌ، فيكونُ من باب: بَزَّار وعَطَّار، كأنه قيل: ليس بذي ظلم البتة. والخامس: قال القاضي أبو بكر: "العذاب الذي تَوَعَّد أَنْ يفعلَه بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حَدِّ عظمته لو كان ثابتاً".
وقال الراغب ـ بعد تفرقَتِه بين جَمْعَي "عَبْد" على عبيد وعِباد ـ: فالعبيدُ إذا أُضيف إلى الله تعالى أَعَمُّ من العباد، ولهذا قال: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فنبَّه على أنه لا يَظْلِمث مَنْ تخصَّص بعبادتِه ومَنِ انتسَبَ إلى غيرِه مِن الذين تَسَمَّوْا بعبدِ الشمس وعبدِاللات"، وكان الراغبَ قد قَدَّم الفرقَ بين "عبيد" و"عِباد" فقال: "وجَمْعُ العبدِ الذي هو مسترقٌّ: "عبيد"، وقيل: "عِبِدَّى"، وجمعُ العبد الذي هو العابد "عِباد". وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ وجموعُها وما قيل فيها.
* { الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
(4/280)
---(1/1560)
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوااْ}: يجوزُ في مَحَلِّه الألقابُ الثلاثة: فالجَرُّ من ثلاثةِ ِأوجه، الأولُ: أنه صفةٌ لـ"الذين" المخفوضِ بإضافة "قول" إليه. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه صفةٌ لـ"العبيد" أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزجاج. قال ابنُ عطية: "وهذا مُفْسِدٌ للمعنى والرصفِ".
والرفعُ: على القطع بإضمار مبتدأ أي: هم الذين. وكذلك النصبُ على القطعِ أيضاً بإضمارِ فعلٍ لائقٍ أي "اَذُمُّ الذين".
قولُه: {أَلاَّ نُؤْمِنَ} في "أَنْ" وجهان، أحدُهما: أنها على حذفِ حرفِ الجر، والأصلُ: في أن لا نؤمِنَ، وحينئذ يَجِيء فيها المذهبان المشهوران: أهي في محلِّ جر أو نصب. والثاني: أنها مفعولٌ بها على تضمينِ: "عهد" معنى أَلْزَمَ، تقول: "عَهِدْتُ إليه كذا" أي: أَلْزَمْته إياه، فهي على هذا في محلِّ نصب فقط.
(4/281)
---(1/1561)
و"أَنْ" تُكتب متصلةً ومنفصلةً اعتباراً بالأصلِ أو بالإِدغام. ونَقَل أبو البقاء أنَّ منهم مَنء يَحْذِفُها في الخطِّ اكتفاءً بالتشديد. وحكى مكيّ عن المبرد أنها إنْ أُدْغِمَتْ بغنةٍ كُتِبت متصلةً وإلاَّ فمنفصلةً، ونُقِل عن بعضِهم أنها إنْ كانت مخففةً كُتِبَتْ منفصلةً، وإنْ كانَتْ ناصبةً كُتِبَتْ متصلةً، والفرقُ أنَّ المخففةَ معها ضمير مقدرٌ، فكأنه فاصلٌ بينهما بخلافِ الناصبة، وقولُ أهل الخطِّ في مثل هذا: "تُكْتب متصلة" عبارةٌ عن حَذْفِها في الخطِّ بالكلية اعتباراً بلفظ الإِدغام لا أنَّهم يكتبونها متصلةً، ويُثْبتون لها بعضَ صورتِها فيكتبون: أَنْلا، والدليلُ على ذلك أنهم لَمَّا قالوا في "أم من" و"أم ما" ونحوِه بالاتصال إنما يعنون به كتابةَ حرفٍ واحد فيكتبون: أمّن وأمَّا. وفهم أبو البقاء أنَّ الاتصال في ذلك عبارةٌ عن كتابتهم لها بعضَ صورتها ملصقةً بـ"لا"، والدليلُ على أنه فِهِم ذلك أنه قال: "ومنهم مَنْ يَحْذِفُها في الخط اكتفاءً بالتشديد" فَجَعَلَ الحذف قسيماً للوصلِ والفصلِ، ولا يقولُ أحدٌ بهذا.
وتَعَدَّى "نُؤْمِنُ" باللامِ لتضمُّنِه معنى الاعترافِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرة.
(4/282)
---(1/1562)
وقرأ عيسى بن عمر: "بقُرُبان" بضمتين. قال ابن عطية: "إتباعاً لضمِ القافِ، وليس بلغةٍ لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين، وحكى سيبويه: "السُّلُطان" بضم اللام، وقال: "إن ذلك على الإِتباع". قال الشيخ: ولم يَقُلْ سيبويه إنَّ ذلك على الإِتباع بل قال: "ولا نعلمُ في الكلامِ فِعِلان ولا فُعُلان ولكنه قد جاء فُعُلان وهو قلي، قالوا: "السُّلُطان" وهو اسمٌ" قال الشارحُ لكلام سيبويه "صاحبُ هذه اللغمة لا يُسَكِّن ولا يُتْبعُ" وكذا ذكر التصريفيون أنه بناءٌ مستقلٌ، قالوا ولم يجىء فُعُلان إلا اسماً وهو قليلٌ نحو: "سُلُطان". قلت: أمَّا ابنُ عطية فَمُسَلَّمٌ أنه وَهِمَ في النقل عن سيبويه في "سُلُطان" خاصةً، ولكنَّ قولَه في "قُرُبان" صحيحٌ لأِنَّ أهلَ التصريفِ لم يَسْتَثْنُوا إلا السُّلُطان.
والقُرْبان في الأصل مصدرٌ سُمِّي به المفعول كالرَّهْنِ فإنه في الأصلِ مصدرٌ ولا حاجةَ إلى حذْفٍ مضاف. وزعم أبو البقاء أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: بتقريبِ فُرْبانٍ، قال: "أي يُشَرِّع لنا ذلك". وتأكلُه االنارُ" صفةٌ لقُرْبان، وإسنادُ الأكلِ إليها مجازٌ عَبَّر عن إفنائها الأشياءَ بالأكل.
و"من قبلي" و"بالبينات" كلاهما متعلِّقٌ بـ"جاءكم"، والباء تحتملُ المعيةَ والتعديةَ أي: مصاحبين للآيات.
* { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
قوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ}: ليس جواباً للشرط، بل الجوابُ محذوفٌ أيك فَتَسَلَّ" ونحوُه، لأنَّ هذا قد مَضَى وتحقَّق، وفيه كلامٌ طويلٌ تقدَّم لك نظيرُه. والجملةُ من "جاؤوا" في محلِّ رفعِ صفة لـ"رُسُل" و"من قبلك" متعلقٌّ بـ"كُذِّبَ". والباءُ في "بالبينات" تحمتلُ الوجهين كنظيرتِها.
(4/283)
---(1/1563)
وقرأ جمهورُ الناس: "والزبرِ و الكتابِ" مِنْ غيرِ ذكرِ باء الجر، وقرأ ابنُ عامر: "بالزبرِ" بإعادتها، وهشامٌ وحدَه عنه: "وبالكتاب" بإعادتها أيضاً، وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابن عامر ـ رحمه الله ـ. والخَطْبُ فيه سهلٌ، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطف، ومَنْ أتى بها كان ذلك تأكيداً/.
والزُّبُر: جمع زَبُور بالفتح، ويقال: زُبور بالضم أيضاً، وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلامُ عليهما في قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} في النساء.
واشتقاقُ اللفظةِ من "زَبَرْتُ" أي: كَتَبْتُ، وزَرَرْتُه قرأتُه، وزَبَرْتُه: حَسَّنْتُ كتابتَه، وزَبَرْتُه: زجرته، فَزَبور بالفتح فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب بمعنى المركوبِ، و الحَلوب بمعنى المَحْلوب، قال امرؤ القيس:
1503ـ لِمَنْ طَلَلٌ أبصرْتُه فشَجاني * كخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يماني
وقيل: اشتقاقُ اللفظِ من الزُّبْرَة، وهي قطعة الحديد المتروكة بحالها. و"المنير" اسم فاعل من أنار أي: أضاء.
* { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}: مبتدأٌ وخبر، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ. والجمهورُ على "ذائقة الموتِ". بخفض " الموت" بالإِضافة، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نيةِ الانفصالِ. وقرأ اليزيدي: "ذائقةٌ الموتَ" بالتنوين والنصبِ في "الموت" على الأصل. وقرأ الأعمش بعدمِ التنوين ونصبِ "الموت"، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وإرادته، وهو كقول الآخر:
1504ـ فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ * ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
بنصب الجلالة، وقراءة من قرأ: {قل هو الله أحدُ اللهُ} بحذف التنوين من "أحد" لالتقاء الساكنين.(1/1564)
(4/284)
---
ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال: "ويُقْرأ أيضاً شاذاً: {ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} على جعل الهاء ضمير "كل" على اللفظ"، هو مبتدأ أو خبر". انتهى. وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ "كل" مبتدأً، و"ذائقُةُ" خبرٌ مقدمٌ، و"الموتُ" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر "كل"، وأضيف "ذائق" إلى ضمير "كل" باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأنَّ النفسَ هي التي تذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يذوف النفس قلباً للكلام لفهم المعنى، كقولهم: "عَرَضْتُ الناقة على الحوض"، ومنه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} و"أَدْخَلْت القَلنسوة في رأسي". وقوله:
1505ـ مثلُ القنافِذِ هَدَّجون قد بلغَتْ * نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ هَجَرُ
الأصلُ: عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم، وأدخلت رأسي في القَلَنْسوة، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً، فَقَلب، وسيأتي خلاف الناس في القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ التأنيثَ في "ذائقة" إنما هو باعتبار معنى "كل"، وقال: لأنَّ كلَّ نفسٍ نفوسُ، ولو ذُكِّر على لفظِ "كل" جاز"، يعني أنه لو قيل: "كلُّ نفس ذائقٌ كذا" جاز، وقد تقدَّم لك أو البقرةِ أنه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه "كل " إذا كان نكرةً، ولا يجوزُ أن تَعْتَبِر "كلَ"، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك.
(4/285)
---(1/1565)
قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} "ما" كافةٌ لـ "إنَّ" عن العمل وقد تقدَّم مثلُها. وقال مكي: "ولا يجوزُ أَنْ تكونَ "ما" بمعنى الذي لأنه يلزم رفعُ "أجوركم"، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصير التقديرُ: "وإنَّ الذي تُوَفَّوْنه أجورُكم، كقولك: "إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ" وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ والموصولِ بخبر الابتداء" يعني لو كانت "ما" موصولةً لكانت اسمَ "إنَّ" فيلزمُ حينئذٍ رفعُ "أجوركم" على خبرها كقولِه تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ}، فـ"ما" هنا يجوزُ أن تكونَ بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه: إنَّ الذي صَنَعوه أو: إنَّ صُنْعَهم، ولذلك رُفِع "كيد" خراً لها. وقولُه: "وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ" يعني أن "يوم القيامة" متعلِّقٌ بـ"تُوَفَّوْن" فهو من تامِ الصلة، فلو كانت "ما" مصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو "أجوركم" بين أبعاضِ الصلةِ الي هي الفعلُ ومعموله، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلا بعد تمام صلتِه، وهذا وإنْ كانَ من الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ.
وأدغم أبو عمرو الحاءَ من "زُحْزِحَ" في العينِ هنا خاصة قالوا: لطول الكلمةِ وتكريرِ الحاء، دونَ قولِه: {ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {الْمَسِيحُ عِيسَى} ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً، والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً، ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا: "لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ، وهذا عكسُ الإِدغامِ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني، إلا في مسألتين إحداهما: هذه، والثانية الحاء في الهاء نحو: "امدحْ هذا" لا تُقْلَبُ الهاء حاء أيضاً"، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبو عمرو، ولا يُلْتَفت إليه.
(4/286)
---(1/1566)
والغُرور: [يجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ] جمعاً. وقرأ عبدالله بفتح الغين، وفُسِّر بالشيطان، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي: متاع المغرور، أي: المَخْدوع، وأصل الغَرَو: الخَدْع.
* { لَتُبْلَوُنَّ فِيا أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوااْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }
قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ}: هذا جوابُ قسم محذوف تقديره: واللهِ لَتُبْلَوُنَّ. وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذِفت لأمر تصريفيّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُوْنَنَّ، فالنون الأولى للرفع حُذِفت لأجل نون التوكيد، وتَحَرَّكت الواو التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها فَقُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان: الألف وواو الضمير، فَحُذفت الألف لئلا يلتقيا، وضُمِّت الواو دلالةً على المحذوف، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَت الضمةُ على الواو الأولى فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وحُرِّكت الواوُ بحركة مجانسةٍ دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قلبُ مثلِ هذه الواو همزةً لأنها حركةٌ عارضةٌ ولذلك لم تُقْلَبْ ألفاً وإنْ تحركت وانفتح ما قبلها.
وأصلُ لَتَسْمَعُنَّ: تسمعونَنَّ، ففُعِل فيه ما تقدَّم، إلا أن. هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير لأنَّ قبلَها حرفاً صحيحاً.
* { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }
(4/287)
---(1/1567)
قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}: هذا جوابٌ لِما يضمَّنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بك رباليء جرياً على الاسم الظاهر وهو كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه: "فنبذوه". والباقون بالتاء خطاباً على الحكاية تقديرُه: "وقلنا لهم"، وهذا كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ} بالتاء والياء، وتقدَّم تحريره.
وقوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} يَحتمل وجهين، أحدهما: واو الحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحال أي: لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين. والثاني: أنها للعطف، وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ، تقوله: "واللهِ لا يقومُ زيد" من غيرِ نونٍ. وقال أبو البقاء: "ولم يأتِ بها في "تكتمونه" اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ "تكتمونَه" توكيدٌ"، وظاهرُ عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه، وليس كذلك لِما تقدَّم. وقوله: "لأنه توكيدٌ" يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}، فجاءَ قولُه: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} توكيداً في المعنى.
واستحسن الشيخ هذا الوجهَ ـ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً ـ قال: "لأن هذا الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ الجملةُ اسمةً، لأنَّ المضارع المنفيّ بـ"لا" لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه. وغيره يقول: إنها تمتنع إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبدالله "لَتُبَيِّنُونه" من غير توكيد. قال ابن عطية: "وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد، قال سيبويه" انتهى. والمعروف من مذهب البصريين الزومُهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام، وأنشدوا:
1506ـ يميناً يا سلمى لأُوقِنُ أنني * لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ
وقال آخر:
(4/288)
---(1/1568)
1507ـ يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ * يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ
فأتى باللامِ وحدها، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام.
وقرأ ابن عباس: "ميثاقَ النبيين". والضميرِ في قوله: "فنبذوه" يعود على الناس المبيَّن لهم، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين، كان قد تقدَّم لك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم} أنه في أحد الأوجه على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديرِه هنا، أعني قراءة ابن عباس.
* { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "لاتَحْسَبَنَّ ـ فلا يَحْسَبُنَّهم" بالياءِ فيهما ورفع باء "يَحْسَبُنَّهم". وقرأ الكوفيون بتاء الخاطاب وفتحِ الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياءِ الغَيْبة في الأولِ، وبالخطاب في الثاني، وفتح الباءِ فيهما. وقرىء شاذاً بتاءِ الخطابِ وضَمِّ الباء فيها معاً. [ وقُرىء فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما وفتح الباء فيهما أيضاً، فهذه خمس قراءات].
فأمَّا قراءةُ ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه، وذلك أنه لا يخلو" إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ الأولُ مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ أو إلى الموصولِ، فإنْ جَعَلْنا مسنداً إلى ضميرِ غائب: إمَّا الرسولِ عليه السلام أو غيرِه ففي المسألة وجهان، أحدُهما: أنَّ/ "الذين" مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ لدلالةِ المفعولِ الثاني للفعلِ الذي بعده عليه وهو "بمفازة"، والتقدير: لا يَحْسَبَنَّ الرسول أو حاسبٌ الذي يفرحون بمفازة، فلا يَحْسَبُنَّهم بمفازة، فأسند الفعلَ الثاني لضميرِ "الذين"، ومفعولاه: الضميرُ المنصوبُ و"بمافزةٍ".
(4/289)
---(1/1569)
الوجه الثاني: أنَّ "الذين" مفعولٌ أولُ أيضاً، ومفعولهُ الثاني هو "بمفازة" الملفوظِ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوفٌ لدلالةِ مفعولِ الأولِ عليه، والتقديرُ: لا يَحْسَبَنَّ الرسول الذين يفرحون بفمازةٍ فلا يَحْسَبُنَّهم كذلك، والعمل كما تقدم. وهذا بعيدٌ جداً للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلامٍ طويل من غير حاجةٍ. والفاءُ على هذين الوجهين عاطفةٌ، والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصولِ ففيه ثلاثة أوجه، أولها: أَنَّ الفعل الأول حُذِف مفعولاه اختصاراً لدلالة مفعولي الفعل الثاني علهيما تقديره: لا يَحْسَبَنَّ الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يَحْسَبُنَّهم فائزين كقول الآخر:
1508ـ بأيَّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ * ترى حُبَّهم عاراً علي وتَحْسَبُ
أي: وتَحْسَبُ حُبَّهم عاراً، فحَذَف مفعولي الفعل الثاي لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكسُ الآية الكريمة حيث حُذِف فيها من الفعل الأول.
الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ الأول لم يَحْتَجْ إلى مفعولين هنا. قال أبو علي: "يَحْسَبَنَّ" لم يقع على شيء، و"الذين" رفع به، وقد تجيء هذه الأفعالُ لغواً في حكم الجمل المفيدة كقوله:
1509ـ وما خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودةٍ * عِراضُ المَذَاكي المُسْنِفِاتِ القلائِصا
وقال الخليل: "العربُ تقول: ما رأيتُه يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا عمرو" يعني أبو علي: أنها في هذه الأماكنِ ملغاة لا مفعولَ لها.
الثالث: أن يكونَ المفعولُ الأول محذوفاً. الثاني هو نفس "بمفازة" ويكون "لا يَحْسَبُنَّهم" تأكيداً للفعل الأول. وهذا رأي الزمخشري، فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة: "على أنَّ الفعلَ اللذين يفرحون، والمعفولُ الأولُ محذوفٌ على معنى: "لا يَحْسَبَنَّهم الذين يفرحون بمفازةٍ" بمعنى: لا يَحْسَبَنَّ أنفسَهم الذين يفرحون فائزين، "فلا يَحْسَبُنَّهم" تأكيد انتهى.
(4/290)
---(1/1570)
قال الشيخ: "وتقدَّم لنا الردُّ على الزمخشري في تقديره: "لا يَحْسَبَنَّهم الذين" في قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} وأن هذا التقدير لا يَصِحُّ". قلت: قد تقدم ذلك والجواب عنه بكلام طويل، لكن ليس هو في قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} بل في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في قراءةِ مَنْ قرأه بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أَجَبْتُ عنه والحمد لله، وإنما نَبَّهْتُ على الموضع لئلا يُطْلَبَ هذا البحثُ من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقال في تقرير هذا الوجه الثالث: إنه حَذَف من أحد الفعلين ما أثبتَ نظيرَه في الآخر، وذلك أن "بمفازة" مفعولٌ ثان للفعل الأول حُذِفَتْ من الفعل الثاني، و"هم" في : "فلا يَحْسَبُنَّهم" مفعولٌ أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأول. وإذا عَرَفْتَ ذلك فالفعل الثاني على هذه الأوجه الثلاثة تأكيدٌ للأول.
وقال مكي: "إن الفعل الثاني بدلٌ من الأول"، وتسمية مثلِ هذه بدلاً فيهن نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنَّه في حكم المكرِر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد، ولذلك قال بعضُهم: "والثاني معادٌ على طريق البدل مشوباً بمعنى التأكيد" وعلى هذين القولينِ ـ أعني كونَه توكيداً أو بدلاً ـ فالفاءُ زائدةٌ ليسَتْ عاطفةً ولا جواباً.
وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أصله: يَحْسَبُونَنَّهم بنونين، الأولى نون الرفع والثانية للتأكيد، وتصريفُه لا يَخْفى من القواعد المقتدمة. وتعدَّى هنا فعلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل، وهو خاصٌّ بباب الظن وبـ"عَدِمَ وفَقَد دونَ سائر الأفعالِ لو قلت: "أكرمتُني" أي: "أكرمت أنا نفسي" لم يَجُزْ، وموضعُ تقريرِه غير هذا.
(4/291)
---(1/1571)
وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب: إمَّا الرسولِ عليه السلام، أو كلِّ مَنْ يصلح للخطاب، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعل الأول مسندٌ لضمير غاائب. والفعل الثاني تأكيدٌ للأول أو بدلٌ منه، والفاءُ زادئة كما تقدَّم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير على قولنا إن الفعلين مسندان للموصول لأن الفاعل فيها واحد. واستدلوا على أن الفاء زائدة بقوله:
1510ـ لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهلكتُه * وإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي
ويقول الآخر:
1511ـ لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيم جِرْمُها * فتركْتُ ضاحي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي: تركت. وقولِ الآخر:
1512ـ حتى تَرَكْتُ العائداتِ يَعُدْنَه * فيقلن: لا يَبْعدْ وقلت له: أبعَدِ
إلا أن زيادةَ الفاء ليس رأيَ الجمهور، إنما قال به الأخفش.
وأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني فوجْهُها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيها يُؤْخَذُ مِمَّا تقدم، فيؤخذ الكلامُ في الفعل الأول من الكلام على قراءةِ أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يَليق به، إلا أنه يَمْتنع هنا أن يكونَ الفعلُ الثاني تأكيداً للأول أو بدلاً منه لاختلافِ فاعليهما، فتكون الفاءُ هنا عاطفةً ليس إلا. وقال أبو علي في "الحجة": "إنَّ الفاء زائدةٌ والثاني بدل من الأول"، قال: "ليس هذا موضعَ العطفِ لأنَّ الكلامَ لم يتِمَّ، ألا ترى أنَّ المفعول الثاني لم يُذْكَر بعدُ". وفيه نظر لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فيهما مع ضَمَّ الباء فيهما فالفعلان مسندان لمضيرِ المؤمنين المخاطبين، والكلامُ في المفعولين كالكلامِ فيهما في قراءة الكوفيين.
(4/292)
---(1/1572)
وأمَّا قراءةُ الغيبة وفتحِ الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب أي: لا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو حاسِبٌ، والكلامُ في المفعولين للفعلين كالكلامِ في القراءة التي قبلها. والثاني من الفعلين تأكيدٌ أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ على هاتين القرائتين لاتحادِ الفاعل.
وقرأ النخعي ومروان بن الحكم: "بما آتَوا" ممدوداً أي: أعطَوا. وقرأ أُبيّ "أُوتوا" مبنياً للمفعول.
قوله: {مِّنَ الْعَذَابِ} فيه وجهان، احدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ"مفازة" أي: بمفازةٍ كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنا "مفارزة" مكاناً أي: بموضع فوز. قال أبو البقاء "لأنَّ المفازة مكانٌ، والمكانُ لا يعمل"، يعني فلا يكونُ متعلقاً بها، بل بمحذوف على أنه صفةٌ لها، إلاَّ أنَّ جَعْلَه صفةً مشكلٌ، لأنَّ المفازة لا تتصف بكونِها من العذاب، اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوفُ الذي يتعلق به الجار شيئاً خاصاً [حتى يصح] المعنى، تقديرُه: بمفازةٍ منجيةٍ من العذاب، وفيه الإِشكالُ المعروفُ وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوفُ في مثلِه إلا كوناً مطلقاً.
الوجه الثاني: أنه يتعلَّق/ بنفس "مفازة" على أنها مصدر بمعنى الفوز تقول: "فزت منه" أي: نَجَوْتُ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالَّةَ على التوحيد فهو كقوله:
1513ـ فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ * عقابَك قد كانوا لنا كالمَوارِدِ
فأعمل "رهبةٌ" في "عقابَك" وهو مفعول صريح فهذا أَوْلى. وقالَ أبو البقاء: "ويكون التقدير: فلا تَحْسَبَنَّهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعل" انتهى. فإنْ أراد تفسير المعنى فذاك، وإنْ أراد أنه بهذا التقديرِ يَصِحُّ التعلُّقُ فلا حاجةَ إليه، إذ المصدرُ مستقل بذلك لفظاً ومعنى.
(4/293)
---(1/1573)
* { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ}: فيه خمسة أوجه، أولها: أنه نعت لـ"أُولِي"، فهو مجرورٌ. وثانِيها: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين. وثالثها: أنه منصوبٌ بإضمار "أعني"، وهذان الوجهان يُسَمِّيان بالقطع، وقد تقدم ذلك مراراً. الرابع: أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: يقولون: ربَّنا. قاله أبو البقاء. وخامسها: أنه بدلٌ من "أُولي" ذكره مكي. وأول الوجوه هو الأحسن.
و{قِيَاماً وَقُعُوداً} حالان من فاعل "يَذْكُرون". و{وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً وموضطجعين، فَعَطَفَ الحالَ المؤولة على الصريحة، عكسَ الآية الأخرى وهي قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً}، حي عطف الصريحةَ على المؤولة. و"قياماً" و"قعوداً" جمعان لـ"قائم" و"قاعد". وأُجيز أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأوَّلان على معنى ذوي قيام وقعود، ولا حاجةَ إلى هذا.
قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان، أظهرُها: أنها عطف على الصلةِ فلا محلَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال عطفاً على "قياماً" أي: يذكرونه متفكرين. فإنْ قيل: هذا مضارعٌ مثبت فكيف دخلت عليه الواوُ؟ فالجوابُ أن هذه واوُ العطف، والممنوعُ إنما هو واو الحال.
(4/294)
---(1/1574)
و"خَلْق" فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على أصله أي: يتفكرون في صنعة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله. الثاني: أنه بمعنى المفعول أي: في مخلوق السموات والأرض، وتكون إضافتُه في المعنى إلى الظرف أي: يتفكرون فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرِها. وقال أبو البقاء: "وأن يكون بمعنى المخلوق؛ ويكون من إضافةِ الشيءِ إلىش ما هو في المعنى" وهذا كلامٌ متهافتٌ إذ لا يُضاف الشيءُ إلى نفسِه، وما أَوْهم ذلك يُؤَوَّل.
قوله: "ربَّنا" هذه الجلمة في محلِّ نصب بقول محذوف تقديره" يقولون. والجملةُ القولية فيها وجهان، أظهرهما: أنها حال من فاعل "يتفكرون" أي: يتفكرون قائلين: ربنا، وإذا أعربنا "يتفكرون" حالاً كما تقدم فتكونُ الحالان متداخلتين. والوجه الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"الذين" على قولِنا بأنه مبتدأ، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء.
و"هذا" في قوله: {مَا خَلَقْتَ هَذا} إشارةٌ إلى الخَلْق إن أريد به المخلوق. وأجاز أبو البقاء حالَ الإشارة إليه بـ"هذا" أن يكون مصدراً على حالِه لا بمعنى المخلوق. وفيه نظرٌ، أو إلى السموات والأرض، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما جَمْعٌ، لأنهما بتأويل: هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجمع فأُشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع.
(4/295)
---(1/1575)
قوله: {بَاطِلاً} في نصبه خمسةُ أوجه، أحدها: نعت لمصدر محذوف أي: خلقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثلَ هذا حالاً من ضميرِ ذلك المصدر. الثاني: أنه حالٌ من المفعول به وهو "هذا". الثالث: أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء، والمعنى: ما خلتقهما بباطلٍ بل بحقٍّ وقُدرةٍ. الرابع: أنه مفعول من أجله، و"فاعِل" قد يجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ. الخامس: أنه مفعول ثاني بـ"خَلَق" قالوا: و"خلق" إذا كانت بمعنى جعل التي تتعدى لا ثنين تعدَّت لاثنين، وهذا غير معروف عند أهل العربية، بل المعروف أنَّ "جَعَلَ" إذا كانت بمعنى "خَلَقَ" تعدَّتْ لواحد فقط. وأحسنُ هذه الأعاريبِ أن يكونَ حالاً من "هذا"، وهي حالُ لا يُسْتغنى عنها، لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ
}. و{سُبْحَانَكَ} تقدم إعرابه وهو معترضٌ بين قوله: "ربنا" وبين قوله: "فَقِنا"، وقال أبو البقاء: "دخلت الفاء لمعنى الجزاء، والتقدير: إذا نَزَّهناك أو وحَّدْناك فَقِنا". وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبُّبُ فيها ظاهر، تسبَّب عن قولهم: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} طَلَبُهُمْ وقايةَ النار. وقيل: هي لترتيب السؤال على ما تضمَّنه "سبحان" من معنى الفعل أي: سبحانك فقِنا، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما تضمَّنه النداء.
* { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
(4/296)
---(1/1576)
قوله تعالى: {مَن تُدْخِلِ}: "مَنْ" شرطيةٌ مفعولٌ مقدَّم واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام، و"تُدْخِل" مجزوم بها. و{فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} جوابُها. وحكى أبو البقاء عن بعضهم قولين غريبين. أحدهما: أن تكونَ "مَنْ" منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره قوله: "فقد أَخْزَيْتَه، وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الاشتغالِ صحةَ تسلُّط ما يُفَسر على ما هو منصوب، والجواب لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدَّم على الشرط. الثاني: أن "مَنْ" مبتدأ، والشرطُ وجوابُه خبر هذا المبتدأ، وهذان الوجهان غَلَطٌ. الله أعلم. وعلى الأقوالِ كلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"إنَّ".
ويُقال: خَزَيْتُه وأَخْزَيْتُه ثلاثياً ورباعياً، والأكثرُ الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً إذا افتضح، وخَزاية إذا استحيا فالفعلُ واحد، وإنما يتميز بالمصدر كما تقدم.
قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "مِنْ" زائدة لوجود الشرطين، وفي مجرورها وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ وخبرُه الجارِّ قبله، وتقديمُه هنا جائزٌ لا واجبٌ لأنَّ النَّفْيَ مُسَوِّغ، وحَسَّنَ تقديمَه كونُ مبتدئِه فاصلةً. الثاني: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله لاعتمادِه على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميع.
* { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ }
قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي}: "سمع" إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ أن يُسْمع نحو: "سمعت كلامك وقراءتك" تعدَّت لواحد، وإنْ دخلت على ما لا يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه، بل لا بد من الدلالةِ على شيء يُسْمع نحو: "سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم".
(4/297)
---(1/1577)
وللنحويين في هذه المسألة قولان، أحدُهما: أنها تتعدى فيه أيضاً إلى معفولٍ واحد، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ، وحالاً إنْ كان معرفة. والثاني:ـ قول الفارسي وجماعة ـ تتعدَّى لاثنين الجملةُ في محلِّ الثاني منهما. فعلى قولِ الجمهور يكون "يُنادي" في محلِّ ناصب لأنه صفةٌ لمنصوبٍ قبلَه، وعلى قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول ثاني.
وقال الزمخشري: "تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، فَتُوْقِعُ الفعلَ على الرجل، وتَحْذِف المسموع لأنك وَصَفْتَه بما يسمع أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بَدٌّ، وأن تقولَ: سَمِعْتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه". وهذا قولُ الجمهور الذي قَدَّمْتُ لكز ذكرَه. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض عليه فقال: قوله: ولولا الوصفُ أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومع ذلك تَدْخُل "سمع" على ذاتٍ لا على مسموع" كقوله تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} فأغنى ذكرُ ظرفِ الدعاءِ من المسموعِ".
وأجاز أبو البقاء في "يُنادي" أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من الضميرِ المستكن في "مناديا".
فإن قيل: فما الفائدة في الجَمْع بين "منادٍ" و"ينادي"؟ فأجاب الزمخشري بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإِيمان تفخيماً لشأن المنادي لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ للإيمان، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَب الوهمُ إلى منادٍ للحرب أو لإِطفاء الثائرة أو لإِغاثة المكروب أو لكفاية بعضِ النوازِل أو لبضعِ المنافعِ، فإذا قلت: "ينادِي للإِيمان" فقد رَفَعْتَ من شأن المنادي وفَخَّمته.
(4/298)
---(1/1578)
وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أوجه/ أحدها: التوكيد نحو: قم قائماً. الثاني: أنه وُصِل به ما حَسَّن التكريرَ وهو "للإِيمان". الثالث: أنه لو اقْتُصِر على الاسمِ لجاز أن نسمع معروفاً بالنداء يَذْكُر مال يس بنداء فلمَّا قال "يُنادِي" ثبتَ أنهم سمعوا نداءَه في هذه الحال.
ومفعولُ "ينادي" محذوف أي: ينادي الناس. ويجوزُ ألاَّ يرادَ مفعول نحو: {أَمَاتَ وَأَحْيَا}. و"نادى" و"دعا" يتعدَّيان باللام تارة وبـ"إلى" أخرى، وكذلك "ندب". قال الزمخشري: وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً" فاللامُ في موضِعها، ولا حاجةَ إلى أَنْ يقال: إنها بمعنى "إلى" ولا إنها بمعنى الباء، ولا إنها لام العلة أي: لأجل الإِيمان كما ذهب إلى ذلك بعضهم.
قوله: {أَنْ آمِنُواْ} في "أَنْ" قولان، أحدهما: أنها تفسيرية لأنها وَقَعتْ بعد فعلٍ بمعنى القول لا حروفِه، وعلى هذا فلا موضعَ لها من الإعراب. والثاني: أنها المصدريةُ وُصِلَتْ فعل الأمر، وفي وصلها به نظرٌ من حيث إنها إذا انسبك منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ تفوتُ الدلالة على الأمرية، واستدلُّوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم: "كَتَبْتُ إليه بأنْ قم" فهي هنا مصرية ليس إلا، وإلاَّ يلزمْ تعليقُ حرف الجر. ولهذا موضعُ هو أليقُ به، وإذ قيل بأنها مصدرية فالأصل التعدِّي إليها بالباء أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبان المشهوران: الجر والنصب.
وقوله: {فَآمَنَّا} عطف على "سمعنا"، والعطفُ بالفاءِ مؤذنٌ بتعجيل القبول وتسبُّبِ الإِيمان عن السماع من غير مُهْلة، والمعنى: فآمَنَّا بربنا.
قوله: {مَعَ الأَبْرَارِ} ظرفٌ متعلِّق بما قبله أي: تَوَفَّنا معدودين في صحبتهم. وقيل: تُجُوَّز به هنا عن الزمان. ويجوز أن يكون حالاً من المفعول فيتعلَّق بمحذوف، وأجاز مكي وأبو البقاء أن تكونَ صفةً لمحذوف أي: أبراراً مع الأبرار كقوله:
(4/299)
---(1/1579)
1514ـ كأنَّك مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ * يُقَعْقَعُ خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّ
أي: كأنك جَمَل من جمال. قال أبو البقاء: "ويكون" أبراراً" حالاً، ولا حاجة إلى دعوى ذلك. والأبرارُ يجوز أن يكون جمع "بارّ" كصاحِب وأَصْحاب، أو بَرّ بزنة "كَتِف" نحو: كَتِف وأكتاف"
* { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
قوله تعالى: {عَلَى رُسُلِكَ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلق بـ"وَعَدْتَنا" قال الزمخشري: "على" هذه صلةُ للوعد في قولك: "وعد الله الجنة على الطاعة" والمعنى: ما وَعَدْتنا في تصديقِ رسلك. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال من المفعول وقَدَّره الزمخشري بقوله: "مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرسل مُحَمَّلون ذلك: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ}. ورَدَّ الشيخ عليه بأن الذي قدَّره محذوفاً كون مقيد، وقد عُلِم من القواعد أن الظرف والجار إذا وقعا حالين أو وصفين أو خبرين أو صلتين تعلَّقا بكون مطلق، والجارُّ هنا وقع حالاً فكيف يُقَدَّر متعلَّقُه كوناً مقيداً وهو "مُنَزَّ" أو "محمول"؟ الثالث: ذكره أبو البقاء أن تتعلق "على" بـ"آتِنا"، وقَدَّر مضافاً فقال: "على ألسنة رسلك" وهو حسن.
والميعاد: اسمُ مصدرٍ بمعنى الوعد. "ويوم القيامة" فيه وجهان، أحدهما: أنه مصوبٌ بـ"لا تُخْزِنا"، والثاني: أجازه الشيخ أن يكون من باب الإِعمال؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً بـ"لا تُخْزِنا" وبـ"آتِنا ما وعدتنا" إذا كان الموعودُ به الجنةَ. وقرأ الأعمش: "رُسْلِك" بسكون السين.
(4/300)
---(1/1580)
* { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }
قوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ}: الجمهورُ على فتح "أَنَّ" والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان. وقرأ أُبَيّ: "بأني" على هذا الأصل. وقرأ عيسى بن عمر بالكسرِ وفيه وجهان، أحدهما: أ،ه على إضمارِ القول أي: وقال إني. والثاني: أنه على الحكاية بـ"استجاب" لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين.
و"استجاب" بمعنى أجاب، ويتعدَّى بنفسه وباللام، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}. ونقل تاج القُرَّاء أن "أجاب" عام، و"استجاب" خاص في حصول المطلوب.
والجمهورُ: "أُضيع" من أضاع, وقرىء بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ فيه للنقل كقوله:
1515ـ كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ * بني بَطْنِها، هذا الظلالُ عن القصدِ
قوله: "منكم" في موضعِ جر صفةً لـ"عامل" أي كائنٍ منكم.
(4/301)
---(1/1581)
وأمَّا "مِنْ ذَكَرٍ" ففيه خمسة أوجه، أحدُها: أنها لبيان الجنس، بَيَّنَ جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكر أو أنثى، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك. الثاني: أنها زائدة لتقدُّم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون "مِنْ ذَكَر" بدلاً من نفسِ "عامل" كأنه قيل: عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه "مِنْ". الثالث: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في "منكم"، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً، والعاملُ في الحالِ العاملُ في "منكم" أي: عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر. الرابع: أَنْ يكونَ "مِنْ ذكرٍ" بدلاً مِنْ "منكم"، قال أبو البقاء "وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدةٍ" يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ} {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ}. وفيه إشكالٌ من وجهين: أحدهما: أنه بدلٌ ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش. وقَيَّد بعضُهم جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله:
1516ـ فما بَرِجَتْ أقدامُنا في مَقامِنا * ثلاثتُنا حتى أُزيروا المنائيا
قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فلمَّا أفادَ الإِحاطةَ والتأكيدَ جاز. استدلَّ الأخفشُ بقوله:
1517ـ بكمْ قريشٍ كُفِينا كلَّ مُعْضِلَةٍ * وأمَّ نهَجَ الهدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وقول الآخر:
1518ـ وشَوْهاءَ تَعْدو بي إلى صارخِ الوغَى * بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفَنيق المُدَجَّل
فـ"قريش" بدلٌ من "كم"، و"بُمْستلئم" بدل من "بي" بإعادة حرفِ الجرِّ، وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور.
الثاني: أنَّ البدل التفصيلي لا يكون بـ"أو"، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله:
(4/302)
---(1/1582)
1519ـ وكنت كذي رِجْلَيْن رِجْلٍ صحيحةٍ * ورِجْلٍ رَمَى منها الزمانُ فَشَلَّتِ
وقد يُمكن أن يجابَ ع نه بأن "أو" قد تأتي بمعنى الواو كقوله:
1520ـ قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ * ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
فـ"أو" بمعنى الواو، لأنَّ "بين" لا تَدْخُل إلا على متعدد، وكذلك هنا لَمَّا كان "عاملٍ" عامًّاً أُبدل منه على سبيل التوكيد، وعُطِف على أحد الجزأين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكَّد العمومُ إلا بعموم. الخامس: أن يكون "مِنْ ذَكرٍ" صفةً "ثانية" لـ"عامل" قَصَد بها التوضيحَ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كالتي قبلها.
قوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّ هذه الجملة استئنافيةٌ جيء بها لتبيين شِرْكَةِ النساء مع الرجال في الثواب الذي وَعَد الله به عبادَه العاملين، لأنه يُروى في الأسباب أنَّ أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ سألَتْه عليه السلام عن ذلك فنزلت، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأنَّ بعضكم مأخوذٌ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العملِ لا يُثاب رجلٌ عاملٌ دونَ امرأة عاملة.
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنها جملةٌ معترضةٌ. قال: "وهذه جلمةٌ معترضةٌ بُيِّنَتْ بها شِرْكةُ النساء من الرجالِ فيما وعَدَ اللهُ العاملين" ويعني بالاعتراضِ أنها جِيءَ بها بين قولِه {عَمَلَ عَامِلٍ} وبينَ ما فُصِّلَ به عملُ العاملِ مِنْ قولِه: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ}، ولذلك قال الزمخشري: "فالذين هاجروا تفصيلٌ لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم.
والثاني: أن هذه الجملة صفة. الثالث: أنها حالٌ، ذكرهما أبو البقاء، ولم يعيِّن الموصوفَ ولا ذا الحال، وفيه نظر.
(4/303)
---(1/1583)
قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} مبتدأٌ، وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: واللهِ لأكفِّرَنَّ، وهذا القسمُ وجوابُه خبرٌ لهذا المبتدأ، وفي هذه الآيةِ ونظائرِها من قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ}. وقول الشاعر:
1521ـ جَشَأَتْ فقلتُ اللَّذْ خَشِيْتِ ليأتِيَنْ * وإذا أتاكِ فلاتَ حين مَناصِ
رَدٌّ على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبراً. وله أن يقول: هذه معلومةٌ لقولٍ مضمرِ هو الخبرُ، وله نظائر.
والظاهرُ أنَّ هذه الجمل التي بعد الموصول كلُّها صلاتٌ له، فلا يكون الخبر إلا لِمَنْ جمع بين هذه الصفات: المهاجرة والقتل والقتال، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذَف الموصولاتِ لفَهْم المعنى، وهو مذهب الكوفيين، وقد تقدَّم القول فيه، والتقدير: فالذين هاجروا، والذين أُخرجوا، والذين قاتلوا، فيكون الخبر بقوله: لأكفرنَّ عَمَّن اتصف بواحدة من هذه/.
وقرأ جمهور السبعة: "وقاتَلوا وقُتِلوا" ببناء الأول للفاعل من المفاعلة، والثاني للمفعول، وهي قراءةُ واضحة. وابن عامر كثير كذلك، إلا أنهما شَدَّدا التاء من "قُتِّلوا" للتكثير، وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل. وتوجيهُ هذه القراءةِ بأحدِ معنيين: إما أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيب فلذلك قُدِّم معها ما هو متأخرٌ في المعنى، هذا إن حملنا ذلك على اتِّحاد الأشخاص الذي صَدَّر منهم هذان الفعلان. الثاني: أن يُحْمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِل ومنهم مَنْ قاتل. وهذه الآية في المعنى كقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ}، والخلافُ في هذه كالخلاف في قوله {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} في براءة، والتوجيهُ هناك كالتوجيه هنا.
وقرأ عمر بن عبدالعزيز: "وقَتَلوا وقُتِلوا" ببناء الأول للفاعل من "فَعَل" ثلاثياً، والثاني للمفعول، وهي كقراءة الجماعمة.
(4/304)
---(1/1584)
وقرأ محارب بن دثار: "قَتَلوا وقاتلوا" ببنائها للفاعل. وقرأ طلحة ابن مصرف: "وُتِّلوا وقاتَلوا" كقراءةِ حمزة والكسائي، إلاَّ أنَّه شدَّد التاءَ، والتخريجُ كتخريج قراءتهما. ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء: "قاتلوا وقُتِّلوا" بتشديد التاء من "قُتِّلوا"، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدَّم، وكأنه لم يَعْرف أنها قراءتُهما.
قوله: "ثواباً" في نصبه ثمانيةُ أوجه، أحدها: أنه نصب على المصدرِ المؤكَّدِ، لأنَّ معنى الجملة قبله يقتضيه، والتقدير: لأُثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع "ثواباً" موضعَ أحدِ هذين المصدرين، لأنَّ الثواب في الأصل اسمٌ لِما يُثاب به كالعَطاء: اسمٌ لما يُعْطى، ثم قد يقعان موقع المصدر، وهو نظيرُ قولهِ: {صُنْعَ اللَّهِ}، و{وَعْدَ اللَّهِ} في كونهما مؤكِّدين. الثاني: أن يكونَ حالاً من "جنات" أي: مُثاباً بها، وجاز ذلك وإنْ كنت نكرةً لتخصُّصها بالصفة.
(4/305)
---(1/1585)
والثالث: أنه حال من ضميرِ المفعول أي: مُثابِين. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في "تجري" العائدِ على "جنات". وخَصَّص أبو البقاء كونَه حالاً بجَعْلِه بمعنى الشيء المُثابِ به. قال: "وقد يقع بمعنى الشيء المثاب بِه كقولك: "هذا الدرهَمُ ثوابُك" فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات أي: مُثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير المفعول به في لأَدْخِلنهم". الخامس: نصبُه بفعلٍ محذوف أي: يُعطيهم ثواباً, السادس: أنه بدلٌ من "جنات"، وقالوا: على تضمين "لأدْخلنهم". لأعْطِيَنَّهم لَمَّا رأوا أ، الثواب لا يَصِح أن يُنْسَبَ إليه الدخولُ فيه احتاجوا إلى ذلك. ولقائلٍ أن يقول: جَعَل الثوابَ ظرفاً لهم مبالغةً، كما قيل في قوله: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}. السابع: أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء. والثامن: أنه منصوب على القطع، وهو مذهب الكسائي، إلاَّ أنَّ مكيّاً لمَّا نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحال، وعلى الجملةِ فهذان وجهان غريبان يُبْعُد فهمهما.
و{مِّن عِندِ اللَّهِ} صفةٌ له.
وقوله: {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ} الأحسنُ أن يرتفعَ "حسن الثواب" على الفاعلية بالظرفِ قبله، لاعتماده على المبتدأ قبله، والتقدير: والله استقر عنده حسنُ الثواب، ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ والطرفُ قبلَه خبرُه، والجملة خبرُ الأول، وإنما كان الوجهُ الأولُ أحسنَ لأنَّ فيه الإِخبارَ بمفرد وهو الأصلُ، بخلافِ الثاني فإنَّ الإِخبار فيه بجملة.
* { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }
وقرأ ابن أبي إسحاق: {لاَ يَغُرَّنَّكَ}: بتخفيف النون، وكذلك: {لاَ يَغُرَّنَّكُمْ} و{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} و{وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ
}.
* { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
(4/306)
---(1/1586)
قوله تعالى: {مَتَاعٌ}: خبرُ مبتدأ محذوف دَلَّ عليه الكلام تقديره: تَقَلُّبهم أو تَصَرُّفهم متاع قليل، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: ولبئسَ المهادُ جهنمُ.
* { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }
قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ}: قرأ الجمهورُ بتخفيفِها، وأبو جعفر بتشديدِها، فعلى القراءةِ الأولى: الموصولُ رفعٌ بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت "لكن" هنا أحسنَ موقع، فإنَّها قوعت بين ضدين: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ المتقين، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك وأنَّ لهم ما وعدهم به.
(4/307)
---(1/1587)
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين، أحدهما: الرفع على النعت لـ"جنات". والثاني: النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ في "لهم" قال: "وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في "لهم"؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ "جنات" بالابتداء، فإنْ رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في "لهم" ضميرُ مرفُوع إذ هو كالفعل المتقدم". يعني أن "جنات" يجوز رفُعها من وجهين، أحدُهما: الابتداءُ والجارُّ قبلها خبرها والجملةُ خبر "الذين اتقوا". والثاني: بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها اعتمد بكونِه خبراً للذي اتقوا، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد، فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وجهان: الرفعُ على النعتُ والنصبُ علىلحالِ من الضمير المرفوعِ في "لهم" لِتحمُّلِه حينئذ ضميراً، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها في موضعِ رفعٍ نعتاً لها، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ "لهم" ليس فيه حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ. "وخالدين" نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في "لهم"، والعاملُ فيه معنى الاستقرار.
قوله: {نُزُلاً" النُّزْلُ: ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف. قال أبو الشعراء الضبي:
1522ـ وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا * جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء، وإنْ لم يكن لضيف، ومنه: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} وفيه قولان: هل هو مصدر أو جمع نازل، نحو قول الأعشى:
1523ـ ...................... * أو تَنْزِلون فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
(4/308)
---(1/1588)
إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى "لهم جنات" نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً. وقَدَّره الزمخشري بقوله: "رزقاً وعطاءً من عند الله". الثاني: نصبُه بفعل مضمر أي: جَعَلهم لهم نُزُلاً. الثالث: نصبُه على الحال من "جنات" لأنها تخصصت بالوصف. الرابع: أن يكون حالاً من الضمير في "فيها" أي: مُنَزَّلةً إذا قيل: بأن "نُزُلاً" مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء. الخامس: أنه حال من الضمير المستكنِّ في "خالدين" إذا قلنا إنه جمع نازل، قاله الفارسي في "التذكرة". السادس ـ وهو قول الفراء ـ: نصبه على التفسير أي: التمييز، كما تقول: "هو لك هبةً أو صدقة"، وهذا هو القول بكونه حالاً.
والجهورُ على ضم الزاي. وقرأ الحسن والأعمش/ والنخعي بسكونها وهي لغة، وعليها البيت المتقدم، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكَّنُ مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق: الأول.
قوله: {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه، لأنك إنْ جَعَلْتَ "نُزُلاً" مصدراً كان الظرف صفةً له، فيتعلق بمحذوف أي: نزلاً من عند الله على سبيل التكريم، وإنْ جَعَلْتَه جمعاً كان في الظرفِ وجهان، أحدهما: جَعْلُه حالاً من الضمير المحذوف تقديره: نُزُلاً إياها. والثاني: أنه خبر محذوف أي: ذلك من عند الله، نقل ذلك أبو البقاء.
(4/309)
---(1/1589)
قوله: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ}: "ما" موصولةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، والخبر: "خَيْر: و"للأبرار" صفة لـ"خير"، فهو في محلِّ رفع، ويتعلَّقُ بمحذوف. وظاهرُ عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس "خير" فإنه قال: "وللأبرار متعلق "بخير",. وأجاز بعضهم أن يكون "للأبرار" هو الخبرَ، و"خيرٌ" خبر ثان. قال ابو البقاء: "والثاني ـ أي الوجه الثاني ـ أن يكون الخبر "للأبرار"، والنية به التقديم، أي: والذي عند الله مستقر للأبرار، و"خيرر" على هذا خبرٌ ثان"، وفي ادِّعاء التقديم والتأخير نظرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكونَ بالاسمِ الصريح، فإذا اجتمع خبرٌ مفردٌ صريحٌ وخبرٌ مؤول به بُدِىء بالصريحِ من غيرِ عكسٍ، كالصفة، فإذا وقعا في الآيةِ على الترتيبِ المذكورِ فكيف يُدَّعى فيهما التقديمُ والتأخير؟.
ونقل أبو البقاء عن بعضِهم أنه جَعَل "للأبرار" حالاً من الضمير في الظرف، و"خير" خبر المبتدأ، قال: وهذا بعيدٌ، لأنَّ فيه الفصلَ بين المبتدأ وخبره بحالٍ هي لغيره، والفصلَ بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ، وذلك لا يَجُوز في الاختيار.
وقال الشيخ: "وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرارِ خيرٌ، قال: "وهذا ذهولٌ عن قاعدِة العربية: من أنَّ المجرورَ إذ ذاك يتعلق بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً للموصول، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة، ولا يُخْبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها". فإنْ عنى الشيخُ بالتقديمِ والتأخيرِ هذه الوجهَ ـ أعني جَعْلَ "للأبرار" حالاً من الضمير في الظرف ـ فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحال حينئذ الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقعِ صلةً، فيلزَمُ ما قاله، وإنْ عنى به الوجهَ الأول ـ أعني جَعْلَ "للأبرار" خبراً، والنيةُ به التقديمُ، و"بـ"خير" التأخيرُ كما ذكر أبو البقاء ـ فلا يَلْزَم ما قال، لأنَّ "للأبرار" حينئذٍ يتعلَّقُ بمحذوفٍ آخر غير الذي تعلَّق به الظرف.
(4/310)
---(1/1590)
و"خير" هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإنْ كانت للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خبرٌ للأبرار مِمَّا لهم في الدنيا، ويحتمل: خير لهم مما يَتَقَلَّب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.
* { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلاائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {لَمَن يُؤْمِنُ}: اللام لام الابتداء دَخَلَتْ على اسم "إنَّ" لتأخُّره عنه. و{مِنْ أَهْلِ} خبرٌ مقدم، و"مَنْ" يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وهو الاظهرُ، وموصوفةً أي: لقوماً، و"يؤمِنْ" صلةٌ على الأول فلا محلَّ له، وصفةٌ على الثاني فمحلُّه النصب, وأتَى هنا بالصلةِ مستقبلةً وإن كان ذلك قد مضى، دلالةً على الاستمرارِ والديمومة.
قوله: {خَاشِعِينَ} فيه اربعةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الضمير في "يؤمنُ"، وجَمَعَه حَمْلاً على معنى "مَنْ" كما جَمَع في قوله: "إليهم"، وبدأ بالحمل على اللفظ ـ في "يُؤمِنُ" ـ على الحمل على المعنى لأنه الأَوْلى. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في "إليهم"، فالعامل فيه "أنزل". الثالث: أنه حالٌ من الضمير في "يَشْترون"، وتقديمُ ما في حَيِّز "لا" عليها جائزٌ على الصحيح، وتقدَّم شيء من ذلك في الفاتحة. الرابع: أنه صفةٌ لـ"مَنْ" إذ قيل بأنها نكرةٌ موصوفةٌ، وأمَّا الأوجهُ فجائزةٌ سواءً كانت موصولةً أو نكرةً موصوفة.
قوله: "لله" فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"خاشعين" أي لأجلِ الله. والثاني: أن يتعلَّقَ بـ"لا يَشْتُرون" ذكره أبو البقاء، قال: "وهو في نيةِ التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله".
(4/311)
---(1/1591)
قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ} كقولِه: "خاشعين" إلا في الوجه الثالث لتعذُّرِه، ونزيد عليه وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في "خاشعين" أي: غيرَ مشترين. وتقدَّم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه وفي الباء في البقرة.
قوله: {أُوْلاائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} مبتدأ. وأمَّا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون "لهم" خبرا ً مقدماً، و"أجرهم" مبتدأ مؤخرٌ، الجملةُ خبر الأول، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"أجرهم"، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في "لهم" وهو ضميرُ الأجرِ لأنه واقعٌ خبراً.
اً من الضمير المستكنِّ في "خاشعين" أي: غيرَ مشترين. وتقدَّم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه وفي الباء في البقرة.
قوله: {أُوْلاائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} مبتدأ. وأمَّا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون "لهم" خبرا ً مقدماً، و"أجرهم" مبتدأ مؤخرٌ، الجملةُ خبر الأول، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"أجرهم"، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في "لهم" وهو ضميرُ الأجرِ لأنه واقعٌ خبراً.
الوجه الثاني: أن يرتفعَ "أجرُهم" بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلاَّ أنَّ الحالَ من "أجرهم" الظاهرُ، لأنَّ "لهم" لا ضميرَ فيه حينئذٍ. الثالث: أنَّ الظرفَ هو خبرُ "أجرهم" و"لهم" متعلق بما تعلَّقَ به هذا الظرفُ من الثبوتِ والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدَّم إعراب نظائره.(1/1592)
سورة النساء
* {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }
(4/312)
قوله تعالى: {مِّن نَّفْسٍ}: متعلق بـ"خَلَقكم" فهو في محل نصب. و"مِنْ" لابتداء الغاية. وكذلك "منها زوجَها"، و"بَثَّ منها". انب أبي عبلة: "واحدٍ" من غير تاء، وله وجهان، أحدهما: مراعاةُ المعنى، لأن المراد بالنفس آدم عليه السلام,. والثاني: أن النفسَ تُذَكَّر وتؤنث، وعليه:
1524ـ ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * .......................
قوله: "وخَلَقَ" فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه عطفٌ على معنى "واحدة" لِما فيه من معنى الفعل كأنه قيل: "مِنْ نفسٍ وَحُدتْ" أي انفردت، يُقال: "وَحُد، يَحِد، وَحْداً وحِدَة"، بمعنى انفرد. الثاني: أنه عطفٌ على محذوف، قال الزمخشري: "كأنه قيل: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها ـ أو ابتدأها ـ وخلق منها وإنما حُذِف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: شَعَبَكم من نفس واحدة هذه صفتُها" بصفةٍ هي بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خَلْقهِم منها. وإنما حَمَلَ الزمخشري والقائلَ الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيبِ الوجودي؛ لأنَّ خَلْقَ حواء، وهي المُعَبَّرُ عنها بالزوجِ ، قبل خلقنا، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.
الثالث: أنه عطفٌ على "خَلَقَكم" فهو داخلٌ في حَيِّز الصلةِ، والواوُ لا يُبالى بها، إذ لا تقتضي ترتيباً. إلا أن الزمخشري خَصَّ هذه الوجهَ بكونِ الخطابِ في {ياأَيُّهَا النَّاسُ} لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: "والثاني: أن يُعْطَفَ على "خلقكم" ويكون الخطابُ للذين بُعِث إليهم الرسول، والمعنى: خَلَقكم من نفس آدم، لأنَّهم مِنْ جملةِ الجنسِ المفرَّعِ منه، وخَلَقَ منها أُمَّكم حواء". فظاهرُ هذا خصوصيَّةُ الوجهِ الثاني بكون الخطابِ للمعاصرين، وفيه نَظَرٌ. وقَدَّر بعضُهم مضافاً في "منها" أي: "مِنْ جنسِها زوجَها"، وهذا عند مَنْ يرى أن حواء لم تُخْلق من آدم، وإنما خُلِقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم، وهذا قولٌ مرغوب عنه.
(4/313)
---(1/1593)
وقرى: "وخالِقٌ وباثٌّ" بلفظِ الفاعل. وخَرَّجه الزمخشري على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: وهو خالقٌ وباثٌّ. يقال: بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى "فَرَّق" ثلاثياً ورباعياً.
وقوله: {كَثِيراً} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه نعتٌ لـ"رجالاً" قال أبو البقاء: "ولم يؤنِّثْه حَمْلاً على المعنى، لأنَّ "رجالاً" عدد أو جنس أو جمع، كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ}. والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهما بَثّاً كثيراً. وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على الحال. فإن قيل: لِم خَصَّ الرجالَ بوصفِ الكثرة دون النساء؟ ففيه جوابان، أحدُهما: أنه حَذَفَ صفتَهنْ لدلالةِ ما قبلها عليها [أي]: ونساءً كثيرة. والثاني أنَّ الرجال لشهرتِهم يناسِبُهم ذلك بخلافِ النساء فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخمولُ والإِخفاء.
قوله: {تَسَآءَلُونَ} قرأ الكوفيون: "تَساءلون" بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: تَتَساءلون، وقد تقدَّم لنا الخلاف: هل المحذوفٌ الأولى أو الثانية؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها مقارِبَتُها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين قالوا: "ست" والأصل: "سِدْسٌ".
وقرأ عبد الله: "تَسْأَلون" من سأل الثلاثي. وقرىء "تَسَلون" بنقل حركة الهمزة على السين.
و"تَساءلون" على التفاعل فيه وجهان، أحدهما: المشاركة في السؤال. والثاني: أنه بمعنى فَعَل، ويَدُلُّ عليه قراءة عبدالله. قال أبو البقاء: "ودخَل حرف الجر في المفعول لأن المعنى: تتحالفون" يعن: أن الأصل كان تعدية "تسألون" إلى الضمير بنفسِه، فلما ضُمِّن معنى "تتحالفون" عُدِّي تَعْدِيَتَه.
(4/314)
---(1/1594)
قوله: {وَالأَرْحَامَ} الجمهور/ على نصب ميم "والأرحام" وفيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها. وقَدَّر بعضهم مضافاً أي: قَطْعَ الأرحام، ويقال: "إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام، وذلك أن معنى اتقوا الله: اتقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها". والثاني: "انه معطوفٌ على محل المجرور في "به" نحو: مررت بزيد وعمراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبدالله: "وبالأرحام". وقال أبو البقاء: "تُعَطِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له".
وقرأ حمزة "والأرحامِ" بالجر، وفيها قولان، أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في "به" من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
}. وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: "حَدَّثني شريك بن عبدالله عن الأعمش عن إبراهيم قال: "والأرحامِ" ـ بخفض الأرحام ـ هو كقولهم: "أسألك بالله والرحمِ" قال: "وهذا قبيحٌ" لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه"
والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به، وجوابُ القسم: "إنَّ الله كان عليكم رقيباً". وضُعِّف هذا بوجهين، أحدهما: أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في "بالأرحام" يمعنان من ذلك، والأصل توافقُ القراءات. والثاني: أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.
(4/315)
---(1/1595)
وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: "تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله" يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] "إنَّ الله تعالى أن يُقْسِم بما يشاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك"، إلا أنَّ المقصودَ منحيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعمةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.
وقرأ عبدالله أيضاً: "والأرحامُ" رفعاً وهو على الابتداء، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية: "أهلٌ أَنْ توصل"، وقَدَّره الزمخشري: و"الأرحامُ مِمَّا يتقى، أو: مما يُتَساءل به"، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول، فإنه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّره أبو البقاء: والأرحامُ محترمة" أي: واجبٌ حرمتُها.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} جارٍ مجرىٍ التعليل. والرقيب: فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُب رَقْوباً ورِقْباناً إذا أحَدًّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه، واستعمالُه في صافت الله تعالى بمعنى الحفيظ، قال:
1525ـ كمقاعِد الرُّقباءِ للضُّرَبَاءِ أيديهم نواهِدْ
والرقيب أيضاً: ضرب من الحَيَّات. والرقيب: السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة. والارتقاب: الانتظار.
* {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }
(4/316)
---(1/1596)
قوله تعالى: {بِالطَّيِّبِ}: هو المفعول الثاني لـ"تتبدَّلوا"، وقد تقدم في البقرة قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أن المجرور بالباء هو المتروكُ والمنصوبَ هو الحاصل. وتفعَّل هنا بمعنى استفعل وهو كثير، نحو: تَعَجَّل وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. ومن مجيء تبدّل بمعنى استبدل قول ذي الرمة:
1526ـ فيا كرَمَ السَّكْنِ الذين تَحَمَّلوا * عن الدارِ والمُسْتَخْلِفِ المُتَبَدِّلِ
ِأي: المستبدل.
قوله: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن "إلى" بمعنى "مع" كقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، وهذا رأي الكوفيين. والثاني: أنها على بابها، وهي ومجرورها متعلقة بمحذوف على أنها حال، أي: مضمومةً أو مضافةً إلى أموالكم. والثالث: أن يضمَّن "تأكلوا" معنى "تَضُمُّوا" كأنه قيل: ولا تضمُّوها إلى أموالكم آكلين. قال الزمخشري: فإن قلت: قد حَرَّم عليهم أكل امال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلِمَ وَرَدَ النهيُّ عن أكلها معها. قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتماى بما رَزَقهم الله من الحلال، وهم مع ذلك يَطْمعون فيها كان القبحُ أبلغَ والذمُّ ألحقَ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنعى عليهم فِعْلَهم، وشنَّع بهم ليكون أزجر لهم".
قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} في الهاءِ ثلاثة أوجه، أحدها: أنها تعودُ على الأكلِ المفهوم من "لا تأكلوا". والثاني: على التبدُّل المفهومِ من "لا تَتَبدَّلوا". والثالث: عليهما، ذهاباً به مذهبَ اسمِ الإِشارة نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ}، ومنه:
1527ـ كأنَّه في الجِلْدِ تَوْليعُ البَهقْ
وقد تقدم ذلك في البقرة، والأولُ أَوْلى، لأنه أقربُ مذكور.
(4/317)
---(1/1597)
وقرأ الجمهور: "حُوباً" بضم الحاء. والحسن بفتحها، وبضعهم: "حاباً" بالألف، وهي لغات في المصدر، والفتح لغة تميم. ونظير الحَوْب والحاب: القول والقال، والطُّرد والطَّرْد ـ وهو الإِثم ـ وقيل: المضمومُ اسم مصدر. والمفتوحُ مصدر، وأصلُه مِنْ حَوْب الإِبل وهو زَجْرها، فَسُمِّي به الإِثم، لأنه يُزْجَر به، ويُطلق على الذنب أيضاً، لأنه يزجر عنه، ومنه قوله عليه السلام: "إن طلاقَ أمِّ أيوب لَحَوْب" أي: لذنب عظيم، يقال: حابَ يَحُوب حَوْباً وحُوباً وحاباً وحَوُوباً وحِيابة". قال المخبَّل السعدي:
1528ـ فلا يَدْخُلَنَّ الدهرَ قبرك حُوبٌ * فإنَّك تلقاهُ عليك حَسِيبُ
وقال الآخر:
1529ـ وإنَّ مهاجِرَيْنِ تَكَنَّفاه * غدائئذٍ لقد خَطِئا وحابا
والحَوْبة: الحاجة، ومنه في الدعاء: ""إليه أرفع حَوْبتي" وأوقع الله به الحَوْبة ، وتحوَّب فلان: إذا خَرَجَ من الحَوْب، كتحرَّج وتأثَّم، فالتضعيف فيه للسَلْب.
* {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ}: شرطٌ، وفي جوابه وجهان، أحدهما: أنه قوله: {فَانكِحُواْ}، وذلك أنهم كانوا يتزجون الثمانَ والعشر ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت: {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ} اخذا يتحرَّجون من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إنْ خفتم من الجَوْز في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجَوْز في حقوق النساء فانكِحوا هذا العدد، لأنَّ الكثرة تُفْضي إلى الجوز ولا تنفع التوبةُ من ذنبٍ مع ارتكاب امثله.
(4/318)
---(1/1598)
والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: "فواحَدةً" والمعنى: أن الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته، فلمَّا نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرَّجوا من ذلك، فقيل لهم: إنْ خفتم من نكاح النساء اليتامى فانحكوا ما طابَ من الأجنبيات، أي: اللاتي لسن تحت ولا يتكم، فعلى هذا يَحْتاج إلى تقدير/ مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء. فإن قيل: فواحدةً" جواب لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فكيف يكون جواباً للأول؟ أُجيب عن ذلك بأنه أعادَ الشرط الثاني، لأنه كالأول في المعنى، لمَّا طال الفصلُ بين الأولِ وجوابِه، وفيه نظرٌ لا يَخْفى . على متأمله.
والخوف هنا على بابه، فالمراد به الحَذَر، وقال ابو عبيدة: إنه بمعنى اليقين، وأنشد:
1530ـ فقلتُ لهم خافوا بألفَي مُدَجَّجٍ * سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ
أي: أيقنِوا، وقد تقدَّم تحقيق ذلك والردُّ عليه، وأنَّ في المسألة ثلاثة أقوالٍ عند قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
}. قوله: {أَلاَّ تُقْسِطُواْ} إنْ قَدَّرْتَ أنها على حذفِ حرف جر أي: "مِنْ أن لا" ففيها الخلافُ المشهورُ: أهي في محل نصب أو جر، وإنْ لم تقدِّر ذلك بل وَصَل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: "فإن حذرتم" فهي في محلِّ نصب فقط، كما تقدَّم في البقرة.
(4/319)
---(1/1599)
وقرأ الجمهور: "تُقْسطوا" بضم التاء من "أقسط" إذا عدل، فـ"لا" على هذه القراءة نافيةٌ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتم عدم الإِقساط أي: العدل. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب بفتحِها من "قسط"، وفيها تأويلان، أحدهما: أنَّ "قَسَط" بمعنى جار، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أنَّ الرباعي بمعنى عَدَل، والثلاثي بمعنى جار، وكأن الهمزةَ فيه للسَلْبِ، فمعنى "أقسط" اي: أزالَ القسط وهو الجور، و"لا" على هذا القول زائدةٌ ليس إلا، وإلاَّ يفسدِ المعنى، كهي في قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ}. والثاني: حكى الزجاج: أن "قسط" الثلاثي يُستعمل استعمالَ "أقسط" الرباعي، فعلى هذا تكون "لا" غيرَ زائدة، كهي في القراءة الشهيرة، إلا أنَّ التفرقةَ هي المعروفة لغة.
قال الراغب: "القِسْط": أن يأخذ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساط: أن يُعْطِيَ قِسْطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: "قَسَط الرجل إذا جار، وأقسط: إذا عَدَل، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً}، وقال تعالى: {بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
}. ومن غيربِ ما يحكى أن الحجَّاج لما أَحْضر الحَبْر الشهير سعيد ابن جبير، قال له: "ما تقول فِيَّ؟" قال: "قاسط عادل"، فاعجب الحاضرين، فقال لهم الحجاج: "ويلكم. لم تفهموا. عنه، إنه جعلني جائراً كافراً، ألم تسعموا قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقوله تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وقد تقدم استيفاءُ الكلام في هذه المادة في قوله: {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ
(4/320)
---(1/1600)
}. قوله: {مَا طَابَ} في "ما" هذه أوجه أحدُها: أنها بمعنى الذي، وذلك عند مَنْ يرى أنَّ "ما" تكون للعاقل، وهي مسألةٌ مشهورة، قال بعضُهم: "وحَسَّن وقوعَها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصاتُ العقول. وبعضهم يقول: هي لصفاتِ مَنْ يعقِل. وبعضُهم يقول: لنوعِ مَنْ يعقل، كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عباراتٌ متقاربة، ولذلك لم نَعُدَّها أوجهاً.
الثاني: أنها نكرةٌ موصوفة أي: انكِحوا جنساً طيباً، أو عدداً طيباً. الثالث: أنها مصدريةٌ، وذلك المصدرُ مقدرٌ هنا باسم الفاعل، والمعنى: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم"، والأولى أظهر.
الرابع: أنها ظرفيةٌ، والظرفيةُ تستلزم المصدريةَ، والتقدير: فانكحوا مدةَ يطب فيه النكاح لكم. إذا تقرر هذا فإن قلنا: إنها موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية والمصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعل كانت "ما" مفعولاً بـ"انكحوا". ويكون "من النساء" فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنس المبهم في "ما" عند مَنْ يثبت لها ذلك. والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من "ما طاب". وإن قلنا: إنها مصدريةٌ ظرفية أو مصدرية محضة، ولم يُوقَعِ المصدرُ موقعَ اسم فاعل كما تقدمت حكايتُه عن الشيخ كان مفعول "فانكحوا" قوله "من نساء"، نحو قولك: أكلت من الرغيب، وشربت من العسل" أي: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل. فإنْ قيل: لِمَا لا تَجْعل على هذا "مَثْنى" وما بعدها معفولَ "فانكحوا" أي: فانكحوا هذا العدد؟ فالجوابُ: أن هذه الألفاظ المعدولةَ لا تلي العوامل.
وقرأ ابن أبي عبلة: "مَنْ طاب" وهو مرجِّحٌ كونَ "ما" مبعنى الذي للعاقل. وفي مصحف أبي بن كعب: "طِيب" بالياء، وها ليس بمبني للمفعول، لأنه قاصر، وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالةِ وهي قراءة حمزة.
(4/321)
---(1/1601)
قوله: {مَثْنى} منصوب على الحال من "ما طاب". وجعله أبو البقاء حالاً من "النساء". وأجاز هو وابن عطية أن يكونَ بدلاً من "ما". وهذان الوجهان ضعيفان: أمَّا الأول فلأنَّ المُحَدَّث عنه إنما هو الموصول، وأتى بقوله: "من النساءِ" كالتبيين. وأما الثاني فلأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العامل، وقد تقدَّم أنَّ هذه الألفاظَ لا تباشر العواملَ.
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولةَ فيها خلافٌ، وهل يجوز فيها القياسُ أم يُقتصر فيها على السماع؟ قولان: قول البصريين عدمُ القياس، وقول الكوفيين وأبي إسحاق جوازُه، والمسموعُ من ذلك أحدَ عشر لفظاً: أُحاد ومَوْحَد، وثُناء ومَثْنى، وثُلاث وَمَثْلَث، ورُباع ومَرْبع، ومَخْمس، ولم يُسمع خُماس، وعُشار ومَعْشر. واختلفوا أيضاً في صرفها وعدمِه: فجمهورُ النحاةِ على منعة، وأجاز الفراء صرفها، وإن كان المنعُ عنده أَوْلى.
واختلفوا أيضاً في سببِ مَنْعِ الصرف فيها على أربعة مذاهب، أحدُهما: مذهب سيبويه، وهو أنها مُنِعَتِ الصرفَ للعدل والوصف: أمَّا الوصفُ فظاهر، وأمَّا العدلُ فكونها معدولةً من صيغة إلى صيغة، وذلك أنها معدولةٌ عن عددٍ مكرر، فإذا قلت: جاء القوم أحادَ أو مَوْحَدَ، أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ كان بمنزلة قولك: "جاؤوا واحداً واحداً/ وثلاثةً ثلاثة". ولا يُراد بالمعدول عنه التوكيدُ، إنما يراد به تكريرُ العدد كقولهم: "عَلَّمْتُه الحسابَ باباً باباً".
والثاني: مذهب الفراء، وهو العدلُ والتعريف بِنِيَّةِ الألف واللام، ولذلك يَمْتنع إضافتُها عنده لتقدريرِ الألف واللام، وامتنع ظهورُ الألف واللام عنده لأنها في نية الإِضافة.
الثالث: مذهب أ بي إسحاق: وهو عَدْلُها عن عددٍ مكرر، وعَدْلُها عن التأنيث.
(4/322)
---(1/1602)
والرابع: نقله الأخفش وعن بعضهم أنه تكرارُ العدل، وذلك أنه عُدل عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه لأنه قد لا يستعمل في موضع تُستعمل فيه الأعدادُ غيرُ المعدولةِ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: "جاءني مَثْنى وثلاث" حتى يتقدَّم قبله جمعٌ، لأن هذا الباب جُعِل بياناً لترتيبِ الفعلِ. فإذا قلت: "جاء القوم مَثْنَى" أفادَ أنَّ مجيئَهم وقع من اثنينِ اثنين، بخلافِ غيرِ المعدولة، فإنها تفيدُ الإِخبار عن مقدار المعدودِ دونَ غيرِه، فقد بانَ بما ذكرنا اختلافُهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقومَ العلةُ مَقام علتين لإِيجابها حكمين مختلفين. انتهى. ولهذه المذاهبِ أدلةٌ واعتراضاتٌ وأجبوةٌ ليس هذا موضعَها.
وقال الزمخشري: "إنما مُنِعت الصرفَ لما فيها من العدل: عدِلها عن صيغتِها، وعدلِها عن تكررها، وهن نكراتٌ يُعَرَّفْنَ بلام التعريف، يقال: "فلان ينكح المَثْنى والثُلاث". قال الشيخ: "وما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحداً قاله، بل المذاهب فيه أربعة"، وذكرها كما تقدم، وقد يقال: إن هذاهو المذهب الرابع، وعَبَّر عن العدل في المعنى بعدلِها عن تكررها. وناقشه الشيخ أيضاً في مثاله بقوله: "ينكح المثنى" من وجهين، أحدهما: دخول "أل: عليها، قال: "وهذا لم يَذْهب إليه أحد، بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكراتٍ". الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل، بل يتقدمها شيء يلي العواملَ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام: "صلاةٌ الليلِ مَثْنى مثنى"، أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة، أو صفاتٍ نحو قوله تعالى: {أُوْلِيا أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، وقوله:
1531ـ ....................... * ذئابٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتُها قليلاً كقوله:
1532ـ ...................... * بمَثْنى الزُّقاقِ المُتْرَعات وبالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضُهم على إيلائها العواملَ على قلة بقوله:
(4/323)
---(1/1603)
1533ـ ضربْتُ خُماسَ ضربةَ عبشمِيٍّ * أدارُ سداسَ أن لا يستقيما
ويمكنُ تأويله على حذف المفعول لفهمِ المعنى تقديرُه: ضربتهم خماسَ.
ومن أحكام هذه الألفاظ ألاَّ تؤنَّثَ بالتاء، لا تقول: "مَثْناة" ولا "ثُلاثَة"، بل تَجْري على المذكور والمؤنث جَرَياناً واحداً.
وقرأ النخعي وابن وثاب: "ورُبَعَ" من غير ألف. وزاد الزمخشري عن النخعي:"وثُلَثَ" أيضاً، وغيرُه عنه: "ثُنَى" مقصوراً من "ثُناء". حَذَفوا الألف من ذلك كله تخفيفاً، كما حذفها الآخر في قوله:
1534ـ وصِلِّيانا بَرِدا
يريد: بارداً.
قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، جوابه: "فواحدة"، وقد تقدم أن منهم مَنْ جعل "فواحدة" جواباً للاول، وكرر الثاني لما طال الفصل، وجعل قوله: {فانكحوا} جملةَ اعتراض، ويُعْزَى لأبي عليّ، ولعله لا يَصِحُّ عنه. قال الشيخ: "لأنه إذا أُنتج من الآيتين: وهذه وقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُوااْ} ما أنْتَج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرَّى بما ما ملكَتْ يمينُه، ويبقى الفصلُ بجملةِ الاعتراض لا فائدةَ له، بل يكون لَغْواً على زعمِه".
والجمهور على نصب "فواحِدةَ" بإضمار فعل أي: فانحكوا واحدة وطَؤُوا ما ملكت أيمانكم، وإنما قَدَّرْنا ناصباً آخر لمِلْكِ اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في مِلْكِ اليمين إلا أن يريدَ به الوطْءَ في هذا والتزوج في الأول، فليزم استعمالُ المشتركِ في معنييه أو الجمعُ بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقولٌ به، وهذا قريبٌ من قوله:
1535ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * .......................
وبابِه.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: "فواحدةٌ" بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: الرفعُ بالابتداء، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة اعتمادُهنا على فاء الجزاء، والخبرُ محذوف أي: فواحدةٌ كافية. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فالمُقْنِعُ واحدة. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر أي: فيكفي واحدة.
(4/324)
---(1/1604)
و"أو" على بابها مِنْ كونِها للإِباحةِ أو التخيير. و"ما" في "ما مَلَكَتْ" كهي في قوله: "ما طابَ". وأضافَ المِلْك لليمين لأنها محلُّ المحاسن، وبها تُتَلَقَّى راياتُ المجد. ورُوي عن أبي [عمرو]: "فما ملكت أيمانكم"، والمعنى: إنْ يَعْدل في عُشْرةِ واحدةٍ فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: "أو مَنْ ملكت أيمانكم".
قوله: {ذالِكَ أَدْنَى} مبتدأ وخبر، و"ذلك" إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي. و"أَدْنى" أفعلُ تفضيل من دنا يدنو أي: قَرُب أي: أقربُ إلى عدِم العَوْل.
و{أَلاَّ تَعُولُواْ} في محلِّ نصب أو جَرٍّ على الخلافِ المشهور في "أن" بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: "إلى" أي: أدنى إلى ألاَّ تعولوا. والثاني: "اللام" والتقدير: أدنى لئلا تعولوا. والثالث: وقَدَّره الزمخشري: مِنْ أن لا تميلوا، لأن أفعل التفضيل يَجْري مجرى فِعله، فما تعدَّى به فعلُه تعدَّى هو به، وأَدْنى من دنا، و"دنا" يتعدَّى بـ إلى واللام ومِنْ. تقول: دَنَوْت إليه وله ومنه.
وقرأ الجمهور: "تَعُولوا" مِنْ عالَ يَعُول إذا مال وجار، والمصدر: العَوْل والعِيالة، وعالَ الحاكم أي: جار، قال أبو طالب في النبيّ صلى الله عليه وسلم:
1536ـ ................... * له حاكمٌ من نفسِه غيرُ عائِل
(4/325)
---(1/1605)
وعالَ الرجل عيالَه يَعُولهم أي: مانَهم من المَؤُونة، ومنه: "ابدَأْ بنفسك ثم بمن تعول"، وحكى ابن الأعراربي: عال الرجل يعول: كثر عياله، وعالَ يَعِيل افتقر وصار له عائلةٌ. والحاصل: أن "عال" يكونُ لازماً ومتعدياً، فاللازمُ يكون بمعنى مالَ وجارَ، ومنه "عال الميزانُ"، وبمعنى كَثُر عيالُه، وبمعنى تفاقم الأمرُ، والمضارعُ من هذا كلِّه يعولُ، وعالَ الرجل، افتقر، وعلاَ في الأرض ذهب فيها، والمضارع من هذين يَعِيل، والمتعدي يكون بمعنى أثقل وبمعنى مان من المؤونة وبمعنى غَلَب، ومنه "عيل صبري"/، ومضارع هذا كله: يَعُول، وبمعنى أعجز، تقول: أعالني الأمر أي: أعجزني، ومضارع هذا يَعيل، والمصدر عَيْل ومَعِيل. فقد تلخص من هذا أن "عال" اللازم يكون تارة من ذوات الواو وتارة من ذوات الياء باختلاف المعنى، وكذلك "عال" المتعدي أيضاً.
وفَسَّر الشافعي "تَعُولوا" بمعنى: يكثرُ عيالُكم، وردَّ هذا القولَ جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب "النظم". قال الرازي: "هذا غلطٌ من جهة المعنى واللفظ: أما الأول فالإِباحة السراري مع أنه مَظَنَّة كثرة العيال كالتزوج، وأما اللفظ فلأن مادة "عال" بمعنى كَثُر عياله من ذوات الياء لأنه من العَيْلَة، وأما "عالِ" بمعنى جار فمِنْ ذواتِ الواو فاختلفت المادتان، وأيضاً فقد خالَفَ المفسرين". وقال صاحب النظم: "قال أولاً "ألاَّ تعدلوا" فوجَبَ أن يكونَ ضدُّه الجورَ".
(4/326)
---(1/1606)
وقد ردَّ الناسُ على هؤلاء، أمَّا قولهم: التسرِّي أيضاً يكثُر معه العيال من أنه مباح" فممنوعٌ، وذلك لأنَّ الأمةَ ليست كالمنكوحةِ، ولهذا يَعْزِلُ عنها بغيرِ إذنها ويُؤْجرُها ويأخذ أُجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها. وقال الزمخشري: "وجهُه أَنْ يُجعل من قولِك: "عالَ الرجل عِياله يعولهم" كقولك: ما نَهم يَمُونهم أي: أنفق عليهم، لأنَّ مَنْ كثر عياله لزمه أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يَصْعُب عليه المحافظة من كسبِ الحلال والأخذِ من طيب الرزق" ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال: "ولكنْ للعلماء طرقٌ وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الكلمة مَسْلَكَ الكنايات". انتهى.
وأمَّا قولُهم: "خالفَ المفسرين" فليس بصحيح، بل قاله زيد ابن أسلم وابن زيد. وأمَّا قولُهم "اختلف المادتان" فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب: "عال الرجل يَعُول: كثر عياله"، وحكاها الكسائي أيضاً، قال: "يقال: عال الرجل يَعُول، وأعال يُعيل: كَثُر عياله" ونقلها أيضاً الدوري المقرىء لغةً عن حِمْير وأنشد:
1537ـ وإنَّ الموتَ يأخذُ كلَّ حَيٍّ * بلا شك وإنْ أَمْشى وعَالا
أمشى: كثرت ماشيته، وعال: كَثُر عياله، ولا حجةَ في هذا؛ الاحتمال أن يكونَ "عال" من ذوات الياء، وهم لا يُنْكرون أنَّ "عال" يكون بمعنى كَثُر عياله، ورُوي عنه أيضاً أنه فسَّر "تَعُولوا" بمعنى تفتقروا، ولا يُريد به أنَّ تَعولوا وتَعيلوا بمعنى، بل قصدَ الكناية أيضاً، لأن كثرة العيال سببُ الفقر.
وقرأ طلحة: "تَعيلوا" بفتح تاء المضارعة من عالَ يقيل: افتقر، قال:
1538ـ وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه * وما يَدْري الغنيُّ متى يَعِيل
(4/327)
---(1/1607)
وقرأ طاوس: "تُعيلوا" بضمها من أعال: كَثُر عياله، وهي تعضُد تفسيرَ الشافعي المتقدم من حيث المعنى. وقال الراغب: "عاله وغاله يتقاربان، لكن الغَوْل فيما يُهْلِك، والعَوْل فيما يُثْقِل، وعالت الفريضة: إذا زادت في القِسمة المسماة لأصحابها بالنصِّ".
* {وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }
قوله تعالى: {صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}: مفعولٌ ثان، وهي جمع "صَدُقة" بفتحِ الصاد وضم الدال بزنةن "سَمُرة"، والمرادُ بها المَهْر، وهذه القراءةُ المشهورة، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ قتادة: "صُدْقاتهن" بضم الصاد وإسكان الدال، جمعُ صُدْقة بزنة غُرْفة. وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمِّهما، وهي جمعُ صُدُقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيلُ الساكنة الدالِ للإِتباع. وقرأ ابن وثاب والنخعي: "صُدُقَتَهُنَّ" بضمهما مع الإفراد. قال الزمخشري: "وهي تثقيل "صُدْقة" كقولهم في "ظُلْمة": "ظُلُمة". وقد تقدم لنا خلاف: هل يجوزُ تثقيل الساكنِ المضمومِ الفاءِ؟ وقرىء: "صَدْقاتِهن" بفتح الصاد وإسكان الدال، وهي تخفيف القراءة المشهورة كقولهم في عَضُد: عََضْد.
وفي نصب "نِحْلة" أربعة أوجه، أحدُها: أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن "آتُوهُنَّ" بمعنى انحِلوهُنَّ، فهي مصدرٌ على غير الصدرِ نحو قَعَدْت جلوساً".
الثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، وفي صاحب الحال ثلاثةُ احتمالات، أحدها: أنه الفاعل في "فآتُوهُنَّ" أي: فآتوهن ناحِلين. الثاني: أنه المفعولُ الأولُ وهو "النساء". الثالث: أنه المعفولُ الثاني وهو "صدقاتهن" أي: منحولات.
الوجه الثالث: أنها مفعول من أجله؛ إذا فُسِّرت بمعنى "شرْعة".
الوجه الرابع: أنتصابُها بإضمارِ فعلٍ بمعنى شَرَع، أي: نحل الله ذلك نِحْلة أي: شَرَعة شِرْعة وديناً.
(4/328)
---(1/1608)
والنِّحْلة: العَطيَّةُ عن طِيبِ نفس، والنِّحْلة: الشِّرْعة، ومنه "نِحْلة الإِسلام خير النِحَل"، وفلان ينتحل بكذا أي: يَدِين به، والنِّحْلة: الفريضة.
قال الراغب: "والنِّحْلة والنَّحْلة: العَطِيَّةُ على سبيلِ التبرع، وهي أخصُّ من الهِبة، إذ كل هبةٍ نِحْلة من غير عكسر، واشتقاقُه فيما رأى من النَّحْل نظراً إلى فِعله، فكأن "نَحَلْتُه" أعطيته عطيةَ النحل: ثم قال: "ويجوز أن تكونَ النِّحْلة أصلاً فسُمِّي النحلُ بذلك اعتباراً بفعله" وقال الزمخشري: "مِنْ نَحَله كذا: أعطاه إياه، ووهبَه له عن طيبِ نفسِه، نشحْلة ونَحْلاً، ومنه حديثُ أبي بكر رضي الله عنه: "إني كنت نَحَلْتُكِ جَدادَ عشرينَ وَسْقاً".
قوله: "منه" في محل جر، لأنه صفة لـ"شيء" فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائنٍ منه. و"مِنْ" فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعبيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق. قال ابن عطية: "و"مِنْ" لبيان الجنس ههنا، ولذلك يجوز أن تَهَبَ المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك". انتهى. وقد تقدَّم أن الليث يمنع ذلك فلا يُشْكِل كونها للتعبيض.
وفي هذا الضمير أقوال، أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه بـ"صَدُقاتِهِنَّ". الثاني: أ،ه يعود على "الصَّدُقات" لسدِّ الواحدِ مَسَدَّها، لو قيل: "صَداقَهُنَّ" لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولِهم: هو أحسنُ الفتيان وأجملُهخ" لأنه لو قيل: "هو أحسن فتىً" لصحّ المعنى، ومثلُه:
1539ـ وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَدْ
في "برد" ضميرٌ يعود على "ألبان" السدِّ "لَبَن" مسدَّها. الثالث: أنه يعودُ على "الصَّدُقات" أيضاً، لكن ذهاباً/ بالضمير مذهبَ الإِشارة، فإن اسم الإِشارة قد يُشار به مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدَّمته كقولِه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ} بعد ذِكْرِه أشياءَ قبله، وقد تقدَّم لك في البقرة ما حُكِي عن رؤبة لَمَّا قيل له قوله:
(4/329)
---(1/1609)
1540ـ فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ * كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ
"أردْتُ ذلك"، فَأَجْرى الضميرُ مجرى اسم الإِشارة. الرابع: أنه يعودُ على المال، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنَّ الصَّدُقات تَدُلُّ عليه. والخامس: أنه يعودُ على الإِيتاء المدلول عليه بـ"آتُوا" قال الراغب وابن عطية. السادس: قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يُذَكَّر الضمير لينصرف إلى الصَّداق الواحد، فيكون متناولاً بعضَه، ولو أُنِّث لتناول ظاهرُه هبةَ الصَّداق كلِّه، لأنَّ بعض الصَّدُقات واحد منها فصاعداً. وقال الشيخ: "وأقولُ حَسَّن تذكيرَ الضميرِ أنَّ معنى "فإنْ طِبْنَ": فإنْ طابَتْ كلُّ واحدةٍ، فلذلك قال "منه" أي: مِنْ صَدقِها، وهو نظير: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} أي: لكلِّ واحدةٍ، ولذلك أفردَ "مُتَّكأً".
قوله: {نَفْساً" منصوب على التمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل، إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}، وهذا منصوب عن تمام الكلام. وجيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدمِ اللَّبْسِ، إذ من المعلوم أنَّ الكلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفس واحدة، ومثله: "قَرَّ الزيدون عيناً" ويجوز "أنفساً" و"أعيناً". ولا بد من التعرُّضِ لقاعدةٍ يَعُمُّ النفعُ بها: وهي أنه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمامِ الكلام فلا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ موافقاً لِما قبله في المعنى أو مخالفاً له، فإن كان الأولَ وَجَبَتْ مطابقةُ التمييز لِما قبله نحو: "كَرُمَ الزيدون رجالاً" كما يطابقُه خبراً وصفةً وحالاً.
(4/330)
---(1/1610)
وإن كان الثانيَ: فإمَّا أن يكونَ مفردَ المدول أو مختلفَة، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: "كَرُم بنو زيد أباً أو أصلاً"، أي: إنَّ لهم جميعاً أباً واحداً متصفاً بالكرم، ومثله: "كَرُم الأتقياءُ سَعْياً" إذا لم تقصدِ بالمصدرِ اختلافَ الأنواع لاختلاف مَحالِّه. وإنْ كان مختلفَ المدلول: فإما أَنْ يُلْبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أو لا، فإن أَلْبَسَ وَجَبَت المطابقة نحو: كَرُم الزيدون آباء، أي: لكل واحدٍ أباً غيرَ أب الآخر يتصفُ بالكرم، ولو أُفردت هنا لتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أب واحدِ، والغرضُ خلافه. وإنْ لم يُلْبِس جاز الأمران: المطابقةُ والإفراد، وهو الأَوْلى، ولذلك جاءت عليه الآيةُ الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمعِ.
وحَسَّن الإِفرادَ أيضاً هنا ما تقدَّم مِنْ مُحَسِّنِ تذكيرِ الضمير وإفرادِه في "منه" وهو أن المعنى: فإنْ طابت كلُّ واحدة نفساً. وقال بعض البصريين: "إنما أفردَ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدرٌ، والمصادرُ لا تُثَنَّى ولا تُجْمع" وقال الزمخشري: "ونفساً تمييزُ، وتوحيدُها لأنَّ الغرضَ بيانُ الجنسِ، والواحدُ يدل عليه". ونحا أبو البقاء نحوه، وشَبَّهه بـ"درهماً" في قولك: "عشرون درهماً".
واختلفَ النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عاملِه إذا كان متصرفاً، فمنعَه سيبويه، وأجازه المبرد وجماعةٌ مستدلين بقولهم:
1541ـ أَتَهْجُرُ ليلى بالفراقِ حبيبها * وما كان نفساً بالفراقِ تَطِيب
وقوله:
1542ـ ..................... * ... إذا عِطْفاه ماءً تَحَلَّبا
(4/331)
---(1/1611)
والأصل: تطيبُ نفساً، وتحلَّبا ماء. وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه. وحجةُ سيبويه في منع ذلك أنَّ التمييزَ فاعل في الأصل، والفاعل لا يتقدم فكذلك ما في قوته. واعتُرِض على هذا بنحو: "زيداً" من قولك: "أخرجْتُ زيداً" فإنَّ "زيداً" في الأصل فاعل قبل النقل، إذ الأصل: "خرج زيد". والفرق لائح. وللتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم.
والجارَّان في قولِه: "فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ متعلِّقان بالفعلِ قبلَهما مضمناً معنى الإِعراض، ولذلك عُدِّي بـ"عَنْ" كأنه قيل: فإنْ أَعْرَضْنَ لكم عن شيءٍ طيباتِ النفوس. والفاء في "فَكُلوه" جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ، والهاءُ في "فَكُلوه" عائدةٌ على "شيء".
قوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} في نصبِ "هنيئاً" أربعةُ أقوال: أحدُها: أنه منصوبٌ على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف، تقديره: أكلاً هنيئاً. الثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في "فكلوه" أي: مُهَنَّاً أي: سهلاً. الثالث: أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهارُه البتة، لأنه قَصَدَ بهذه الحال النيابةَ عن فعلها نحو: "أقائماً وقد قعد الناس"، كما ينوب المصدرُ عن فعلِه نحو: "سُقْياً له ورَعْياً". الرابع: أنهما صفتان قامتا مقامَ المصدرِ المقصودِ به الدعاءُ النائبِ عن فعله. قال الزمخشري: "وقد يُوقف على "فكلوه" ويُبْتدأ "هنيئاً مريئاً" على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هَنْئاً مَرْءاً". قال الشيخ: "وهذا تحريفٌ للاكم النحاة، وتحريفُه هو جَعْلُهما أٌقيما مُقام المصدر، فانتصابُهما انتصابَ المصدر، ولذلك قال: "كأنه قيل: هَنْئاً مَرْءاً، فصار كقولك "سُقْياً لك" و"رَعْياً لك"، ويَدُلُّ على تحريفِه وصحةِ قولِ النحاة أنَّ المصادر المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول: "سقياً الله لك" ولا: "رعياً الله لك" وإن كان ذلك جائزاً في أفعالها، و"هنيئاً مريئاً" يرفعان الظاهرَ بدليل قوله:
(4/332)
---(1/1612)
1543ـ هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ * لعَزَّةَ مِنْ أَعْراضِنا ما استحَلَّتِ
فـ"ما" مرفوعٌ بـ"هنيئاً" أو بـ"مرئياً" على الإعمال، وجاز ذلك وإنْ لم يكن بين العالمين ربطٌ بعطفٍ ولا غيرِه، لأنَّ "مريئاً" لا يُسْتعمل إلا تابعاً لـ"هنيئاً" فكأنهما عاملٌ واحد، ولو قلت: "قام قعد زيد" لم يكن من الإِعمال إلا على نِيَّة حرف العطف". انتهى.
إلاَّ أن في عبارة سيبويه ما يُرْشِدُ لِما قاله الزمخشري، فإنه قال: "هنيئاً مريئاً: صفتان نصبُهما نصبُ المصادرِ المدعُوِّ بها بالفعلِ غيرِ المستعملِ إظهارُه المختَزَلِ لدلالةِ الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثَبَت ذلك هنيئاً مريئاً"، فأولُ العبارةِ يساعدُ الزمخشري، وآخرُها ـ وهو تقديرُه بقولِه: "كأنهم قالوا: ثَبَتَ ذلك هنيئاً" يُعَكِّر عليه. فعلى القولين الأوَّلَيْن يكونُ "هنيئاً مريئاً" متعلقَيْنِ بالجملةِ قبلَهما لفظاً ومعنى، وعلى الآخِرَيْن مقتطعين لفظاً، لأنَّ عاملَهما مقدرٌ من جملةٍ أخرى كما تقدّضم تقريره.
(4/333)
---(1/1613)
واختلف النحويون في قولِك لِمَن قال: "أصاب فلان خيراً هنيئاً له ذلك" هل "ذلك" مرفوعٌ بالفعلِ/ المقدَّرِ تقديرُه: ثبت له ذلك هنيئاً فحَذف "ثبت" وقام "هنيئاً" الذي حالٌ مقامه، أو مرفوعٌ بـ"هنيئاً" نفسِه، لأنه لمَّا قا مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعلُ يرفعه، كما أنَّ قولَك: "زيدٌ في الدار" "في الدار" ضميرٌ كان مستتراً في الاستقرار، فلمَّا حُذِف الاستقرار وقامَ الجار مَقامَه رفعَ الضمير الذي كان فيه. ذهب إلى الأول السيرافي، وجعل في "هنيئاً" ضميراً عائداً على "ذلك"، وذهب إلى الثاني أبو علي، وجعل "هنيئاً" فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهرَ. وإذا قلت: "هنيئاً" ولم تقل "ذلك"، فعلى مذهب السيرافي يكون في "هنيئاً" ضميرٌ عائد على ذي الحال، وهو ضميرُ الفاعلِ الذي استتر في "ثَبَتَ" المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في "هنيئاً" ضميرٌ فاعل بها، وهو الضميرُ الذي كان فاعلاً لـ"ثَبَتَ"، ويكونُ "هنيئاً" قد قام مقام الفعلِ المحذوفِ فارغاً من الضمير.
وأمَّا نصبُ "مريئاً" فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه صفة لـ"هنيئاً"، وإليه ذهب الحوفي. والثاني: أنه انتصب انتصاب "هنيئاً"، وقد تقدَّم ما فيه من الوجوهن. ومنع الفارسي كونَه صفةً لـ"هنيئاً" قال: "لأنَّ هنيئاً قا مقام الفعل والفعلُ لا يوصف، فكذا ما قامَ مقامَه"، ويؤيّشد ما قاله الفارسي أنَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلةَ المبالغة والمصادر إذا وُصِفت لم تَعْمَلْ عملَ الفعلِ.
(4/334)
---(1/1614)
ولم يُستعمل "مرئياً" إلا تابعاً لـ"هنيئاً". ونَقَلَ بعضُهم أنه قد يَجيء غيرَ تابع، وهو مردودٌ، لأنَّ العرب لم تستعمِلْه إلا تابعاً. وهل "هنيئاً مريئاً" في الأصلِ اسما فعالٍ على زنةِ المبالغةِ أم هما مصدران جاءا على وزِن فعيل كالصهيل والهدير؟ خلاف. نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال: "وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فَعيل كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يَطَّرد فيه فعيل في المصدر". انتهى. وأبو البقاء في عبارته إشكالٌ فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: هنيئاً جاء على وزن فَعِيل، وهو نعت لمصدرٍ محذوفٍ أي: أَكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء، والتقديرُ: مُهَنَّاً و"مريئاً" مثلُه، والمَرِيء فَعيل بمعنى مُفْعِل، لأنك تقول: "أمرأني الشيء". ووجهُ الإِشكال: أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف يجعلهما وصفين لمصدر محذوف، وكيف يفسِّر "مرئياً" المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان، قال: "الهَنِيءُ والمَرِيءُ صفتان من هَنُؤ الطعامُ ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه". انتهى.
وهَنا يَهْنَا ـ بغير همز ـ لغة ثانيةٌ أيضاً. ويقال: هَنَأني الطعامُ ومَرَأني، فإن أفردت "مَرَأني" لم يُسْتعمل إلا رباعياً فتقول"أَمْرأَني" وإنما استُعمل ثلاثياً للتشاكلِ مع "هَنأَني"، وهذا كما قالوا: "أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث" بضم دال "حدث" مشاكلة لـ"قَدُم"، ولو أُفرد لم يستعمل إلا مفتوح الدال، وله نظائر أخر. ويقال: هَنَأْتُ الرجل أَهْنِئُه بكسرِ العين في المضارع أي: أعطيته. واشتقاقُ الهنِيْء من الهِناءِ وهو ما يُطلى به البعيرِ من الجرب، قال:
1544ـ مُتَبَذِّلاً تَبْدُو محاسِنُه * يَضَع الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ
والمَرِيءُ: ما ساغ وسَهُل في الحلق، ومنه قِيل لمجرى الطعام من الحُلْقوم إلى فم المعدة: مَرِيء.
(4/335)
---(1/1615)
* {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} أصل تُؤتوا: تُؤْتُيوا مثل: تُكْرِموا، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ، فَحُذِفت الضمة فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير، فَحُذِفت الياءُ لئلا يلتقيَ ساكنان.
والسُّفهاء جمعُ سفيه، وعن مجاهد: "المراد بالسفهاء النساء"، ضَعَّفه بعضُهم بأن فَعِلية إنما تجمع على فَعائل أو فَعيلات، قاله ابن عطية. وقد نَقل بعضُهم أنَّ سفيهة تُجْمع على سُفَهاء كالمذكر، وعلى هذا لا يَضْعُف قول مجاهد، وجمعُ فَعِيلة الصفةِ على فُعَلاء وإن كان نادراً إلا أنه نُقِل في هذا اللفظِ خصوصاً، وتخصيصُ ابن عطية جمعَ فَعِيلة بفعائل أو فَعيلات ليس بظاهرٍ، لأنها يَطَّرد فيها أيضاً "فِعال" نحو: كَريمة وكِرام وظَرِيفة وظِراف، وكذلك إطلاقُه فَعِلية وكان من حقه أَنْ يقيِّدها بألاَّ تكون بمعنى مَفْعولة تَحَرُّزاً من قتيلة فإنها لا تُجمع على فَعائِل.
والجمهورُ على {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ} بلفظِ الإِفراد صفةً للأموال، وإنْ كانت جمعاً؛ لأنَّه تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمع مالا يعقل في الكثرة، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ، الأحسنُ فيه أن يُعامَل معاملةَ الواحدة المؤنثة، والأموال من هذا القبيل لأنها جمعُ ما لا يعقلِ، ولم تُجْمع إلا على أَفْعال، وإن كانت بلفظِ القلة لأنَّ المرادَ بها الكثرة.
وقرأ الحسن والنخعي: "اللاتي" مطابقةً للفظِ الجمع، وكان القياسُ ألاَّ يوصفَ بـ"اللاتي" إلا ما يُوصَفُ مفرده بـ"التي"، والأموال لا يُوصف مفردُها وهو "مال" بـ"التي". وقال الفراء: "العربُ تقولُ في النساء: "اللاتي". وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء: اللواتي" وهي جمعُ اللاتي، فهي جمعُ الجمع، أو جمع "التي" نفسِها.
(4/336)
---(1/1616)
قوله: "قياماً" إنْ قلنا إنَّ "جَعَلَ" بمعنى صَيَّر فـ"قياماً" مفعول ثانٍ، والأولُ محذوفٌ وهو عائد الموصول، والتقدير: "التي جعلها" أي: صَيَّرها لكم قياماً. وإنْ قلنا إنَّها بمعنى "خَلَقَ" فـ"قِياماً" حال من ذلك العائدِ المحذوفِ، التقديرُ: جَعَلَها أي: خلقها وأوجدها في حالِ كونها قياماً.
وقرأ نافع وابن عامر: "قِيَماً" وباقي السبعة: "قِياماً" وابن عمر: "قِواماً" بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر: "قَواماً" بفتحها، ويروى عن أبي عمرو. وقرىء "قِوَماً" بزنة عِنَب.
فأما قراءة نافع وابنِ عامر ففيها ثلاثة أوجه، أحدهما: أنَّ "قِيَماً" مصدرٌ كالقيام ولس مقصوراً منه، قال الكسائي والأخفش والفراء، فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُراد به الثباتُ والدوامُ. وقد رُدَّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تَصِحَّ الواو لتحصُّنِها بتوسُّطِها، كما صَحَّت واو "عِوَض" و"حِوَل". وأُجيب عنه بأنه تبع فعلَه في الإِعلال. فكما أُعِلَّ فعلُه أُعِلَّ هو، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِل عليه في الإِعلال. وحَكَى الأخفَشُ: قِيَماً وقِوَماً قال: "والقياسُ تصحيحُ الواو، وإنما اعتلَّت على وجهِ الشذوذِ كقولهم: "ثِيَرة"، وقولِ بني ضبة: "طِيال" في جمع طويل، وقولِ الجميع "جِياد" جمع جَواد، وإذا أعلُّوا "دِيَماً" لاعتلالِ "دِيْمة" فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أَوْلى، ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلالِ مفردِه في معيشة ومعايش، ومقامة ومقاوِم، ولم يصححوا مصدراً أعلُّوا فِعْلَه.
الثاني: أنه مقصورٌ من "قيام"، فحذفوا الألف تخفيفاً كما قالوا: خيَم في "خِيام" و"مِخْيَط" و"مِقْول" في: "مِخْياط" و"مِقْوال".
(4/337)
---(1/1617)
والثالث: أنه جمع "قِيمة" كـ"دِيَم" في جمع دِيْمَة، والمعنى: أنَّ الأموالَ كالقيم للنفوس لأنَّ بقاءها بها. وقد رَدَّ الفارسي هذا الوجهَ، وإنْ كان هو قولَ البصريين غيرَ الأخفش بأنه قد قُرِىء قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} ولا يَصِحُّ معنى القِيَمة فيهما. وقد ردَّ عليه الناس بأنه لا يلزَمُ من عدم صحةِ معناه في الآيتين المذكورتين ألاَّ يصِحَّ هنا، إذ معناه هنا لائقٌ، وهناك معنىً آخرُ يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي.
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فهو مصدرُ "قام" والأصلُ قِوام، فَأُبْدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة، والمعنى: التي جَعَلَها الله سبب قيامِ أبدانكم أي: بقائِها. وقال الزمخشري: "أي تقومون وتنتعشون".
وأما قراءة عبدالله بن عمر ففيها وجهان، أحدهما: أنه مصدر قاوَمَ كـ لاوَذَ لِواذاً، صحَّت الواو في المصدر/ كما صحت في الفعل. والثاني: أنه اسم لما يقوم به الشيء، وليس بمصدرٍ كقولهم: هذا مِلاك الامر" أي ما يُمْلك به.
وأما قراءة الحسن ففيها وجهان، أحدهما: أنه اسم مصدر كالكَلام والدوام والسلام. والثاني: أنه لغة في القِوام المراد به القامة، والمعنى: التي جعلها الله سببَ بقاءِ قاماتكم، يقال: جارية حسنةُ القِوام والقَوام والقَامة، كلُّه بمعنىً واحد. وقال أبو حاتم: "قَوام بالفتح خطأٌ" قال: "لأنَّ القوام امتداد القامة"، وقد تقدَّم تأويل ذلك على أن الكسائي قال: "هو بمعنى القِوام" أي بالكسرِ، يعن أنه مصدر.
وأمَّا "قِوَماً" فهو مصدرٌ جاء على الأصلِ، أعني تصحيحَ العين كالحِوَل والعِوَض.
قوله: "فيها" فيه وجهان، أحدُهما أنَّ "في" على بابها مِن الظرفية أي: اجْعَلوا رزقَهم فيها. والثاني: أنه بمعنى "مِنْ" أي: بعضها، والمراد: من أراحِها بالتجارة.
(4/338)
---(1/1618)
* {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ}: في "حتى" هذه وما أشبهها ـ أعني الداخلةَ على"إذا" ـ قولان، أشهرُهما: أنها حرف غاية دَخَلَتْ على الجملةِ الشرطية وجوابِها، والمعنى: وابْتَلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دَفْعَ أموالِهم بشرطِ إيناس الرُّشْد، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله:
1545ـ وما زالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءها * بِدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
وقول امرىء القيس:
1546ـ سَرَيْتُ بهم حتى تَكِلَّ مَطِيُّهم * وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ
والثاني: ـ وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن دُرُسْتويه ـ أنَّها حرف جر، وما بعَدها مجرور بها، وعلى هذا فـ"إذا" تتمحَّض للظرفيةِ، ولا يكون فيها معنى الشرط، وعلى القولِ الأولِ يكونُ العاملُ في "إذا ما تخلَّص من معنى جوابِها تقديرُه: إذ لغوا النكاح راشِدين فادْفَعوا.
(4/339)
---(1/1619)
وظاهرُ عبارةِ بعضهم أنَّ "إذا" ليست بشرطية، قال: "وإذا ليست بشرطيةٍ لحصول ما بعدَها، وأجاز سيبويه أن يُجازى بها في الشعرِ، وقال: فَعلوا ذلك مضطرين"، وإنما جُوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، وبأنه يَليها الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، واحتجَّ الخليل على عدمِ شرطيَّتِها بحصولِ ما بعدها، ألا ترى أنك تقول: "أجيئك إذا احمرَّ البُسْر"، ولا تقولُ: "إنْ احمرَّ". قال الشيخ : "وكلامُه يدل على أنها تكونُ ظرفاً مجرداً ليس فيها معنى الشرط، وهو مخالفٌ للنحويين، فإنهم كالمجمِعين على أنها ظرفٌ فيها معنى الشرط غالباً، وإن وجد في عبارةِ بعضِهم ما يَنْفي كونَها أداةَ شرطٍ فإنما يعني أنها لا يُجْزم بها لا أنها لا تكون شرطاً". وقَدَّر بعضهُم مضافاً قال: "تقديره: بلغوا حَدَّ النكاح أو وقتَه، والظاهرُ أنه لا يُحتاج إليه، إذ المعنى: صَلَحوا للنكاح. والفاءُ في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} جوابُ "إذا"، وفي قولِه "فادْفَعُوا" جوابُ "إنْ".
وقرأ ابن مسعود: فإن أحَسْتُم" والأصل: أحْسَسْتُم فَحَذَفَ إِحدى السينين، ويُحتمل أن تكونَ العينَ أو اللام، ومثلُه قول أبي زبيد:
1547ـ سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطايا * حَسِيْنَ به فهنَّ إليه شوسُ
وهذا حذفٌ لا ينقاس، ونَقَلَ بعضُهم أنها لغة سُلَيْم، وأنها مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضمير أو نونُه.
ونكَّر "رُشْداً" دلالةً على التنويعِ، والمعنى: أيُّ نوعٍ حَصَل من الرشدِ كان كافياً. وقرأ الجمهور: "رُشْداً" بضمة وسكون، وابن مسعود والسلمي بفتحتين، وبعضُهم بضمتين. وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف مشبعاً إن اشاء الله تعالى.
وآنَسَ كذا: أحسَّ به وشَعَر، قال:
1548ـ آنَسَتْ نَبْأَةً وأَفزعها القُناصُ * عَصْراً وقد دَنا الإِمساءُ
وقيل: "وجد" عن الفراء، وقيل: "أبصر".
(4/340)
---(1/1620)
قوله: {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} فيه وجهان، أحدُهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي: لأجلِ الإِسرافِ والبِدار. ونقل عن ابن عباس أنه قال: "كان الأولياء يستغنمون أكل مالِ اليتمِ، لئلا يكبرَ، فينتزعَ المالَ منهم". والثاني: أنَّهما مصدران في موضعِ الحال أي: مسرفين ومُبادرين. و"بِداراً" مصدرُ بادرَ، والمفاعَلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابِها، بمعنى "أنَّ الوليَّ يبادر اليتيم إلى أخذِ مالِه، واليتيم يبادِرُ إلى الكبر، ويجوزُ أن يكونَ من واحد بمعنى: أن فاعَلَ بمعنى فعل نحو: سافر وطارَقَ.
قوله: {أَن يَكْبَرُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبِداراً كِبَرُهم، كقولِه: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}، وفي إعمال المصدرِ المنونِ خلافٌ مشهور. والثاني: أنه مفعول من أجله على حَذْفٍ، أي: مخافةَ أن يَكْبَروا، وعلى هذا فمعولُ "بِداراً" محذوفٌ. وهذه الجملةُ النَّهْيِيَّة فيها وجهان، أصحُّهما: أنها استئنافية، وليست معطوفةً على ما قبلها. والثاني: أنها عطفٌ على ما قبلها وهو جوابُ الشرط بـ"إنْ" أي: فادْفَعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسدٌ، لأنَّ الشرطَ وجوابَه مترتِّبان على بلوغِ النكاح، وهو معارضٌ لقوله {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} فيلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّبَ عليه وذلك ممتنع.
(4/341)
---(1/1621)
قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} في "كفى" قولان، أحدهما: أنها اسم فعل. والثاني: ـ وهو الصحيح ـ أنها فِعْلٌ، وفي فاعِلها قولان: أحدُهما ـ وهو الصحيح ـ أنه المجرورُ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ فيه وفي فاعلِ مضارعة نحو: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} باطِّراد. قال أبو البقاء: "زيدت لتدلَّ على معنى الأمرِ إذ التقدير: اكتفِ بالله". والثاني: أنه مضمر، والتقدير: كَفَى الاكتفاءُ، و"بالله" على هذا في موضعِ نصب لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأيُ ابن ِ السراج. ورُدَّ هذا بأنَّ إعمال المصدر المحذوف لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةًَ كقوله:
*1549ـ هل تَذْكُرون إلى الدَّيْرَيْنِ هِجْرَتَكم * ومَسْحَكم صُلْبَكُمْ رُحْمانَ قُرْبانا * أي: قولَكم يا رُحمان. وقال الشيخ: "وقيل: الفاعل مضمر، وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي: الاكتفاء، والباءُ ليست زائدةً، فيكون في موضع نصب، ويتعلَّق إذ ذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يَسُوغ على مذهب البصريين؛ لأنه لا يجوزُ عندهم إعمالُ المصدرِ مضمراً وإنْ عَنَى بالإِضمارِ الحذفَ امتنع عندهم أيضاً لوجهين: حَذْفِ الفاعل، وإعمالِ المصدر محذوفاً وإبقاءِ معمولِه". وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: إذا قلنا بأن فاعل "كفى" مضمرٌ لا نعلق "بالله" بالفاعلِ حتى يَلْزم ما ذَكَر، بل نعلِّقه بنفس الفعل كما تقدَّم، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج فإنه قال: "دَخَلَتِ الباءُ في الفاعل، لأَنَّ معنى الكلام الأمرُ، اي اكتفوا بالله"، وهذا الكلامُ يُشْعِرُ أنَّ الباءَ ليست بزائدة، وهو كلامٌ غيرُ صحيح، لأنه من يحيث المعنى الذي قَدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين، و"بالله" متعلقٌ به، ومِنْ حيث كونُ الباءِ دخلت في الفاعلِ يكونُ الفاعلُ هو اللهَ تعالى فتناقض.
(4/342)
---(1/1622)
وفي كلامِ ابن عطية نحوٌ من قولِه أيضاً، فإنه قال: "بالله" في موضعِ رفعٍ بتقديرِ زيادةِ الخافض، وفائدةُ زيادتِه تبيينُ معنى الأمر في صورةِ الخبر أي اكتفوا بالله، فالباءُ تَدُلُّ على المرادِ من ذلك"، وفي هذا ما رُدَّ به على الزجاج وزيادَةُ جعلِ الحرفِ زائداً وغيرَ زائدٍ. وقال ابن عيسى: "إنما دخلَتِ الباءُ في "كفى بالله" لأنه كان يتصل اتصالَ الفاعل، وبدخولِ الباءِ اتصل اتصالَ المضافِ واتصالَ الفاعل؛ لأن الكفايةَ منه تعالى ليست كالكافيةِ من غيرِه، فضوعف لفظُها لمضاعفةِ معناها" ويَحْتاج إلى فكر.
قوله: {حسيباً} فيه وجهان، أصحُّهما: أنه تمييزٌ يَدُلُّ على ذلك صلاحيةُ دخولِ "مِنْ" عليه، وهي علامةُ التمييز. والثاني: أنه حال.
و"كفى" هنا متعديةٌ لواحدٍ، وهو محذوفٌ تقديرُه: وكفاكم اللهُ". وقال أبو البقاء: "وكفى" تتعدَّى إلى معفولين حُذِفا هنا تقديرُه: كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}. والظاهر أنَّ معناها غيرُ معنى هذه. قال الشيخ بعد أَنْ ذكر أنها متعدية لواحدٍ: "وتأتي بغيرِ هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقولِه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}. وهو محلُّ نظر.
* { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }
قوله تعالى: {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}: هذا الجارُّ في محل رفع لأنه صفةٌ للمرفوعِ قبلَه أي: نصيبٌ كائن أو مستقر، ويجوز أن يكون في محل نصبٍ متعلقاً بلفظ "نصيب" لأنَّه من تمامه.
(4/343)
---(1/1623)
وقوله: {مِمَّا قَلَّ} في هذا الجارِّ أيضاً وجهان أحدُهما: أنه بدلٌ من "ما" الأخيرةِ في "مِمَّا ترك" بإعادة حرفِ الجر من البدل، والضميرُ في "منه" عائدٌ على "ما" الأخيرةِ، وهذا البدلُ مرادٌ أيضاً في الجملةِ الأولى حُذِفَ للدلالةِ عليه، ولأنَّ المقصودَ به التأكيدُ لأنه تفصيلٌ/ للعمومِ المفهومِ من قولِه: {مِّمَّا تَرَكَ} فجاءَ هذا البدلُ مفصِّلاً لحالتَيْه من الكثرةِ والقلة. والثاني: أنه حالٌ من المضير المحذوف من "ترك" أي: مِمَّا تركه قليلاً أو كثيراً أو مستقراً مِمَّا قل.
و"نصيباً" فيه أوجهٌ أحدها: أن ينتصِبَ على أنه واقعٌ موقعَ المصدر، والعاملُ فيه معنى ما تقَّدم، إذ التقديرُ: عطاءً أو استحقاقاً، وهذا معنى قولِ مَنْ يقولُ منصوبٌ على المصدرِ المؤكد. قال الزمخشري: "كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} كأنه قيلأ: قمسةً مفروضةً". وقد سَبَقه الفراء إلى هذا قال: "نُصِبَ لأنه أُخْرِج مُخْرَج المصدرِ، ولذلكَ وَحَّده كقولك: "له عليَّ كذا حقاً لازماً" ونحوه: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} ولو كان اسماً صحيحاً لم يُنْصَبْ، لا تقول: "لك عليَّ حق درهماً".
الثاني: أنه منصوبٌ على الحال، ويُحتمل أن يكونَ صاحبُ الحال الفاعلَ في "قَلَّ أو كَثُر"، ويُحتمل أن يكونَ "نصيب" وإن كان نكرة لتخصُّصِه: إمَّا بالوصفِ وإمَّا بالعمل، والعاملُ في الحال الاستقرارُ الذي في قوله: "للرجالِ". وإلى نصبِه حالاً ذهب الزجاج ومكي، قالا: "المعنى لهؤلاءِ أَنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض".
الثالث: أنه منصوبٌ على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيباً، قاله الزمخشري. قال الشيخ: إنْ عن الاختصاصَ المصطلحَ عليه فهو مردودٌ بكونِه نكرةً، وقد نَصُّوا على اشتراطِ تعريفِه".
الرابع: النصبُ بإضمار فعلٍ أي: أُوجبت ـ أو جُعِلت ـ لهم نصيباً. الخامس: أنه مصدرٌ صريحٌ أي: نَصَبْتُه نصباً.
(4/344)
---(1/1624)
* {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
قوله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ}: في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: [أن] يعودَ على الماِ لأنَّ القسمةَ تدل عليه بطريقِ الالتزام. الثاني: أنْ يعودَ على "ما" في قولِه: مِمَّا ترك". الثالث أَنْ يَعودَ على نفسِ القسمةِ وإن كان مذكراً مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بالقسمةِ الشيءُ المقسوم، وهذا على رأي مَنْ يرى ذلك، وأمَّا مَنْ يقولُ: القسمةُ من الاقتسام كالخِبْرة من الاختبار، أو بمعنى القَسَم فلا يتأتَّى ذلك.
* {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }
قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ}: قرأ الجمهورُ بسكون اللام في الأفعال الثلاثةِ. وهي لامُ الأمر، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها. وقرأَ الحسن وعيسى بن عمر بكسرِ اللامِ في الأفعالِ الثلاثةِ، وهو الأصلُ، والإِسكانُ تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبِّهوا "وَلْيخش" بـ"كَتِف" وهذا كما تقدَّم الكلامُ في نحو: "وهي" و"لَهْي" في أول البقرة.
و"لو" هذه فيها احتمالان، أحدُهما: أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثاني: أنها بمعنى "إنْ" الشرطية. وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري:"فإنْ قلت: ما معنى وقوعِ "لو تركوا" وجوابهِ صلةً لـ"الذين"؟ قلت: معناه: وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا خلفَهم ذريةً ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
1550ـ لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً * بناتِي أنَّهن من الضِعافِ
(4/345)
---(1/1625)
أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي * وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي
وقال ابن عطية: "تقديرُه: لو تَرَكُوا لخافُوا، ويجوزُ حذفُ اللامِ من جواب لو"، ووجهُ التمسُّكِ بهذه العبارةِ أنه جَعَلَ اللامَ مقدرةً في جوابِها، ولو كانت "لو" بمعنى "إنْ" الشرطية لَما جاز ذلك، وقد صَرَّح غَيرُهما بذلك، فقال: "لو تركوا" "لو" يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و"خافوا" جوابُ "لو".
وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك، قال ابن مالك: "لو" هنا شرطيةٌ بمعنى "إنْ"، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وَلْيخش الذين إنْ تركوا، ولو وقع بعد "لو" هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد "إنْ" وأنشد:
1551ـ لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً * خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما
أي: وإنْ تكن عديماً. ومثلُ هذا البيتِ الذي أنشده قولُ الآخر:
1552ـ قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ * دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ
والذي ينبغي: أن تكونَ على بابِها من كونِها تعليقاً في الماضي.
(4/346)
---(1/1626)
وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى "إنْ" توهُّمُ أنه لَمَّا أمر بالخشية ـ والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ ـ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ "لو" لفظُ "إنْ"، ولأجلِ هذا التوَهُّمِ لم يُدْخِل الزمخشري "لو" على فعل مستقبل، بل أتى بفعلٍ ماضٍ مسندٍ للموصولِ حالةَ الأمر فقال: "وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أنهم لو شارَفُوا أن يتركوا". قال الشيخ: "وهذا الذي توهَّموا لا يلزم، إلا إنْ كانت الصلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذ معنى "لو تركوا من خلفهم" أي: ماتوا فتركوا مِنْ خلفهم، فلو كان كذلك لَلزم التأويلُ في "لو" أَنْ تكمونَ بمعنى "إنْ" إذ لا يجامِعُ الأمرُ بإيقاعِ فعلٍ مَنْ مات بالفعل، أمَّا إذا كان ماضياً على تقديرٍ فيصِحُّ أن يقع صلةً. وأن يكونَ العاملُ في الموصولِ الفعلَ المستقبل، نحو قولِك: ليزُرْنا الذي لو مات أمسِ لبكيناه" انتهى.
وأمَّا البيتان المتقدِّمان فلا يلزمُ مِنْ صحةِ جَعْلِها فيهما بمعنى "إنْ" أن تكونَ في الآيةِ كذلك. لأنَّا في البيتين نضطرُ إلى ذلك: أمَّا البيتُ الأولُ فلأنَّ جوابَ "لو" محذوفٌ مدلولٌ عليه بقولِه: "لا يُلْفِك" وهو نَهْيٌ، والنهيُ مستقبلٌ فلذلك كانت "لو" تعليقاً في المستقبل. أما البيتُ الثاني فلدخولِ ما بعدَها في حَيِّزِ "إذا"، و"إذا" للمستقبل.
ومفعول "وَلْيَخْشَ" محذوفٌ أي: وَلْيخش الله. ويجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع، فإنَّ "وَلْيخش" يطلبُ الجلالةَ، وكذلك "فليتقوا"، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذفِ من الأول.
قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"تركوا" ظرفاً له. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "ذرية"، لأنَّه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
(4/347)
---(1/1627)
وأمال حمزةُ ألفَ "ضِعافاً" ولم يُبالِ بحرفِ الاستعلاءِ لانكسارِه، ففيه انحدارٌ فلم ينافِرِ الإِمالةَ.
وقرأ ابن محيصن: "ضُعُفاً" بضمِّ الضاد والعين، وتنوين الفاء. والسلمي وعائشة: "ضعفاء" بضمِّ الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مقيس في فعيل صفةً نحو: ظَريف وظُرَفاء وكريم وكُرَماء. وقرىء "ضَعافَى" بالفتحِ والإِمالة نحو: سَكارى. وظاهر عبارةِ الزمخشري أنه قُرِىءَ: "ضُعافى" بضم الضاد مثل سُكارى،ـ فإنه قال: "وقُرىء ضُعَفَاء وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى" فيُحتملِ أَنْ يريد أنه قُرِىء بضم الضاد وفتحِها، ويُحتمل أن يريدَ أنه قُرىء: "ضَعافى" بفتح الضاد دونَ إمالة، و"ضَعافَى" بفتحِها مع الإِمالة كسَكارى بفتحِ السين دونَ إمالة، وسَكارى بفتحها مع الإِمالة، والظاهرُ الأولُ، والغالبُ على الظن أنها لم تُنْقل قراءة.
وأمال حمزة ألفَ "خاف" للكسرةِ المقدرةِ في الألف، إذ الأصل "خَوِف" بكسر العين بدليلِ فتحِها في المضارع نحو: "يخاف"، وعَلَّل أبو البقاء ذلك بأنَّ الكسر قد يَعْرِض في حال من الأحوال، وذلك إذا أُسْنِدَ الفعل إلى ضمير المتكلم/ أو إحدى أخواته نحو: خِفْت وخِفْنا، والجملةُ من "لو" وجوابِها صلةُ "الذين".
* {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }
(4/348)
---(1/1628)
قوله تعالى: {ظُلْماً}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله، وشروطُ النصبِ موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل نصب على الحال أي: يأكلونه ظالِمين، والجملةُ مِنْ قولِه: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ} في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"إنَّ"، وفي ذلك دلالةٌ على وقوعِ خبر "إنَّ" جملةً مصدرةً بـ"إنَّ" وفي ذلك خلافٌ. قال الشيخ:"وحَسَّنة هنا وقوعُ اسمِ "إنَّ" موصولاً فطال الكلامُ بصلةِ الموصولِ، فلمَّا تباعَدَ لم يُبالَ بذلك، وهذا أحسنُ مِنْ قولِك: "إنَّ زيداً إنَّ أباه منطلقٌ". ولقائلٍ أن يقول: "ليس فيها دلالةٌ على ذلك؛ لأنَّها مكفوفةٌ بـ"ما"، ومعناها الحصرُ فصارت مثلَ قولِك في المعنى: "إنَّ زيداً ما انطلق إلا أبوه" وهو مَحَلُّ نظر.
قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"يأكلون" أي: بطونُهم أوعيةٌ للنار: إمَّا حقيقةً بأن يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونها في بطونِهم، أو مجازاً بأَنْ أطلق المُسَبَّبَ وأراد السببَ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ مِنْ "ناراً"، وكان في الأصلِ صفةً للنكرة فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً.
وذَكَر أبو البقاء هذا الوجهَ عن أبي علي في "تذكرته"، وحَكَى عنه أنه منع أن يكونَ ظرفاً لـ"يأكلون"، فإنَّه قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} قد تقدَّم في البقرة منه شيءٌ، ويخصُّ هذا الموضع أن "في بطونهم" حالٌ من "ناراً" أي: ناراً كائنةً في بطونِهم، وليس بظرفٍ لـ"يأكلون"، ذكره في "التذكرة".
وفي قوله: "والذي يَخُصُّ هذال الموضع" فيه نظر، فإنه كما يجوز أن يكونَ "في بطونهم" حالاً من "نار" هنا يجوز أن يكونَ حالاً من "النار" في البقرة، وفي إبداء الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر في منعِ أبي علي كونَ "في بطونهم" ظرفاً للأكل وجهٌ ظاهر.
(4/349)
---(1/1629)
قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ} قرأ الجمهور بفتحِ الياء واللام، وابن عامر وأبو بكر بضمِّ الياء مبنياً للمفعول من الثلاثي. ويَحْتمل أن يكونَ من أَصْلى، فلمَّا بُني للمعفولِ قام الأولُ مقامَ الفاعلِ. وابن أبي عبلة بضمِّها مبنياً للفاعلِ من الرباعي، والأصلُ على هذه القراءة: سيُصْلِيُون من أصْلى مثل يُكْرِمون من أكرم، فاستثقِلَت الضمةُ على الياءِ فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو لتصِحَّ.
و"أَصْلَى": يُحتمل أَن ْ تكومنَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء، فيتعدَّى لواحد وهو "سعيراً" وأن تكونَ للتعديةِ، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: يُصْلُون أنفسَهم سعيراً.
وأبو حيوة بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد، واللام مشددة، مبنياً للمفعول من "صَلَّى" مضعفاً. قال أبو البقاء: "التضعيف للتكثيرِ".
والصِّلْيُ: الإِيقادُ بالنارِ، يقال: صَلِي بكذا ـ بكسر العين ـ، وقوله: {لاَ يَصْلاَهَآ} أي يَصْلَى بها. وقال الخليل: "صَلِي الكافرُ النارَ" قاسَى حَرَّها. وصلاة النارَ وأَصْلاه غيرُه، هكذا قال الراغب، وظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً، يتعدَّيان إلى اثنين ثاينهما بحرفِ الجر، وقد يُحْذَف. وقال غيرُه: "صَلِيَ بالنارِ أي: تَسَخَّن بقربها"، فـ"سعيراً" على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض. ويَدُلُّ على أنَّ أصلَ "يَصْلاها" يَصْلَى بها قولُ الشاعر:
1553ـ إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم * فقد خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
وقيل: يُقال صَلَيْتُه النارَ: أَدْنَيْتُه منها، فيجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً مِنْ غيرِ إسقاطِ خافضٍ. السعيرُ في الأصل: الجَمْرُ المشتعل، سَعَرْتُ النارَ: أَوْقَدْتُها، ومنه: "مُسْعِرُ حربٍ" على التشبيهِ. والمِسْعَرُ: الآلة التي تُحَرَّك بها النار.
(4/350)
---(1/1630)
* {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِيا أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}: هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، يُحْتمل أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ بـ"يُوصي" لأِنَّ المعنى: يَفْرض لكم، أو يُشَرِّع في أولادكِم، كذا قاله أبو البقاء، وهذا يَقْرُبُ من مذهبِ الفراء فإنه يُجْري ما كان بمعنى القولِ مُجْراه في حكايةِ الجملِ بعده. قال الفراء: "ولم يَعْمل "يُوصيكم" في "مِثْل"، إجراءً له مُجْرى القول في حكايةِ الجمل، فالجملةُ في موضع نصبٍ بـ"يُوصيكم". وقال مكمي: "للذَّكَرِ مثلُ حظ" ابتداءٌ وخبر في موضع نصب، تبيينٌ للوصية وتفسيرٌ لها. وقال الكسائي: "ارتفع "مثل" على حذْفِ "إنَّ" تقديره: "أنَّ للذكرِ مثلَ حظ". وبه قرأ ابن أبي عبلة.
(4/351)
---(1/1631)
ويُحْتمل الأَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، بل جِيءَ بها للبيانِ والتفسيرِ، فهي جملةٌ مفسِّرة للوصية، وهذا أحسنُ وجارٍ على مذهب البصريين، وهو ظاهرُ عبارة الزمشخري فإنَّه قال: "وهذا إجمالٌ تفصيلُه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}. وقوله: "للذَّكر" لا بدَّ من ضمير [فيه] يعود على"أولادكم" من هذه الجملة، فيُحتمل أن يكون محذوفاً، أي: للذكر منهم نحو: "السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم" قاله الزمخشري. ويُحْتمل أن يكونَ قامَ مقامَه الألفُ واللامُ عند مَنْ يَرَى ذلك، والأصلُ: لِذَكَرِهم.
و"مثلُ" صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: للذَّكرِ منهم حَظُّ مثلُ حَظِّ الأنثيين. و{فِيا أَوْلاَدِكُمْ} قيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: في أولادِ موتاكم. قالوا: لأنه لا يَجُوزُ أَنْ يُخاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولادِه ويُفْرََضَ عليه ذلك. وقال بعضُهم: "إنْ قلنا: إنَّ معنى "يُوصيكم" "يبيِّن لكم" لم يحتج إلى هذا التقدير". وقَدَّر بعضُهم قبل "أولادكم" مضافاً أي: في شأنِ أولادِكم، أو في أمرِ أولادكم.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: "يُوَصِّيكم" بالتشديد، وقد تقدَّم أنَّ أوصي ووصَّى لغتان.
(4/352)
---(1/1632)
قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} الضميرُ في "كُنَّ يعودُ على الإناث اللات شَمَلَهُنَّ قولُه {فِيا أَوْلاَدِكُمْ}. فإنَّ التقدير: في أولادكم الذكورِ والإِناثِ، فعادَ الضميرُ على أحدِ قِسْمَي الأولادِ، وإذا عاد الضمير على جمعِ التكسيرِ العاقلِ المرادِ به مَحْضُ الذكور في قوله عليه السلام: "وربَّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْن" كعَوْدِه على جماعةِ الإِناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسيرِ الشاملِ للإِناثِ بطريقِ الأَوْلَى والأحرى، وهذا معنى قولِ الشيخ. وفيه نظرٌ لأنَّ عودَه هناك كضميرِ الإِناث إنما كان لمعنىً مفقودٍ هنا، وهو طلبُ المشالكة لأنَّ قبلَه "اللهم ربََّ السموات ومَنْ أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين وما أَقْلَلْنَ" ذَكَر ذلك النحويون. وقيل: الضمير يَعُود على المتروكا أي: فإنْ كانت المتروكات، ودَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبو البقاء ومكي. وقَدَّرَه الزمخري: "فإنْ كان البنات أو المولودات".
فإذا تقرَّر هذا فـ"كُنَّ" كان واسمُها، و"نساءً" خبرُها، و"فوق أثنتين" ظرف في محل نصب صفةً لـ"نساء" وبهذه الصفةِ تحصُل فائدةُ الخبرِ، ولو اقتُصِر عليه لم تَحْصُلْ فائدةُ، ألا ترى أنه لو قيل: "إن كان الزيدون رجالاً كان كذا" لم يَكُنْ فيه فائدةٌ.
(4/353)
---(1/1633)
وأجاز الزمخشري في هذه الآية وَجْهين غريبين، أحدهما: أن يكونَ الضميرُ في "كنَّ" ضميراً مبهماً، و"نساءً" منصوبٌ على أنه تفسيرٌ له يعني تمييزاً، وكذلك قال في الضمير الذي في "كانت من قوله "وإنْ كانت واحدة" على أنَّ "كان" تامة. والوجهُ الآخر: أن يكونَ "فوق اثنتين" خبراً ثانياً لـ"كُنَّ"، ورَدَّهما عليه الشيخ: أمَّا الأولُ فلأنَّ "كان" ليسَتْ من الأفعالِ التي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره مابعدَه، بل هذا مختصٌّ من الأفعالِ بـ"نعم" و"بئس" وما جَرى مَجْراهما، وبابِ التنازع عند إعمالِ الثاني. وأما الثاني فلِما تقدَّم من الأحتياجِ إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أَنْ تستقلَّ به فائدةُ الإِسنادِ، وقد تقدَّم أنه لو اقتَصَر على قولِه: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} لم يُفِدْ شيئاً، لأنه معلوم.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة: "ثُلْثا" و"الثلْث" و"النصْف" و"الرُّبْع" و"الثُّمْن" كلُّ ذلك بإسكان الوسط. والجمهور بالضم، وهي لغةُ الحجاز وبني أسد. قال النحاس: "من الثلث إلى العشر". وقال الزجاج: "هي لغةٌ واحدة، والسكونُ تخفيف".
قوله: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً} قرأ نافع: "واحدةٌ" رفعاً على أنَّ "كان" تامة اي: وإنْ وُجِدَتْ واحدةٌ، والباقون "واحدة" نصباً على أنَّ "كانت" ناقصةً، واسمُهما مستترٌ فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة، و"واحدةً" نصبٌ على خبرِ "كان"، وقد تقدَّم أن الزمخشري أجاز أن يكونَ في "كان" ضميرٌ مبهمٌ مفسَّر بالمنصوب بعدُ.
وقرأ السلمي: "النُّصف" بضم النون، وهي قراءةُ على وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ
(4/354)
---(1/1634)
}. قوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} "السدس" مبتدأ و"لأبويه" خبر متقدم، و"لكلِّ واحدٍ" بدلٌ من "لأبويه" وهذا ما نَصَّ عليه الزمخشري فإنه قال: "لكلَّ واحد منهما" بدل من "لأبويه" بتكريرِ العاملِ، وفائدةُ هذا البدلِ أ،ه لو قيل: "ولأبويه السدسُ" لكان ظاهرُه اشتراكهما فيه، ولو قيل: "لأبويه السدسان" لأَوْهَمَ قسمةَ السدسين عليهما بالتسويةِ وعلى خلافِهما. فإنْ قلت: فهلا قيل: "ولكلِّ واحدٍ من أبويه السدس" وأيُّ فائدةٍ في ذِكْرِ الأبوين أولاً ثم في الإِبدالِ منهما؟ قلت: لأنَّ في الإبدال والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمعِ بين المفسَّر والتفسيرِ. و"السدس" مبتدأ، وخبره "لأبويه"، والبدلُ متوسط بينهما للبيانِ". انتهى.
وناقَشَه الشيخ في جَعْلِه "لأبويه" الخبرَ دونَ قوله "بكلِّ واحد" قال: "لأنه ينبغي أن يكونَ البدلُ هو الخبرَ دونَ المبدلِ منه" يعني أنَّ البدلَ هو المعتمدُ عليه، والمبدلُ منه صارَ في حكمِ المُطَّرح، ونَظَّره بقولك: "إنًَّ زيداً عينُه حسنة" فكما أنَّ "حسنة" خبر عن "عينه" دون "زيد" لأنّه في حكم المُطَّرح فكذلك هذا، ونَظَّره أيضاً بقولك: "أبواك كلُّ واحد منهما يَصنع كذا" فـ"يَصنع" خبرٌ عن "كل واحد" منهما، ولو قلت: "أبواك كلُّ واحدٍ منهما يَصْنعان كذا" لم يَجُزْ".
(4/355)
---(1/1635)
وفي هذه المناقشةِ نظرٌ لأنه إذا قيل لك: ما مَحَلُّ "لأبويه" من الإِعرابِ؟ نضطر إلى أَنْ نقولَ: في محلِّ رفعٍ خبراً مقدماً، ولكنه نَقَل نسبةَ الخبرية إلى "لكلِّ واحدٍ منهما" دونَ "لأبويه". قال: "وقال بعضُهم": "السدسُ" رفعٌ بالابتداء، و"لكلِّ واحدٍ" الخبرُ، و"لكلِّ" بدلٌ من الأبوين، و"منهما" نعتٌ لواحد، وهذا البدلُ هو بعضُ من كل، ولذلك أتَى معه بالضمير، ولا يُتَوَهَّمُ أنه بدلُ شيء من شيء وهما لعينٍ واحدة لجوازِ "أبواك يَصْنعان كذا" وامتناع "أبواكَ" كلُّ واحدٍ منهما يصنعان كذا" بل تقول: "يَصْنع". انتهى.
والضميرُ في "لأبويه" عائدٌ على ما عادَ عليه الضمير في "ترك"، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوةِ الكلام. والتثنية في "أبويه" من التغليب، والأصلُ: لأبيه وأمه، وإنما غَلَّب المذكرَ على المؤنث كقولهم: القَمَران والعُمَران وهي تثنيةٌ لا تنقاس.
قوله: "فلأِمه" قرأ الجمهور "فلإِمه" وقولُه: {فِيا أُمِّ الْكِتَابِ} في سورةِ الزخرف، وقولُه: {حَتَّى يَبْعَثَ فِيا أُمِّهَا} في القصص، وقوله: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النحل والزمر، وقوله: {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النور، و{فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النجم، بضم الهمزة من "أُمّ" وهو الأصلُ, وقرأ حمزة والكسائي جميعَ ذلك بكسر الهمزة، وانفرد حمزة بزيادةِ كسرِ الميم من "أمَّهات" في الأماكنِ المذكورةِ، هذا كله في الدَّرْج. أمَّا في الابتداءِ بهمزةِ "الأم" و"الأمهات" فإنه لا خِلافَ في ضَمِّها.
(4/356)
---(1/1636)
وأمَّا وجهُ قراءةِ الجمهور فظاهرٌ لأنه الأصلُ كما تقدَّم. وأمَّا قراءةُ حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبةِ الكسرةِ أو الياء التي قبل الهمزة، فكُسِرت الهمزةُ إتباعاً لِما قبلَها، ولا ستثقالهم الخروجَ من كَسْرٍ أو شبهه إلى ضم، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزةِ ضمَّاها لزوالِ الكسر أو الياء. وأمَّا كسرُ حمزةَ الميمَ من "أمهات" في المواضع المذكورة فللإِتباعِ، أتبعَ حركةَ الميمِ لحركةِ الهمزةِ، فكسرةُ الميمِ تَبَعم التبعِ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميمَ لما تقدم من زوالِ موجب ذلك. وكسرُ همزة "أم" بعد الكسرة أو الياء حكاه سيبويه لغةً عن العرب، ونَسَبها الكسائي والفراء إلى هوازن وهذيل.
قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} "إخوة" أعَمُّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو بعضهم ذكوراً وبضعهم إناثاً، ويكون هذا من باب التغليب. وزعم قوم أنَّ الإِخوةَ خاص بالذكور، وأن الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثلث إلى السدس، قالوا: لأن إخوة جمع أخ، والجمهورُ على أنَّ الإِخوة وإنْ كانوا بلفظِ الجمع يَقَعُون على الاثنين، فيَحْجَبُ الأخوان أيضاً الأمَّ من الثلث إلى السدس، خلافاً لابن عباس فإن لا يَحْجُب بهما والظاهر معه.
(4/357)
---(1/1637)
قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنه متعلق بما تقدَّمه من قسمةِ المواريث كلِّها لا بما يليه وحدَه، كأنه قيل: قسمةٌ هذه الأنْصباء من بعد وصيةٍ، قالَها الزمخشري، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} وما بعدَه. والثاني: ذكرهالشيخ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّل من بعند وصية. والثالث: أنه حال من السدس تقديره/ مستحِقاً من بعد وصية، والعاملُ الظرفُ، قاله أبو البقاء. وجَوَّزَ فيه وجهاً آخر قال: ["ويجوز أن يكون ظرفاً] أي: يتسقر لهم ذلك بعد إخراجِ الوصيةِ، ولا بد من تقديرِ حذف المضاف؛ لأنَّ الوصيةَ هنا المالُ الموصَى به، وقد تكونُ الوصيةُ مصدراً مثلَ الفريضة". وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وجهٌ. وقوله: "والعامل الظرف يعني بالظرف الجارَّ والمجرور في قوله {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} فإنه شبيه بالظرفيةِ، وعَمِل في الحال لِما تضمَّنه من الفعلِ لوقوعِه خبراً. و"يوصي" فعل مضارع المرادُ به المضمر أي: وصيةٍ أوصَى بها. و"بها" متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ جرٍ صفةً لـ"وصية".
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر "يُوصَى" مبنياً للمفعول في الموضعين، وافقهم حفص في الأخير، والباقون مبنياً للفاعل، وقُرىء شاذاً: "يُوَصَّى" بالتشديد مبنياً للمفعول، فـ"بها" في قراءةِ البناءِ للفاعل في محلِّ نصب، وفي قراءة البناء للمفعول في محلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل.
قوله: {أَوْ دَيْنٍ} "أو" هنا لأحدِ الشيئين. قال أبو البقاء "ولا تَدُلُّ على ترتيبٍ، إذ لا فرقَ بين قولك: "جاءني زيد أو عمرو" وبين قولك: "جاءني عمرو أو زيد" لأن "أو" لأحد الشيئين، والواحدُ لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قول من قال: "من بعد دَيْن أو وصية"، إنما يقع الترتيبُ فيما إذا اجتمعا فَيُقَدَّم الدينُ على الوصية".
(4/358)
---(1/1638)
وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: فما معنى "أو"؟ قلت: معناها الإِباحةُ، وأنه إنْ كان أحدُهما أو كلاهما قُدَّم على قِسمة الميراثِ كقولك: "جالسِ [الحسنَ] أو ابنَ سيرين"، فإنْ قلت: لِمَ قُدِّمَتِ الوصية على الدَّيْن، والدَّيْن مُقَدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهةً للميراث في كونِها مأخوذةً من غيرِ عوض كان إخراجُها مِمَّا يَشُّقُّ على الورثةِ بخلافِ الدَّيْن فإنَّ نفوسَهم مطمئنةٌ إلى أدائه، فلذلك قُدِّمت على الدَّيْن بعثاً على وجوبِها والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدَّيْن؛ لذلك جِيء بكلمةٍ "أو" للتسويةِ بينهما في الوجوب".
قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} مبتدأٌ، و"لا تَدْرُون" وما في حيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له، و"أيُّهم" في وجهان، أشهرُهما عند المُعْرِبين أن يكونَ "أيُّهم" مبتدأ وهم أسمُ استفهامٍ، و"أقربُ" خبرُه، والجملة من هذا المبتدأ وخبرِه في محلِّ نصب بـ"تَدْرون" لأنها من أفعالِ القلوبِ، فعلَّقها اسمُ الاستفهامِ عن أَنْ تعملَ في لفظِه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَعْمل فيه ما قبلَه في غيرِ الاستثبات.
(4/359)
---(1/1639)
والثاني: أنه يجوزُ أن تكونَ "أيُّهم" موصولةً بمعنى الذي، و"أقربُ": خبرٌ مبتدأٍ مضمر هو عائدٌ الموصولِ، وجازَ حذفُه لأنه يجوز ذلك مع "أي" مطلقاً أي: أطالت الصلةُ أم لم تَطُلْ، والتقديرُ: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصولُ وصلتُه في محلِّ نصب على أنه مفعول به، نصبَه "تَدْرون"، وإنما بُني لوجودِ شرطَي البناءِ: وهما أَنْ تُضاف "أي" لفظاً وأَنْ يُحْذَفَ صدرُ صلتِها، وصارت هذه الآيةُ نظيرَ الآيةِ الأخرى وهي {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} فصارَ التقديرُ: لا تدرون الذي هو أقربُ. قال الشيخ: "ولم أرَهم ذكروه" يعني هذا الوجه. قلت: ولا مانعَ منه لا من جهةِ المعنى ولا من جهةِ الصناعةِ. فعلى القولِ الأولِ تكونُ الجملةُ سادَّةً مسدَّ المفعولين، ولا حاجةَ إلى تقدير حذف، وعلى الثاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولَ، ويكون الثاني محذوفاً، وبعدمِ الاحتياجِ إلى حَذْفِ المعفول الثاني يترجَّح الوجُه الأول.
(4/360)
---(1/1640)
ثم هذه الجملةُ أعني قولَه: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جملة اعتراضية. قال الزمخشري: ـ بعد أن حكى في معانيها أقوالاً اختار منها الأولَ ـ "لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضية، ومن حقِّ الاعتراضِ أَنْ يؤكِّد ما اعتَرَض بينه وبين ما يناسِبُه" يعني بالاعتراض أنها واقعةٌ من قصة المواريث، إلا أنَّ هذا الاعتراضَ غيرُ مرادِ النحويين، لأنهم لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصطلاحهم إلاَّ ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراضِ بين المبتدأ وخبره، والشرطِ وجزائه، والقسمِ وجوابه، والصلةِ وموصولها. ثم ذكر في معانيها أقوالاً أحدها: ـ وهو الذي اختاره ـ أَنْ جَعَلَها متعلقةً بالوصية فقال: "ثم أكَّد ذلك ـ يعني الاهتمام بالوصية ـ ورَغَّب فيه بقوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} أي : لا تَدْرون مَنْ أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائِكم الذين يَمُوتون، أَمَنْ أَوصى منهم أم من لم يوصِ، يعني أنَّ مَنْ أوصى ببعضِ مالِه فعرَّضكم لثوابِ الآخرةِ بإمضاء وصيته فهو أقربُ لكم نفعاً وأحضَرُ جدوى ممَّن ترك الوصيَّة فوفَّر عليكم عَرَض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقربَ وأَحْضَرَ مِنْ عرض الدنيا، ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عَرَضَ الدنيا وإنْ كان قريباً عاجلاً في الصورة إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقةِ الأبعدُ الأقصى، وثوابُ الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق، فهو في الحقيقةِ الأقربُ الأدنى".
وانتصبَ "نفعاً" على التمييز من "أقرب"، وهو منقول من الفاعلية، واجبُ النصب، لأنه متى وقع تمييزُ بعد أَفْعلِ التفضيل: فإنْ صَحَّ أَنْ يصاغَ منها فعلٌ مسندٌ إلى ذلك التمييز على جهة الفاعلية وجب النصب كهذه الآية، إذ يصح أن يقال: أيُّهم قَرُبَ الكم نَفْعُه، وإن لم يصِحَّ ذلك وجَبَ جَرُّه نحو: "زيد أحسنُ فقيه" بخلاف "زيد أحسنُ فقهاً" وهذه قاعدةٌ مفيدة. و"لكم" متعلق بـ"أقرب".
(4/361)
---(1/1641)
قوله: {فَرِيضَةً} فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمون الجملة السابقة من الوصية، لأنَّ معنى "يوصيكم" فرض الله عليكم، فصار المعنى: "يوصيكم الله وصيةَ فرض" فهو مصدر على غير الصدر. والثاني: أنها مصدر منصوب بفعل محذوف من لفظها. قال أبو البقاء: و"فريضةً"/ مصدر لفعل محذوف أي: فرض الله ذلك فريضة" والثالث: ـ قاله مكي وغيره ـ أنها حالٌ لأنها ليست مصدراً، وكلامُ الزمخشري محتمل للوجهين الأَوَّلَيْن فإنه قال: "فريضة" نُصِبت نَصْبِ المصدر المؤكد، أي: فرض ذلك فرضاً".
* { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوااْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }
(4/362)
---(1/1642)
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً}: هذه الآية مما ينبغي أن يُطَوَّل فيه القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها. ولا بد قبل التعرض للإِعراب من ذكر معنى الكَلالة واشتقاقِها واختلاف الناس فيها، ثم نعود بعد ذلك لإِعرابها، لأنه متوقفٌ على ما ذكرنا فنقول ـ وبالله العون ـ: اختُلِفَ في معنىلكَلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنه الميت الذي لا وَلَدَ له ولا والد، وقيل: الذي لا والدَ له فقط. وقيل: الذي لا ولد له فقط، وقيل: هو مَنْ لا يَرثُه أب ولا أم، وعلى هذا الأقوالِ كلِّها فالكَلالةٌ واقعةٌ على الميت. وقيل: الكلالة: الوَرَثَةُ ما عدا الأبوين والولد، قاله قطرب، وسُمُّوا بذلك لأنَّ الميت بذهاب طَرَفَيْه تُكَلله الورثة أي: أحاطوا به من جميع نواحيه، ويؤيد هذا القولَ بأنّ الآيةَ نزلت في جابر، ولم يكن له يومَ أُنْزِلَتْ أبٌ ولا ابن. وقل: الكلالة: المال الموروث. وقيل: الكلالة: القرابة، وقيل: هي الوراثة. فقد تلخص مِمَّا تقدم أنها: إمَّا الميتُ الموروثُ أو الوارثُ أو المال الموروث أو الإِرث أو القرابة.
وأمَّا اشتقاقُها فقيل: هي مشتقة مِنْ تَكَلَّله الشيء أي: أحاط به، وذلك أنَّه إذا لم يَتْرك ولداً ولا والداً فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي مالُه الموروثُ لِمَنْ يتكلَّله نسبة أي: يحيط به كالإِكليل، ومنه "الروضة المُكَلَّلة" أي: بالزهر، وعليه قول الفرزدق:
1554ـ وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عن كَلالةِ * عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمس وهاشمِ
وقيل: اشتقاقها من الكَلال وهو الإِعياءُ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد إعياء. وقال الزمخشري: "والكلالة في الأصل: مصدرٌ بمعنى الكَلال وهو ذهابُ القوة من الإِعياء. قال الأعشى:
1555ـ فآليْتُ لا أَرْثي لها مِنْ كَلالةٍ * ولا مِنْ وَحَىً حتى تُلاقِي مُحَمَّدا
(4/363)
---(1/1643)
فاستُعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإِضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة". وأجاز فيها أيضاً أن تكونَ صفةً على وزن فَعالة قال: "كالهَجاجَة والفَقاقَة للأحمق".
إذا تقرر هذا فَلْنَعُدْ إلى الإِعراب فنقول والعون بالله: يجوز في "كان" وجهان أحدهما: أن تكون ناقصة، و"رجلٌ" اسمها، وفي الخبر احتمالانت، أحدهما: أنه "كلالة" إن قيل: إنها الميت، وإن قيل إنها الوارث أو غيرَ ذلك فتُقَدِّر حذفَ مضاف أي: ذا كلالمة، و"يُورثُ" حينئذٍ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"رجل" وهو فعلٌ مبني للمفعول، ويتعدَّى في الأصل لاثنين أُقيم الأول مقامَ الفاعل وهو ضمير الرجل، والثاني محذوف تقديره: يُورَثُ هو مالَه.
وهل هذا الفعلُ من وَرِث الثلاثي أو أورث الرباعي؟ فيه خلافٌ، إلا أنَّ الزمخشري لَمَّا جعله من الثلاثي جعَله يتعدَّى إلى الأول من المفعولين بـ"مِنْ" فإنه قال: "ويُوْرَثُ مِنْ ورث، أي: يورث منه" يعني أنه في الأصل يتعدَى بـ"مِنْ"، وقد تُحْذَفُ، تقول: "وَرِثْتُ زيداً مالَه" أي: مِنْ زيد، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ "أورث" جَعَل الرج وارثاً لا موروثاً فإنه قال: "فإنْ قلت: فإنْ جَعَلْت "يورَث" على البناء للمفعول من "أورث" فما وجهُه؟ قلت: الرجلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ" وقال الشيخ: "إنه من "أورث" الرباعي المبني للمفعول" ولم يقِّيْده بالمعنى الذي قيَّده الزمخشري.
(4/364)
---(1/1644)
الاحتمال الثاني: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ من "يُورَث"، وفي نصب "كلالة" حينئذ أربعةُ أوجه، أحدهما: أنها حال من الضمير في "يُورَث" إنْ أريد بها الميتُ أو الوارثُ، إلا أنه يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي: يُورَث ذا كلالة؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفسَ الضمير المستكنِّ في "يُورث". قال أبو البقاء على جَعْلِها بمعنى الميت: "ولو قُرِيء "كلالةٌ" بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في "يُورث" لجاز، غير أني لم أعرف أحداً قرأ به فلا يُقْرَأْنَ إلا بما نُقل" يعني بكونِها صفة أنها صفةٌ لـ"رجل".
الثاني: أنها معفولٌ من أجله إنْ قيل: بمعنى القرابة أي: يورَثُ لأجل الكلالة. الثالث: أنه مفعول ثان لـ"يورث" إنْ قيل إنها بمعنى المال الموروث. الراربعُ: أنها نعتٌ لمصدر محذوف إن قيل: إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثَة كلالة، وقدَّر مكي في هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ قال: "تقديرُه ذات كلالة". وأجازَ بعضُهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكونَ حالاً.
والوجه الثاني من وجهي كان: أن تكونَ تامةً فيُكْتَفَى بالمرفوع أي: وإنْ وجد رجل، و"يُورَثُ" في محلِّ رفع صفةً لـ"رجل" و"كلالة" منصوبةٌ على ما تقدَّم من الحال أو المفعولِ من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَب ما قُرِّر من معانيها. وَيَخُصُّ هذا وجهٌ آخرُ ذكره مكي: وهو أن تكون "كلالة" منصوبة على التفسير، قال مكي: "كان أي: وقع، و"يورث" نعتٌ للرجل، و"رجل" رفع بـ"كان"، و"كلالة نَصْبٌ على التفسير،وقيلأ: هو نصبٌ على الحال، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين" وفي جَعْلِها تفسيراً ـ أي تمييزاً ـ نظرٌ لا يَخْفى.
(4/365)
---(1/1645)
وقرأ الجمهور: "يُورَثُ" مبنياً للمفعول وقد تقدَّم توجيهُه. وقرأ الحسن: "يُورِثُ" مبنياً للفاعل، ونُقِل عنه أيضاً وعن أبي رجاء كذلك، إلاَّ أنَّهما شَدَّدا الراء، وتوجيهُ القراءتين واضحٌ مِمَّا تقدَّم: وذلك أنه إنْ أُريد بالكلالةِ الميتُ فيكون المفعولان محذوفين، و"كلالةً" نصب على الحال أي: وإنْ كان رجلٌ يورِث وارثَه ـ أو أهلَه ـ مالَه في حال كونِه كلالةً، وإنْ أريد بها القرابة فتكونُ منصوبة على المفعول من أجله، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تقدَّم تقريره، وإنْ أريدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً، والأول محذوف أي: يورِث أهله ماله، وأنْ أريد بها الوارثُ فالبعكسِ أي يورِث مالَه أهلَه.
وقوله: {أَو امْرَأَةٌ} عطفٌ على "رجلٌ"، وحُذف منها ما أُثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التقديرُ: أو امرأةٌ تورَثُ كلالةً، وإنْ كان لا يلزمُ من تقييدِ المعطوفِ عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلا أنه هو الظاهر.
وقوله: {وَلَهُ أَخٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبر في محلِّ نصب على الحال، والواوُ الداخلةُ عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحالِ: إمَّا "رجل" إنْ كان "يورَثُ" صفةً له، وإمَّا الضميرُ المستتر في "يورَث". ووحَّدَ الضمير في قوله: "وله"؛ لأنَّ العطفَ بـ"أو" وما وَرَدَ على خلاف ذلك أُوِّلَ عند الجمهور، كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وإنما أَتَى به مذكراً لأنه يجوزُ إذا تقدَّم متعاطفان بـ"أو" مذكرٌ ومؤنثٌ كنت بالخيار: بين أن تراعيَ المتقدِّمَ أو المتأخرَ فتقول: "زيدٌ أو هند قام"، وإن شئت: "قامت"/، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلا ثة أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الرجل وهو مذكر مبدؤٌ به. الثاني: أنه يعود على أحدهما، ولفظ "أحد" مفرد مذكر. والثالث: أنه يعود على الميت أو الموروثِ لتقدَّم ما يدل عليه".
(4/366)
---(1/1646)
والضميرُ في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه يعودُ على الأخِ والأخت. والثاني: أنه يعودُ على الرجل وعلى أخيه أو أختِه، إذا أريد بالرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} أنه وارثٌ لا موروث، كما تقدَّمت حكايتُه عن الزمخشري. قال الزمخشري ـ بعد ما حيكناه عنه ـ: فإنْ قلت: فالضميرُ في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} إلى مَنْ يرجِعُ حينئذ؟ قتل: على الرجل وعلى أخيه أو أخته، وعلى الأول: إليهما، فإنْ قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمةً في هذا الوجه؟ قلت: نعم لأَنَّك إذا قلت: السدس له، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخييرِ فقد سَوَّيْتَ بين الذكر والأنثى" انتهى.
وقرأ أُبي: "أخ أو أخت من الأم". وقرأ سعد بن أبي وقاص: "من أم" بغيرِ أداة تعريف. وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما، ولأنَّ ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون: للأختِ النصفُ، وللأختين الثلثان، وللأخوة الذكور والإِناث للذَّكَر مثلُ حظ الانثيين.
قوله: {فَإِن كَانُوااْ} الواوُ ضميرُ الإِخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}، والمرادُ الذكورُ والإِناث، وأتى بضمير الذكور في قوله: "كانوا" وقوله "فهم" تغليباً للمذكور على المؤمن، و"ذلك" إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإن كان مَنْ يرث زائداً على الواحد؛ لأنه لا يَصِحُّ أن يقال: "هذا أكثرُ من واحد" إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه.
وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى} قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثلُه.
(4/367)
---(1/1647)
قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} "غيرَ" نصبٌ على الحال من الفاعل في "يوصَى" وهو ضمير يعود على الرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ}، وهذا إنْ أُريد بالرجلِ الموروثُ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلولِ عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام كما دل عليه في قولِه: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي: تَرَكَه الموروث، فصار التقدير: يوصَى بها الموروث، هكذا أعربه الناس فجعلوه حالاً: الزمخشري وغيره.
إلا أن الشيخ رَدَّ ذلك بأنه يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وعامِلها بأجنبي منهما، وذلك أنَّ العاملَ فيها "يوصَى" كما تقرر، وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} أجنبي لأنه معطوف على "وصية" الموصوفة بالعامل في الحال، قال: "ولو كان على ما قالوه مِن الإِعراب لكانَ التركيب: "مِنْ بعد وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضارٍّ أو دينٍ". وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني بناءَ الفعلِ للفاعل أو المفعول، وتزيد عليه قراءةُ البناء للمفعول وجهاً آخرَ، وهو أَن صاحب الحال غيرُ مذكور، لأنه فاعلٌ في الأصل حُذِفَ وأقيم المفعول مُقامَه، ألا ترى أنك لو قلت: "تُرْسَلُ الرياح مبشِّراً بها" بكسر الشين، يعني: يرسلُ اللهُ الرياحَ مبشِّراً بها" فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مُقامَه، وجئت بالحال من الفاعل لم يَجُزْ فكذلك هذا". ثم خَرَّجه على أحد وجهين: إمَّا بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عامًّاً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين وتقديره: يلزم ذلك مالَه، أو يُوجبه فيه غيرَ مُضارٍّ بورثته بذلك الإِلزامِ أو الإِيجاب. وإمَّا بفعلٍ مبني للفاعل لدلالةِ المبني للمفعولِ عليه أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصير نظير قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} على قراءةِ منْ فتح الباء.
(4/368)
---(1/1648)
قوله: {وَصِيَّةً} في نصبها أربعة أوجه؛ أحدُها: أنها مصدر مؤكِّد، أي يوصيكم الله بذلك وصيةً, الثاني: أنها مصدر في موضع الحالِ، والعامل فيها يُوصيكم الله بذلك وصيةً. الثاني: أنهنا مصدر في موضع الحالِ، والعامل فيها يُوصيكم. قاله ابن عطية، والثالث: أنها منصوبةٌ على الخروج: إمَّا من قولِه: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} أو من قوله: {فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ} وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين. والرابع: أنها منصوبةٌ باسمِ الفاعل وهو "مُضارّ"، والمُضارَّةُ لا تقع بالوصية بل بالورثة، لكنه لمَّا وصّى الله تعالى بالوَرَثة جَعَل المُضارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغةً في ذلك، ويؤيد هذا التخريج قراءةُ الحسن: "غيرَ مُضارِّ وصيةٍ" بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز، وصارَ نظيرَ قولِهم: "يا سارقَ الليلةِ" التقدير: يا سارقاً في الليلة، ولكنه أضافَ اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً، فكذلك هذا، أصله: غيرَ مضارٍّ في وصيةٍ من الله، فاتُّسع في هذا إلى أن عُدِّي بنفسه من غيرِ واسطةٍ، لِما ذكرت لك من قصد المبالغة.
وهذا أحسنُ تخريجاً من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين، أحدُهما: أنه على حذف "أهل" أو ذي أي: غيرَ مضارِّ أهلِ وصيةٍ أو ذي وصية. والثاني: على حذف وقت أي: وقتَ وصية قال: "وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب من ذلك قولُهم: "هو فارسُ حربٍ" أي: فارس في الحرب، وتقول: "هو فارسُ زمانه" أي: في زمانه، كذلك تقديرُ القراءة: غيرَ مضار في وقت الوصية.
ومفعول "مُضارّ" محذوفٌ إذا لم تُجْعَلُ "وصيةً" مفعولةً أي: غيرَ مضارٍّ ورثتِه بوصية.
* { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
(4/369)
---(1/1649)
قوله تعالى: {يُدْخِلْهُ}: حَمَلَ على لفظ "مَنْ" فَأْفْرَدَ الضميرَ في قوله: "يُطِعْ" و"يُدْخِلْه"، وعلى معناها فجمع في قوله "خالدين". وهذا أحسنُ الحَمْلين، أعني الحملَ على اللفظ ثم المعنى، ويجوزُ العكس وإن كان ابن عطية قد منعه، وليس بشيء لثبوتِه عن العرب، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرةٍ وفيه تفصيلٌ، وله شروط مذكورةٌ في كتب النحو.
وفي نصبِ "خالدين" وجهان، أظهرهما: أنه حال من الضمير المنصوبِ في "يُدْخِلُه"، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ.
والثاني: أن يكونَ نعتاً لـ"جنات" من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو: مررت برجلٍ قائمةٍ أمه، وبأمرأة حسنٍ غلامُها، فـ"قائمة" و"حسنٍ" وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي، إلاَّ أنّ الصفة غذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين: أَلْبس أو لم يُلْبِس. وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون: إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له: فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو: "زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو" إذا كان الضرب واقعاً من زيد على عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو: "زيدٌ هندٌ ضاربُها"، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي الكوفيين، وهو مذهب حسن.
واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} بجر "غير" مع عدمِ بروزِ الضمير، ولو أَبْرزه لقال: "غير ناظرين إناه أنتم" ومنه قولُ الآخَر:
1556ـ قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ * بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ
(4/370)
---(1/1650)
ولم يقل: بانُوها هم، وقد خَرَّج بعضُهم البيت على حذف مبتدأ تقديره: هم بانوها، فـ"قومي" مبتدأ أول" و"ذرا" مبتدأ ثان، و"هم" مبتدأ ثالث، و"بانوها" خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
وقد منع الزمخشري كونَ "خالدين" و"خالداً" صفةً لـ"جنات" و"ناراً" بعدم بروز الضمير فقال: "فإنْ قتل: هل يجوز أن يكونا صفتين لـ"جنات" و"ناراً"؟ قتل: لا، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له، فلا بد من الضمير في قولك: "خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها".
ومَنَع أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع "خالداً"، ولم يتعرض لذلك مع "خالدين"، ولا فرق بينهما، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين، وهذا المنعُ على مذهبِ البصريين كما تقدم.
وقرأ نافع وابن عامر هنا "نُدْخِلْه" في الموضعين، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنونِ العظمة، والباقون بالياء، والمضير لله تعالى، وإنما جمع "خالدين" في الطائعين، وأَفْرَد "خالداً" في العاصين، قالوا: لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ الشفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإفرادُ.
والجملةُ من قولِه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"جنات" وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد "دخل" من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف أو نصبُ المفعولِ به؟ الأول قول الجمهور، والثاني قول الأخفش، فكذلك "جنات" و"ناراً".
* { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }
(4/371)
---(1/1651)
قوله تعالى: {وَاللاَّتِي}: جمع "التي" في المعنى لا في اللفظ؛ لأنَّ هذه صيغٌ موضوعةٌ للتثنية والجمع، وليست بتثنية ولا جمع حقيقةً. وقال أبو البقاء: "اللاتي جمع "التي" على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع" ومثل هذا لا ينبغي أَنْ يَعُدَّه خلافاً. ولها جموعٌ كثيرة: ثلاثَ عشرةَ لفظة، وهي: اللاتي واللواتي واللائي، وبلا ياءات فهذه ست، واللاي بالياء من غيرِ همزِ، واللا من غير ياءٍ ولا همزٍ، واللَّواء بالمد، واللَّوا بالقصر، و"الأُلى" كقوله:
1557ـ فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوَْ تهامةٍ * فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ أَفْصَما
إلا أنَّ الكثيرَ أن تكونَ جمْعَ "الذي". و"اللاءاتِ" مكسوراً مطلقاً أو معرباً إعراب جمع المؤنث السالم كقوله:
1558ـ أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ * وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ
برفعِ "اللاءات".
وفي محلِّ "اللاتي" قولان، أحدُهما: أنه رفعٌ بالابتداء،وفي الخبر حينئذٍ وجهان، أحدُها: الجملةُ مِنْ قوله: "فاسْتَشْهدوا"، وجازَ دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبرِ وإن لم يَجُزْ زيادتُها في نحو: "زيدٌ فاضرِبْ" على رأي الجمهور، لأنَّ المبتدأ أَشْبَهَ الشرطَ في كونهِه موصولاً عاماً صلتُه فعلٌ مستقبل، والخبرُ مستحقٌ بالصلةِ.
الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، والتقدير: "فيما يُتْلَى عليكم حكُم اللاتي"، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ للدلالة علهيما، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَله سيبويه في نحو: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ} و{السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوااْ} أي: فيما يُتْلى عليكم حكمُ الزاينة، ويكونُ قولُه "فاستشهِدوا" و"فاجْلدوا" دالاً على ذلك الحكم المحذوفِ لأنه بيانٌ له.
(4/372)
---(1/1652)
والقول الثاني: أنَّ محلَّه نصبٌ، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ لدلالةِ السياقِ عليه لا على جهةِ الاشتغالِ لِما سنذكره، والتقدير: اقصِدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا. ولا يجوز أن ينتصَبَ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره قولُه "فاستشهدوا" فتكونُ المسألة من باب الاشتغال، لأنَّ هذا الموصولَ أشبهَ اسمَ الشرطِ كما تقدَّم تقريره، واسمُ الشرطِ لا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الاشتغالِ لأنه لا يعمل فيه ما قبله، فلو نصبناه بفعلٍ مقدرٍ لزم أن يعملَ فيه ما قبلَه. وهذا ما قاله بعضهم، ويَقْرُبُ منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال: "وإذا كان كذلك ـ أي كونَه في حكم الشرط ـ لم يَحْسُنِ النصبُ؛ لأنَّ تقديرَ الفعل قبل إداةِ الشرط لا يجوز، وتقديرُه بعد الصلةِ يحتاج إلى إضمارِ فعلٍ غيرِ قوله "فاستشهدوا" لأنَّ "استشهدوا" لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في "اللاتي" وفي عبارِته مناقشةٌ يطول بذكرها الكتاب.
(4/373)
---(1/1653)
والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتعال/، ومَنْعُهم ذلك بأنه يلزُم أَنْ يعملَ فيه ما قَبلَه جوابُه أنَّا نقدِّرُ الفعلَ بعده لا قبله، وهذا خلافٌ مشهورٌ في أسماءِ الشرط والاستفهام: هل يَجْري فيها الاشتغال أم لا؟ فمنعَه قومٌ لِما تقدَّم، وأجازه آخرون مقدِّرين الفعل بعد الشرطِ والاستفهام، وكونُه منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} والآتيان من وادٍ واحد، ولا بدَّ من إيراد نصَّه ليتَّضحَ لك قولُه، قال ـ رحمه الله: "واللذانِ يأتيانِها" الاختيارُ عند سيبويه في "اللذان" الرفع، وإنْ كان معنى الكلامِ الأمرَ، لأنه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّن معنى الشرط فيه إذ لا يقع على شيءٍ بعينه، فلمَّا تمكَّن معنى الشرط والإبهام جرى مَجْرى الشرطِ في كونه لم يَعْمل فيه ما قبله كما لا يعمل في الشرط ما قبله من مضمرٍ أو مظهر". ثم قال: "والنصبُ جائزٌ على إضمارِ فعل لأنه إنما أشبه الشرطَ، وليس الشبيهُ بالشيء كالشيءِ في حكمه". انتهى. وليس لقائل أن يقولَ: مرادُه النصبُ بإضمار فعل النصب لا على الاشتغال، بل بفعلٍ مدلولٍ عليه، كما تقدم نَقْلُه عن بعضِهم، لأنه لم يكن لتعليله بقوله: "لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره" فائدةٌ إذ النصبُ كذلك لا يَحْتاج إلى هذا الاعتذار.
وقوله: {مِن نِّسَآئِكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل من "يِأْتِين"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: يأتين كائناتٍ من نسائكم. وأما قوله "منكم" ففيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بقوله: "فاستشهدوا". والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لـ"أربعة"، فيكون في محلٍ نصبٍ تقديرُه: فاستشهدوا عليهنَّ أربعة كائنة منكم.
(4/374)
---(1/1654)
قوله "حتى"، "حتى" بمعنى إلى، فالفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" وهي متعلقة بقوله: "فأمسكوهن" غاية له. وقوله: "أو يجعلَ" فيه وجهان، أحدهما: أن تكون "أو" عاطفة فيكون الجَعْلُ غاية لإِمساكهن أيضاً، فينتصبُ "يجعلَ" بالعطف على "يتوفَّاهن". والثاني: أن تكون "أو" بمعنى "إلا" كالتي في قولهم "لألزَمَنَّك أو تقضيَني حقي" على أحدِ المعنيين، والفعلُ بعدها منصوبٌ أيضاً بإضمار "أن" كقوله:
1559ـ فَسِرْ في بدلاِ اللهِ والتمسِ الغِنَى * تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت فَتُعْذَرا
أي: إلا أَنْ تموتَ. والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غايةً لإِمساكِهِنَّ في البيوت.
قوله: "لهن" فيه و جهان، أظهرُهما: أنه متعلقٌ بـ"يَجْعَلَ". الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من "سبيل"، إذ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم علهيا فَنُصِب حالاً، هذا إنْ جُعِل الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير فيكون "لَهُنَّ" مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول وهو "سبيل"، وتقديمُه هنا واجبٌ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ لكونهِ جارَّاً، والمبتدأُ نكرةٌ لا مسِّوغَ لها غيرُ ذلك.
* { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }
(4/375)
---(1/1655)
قوله تعالى: {وَاللَّذَانَ}: الكلامُ عليه كالكلامِ على "اللاتي" إلا أنَّ في كلامِ أبي البقاء ما يُوهِمُ جوازَ الاشتغالِ فيه، فإنه قال: "الكلام في "اللذان" كالكلام في "اللاتي"، إلا أنَّ مَنْ أجاز النصبَ يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور تقديرُه: آذُوا اللذين، والا يجوز أن يعملَ ما بعد الفاء فيما قبلها ههنا ولو عَرِي من الضمير؛ لأن الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط، وتلك تقطع ما بعدها عما قبلها" فقولُه: "مَنْ أجازَ النصبَ" يَحْتمل مَنْ أجاز النصب المتقدم في "اللاتي" بإضمارِ فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو "اقصِدوا"، ويَحْتمل مَنْ أجازَ النصبَ على الاشتغال من حيث الجملةُ، إلا أنَّ هذا بعيدٌ لأنَّ الآيتين من وادٍ واحدٍ فلا يُظَّنُّ به أنه يمنع في إحداهما ويجيز في الأخرى، ولا ينفع كونُ الآيةِ الأولى فيها الفعلُ الذي يفسِّر متعدٍ بحرفِ جر، والفعلُ الذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه فيكون اقوى إذ لا أثرَ لذلك في باب الاشتغال. والضميرُ المنصوب في "ياتِيانها" للفاحشة.
وقرأ عبدالله: "يأتينَ بالفاحشةِ" أي يَجِئْنَ بها، ومعنى قراءةِ الجمهور "يَغْشَيْنَها ويخالطنها".
(4/376)
---(1/1656)
وقرأ الجمهور: "واللذانِ" يتخفيف النون، وقرأ ابن كثير: "واللذان" هنا ، و"اللذين" في حم السجدة بتشديد النون. ووجهُها جَعَل إحدى النونين عوضاً من الياء المحذوفة الي كان ينبغي أن تبقى، وذلك أن "الذي" مثل "القاضي"، و"القاضي" تثبت ياؤه في التثنية، فكان حقُّ ياء الذي والتي أن تثبت في التثنية ولكنهم حَذَفُوها: إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غيرِ القياسِ، لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً، إذ لا يثنى إلا ما يُنَكَّر، والمبهمات لا تنكر، فجعلوا الحذفَ مَنْبَهَةً على هذا، وإمَّا لطولِ الكلامِ بالصلةِ. وزعم ابن عصفور أنَّ تشديدَ النونِ لا يجوزُ إلا مع الألفِ كهذه الآية، ولا يجوز مع الياء في الجر والنصب، وقراءةُ ابن كثير في حم السجدة: {رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا} حجةٌ وقُرىء: "اللَّذَأَنِّ" بهمزةٍ وتشديدِ النون، ووجهُها أنه لَمَّا شَدَّد النونَ التقى ساكنان فَفَرَّ من ذلك بإبدالِ الألفِ همزةً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في الفاتحة.
وقرأ عبدالله: "والذين يَفْعَلُونه منكم"، وهذه قراءةُ مشكلةٌ لأنها بصيغة الجمع،/ وبعدَها ضميرُ تثينة، وقد يُتَكَلَّفُ لها تخريجٌ: هو أنَّ "الذين" لمَّا كان شاملاً لصنفي الذكور والإِناث عاد الضمير عليه مثنى اعتباراً بما اندرج تحته، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنى الشامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحتَه كقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}، و{هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ} كذا قال الشيخ وفيه نظر، فإنَّ الفرقَ ثابتٌ؛ وذلك لأنَّ "الطائفة" اسمٌ لجماعة وكذلك "خصم"؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ فأُطْلِقَ على الجمعِ.
وأصلُ فآذُوهما: فآذِيُوهما، فاستثقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت الياء التي هي لام، وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ.
(4/377)
---(1/1657)
* {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}: قد تقدَّم الكلام على "إنما" في أول البقرة وما قيل فيها. و"التوبة" مبتدأ، وفي خبرها وجهان، أظهرهما: أنه "على الله أي: إنما التوبة مستقرة على فضل الله، ويكون "للذين" متعلقاً بما تعلَّق به الخبر. وأجاز أبو البقاء عند ذِكْرِه هذا الوجهَ أن يكونَ "للذين" متعلقاً بمحذوف على أنه حال قال: "فعلى هذا يكون "للذين يعملون السوء" حالاً من الضمير في الظرف وهو "على الله"، والعاملُ فيها الظرفُ أو الاستقرار أي: كائنةً للذين، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في الحالِ التوبة لأنه قد فُصِل بينهما بالخبر"، وهذا الذي قاله فيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.
الثاني: أن يكونَ الخبرُ "للذين" و"على الله" متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من شيء محذوف، والتقدير: "إما التوبةُ إذا كانت ـ أو إذ كانت ـ على عامله المعنوي. و"كان" هذه التامَّةُ وفاعلُها هو صاحب الحال. ولا يجوز أن تكون "على الله" حالاً من الضمير المستتر في "للذين"، والعامل فيها "للذين" لأنه عامل معنوي، والحال لا تتقدم على عامِلها المعنوي. هذا ما قاله أبو البقاء، ونَظَّر هذه المسألةَ بقولِهم: "هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطَباً" يعني أنَّ التقديرَ هنا: إذ كان بُسْراً أطيبُ منه إذْ كان رُطَباً، ففي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب. وقدَّر الشيخ مضافين حُذِفا من المبتدأ والخبر فقال: "التقديرُ: إنما قبولُ التوبةِ مترتبٌ على فضلِ الله، فـ"على" باقيةٌ على بابها: يعني من الاستعلاء.
(4/378)
---(1/1658)
قوله: {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل "يعملون"، ومعناها المصاحبة أي: يعملون السوءَ ملتبسين بجهالةٍ أي: مصاحبين لها، ويجوز أن يكون حالاً من المفعولِ أي: ملتبساً بجهالة، وفيه بُعْدٌ وَتَجَوُّزٌ.
والثاني: أن يتعلق بـ"يعملون" على أنها باء السببة. قال الشيخ: "أي: الحاملُ لهم على عملِ السوءِ هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حالَ عملها لم يَقْدُموا عليها كقوله: "لا يَزْني الزاني حين يزنى وهو مؤمن" لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً.
قوله: {مِن قَرِيبٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون "من" لابتداء الغاية أي: تبتدىء التوبة من زمانٍ قريب في زمان المعصية لئلا يقعَ في الإِصرار، وهذا إنما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون "مِنْ" لابتداء الغاية في الزمان، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهومُ الآية أنه لو تاب من زمانٍ بعيد لم يدخُلْ في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبولِ التوبة على الله المذكورةِ في هذه الآية، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم فأولئك {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
}. والثاني: أنها للتعبيض أي: بعضَ زمانٍ قريب، يعني: أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى التوبة فيه فهو تائب من قريب. وعلى الوجيهن فـ"مِنْ" متعلقة بـ"يتوبون"، و"قريب" صفة لزمان محذوف كما تقدَّم تقريره، إلا أنَّ حَذْفَ هذا الموصوف وإقامةَ هذه الصفةِ مُقامه ليس بقياسٍ، إذ لا ينقاس الحَذْفُ إلا في صور، منها أن تكونَ الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف نحو مررت بكاتبٍ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها نحو: "اسقِني ماءً ولو بارداً، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك.
(4/379)
---(1/1659)
وفي قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ} إعلامٌ بسَعَةِ عفوه، حيث أتى بحرف التراخي. والفاء في قوله "فأولئك" مؤذنةٌ بتسبُّبِ قَبول الله توبتَهم إذا تابوا من قريب. وضَمَّن "يتوب" معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى بـ"على". ، وأمَّا قولُه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} فراعَى المضافَ المحذوف إذ التقدير: إنما قبولُ التوبةِ عل الله، كذا قال الشيخ وفيه نظر.
* {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا}: حتى حرفُ ابتداء، والجملةُ الشرطية بعدها غايةٌ لِما قبلها أي: ليست التبوبةُ لقومٍ يعملون السيئات، وغاية عَمِلهم إذا حضرهم الموتُ قالوا: كيت وكيت، وهذا وجه حسن، ولا يجوز في "حتى" أن تكونَ جارةً لـ"إذا" أي: يعملون السيئات إلى وقت حضورِ الموت من حيث إنها شرطيةٌ، والشرطُ لا يعمل فيه ما قبله، وإذا جعلنا "حتى" جارةً تعلَّقت بـ"يعملون"، وأدواتُ الشرط لا يعمل فيها ما قبلها، ألا ترى أنه يجوزُ: "بمَنْ تمور أمرر"، ولا يجوز: مَرَرْتُ بمن يَقُمْ أكرمْه، لأنَّ له صدرَ الكلام، ولأن "إذا" لا تتصرف على المشهور كما تقدم تقريره في أول البقرة واستدلَّ ابن مالك على تصرُّفها بوجوه، منها: جَرُّها بـ"حتى" نحو: {حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ}، وفيه من الإِشكال ما ذكرته لك، وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ
}. قوله: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ} "الذين" مجرورُ المحل عطفاً على قوله "للذين يعلمون" أي ليست التوبةُ لهؤلاء ولا لهؤلاء، فَسَوَّى بين مَنْ مات كافراً وبين مَنْ لم يتب إلا عند معاينةِ الموتِ في عدم قبول توبتِه، والمرادُ بالعاملين السيئاتِ المنافقون.
(4/380)
---(1/1660)
وأجاز أبو البقاء في "الذين" أني يكونَ مرفوعَ المحل على الابتداء، وخبرُه "أولئك" وما بعدَه، معتقداً أن اللام لام الابتداء، وليست بـ"لا" النافية. وهذا الذي قاله من كونِ اللامِ لامَ الابتداء لا يَصِحُّ إلا أن يكون قد رُسِمَتْ في المصحف لامٌ داخلة على "الذين" فيصير "وللذين"، وليس المرسوم كذلك، إنما هو لام وألف، وألف لام التعريف الداخلة على الموصول، وصورته: ولا الذين.
قوله: "أولئك" متبدأ، و"أَعْتَدْنا" خبرُه، و"أولئك" يجوز أن يكونَ إشارةً إلى "الذين يموتون وهم كفار/، لأنَّ اسم الإِشارة يَجْري مَجْرى الضميرِ فيعودُ لأقربِ مذكور، ويجوزُ أَنْ يُشارَ به إلى الصِّفتين: الذين يعملون السيئات والذين يَمُوتون وهم كفار. وأعتدنا أي: أَحْضَرْنا.
* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }
قوله تعالى: {أَن تَرِثُواْ}: في محلِّ رفعٍ على الفاعلية بـ"يَحِلُّ" أي: لا يَحِلُّ لكم إرثُ النساءِ. وقرىء "لا تَحِلُّ" بالتاء من فوق على تأويل أن ترثوا: بالوراثة، وهي مؤنثةٌ، وهذا كقراءة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} بتأنيث "تكن" ونصبِ "فتنتهم" بتأويل "ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتُهم"، إلا أن في آية الإنعامِ مسوغاً وهو الإِخبار عنه بمؤنث كما سيأتي.
(4/381)
---(1/1661)
و"النساءَ" مفعول به: إمَّا على حَذْف مضاف أي: أن ترثوا أموال النساء إنْ كان الخطاب للأزواج؛ لأنه رُوي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ فيرثَها، أو تَفْتَدِيَ منه بمالِها إنْ لم تمت. وإما من غير حذفٍ، على معنى أن يَكُنَّ بمعنى الشيء الموروث إنْ ك ان الخطابُ للأولياء أو الأقرباء الميت، فقد نُقل أنه إذا مات أحدُهم وتَرَكَ امرأة وابناً من غيرها كان أحقَّ بها مِنْ نفسها. وقيل: كان الوليُّ إنْ سبق وأَلْقى علهيا ثوبَه كان أحق بها، وإنْ سَبَقَتْ إلى أهلها كانت أحقَّ بنفسِها، فنُهوا أن يجعلوهُنَّ كالأشياء المواريث، وعلى ما ذكرْتُ فلا يُحتاج إلى حَذْفِ أحدِ المفعولين: إمَّا الأول أو الثاني على جَعْلِ "أن ترثوا" متعدياً لاثنين كما فعل أبو البقاء قال:"والنساءَ في وجهان: أحدُهما: هُنَّ المفعول الأول، والنساء على هذا هن الموروثاتُ، وكانت الجاهليةُ تَرِثُ نساء آبائهم وتقول: نحن أحقُّ بنكاحِهِنَّ. والثاني: أنه المفعول الثاني والتقدير: أن ترثوا من النساء المالَ" انتهى. قوله: "هُنَّ المفعول الأول" يعني والثاني محذوف تقديرُه: أَنْ تَرِثوا من آباءكم النساء .
و"كُرْهاً" مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي: أن ترثوهن كارهات أو مكرهات. وقرأ الأخوان "كرهاً" هنا وفي براءة والأحقاف بضم الكاف، وافقهما عاصم وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف، والباقون بالفتح. وقد تقدَّم الكلام في الكُره والكَره: هل هما بمعنى واحد أم لا؟ في البقرة فأغنى عن إعادته. ولا مفهومَ لقوله "كرهاً" يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك لخروجه مَخْرج الغالبِ.
(4/382)
---(1/1662)
قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} في وجهان، أظهرُهما: أنه مجزوم بـ"لا" الناهية، عَطَفَ جملةَ نهي على جملةٍ خبرية، فإنْ لم تُشْترط المناسبةُ بين الجمل ـ كما مذهبُ سيبويه ـ فواضحٌ، وإن اشترطنا ذلك ـ كما هو رأيُ بعضِهم ـ فلأنَّ الجملةَ قبلَها في معنى النهي، إذ التقديرُ: لا ترثِوا النساءَ كرهاً فإنه غيرُ حلالٍ لكم. وجعله أبو البقاء على هذا الوجهِ مستأنفاً، يعني أنه ليس بمعطوفٍ على الفعل قبله.
والثاني: ـ أجازه ابن عطية وأبو البقاء ـ أن يكون منصوباً عطفاً على الفعل قبله. قال ابن عطية: "ويُحتمل أن يكونَ "تَعْضُلوهن" نصباً عطفاً على "تَرِثوا"، فتكون الواوُ مُشَرِّكةً عاطفة فِعْلاً على فعل".
(4/383)
---(1/1663)
وقرأ ابن مسعود: "ولا أَنْ تَعْضُلوهن" فهذه القراءة تُقَوِّي احتمال النصب وأنَّ العَضْل مِمَّا لا يَحِلُّ بالنص. ورَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنك إذا عطفت فعلاً منفياً بـ"لا" على مثبت وكانا منصوبين فإنَّ الناصب لا يُقَدَّر إلا بعد حرف العطف لا بعد "لا"، فإذا قتل: "أريدُ أن أتوبَ ولا أدخلَ النار" فإنَّ التقدير: أريد أن أتوبَ وأَنْ لا أدخلَ النار، لأنَّ الفعلَ يطلبُ الأولَ على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي، فالمعنى: أُريد التوبةَ وانتفاء دخولي النارَ، فو كان الفعلُ المتسلطُ على المتعاطِفَيْنِ منفياً فكذلك، ولو قَدَّرْتَ هذا التقديرَ في الآية لم يَصِحَّ لو قت: "لا يَحِلُّ أن لا تَعْظلوهُنَّ" لم يَصِحَّ إلا أن تجعل "لا" زائدة لا نافيةً، وهو خلاف الظاهر، وأما أَنْ تقدِّر "أَنْ" بعد "لا" النافية فلا يَصِحُّ، وإذا قَدَّرْتَ "أن" بعد "لا" كان من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على انب عطية العطفان، وَظنَّ أنه بصلاحية تقدير "أَنْ" بعد "لا" يكونُ من عطفِ الفعل على الفعلِ، وفَرْقٌ بين قولِك: [لا] أريد أن تقومَ وأن لا تخرج" وقولك: "لا أريدُ أن تقومَ ولا أن تخرج" ففي الاول نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه، وأراد انتقاءَ خروجهِ فقد أرادَ خروجَه، وفي الثانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه ووجودِ خروجِه، فلا يريدُ لا القيامَ ولا الخروج. وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على منْ لم يتمرَّنْ في علم العربية" انتهى ما رَدَّ به.
(4/384)
---(1/1664)
وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ المثال الذي ذكره في قوله: "أريد أن أتوب ولا أدخل النار" فِإنَّ تقديرَ الناصب فيه قبل "لا" واجب من حيث إنه لو قُدِّر بعدها لفسد التركيب، وأمَّا في الآية فتقدير "أن" بعد "لا" صحيحٌ، فإنَّ التقدير يصير: لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن. [ ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قولُ الزمخشري فإنه قال: فإن قلت:] تعضُلوهن ما وجهُ إعرابه؟ قلت: النصبُ عطفاً على "أن ترثوا" و"لا" لتأكيدِ النفي أي: لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضُلوهن"، فقد صَرَّح الزمخشري بهذا المعنى وصَرَّح بزيادة "لا" التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر.
وفي الكلام حذفُ تقديرُه: "ولا تَعْضُلوهن من النكاح" إنْ كان الخطابُ للأولياء، أو: "ولا تعضُلوهن من الطلاق" إنْ كان الخطاب للأزواجِ. وتقدَّم معنى العَضْل في البقرة.
قوله: {ُلِتَذْهَبُواْ} اللام متعلقةٌ بـ"تَعْضُلوهن"، والباء في "ببعض" فيها وجهان، أحدُها: أنها باءُ التعديةِ المرادفةُ لهمزتها اي: لِتَذْهَبُوا [بعضَ] ما آتيتموهن. والثاني: أنها للمصاحبةِ، فيكون الجارُّ في محلّ نصبٍ على الحال، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض، و"ما" موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوفٌ، وفي تقديره إشكالٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في البقرة عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فليلتفت إليه.
(4/385)
---(1/1665)
قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، فيكونُ "أن يأتينَ" في محلِّ نصب, والثاني: أنه متصلٌ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره: ولا تعضُلوهنَّ في وقتٍ من الأوقات إلا وقتَ إتيانهنَّ بفاحشة. الثاني: أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره: لا تَعْضُلوهن في حال من الأحوال إلا في حالِ إتيانهن بفاحشة. الثالث: أنه مستثنى من العلة العامة تقديره: لا تعضُلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة./ وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجهَ الانقطاع: "والثاني: هو في موضع الحال تقديرُه: إلاَّ في حالِ إتيانِهِنَّ بفاحشةٍ، وقيل: هو استثناء متصل، تقديرُه: ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حالِ إتيان الفاحشة" انتهى. وهذا الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد، لأنَّ القائلَ بكونِه منصوباً على الحال لا بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماًُ يجعلُ هذه الحالَ مستثناةً منه.
وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم: "مُبَيَّنة" بفتح الياء اسمَ مفعول في جميع القرآن، أي: بَيَّنَها مَنْ يَدَّعيها وأوضحها. والباقون بكسرها اسمَ فاعل وفيه وجهان، أحدهما: أنه من "بيَّن" المتعدي، فعلى هذا يكون المفعول محذوفاً تقديره مبيِّنةً حالَ مرتكبها. والثاني: أنه من بَيَّن اللازم، فإنَّ "بَيَّن" يكون متعدياً ولازماً يقال: بانَ الشيء وأبان واستبان وبَيَّن وتبيَّن بمعنى واحد أي: ظَهَر. وقرأ بعضهم: مُبيِنَة بكسرِ الباءِ وسكونِ الياء اسم فاعل من "أبان"، وفيها الوجهان المقتدمان في المشددة المكسورة، لأنَّ "أبان" أيضاً يكون متعدياً ولازماً، وأمَّا "مُبَيِّنات" فقرأهن الأخَوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسمَ فاعل، والباقون بفتحها اسمَ مفعول، وقد تقدَّم وجهُ ذلك.
(4/386)
---(1/1666)
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} في الباء وجهان، أظهرُهما: أنها باءُ الحالِ: إمَّا من الفاعل أي: مصاحبين لهنَّ بالمعروف، أو من المفعول أي: مصحوباتٍ بالمعروف. والثاني: أنها باءُ التعدية. قال أبو البقاء: "بالمعروفِ" مفعول أو حالٍ".
قوله: {فَعَسَى} الفاء جواب الشرط، وإنما اقترنت بها "عَسَى" لكونِها جامدةً. قال الزمخشري: فإنْ قلت: مِنْ أيِّ وجهٍ صَحَّ أن يكون "فعسى" جزاءً للشرط؟ قلت: من حيث إنَّ المعنى: فإنْ كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه".
وقرىء "ويَجْعَلُ" برفع اللام. قال الزمخشري: "على أنه حال"، يعني ويكونُ خبراً لمبتدأ محذوف؛ لئلا يلزمَ دخول الواو على مضارع مثبت. و"عسى" هنا تامةٌ لأنها رَفَعَتْ "أنْ" وما بعدها، والتقدير: فقد قَرُبَتْ كرهتكم، فاستغنت عن تقدير خبر، والضمير في "فيه" يعود على "شيء" أي: في ذلك الشيء المكروهِ وقيل: يعودُ على الكره المدلول عليه بالفعل. وقيل: يعود على الصبر وإن لم يَجْرِ له ذكر.
* { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }
قوله تعالى: {مَّكَانَ زَوْجٍ}: ظرفٌ منصوبٌ بالاستبدال، والمرادُ بالزوج هنا الجمعُ أي: وإنْ أردتم استبدالَ أزواجٍ مكانَ أزواج، وجاز ذلك لدلالةِ جمعِ المستبدِلين، إذ لا يُتَوَهَّم اشتراك المخاطبين في زوجٍ واحد مكانَ زوجٍ واحد، ولإِرادة معنى الجمع عادَ الضميرُ من قوله: إحداهُنَّ" على "زوج" جمعاً. والتي نَهَى عن الاخذ منها هي المستبدلُ مكانَها، لأنها آخذةٌ من بدليل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وهذا إما هو في القديمةِ لا المُسْتحدثةِ.
(4/387)
---(1/1667)
وقال: {إِحْدَاهُنَّ} ليدلَّ على أن قوله: {وَآتَيْتُمْ} المراد منه: وآتى كلُّ واحد منكم إحداهن، أي: إحدى الأزواج، ولم يقل: "آتيتموهن قنطاراً" لئلا يُتَوَهَّم أن الجميع المخاطبين آتَوا الأزواج قنطاراً، والمراد: آتى كلُّ واحد زوجَه قنطاراً، فدل لفظ "إحداهن" على أن الضمير في "آتيتم" المرادُ منه كلُّ واحدٍ واحدٍ كما دَلَّ لفظ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} على أنَّ الماردَ استبدلُ أزواجٍ مكانَ أزواج، فأُريد بالمفرد هنا الجمعُ لدلالةِ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ}.
وأُريد بقوله {وَآتَيْتُمْ} كلُّ واحد واحد، لدلالة "إحداهن" وهي مفردة على ذلك. ولا يُدَلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجزَ ولا أفصحَ من هذا التركيب. وتقدَّم معنى القنطار واشتقاقه في آل عمران. والضمير في "منه" عائد على "قنطاراً".
وقرأ ابن محيصن: "آتيتم آحداهن" بوصل ألف "إحدى" كما قرىء: {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} حَذَفَ الهمزة تخفيفاً كقوله:
1560ـ إنْ لم أقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعاً * .......................
وبهذا الذي ذكرته يتضح معنى الآية.
(4/388)
---(1/1668)
وقد طَوَّل أبو البقاء فيها ولم يأت بطائل، ولا بد من التعرُّض لما قاله والتنبيه عليه. قال: "وفي قوله {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} إشكالان، أحدهما: أنه جَمَع الضميرَ والمتقدمُ زوجان. والثاني: أن التي يريد أن يُسْتبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً فينهاه عن أخذِه، فأما التي يريد أن يستحدِثها فلم يكن أعطاها شيئاً حتى ينهى عن أَخْذِه، ويتأيَّد ذلك بقولِه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. والجوابُ عن الأول: أنَّ المرادَ بالزوجِ الجمعُ، لأنَّ الخطاب لجماعة الرجال، وكلٌّ منهم قد يريد الاستبدالَ، ويجوز أن يكونَ جُمِع لأن التي يريد أن يستحدِثَها يُفْضي حالُها إلى أن تكونَ زوجاً، وأن يريد أن يستبدلَ بها كما استبدل بالأولى فجُمِع على هذا المعنى. وأمَّا الإِشكال الثاني فييه جوابان أحدهما: أَنه وَضَعَ الظاهر مَوْضِعَ المضمر، والأصل: وآتيتموهن. والثاني: أنَّ المستبدلَ بها مبهمةٌ فقال "إحداهن" إذ لم تتعيَّن حتى يَرْجِع الضمير إليها، وقد ذكرنا نحواً مِنْ هذا في قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} انتهى.
وفي قوله: "وََضَع الظاهرَ موضعَ المضمر" نظرٌ، لأنَّه لو كانَ الأصل كذلك لأوهم أنَّ الجميعَ آتوا الأزواج قنطاراً كما تقدَّم، وليس كذلك.
قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً} الاستفهام للإِنكار أي: أتفعلونه مع قُبْحِه. وفي نصب "بهتاناً وإثماً" وجهان: أحدهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجلِه أي: لِبهتانكم وإثْمِكم. قال الزمخشري: "وإنْ لم يكن غَرَضاً كقولِك: قعدَ عن القتالِ جُنْباً". والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال، وفي صاحبها وجهان: أظهرهمام: أنه الفاعل في "أتأخذونه" [أي] باهتين وآثمين. والثاني: أنه المفعول أي: أتأخذونه مُبْهِتاً مُحَيِّراً لشَنْعَتِه وقُبح الأُحدوثة عنه.
(4/389)
---(1/1669)
وبُهْتان: فُعْلان من البَهْت، وقد تقدَّم معناه في البقرة، وتقدم أيضاً الكلام في "كيف" ومحلِّها من الإِعراب في البقرة أيضاً في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ
}.
* { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }
قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى}: الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب، وأتى بـ"قد" لِيَقْرُبَ الماضي من الحال، وكذلك "أَخَذْنَ" و"قد" مقدرةٌ معه لتقدُّمِ ذِكْرِها. و"منكم" فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلقٌ بـ"أَخَذْنَ". وأجاز فيه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من "ميثاقاً" قُدِّم عليه، كأنه لَمَّا رأى أنه يجوز أن يكونَ صفةً لو تأخَّر لجاز ذلك وهو ضعيف. و"أفضى" معناه ذهب إلى فضائِه أي: ناحيةٍ سَعَتِه، يقال: فَضَا يفضو، فألف "أَفْضى" عن ياءٍ أصلُها واو.
* { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}: في "ما" هذه قولان أحدهما: أنها موصولة اسمية واقعة على أنواعِ مَنْ يَعْقِل، كما تقدم ذلك في قوله {مَا طَابَ لَكُمْ}، وهذا عند مَنْ لا يجيز وقوعَها على آحاد العقلاء. فأمَّا مَنْ يُجيز ذلك فيقول: إنها وقاعة موقعَ "مَنْ"، فـ"ما" مفعول به بقوله {وَلاَ تَنكِحُواْ}، والتقدير: ولا تتزوجوا مَنْ تزوج آباؤكم. والثاني: أنها مصدرية ِأي: ولا تَنْكحوا مثلَ نكاح آبائكم الذي كان في الجاهلية وهو النكاح الفاسد كنكاح الشِّغار وغيرِه، واختار هذا القولَ جماعة منهم ابن جرير الطبري قال: "ولو كان معناه: ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضعُ "ما" "من". انتهى. وتبيَّن كونُه حراماً أو فاسداً [من] قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً}. قوله: {مِّنَ النِّسَآءِ}: تقدَّم نظيرُه أولَ السورة.
(4/390)
---(1/1670)
قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، إذ الماضي لا يُجامع الاستقبال،/ والمعنى: أ،ه لَمَّا حَرَّم عليهم نكاحَ ما نكح آباؤهم تطرَّق الوهمُ إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمُه؟ فقيل: إلا ما قد سَلَفَ أي: لكن ما سلف فلا إثمَ فيه. وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضاً: "إن المراد بالنكاح العقدُ الصحيح" وحَمَل {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} على ما كا ن يتعاطاه بعضُهم من الزنا فقال: "إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزننا بالنساء فذلك جائزٌ لكم زواجُهم في الإِسلام، وكأنه قيل: ولا تَعْقِدوا على مَنْ عَقَد عليه آباؤُكم إلا ما قد سلف مِنْ زِناهم، فإنه يجوزُ لكم أن تتزوَّجُوهم فهو استثناءٌ منقطع أيضاً.
والثاني: أنه استثناءٌ متصل وفيه معنيان، أحدهما: أن يُحْمل النِّكاحُ على الوطء، والمعنى: أنه نهى أن يَطَأ الرجلُ امرأةً وَطِئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها. نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد أيضاً، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين: أحدُهما قولُه: {وَلاَ تَنكِحُواْ} أي ولا تَطَؤوا وَطْئاً مباحاً بالتزويج. والثاني: التخصيص في قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} بوطء الزنا، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون وَطْئاً غيرَ زنا، وقد يكون زنا، فيصير التقدير: ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم وطئاً مباحاً بالتزويج إلا مَنْ كان وَطْؤُها فيما مضى وطءَ زنا. ويجوز على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يُراد بالنكاحِ الأولِ العقدُ، وبالثاني الوطءُ، اي: ولا تتزوجوا مَنْ وَطِئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطءَ زنا.
والمعنى الثاني: "ولا تَنْكِحوا مثلَ نكاحِ آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدَّم منكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ فمباحٌ لكم الإِقامةُ عليها في الإِسلام إذا كان مما يقِّرُ الإِسلامُ عليه" وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ "ما" مصدريةً وقد تقدَّم.(1/1671)
(4/391)
---
وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف استثنى "ما قد سلف" من "ما نكح آباؤكم"؟ قلت: كما استثنى "غيرَ أنَّ سيوفهم" من قوله: "ولا عيبَ فيهم" يعني: إنْ أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يَحِلُّ لكم غيرُه، وذلك غير ممكن، والغَرضُ المبالغةُ في تحريمه وسَدُّ الطريق إلى إباحته، كما تعلق بالمُحالِ في التأبيد في نحو قولهم: "حتى يَبْيَضَّ القارُّ" و"حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط". انتهى. أشار ـ رحمه الله ـ إلى بيت النابغة في قوله:
1561ـ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم * بِهِنَّ فُلوٌ من قِراعِ الكتائبِ
يعني إنْ وُجِد فيهم عَيْبٌ فهو هذا، وهذا لا يَعُدُّه أحدٌ عيباً فانتفى العيب عنهم بدليله. ولكن هل الاستثناءُ على هذا المعنى الذي أبداه الزمخشري من قبيلِ المنقطعِ أو المتصل؟ والحقُّ أنه متصلٌ لأنَّ المعنى: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم إلا اللائي مَضَيْنَ وفَنِين، وهذا مُحالٌ، وكونُه مُحالاً لا يُخْرِجُه عن الاتصال. وأمَّا البيتُ ففيه نظرٌ، والظاهر أن الاستثناءَ فيه متصلٌ أيضاً، لأنه جَعَلَ العيبَ شامِلاً لقولِه "غيرَ أنَّ سيوفَهم" بالمعنى الذي أراده. وللبحثِ فيه مجالٌ.
وتَلَخَّص مِمَّا أنَّ المرادَ بالنكاحِ في هذه الآية العقدُ الصحيحُ أو الفاسدُ أو الوطء، أو: يُرادُ بالأول العقدُ وبالثاني الوَطْءُ، وقد تقدَّم القولُ في البقرةِ: هل هو حقيقةٌ فيهما أو في أحدِهما؟ واختلافُ الناسِ في ذلك.
(4/392)
---(1/1672)
وزعم بعضُهم أنَّ في الآيةِ تقديماً وتأخيراً والأصلُ: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء، إنه كان فاحشة ومَقْتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف. وهذا فاسدٌ من حيث الإعراب ومن حيث المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ ما في حَيِّز "إنَّ" لا يتقدَّم عليها، وأيضاً فالمستثنى لا يتقدَّمُ على الجملة التي هو من متعلَّقاتها سواءً كان متصلاً أم منقطعاً، وإنْ كان في هذا خلافٌ ضعيفٌ. وأما الثاني فلأنه أَخْبر أنه فاحشةٌ ومَقْت في الزمان الماضي بقوله "كان" فلا يَصِحُّ أن يُسْتثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى: هو فاحشةٌ في الزمانِ الماضي إلا ما وقع منه في الزمانِ الماضي فليس بفاحشة.
والمَقْتُ: بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه. والضمير في قوله "إنه" عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه: {وَلاَ تَنكِحُواْ}، ويجوز أن يعودَ على الزنى إذا أريد بقوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الزنى و"كان" هنا لا تدل على الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يَزَلْ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ على قوله "إنها زائدة". ورُدَّ عليه بوجودِ الخبر والزائدةُ لا خبرَ لها، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها لا تَدُلُّ على الماضي فقط، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة.
قوله: {وَسَآءَ سَبِيلاً} في "ساء" قولان، أحدهما: أنها جارية مَجْرى "بئس" في الذم والعمل، ففيها ضميرٌ مبهمٌ يُفَسِّره ما بعده وهو "سبيلاً" والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: "وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ" كقوله: "بِئْسَ الشراب" أي: ذلك الماء. والثاني: أنها لا تَجْري مَجْرى "بِئْس" في العمل بل هي كسائر الأفعالِ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عاد عليه الضميرُ في "إنه"، و"سبيلاً" على كلا التقديرين تمييزٌ.
(4/393)
---(1/1673)
وفي هذه الجملة وجهان أحدهما: أنه لا محل لها بل هي مستأنفة، ويكون الوقفُ على قوله: "ومقتاً" ثم يستأنف "وساء سبيلاً" أي: وساءَ هذا السبيل منْ نكاح مَنْ نكحهن من الآباء. والثاني: أن يكونَ معطوفاً على خبر "كان"، على أَنْ يُجْعَلَ محكيّاً بقول مضمر، ذلك القولُ هو المعطوفُ على الخبر، والتقدير: ومَقُولاً فيه: ساء سبيلاً، هكذا قَدَّره أبو البقاء. ولقائلٍ أن يقولَ: يجوز أَنْ يكونَ عطفاً على خبر "كان" مِنْ غيرِ إضمارِ قول، لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفرد، ألا ترى أنه يقعُ خبراً بنفسه تقول: "زيدٌ ساءَ رجلاً" و"كان زيدا ساء رجلاً"، فغاية ما في الباب أنك أتيت بأخبار "كان" أحدُهما مفردَ والآخرُ جملة، اللهم إلا أَنْ يُقالَ: إن هذه جملةٌ إنشائيةٌ، والإِنشائية لا تقع خبراً لـ"كان"، فاحتاج إلى إضمار القول وفي بحث.
* { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}: "أمهات" جمع "أم" فالهاء زائدةٌ في الجمع، فرقاً بين العقلاء وغيرهم. يقال في العقلاء: "أمهات" وفي غيرهم: "أُمَّات" كقوله:
1562ـ وأُمَّاتِ أَطْلاءٍ صغارٍ.....
هذا هو المشهور، وقد يقال: "أُمَّات" في العقلاء: و"أمهات" في غيرهم وقد جَمَع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال:
(4/394)
---(1/1674)
1563ـ إذا الأمَّهاتُ قَبُحْنَ الوجوهَ * فَرَجْتَ الظلامَ بأُمَّاتِكا
وقد سُمع "أُمَّهة" في "أُم" بزيادةِ هاء، بعدَها تاءُ تأنيث قال:
1564ـ أُمَّهتي خِنْدِفُ واليأسُ أبي
فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ "أمهات" جمعَ "أُمَّهة" المزيدِ فيها الهاء، والهاء قد أتت زائدةً في مواضع/ قالوا: هِبْلَع وهِجْرَع من البَلْعِ والجَرْع.
قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} عطفٌ على "أُمَّهاتكم". وبنات جمع بنت، وبنت تأنيث ابن، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى اشتقاقِه ووزنِه في البقرة في قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}، إلا أن ابا البقاء حَكَى عن الفارء أنَّ "بنات" ليس جمعاً لـ"بنت" يعني بكسرِ الباء بل جمع "بَنة" يعني بفتحِها، قال: وكُسِرت الباء تنبيهاً على المحذوف". قلت: هذا إنما يجيء على اعتقادِ أنَّ لامها ياء، وقد تقدم لنا خلافٌ في ذلك جاء جمعُها ومذكرها وهو بنون، قال: "وهو مذهبُ البصريين" قلت: لا خلاف بين القولينِ في التحقيق، لأنَّ مَنْ قال: بنات جمعُ "بَنة" بفتح الباء لا بد وأَنْ يعتقد أنَّ أصلها "بَنَوة" حُذِفَت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، والذي قال: بنات جمع "بَنَوة" لَفَظَ بالأصل فلا خلاف.
واعلم أنَّ تاء "بنت" و"أخت" تاءُ تعويضٍ عن اللام المحذوفة كما تقدَّم تقريره، وليست للتأنيثِ، ويَدُلُّ على ذلك وجهان، أحدهما: أنَّ تاء التأنيث يلزَمُ فتحُ ما قبلها لفظاً أو تقديراً نحو: ثمرة وفتاة، وهذه ساكنٌ ما قبلَها. والثاني: أنَّ تاء التأنيث تُبْدَلُ في الوقفِ هاء، وهذه لا تُبْدَلُ بل تُقَرُّ على حالِها. وقال أبو البقاء: "فإنْ قيل: لِمَ رُدَّ المحذوف في "أخوات" ولم يُرَدَّ في "بنات"؟ قيل: حُمِل كل واحد من الجمعين على مذكَّرِهِ، فمذكر "بنات" لم يُرَدَّ إليه المحذوف بل قالوا فيه "نون"، ومذكر "أخوات" رُدَّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ: إخْوة وإخْوان".
(4/395)
---(1/1675)
وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أَخَذَ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً لـ"أَخَوات" جمعَ التصحيح، فقال: رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في أخوة، وهذا أيضاً موجود في "بنات"؛ لأنَّ مذكرة في التكسير رُدَّا إليه المحذوف. قالوا: ابن وأبناء، ولَمَّا جمعوا أخاً جمع السلامة قالوا فيه "أَخُون" بالحذف، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفَهما، ولم يَرُدَّوا في تصحيحهما، فبان فساد ماقال.
قوله: {وَخَالاَتُكُمْ} ألف "خالة" و"خال" منقلبة عن واو، بدليل جمعه على "أخوال"، قال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ
}. قوله: {مِّنَ الرَّضَاعَةِ}: في موضعِ نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره: وأخواتُكم كائناتٍ من الرضاعة. وقرأ أبو حيوة: "من الرِّضاعة" بكسر الراء. {مِّن نِّسَآئِكُمُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من "ربائبكم" تقديره: "وربائبكم كائناتٍ من نسائكم". والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في قوله: {فِي حُجُورِكُمْ} لأنه لَمَّا وقع صلةً تَحَمَّل ضميراً، أي: اللاتي استَقْرَرْنَ في حُجُوركم.
والربائب: جمع "ربيبة" وهي بنت الزوج أو الزوجة، والمذكر: ربيب، سُمِّيا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يَرُبُّه كما يَرُبُّ ابنه. وقوله: {اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} لا مفهومَ له لخروجه مخرج الغالب. الحُجُور: جمع "حِجْر" بفتحِ الحاءِ وكسرها، وهو مقدَّمُ ثوبِ الإِنسان ثم استعملت اللفظُ في الحِفْظ والستر.
قوله: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفةٌ لـ"نسائكم" المجرورِ بـ"مِنْ"، اشترط في تحريم الربيبة أن يُدْخَلَ بأمها.
(4/396)
---(1/1676)
ولا جائزٌ أن تكونَ صفة لـ"نسائكم" الأولى والثانية لوجهين، أحدهما: من جهة الصناعة، وهو أن "نسائكم" الأولى مجرورةٌ بالإِضافة والثانية مجرورة بـ"من" فقد اختلف العاملان، وإذا اختلفا امتنع النعت، لاتقول: "رأيت زيداً ومررت بعمرٍو العاقلين" على أني كون "العاقلين" نعتاً لهما. والثاني من جهة المعنى: وهو أن أم المرأة تَحْرُم بمجردِ العَقْدِ على البنت دَخَلَ بها أو لم يَدْخُل بها عند الجمهور، والربيبةُ لا تَحْرُم إلا بالدخولِ على أمها.
وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يَجوز أَنْ يكونَ هذا الوصفُ راجعاً إلى الأولى في المعنى فإنه قال: {مِّن نِّسَآئِكُمُ} متعلق بـ"ربائبكم" ومعناه: أن الربيبة من المرأةِ المدخولِ بها مُحَرَّمةٌ على الرجل حلالٌ له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يَصِحُّ أن يتعلق بقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ}؟ قلت: لا يخلو: إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بهن وبالربائب فتكون حرمُتهن وحرمةُ الربائب غيرَ مبهمتين جميعاً، وإمَّا أَنْ يتعلَّق بهن دونَ الربائبِ، فتكونُ حرمتُهن غيرَ مبهمة وحرمةُ الربائب مبهمةً، ولا يجوز الأول لأن معنى "من" مع أحد المتعلقين خلافُ معناها مع الآخر، ألا تراك إذا قلت: "وأمهاتُ نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن" فقد جَعَلْتَ "مِنْ" لبيان النساء وتمييزاً للمدخولِ بهنَّ مِنْ غيرِ المدخول بهنَّ، وإذا قلت: "وربائبكم من نسائِكم اللاتي دَخَلْتُم بهن" فإنك جاعلٌ "مِنْ" لابتداءِ الغاية كما تقولُ:"بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة"، وليس بصحيحٍ أَنْ يَعْني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليقُ به ما لم يَعْرِضْ أمرٌ لا يُرَدُّ، إلا أَنْ تَقول: أُعَلِّقُه بالنساء والربائب، وأجعل "من" للاتصال كقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ}،[وقال]:
(4/397)
---(1/1677)
1565ـ ..................... * فإني لستُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي
[وقوله]:
1566ـ ما أنا من دَوْدٍ ولا دَوْدٌ مِنِي
وأمهاتُ النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتُهن، كما أن الربائب متصلاتٌ بأمهاتهن لأنهن بناتُهن، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهاتِ النساء مبهمٌ". انتهى. ثم قال: "إلا ما رُوي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا "وأمهاتُ نسائكم اللاتي دَخَلْتُم بهن" فكان ابن عباس يقول: "واللهِ ما أُنزل إلا هكذا" فقوله: "أعلقه بالنساء والربائب" إلى آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب ـ وهو الدخول ـ في أمهات نسائكم، كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس. قال الشيخ: "ولا نعلم أحداً أثبتَ لـ"مِنْ" معنى الاتصال، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة.
قوله: {وَحَلاَئِلُ} جمع "حليلة" وهي الزوجة، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَحُلُّ مع زوجها حيث كان، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة، والزوج حليل كذلك، قال:
1567ـ أغشى فتاةَ الحَيَّ عند حليلِها * وإذا غَزَا في الجيشِ لا أَغْشاها
وقيلأ: اشتقاقها من لفظ الحلال؛ إذ كلٌّ منهما حلال لصاحبه، وهو قول الزجاج وجماعة، فـ"فَعِيل" بمعنى مفعول أي: مُحَلَّلة له وهو محللٌ لها، إلا أنَّ هذا يُضْعفُه دخولُ التأنيث، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مَجْرى الجوامد/ كالنطيحة والذبيحة. وقيل: هما من لفظ "الحَلّ" ضد العَقْد؛ لأنَّ كلاً منهما يَحُلُّ إزارَ صاحبِه.
{الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} صفةٌ مبينة؛ لأنَّ الابن قد يُطْلق على المُتَبَنَّى به وليست امرأتُه حراماً على مَنْ تَبَنَّاه، وأمَّا الابن من الرضاع فإنه وإنْ كان حكمُه حكمَ ابن الصُّلْب في ذلك فمبيَّنٌ بالنسة فلا يَرِد على الآية الكريمة.
(4/398)
---(1/1678)
وأَصْلاب: جمع "صُلْب" وهو الظهرُ، سُمِّي بذلك لقوته اشتقاقاً من الصَّلابة، وأفصحُ لغتَيْه: صُلْب بضمِ الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز، وبنو تميم وأسد يقولون "صَلَباً بفتحهما، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب "لغات القرآن" له، وأنشد عن بعضهم:
1568ـ في صَلَبٍ مثلٍ العِنانِ المُؤْدَمِ
وحكى عنهم: "إذا أَقُوم اشتكى صَلَبي".
قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ} في محلِّ رفع عطفاً على مرفوع "حُرِّمت" أي: وحُرِّم عليكم الجمعُ بين الأختين، والمرادُ الجمعُ بينهما في النكاح، أمَّا في الملِْك فجائزٌ اتفاقاً، وأمَّا الوطءُ بمِلكْ اليمين ففيه خلافٌ ليس هذا موضعَه.
قولُه: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منطقع، فهو منصوبٌ المحل كما تقدَّم في نظيره أي: لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يَغْفِره. وقيل: المعنى إلا ما عَقَد عليه قبل الإسلام، فإنه بعد الإِسلام يبقى النكاح على صحته، ولكن يَخْتار واحدةً منها ويفارق الأخرى، وكان قد تقدَّمَ قريبٌ من هذا المعنى في {مَا قَدْ سَلَفَ} الأولِ ويكون الاستثناء عليه متصلاً، وهنا لا يتأتَّى الاتصال البتة لفساد المعنى.
* { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
(4/399)
---(1/1679)
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ}: قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة بـ"أل" أم نكرة بفتح الصاد، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ} في رأس الجزء فإنه وافق الجمهور. فأمَّا الفتحُ ففيه وجهان، أشهرهما: أنه أَسْند الإِحصان إلى غيرهن، وهو إمَّا الأزواج أو الأولياء، فإن الزوج يُحْصِنُ امرأته أي: يُعِفُّها، والوليَّ يُحصِنُها بالتزويجِ أيضاً والله يُحْصِنُها بذلك. والثاني: أن هذا المفتوحَ الصادِ بمنزلة المكسور، يعني أنه اسمُ فاعل، وإنما شَذَّ فتحُ عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظَ: أَحْصَنَ فهو مُحْصَن وأَلْقح فهو مُلْقَح، وأَسْهَب فهو مُسْهَب.
وأمَّا الكسر فإنه أسند الإِحصان إليهن؛ لأنهن يُحْصِنَّ أنفسهن بعفافهن، أو يُحْصِنَّ فروجهن بالحفظ، أو يُحْصِنَّ أزواجهن. وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال: "لأن المراد بهن المُزَوَّجات فالمعنى: أن أوزاجَهُنَّ أحصنوهن، فهن مفعولاتٌ"، وهذا على أحدِ الأقوال في المحصنات هنا مَنْ هن؟ على أنه قد قرىء ـ شاذاً ـ التي في رأس الجزء بالكسر أيضاً، وإنْ أُريد بهن المزوِّجات؛ لأنَّ المراد أحصنَّ أزواجهنّ أو فروجهنّ، وهو ظاهر. وقرأ يزيد بن قطيب: و"المُحْصُنات" بضم الصاد، كأنه لم يَعْتَدَّ بالساكن فأتبعَ الصاد للميم كقولهم: "مُنْتُن".
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على المَنْعِ ومنه "الحِصْن" لأنه يُمْنع به، و"حِصان" للفرس من ذلك. ويقال: أَحْصَنَتِ المرأةُ وحَصُنَتْ، ومصدرُ حَصُنَت: "حُصْن" عن سيبويه و"حَصانة" عن الكسائي وأبي عبيدة، واسمُ الفاعلِ من أَحْصَنَتْ مُحْصَنة، ومن حَصُنت حاصِن، قال:
1569ـ وحاصِنٍ من حاصناتٍ مُلْسِ * مِن الأذى ومن قِراف الوَقْسِ
ويقال لها: "حَصان" أيضاً بفتح الحاء، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها:
1570ـ حَصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ * وتصبحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافل
(4/400)
---(1/1680)
والإِحصانُ في القرآن وَرَد، ويُراد به أحدُ أربعة معان: التزوج والعفة والحرية والإِسلام،وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده: فإن أُريد به هنا التزوُّجُ كان المعنى: وحُرِّمت عليكم المحصنات أي: المزوجات إلا النوعَ الذي ملكته أيمانكم: إما بالسَّبْي أو بمِلْكٍ مِنْ شَرْي وهبة وإرثٍ، وهو قولُ بعضِ أهل العلم، ويدلُ على الأول قولُ الفرزدق:
1571ـ وذاتِ حَليلٍ أَنْكَحَتْها رماحُنا * حَلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ
يعني: أنَّ مجردَ سبائِها أحلَّهَا بعد الاستبراءِ. وإنْ أُريد به الإِسلام أو العفةُ فالمعنى أنَّ المسلماتِ أو العفيفاتِ حرامٌ كلهن، يعني فلا يُزْنى بهن إلا ما مُلِك منهن بتزويجٍ أو مِلْك يمين، فيكون المرادُ بـ{مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} الستلُّطَ عليهن وهو قَدْرٌ مشترك، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكونُ الاستثناء متصلاً. وإنْ أريد به الحرائرُ فالمرادُ إلا ما مُلِكت بمِلْكِ اليمينِ، وعلى هذا فالاستثناءُ منقطع.
وقوله: {مِنَ النِّسَآءِ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ كنظيرِه المتقدم. وقال مكي: "فائدةُ قولِه "من نساء" أنَّ المُحْصَناتِ تقع على الأنفسِ، فقولُه {مِنَ النِّسَآءِ} يرفعُ ذلك الاحتمال، والدليلُ على أنه يُراد بالمحصناتِ الأنفسُ قولُه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فلو أريد به النساءُ خاصة لَما حُدَّ مَنْ قذف رجلاً بنص القرآن، وقد أجمعوا على أنّ حَدَّه بهذا النصِّ". انتهى. وهذا كلامٌ عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يَتَوهَّم ذلك هنا أحدٌ من الناس؟
قوله: {كِتَابَ اللَّهِ} في نصبه ثرثة أوجه، أظهرها: أنه منصوبٌ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله: "حُرِّمت"، ونصبُه بفعل مقدر أي: كَتَبَ الله ذلك عليكم كتاباً. وأبعد عبيدة السلماني في جَعْلِه هذا المصدَر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ
(4/401)(1/1681)
---
}. الثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء بـ"عليكم" والتقدير: عليكم كتابَ الله أي: الزموه قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، وهذا رأي الكسائي ومَنْ تابعه، أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإِغراء مستدِلِّين بهذه الآيةِ، وبقولِ الآخر:
1572ـ يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا * إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا
فـ"دلوي" منصوبٌ بـ"دونَك" وقد تقدَّم. والبصريون يمنعون ذلك، قالوا: لأنَّ العاملَ ضعيف، وتأوَّلوا الآيةَ على ما تقدم، والبيتَ على أن "دلوي" منصوبٌ بـ"المائح" أي: الذي ماح دَلْوي.
والثالث: أنه منصوب بإضمار فعل أي: الزموا كتاب الله، وهذا قريبٌ من الإِغراء. وقال أبو البقاء في هذا الوجه:"تقديره: الزموا كتاب الله" و"عليكم" إغراء، يعني أن مفعوله قد حُذف للدلالة بـ"كتاب الله" عليه، أي: عليكم ذلك، فيكون أكثر تأكيداً. وأمَّا "عليكم" فقال أبو البقاء: إنها على القول بأن "كتاب" مصدرٌ يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصبِ لـ"كتاب" ولا يتعلَّق بالمصدر" قال: "لأنه هنا فَضْله". قال: "وقيل: يتعلَّق بنفسِ المصدر/ لأنه ناب عن الفعل، حيث لم يُذكر معه فهو كقولك: مروراً بزيد قلت: وأمَّا على القول بأنه إغراء فلا محلَّ له لأنه واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، وأمَّا على القولِ بأنه منصوبٌ بإضمار فِعْلٍ أي: الزموما فـ"عليكم" متعلِّقٌ بنفس "كتاب" أو بمحذوف على أنه حال منه.
وقرأ أبو حيوة "كَتَبَ اللهُ" على أن "كتب" فعل ماض، و"الله" فاعل به، وهي تؤيد كونَه منصوباً على المصدر المؤكد. وقرأ ابن السَّمَيْفَع اليماني: "كُتُبُ الله" جعله جمعاً مرفوعاً مضافاً لله تعالى على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديره: هذه كتبُ الله عليكم.
(4/402)
---(1/1682)
قوله:{وَأُحِلَّ} قرأ الأخوان وحفص عن عاصم: "اَحَلَّ" مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل، وكلتا القراءتين الفعلُ فيهما معطوفٌ على الجملةِ الفعليةِ من قولِه: "حُرِّمَتْ" والمُحَرِّمُ والمُحَلِّلُ هو الله تعالى في الموضعين، سواءً صَرَّحَ بإسناد الفعلِ إلى ضميره أو حَذَف الفاعل للعلم به.
وادَّعى الزمخشري أن قراءة "أُحِلَّ" مبنياً للمفعول عطفٌ على "حُرِّمت" ليُعْطَفَ فعلٌ مبني للمفعول على مثله، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفاً على الفعل المُقدَّر الناصب لـ"كتاب" كأنه قيل: كَتَب الله عليكم تحريمَ ذلك وأَحَلَّ لكم م وراء ذلكم. ق ال الشيخ: "وما اختاره ـ يعني من التفرقه بين القراءتين ـ غيرُ مختار؛ لأنَّ الناصبَ لـ"كتابَ الله" جملةٌ مؤكدة لمضمون الجملة من قوله "حُرِّمت" إلى آخره، وقوله "وأَحَلَّ لكم" جملةٌ تأسيسية فلا يناسِبُ أن تُعْطَفَ إلا على تأسيسية مثلِها لا على جملةٍ مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل، فالمناسب أن تُعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرىغيرِ الأولى، وقد فَعَلَ هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثلَه" وفي هذا الردَّ نظر.
و{مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مفعولٌ به: إمَّا منصوبُ المحل أو مرفوعُه على حَسَبِ القراءتين في "أحلَّ".
(4/403)
---(1/1683)
قوله: {أَن تَبْتَغُواْ} في محلِّه ثلاثةُ أوجه: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ على أنه بدل من {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على قراءة "أُحِلَّ" مبنياً للمفعول؛ لأن "ما" حينئذ قائمةٌ مقامَ الفاعل، وهذا بدلٌ منها بدلُ اشتمال. وأمّضا النصبُ فالأجودُ أن يكون على أنه بدل من "ما" المتقدمة على قراءة "أَحَلَّ" مبنياً للفاعل، كأنه قال: وأَحَلَّ الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو مِلْك يمين. وأجاز الزمخشري أن يكونَ نصبُه على المفعول من أجله، قال"بمعنى: بَيَّن لكم ما يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُم إرادةَ أن يكون ابتغاؤكم بأموالِكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونِكم محصنين".
وأنحى عليه الشيخ، وجَعَلَه إنما قصد بذلك دسيسةَ الاعتزال ثم قال: "وظاهرُ الآية غيرُ ما فهمه، إذ الظاهر أنه تعالى أَحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المحرماتِ السابقِ ذكرُها بأموالنا حالةَ الإِحصان لا حالةَ السِّفاح، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يُعْرَبَ "أن تبتغوا" مفعلاً له، لأنه فات شرطٌ من شروطِ المفعولِ له وهو اتحادُ الفاعلِ في العامل والمفعول له، لأنَّ الفاعلَ بـ"أحلَّ" هو الله تعالى والفاعلَ في "تبتغوا" ضميرُ المخاطبين فقد اختلفا، ولمَّا أحسَّ الزمخشري ـ إن كان أحسَّ ـ جعل "أن تبتغوا" على حذفِ "إرادة" حتى يتحدَ الفاعل في قوله "وأحلَّ" وفي المفعولِ له، ولم يجعل "أن تبتغوا" مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامتِه مقامَه، وهذا كلُّه خروج عن الظاهر". انتهى.
ولا أدري ما هذا التَحمُّلُ، ولا كيف يَخْفى على أبي القاسم شرطٌ اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول "إن كان أحسَّ"!!!
(4/404)
---(1/1684)
وأجاز أبو البقاء فيه النصبَ على حذف حرف الجر، قال أبو البقاء: "وفي "ما" ـ يعني من قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ـ وجهان، أحدُهما: هي بمعنى "مَنْ"، فعلى هذا يكون قوله "أن تبتغوا" في موضع جر أو نصب على تقدير: بأن تبتغوا أو لأنْ تبتغوا، أي: أُبيح لكم غيرُ مَنْ ذكرنا من النساء بالمهور، والثاني: أن "ما" بمعنى الذي، والذي كنايةٌ عن الفعل أي: وأحَلَّ لكم تحصيلَ ما وراء ذلك الفعلِ المحرَّمِ، و"أن تبتغوا" بدلٌ منه، ويجوز أن يكونَ أصلُه بأن تبتغوا، أو لأن تبتغوا. وفي ما قاله نظر لا يخفى.
وأمَّا الجرُّ فعلى ما ذكره أبو البقاء. وقد تقدَّم ما فيه.
و{مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل "تَبْتغوا"، و"غيرَ مسافحين" حالٌ ثانية، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في "مُحْصِنين"، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي: مُحْصِنين فروجَكم غير مسافحين الزواني، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المُحْصِن غيرُ مسافِحٍ. ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من "محصنين" فيما علمت.
(4/405)
---(1/1685)
قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكونَ المرادُ بها لنساءَ المستمتَع بهن أي: النوعَ المُسْتمتع به، وأن يراد بها الاستمتاعُ الذي هو الحدثُ. وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيةً ففي خبرها الخلاف المشهور: هل هو فعلُ الشرط أو جوابُه أو كلاهما؟ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. وإن كانت موصولةً فالخبرُ قولُه: {فَآتُوهُنَّ}، ودخلت الفاءُ لشبهِ الموصولِ باسم الشرط، وقد تقدَّم أيضاً تحقيقه. ثم إنْ أُريد بها النوعُ المستمتعُ به فالعائدُ على المبتدأ ـ سواءً كانت "ما" شرطاً أو موصولةً ـ الضميرُ المنصوب في "فآتوهن"، ويكون قد راعَى لفظَ "ما" تارة فأَفْرد في قوله "به" ومعناها أخرى، فَجَمع في قوله "منهن" و"فآتوهن"، فيصيرُ المعنى: أيَّ نوع من النساء استمتعتم به فآتوهُنَّ، أو النوعَ الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن، وإنْ أريد بها الاستمتاع فالعائدُ حينئذ محذوفٌ تقديره: فأيَّ نوع من الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهُنَّ أجورهُنَّ لأجله.
و"مِنْ" في "منهم" تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون للبيان. والثاني: أن تكون للتعبيض، ومحلُّها النصب على الحال من الهاء في "به" ولا يجوز في "ما" أن تكون مصدرية لفسادِ المعنى، ولعَوْدِ الضميرِ في "به" عليها.
والسِّفاح: الزنا، وأصله الصَبُّ، لأن الزاني يَصُبُّ فيه، وكانوا يقولون: سافحيني وماذيني. والمسافِحُ: مَنْ تظاهر بالزنا، ومتخذ الأخدان مَنْ تَسَتَّر فاتخذ واحدة خفية.
قوله: {فَرِيضَةً} حالٌ من "أجورهن" أو مصدرٌ مؤكِّد أي: فرض الله ذلك فريضة، أو مصدرٌ على غير الصدر؛ لأن الإِيتاء مفروض فكأنه قيل: فآتوهُنَّ أجورَهنَّ إيتاءً مفروضاً.
(4/406)
---(1/1686)
* { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ}: "مَنْ" شرطية وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولةً. وقوله: "فممَّا ملكت": إمَّا جوابُ الشرط وإما خبر الموصول، وشروطُ دخولِ الفاء في الخبر موجودةٌ. و"منكم" في محل نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "يستطِعْ".
وفي نَصْب "طَوْلاً" ثلاثة أوجه أظهرها: أنه مفعول بـ"يستطع"، وفي قوله "أن ينكحَ" على هذا ثلاثة أقوال، القول الأول: أنه في محلِّ نصب بـ"طَوْلاً" على أنه مفعولٌ بالمصدر المنون؛ لأنه مصدر "طُلْت الشيء" أي: نِلْتُه، والتقدير: ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحنصات. ومثلُه قول الفرزدق:
1573ـ إن الفرزدق صخرةٌ ملمومَةٌ * طالَتْ فليسَ ينالها الأوعالا
أي: طالت الأوعال فمل تَنَلْها، وإعمالُ المصدر المنون كثير، قال:
1574ـ بضربٍ بالسيوف رؤوسَ قومٍ * أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيل
وقولُ الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا}، وهذا الوجه ذهب [إليه] الفارسيّ.
القول الثاني: أنَّ "أَنْ ينكحَ" بدلٌ من "طَوْلاً" بدلُ الشيء من الشيء؛ لأنَّ الطَّوْل هو القدرةُ أو الفَصْلُ، والنكاحُ قدرةٌ وفَصْلٌ.
(4/407)
---(1/1687)
القول الثالث: أنَّه على حذفِ حرفِ الجر، ثم اختلف هؤلاء: فمنهم مَنْ قَدَّره بـ"إلى" أي: طَوْلاً إلى أن ينكحَ، ومنهم مَنْ قَدَّره باللام، أي: لأنْ ينكِحَ، وعلى هذين التقديرين فالجارُّ في محل الصفة لـ"طَوْلاً" فيتعلق بمحذوفٍ، ثم لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجر جاء الخلاف المشهور في محل "أَنْ" أنصبُ هو أم جر؟ وقيل: اللامُ المقدرة مع "أنْ" هي لامُ المفعول من أجله أي: طَوْلاً لأجل نكاحِهنَّ.
الوجه الثاني مِنْ نصب "طولاً" أن يكونَ مفعولاً له على حذف مضافٍ أي: ومَنْ لم يستطعْ منكم لعدمِ طَوْل نكاح المحصنات، وعلى هذا فـ"أن" ينكح" مفعولٌ "يستطع" أي: ومَنْ لم يستطِعْ نِكاح المحصناتِ لعدمِ الطَّوْل.
الوجه الثالث: أن يكونَ منصوباً على المصدر، قال ابن عطية: "ويَصِحُّ أن يكونَ "طَوْلاً" نصباً على المصدر، والعامل فهي الاستطاعة لأنهما بمعنى، و"أن ينكح" على هذا مفعولٌ بالاستطاعة أو بالمصدر" يعني أن الطَّوْل هو استطاعةٌ في المعنى فكأنه قيل: ومَنْ لم يستطع منكم استطاعةً.
قوله: "فممَّا" الفاء قد تقدم أنها: إمَّا جوابُ الشرط، وإما زائدةٌ في الخبر على حَسَب القولين في "مَنْ". وفي هذه الآية سبعة أوجه، أحدهما: أنها متعلقة بفعل مقدر بعد الفاء تقديره: فلينكحْ مِمَّا مَلَكَتْه أيمانكم، و"ما" على هذا موصولةٌ بمعنى الذي، أي: النوعَ الذي ملكته، ومفعولُ ذلك الفعل المقدر محذوف تقديره: فلينكح امرأة أو أَمَةً مِمَّا ملكته أيمانكم، فـ"مما" في الحقيقة متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لذلك المفعولِ المحذوفِ، و"مِنْ" للتبعيض نحو: أكلت من الرغيف، و"من فتياتكم" في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في "مَلَكَتْ" العائدِ على "ما" الموصولة، و"المؤمناتِ" صفةٌ لـ"فتياتِكم".
(4/408)
---(1/1688)
الثاني: أن تكونَ "مِنْ" زائدةً و"ما" هي المفعولةُ بذلك الفعل المقدر أي: فلينكح ما ملكَتْه أَيْمانكم. الثالث: أن "مِنْ" في "من فتياتكم" زائدة، و"فتياتِكم" هو مفعولُ ذلك الفعل المقدر أي: فلينكح فتياتِكم، و"مِمَّا ملكت" متعلقٌ بنفسِ الفعل، و"من" لاتبداء الغاية، أو بمحذوفٍ على أنه حال من "فتياتكم" قُدِّمَ عليها، و"مِنْ" للتبعيض. الرابع: أن مفعول "فلينكح" هو المؤمنات أي: فلينكح الفتيات المؤمنات، و"مِمَّا ملكت" على ما تقدم في الوجه قبله، و"من فتياتكم" حالٌ من ذلك العائد المحذوف. الخامس: أنَّ "مما" في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فالمنكوحة مما ملكت. السادس: أن "ما" في "مما" مصدريةٌ أي: فلينكح مِنْ مِلْك أيمانكم، ولا بد أن يكونَ هذا المصدرُ واقعاً موقع المفعول نحو: {هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ} ليَصِحَّ وقوع النكاح عليه. السابع ـ وهو أغربُها ونُقِل عن جماعة منهم ابن جريرـ " أن في الآية تقديماً وتأخيراً وأن التقدير: ومَنْ لم يستطع منكم طوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضُكم من بعض الفتيات، فـ"بعضُكم" فاعل ذلك الفعل المقدر، فعلى هذا يكون قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} معترضاً بين ذلك الفعل المقدر وفاعِله. ومثلُ هذا لا ينبغي أن يقال.
قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وجيء بها بعد قوله {مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ليفيدَ أنَّ الإِيمان الظاهر كافٍ في نكاحِ الأَمَةِ المؤمنةِ ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أَنْ يَعْلَمَ إيمانَها علماً يقيناً، فإنَّ ذلك لا يطَّلِعُ عليه إلا اللهُ تعالى، وفيه تأنيس أيضاً بنكاحِ الإِماء فإنهم كانوا يَنْفِرون من ذلك.
(4/409)
---(1/1689)
قوله: {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} مبتدأٌ وخبر أيضاً، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الإِماء كما تقدم، والمعنى: أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين، فلا يترفَّع الحُرُّ عن نكاح الأمةِ عند الحاجة إليه، وما أحسنَ قولَ أمير المؤمنين علي: "الناسُ من جهة التمثيل أَكْفاء، أبوهم آدم والأم حواء".
قوله: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} متعلق بـ"انكحوهن"، وقَدَّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي بإذنِ أهل ولايتهن، وأهلُ ولايةِ نكاحهنَّ هم المُلاَّك. و"بالمعروف" فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه متعلق بـ"آتوهُنَّ" أي: آتوهن مهورَهنَّ بالمعروف./ الثاني أنه حال من "أجورهن" أي: ملتبساتٍ بالمعروف يعني غيرَ ممطولةٍ. والثالث: أنه متعلق بقوله: "فانكِحوهن" أي: فانكِحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ومَهْرِ مثلهن والإِشهاد عليه، وهذا هو المعروف. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهن، فحذف من الثاني لدلالة الأولِ عليه نحوُ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} أي: الذاكرات اللهَ. وقيل: ثَمَّ مضافٌ مقدر أي: وآتوا مواليَهن أجورَهُنَّ، لأنَّ الأَمَة لا يُسَلَّمُ لها شيءٌ من المهر.
قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} حالان من مفعول "فانكحوهن"، ومحصنات على هذا بمعنى عفائفَ أو مسلمات، والمعنى: فانكحوهن حالَ كونهن محصناتٍ لا حالَ سِفاحِهن واتخاذِهِنَّ للأخْدان. وقد تقدَّم أن "محصنات" بكسرِ الصادِ وفتحِها، ومامعناها، وأنَّ "غيرَ مسافحين" حالٌ مؤكدة.
{وَلاَ مُتَّخِذَاتِ} عطفٌ على الحال قبله. والأخْدان مفعول بـ"متخذات" لأنه اسمُ فاعل، وأخدان جمع "خِدْن"، كـ:عِدل وأَعْدال، الخِدْن: الصاحب، وقد تقدَّم أن المسافح هو المهاجر بالزنى، ومتخذَ الأخدانِ هو المستترُ به، وكذلك هو في النساء، وكان الزنى في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين.
(4/410)
---(1/1690)
قوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: "أُحْصِنَّ" بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول، والباقون بفتحها على البناء للفاعل، فمعنى الأول: "فإذا أُحْصِنَّ بالتزوج" فالمُحْصِنُ لهنّ هو الزوج، ومعنى الثانية: "فإذا أَحْصَنَّ فروجَهن أو أزواجَهن" وهو واضح مما تقدم.
والفاء في "فإنْ" جواب"إذا" وفي "فعليهن" جواب "إنْ"، فالشرطُ الثاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأول، ونظيره: "إن أكلت فإنْ ضربت عمراً فأنت حر" لا يُعْتق حتى يأكلَ أولاً ثم يضربَ عمراً ثانياً، ولو أسقطت الفاء الداخلة على "إن" في مثل هذا التركيب انعكس الحكمُ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثم يأكل ثانياً. وهذا يُعْرف من قواعد النحو، وهو أن الشرط الثاني يُجعل حالاً فيجب التلبُّسُ به أولاً.
قوله: {مِنَ الْعَذَابِ} متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في صلةِ "ما" وهو "على"، فالعاملُ فيها معنوي، وهو في الحقيقةِ ما تعلَّق به هذا الجار، ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً من "ما" المجرورةِ بإضافة "نصف" إليها؛ لأنَّ الحالَ لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها، و"نصفُ" هو العامل في صاحبِها الخفضَ بالإِضافة، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة، إلاَّ أن بعضهم يَرى أنه إذا كان جزاءً من المضافِ جازَ ذلك فيه، والنصفُ جزءٌ فيجوز ذلك.
قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ} "ذلك" مبتدأ، و"لِمَنْ خشي" جارٌّ ومجرور خبرُه، والمشار إليه بـ"ذلك" إلى نكاح الأمة المؤمنة لِمَنْ عَدِم الطَّوْلَ. والعَنَتْ في الأصل انكسارُ العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة، وأُريد به هنا ما يَجُرُّ إليه الزنى من العقاب الدنيوي والأخروي، و"منكم" حالٌ من المضير في "خَشِي" أي: في حالِ كونه منكم. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" للبيان.
(4/411)
---(1/1691)
قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} مبتدأ وخبر لتأوُّلِه بالمصدر وهو كقوله: {وَأَن تَعْفُوااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
}.
* { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ}: في مثلِ هذا التركيبِ للناسِ مذاهبٌ: مذهب البصريين أن معفول "يريد" محذوف تقديره: يريد الله تحريمَ ما حَرَّمَ وتحليلَ ما حَلَّل وتشريعَ ماتقدَّم لأجلِ التبيين لكم، ونَسَبه بعضُهم لسيبويه، فمتعلَّقُ الإِرادة غيرُ التبيين وما عُطِف عليه، وإنما تأولوه بذلك لئلا يلزَم تعدِّيَ الفعلِ إلى مفعولِه المتأخر عنه باللام وهو ممتنعٌ، وإلى إضمارِ "أَنْ" بعد اللام الزائدة.
والمذهب الثاني: ـ ويُعْزى ايضاً لبعض البصريين ـ أَنْ يُقَدَّر الفعلُ الذي قبل اللام بمصدرِ في محل رفع بالابتداء، والجار بعده خبره، فيقدر {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ} إرادةُ الله للتبيين، وقوله:
1575ـ أريدُ لأنْسَى ذِكْرَها........
أي: إرادتي، وقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} أي: أُمِرْنا بما أُمِرْنا [به] لنسلمَ، وفي هذا القولِ تأويلُ الفعل بمصدر من غير حرف مصدر، وهو ضعيف نحو: "تَسْمَعُ بالمُعَيْدَيِّ خيرٌ مِنْ تراه" قالوا: تقديره: "أنّْ تسمعَ" فلمَّا حَذَفَ "أن" رَفَع الفعل، وهو في تأويل المصدر لأجل الحرف المقدر فكذلك هذا، فلامُ الجر على الأول في محل نصب لتلُّقها بـ"يريد" وعلى هذا الثاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً.
الثالث: ـ وهو مذهب الكوفيين ـ أن اللامَ هي الناصبة بنفسها من غير إضمار "أَنْ"، وهي وما بعدها مفعول الإِرادة، ومنع البصريون ذلك؛ لأن اللامَ ثَبَت لها الجر في الأسماء، فلا يجوز أن يُنْصَبَ بها، فالنصب عندهم بإضمار "أن" كما تقدم.
(4/412)
---(1/1692)
الرابع: وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء أن اللامَ زائدة، و"أَنْ" مضمرة بعدها، والتبيينُ مفعولُ الإِرادة. قال الزمخشري: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ} يري داللهُ أن يبيِّن، فزيدت اللامُ مؤكدة لإِرادة التبيين، كما زيدت في "لا أبا لك" لتأكيد إضافة الأب". وهذا ـ كما رأيت ـ خارجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين، وفيه أنَّ "أنْ" تضمر بعد اللامُ للتعليل أو للجحود.
وقال بعضهم: اللامُ هنا لام العاقبة كهي في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}، ولم يَذْكُر مفعولَ التبيين، بل حَذَفه للعلم به، فقدَّره بضعهم: "ليبين لكم ما يقرِّبكم"، وبعضُهم: "أن الصبر عن نكاح الأماء خيرٌ"، وبعضُهم: "ما فَصَّل من الشرائع"، وبعضهم: "أمرَ دينكم" وهي متقاربة.
ويجوز في الآية وجهُ آخرُ حسنٌ: وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من باب الإِعمال: تنازع "يبيِّن" و"يَهْدي" في {سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}؛ لأنَّ كلاً منهما يَطْلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثاني، وحَذَفَ الضميرَ من الأول تقديرُه: ليبيِّنهَا لكم ويهديَكم سنن الذين من قبلكم، والسُّنَّة: الطريقة، ويؤيد هذا أن المفسرين نقلوا أنَّ كل ما بَيَّن لنا تحريمَه وتحليلَه من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكمُ كذلك أيضاً في الأمم السالفة، أو أنه بَيَّن الكم المصالحَ؛ لأنَّ الشرائعَ وإنْ كانت مختلفةً في نفسِها إلا أنها متفقةٌ في المصلحة.
* { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }
(4/413)
---(1/1693)
وزَعم بعضُهم أنَّ في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}: تكريراً لقولِه: {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} المعطوفَ على "ليبين". قال ابن عطية: "وتكرارُ إرادة الله للتوبة على عباده تقويةٌ للإِخبار الأول، وليس القصدُ في الآيةِ إلا الإِخبارَ عن إرادة الذين يتَّبعون الشهوات، فَقُدِّمت إرادةُ اللهِ توطئةً مُظْهِرَةً لفسادِ إرادةِ مُتَّبعي الشهوات". وهنذا الذي قاله إنما يتمشَّى على أنَّ المجرور باللام في قوله "ليبين" مفعول به للإِدارة لا على كونِه علةٍ، وقد تقدَّم أن ذلك قولُ الكوفيين وهو ضعيف وقد ضَعَّفه هو أيضاً. وإذا تقرَّر هذا فنقولُ: لا تكرار في الآية؛ لأنَّ تعلُّقَ الإِرادة بالتوبة في الأولِ على جهة العِلَّيَّة، وفي الثاني على جهةِ المفعولية، فقد اختلف المتعلِّقان.
قوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ} بالرفعِ عطفاً على "والله يريد" عَطَفَ جملةً فعلية على جملة اسمية، ولا يجوز أن يتنصِبَ لفساد المعنى، إذ يصير التقدير: "والله يريدُ أن يتوبَ ويريدُ أن يريدَ الذين". واختار الراغب أن الواوَ للحال تنبيهاً على أنه يريد
التوبةَ عليكم في حال ما يريدون أن تَميلوا، فخالف بين الإِخبارين في تقديمِ المُخْبَرِ عنه في الجملة الأولى وتأخيره في الثانية، ليبين أنَّ الثاني ليس على العَطفِ". وقد رُدَّ عليه بأن إرادةَ التوبةَ ليست مقيدةً بإرادةِ غيرِه الميلَ، وبأن الواوَ باشَرَتِ المضارعَ المثبت. وأتى بالجملةِ الأولى اسميةً دلالةً على الثبوتِ، وبالثانيةِ فعليةً دلالةِ على الحُدوث.
* { يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }
(4/414)
---(1/1694)
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ}: في هذه الجملة احتمالان أحدهما: ـ وهو الأصحُّ ـ أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. والثاني: أنها حالٌ من قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ} العامل فيها "يريد" أي: واللهُ يريدُ أن يتوبَ عليكم يريد أن يخفف عنكم. وفي هذا الإِعرابِ نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنه يؤدِّي إلى الفصل بين الحال وبين عاملها بجملةٍ معطوفة على جملةِ العامل في الحال ضِمْنَ تلك الجملة المعطوف عليها، والجملةُ المعطوفة وهي "يريد الذين يتبعون" جملةٌ أجنبية من الحال وعامِلها. والثاني: أن الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم الظاهرَ فوقعَ الربطُ بالظاهر، لأنَّ "يريد" رفَعَ اسم الله/ وكان من حقه أن يرفع ضميرَه، والربطُ بالظاهر إما وقع في الجملة الواقعة خبراً أو صلة، أما الواقعةُ حالاً وصفةً فلا، إلا أَنْ يَرِدَ به سماع، ويصير هذا الإِعراب نظيرَ: "بكر يخرج يضربُ بكر خالداً". ولم يذكر مفعولَ التخفيف فهو محذوفٌ فقيل: تقديرُه: يخفف عنكم تكليفَ النظرِ وإزالةَ الحيرة. وقيل: إثمَ ما ترتكبون.
قوله: "ضعيفاً" في نصبه أربعة أوجه، الأظهر: أنه حال من "الإِنسان" وهي حالة مؤكدة. الثاني: أنه تمييز قالوا: لأنه يَصْلُح لدخول "مِنْ" وهذا غلط. الثالث: أنه على حذف حرف الجر، والأصل: خُلِق من شيء ضعيف أي: من ماء مهين أو من نطفة، فلما حُذف الموصوف وحرف الجر وَصَل الفعل إليه بنفسه فنصبه. والرابع: ـ وإليه أشار ابن عطية ـ أنه منصوبٌ على أنه مفعول ثان بـ"خلق"، قالوا: ويَصِحُّ أن يكون "خُلِق" بمعنى "جُعِل" فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله "ضعيفاً" مفعولاً ثانياً، وهذا الذي ذكره غريبٌ لم نرهم نصُّوا على أن "خلق" يكون كـ"جعل" فيتعدى لاثنين مع حَصْرهم للأفعال المتعدية لاثنين، بل رأيناهم يقولون: إن "جعل" إذا كانت بمعنى "خلق" تَعَدَّتْ لواحد.
(4/415)
---(1/1695)
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ}: في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: ـ وهو الأصح ـ أنه استثناء منقطع لوجهين، أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها، سواء فَسَّرت الباطل بغير عوض أو بغير طريق شرعي. والثاني: أن المستثنى كون، والكونُ ليس مالاً من الأموالِ. والثاني: أنه متصلٌ، واعتلَّ صاحب هذا القول بأن المعنى: لا تأكلوها بسببٍ إلاَّ أَنْ تكونَ تجارةً. قال أبو البقاء: "وهو ضعيف، لأنه قال: "بالباطل"، والتجارةُ ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذفُ مضاف تقديره: إلا في حال كونِها تجارةً أو في وقت كونِها تجارةً". انتهى. فـ"إن تكون" في محلِّ نصبٍ على الاستثناء وقد تقدَّم لك تحقيقُ ذلك.
وقرأ الكوفيون: "تجارة" نصباً على أنَّ "كان" ناقصة، واسمُها مستتر فيه يعود على الأموالِ، ولا بد من حذف مضاف من "تجارة" تقديره: إلا أن تكونَ الأموال أموالَ تجارة، ويجوز أن يُفَسَّر الضمير بالتجارة بعدها أيَ: أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله:
1576ـ ................... * إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنعا
أي: إذا كان اليومُ يوماً، واختار أبو عبيد قراءة الكوفيين. وقرأ الباقون "تجارةٌ" رفعاً على أنها "كان" التامة. قال مكي: "الأكثرُ في كلام العرب أنَّ قولهم: {إِلاَّ أَن تَكُونَ} في الاستثناء بغيرِ ضمير فيها، على معنى يَحْدُث ويَقَعُ". وقد تقدم القول في ذلك في البقرة.
(4/416)
---(1/1696)
و{عَن تَرَاضٍ} متعلق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"تجارة"، فموضعه رفع أو نصب على حَسَبِ القراءتين. وأصل "تراض" "تراضِوٌ" بالواو، لانه مصدر تراضى تفاعلَ من رَضِي، ورَضِي من ذوات الواو بدليل الرضَّوان، وإنما تطرَّفت الواو بعد كسرة فقلبت ياء فقلت: تراضياً. و"منكم" صفة لـ"تراضٍ" فهو في محل جر، و"من" لابتداء الغاية. وقرأ على رضي الله عنه: "تُقَتِّلوا" بالتشديد على التكثير، والمعنى: لا يقتلْ بعضكم بعضاً.
* { وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ}: "مَنْ" شرطية مبتدأ، والخبر: "فسوف"، والفاء هنا واجبة لعدم صلاحية الجواب للشرط، و"ذلك" إشارةٌ إلى قَتْل الأنفس. و"عدواناً وظلماً" حالان أي: معتدياً ظالماً أو مفعولٌ من أجلِها، وشروطُ النصب متوفرة. وقرىء: "عِدواناً" بكسر العين.
وقرأ الجمهور "نُصْليه" من أصلى والنون للتعظيم. وقرأ الأعمش: "نُصَلِّيه" مشددا"، وقرىء "نَصليه" بفتح النون، من صَلَيْتُه النار. ومنه "شاة مَصْلِيَّة". و"يَصْليه" بياء الغيبة. وفي الفاعلِ احتمالان، أحدُهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير عائد على ما أشير بـ"ذلك" إليه من القتل، لأنه سببٌ في ذلك. ونَكَّر "ناراً" تعظيماً.
* { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }
وقرأ ابن جبير وابن مسعود {كبير}: بالإِفراد، والمراد به الكفر. وقرأ المفضل "يُكَفِّرْ" و"يُدْخِلْكم" بياء الغيبة لله تعالى. وابن عباس "مِنْ سيئاتكم" بزيادة "من".
(4/417)
---(1/1697)
وقرأ نافع وحده هنا وفي الحج: "مَدْخَلاً" بفتح الميم، والباقون بضمها، ولم يختلفوا في ضم التي في الإِسراء., فأما المضمومُ الميمِ فإنه يحتمل وجهين، أحدهما: أنه مصدر، وقد تقرَّر أن اسم المصدر من الرباعي فما فوقَه كاسمِ المفعول، والمَدْخخول فيه على هذا محذوفٌ أي: ويُدْخِلْكم الجنة إدخالاً,. والثاني: أنه اسم مكان الدخول، وفي نصبِه حينئذ احتمالان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على الظرف ، وهو مذهبُ سيبويه. والثاني: أنه مفعولٌ به وهو مذهب الأخفش. وهكذا كلُّ مكان مختص بعد "دخل" فإن فيه هذين المذهبين, وهذه القراءةُ واضحةٌ؛ لأنَّ اسم المصدر والمكان جاريان على فعليهما.
وأمَّا قراءة نافع فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي، والفعلُ السابق لهذا ـ كما ـ رأيت ـ رباعي، فقيل: إنه منصوب بفعلٍ مقدر مطاوع لهذا الفعل، والتقدير: يُدْخلكم فتدخلون مَدْخلاً، و"مَدْخلاً" منصوب على ما تقدم: إمَّا المصدريةِ وإمَّا المكانيةِ بوجهيها. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} على أحد القولين.
* { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }
و{ما} في قوله تعالى: {مَا فَضَّلَ اللَّهُ}: موصولةٌ أو نكرة موصوفة، والعائدُ الهاءُ في "به". و"بعضَكم" مفعول بـ"فَضَّل" و"على بعض" متعلق به.
(4/418)
---(1/1698)
قوله: {وَاسْأَلُواْ}: الجمهورُ على إثباتِ الهمزة في الأمر من السؤال الموجَّه نحو المخاطب إذا تقدَّمه واو أو فاء نحو: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ} {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}. وابن كثير والكسائي بنَقْل حركةِ الهمزة إلى السين تخفيفاً لكثيرةِ استعماله. فإنْ لم تتقدَّمه واو ولا فاء فالكل على النقل نحو: {سَلْ بَنِيا إِسْرَائِيلَ}، وإن كان لغائب فالكل على الهمز نحو: {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ}. وهم ابن عطية فنقل اتاقَ القراء على الهمز في نحو: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} وليس اتفاقهم في هذا بل في {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} كما تقدم. وتخفيفُ الهمز لغة الحجاز، ويحتمل أن يكون ذك من لغةِ مَنْ يقول: "سال يسال" بألفٍ محضة، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عد "سَلْ بني إسرائيل" فعليك بالالتفات إليه، وهذا إنما يتأتَّى في "سل" و"فسل" وأما "وسَلوا" فلا يتأتَّى فيه ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن يُقال: سالوا كخَافوا، وقد يقال: إنه التزَم الحذفَ لكثرةِ الدَّوْر.
وهو يتعدَّى لاثنين، والجلالةَ مفعول أول، وفي الثاني قولان، أحدهما: أنه محذوف فقدَّره ابن عطية: "أمانيَّكم"، وقدره غيره: شيئاً من فضله، فحذف الموصوف وأبقى صفته نحو: "أطعمته من اللحم" أي: شيئاً منه، و"مِنْ" تبعيضية. والثاني: أن "مِنْ" زائدة، والتقدير: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش لفقدانِ الشرطين، وهما تنكرُ المجرور وكونُ الكلام غيرَ موجَبٍ.
* { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }
(4/419)
---(1/1699)
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا}: فيه ستة أوجه، وذلك يستدعي مقدمة قبله، وهو أن "كل" لا بُدَّ لها من شيءٍ تُضاف إليه. واختلفوا في تقديره: قيل: تقديرُه: ولكلِّ إنسانٍ"، وقيل: لكل مال، وقيل: لكل قوم، فإنْ كان التقدير: "لكلِّ إنسان" ففيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: "ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا مواليَ" أي: وُرَّاثاً مِمَّا ترك، في "ترك" ضمير عائد على "كل" وهنا تم الكلام، ويتعلق "مِمَّا ترك" بـ"مواليَ" لِما فيه من معنى الوراثة، أو بفعل مقدَّرٍ أي: يَرِثون مما. "مواليَ" مفعول أول لـ"جعل" بمعنى صَيَّر، و"لكل" جارٌ ومجرور هو المفعول الثاني قُدِّم على عامِلِه، ويرتفع "الولدان" على خبر مبتدأ محذوف، أو بفعل مقدر أي: يَرِثون مما، كأنه قيل: ومَنْ الوارث؟ فقيل: هم الولدان والأقربون، والأصل: "وجعلنا لكلِّ ميتٍ وُرَّاثاً يَرِثون ممَّا تركه هم الواالدان والأقربون.
والثاني: أنَّ التقديرَ: "ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جَعَلنا وُرَّاثاً مما ترك ذكل الإِنسان" ثم بَيَّن الإِنسانَ المضافَ إليه "كل" بقوله: الولدان، كأنه قيل: ومَنْ هو هذا الإِنسانُ الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. والإِعرابُ كما تقدَّم في الوجهِ قبله. وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون، وفي الثاني مَوْروثون، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان، ولا ضمير محذوف في "جعلنا"، و"موالي" مفعول أول، و"لكل" مفعول ثان.
الثالث: أن يكون التقدير: ولكل إنسان وارثٍ مِمَّنْ تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي: موروثين، فيُراد بالمَوْلى الموروثُ، ويرتفع "الوالدان" بـ"ترك"، وتكون "ما" بمعنى "مَن"، والجار والمجرور صفةٌ للمضافِ إليه "كل"، والكلامُ على هذا جملةٌ واجدة، وفي هذا بُعْدٌ كبير.
(4/420)
---(1/1700)
الرابع: وإنْ كان التقدير: "ولكل قوم" فالمعنى: ولكل قوم جعلناهم مواليَ نصيبٌ مِمَّا تركه والدُهم وأقربوهم، فـ"لكل" خبر مقدم، و"نصيب" مبتدأٌ مؤخر، و"جَعَلْناهم" صفةٌ لقوم، والضمير العائد عليهم مفعلوٌ "جَعَل" و"مواليَ": إمَّا ثانٍ وإمَّا حالٌ، على أنها بمعنى "خلقنا، و"مِمَّا ترك" صفة للمبتدأ، ثم حُذِف المبتدأ وبقيت صفتُه، وحُذِف المضاف إليه "كل" وبقيت صفتُه أيضاً، وحُذِف العائد على الموصوفِ. ونظيرُه: "لكلِّ خلقه الله إنساناً مِنْ رزق الله" أي: لكل أحد خلقه الله إنساناً نصيبٌ من رزق الله.
الخامس: وإنْ كان التقدير: "ولكلِّ مال" فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الولدان والأقربون جعلنا مواليَ أي: وُرَّاثاً يَلُونه ويَحُوزونه، وجعلوا "لكل" متعلقةً بـ"جعل"، و"مما ترك" صفة لـ"كل"، الوالدان فاعلٌ بـ"ترك" فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإن كان حسناً إلا أن فيه الفصلَ بين الصفة والموصوف بجملةٍ عاملةٍ في الموصوف. قال الشيخ: "وهو نظير قولك: "بكلِّ رجلٍ مررت بتميميٍ" وفي جواز ذلك نظر". قلت: و لايحتاج إلى نظر؛ لأنه قد وُجد الفصلُ بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} فـ"فاطر" صفةٌ لـ"الله، وقد فُصِل بينهمام بـ"أتَّخِذُ" العامل في "غير" فهذا أولى.
السادس: أَنْ يكونَ "لكلِّ مال" مفعولاً ثانياً لـ"جعل" على أنها تصييرية، و"مواليَ" مفعول أول، والإِعراب على ما تقدم. وهذا نهايةُ ما قيل في هذه الآية فلله الحمد.
(4/421)
---(1/1701)
قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} في مَحَلِّه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ والخبر قوله: "فآتوهم". الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل، وهذا أرجحُ من حيث إنَّ بعده طَلَباً. والثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على "الولدان والأقربون" فإنْ أريد بالوالدين أنهم موروثون عادَ الضميرُ مِنْ "فآتوهم" على "موالي"، وإنْ أُريد أنهم وارثون جازَ عَوْدُه على "مواليَ" وعلى الوالدين وما عُطف عليهم. الرابع: أنه منصوبٌ عطفاً على "مواليَ"، قال أبو البقاء: "أي وَجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ وُرَّاثاً، وكان ذل ونُسِخ"، ورَدَّ عليه الشيخ بفساد العطفِ، قال: "إذ يصير التقدير: ولكلِّ إنسان، أو لكل شيءٍ من المالِ جَعَلْنا وُرَّاثاً والذي عاقَدَتْ أَيْمانكم" ثم قال: "فإنْ جُعِل من عطفِ الجمل وحًُذِفَ المفعولُ الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي: جَعَلْنا وُرَّاثاً لكلِّ شيء من المالِ، أو لكلِّ إنسانٍ، وجَعَلْنا الذي عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً، وفيه بعد ذلك تكلفٌ". انتهى.
وقرأ الكوفيون: "عَقَدَتْ" والباقون: "عاقَدَتْ" بألف، ورُويَ عن حمزة التشديد في "عَقَّدت". والمفاعلة هنا ظاهرة لأن المراد المحالفةُ. والمفعولُ محذوفٌ على كلٍّ من القر اءات، أي: عاقَدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ونسبةُ المعاقدةِ أو العقدِ إلى الأيمان مجازٌ، سواءً أُريد بالأيمان الجارحةُ أم القَسَم. وقيل: ثَمَّ مضاف محذوف أي: عقدت ذوو أيمانكم.
* { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }
(4/422)
---(1/1702)
وقوله تعالى: {عَلَى النِّسَآءِ}: متعلِّقٌ بـ"قَوَّامون" وكذا "بما"، والباء سببية، ويجوز أن تكونَ للحال، فتتعلَّق بمحذوف؛ لأ،ها حال من الضمير في "قَوَّامون" تقديرُه: مستحقين بتفضيل الله إياهم. و"ما" مصدريةٌ وقيل: بمعنى الذي. وهو ضعيفٌ لحَذْفِ العائد من غير مُسَوَّغ. والبعضُ الأولُ المرادُ به الرجال والبعضُ الثاني النساء، وعَدلأ عن الضميرين فلم يَقُلْ: بما فَضَّلهم الله عليهنَّ للإِبهام الذي في "بعض". و"بما أنفقوا" متعلقٌ بما تعلَّق به الأولُ. و"ما" يجوز هنا أن تكونَ بمعنى الذي من غيرِ ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوغاً أي: وبما أنفقوه مِنْ أموالِهم.
و{مِنْ أَمْوَالِهِمْ} متعلقٌ بـ"أَنْفَقوا"؛ أو بمحذوف على أنه حال من الضمير المحذوف. قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} "الصالحات": مبتدأ وما بعنده خبران له. و"للغيب" متعلق بـ"حافظات". وأل في "الغيب" عوضٌ من الضمير عند الكوفيين كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أي: رأسي وقوله:
1577ـ لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ * وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
أي: لِثاتِها:
والجمهورُ على رفع الجلالة من "حَفِظ اللهُ". وفي "ما" على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنهال مصدريةٌ والمعنى: بحِفْظِ الله إياهن أي: بتوفيقِه لهن أو بالوصية منه تعالى عليهن. والثاني: أن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بالذي حفظه الله لهنَّ مِنْ مهورِ أزوجِهِنَّ والنفقة عليهن قاله الزجاج. والثالثُ: أن تكونَ "ما" نكرة موصوفةً، والعائد محذوف أيضاً كما تقرر في الموصولة بمعنى الذي.
(4/423)
---(1/1703)
وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة، وفي "ما" ثلاثةُ أوجهً أيضاً، أحدُهما: أنها بمعنى الذي، والثاني: نكرة موصوفة، وفي "حَفِظ" ضميرٌ يعود على "ما" أي: بما حَفِظ من البر والطاعة. ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه: بما حفظ دينَ الله أو أَمْرَ الله، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد. والثالث: أن تكونَ "ما" مصدريةً، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس، كأنه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مفرداً بهذا الاعتبار، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا جوابه. وجعله ابن جني مثلَ قوله الشاعر:
1578ـ .................. * فإنَّ الحوادِثَ أودى بها
أي: أَوْدَيْنَ، وينبغي أن يقال: الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ، والحوادث أَوْدَت؛ لأنها يجوز أن يعود الضمير على جميع الإِناث كعوده على الواحدة منهن، تقول: "النساءُ قامت"، إلا أنَّه شَذَّ حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث.
(4/424)
---(1/1704)
وقرأ عبدالله ـ وهي في مصحفه كذلك ـ "فالصوالحُ قوانتٌ حوافظٌ" بالتكسير. قال ابن جني: "وهي أشبهُ بالمعنى لإِعطائها الكثرةَ، وهي المقصودةُ هنا"، يعني أنَّ فواعل من جموع الكثرة، وجمعُ التصحيحِ جمعُ قلة ما لم يَقْتَرِنْ بالألفِ واللام. وظاهرُ عبارة أبي البقاء أنه للقلة وإن اقترن بـ"أل" فإنه قال:"وجَمْعُ التصحيح لا يَدُلُّ على الكثرة بوضعه، وقد استُعْمل فيها كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}. وفيما قاله أبو الفتح وأبو البقاء نظرٌ، فإنَّ "الصالحات" في القراءة المشهورة معرفةٌ بأل، وقد تقدَّم أنه تكومنُ للعموم، إلا أنَّ العمومَ المفيدَ للكثرةِ ليس مِنْ صيغةِ الجمع، بل من "أل"، وإذا ثبت أن الصالحات جمعُ كثرة لزم أن يكون "قانتات" و"حافظات" للكثرة لأنه خبرٌ عن الجميع، فيفيدُ الكثرة، ألا ترى أنك إذا قلت: "الرجال قائمون" لَزِم أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الرجال قائماً، ولا يجوز أن يكون بعضهم قاعداً، فإذاً القراءة الشهيرة وافية بالعنى المقصود.
(4/425)
---(1/1705)
قوله: {فِي الْمَضَاجِعِ} فيه وجهان، أحدهما: أن "في" على بابها من الظرفية متعلقة بـ"اهجروهن" أي: اتركوا مضاجعتهن أي: النومَ معهن دونَ كلامِهن ومؤاكلتهن. والثاني: أنها للسبب قال أبو البقاء: "واهجروهُنَّ بسبب المضاجع كما تقول: "في هذه الجنايةِ عقوبةٌ" وجَعَل مكي هذا الوجه متعيناً، ومنع الأول، قال: "ليس "في المضاجع" ظرفاً للهجران، وإنما هو سبب لهجران التخلف، ومعناه: فاهجروهن من أجلِ تخلُّفِهِنَّ عن المضاجعة معكم". وفيه نظرٌ لا يَخْفى, وكلاُ الواحدي يُفْهِم أَنه يجوز تعلُقه بـ"نشوزهن" فإنه قال ـ بعدما حكى عن ابن عباس كلاماً ـ: والمعنى على هذا: واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع"، والكلامُ الذي حكاه عن ابن عباس هو قوله: "هذاكلُّه في المضجع إذا هي عَصَتْ أن تضطجع معه:" ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي. وقَدَّر بعضُهم معطوفاً بعد قوله: "واللاتي تخافون" أي: واللاتي تخافون نشوزهن ونَشَزْنَ، كأنه يريد أن لا يجوز الإِقدامُ على الوعظ وما بعده بمجردِ الخوفِ. وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأن الخوفَ بمعنى اليقين، وقيل: غلبةُ الظنِّ في ذلك كافية/.
قوله: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} في نصب "سبيلا" وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، والثاني: أنه على إسقاط الخافض، وهذان الوجهان مبنيان على تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل: هو الظلم من قوله: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، فعلى هذا يكون لازماً، و"سبيلاً" منصوبٌ بإسقاط الخافض أي: بسبيل. وقيل: هو الطلب من قولهم: بَغَيْتُه أي طلبته. وفي "عليهن" وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ"تبغوا". والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "سبيلاً" لأنه في الأصل صفةُ النكرة قُدِّم عليها.
(4/426)
---(1/1706)
* { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }
قوله تعالى: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}: فيه وجهان، أحدهما: أن الشقاق مضاف إلى "بين" ومعناها الظرفية، والأصل: "شقاقاً بينهما" ولكنه اتُّسِعَ فيه فَأُضيف الحدث إلى ظرفه، وظرفيتهُ باقيةٌ نحو: سَرَّني مسير الليلة، ومنه {مَكْرُ الْلَّيْلِ}. والثاني: أنه خرج عن الظرفية، وبقي كسائر الأسماء كأنه أريد به المعاشرةُ والمصحابة بين الزوجين، وإلى هذا مَيْلُ أبي البقاء قال: "والبَيْنُ هنا الوصلُ الكائنُ بين الزوجين".
و{مِّنْ أَهْلِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"ابعثوا" فهي لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ للنكرةِ أي: كائناً من أهلِه فهي للتبعيضِ.
قوله: {إِن يُرِيدَآ} الضميران في "يُريدا" و"بينهما" يجوز أن يعودا على الزوجين أي: إنْ يُرِدِ الزوجان إصلاحاً يُوَفِّق الله بين الزوجين، وأَنْ يعودا على الحكمين، وأَنْ يعودَ الأول على الحكمين، والثاني على الزوجين، وأن يكونَ بالعكس، وأُضْمِر الزوجان وإن لم يَجْرش لهما ذِكْرٌ لدلالة ذِكْرِ الرجال والنساء عليهما. وجَعَل أبو البقاء الضمير في "بينهما" عائداً على الزوجين فقط، سواءً قيل بأن ضمير "يريدا" عائد على الحكمين أو الزوجين.
* { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }
(4/427)
---(1/1707)
قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}: تقدَّم نظيرتهنا في البقرة، إلا أنَّ هنا قال: {وَبِذِي الْقُرْبَى} بإعادة الباء، وذلك لأنها ف يحَقِّ هذه الأمةِ بالاعتناءُ بها أكثرُ، وإعادةُ الباءِ يَدُلُّ على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا بخلافِ آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل. وقرأ ابن أبي عبلة "إحسانٌ" بالرفع، على أنه مبتدأ وخبرُه الجار قبله، والمرادُ بهذه الجملةِ الأمرُ بالإِحسان وإن كانت خبريةً كقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
(4/428)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 5 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
}. قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الجمهورُ على خفضِ "الجار" والمراد به القريبُ النسب، وبالجارِ الجَنْبِ البعيدُ النسب. وعن ميمون بن مهران: "والجارِ ذي القربى أريد به الجار القريب" قال ابن عطية: "وهذا خطأٌ لأنه على تأويله جمع بين "ال" والإِضافة، إذ كان وجه الكلام "وجارِ ذي القربى". ويمكنُ تصحيحُ كلام ابن مهران على أن "ذي القربى" بدلٌ من "الجار" على حذف مضاف أي: والجار جارِ ذي القربى كقوله:
1579ـ نَضَر اللهُ أعظماً دفنوها * بسجستانَ طلحةِ الطَّلَحاتِ
أي: أعظمَ طلحة، ومِنْ كلامهم: "لو يعلمون: العلمُ الكبيرةِ سنةٌ" أي: علم الكبيرة سنة، فحَذَف البدلَ لدلالةِ الكلام عليه.
وقرأ بعضُهم: "والجارَ ذا القربى" نصباً. وخَرَّجه الزمخشري على الاختصاص كقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى(1/1708)
}. والجُنُب صفةٌ على فُعُل نحو: ناقة سُرُح، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً ومؤنثاً نحو: رجال جُنُب، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً}، وبعضُهم يُثَنِّه ويجمعه، ومثله: شُلُل. وعن عاصم: "والجار الجَنْب" بفتح الجيم وسكون النون، وهو وصفٌ أيضاً بمعنى المجانب كقولهم: رجلٌ عَدْل وألفُ الجار عن وواو لقولهم: تجاوروا وجاوَرْتُه، ويُجمع على جِيرة وجيران. والجَنابة: البُعْد. قال:
1580ـ فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابةٍ * فإني أمرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
لأنَّ الإِنسان يُتْركُ جانباً، ومنه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
(5/1)
---
}. قوله: {بِالجَنْبِ} يجوز في الباء وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى "في". والثاني: أن تكونَ على بابها وهو الأولى، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بمحذوف لأنها حال من الصاحب. و{وَمَا مَلَكَتْ} يجوز أن يريد غيرَ العبيد والإِماء بـ"ما"، حَمْلاً على الأنواع كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} وأن يكونَ أُريدَ جميعُ ما ملكه الإِنسان من الحيواناتِ فاختلط العاقل بغيره فأتى بـ"ما".
* { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }(1/1709)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}: فيه سبعُ أوجه، أحدها: أن يكون مصوباً بدلاً من "مَنْ" وجُمع حَمْلاً على المعنى. الثاني: أنه نصب على البدل من "مختالاً" وجُمع أيضاً لما تقدم. الثالث: أنه منصوب على الذم. الرابع: أنه مبتدأ وفي خبره قولان، أحدهما: أنه محذوف، فقدَّره بعضهم: "مُبْغَضُون لدلالة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ}، وبعضهم: "معذبون" لقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً}، وقَدَّره الزمخشري: "أَحِقَّاء بكل مَلامة"، وقَدَّره أبو البقاء: "أولئك قرناؤهم الشيطان". والثاني: أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ} ويكون قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ} عطفاً على المبتدأ والعائد محذوف، والتقدير: الذين يبلخون، والذين يُنْفقون أموالَهم رئاءَ الناس، إن الله لا يظلمهم مثقال ذرة، أو مثقال ذرة لهم، وإليه ذهب الزجاج، وهذا متكلفٌ جداً لكثرةِ الفواصل، ولقلق المعنى أيضاً. الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. السادس: أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في "فخوراً"، ذكره أبو البقاء، وهو قلقٌ. السابع: أنه صفةٌ لـ"مَنْ"، كأنه قيل: لا يُحِبُّ المختال الفخورَ البخيلَ.
(5/2)
---
و"بالبخل" فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق بـ"يأمرون" فالباءُ للتعدية على حَدِّ: أمرتك بكذا. والثاني: أنها باء الحالية، والمأمور محذوف، والتقدير: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون في المعنى كقول الشاعر:
1581ـ أجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضاعَ الحَزُْ بينهما * تِيْهَ الملوكِ وأفعالَ المماليكِ
والمُخْتال: التيَّاه الجَهُول، والمُخْتال اسمُ فاعل من اختال يختال أي: تكبَّر وأُعجب بنفسه، وألفه عن ياءٍ لقولِهم: الخُيَلاء والمَخْيِلة، سُمِع أيضاً: خَالَ الرجلُ يَخال خَوْلاً بالمعنى الأول، فيكون لهذا المعنى مادتان: خَيَل وخَوَل. والفخر: عَدُّ مناقبِ الإِنسان ومحاسنِه، وفخور صيغة مبالغة.(1/1710)
وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي، ويضمهما، وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر، وبفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتادة وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ جمهور الناس. والبُّخْل والبَخَل كالحُزْن والحَزَن والعُرْب والعَرَب. و{مِن فَضْلِهِ} يجوز أن يتعلَّق بـ"آتاهم" أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "ما" أو مِنَ العائدِ عليها.
* { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً }
قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ}: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعاً عطفاً على "الذين يبخلون" والخبر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ}، وقد تقدم ذلك وضَعْفُه. الثاني: أنه مجرور عطفاً على "الكافرين" أي: أعتدنا للكافرين وللذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس، قاله ابن جرير. الثالث: أنه مبتدأُ وخبرهُ محذوف أي: مُعَذَّبون، أو: قرينهم الشيطان، فعلى الأوَّلين يكونُ من عطفِ المفردات، وعلى الثالث مِنْ عطفِ الجمل.
(5/3)
---
قوله: {رِئَآءَ النَّاسِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروطُ النصب متوفرة. والثاني: أنه حالٌ من فاعل "ينفقون" يعني مصدراً واقعاً موقعَ الحال أي: مُرائين. والثالث: أنه حالٌ من نفسِ الموصولِ ذكره المهدوي. و"رئاءَ" مصدرٌ مضاف إلى المفعول.(1/1711)
قوله: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستأنف. الثاني: أنه عطف على الصلة، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ له من الإعراب. والثالث: أنه حالٌ من فاعل "ينفقون". إلا أن هذين الوجهين الأخيرين ـ أعني العطفَ على الصلة والحالية ـ يمتنعان على الوجه المحكي عن المهدوي، وهو كونُ "رئاءَ" حالاً من نفس الموصول؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين أبعاضِ الصلة أو بين الصلةِ ومعمولِها بأجنبي وهو "رثاءَ"؛ لأنه حالٌ من الموصولِ لا تعلُّقَ له بالصلة، بخلاف ما إذا جَعَلْناه مفعولاً له أو حالاً من فاعل "ينفقون" فإنه على الوجهين معمولٌ لـ"ينفقون" فليس أجنبياً، فلم يُبالَ بالفصل به.
وفي جَعْلِ {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حالاً نظرٌ من حيث/ إنَّ بعضَهم نصَّ على أن المضارع المنفيَّ بـ"لا" كالمثبت في أنهلا تدخل عليه واو الحال، وهو محلُّ تَوَقُّف. وكررت "لا" في قوله: "ولا باليوم" وكذا الباء إشعاراً بأن الإِيمان منتفٍ عن كلِّ على حِدَتِه لو قلت: "لا أضرب زيداً وعمراً" أحتمل نفيَ الضرب عن المجموع، ولا يلزم منه نفيُ الضربِ عن كلِّ واحدٍ على انفراده، واحتمل نفيَه عن كل واحد بانفرادِه، فإذا قلت: "ولا عمراً" تعيَّن هذا الثاني.
(5/4)
---(1/1712)
قوله: {فَسَآءَ قِرِيناً} في "ساء" هذه احتمالان أحدهما: أنها نُقِلَتْ إلى الذمِّ فجرت مَجْرى "بئس"، ففيها ضميرٌ فاعل لها مفسَّرٌ بالنكرة بعده، وهي "قريناً"، والمخصوصُ بالذم محذوف أي: فساء قريناً هو، وهو عائدٌ: إما على الشيطان وهو الظاهر، وإما على "من" وقد تقدَّم حكمُ نعم وبئس. والثاني: أنها على بابها فهي متعدية ومفعولُها محذوفٌ، و"قريناً" على هذا منصوبٌ عل الحال أو على القطع، والتقديرُ: فساءَه أي: فساءَ الشيطانُ مُصَاحِبَه. واحتجوا للوجه الأول، بأنه كان ينبغي أن يَحْذِف الفاءَ من "فساء" أو تقترن به "قد"؛ لأنه حينئذ فعل متصرفٌ ماض، وما كان كذلك ووقع جواباً للشرط تجرَّدَ من الفاءِ أو اقترن بـ"قد"، هذا معنى كلام الشيخ. وفيه نظرٌ لقولِه تعالى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} فما يُؤَوَّلُ به هذا ونحوُه يتأوَّل به هذا. ومِمَّنْ ذهب إلى أنَّ "قريناً" منصوبٌ عل الحالِ ابنُ عطية، ولكن يحتمل أن يكونَ قائلاً بأنَّ "ساء" متعديةٌ، وأن يكونَ قائلاً برأي الكوفيين، فإنهنم ينصبون ما بعد نعم وبئس على الحال.
والقرينُ: المصاحِبُ الملازمُ، وهو فَعِيل بمعنى مُفاعل كالخليط والجليس. والقَرْنُ: الحبل، لأنه يُقْرن به بين البعيرين قال:
1582ـ وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ * ..................
* { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً }
(5/5)
---(1/1713)
قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ}: قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهذا يَحْتَمِل أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ هنا أي: وأيُّ شيء عليهم في الإِيمان بالله، أو: وماذا عليهم من الوبالِ والعذابِ يومَ القيامة، ثم استأنَفَ بقولِه: {لَوْ آمَنُواْ} ويكونُ جوابُها محذوفاً أي: لحصلت لهم السعادةُ. ويُحْتمل أن يكونَ تمامُ الكلام بـ"لو" وما بعدها، وذلك على جَعْلِ "لو" مصدريةً عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك أي: وماذا عليهم في الإِيمان، ولا جوابَ لها حينئذٍ. وأجازَ ابنُ عطية أن يكون {َمَاذَا عَلَيْهِمْ} جواباً لـ"لو" فإنْ أرادَ مِنْ جهةِ المعنى فَمُسَلَّم، وإن أراد من جهةِ الصناعةِ ففسادٌ؛ لأنَّ الجوابَ الصناعيَّ لا يتقدم عند البصريين، وأيضاً فالاستفهامُ لا يُجابُ به "لو". وأجاز أبو البقاء في"لو" أن تكونَ بمعنى "إنْ" الشرطية كما جاء في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي: وأيُّ شيءٍ عليهم إنْ آمنوا، ولا حاجةَ إلى ذلك.
* { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }
قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي: لا يَظْلم أحداً ظلماً وزنَ ذرة، فحذف المفعول والمصدر وأقام نعتَه مُقامه. ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً قال: "تقديرُه: ظلماً قَدْرَ مثقالِ ذرة، فَحَذَفَ المصدرَ وصفته، وأقام المضافَ إليه مُقامهما". ولا حاجة إلى ذلك لأنَّ المثقالَ نفسَه هو قَدْر من الأقدار، جُعِل معياراً لهذا القَدْر المخصوصِ. والثاني: أنه منصوب على أنه مفعول ثان لـ"يَظْلم" والأول محذوف، كأنهم ضَمَّنوا "بظلم" معنى "بغضب" و"بنقص" فَعَدَّوه لاثنين، والأصل: إنَّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة.
(5/6)
---(1/1714)
قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذه قاعدة كلية، وهو أنه يجوز حذفُ نون "يكون" مجزومةً، بشرطِ ألاَّ يليَها ضميرٌ متصل نحو: "لَم يَكُنْه" وألاَّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} خلافاً ليونس، فإنه أجاز ذلك مستدلاً بقوله:
1583ـ فإنْ لم تَكُ المِرْآُ أَبْدَتْ وَسامةً * فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرورةٌ، وإنما حُذفت النون لغُنَّتِها وسكونها فأشبهت الواو، وهذا بخلاف سائر الأفعال نحو: "لم يَضِنَّ" و"لم يَهُنْ" لكثرة استعمال "كان"، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حَذْفِ هذه النون؛ لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين وقد زال ثانيهما وهو النونُ إلا أنها كالملفوظ بها.
وقرأ الجمهور "حسنةً" نصباً على خبر "كان" الناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على "مثقال" وإنما أَنَّث ضميرَه حملاً على المعنى؛ لأنه بمعنى: وإنْ تكن زنةَ ذرة حسنة، أو لإِضافته إلى مؤنث فاكتسب منه التأنيث. وقرأ ابن كثير ونافع "حسنة" رفعاً على أنها التامة أي: وإنْ تقع أو توجد حسنة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: "يُضَعِّفْها" بالتضعيف، والباقون "يضاعفها". قال أبو عبيدة: "ضاعفه" يقتضي مراراً كثيرة، و"ضَعَّفَ" يقتضي مرتين، وهذا عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية على التكثير، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد. وقال الفارسي: "هما لغتان بمعنًى، يدل عليه قولُه {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وقد تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا. وقرأ ابن هرمز: "نضاعِفْها" بالنون، وقرىء "يُضْعِفْها" بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم.
(5/7)
---(1/1715)
قوله: {مِن لَّدُنْهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ"يُؤْتِ" و"من" للابتداء مجازاً. والثاني: يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من "أجراً" فإنه صفةُ نكرةٍ ف يالأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً.
* { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلااءِ شَهِيداً }
قوله تعالى: {فَكَيْفَ}: فيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف أي: فكيف حالُهم أو صنعُهم؟ والعامل في "إذا" هو هذا المقدر. والثاني: أنها في محلِّ نصب بفعل محذوف أي: فيكف تكونون أو تَصْنَعون؟ ويَجْري فيها الوجهان: النصب على التشبيه بالحالِ كما هو مذهبُ سيبويه، أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب الأخفش، وهو العاملُ في "إذا" أيضاً. الثالث: حكاه ابن عطية عن مكي ـ أنها معمولةٌ لـ"جئنا"، وهذا غلط فاحش.
قوله: {مِن كُلِّ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ"جئنا". والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "شهيد"، وذلك على رأي مَنْ يجوُّزُ تقديمَ حالِ المجرور بالحرف عليه، وقد تقدم تحريره. والمشهودُ عليه محذوفٌ أي: بشهيد على أمته/.
والمِثْقال: مِفْعَال من الثِّقَل وهو زِنَةُ كل شيء، والذَّرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: رأسُها، وقيل: الخَرْدَلة، وقيل: جزء الهَباءَة، وعن ابن عباس: أنه أَدْخَلَ يده في التراب ثم نَفَخَها وقال: "كلُّ واحدةٍ منه ذرةٌ" والأولُ هو المشهور؛ لأن النملة يُضْرَبُ بها المثل في القلة، وأصغرُ ما تكون إذا مَرَّ عليها حَوْلٌ، قالوا لأنها حينئذ تَصْغُر جداً، قال حسان:
1584ـ لو يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْرِ * عليها لأنْدَبَتْها الكُلُومُ
وقال امرؤ القيس:
1585ـ مِن القاصِراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ * من الذَرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
(5/8)
---(1/1716)
قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها في محل جر عطفاً على "جئنا" الأولى أي: فكيف تصنعون في وقت المجيئين؟. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، و"قد" مرادةٌ معها، والعامل فيها "جئنا" الأولى أي: جئنا من كل أمة بشهيد وقد جئنا، وفيه نظر. والثالث: أنها مستأنفة فلا محل لها. قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويكون الماضي بمعنى المستقبل". انتهى. وإنما احتاج إلى ذلك لأنَّ المجيءَ بعدُ لم يقع، فادَّعى ذلك، والله أعلم. و{عَلَى هَاؤُلااءِ} متعلق بـ"شهيداً" و"على" على بابها وقيل: هي بمعنى اللام وفيه بُعْدٌ، وأجيز أن تكون "على" متعلقةً بمحذوف على أنها حالٌ من "شهيدا"، وفيه بُعْدٌ، و"شهيداً" حالٌ من الكاف في "بك".
* { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ}: فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه معمول لـ"يود" أي: يَوَدُّ الذين كفروا يوم إذ جئنا. والثاني: أنه معمولٌ لـ"شهيداً" قاله أبو البقاء، قال "وعلى هذا يكون "يود" صفةً لـ"يوم"، والعائد محذوف تقديره: فيه، وقد ذكر ذلك في قوله {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي} وفيما قاله نظرٌ لا يَخْفى.
والثالث: أن "يوم" مبني لإضافته إلى "إذ" قاله الحوفي، قال : لأنَّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤُه معه. و"إذ" هنا أسمٌ؛ لأنَّ الظروفَ إذا أُضيف إليها خَرَجَتْ إلى معنى الاسمية من أجل تخصيصِ الماضف إليها كما تُخَصَّصُ الأسماءُ، مع استحقاقِها الجر، والجرُّ ليس من علامات الظروف".
(5/9)
---(1/1717)
والتنوينُ في "إذ" تنوينُ عوضٍ على الصحيح، فقيل: عوض من الجملة الأولى في قوله {جِئْنَا مِن كُلِّ} أي: يومَ إذْ جِئْنا من كل أمة بشهيد، وجِئْنا بك على هؤلاء شهيداً، والرسلُ على هذا اسم جنس. وقيل: عوضٌ من الجملةِ الأخيرة، وهي "وجِئْنا بك"، ويكون المراد بالرسول محمداً صلى الله عليه وسلم. وكان النظم "وعَصَوْك" ولكنْ أُبْرِزَ ظاهراً بصفةِ الرسالةِ تنويهاً بقَدْرِهِ وشَرَفِه.
وفي قوله: {وَعَصَوُاْ} ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها جملة معطوفة على "كفروا" فتكونُ صلةً، فيكونون جامعين بين كفرٍ ومعصية. وقيل: بل هي صلةٌ لموصول آخر فيكونون طائتفين. وقيل: هي في محل نصب على الحال من "كفروا" و"قد" مرادةٌ أي: وقد عصوا. وقرأ يحيى وأبو السمَّال: "وعَصَوا الرسول" بكسر الواو على الأصل.
قوله: {لَوْ تُسَوَّى} إنْ قي: إنَّ "لو" على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول "يود" محذوف أي: يود الذين كفروا تسويةَ الأرض "بهم"، ويدلُّ عليه: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} وجوابها حينئذ محذوف أي: لَسُرَّوا بذلك. وإنْ قيل: إنها مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول "يود" ولا جوابَ لها حينئذٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} قال أبو البقاء. "وعَصَو الرسول" في موضع الحال، و"قد" مرادةٌ، وهي معترضةٌ بين "يود" وبين مفعولِها وهو "لو تُسَوَّى"، و"لو" بمعنى "أَنْ" المصدرية". انتهى. وفي جَعْلِه الجملةَ الحاليةَ معترضةً بين المفعولِ وعاملِه نَظَرٌ لا يَخْفَى، لأنها مِنْ جملةِ متعلقات العامل الذي هو صلةٌ للموصولِ، وهذا نظير ما لو قلت: "ضَرَبَ الذين جاؤوا مُسْرِعين زيداً" فكما لا يقال إنَّ "مسرعين" معترض به فكذلك هذه الجملة.
(5/10)
---(1/1718)
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم "تُسَوَّى" بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن الله تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى "على"، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن الله يُسَوِّهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: "أدخلت القَلَنْسوة في رأسي"، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً.
وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها "تَتَسَوَّى" بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداها. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً.
قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ} فيه ستةُ أوجهٍ، وذلك أنَّ هذه الواوَ تحتمل أن تكونَ للعطفِ وأن تكون للحالِ: فِإنْ كانت للعطفِ احتمل أن يكون من عطف المفردات، وأن يكونَ من عطف الجمل، إذا تقرر هذا فيجوز أن [يكون] {وَلاَ يَكْتُمُونَ} عطفاً على مفعول "يود" أي: يَوَدُّون تسويةَ الأرض بهم وانتفاءَ كتمان الحديث، و"لو" على هذا مصدريةٌ، ويَبْعُدُ جَعْلُها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيرِه، ويكونُ "ولا يكتمون" عطفاً على معفول "يَوَدُّ" المحذوفِ. فهذان وجهان على تقدير كونِه من عطفِ المفردات.
(5/11)
---(1/1719)
ويجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على جملة "يَوَدُّ"، أَخْبَرَ تعالى عنهم بخبرين أحدُهما: الوَدادة لكذا، والثاني: أنه لا يَقْدِرُون على الكتم في مواطنَ دونَ مواطنَ، و"لو" على هذا مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ "لو" حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ، ومفعولُ "يود" أيضاً محذوفٌ، ويكون "ولا يكتمون" عطفاً على "لو" وما في حَيِّزها، ويكونُ تعالى قد أخْبَرَ عنهم بثلاثِ جمل: الوَدادةِ وجملةِ الشرط بـ"لو" وانتفاءِ الكتمان، فهذان أيضاً وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل.
وإنْ كانَتْ للحالِ جاز أن تكونَ حالاً من الضمير في "بهم"، والعامل فيها "تُسَوَّى"، ويجوزُ في "لو" حينئذٍ أَنْ تكونَ مصدريةً وأن تكون امتناعيةً، والتقديرُ: يَوَدُّون تسويةَ الأرضِ بهم غيرَ كاتمين، أو: لو تُسَوَّى بهم غيرَ كاتمين لكان بغيتَهم، ويجوز أن تكون حالاً من {الَّذِينَ كَفَرُواْ}، والعاملُ فيها "يود"، ويكونُ الحال قيداً في الوَدادةِ، و"لو" على هذا مصدريةٌ في محلِّ مفعولِ الودادة، والمعنى: يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثاً، ويبعد أن تكون "لو" على هذا الوجه امتناعيةً للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة. و"يكتمون" يتعدى لاثنين، والظاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف، والأصل: ولا يكتمون من الله حديثاً.
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }
(5/12)
---(1/1720)
قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ}: في وجهان، أحدهما: أن في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: مواضعَ الصلاة، والمراد بمواضعها المساجدُ، ويؤيدُ هذا قولُه بعد ذلك: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} في أحد التأويلين. والثاني: أنه لا حذفَ، والنهي عن قربان نفسِ الصلاة في هذه الحالة.
قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} مبتدأٌ وخبرُ في محلٍّ نصبٍ على الحال من فاعل "تقربوا". وقرأ الجمهورُ: "سُكارى" بضهم السين وألف بعد الكاف، وفيه قولان، أحدهما: ـ وهو الصحيح ـ أنه جمع تكسير، نص عليه سيبويه، قال: "وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى، وذلك كقولِ بعضِهم "سُكارى" "وعُجالى". والثاني: أنه اسمُ جمع، وزعم ابنُ الباذش أنه مذهب سيبويه، قال: "وهو القياسُ لأنه لم يأت من أبنيةِ الجمع شيءٌ على هذا الوزن". وذكر السيرافي الخلافَ، ورجَّح كونه تكسيراً.
وقرأ الأعمش: "سُكْرى" بضم السين وسكون الكاف/، وتوجيهُها أنها صفةٌ على فُعْلى كحُبْلى، وقعت صفةً لجماعةٍ أي: وأنتم جماعةٌ سُكْرى. وحَكى جناح بن جبيش: "كُسْلى وكَسْلى" بضم الكاف وفتحها. قال الزمخشري. وقرأ النخعي: "سَكْرى" بفتح السين وسكون الكاف، وهذه تحتمل وجهين، أحدُهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها وهو أنها صفةٌ مفردةٌ على فَعْلى كامرأةٍ سَكْرى وُصِفَ بها الجماعة. والثاني: أنها جمعُ تكسيرٍ كجَرْحى ومَوْتى وهَلْكى، وإنما جَمْعُ سَكْران على "فَعْلى" حملاً على هذه؛ لِما فيه من الآفةِ اللاحقةِ للفعلِ، وقد تقدَّم لك شيء من هذا في قولهِ في البقرة عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى}، وقُرىء "سَكارى" بتفحِ السينِ، والألفِ، وهذا جمعُ تكسيرِ نحو: نَدْمان ونَدامى وعَطْشان وعَطاشَى.
(5/13)
---(1/1721)
والسُّكْر لغةً: السَّدُّ، ومنه قيل لِما يَعْرِضُ للمرءِ مِنْ شرب المُسْكِر؛ لأنه يَسُدُّ مابين المرء وعقله، وأكثرُ ما يقال السُّكْرُ لإِزالة العقلِ بالمُسكِر، وقد يُقال ذلك لإِزالتِه بغضبٍ ونحوِه من عشقٍ وغيرِه قال:
1586ـ سُكْرانِ سُكْرُ هوىً وسُكْرُ مُدامَةٍ * أنَّى يُفيقُ فتىً به سُكْرانِ
والسَّكْرُ ـ بالفتح وسكون الكاف ـ حَبْسُ الماءِ، وبكسرِ السينِ نفسُ الموضعِ المسدودِ، وأمَّا "السَّكَر" بفتحهما فما يُسْكَرُ به من المشروبِ، ومنه {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}، وقيل: السُّكْر ـ بضمِّ السين وسكون الكاف ـ السَّدُّ أي: الحاجزُ بين الشيئين قال:
1587ـ فما زِلْنَا على السُّكْرِ * نُداوي السُّكْرِ بالسُّكْرِ
والحاصلُ: أنَّ أصلَ المادة الدلالةُ على الانسدادِ، ومنه "سَكِرتْ عينُ البازي" إذا خالَطَها نومٌ، و"سَكِر النهرُ" إذا لم يَجْرِ، وسَكَرْتُه أنا.
قوله: {حَتَّى تَعْلَمُواْ} "حتى" جارةٌ بمعنى "إلى"، فهي متعلقة بفعلِ النهي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار "أَنْ"، وتقدَّم تحقيقُه. و"ما" يجوزُ فيها ثلاثة أوجه: أن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على هذين القولين محذوفٌ أي: يقولونه،أو مصدريةً فلا حَذْفَ إلا على رأيِ ابنِ السراجِ ومَنْ تَبِعه.
قوله: {وَلاَ جُنُباً} نصبٌ على أنه معطوفٌ على الحال قبله، وهو قوله {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، عَطَفَ المفردَ على الجملةِ لَمَّا كانَتْ في تأويلِه، وأعادَ معها "لا" تنبيهاً على أنَّ النهيَ عن قربانِ الصلاةِ مع كل واحدة من هذهين الحالين على انفرادِهما، فالنهيُ عنها مع اجتماعِ الحالين آكدُ وأَوْلى.
والجُنُبُ: مشتقٌ من الجَنابة وهي البُعْد قال:
1588ـ فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابَةٍ * فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
(5/14)
---(1/1722)
وسُمِّي الرجلُ جُنُباً لبُعْده عن الطهارة، أو لأنه ضاجَعَ بجَنْبه ومَسَّ به، والمشهورُ أنه يُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومنه الآيةُ الكريمة. قال الزمخشري: "لجَرَيانه مَجَرى المصدر الذي هو الإِجْناب" ومن العرب مَنْ يُثَنِّيه فيقول: "جُنُبان" ويجمعه سَلامَةً فيقول: "جُنُبون" وتكسيراً فيقول: "أَجْناب"، ومثله في ذلك: "شُلُل" وتقدَّم تحقيق ذلك.
قوله: {إِلاَّ عَابِرِي} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الحال، فهو استثناء مفرغ، والعامل فيها فعل النهي، والتقدير: لا تقربوا الصلاةَ في حال الجنابة، إلا في حال السفر أو عبور المسجد، على حَسَب القولين. وقال الزمخشري: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناءٌ من عامة أحوالِ المخاطبين، وانتصابُه على الحالِ. فإنْ قلت: كيف جَمَع بين هذه الحالِ والحالِ التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ الجنابة إلا ومعكم حالٌ أخرى تُعْذَرُون فيها وهي حال السفر، وعبُور السبيلِ عبارةٌ عنه". والثاني: أنه منصوب على أنه صفةٌ لقوله: "جُنُباً" وصفَة بـ"إلا" بمعنى "غير" فظهر الإِعرابُ فيما بعدها، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ عند قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} كأنه قيل: لا تَقْرَبوها جُنُباً غيرَ عابري سبيل أي: جُنُباً مُقِيمين غيرَ مَعْذُورين، وهذا معنى واضح على تفسيرِ العبورِ بالسفر. وأمَّا مَنْ قَدَّر مواضع الصلاة فالمعنى عنده: لاتقْربوا المساجدَ جُنُباً إلا مجتازين لكونهِ لا ممرَّ سواه، أو غيرِ ذلك بحَسَبِ الخلاف.
والعُبو: الجوازُ، ومنه: "ناقةٌ غُبْرُ الهَواجِر" قال:
1589ـ عَيْرانَةٌ سُبُحُ اليدينِ شِمِلَّةٌ * عُبْرُ الهواجرِ كالهِزَفِّ الخاضِبِ
(5/15)
---(1/1723)
وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} كقوله: {حَتَّى تَعْلَمُواْ} فهي متعلقةٌ بفعلِ النهي. قوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبر "كان" وهو "مَرْضَى" وكذلك قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} {أَوْ لاَمَسْتُمُ} وفيه دليلٌ على مجيء خبرِ "كان" فعلاً ماضياً من غيرِ "قد"، وادِّعاء حذفِها تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه، كذا استدلَّ به الشيخ، ولا دليلَ فيه لاحتمال أن يكونَ "أو جاء" عطفاً على "كنتم" تقديرُه: "وإنْ جاء أحد"، وإليه ذهب أبو البقاء وهو أظهرُ من الأول، والله أعلم.
و"منكم" في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ"أحد"، فيتعلق بمحذوف و"من الغائط" متعلِّقٌ بـ"جاء"، فهو مفعولُه. وقرأ جمهور: "الغائِط" بزنة فاعِل، وهو المكانُ المطمئِنُّ من الأرض، ثم عَبَّر به عن نفسِ الحدثِ كنايةً للاستحياء مِنْ ذكره، وفَرَّقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: "غاظَ في الأرض" أي: ذهب وأبعد إلى مكانٍ لا يراه فيه إلا مَنْ وَقَفَ عليه، وتغوَّط: إذا أَحْدَثَ. وقرأ ابن مسعود: "من الغَيْطِ" وفيه قولان، أحدُهما: ـ وإليه ذهب ابن جني ـ أنه مخفف من فَيْعِل كهَيْن ومَيْت في: هيّن وميّت. والثاني أنه مصدرٌ على وزن فَعْلَ قالوا: غاط يغيط غَيْطاً، وغاط يَغُوط غَوطاً. وقال أبو البقاء: "هو مصدرُ "يَغُوط" فكان القياس "غَوْطاً" فَقَلبَ الواوَ ياءً وإنْ سَكَنَتْ وانفتَحَ ما قبلَها لِخفَّتها" كأنه لم يَطَّلع على أنَّ فيه لغةً أخرى من ذواتِ الياء حتى ادَّعى ذلك. وقرأ الأخوان هنا وفي المائدة: "لَمَسْتم" والباقون: "لامستم" فقيل: "فاعِل" بمعنى فَعَل، وقيل: لمَس: جامَع، ولامسَ لما دون الجماع.
(5/16)
---(1/1724)
قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ} الفاءُ عَطَفَتْ ما بعدهَا على الشرط. وقال أبو البقاء: "على جاء"، لأنه جَعَل "جاء" عطفاً على "كنتم" فهو شرط عنده". والفاءُ في قوله "فتيمَّموا" هي جوابُ الشرط، والضمير في "تَيَمَّموا" لكلِّ مَنْ تقدَّم من مريضٍ ومسافرٍ ومتغوِّط وملامس أو لامس، وفيه تغليبٌ للخطابِ على الغَيْبَةِ، وذلك أنه تقدَّم غيبة في قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وخطابُ في "كنتم" و"لمستم" فَغَلَّب الخطابَ في قوله "كنتم" وما بعده عليه. وما أحسنَ ماأتى هنا بالغيبة لأنه كنايةٌ عما يُسْتحيا منه فلم يخاطِبْهم به، وهذا من محاسِنِ الكلام، ونحُوه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}. و"وَجَد" هنا بمعنى "لَقِي" فتعدَّت لوَاحد.
و"صعيداً" مفعولٌ به لقوله: تَيمَّموا" أي: اقصِدوا، وقيل: هو على إسقاطِ حرف أي: بصعيدٍ، وليس بشيء لعدمِ اقتياسِه. و"بوجوهكم" متعلِّقٌ بـ"امْسَحوا" وهذه الباءُ تحتمل أَنْ تكون زائدة، وبه قال أبو البقاء، ويحتمل أن تكون متعدية، لأن سيبويه حكى: "مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه" فيكون من باب: نصحته ونصحت له. وحُذِفَ الممسوحُ به، وقد ظهَر في آية المائدة في قوله "منه" فَحُمِلَ عليه هذا.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ }
(5/17)
---(1/1725)
قوله تعالى: {مِّنَ الْكِتَابِ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق بمحذوفٍ إذ هو صفةً لـ"نصيباً" فهو في محل نصب، والثاني: أنه متعلق بـ"أوتوا" أي: أوتوا من الكتابِ نصيباً. و"يَشْتَرُون" حالٌ وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه واو "أوتوا"، والثاني: أنه الموصولُ، وهي على هذا حالٌ مقدرة، والمُشْتَرَى به محذوف أي: بالهُدى، كما صَرَّح به في مواضعَ. و"يريدون" عطفٌ على "يشترون". وقرأ النخعي "ويُريدون أَنْ تَضُلُّوا" بتاءِ الخطاب، والمعنى: وتريدون أيها المؤمنون أن تَدَّعوةا الصوابَ/. وقرأ الحسن: "أن تُضِلُّوا" من "أضلَّ". وقرىء: "أَنْ تُضَلُّوا السبيل" بضم التاء وفتح الضاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. و"السبيل" مفعول به كقولك: "أخطأ الطريق"، وليس بظرفٍ، وقيل: يتعدَّى بـ"عَنْ" تقول: ضَلَلْتُ السبيل، وعن السبيل".
* { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً }
قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ}: قد تقدَّم الكلامُ على هذا التركيبِ أولَ السورةِ فَأَغْنى عن إعادتِه، وكذلك تقدَّم الكلامُ في المنصوبِ بعده.
* { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }
(5/18)
---(1/1726)
قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ}: فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها: أَنْ يكونَ "مِن الذين" خبراً مقدماً، و"يُحَرِّفون" جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ، تقديره: "من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون" وحَذَفُ الموصوفِ بعد "مِنْ" التبعيضية جائزٌ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم: "منا ظَعَن ومن أَقام" أي: فريق ظعن، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي، ومثلُه:
1590ـ وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما * أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: فمنهما تارةً أموت فيها.
الثاني: ـ قول الفراء ـ وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً،ـ ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره: "من الذين هادوا مَنْ يحرفون"، ويكون قد حَمَل على المعنى في "يُحَرِّفون"، قال الفراء: "ومثله:
1591ـ فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له * وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ
قال: "تقديرُه: "ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له". والبصريون لا يجيزون حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو "آخر"، و"أخرى" في البيتِ قبلَه، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ، والتقديرُ: فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ.
الثالث: أنَّ "مِن الذين" خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و"يُحَرِّفون" على هذا حالٌ من ضمير "هادوا". وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله "نصيراً".
الرابع: أن يكونَ "من الذين" حالاً من فاعل "يريدون" قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في "أوتوا" ومن "الذين" أعني في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ} قال: "لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض". قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح.
(5/19)
---(1/1727)
الخامس: أنَّ "مِن الذين" بيانٌ للموصولِ في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ} لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي: "والله أعلم" إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعض الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحدا.
السادس: أنه بيانٌ لأعدائِكم، ومابينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه.
السابع: أنه متعلِّقٌ بـ"نصيراً"، وهذه المادةُ تتعدَّى بـ"من". قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ} على أحدِ تأويلين: إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي: منعناه من القوم، وكذلك: وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا، وإمَّا على جَعْلِ "مِنْ" بِمعنى "على" والأولُ مذهبُ البصريين. فإذا جعلنا "من الذين" بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في "سُقيْاً لك": إنَّ "لك" متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ.
وقال أبو البقاء: "وقيل: هو حالٌ من "أعدائكم" أي: واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال". فقوله هذا يُعْطي أنه بيناٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان.
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ "يُحَرِّفون": إمَّا لا محلَّ له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم. وقرأ أبو رجاء والنخعي: "الكلام" وقرىء "الكِلْم" بكسر الكاف وسكون اللام جمع "كِلْمة" مخففة من كَلِمة، ومعانيهما متقاربةٌ"
و{عَن مَّوَاضِعِهِ} متعلِّقٌ بـ"يُحَرِّفون"، وذكَّر الضمير في "مواضعه" حَمْلاً على "الكَلِم" لأنها جنسٌ.
(5/20)
---(1/1728)
وجاء هنا: {عَن مَّوَاضِعِهِ}، وفي المائدة: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} قال الزمخشري: "أمَّا "عن مواضِعه" فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه، وأما {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه، والمعنيان متقاربان". قال الشيح: "وقد يقال إنهما سِيَّان، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}؛ لأنَّ قولَه "عن مواضِعِه" يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له، وحُذِف في ثاني المائدة "عن مواضِعِه" لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه، فالأصلُ: يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها، فَحَذَف هنا البعدية وهناك "عنها" توسُّعاً في العبارةِ، وكانت البداءةُ هنا بقوله "عن مواضعِه" لأنه أخصرُ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على "عن" وعلى المواضعِ وإشارةُ إلى البعدِيَّة".
وقال أيضاً: "والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم نقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب، وحيث وُصِفوا باليين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فما سياقان مختلفان".
(5/21)
---(1/1729)
وقوله: {وَيَقُولُونَ} عطفٌ على "يُحَرِّفون"، وقد تقدَّم، ومابعده في محلِّ نصبٍ به. قوله: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} في نصبه وجهان أحدهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه مفعولٌ به، والمعنى: أسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه، فسمعُك عنه نابٍ. قال الزمخشري ـ بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم ـ: " ويجوز على هذا أن يكون "غيرَ مُسْمَع" مفعول "اسمَعْ" أي: اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه". وهذا الكلامُ ذو وجهين: يعني أنَّه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ: "غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً"، فيكونُ قد حذف المعفولَ الثاني، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر: "غير مُسْمع خيراً"، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً.
وقال أبو البقاء: "وقيل: أرادوا غيرَ مسموعٍ منك"،وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري، وقال "إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد". قال ابن عطية: "ولا يساعِدُه التصريف" يعني أن العرب لا تقول: "سْمَعْتُك" بمعنى قَبْلْتُ منك، وإنما تقول: "أسْمَعْتُه" بمعنى سَبَبْتُه، و"سمعت منه" بمعنى: قَبِلْتُ منه، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً، وتقدَّم القولُ في "راعِنا" في البقرة.
قوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً} فيهما وجهان أحدهما: أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما: "ويقولون". والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال أي: لاوينَ وطاعنِين. وأصل لَيّاً: "لَوْيٌ" من لوى يَلْوي، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل "طَيّ" مصدر طَوَى يَطْوي. و"بألسنتِهم" و"في الذين" متعلقان بالمصدرين قبلهما. و{لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ} تقدَّم الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول.
(5/22)
---(1/1730)
قوله: {لَكَانَ خَيْراً} فيه قولان، أظهرُهما: أنه بمعنى أفعل، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً، أي: لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ. والثاني: أنه لا تفضيلَ فيه ، بل يكون بمعنى جيد وفاضل، فلا حَذْفَ حينئذ، والباءُ في "بكفرِهم: للسببية.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من "لَعَنَهم" أي: لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم. والثاني: أنه مستثنى من الضميرِ في "فلا يؤمنون" والمراد
ُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه. ولم يستحسن مكمي هذه الوجهين: أمَّا الأول قال: لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يُسْتثنى منهم أحدٌ. وأمَّا الثاني: فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ". والثالث: أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إلا إيماناً قليلاً، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة، كقوله:
1592ـ قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه * ......................
(5/23)
---(1/1731)
قال الشيخ: "وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح، غير أنَّ هذا التركيبَ الاستثنائي يأباه، فإذا قلت: "لم أقم إلا قليلاً" فالمعنى: انتفاء القيام إلا القليلَ فيوجد منك، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ "قَلَّما يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ" و"قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك" فإنه يَحْتمل القليل المقابل للتكثير، ويحتمل النفيَ المحض، أمَّا أنك تنفي ثم توجب، ثم تريد بالإِيجاب بعد النفي نفياً فلا، أنه يلزم أَنْ تجيءَ "إلاَّ" وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك: "لم أقم" فأيُّ فائدةٍ في استثناء مثبت يراد به انتفاءُ مفهومٌ من الجملة السابقة؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعدَ "إلا" موافقاً لِما قبلها في المعنى، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد "إلاَّ" مخالفاً لِما قبلها فيه".
* { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }
قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ}: متعلقٌ بالأمر في قوله: "آمنوا"، و"نَطْمِس" يكون متعدياً، ومنه هذه الآية، ومثلُها: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} لبنائِه للمفعولِ من غيرِ حرفِ جرٍّ، ويكون لازماً يقال: "طمس المطرُ الأعلامَ" و"طَمَست الأعلامُ"، قال كعب:
1593ـ من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ * عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ مجهولُ
وقرأ الجمهور: "نَطْمِس" بكسر الميم، وأبو رجاء بضمها، وهما لغتان في المضارع. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: عيونَ وجوهٍ، ويُقَوِّه أنَّ الطمسَ للأعينِ، قال تعالى: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ
(5/24)
---(1/1732)
}. وقوله: {عَلَى أَدْبَارِهَآ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق بـ"نَرُدَّها". والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف؛ لأنه حال من المفعول في "نردَّها" قاله أبو البقاء، وليس بواضح.
قوله: "أو نلعَنهم" عطفٌ على "نَطْمِسَ"، والضميرُ في "نلعنهم" يعودُ على الوجوه، على حَذْفِ مضافٍ إليه"، أي: وجوه قوم، أو على أن يُرادَ بهم الوُجَهاءُ والرؤساءُ، أو يعودُ على الذين أوتوا الكتاب، ويكون ذلك التفاتاً من خطابٍ إلى غيبة، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان، حيث لم يواجِهْهم باللعنةِ بعد أَنْ شَرَّفهم بكونهم من أهل الكتاب. وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ}: أمرٌ واحدٌ أُريد به الأمورُ. وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به أي: مأمورُه أي: ما أَوْجَدَه كائنٌ لا محالةَ.
* { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}: مستأنفٌ ، وليس عطفاً على "يَغْفر" الأولِ لفسادِ المعنى. والفاعل في "يشاء" ضميرٌ عائد على الله تعالى، ويُفْهَمُ مِنْ كلامِ الزمخشري أنه ضميرٌ عائدٌ على "مَنْ" في "لِمَنْ"؛ المعنى عنده: إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ الشرط لمن يشاء أن يغفر له، بكونهِ مات على الشرك غيرَ تائبٍ منه، ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَنْ يشاءُ أَنْ يغفرَ له بكونهِ مات تائباً من الشرك"، و"لِمَنْ يشاء" متعلقٌ بـ"يغفر".
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ}: تقدَّم مثلُه، و"بل" إضرابٌ عن تزكيتهم أنفسَهم. وقَدَّر :أبو البقاء قبل هذا الإِضراب جملةً قال: "تقديره: أخطؤوا بل الله يزكي من يشاء.
(5/25)
---(1/1733)
وقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ} يجوز أن يكونَ حالاً مِمَّا تقدَّم، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والضميرُ في "يُظْلمون" يجوز أن يعودَ على مَنْ يشاء" أي: لا يُنْقِصً من تزكيتهم شيئاً، وإنما جَمَع الضميرَ حَمْلاً على معنى "مَنْ"، وأن يعودَ على الذين يُزَكُّون، وأن يعود على القبيلين: مَنْ زكَّى نفسَشه ومَنْ زكَّاه الله، فذاك لا يُنْقِصُ من عقابِه شيئاً، وهذا لا يُنْقِصُ من ثوابِه شيئاً. والأولُ أظهرُ؛ لأن "مَنْ" أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ "بل" إضرابٌ منقطعٌ ما بعدها عَمَّا قبلها. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً أي: مَنْ زَكَّى نفسَه، ومَنْ زَكَّاه الله" انتهى، فَجَعَلَ عود الضميرِ على الفريقين بناءً على وجهِ الاستئنافِ، وهذا غيرُ لازمٍ، بل يجوزُ عَوْدُه عليهما والجملةُ حاليةٌ.
و{فَتِيلاً} معفولُ ثانٍ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، كما تقدَّم تقريرُه في {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. والفتيل: خيط رقيق في شِقِّ النَّواة، يُضْرب به المَثَلُ في القلة، وقيل: هو ما خرج من بين إصبعيك المثلَ في القلة التافهة بأربعة أشياء اجتمعن في النواة، وهي: الفتيل والنقير ـ وهو النُّقْرة التي في ظَهر النَّواة ـ والقِطْمير ـ وهو القشر الرقيق فوقها ـ وهذه الثلاثةُ واردةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق ـ وهو ما بين النواة والقِمْع الذي يكون في رأس التمرة كالعِلاقة بينهما ـ.
* { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً }
(5/26)
---(1/1734)
قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ}: كيف منصوبٌ بـ "يَفْترضون" وتقدَّم الخلافُ فيه، والجملةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافضِ، لأنها معلقةٌ لـ "انظر" و"انظر" يتعدَّى بـ "في" لأنَّها هنا ليست بصريةً. و"على الله" متعلقٌ بـ "يفترون" وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الكذب" قُدِّم عليه قال: "ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالكذبِ؛ لأنَّ معمولَ المصدرِ لا يقتدَّم عليه، فإنْ جُعِل على التبين جاز" وجَوَّز ابنُ عطية أن كتونَ "يكف مبتدأً، والجملةُ من قولِه "يفترون" الخبرُ، وهذا فاسدٌ لأنَّ "كيف" لا تُرْفَعُ بالابتداء، وعلى تقديرِ ذلك فأين الربطُ بينهما وبين الجملةِ الواقعة خبراُ عنها؟ ولم تكن نفسَ المبتدأ حتى تَسْتغني عن رابط. و"إثْماً" تمييزٌ، والضميرُ في "به" عائدٌ على الكذب، وقيل: على الافتراءِ، وجَعَله الزمخشري عائداً على زعمِهم، عيني مِنْ حيث التقديرُ.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ}: فيه وجهان، أحدُهما: انه حالٌ: إمَّا من "الذين"، وإمَّا من واو "أوتوا". و "بالجِبْتِ" متعلق به، "ويقولون" عطفٌ عليه، و"للذين" متعلِّقٌ بـ "يقولون" واللام: إمَّا للتبليغ وإمَّا للعلِة كنظائرِها. "وهؤلاء أَهْدَى" مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول. و"سبيلاً" تمييزٌ. والثاني: أنَّ "يؤمنون" مستأنف، وكأنه تعجَّبَ مِنْ حالِهم، إذ كان ينبغي لِمَنْ أُوتي نصيباً من الكتاب ألاَّ يفعلَ شيئاً مِمَّا ذُكِر فيكونُ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ألا تعجَبُ من حالِ الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؟ فقيل: وما حالُهم؟ فقال: يؤمنون ويقولون، وهذان منافيان لحالِهم.
(5/27)
---(1/1735)
والجِبْتُ: هو الجِبْسُ بالسينِ المهملةِ، أُبْدِلَتْ تاءً، كالنات والأكيات وست في: الناس والأكياس وسِدْس، قال:
1594- ........... * شرارُ الناتِ ليسوا بأجوادٍ ولا أَكْياتِ
والجِبْس: هو الذي لاخيرَ عنده، يُقال: رجلٌ جِبْسٌ وجِبْتٌ أي: رَذْل، قيل: وإنّضما ادَّعَى قلبَ السينِ تاءً لأنَّ مادة جَ بَ تَ مهملةٌ، وهذا قولُ قطرب، وغيره يجعلُها مادةً مستقلة، وقيل: الجِبْت: الساحر بلغةِ الحبشة، ويُطلق الجبتُ على كل ما عُبِد مِنْ دونِ الله، ولدلك سَمَّوا به صنماً بعينِه. والطاغوتُ تقدَّم تفسيرُه وتصريفُه.
* { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ}: "أم" هذه منقطعةٌ لفواتِ شرطِ الاتصال، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة، فتتقدَّر بـ "بل" والهمزِة التي يُراد بها الإنكارُ، وكذلك هي في قولِه {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} وقوله: "فإذَنْ" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ ونونُها أصليةٌ، قال مكي: "وحُذِّق النحويين على كَتْب نونِها نوناً، وأجاز الفراء أن تُكْتَبَ ألفا" وما قاله الفراء هو قياسُ الخطِ؛ لأنه مبني على الوقف، والوقفُ على نونِها بالألف، وهي حرفٌ ينصِبُ المضارعَ بشروطٍ تقدَّمت، ولكن إذا وَقَعَتْ بعد عاطف فالأحسنُ الإهمال، وقد قرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما هنا بإعمال فحذفا النون من قوله "لا يؤتون" وقال أبو البقاء: "ولم يَعْمل هنا من أحل حرف العطف وهو الفاء، ويجوز في غير القرآن أن يعمل مع الفاءِ وليس المبطلُ "لا" لأنَّ "لا" يتخطَّاها العامل، فظاهرُ هذ العبارةِ أولاً أن المانعَ حرفُ العطف، وليس كذلك بل المانعُ التلاوةُ، ولذلك قال أخيراً "ويجوز في غيرِ القرآن" وقد تقدَّم قراءةُ عبد الله وعبد الله.
* { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }
(5/28)
---(1/1736)
والضمير في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ}: عائدٌ على إبراهيم أو على القرآنِ أو على الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو على ما أوتيه إبراهيم عليه السلام. وقرأ الجمهور: "صَدَّ" بفتح الصاد، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة "صُدَّ" بضمها. وقرأ أبو رجاء وأبو الجوزاء بكسرها، وكلتا القراءتين على البناء / للمفعول، إلاَّ أَنَّ المضاعف الثلاثي [211/أ] كالمعتلِّ العينِ منه، فيجوزُ في أولِه ثلاثُ لغات: إخلاصُ الضم، وإخلاصُ الكسر، والإشمامُ. و"سعيراً" تمييز، فإنْ كان بمعنى التهاب واحتراق فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: كفى بسعيرِ جهنم سعيراً، إلاَّ أَنَّ توقُّدَها والتهابَها ليس إياها، وإنْ كان بمعنى "مُسْعِر" فلا يَحْتاج إلى حذف.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }
وقرأ الجمهور: {نُصْلِيهِمْ}: بضم النون من أصلى، وحميد بفتحها من صَلِيْتُ ثلاثياً، وسلام ويعقوب: نُصْلِيهُم" بضم الهاء وهي لغة الحجاز وتقدم تقرير ذلك. قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ} قد تقدم الكلامُ على "كلما" وأنها ظرفُ زمانٍ، والعاملُ فيها "بَدَّلْناهم" والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المنصوب في "نُصْليهم" ويجوز أن يكونَ صفة لـ "ناراً" والعائدُ محذوف وليس بالقوي، "وليذوقوا" متعلق بـ "بَدَّلناهم".
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً }
(5/29)
---(1/1737)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره "سَنُدْخِلُهم" والثاني: أنه في محل نصب عطفاً على اسم "إن" وهو "الذين كفروا"، والخبر أيضاً "سندخلهم جناتٍ" ويصيرُ هذا نظيرَ قولك: "إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً قاعدٌ" فعطفت المنصوب على المنوصوب والمرفوع على المرفوع.: والثالث: أن يكون في محلِّ رفعٍ عطفاً على موضع اسم "إنَّ" لأنَّ محلَّه الرفع، ذكر ذلك أبو البقاء وفيه نظرٌ من حيث الشناعةُ اللفظية حيث يقال: "والذين آمنوا" في موضع نصف عطفاً على "الذين كفروا"، وأتى بجملة الوعيد مؤكدةً بـ "إنَّ" تنبيهاً على شدة ذلك، وبجملةِ الوعدِ خاليةً منه لتحقُّقها وأنه لا إنكار لذلك، وأَتَى فيها بحرفِ التنفيس القريبِ المدةِ تنبيهاً على قرب الوعد.
(5/30)
---(1/1738)
و{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "جنات" وقرأ بالنخعي "سَيُدْخِلُهم" وكذلك "ويُدْخِلُهم ظِلاًّ" بياء الغَيْبة، رَدَّاً على قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً} والجمهورُ بالنون رَدًّاً على قوله {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} و"خالدين" ويجوزُ فيه ثلاثة أوجه، أحدهماك انه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في "سَنُدْخِلُهم"، والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من "جنات" قال: "لأنَّ فيها ضميراً لكل واحدٍ منهما، يعني أنه يجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعول "سندخلهم" كما تقدم، أو من "دنات" لأن في الحال ضميرين أحدُهما: المستتر في "خالدين" العائدٌ على الذين آمنوا، والآخر: المجرور بـ"في" العائد على "جنات" فصحَّ أن يُجعل حالاً من كل واحد لوجود الرابط وهو الضمير. وهذا الذي قالَه فيه نظرٌ لا يَخْفى من وجهين، أحدهما: أنه يصيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٌ في أنفسِها، لأنَّ الضميرَ في "فيها" عائدٌ عليها، فكأنه قيل: جناتٌ خالداتٌ في الجناتِ أنفسِها. والثاني: ان هذا الجمعَ شرطُه العقلُ، ولو أُريد ذلك لقيل: خالدات. والثالث. أن يكون صفةً لـ "جنات" أيضاً. قال أبو البقاء "على رأي الكوفيين"، يعين أنه جَرَتِ الصفةُ على غير مَنْ هي له في المعنى، ولم يَبْرُز الضمير، وهذا مذهبُ الكوفيين، وهو أنه إذا جرَرَتْ على غير مَنْ هي هل وأُمِنَ اللَّبْسَُ لم يَجِبْ بروزُ الضمير كهذه الآية. ومذهبُ البصريين وحوبُ بروزِه مطلقاً، فكان ينبغي أَنء يُقالَ على مهذبهم "خالدين هم فيها" ولَمَّا لم يَقُلْ كذلك دَلَّ على فسادِ هذا القولِ، وقد تقدَّم لك تحقيقُ ذلك. فإنْ قتل: فلْتكُنْ المسألةُ الأولى كذلك، أعين أنك إذا جعلت "خالدين" حالاً من "جنات" فيكونُ حالاً منها لفظاً وهي لغيرِها، معنى، ولم يَبْرُز الضميرُ عل رأي الكوفيين، ويَصِحُّ قولُ أبي البقاء فالجواب أن هذا لو قيل به لكان جيداً، ولكن لا يَدْفَعُ الردَّ عن أبي(1/1739)
(5/31)
---
البقاء، فإنه خصص مذهبَ الكوفيين بوحه الصفة دون الحال. وقوله {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ} مبتدأ وخبر، ومحلُّ هذه الجملة: إمَّا النصبُ أو الرفع، فالنصبُ: إمَّا على الحال من "جنات" أوم ن الضمير في "سندخلهم"، وإمَّا على كونها صفةً لـ "جنات" بعد صفة. والرفعُ على أنه خبر بعد خبر.
* { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }
قوله تعالى: {أَن تُؤدُّواْ}: منصوبُ المحلِّ: إمَّا على إسقاط حرف الجر؛ لأنَّ حَذْفَه يَطَّرِدُ مع "أنْ"، إذا أُمِنَ اللَّبْسُ لطولِهما بالصلة، وإمَّا لأن "أَمَر" يتعدَّى إلى الثاني بنفسِه نحو: "أمرتك الخير". فعلى الأول يجري الخلافُ في محلِّها: أهي في محلِّ نصبٍ أم جر، وعلى الثاني: هي في محلِّ نصبٍ فقط. وقُرئ "الأمانةَ".
والظاهرُ أنَّ قوله: {أَن تَحْكُمُواْ} معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا" أي: يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدل، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وهي مسألة خلاف: ذهب الفارسي الى مَنْعِها إلا في الشعر، وذهب غيره إلى جوازها مطلقاً. ولننقِّحْ محلِّ الخلاف أولاً فأقول: إنَّ حرف العطف إذاك ان على حرف واحد كالواو والفاء: هل يجوزُ أن يُفْصَلَ بينه وبين ماعَطَفه بالظرفِ وشبْهِهِ أم لآ؟ ذهب الفارسي إلى مَنْعِ مستدلاً بأنه إذا كان على حرف واحد فقد ضَعُف، للا يتوسَّط بينه وبين ما عطفه شيءٌ إلا في ضروة كقوله:
1595- يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ الـ * عَضْبِ ويوماً أَدِيمَها نَغَلا
(5/32)
---(1/1740)
تقديره: "وترى أديمها نَغِلاً يوماً" فَفَصَل بـ "يوماً. وهذب غيرُه إلى جوازِه مُسْتَدلاًّ بقوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} {أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ.....} الآية.
(5/33)
---(1/1741)
وقال صاحب هذا القول: إن المعطوف عليه إذا كان مجرواً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع المعطوفِ نحو: "امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمرٍو" وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها: أمَّا " في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً" وقوله: "وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم" فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين: عَطَفَ "الآخرة" على "الدنيا" بإعادة الخافضِ، وعَطَفَ "حسنةً الثانيةَ على "حسنةً" الأولى، وكذكل عطف "مِنْ خلفهم" على "من بين"، و"سداً" على "سداً" وكذلك البيت عطف فيه "أَدِيمَها" على المفعولِ الأولِ لـ "تَراها" و"نَغِلا" على الثاني وهو "كشِبْه" و"يوماً" الثاني على "يوماً" الأول، فلا فصلَ فيه حينئذ، وحينئذ يقال: ينبغي لأبي عليّ أن يمنعَ مطلقاً، ولا يَسْتثني الضرورة، فإن ما استشهد به مؤولٌ عل ما ذَكَرْتُ. فإنْ قيل: إنَّما لم يجعلْه أبو علي من ذلك لنه يؤدِّي إلى تخصيصِ الظرفِ الثاني بما وَقَعَ في الأولِ، وهو انه تراها كشِبْه أردية العَضْب في اليوم الأول والثاني؛ لأنذَ حكمَ المعطوف حكمُ المعطوفِ عليه فيهو نظيرُ قولك: "ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت، فـ"يومَ السبت" مقيَّدٌ بضربِ زيد كما يُقيَّد به يوم الجمنعة، لكم الغرض أن اليوم الثاني في البيت مُقَيَّدٌ بقيد آخر وهو رؤية أَجيمها نَغِلا، فالواب: انه لو تُرِكنا والظاهرَ من غير تقييد الظرف الثاني بمعنى آخر كان الحكمُ كما ذكرت؛ لأنه الظاهرُ كما ذكرت في مثالك: "ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت" أمَّا إذا قَيَّدْته بشي آخر فقد تُرك ذلك الظاهرُ لهذا النصِّ، ألا تراكَ تقولك "ضربت زيداً يوم الجمة وعمراً يوم السبت" فكذلك هذا، وهو موضعٌ يحتاج لتأمل.
(5/34)
---(1/1742)
وأمَّا "فبشَّرناها بإسحاق" فـ "يعقوب" ليس مجرواً عطفاً على "إسحاق" بل منصوباً بإضمار فعل أي: ووهبا لها يعقوب، ويدل عليه قراءة الرفع فإنها مؤذنةٌ بانقطاعِه من البشارة به، كيف وقد تقدَّم أنَّ هذا القائَل يقول: إنه متى كان المعطوفُ عليه مجروراً؟ أُعيد مع المعطوفِ الجارُّ. وأمَّا {أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ} فلا دلالة فيها أيضاً لأنَّ "إذا" ظرفٌ لا بدل هل من عامل، وعاملُه: إمَّا "أَنْ تَحْكُموا" وهو الظارُ / من حيث المعنى، وإمَّا "يأمُركم"، فالأول ممتنعق [211/ب] وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حَيِّزِ الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين، وما الكوفيون فيُجزون ذلك، ومنه الآيةُ عندهم، واستدلُّوا بقوله:
4596- كان جَزائي بالعصا أَنْ أُجْلَدا
وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله:
1597- ............ * وشفاءُ غَيِّك خابراً أَنْ تَسْألي
فكيف بالظرفِ وشبِهه؟ والثاني ممتنعٌ أيضاً لأنَّ الأمرَ ليس واقعاً وقت الحكم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، وإذا بَطَل هذان فالعامل فيه مقدرٌ يفسِّره ما بعدَه تقديُره: وأَنْ تحكموا إذا حكمتم، وطأن" تحكموا" الآخيرةُ دالةٌ على الأولى.
قوله: {بِالْعَدْلِ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ "تحكموا" فتكونَ الباءُ للتعدية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل "تَحْكُموا" فتكونَ الباءُ للمصاحبَة اي: ملتبسين بالعدل مصاحبين له، والمعنيان متلازمان.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} قد تقدَّم الكلامُ على "ما" المتصلة بـ "نعم" وبئس" وما ذكر الناسُ فيها فعليك بمراجعته. إلا أن ابن عطية نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُد مِنْ وَهْمٍ، فلا بُدَّ من ذكره قال: و "ما" المردفةُ على "نِعْم" إنما هي المهيئةُ لاتصالِ الفعل بها، كما هي في "ربما" و"مِمَّا" في قوله: "وكان رسولُ الله عليه اللاسم مِمَّا يحرِّك شفتيه" وكقوله:
(5/35)
---(1/1743)
1598 وإنَّا لَمِمَّا نضربُ الكبشَ ضربةً * على رأسِه تُلءقي اللسانَ من الفم
وفي هذا هي بمنزلة "ربما"، ويه لها مخالفةٌ في المعنى، لأن "ربما" للتقليل و "مِمَّا" للتكثير، ومع أن "ما" موطئة فهي بمعنى الذي، وما وَطَّأتْ إلا وهي اسم، ولكنَّ القصدَ إنما هو لِما يليها من المعنى الذي في الفعل" قال الشيخ: "وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَها موطئةً مهيئةً لا تكون اسماً، ومِنْ حيثُ جَعلَها بمعنى "الذي" يلزم أن تكونَ اسماً فتدافعا".
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
قوله تعالى: {مِنْكُمْ}: في محلِّ نصبٍ على الحال من "أُولي الأمر" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: وأولي الأمرِ كائنين منكم، و"مِنْ" تبغضية. قوله: "إنْ كنتم" شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: فَرُدُّوه إلى الله. وهو متقدمٌ عند غيرِهم. و"تأويلاً" نصبٌ على التمييز.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوااْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوااْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }
* {يَزْعُمُونَ}
: مثلُ ظنَّ وأخواتها بشرطِ ألاَّ تكونَ بمعنى كَفِل ولا كذب ولا سَمِن ولا هَزَل، و"أنَّ سادَّةٌ مسدَّ مفعوليها،. وقرأ الجمهور: "أُنْزل إليك وما أُنْزل من قبلك" مبنياً للمفعول، وقرئا مبنيين للفاعل وهوا لله تعالى. والزعم - فتح الزاي وضمها وكسرها - مصدرُ زَعَم، وهو قولٌ يقترن به اعتقاد ظني قال:
(5/36)
---(1/1744)
1599- فإنْ تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكُمُ * فإني شَرَبْتُ الحِلْمَ بعدَك بالجَهْل
قال ابنُ دريد: "أكثرُ ما يقع على الباطل" وقال عليه السلام: "بئس مطيةُ الرجلِ زعموا" وقال الأعشى:
1600- ونُبِّئتْتُ قيساً ولم أَبْلُه * كما زعموا خيرَ أهلِ اليمنْ
فقال الممدوح: "وما هو إلا الزعم" وحرمه ولم يُعْطِه شيئاً. [وذكر صاحبُ "العين" أنها تقع غالباً على "أنَّ" قال: "وقد تقع في الشعر على الاسم" وأنشد بين أبي ذؤيب، وقولن الآخر]:
1601- زَعَمَتْني شيخاً ولستُ بشيخٍ * إنما الشيخُ مَنْ يَدِبُّ دبيباً
وتكون "زعم" بمعنى "ظَنَّ" فتتعدَّى لاثنين، وبمعنى "كفِل" فتتعدى لواحد، ومنه {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} وبمعنى "رَأس" وبمعنى سَمِن" و"هَزَل" فلا تتعدى.
قوله: {يُرِيدُونَ} حالٌ من فاعل "يَزْعُمون" أو من "الذين يزعمون" وقوله: {وَقَدْ أُمِرُوااْ} حال من فاعل "يريدون" فهما حالان متداخلان، و"أن يكفروا" في محلِّ نصب فقط إنْ قَدَّرْتَ تعدية "أمر" إلى الثاني بنفسِه، وإلا ففيها الخلافُ المشهور، والضمير في "به" عائد على الطاغوت، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنث، وما قال الناس فيه في البقرة. وقرأ عباس بن الفضل: "ان يكفُروا بهنَّ" بضمير جميع التأنيث.
قوله: {أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً} في "ضلالاً" ثلاثة أقوال، أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر نحو: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} والأصل "إضلال" و"إنبات" فهو اسمٌ مصدر لا مصدر. والثاني: أنه مصدرٌ لمطاوع "أَضلَّ" أي: أضَلَهم فضلُّوا ضلالاً. والثالث: أن يكون من وَضْعِ أحد المصدرين موضعَ الآخر. وقد تقدم الكلامُ على "تعالوا" في آل عمران وما قال الناس فيها، وقراءةِ الحسن وتوجيهها فعليك بالالتفات إليه.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }
(5/37)
---(1/1745)
قوله تعالى: {رَأَيْتَ}: فيها وجهان، أحدُهم: أنها من رؤية البصر أي: مجاهرة وتصريحاً. والثاني: انها من رؤية القلب أي: "علمت"، فـ "يصدُّون" في محل نصب على الحال القول الأول، وفي محلِّ المفعول الثاني على الثاني. و "صدوداً" فيه وجهان، احدهما: أنه اسم مصدر، والمصدر إنما هو الصدُّ، وهذا اختبار ابن عطية، وعزاه مكي للخليل بن أحمد. والثاني: انه مصدر بنفسه يقال: صد صَدًّاً وصُدوداً، وقال بعضُهم: "الصُّدود: مصدر "صَدَّ" اللازم، والصَّدُّ مصدر "صد" المتعدي، نحو: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، والفعل هنا متعدِّ بالحرف لا بنفسِه، فلذلك جاء مصدرُه على"فُعُول" لأنَّ فُعولاً غالباً للازم" وهذا فيه نظرٌ، إذا لقائلٍ أَنْ يقولَ: هو هنا متعد، غايةُ ما فيه أنه حَذَف المفعول أي: يَصُدُّون غيرهم - أو المتحاكمين عندك - صدوداً، وأمَّا فُعول فاء في المتعدي نحو: لزمه لُزوماً وفتنة فُتوناً.
* { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }
قوله تعالى: {فَكَيْفَ}: يجوز في "كيف" وجهان، أحدهما: انها في محل نصب، وهو قول الزجاج قال: "تقديه: فكيف تراهم" والثاني: أنها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي: فيكف صنيعُهم في وقت إصابة المصيبة إياهم؟ و"إذا معمولةٌ لذلك المقدر بعد "كيف"، والباء في "بما" السببية، و"ما" يجوز أن يكونَ مصدريةً أو اسمية، فالعائدُ محذوف. قوله: {يَحْلِفُونَ} حال من فاعل "جاؤوك" و"إنْ" نافية أي: ما أردنا و"إحسانا" مفعول به، أو استثناء على سحب القولين في المسألة.
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيا أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }
(5/38)
---(1/1746)
قوله تعالى: {فِيا أَنْفُسِهِمْ}: فيه أوجه: أَوْجهُها: أن يتعلق بـ "قل" وفيه معنيان، الأولُ: قل لهم خالياً لا يكون معهم أحد، لأنَّ ذلك أَدْعى إلى قَبول النصحية. الثاني: قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يَبْلُغ بهم ما يَزْجُرهم عن العَوْدِ إلى النفاق. الثاني من الأوجهِ أَنْ يتعلَّق بـ "بليغاً" أي: قولاً مؤثِّراً في قلوبِهم يغتمُّون به اغتماماً، ويستشعرون به استشعاراً، قال معنناه الزمخشري، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا مذهبُ الكوفيين، إذ فيه تقديمُ معمولِ الصفة على الموصوف، لو قلت: "جاء زيداً رجلٌ يضربُ" لم يجز عند البصريين؛ لأنه لا يتقدم المعمولُ إلا حيث يجوز تقديم العامل، والعامل هنا لا يجوزُ تقديمه؛ لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف، والكوفيون يجيزون تقديم معمولَ الصفة على الموصوف، وأمَّا قول البصريين: إنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل ففيه بحث، وذلك أنَّا وجدنا هذه القاعدة منخرمةً في قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} فـ "اليتيم" معمول" لـ "تقهر"، و"السائل" معمول لـ "تنهر" وقد تقدًّما على "لا" الناهية، والعاملُ فيهما لا يجوز تقديمُه عليها إذ، المجزوم لا يتقدَّم على جازمه، فقد تقدَّم المعمول حيث لا يتقدم العامل، وكذلك قالوا في قوله:
1602- قنافِذُ هَدَّاجون حولَ بيوتِهم * بما كان إيَّاها عطيَّةُ عَوّضدا
(5/39)
---(1/1747)
خَرَّجوا هذا البيتَ على أنَّ في "كان" ضميرَ الشان، و"عَطِيَّةُ" مبتدأ و "عَوَّدَ" خبرُه، حتى لا يَليَ "كان" معمولُ خبرها، وهو غيرُ ظرفٍ ولا شِبْهِه، فلزمهم من ذلك تقديمُ المعمول وهو "إياهم" حيث لايتقدمَ العاملُ؛ لأن الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر امتنع تقديمه على المبتدأ / لئلا يلتبسَ [212/أ] بالفاعل نحو: "زيد ضرب عمراً" وأصلُ منشأ هذا البحث تقديمُ خبرِ "ليس" عليها، أجازه الجمهور لقوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} ووجه الدليلِ أنَّ "يوم" معمولٌ لـ "مصروفاً"، وقد تقدَّم على "ليس" وتقديمُ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديم العامل، فَعُورضوا بما ذَكَرْتُ لك، وللنظر في هذا البحثِ مجالٌ ليس هذا محلَّه، وقد أتقنت ذلك في كتابي "الشرحُ الكبير: شرح تسهيل الفوائد" فعليك به. الثالث: ونُقِل عن مجاهد ولا أظنُّه يَصِحُّ عنه - أنه متلعق بـ "مصيبة" فهو التقديم والتأخير، والقرآن يُنَزَّهُ عن ذلك، وإنما ذَكَرْتُه تنبيهاً على ضَعْفه.
* { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوااْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }
(5/40)
---(1/1748)
قوله تعالى: {لِيُطَاعَ} هذه لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" وهذا استنثاءٌ مفرغ من المفعول له، والتقدير: وما أرسلنا من رسولٍ لشيءٍ من الأشياء إى للطاعة. "وبإذن الله" فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: [أنه] متعلقٌ بـ "يُطاع"، والباء للسببية، وإليه ذهب أبو البقاء، قال: "وقيل: هو مفعولٌ به أي: بسبب أمر الله". الثاني: أن يتعلق بـ "أرسلنا" أي: وما أَرْسلنا بأمر الله أي: بشريعته. الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير في "يطاعَ"، وبه بدأ أبو البقاء. وقال ابن عطية: "وعلى التعليقين: أي: تعليِقه بـ "يُطاعَ" أو بـ "أَرْسلنا" فالكلامُ عامُّ اللفظِ خاصُّ المعنى؛ لأنَّا نقطعُ أن الله تعالى قد أراد من بعضِهم ألاَّ يُطيعوه، ولذلك تَأوَّلَ بعضُهم الإذنَ بالعمل وبعضُهم بالإرشاد" قال الشيخ: "ولا يُحتاج لذلك لأن قوله "عامُّ اللفظ" ممنوعُ، وذلك أن "يُطاع" مبني للمفعول، فيقدَّر ذلك الفاعلُ المحذوفَ خاصاً، وتقديره: "إلا ليطيعَه مَنْ أراد اللَّهُ طاعته".
(5/41)
---(1/1749)
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ} قد تقدَّم الكلامُ على "أنَّ" الواقعةِ بعد "لو" و"إذا" ظرفٌ معمولٌ لخبر "أنَّ" وهو "جاؤوك" وقال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} ولم يَقُلْ "واستغفرت" خروجاً من الخطاب إلى الغَيْبة؛ لِما في هذا الاسم الظاهر من التشريفِ والتنويه بوصف الرسالة. و"وجَد" هنا يُحْتَملُ أن تكونَ العِلْمية فتتعدى لاثنين، والثاني "تواباً" وأن يكون غيرَ العِلْمية فتتعدى لواحد، ويكون "تواباً" حالاً. وأمَّا "رحيماً" فيحتمل أن يكون حالاً من ضمير "تَوَّاباً" وأن يكون بدلاً من "تواباً" ويُحتمل أن يكونَ خبراً ثانياً في الأصل بناء على تعدُّد الخبر وهو الصحيح، فلمَّا دخل الناسخُ نُصِب الخيرُ المتعدد تقول: "زيدٌ فاضل شاعرٌ فقيه عالم" ثم تقول: "علمتُ زيدا فاضلاً شاعراً فقيهاً عالماً" إلا أنه لا يَحْسُن أن يقال هنا: "وشاعراً: مفعول ثالث، وفقيهاً: رابع، وعالماً: خامس".
* { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيا أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }
(5/42)
---(1/1750)
قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: في هذه المسألةِ أربعة أقوال، أحدها: - وهو قول ابن جرير - أنَّ "لا" الأولى رَدٌّ لكلام تقدَّمها، تقديرُه: "فلا تعقِلون، أو: ليس الأمرُ كما يزعمون من أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف قسماً بعد ذلك، فعلى هذا يكون الوقف على "لا" تاماً. الثاني: أن "لا" الأولى قُدِّمَتْ على القسم اهتماماً بالنفي، ثم كُرِّرت توكيداً، وكان يَصِحُّ إسقاطُ الأولى ويبقى [معنى] النفي ولكن تفوتُ الدلالةُ على الاهتمامِ المذكوِر، وكان يَصِحُّ إسقاطُ الثانيةِ ويبقى معنى الاهتمامِ، ولكن تفوتُ الدلالةُ النفي، فجُمع بينهما لذلك. الثالث: أن الثانيةَ زائدةٌ، والقَسَمُ معترِضٌ بين حرفِ النفي والمنفي، وكأنَّ التقديرَ: فلا يؤمنون وربِّك. الرابع: أن الأولى زائدة، والثانيةَ غيرُ زائدةٍ، وهو اختيارُ الزمخشري فإنه قال: "لا" مزيدةٌ لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} لتأكيد وجوب العلمِ، و"لا يؤمنون" جوابُ القسم، فإنْ قلت: هَلاَّ زعمت أنها زِيدت لتظاهر "لا" في "لا يؤمنون" قلت: يأبى ذلك استواءُ النفيِ والإثبات فيه، وذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني أنه قد جاءت "لا" قبل القسم حيث لم تكن "لا" موجودةً في الجواب، فالزمخشري يرى ان "لا" في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون} أنها زائدةٌ أيضاً لتأكيدِ معنى القسم، وهو أحدُ القولين، والقولُ الآخر كقول الطبيري المتقدم، ومثلُ الآية في التخاريج المذكورة قولُ الآخر:
1603- فلا واللهَّهِ لا يُلْفَى لما بي * ولا لَلِما بهم أبداً دواءُ
(5/43)
---(1/1751)
قوله {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}: "حتى" غايةٌ متعلقة بقوله "لا يؤمنون" أي: ينتفي عنهم الإيمانُ إلى هذه الغاية وهي تحكيمك وعدمُ وجدانِهم الحرجَ وتسليمُهم لأمرك. والتفت في قوله "ربِّك" من الغَيْبة في قوله {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} رجوعاً إلى قوله "ثم جاؤوك" وقرأ أبو السَّمَّال: "شَجْر" بسكون الجيم هرباً من توالي الحركات وهي ضعيفةٌ، لأنَّ الفتحَ أخو السكون. و"بينهم" ظرف منصوب بـ "شجر" هذا هون الصحيح، وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من "ما" الموصولة، والثاني: أنه حال من فاعل "شجر" وهو نفس الموصول أيضاً في المعنى، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، و"ثم لا يجدوا" عطفٌ على ما بعد "حتى"، "ويَجِدُوا" يَحْتمل أن تكون المتعديةَ لاثنين، فيكونُ الأول "حرجاً" والثاني الجارُّ قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوف، وأن تكون المتعدية لواحد فيجوز في "في أنفسهم" وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "يجدوا" تعلُّقَ الفَضَلات.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "حَرَجاً" لأنَّ صفةَ النكرِة لَمَّا قُدِّمَتْ عليها انتصبَتْ حالاً.
و{مِّمَّا قَضَيْتَ} فيه وجان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفس "حرجاً"؛ لأنك تقول: "خَرَجْتُ من كذا" والثان: أنه متعلق بمحذوف، فهو في محلِ نصبٍ لأنه صفة لـ" حرجاً" و"ما" يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكون بمعنى الذي، أي: حرجاً من قضائك، أومن الذي قضيته، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، فالعائدُ على هذين القولين محذوف.
* { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوااْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً }
(5/44)
---(1/1752)
قوله تعالى: {أَنِ اقْتُلُوااْ}: "أن" فيها وجهان، أحدُهما: أنها المفسرةُ؛ لأنها أتت بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، وهذا أَظْهَرُ. والثاني: أنها مصدريةٌ، وما بعدها من فعل الأمر صلتُها وفيه إشكال من حيث إنه أذا سُبِكَ منهما ومِمَّا بعدها مصدرٌ فاتت الدلالة على الأمر، ألا ترى أنك إذا قلت: "كتبت إليه القيامَ" ولكنهم جَوَّزوا ذلك، واستدلُّوا بقولهم "كتبت إليه بأَنْ قم"، ووجهُ الدلالة أنَّ حرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق، وتحريرُ المبحثِ في كل في "الشرح الكبير للتسهيل".
وقرأ أبو عمرو بكسرِ نون "أَنْ"، وضم واو "أو" وكسرهما حمزة وعاصم، وضَمَّهما باقي السبعة، فالكسرُ على أصل التقاء الساكنين، والضمُّ للإتباع للثالث، إذ هو مضمومٌ ضمةً لازمة، وإنما فَرَّق أبو عمو لأن الواوَ أختُ الضمةِ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ
}. قوله: {مَّا فَعَلُوهُ} الهاء يُحْتمل أن تكون ضمير مصدر "اقتلوا" أو "اخرجوا" أي: ما فعلوا القتل أو ما فعلوا الخروج. وقد أبعد فخرالدين الرازي حيث زعم أنها تعودُ إليهما معاً، لنُبُوِّ الصناعة عنه. [وأجاز أبو البقاء وجهاً رابعاً]: وهو أن يعودَ على المكتوبِ ودَلَّ عليه "كتبنا".
(5/45)
---(1/1753)
قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ} رفعُهُ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ من فاعل "فَعَلوه" وهو المخارُ على النصب؛ لن الكلامً غيرُ موجبٍ، الثاني: أنه معطوفُ على ذلك الضمير المرفوع، و"إلاَّ" حرفُ عطف، وهذا رأي الكوفيين، ولهذه المسألة موضوعٌ غير هذا. وقرأ ابن عامر وجماعة: "إلا قليلاً" نصباً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيراُ الرفَع؛ لأنَّ المعنى موجودٌ معه كما هو موجود مع النصب، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ. والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديرُه: "إلا فعلاً قليلاً" قاله الزمخشري، وفي نظرٌ، إذ الظاهرُ أنَّ "منهم" صفةٌ لـ "قليلاً" ومتى حُمِل القليلُ على غير الأشخاص يَقْلَق هذا التركيب، إذلا فائدةَ حينئذ في ذِكْرِ "منهم".
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ} قد تقدَّم الكلام على نظير هذه المسألة في مواضع، "وما" في "ما يوعظون" موصولةٌ اسمية. والباءُ في "به" تحتمل أن تكونَ المعدِّيةَ دخلت على الموعوظ به، والموعوظُ به على هذا هو التكاليف من الأوامر والنواهي، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّه تعالى ونواهيه مواعظَ لأنها مفترنةٌ بالوعد والوعيد، وأَنْ تكونَ للسبية، والتقدير: ما يوعظون بسببه أي: بسبب تَرْكِه، ودلَّ على التَرءك المحذوفِ قولُه: "ولو أنهم فعلوا" واسمُ كان ضميرٌ عائد على الفعلِ المفهوم من قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواُْ} أي: لكان فعلُ ما يُوعظون به، و"خيراً" خبرها، و"تثبيتاً" تمييز لـ "أشد".
* { وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً }
(5/46)
---(1/1754)
و {وَإِذاً}: حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. وهل هذان المعنيان لازِمان لها، أو تكونُ جواباً فقط؟ قولان، الأول قول الشلوبين تَبَعاً لظاهر قول سيبويه. والثاني: قول الفارسي، فإذا قال القائل: "أزورُك غداً" فقلت: "إذن أكرمَك" فهي عنده جواب وجزاء، وإذا قلت "إذاً أظنَّك صادقاً" كانت حرفَ جواب فقط، وكأنه أخذ هذا من قرينة الحال، وقد تقدَّم أنها من النواصِب للمضارع بشروطٍ ذُكِرت. وقال أبو البقاء: "وإذَنْ جوابٌ ملغاةٌ" فظاهرُ هذه العبارةِ موافقٌ لقول الفارسي، وفيه نظرٌ، لأن الفارسيَّ لا يقول في مثلِ هذه الآية إنها جواب فقط، وكونُها جواباً يحتاجُ إلى شيءٍ مقدَّرٍ. قال الزمخشري: وإذن جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ أيضاً فقيل: لو تثبتوا لآتيناهم لأنَّ "إذَنْ" جوابٌ وجزاء. و "مِنْ لَدُنّا" فيه وجان أظهرُهما: أنه متعلقٌ بـ "أتيناهم" والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حالٌ من "أجراً"؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتء عليها، و"أجراً" مفعولٌ ثانٍ لـ "آتيناهم".
* { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }
و {صِرَاطاً}: مفعولٌ ثانٍ لـ "هدَيْناهم".
* { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً }
(5/47)
---(1/1755)
قوله تعالى: {مِّنَ النَّبِيِّينَ}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه بيانٌ للذين أَنْعَم الله عليهم. والثاني: أنه حالٌ من الضمير المجرور في "عليهم" والثالث: أنه حالٌ من الموصولِ وهو في المعنى كالأول، وعلى هذين الوجهين فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كائنين من النبيين. والرابع: أن يتعلَّق بـ "يُطِعِ" قال الراغب: "اي: {ومَنْ يُطِع الله والرسول من النبيين ومن بعدهم، ويكونُ قوله: {فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} إشارةً إلى الملأ الأعلى، ثم قال: {وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً} ويُبَيِّن ذلك قولُه عليه السلام عند الموت: "اللهم أَلْحِقْني بالرفيق الأعلى" وهذا ظاهرٌ" انتهى. وقد أفسده الشيخ من جهة لامعنى ومن جهة الصناعة. أمَّا مِنْ جهةِ المعنى فلأِنَّ الرسولَ فهو مع ذُكر، ولو جُعل "مِن النبيين" متعلِّقاً بـ" يُطِع" لكان "من النبيين" تفسيراً لـ "مَنْ" الشرطية" فيلزم أن يكونَ في زمانه عليه السلام أو بعده أنبياءُ يطيعونه، وهذا غيرُ ممكنٍ لقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقوله عليه السلام: "لا نبيَّ بعدي" وأمَّا مِنْ جهةِ الصناعةِ فلأِنَّ ما قبل الفاء الواقعةِ جواباً للشرط لا يعمل فيما بعدها، لو قلت: "إنْ تضرب يقم عمروٌ زيداً لم يَجُزْ" وهل هذه الأوصافُ الأربعةُ لصنفٍ واحدٍ من الناس أو لأصنافٍ مختلفة؟ قولان.
قوله: {وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً} في نصبِ "رفيقاً" قولان، أحدهما: أنه تمييزٌ، والثاني: أنه حالٌ، وعلى تقديرِ كونِه تمييزاً في احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ منقولاً من الفاعلية وتقديرهُ: "وحِسُنَ رفيقُ أولئك" فالرفيقُ على هذا غيرُ المميزِّ، ولا يجوزُ دخولُ "مِنْ" عليه.
(5/48)
---(1/1756)
والثاني: ألاَّ يكونَ منقولاً، فيكونُ نفسَ المميِّز، وتدخل عليه "مِنْ" وإنما أتى به هنا مفرداً لأحدِ معنيين: إمَّا الرفيقَ كالخليط والصديق في وقوِعها على المفرد والمثنى والمجموع بلفظٍ واحدٍ، وإمَّا اكتفاءً بالواحد عن الجمع لفَهْمِ المعنى، وحَسَّن ذلك كونُه فاصلةً. ويجوز في "أولئك" أن يكون إشارةً إلى النبين ومَنْ بعدهم، وأَنْ يكونَ إشارةً إلى مَنْ يُطِع اللَّهَ ورسولهَ، وإنَّما جَمَع على معناها، وعلى هذا فيُحتمل أَنْ يقال: إنه راعى لفظ "مَنْ" فأفردَ في قوله "رفيقاً" ومعناها فجمع في قوله "أولئك"، إلا أن البَداءَةَ في ذلك بالحَمْل على اللفظ أحسنُ، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فيها بين الحملِ على اللفظ في "يُطِعْ" ثم على المعنى في "أولئك" ثم على اللفظ في "رفيقاً".
والجمهورُ على فتح الحاء وضم السين من "حَسُن" وقرأ أبو السمَّال بفتحها وسكونِ السين تخفيفاً نحو "عَضْد" في "عَضُد" وهي لغة تميم، ويجوز: "وحُسْن" بضم الحاء وسكون السين، كأنهم نقول حركة العينِ إلى الفاء بعد سَلْبِها حركتَها وهذه لغةُ بعض قيس.
(5/49)
---(1/1757)
وجَعَل الزمخشري هذا من بابِ التعجب فإنه قال: "فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أَحْسَنَ أولئك رفيقاً، ولاستقلاِله بمعنى التعجب قُرئ "وحَسْنَ" بسكون السين، يقول المتعجب: "حَسُنَ الوجهُ وجهُك" و"حَسْن الوجهُ وجهك" بالفتح والضم مع التسكين" قال الشيخ: "وهو تخليطٌ وتركيب مذهب على مذهبٍ، فنقول: اختلفوا في "فَعُل" المراد به المدحُ: فذهب الفارسي وأكثر النحويين، إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط فلا يكون فاعلُه إلا ما يكونُ فاعاً لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فيُجْعَلُ فاعلُه كفاعِلهما، وذلك إذا لم يَدْخُلْه معنى التعجب، وإلى جواز ألحاقه بفعلِ التعجب فلا يَجْرِي مَجْرى نعم وبئس في الفاعل ولا في بقية أحكامهما، فتقول: "لَضَرُبَتْ يَدُكَ" و"لَضَرْبَتِ اليدُ"، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، والتمثيل من مذهب الفارسي، فلم يَتَّبع مذهباً من المذهبين. وأمَّا جَعْلُه التسكينَ والنقلَ دليلاً على كونِه مستقلاً بالتعجب فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّ الفراء حكى ذلك لغةً في غيرِ ما يُراد به التعجب".
* { ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً }
قوله تعالى: {ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ}: "ذلك" مبتدأ، وفي الخبر وجهان، أحدُهما: أنه "الفضلُ" والجارُّ في محلِّ نصب على الحال، والعاملُ فيها معنى الإشارة والثاني: أنه الجارُّ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها معنى الإشارة والثاني: أنه الجارُّ، و"الفضلُ" صفةٌ لاسم الإشارة، ويجوز أن يكون الفضلُ والجارُّ بعدَه خبرين لـ "ذلك" على رأي مَنء بُجيزه قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} قال ابن عطية "ولذلك دخلت الباءُ على اسمِ الله لتدلَّ على الأمر" /، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المسألة مستوفى.
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً }
* {والحَذَر والحِذْر}
(5/50)
---(1/1758)
لغتان بمعنىً. قيل: ولم يُسْمَعْ في هذا التركيب إلا: "خُذْ حِذْرك" بالكسر لا "حَذَرك" قوله: "ثُبات" نصب على الحال، وكذا [" جميعاً"، والمعنى: انفروا جماعاتٍ في تفرقةٍ سَرِيَّةً بعد سرية أو مجتعين كوكبةً واحدة] قال الشيخ: ولم يُقْرأ فيما عَلِمْتُ إلا بكسر التاء". انتهى. وهذه هي اللغة الفصيحة. وبعضُ العرب ينصِبُ جمعَ المؤنثِ السالم، إذا كان معتلِّ اللام معوَّضاً منها تاءُ التأنيث بالفتحة، وأنشد الفراء.
1604- فلمَّا جَلاه بالأُيام تَحيَّزَتْ * ثباتاً عليها ذُلُّها واكتئابُها
وقرئ شاذاً: "ويَجْعلون لله البناتَ" بالفتحة. وحُكِي: "سمعتُ لغاتَهم" وزعم الفارسي أنَّ الوارد من ذلك مفردٌ رُدَّتْ لامُه؛ لأنَّ الأصلَ: "لُغَوَة" فلمَّا رُدَّتِ اللامُ قُلِبَتْ ألفاً، وقد رُدَّ على الفارسي بأنه يلزمه الجمعُ بين العوض والمعوض منه، ويَرُدّث عليه أيضاً القراءةُ المتقدمةُ في "البناتَ" لأنَّ المفردَ منه مكسورُ الفاء، وهذه المسألةُ قد أوْضَحتُها في كتابي "شرح التسهيل" غايةَ الإيضاح.
و"ثبات" جمعُ ثُبَة ووزنُها في الأصلِ: فُعَلة كحُطَمة، وإنما حُذِفت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، وهل لامُها واو أو ياء؟ قولان حجة القول الأول أنها مشتقة من ثَبا يَثْبوا كخلا يَخْلو أي: اجتمع، محاسنَة، وتُجمع بالألف والتاء وبالواو والنون، ويجوز في فائِها حين تُجمع على "ُبين" الضمُّ واكسرُ، وكذا كل أشبهها نحو: "قُلة" و"بُرة" ما لم تُجْمَعْ جمع تكسير. والثُّبَةُ: الجماعةُ من الرجال تكون فوق العشرة. وقيل: الاثنان والثلاثة، وتُصَغَّرُ على "ثُبَيَّة" بردِّ المحذوفِ، وأمَّا "ثُبَةُ الحوضِ" وهي وسَطُه فالمحذوفُ عينُها لأنها من باب يَثُوب الماءُ أي يَرْجِعُ، تُصَغَّر على "ثُوَيْبة" كقولك في تصغير سَنَة: "سُنَيْهة".
(5/51)
---(1/1759)
والنَّفَر: الفَزَعُ، يقال: نَفَر إليه أي: فَزِع إليه، وفي مضارعه لغتان: ضمُّ العين وكسرُها، وقيل: يُقال: نَفَر الرجل يَنْفِر بالكسر، ونَفَرت الدابةُ تنفُر بالضم فَفَرَّقوا بينهما في المضارع، وهذا الفرق يَرُدُّه قراءة الأعمش "فانفُروا" أو انفُروا" بالضم فيهما. والمصدرُ: النَّفير والنُّفور والنَّفْر، والنَّفَر: الجماعةُ كالقوم والرهط.
قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} "منك" خبر مقدم لـ "إنَّ" واسمُها "لَمَنْ" دخلت اللام على الاسم تأكيداً لَمَّا فُصِل بينه وبينهما بالخبر، "ومَنْ يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، واللامُ في "لَيُبَطِّئَنْ" فيها قولان، أصحُّمها: انها جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديره: أقسم الله ليبطِّئَن، والجملتان - أعني القسمَ وجوابه - صلةٌ لـ "مَنْ" أو صفةٌ هلا على حَسَبِ القولين المتقدمين، والعائدُ على كلا التقديرين هو الضمير المرفوعُ بـ "ليبطِّئن" والتقديرُ: وإنَّ منكم للذي - أو لفريقاً" واللَّهِ والقسمِ وجوابِه إذا عَرِيَتْ جملةُ القسمِ من ضمير عائد على الموصول نحو: "جاء الذي أحلفُ باللَّهِ لقد قام أبوه" وجَعَلَه ردَّاً على قدماء النحاةِ حيث زعموا منعَ ذلك، ولا دَلالةً في ذلك، إذ لقائلٍ أن يقولك ذلك القسمُ المحذوفُ لا أقدِّرُه إلا مشتملاً على ضميرٍ عائدِ الموصول.
والقول الثاني - نقله ابن عطية عن بعضِهم - أنها لام التأكيد بعد تأكيد، وهذا خطأُ من قائله. والجمهورُ على "لَيُبَطِّئَنْ" بتشديد الطاء، ومجاهد بالتخفيف، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أن يكون الفعل لازماً ومتعدياً، يقال: أَبْطَأَ وبَطَّأَ بمعنى بَطُؤَ أي: تكاسل وتثبَّط، فهذان لازمان، وإنْ قَدَّر أنهما متعدِّيان فمفعولُهما محذوفٌ أي: ليبطِّئَنْ غيرَه أي: يُثَبِّطه ويُجْبِنُه عن القتال. و"إذا لم أكن" ظرفٌ ناصبُه "أنعم الله".
(5/52)
---(1/1760)
* { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }
قوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ}: الجمهورُ على فتحِ لام "ليقولَنَّ" لأنه فعل مسند إلى ضميرِ "مَنْ" مبنيُّ على الفتح لأجل نون التوكيد. وقرأ الحسن بضمها، فأسند الفعل غلى ضمير "مَنْ" أيضاً لكنْ حملاً له على معناها، والأصلُ: ليقولونَنَّ، وقد تقدَّم تصريفه.
قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} هذه "كَأَنْ" المخففةُ من الثقيلة، وعملُها باقٍ عند البصريين، وزعم الكوفيون أنَّها حين تخفيفِها لا تعمل كما لا تعمل "لكن" مخففةً عند الجمهور، وإعمالُها عند البصريين غالباً في ضمير الأمرِ والشأنِ وهو واجبُ الحذفِ، ولا تعملُ عندَهم في ضميرٍ غيرِه ولا في اسمٍ ظاهرٍ إلا ضرورةً كقوله:
1605- وصدرٍ مشرقِ النَّحْرِ * كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
قول الآخر:
1606- ويوماً تُوافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ * كأنْ ظبيةٍ تَعْطُوا إلى وارِق السَّلَمْ
في إحدى الروايات، وظاهرُ كلام سبيوه أنها تعمل في غير ضمير الشأن في غير الضروة، ونَصُّه يُطالَعُ في كتابه. والجملة المنفية بعدها في محلِّ رفع خبر لها، والجملةُ بعدها إن كانت فعلية فَتُتَلَقَّى بـ "قدر" كقوله:
1607- لا يَهُولَنْكَ اصطلاُؤكَ للحَرْ * بِ فمحذورُها كَأَنْ قد أَلَمَّا
أو بـ "لم" كهذه الآيةِ، وقولُه: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} وقد تُلُقِّيَتْ بـ "لَمَّا" في قولِ عَمَّارِ الكلبي:
1608- بَدَّدَتْ منها الليلاي شَمْلَهمْ * فكأنْ لمَّا يكونوا قبلُ ثَمّْ
(5/53)
---(1/1761)
قال الشيخ: "ويَحْتاج مثلُ هذا إلى سماع من العَرَب" وقال ابن عطية: "و"كَأَنْ" مضمنةٌ معنى التبيه، ولكنها ليت كالثقيلة في الاحتياجِ إلى الاسم والخبرِ، وإنما تَجِيءُ بعدَها الجملُ" وظاهرُ هذه العبارة أنها لا تعمل حين تخيفيِها، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين لا البصريين، ويُحْتمل أنه أراد بذلك أنَّ الجملةَ بعدها لا تتاثرُ بها لفظاً لأنَّ اسمَها محذوفٌ والجملةُ خبرٌ لها.
وقرأ ابن كثير وحفص "يَكُنْ" بالياءِ، لأن المودة في معنى الودِّ، ولأنه قد فُصِل بينهما وبين فِعْلِها، والباقون بالتاء اعتباراً بلفظِها. و"يكون" تحتمل أنْ تكونَ تامةً، فيتعلق الظرفُ بها أو بمحذوف؛ لأنه حالٌ من "مودة" إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، وأضنْ تكونَ ناقصةً فيتعلَّقُ الظرفُ بمحذوفٍ على أنه خبرها.
(5/54)
---(1/1762)
واختلف الناسُ في هذه الجملةِ - على ثلاثةِ أقوال: الأول: أنها لا محلَّ لها من الإعراب اعتراضيةٌ، وعلى هذا فما المُعْتَرَضُ بينهما؟ وجهان الأول منهما: أنها معترضةٌ بين جملةِ الشرطِ التي هي "فإنْ أصابَتْكم" وبين جملةِ القسم التي هي "ولَئِنْ أصابَتْكم" والتقديرُ: "فإنْ أصابَتْكم مصيبةٌ قال: قد أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ إذ لم أَكُنْ معهم شهيداً، كأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودةٌ، ولَئِنْ أصابكم فضلٌ، فأُخِّرت الجملةُ المعتَرضُ بها - أعني قولَه: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} - والنيةُ بها التوسطُ، وهذا قول الزجاج وبته الماتريدي.وردَّ الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح / لأنه لا يُفْصَلُ بين بعضِ الجملة وبعضِ ما يتعلَّق بجملةٍ أخرى. قتل: هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب، يدل على ذكل ما أذكُره عنه من تفسير الإعراب. الثاني من الوجهين: أن تكونَ معترضةً بين القولِ ومعفولِه، والأصل: "ليقولَنَّ يا ليتني كنتُ معهم كأن لم تَكُنْ" وعلى هذا أكثر الناس، ولكن اختلفَتْ عبارتُهم في ذلك، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصِهم فَلْنَنْقلها. فقال الزمخشري: "اعتراضٌ بين الفعل الذي هو "ليقولَنَّ" وبين مفعوِله وهو "ياليتني" والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم مودةٌ؛ لأن المنافقين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائلَ في الباطن، والزاهر أنه تهكمُ لأنهم كانوا اَعْدى عدوٍ للمؤمين وأشدَّهم حسداً لهم، فيكف يُوصَفُون بالمودةِ إلا على وجه العكس والتهكم؟" وقال الزجاج: "هذه الجملةُ اعتراضٌ أخبرَ تعالى بذلك؛ لأنهم كانا يوادُّون المؤمنينَ" وقال ابن عطية: "المنافِقُ يعاطِي المؤمنين المودةَ ويعاهِدُ على التزامِ كلف الإسلام، ثم يتخلَّفُ نِفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنَّى عندما ينكشِفُ الغَيْبُ الظفَر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُن} التفاتةً بليغةً واعتراضاً(1/1763)
(5/55)
---
بني التقول والمقول بلفظٍ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْح فِعْلِهم" وقال الرازي: "هو اعتراض في غاية الحسنِ لأنَّ مَنْ أحبَّ إنساناً فَرِحَ لفرحِه وحزن لحزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهارٌ للعداوةِ، فحكمى تعالى سرورَ المنافقِ عند نكبة المسلمين، ثم أراد أن يَحْكِي حُزْنَه عند دَوْلِة المسلمين بسبب فواته الغنيمَة، فَقَبْلَ أن يَذْكُرَ الكلامَ بتمامِه ألقى قوله: "كأن لم تكن" والمراد العجيب، كأنه يقول: انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق كَأَنْ لم تَكُنْ بينكم وبينه مودةٌ ولا مخالطةٌ أصلاً، والذي حَسَّن الاعتراضَ بهذه الجملة - وإنْ كان محلُّها التأخير - كونُ ما عبدها فاصلةً وهي ليست بفاصلة" وقال الفرسي: "هذه الجملة من قولِ المنافقين للذين أَقْعدوهم عن الجهاد وخَرَجوا هم كأن لم تكمن بينكم وبينه - أي وبين الرسول عليه السلام - [مودةٌ] فيُخْرِجَكم معه لتأخذوا من الغنيمة، ليُبْغِضُوا بذلك الرسولَ إليهم" فأعاد الضميرَ في "بينه" على النبي عليه السلام.
وتبع الفارسي في ذلك مقاتلاً، قال مقالت: "معناه: كأنه لي من أهل مِلَّتكم ولا مودةَ بينكم" يريد أن المبطئَ قال لِمَنْ تخلَّف عن الغزو من المنافقين وضَعَفَةِ المؤمنين ومَنْ تخلَّف بإذْن: كَأَنْ لم تكن بينكم وبين محمدٍ مؤودةٌ فَيُخْرِجْكم إلى الجهادِ فتفوزا بما فاز.
الثاني: من الأقوال: أنها في محل نصب بالقول، فيكون تعالى قد حكى بالقول جمليتن: جملةَ التشبيه وجملة التمني، وهذا زاهرٌ على قول مقاتل والفارسي حيث زعما أنَّ الضمير في "بينه" للرسول عليه السلام.
الثالث: انها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المسستتر في "ليقولَنَّ" كما تقول: "مررت بزيدٍ وكأنْ لم يكنْ بينكم وبينه معرفةٌ فضلاً عن مودةٍ" ونُقل هذا عن الزجاج، وتبعه أبو البقاء في ذلك. وإنما أطلْتُ النفَس في هذه الآية لأني رايتُ أقوالَ الناسِ فيها منتشرةً فضَمَمْتُها.
(5/56)
---(1/1764)
و"يا" فيها قولان أحدُهما: وهو قولُ الفارسيّ - أنها لمجردِ التنبيه فلا يُقَدَّر منادى محذوفٌ، ولذك باشَرَت الحرف. والثاني: أن المنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاء ليتني، وهذا الخلاف جارٍ فيها إذا باشرت حرفاً أو فعلاً، كقراءة الكسائي: "ألا يا اسْجُدوا" وقوله:
1609- ألا يا استقياني قبل غارةِ سنجالِ * ......................
وقوله:
1610- يا حبَّذا جَبَلُ الريَّانِ من جبلٍ * .....................
على القول بفعليةِ "حَبَّذا" ولا يُفعل ذلك إلا بـ "يا" خاصةً دونَ سائر حروف النداء لأنها أمُّ الباب، وقد كَثُرَتْ مباشرتُها لـ "ليت" دونَ سائرِ الحروف.
قوله: {فَأَفُوزَ} الجمهور على نصبه في جواب التمني، والكوفيون يزعمون نصبه بالخلاف، والجَرْميُّ يزعم نصبَه بنفسِ الفاء، والصحيح الأول، لأن الفاء تَعْطِفُ هذا المصدر المؤول مِنْ "أن" والفعلِ على مصدر متوهم، لن التقدير: يا ليت لي كوناً معهم - أو مصاحبتَهم - ففوزاً، ولهذه المذاهب - تصحيحاً وإبطالاً - موضوعٌ غيرُ هذا قد نَبَّهْتُ عليه غير مرةٍ. وقرأ الحسن "فأفوزُ" رفعاً على أحد وجهين: إمَّا الاستئنافِ أي: فأنا أفوزُ، أو عطفاً على "كنت" فيكون داخلاً في حيِّز التمني أيضاً، فيكون الكون معهم والفوزُ العظيم مُتَمَنَّين جميعاً.
* { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }
(5/57)
---(1/1765)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ}: فاعل بقوله: {فَلْيُقَاتِلْ} و"يَشْرون" يحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون بمعنى يشترون. فإنْ قيل: قد قررت أن الباء إنما تدخُل على المتروك،والظاهرُ هنا أنها دَخَلَتْ على المأخوذِ. فالجوابُ: أنَّ ا لمرادَ بالذين يشترون المنافقون المبطِّئُون عن الجهاد أمَروا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاق، ويُخْلِصوا الإيمانَ باللَّهِ ورسوله، ويجاهدون في سبيل الله، فلم تَدْخُلْ إلا على المتروك؛ لأنَّ المنافقين تاركون للآخرة آخذون للدنيا. والثاني: أنَّ "يشرون" بمعنى يَبيعون، ويكون المرادَ بالذين يَشْرُون: المؤمنون المخلفون عن الجهاد المُؤْثِرون الآجلةَ على العاجلة، ونظيرُ هذه الآية في كون "شرى" تحتمل الاشتراء والبيع باعتبارين قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وسيأتي. وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا في أول البقرة.
والجمهورُ على سكون لام "فَلْيقاتل" لأنها وقعت بعد الفاء فأشبهت اللفظة كتفاً. وقُرئ بكسرها وهو الأصل. والجمهور على بناء "فيُقْتل" للمفعول، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل، والأول أظهرُ، لقوله: "أو يَغْلِب" ويُقْتَلْ" ويُغْلِب" عطفٌ على الشرط، والفاء في "فسوف" جوابه، لا يجوز حذفها. والمشهورُ إظهار هذه الباء عند الفاء، وأدغمها أبو عمرو والكسائي وهشام وخَلاَّد بخلاف عنه. والجمهور على "نُؤْتيه" بنون العظمة، وطلحة بن مصرف الأعمش بياء الغيبة، وهما ظاهرتان.
وقدَّم قولَه: {فَيُقْتَلْ} لأنها درجةُ شهادة وهي أعظمُ من غيرها، وثَنَّى بالغَلَبة وهي تشلم نوعين: قتل أعداءِ الله والظفرَ بالغنيمة، والأولى أعظمُ من الثانية.
(5/58)
---(1/1766)
* { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً }
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ}: هذا استفهامٌ يُراج به التحريضُ والأمرُ بالجهاد. و"ما" مبتدأُ" و"لكم" خبرُه، أي: أيُّ شيء استقرَ لكم. وجملةُ قوله "لا تقاتلون" فيها وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي: ما لكم غيرَ مقاتلين، أَنْكَرَ عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة، وقد صَرَّح بالحال بعد هذا التركيب في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وقالوا في مثل هذه الحال: إنها لازمةٌ / لأنَّ الكلامَ لايتم دونها، وفيه نظر. والعاملُ في هه الحال الاستقراُ المقدَّر كقولِك: ما لك ضاحكاً؟ والوجه الثاني: أن الأصل: "وما لكم في ألا تقتلوا" فَحُذِفَتْ "في" فبقي "أَنْ لا تقاتلوا" فجرى فيها الخلافُ المشهور، ثم حُذِفَتْ "أَنْ" الناصبة فارتفع الفعل بعدها كقولهم: "تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه" وقوله:
1611- ألا أيُّهذا الزاجري أحضُرُ الوغى * ..................
في إحدى الروايتين، وهذا يؤيد كونَ الحالِ ليس تلازمةٍ.
(5/59)
---(1/1767)
قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} فيه ثلاثة أوجه. أظهرُها: أنه مجرورٌ عطفاً على اسم الله تعالى أي: وفي سبيل المستضعفين. والثاني: - وإليه ذهبَ الزجاج المبرد- أن يكونَ مجرواً عطفاً على نفس "سبيل". قال أبو البقاء - بعد أَنْ حكاه عن المبرد وحده -: "وليس بشيء" كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجهُ ذلك، ووجهُ أنَّ تقديره: "وفي خلاص المستضعفين" والثالث- وإليه ذهب الزمخشري-: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص تقديره: وأَخُصُّ من سبيلِ الله خلاص المستضعفين، لأنَّ سبيلَ اللَّهِ عامٌّ في كلِ خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور. والجمهورُ على "والمستضعفين" بواو العطف، وقرأ ابن شهاب: "وفي سبيل الله المستضعفين. وفيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ حرفُ العطف مقدراً كقولهم: "أكلت لحماً تمراً سمكاً" والثاني: أن يكونَ دلاً من "سبيل الله" أي: في سبيلِ الله سبيلِ المستضعفين، لأنَّ سبيلَهم سبيلُ الله تعالى.
قوله: {مِنَ الرِّجَالِ} فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من المستضعفين.
(5/60)
---(1/1768)
والثاني: أنَّ "مِنْ" لبيان الجنس، والوِلْدان قيل: جمع وَلَد، كوَرَل ووِرْلان. المراد بهم: الصبيان وقيل: العبيد والإماء، يقال للعبد "وليد وللأمة فغلَّب المذكر على المؤمنث لأندارجِه فيه. و"الذين يقولون" فيه وجهنا،أحدُهما: أن يكونَ مجروراً على أنه صفةٌ: إمَّا للمستضعفين وإمَّا للرجال ومَنْ بعدَهم، وغَلَّب المذكرَ على المؤنث. وقال أبو البقاء "الذين يقولون" في موضع جر صفةً لِمنْ عقل من المذكورين" كأنه تَوَهَّم أن الوِلدان [هم] الصبيانُ، والصبيانُ لا يَعْقِلون، فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذكورين وهم الرجال والنساء دونَ الوِلْدان، لأنَّ جَمْعَ السلامة في المذكَّر يُشْترط فيه العقلُ، "والذين" جارٍ مجراه، وهذه غَفْلةٌ؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعاقلِ ما كان من جنس العقلاء وإنْ كان مسلوبَ العقلِ، ويَدُلُّ عيله قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ} فالمرادُ هنا بالطفل الصبيانُ الصغار، ومع ذلك وَصَفَهم بالذين. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص.
(5/61)
---(1/1769)
قوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} "الظالم" صفةٌ للقرية، و"أهلُها" مرفوعٌ به على الفاعلية. و"أل" في "الظالم" موصولةٌ بمعنى التي، أي: التي ظَلَم أهلها. فالظلمُ جارٍ على القرية لفظاً وهو لِما بعدها معنى، ومثلُه: "مَرَرْتُ برجلٍ حسن غلامُه" قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ ذكَّر "الظالم" وموصوفُه مؤنثٌ؟ قلت: هو وصفٌ للقرية إلا أنه مستندٌ إلى أهلها فأُعْطِي إعرابَ "القرية" لأنه صفتها وذُكِّر لإسنادِه إلى الأهل، كما تقول: مِنْ هذه القريةِ التي ظَلَم أهلُها، ولو أُنِّث فقيل: "الظالمةُ أهلُها" لجازَ، لا لتأنيثِ الموصوفِ، بل لأن الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ. فإن قتل: هل يجوزُ: مِنْ هذه القريةِ الظالمين أهلُها؟ قلت: نَعَمْ كما [تقول]: "التي ظَلَموا أهلها" على لغة "أكلوني البراغيث" ومنه: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} انتهى وهذه قاعدةٌ كلية: أنَّ الصفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هي له سواءً كانت خبراً أم نعتاً أم حالاً يُنْعَتُ ما قبلَها في اثنين من خمسة: واحدٍ من ألقاب الإعراب، وواحد من التنكير والتعريفِ، وأمَّا بالنسبةِ إلى التذكير والتأنيث والإفراد وضدَّيه فيُحْسَبُ المرفوعُ بها كالفعل، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرة. ويجبُ أيضاً إبرازُ الضميرِ منها مطلقاً - أعني سواءً أَلْبس أم لم يُلْبِس - وأمَّا إذا كان المرفوعُ بها اسماً ظاهراً فلا حاجةَ إلى رَفْعها الضميرَ، إلا أنه لا بد من راجعٍ يرجع إلى الاسمِ الموصوف بها لفظاً كهذه الآية. وقد أوضحتُ ذلك وَبيَّنْتُه في هذا الكتاب وفي شرحي للتسهيل، وهذا بخلاف الفعلِ إذا وُصِف به أو أُخْبر به أو وقع حالاً لشيء لفظاً وهو لغيره معنى، فإن الضميرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ نحو: "زيدٌ هذه يضرُبها" و"هند زيدٌ تضربه" عن غير ضميرٍ بارز لقوة الفعل وضَعْفِ الاسم في العمل، وسواءً لم يُلْبِس - كما تقدَّم تمثيله - أو أَلْبس نحو: "زيدٌ عمروٌ يضربه"(1/1770)
(5/62)
---
إذا قَصَدْتَ أن زيداً هو الضاربُ لعمرو، هذا مقتضى مذهبِ البصريينَ، نصَّ علي مكي وغيره، إلا أنَّه قال قبل ذلك: "إلا أنَّ اسم الفاعل إذا كان خبراً أو صفة أو حالاً لغير مَنْ لم يَسْتَتِرْ فيه ضميرٌ ولا بد من إظهاره، وكذلك إنْ عُطِف على غير مَنْ هو له" قلت: هذه الزيادةُ لم يذكرها النحوييون وتمثيلُها عَسِرٌ. وأمَّا ابنُ مالك فإنه سَوَّى بين الفعل والوصف، يعني إنْ أَلْبس وجب الإِبرازُ حتى في الفعل نحو: "زيدٌ عَمْروٌ يضربه هو" وإن لم يُلْبِس جاز نحو: "زيد هند يضربها" وهذا مقتضى مذهبِ الكوفيين فإنهم عَلَّلوا باللبس، وفي الجملة ففي المسألة خلافٌ.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوااْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }
(5/63)
---(1/1771)
قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ }: "إذا" هنا فجائية، وقد تقدم أن فيها ثلاثةَ مذاهب، أحدها- وهو الأصح: أنها ظرف مكان، والثاني: انها زمان، والثالث: أنها حرفٌ، ولهذه المذاهبِ موضوعٌ غير هذا، وقد قيل في "إذا" هذه إنها فجائية مكانية، وأنها جواب لـ "لَمَّا" في قوله {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ}، وعلى هذا ففيها وجهان، أحدهما: أنها خبر مقدم، و"فريق" مبتدأ و"منهم" صفةٌ لـ "فريق"، وكذلك "يَخْشَون"، ويجوزُ أَنْ يكونَ "يخشون" حالاً من "فرق" لاختصاصِه بالوصفِ، والتقديرُ: "فبالحضرةِ فريقٌ كائنق منهم خاشون أو خاشين" والثاني: أن يكونَ "فريقٌ" مبتدأً، و"منهم" صفتَه" وهو المسوِّغُ للابتداء به، و"يَخْشَوْن" جملةٌ خبريةٌ وهو العاملُ في "إذا"، وعلى القول الأول العاملُ فيها محذوفٌ على قاعدِة الظروف الواقعةِ خبراً. وقيل: إنها هنا طرفُ زمانٍ، وهذا فاسدٌ؛ لأنها إذا ذاك لا بد لها مِنْ عاملٍ، وعاملُها إمَّا ما قبلها وإمَّا ما بعدها، لا جائز أن يكون ما قبلها، لأن ما قبلها وهو "كُتب" ماض لفظاً ومعنى وهي للاستقبال، فاستحال ذلك. فإن قيل: تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى "إذا" قيل: لا يجوز ذلك لأنه يَصيرُ التقدير: فلمَّا كُتِب عليم القتال في وقتِ خشيةِ فريقٍ منهم، وهذا يفتقرُ إلى جواب "لَمَّا" ولا جوابَ لها، ولا جائزٌ أن يكونَ ما بعدها؛ لأنَّ العاملَ فيها إذا كان بعدها كان جواباً لها، ولا جوابَ لها هنا، وكان قد تقدَّم أولَ البقرة أنَّ في "لَمَّا" قولين / قولَ سيبويه: إنها حرف وجوب لوجوب، وقولَ الفارسي: إنها ظرفُ زمانٍ بمعنى "حين" وتقدَّم الردُّ عليه هناك بأنها أُجيبت بـ "ما" النافيةِ وإذا الفجائيةِ، وأنَّ ما بعدها لا يعمل فيها قبلها فَأَغْنى عن إعادتهِ، ولا يجوزُ أن يَعمل ما يليها فيها؛ لأنه في محلِّ خفض بالإضافة على زَعْمهِ والمضافُ إليه لا يعمل في المضاف. وقد أجابَ بعضُهم بأنَّ العاملَ فيها هنا معنى "يَخْشَوْن"(1/1772)
(5/64)
---
كأنه قيل: جَزِعوا، قال: "وجَزعوا هو العاملُ في "إذا" وهذه الآيةُ مشكلةٌ؛ لأنَّ فيها طرفين أحدُهما لِما مضى والآخرُ لِما يُسْتقبل". انتهى.
قوله: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها - وهو المشهور عند المُعْربين: انها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: خشيةً كخشية الله. والثاني - وهو المقرر من مذهب سيبويه غيرَ مرة - أنها في محل نصب على الحال من ضمير الشخية المحذوف أي: يشخونها الناسَ، أي: يخشون الخشيةَ الناسَ مشبهةً خشيةَ الله. والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضمي في "يَخْشَوْن" أي: يَخْشَون الناسَ مثلَ أهل خشية الله أي: مشبهين لأهل خشية الله أو أشدَّ خشية أي: أشدَّ خشيةً من أهل خشية الله. و"اشدَّ" معطوف على الحال، قاله الزمخشري. ثم قال: "فإنْ قلت: لِمَ عَدَلْتَ عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدِّرْه: يَخْشَوْن خشيةً [مثل خشية] الله بمعنى: مثلَ ما يخشى الله. قلت: أَبَى ذلك قولُه {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حكمٍ واحدٍ، ولو قلت: "يخشون الناسَ أشدَّ خشيةً" لم يكن إلا حالاً من ضميرِ الفريقِ، ولم ينتصِبْ انتصابَ المصدر لأنك لا تقول: "خَشِي فلانٌ أشدَّ خشيةً" فتنصِبُ "خشية" وأنت تريد المصرد، إنما تقول "أشدَّ خشيةٍ" فتجرُّها، وإذا نَصَبْتَها لم يكن "أشدَّ خشيةً" إلا عبارةً عن الفاعلِ حالاً منه، اللهم إلا أن تَجْعَلَ الخشيةَ خاشيةً على حدِّ قولِهم: "جَدَّ جَدُّه" فتزعم أنَّ معناه: يخشون الناسَ خشيةً مثل خشيةٍ أشدَّ خشيةً من خشية الله، ويجوز على هذا أن يكونَ محلُّ "أشدُّ" مجروراً عطفاً على "خشية الله" تريد كشخية الله أو كشخية أشدَّ منها". انتهى.
(5/65)
---(1/1773)
ويجوز نصبُ "خشيةً" على وجه آخر وهو العطف على محل الكاف، وينتصب "أشدَّ" حينئذ على الحال من "خشية" لأنه في الأصلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل: يخشون الناسَ مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ منها. فلا ينتصب "خشية" تمييزاً حتى يلزم منه ما ذكره الزمخشري ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا عند قوله {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} والمصدرُ مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي: كشخيتهم اللَّهَ. و"أو" تحتمل الأوجه المذكروة في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ويجوز أن تكون للتنويع: يعني أن منهم مَنْ يخشاهم كخشية الله، ومنهم مَنْ يخشاهم أشدَّ خشية من خشية الله. و"لولا أخَّرْتَنا" "لولا" تحضيضةٌ. وقرأ ابن كثير والأخَوان: "لا يُظْلَمون" بالغيبة جرياً على الغائبين قبله، والباقون بالخطاب التفاتاً. و"فَتيلاً" قد تقدَّم إعرابُه.
* { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَاؤُلااءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }
قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ}: "أين" اسم شرط يجزم فعلين و "ما" زائدة على سبيل الجواز مؤكدةٌ لها، و"أين" ظرف مكان و"تكونوا" مجزومٌ بها، و"يُدْرِكْكم" جوابُه. والجمهورُ على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان: "يدرِكُكم" برفعه، فخرَّجه المبرد على حَذْفِ الفاء أي: فيدرككم الموت. ومثلْه قولُ الآخر:
1612- يا أقرعُ * بنَ حابسٍ يا أقرعُ إنك إنْ يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
(5/66)
---(1/1774)
وهذا تخريج المبرد، وسيبويه يزعم أنه ليس بجواب، إنما هو دالٌ على الجواب والنيةُ به التقديمُ. وفي البيت تخريجٌ آخر وهو أن يكون "يصرعُ" المرفوعُ خبراً لـ "إنك" والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه ما دَلَّ عليه قوله "إنك تُصْرَعُ" كقوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وخَرَّجه الزمخشري على التوهَّم فإنه قال: "ويجوز أن يقال: حُمِل على ما يقع موقعَ "أينما تكونوا" وهو "أينما كنتم" كما حُمِل "ولا ناعبٍ" على ما يقع موقع ليسوا مصلحين وهو "ليسوا بمصلحين" فرَفَع كما رفع زهير:
1613- ................ * يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال: "أينما كنتم" وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ * يقولُ ...............
وفي رفعه الوجهان المذكوران عن سيبويه والمبرد. ورَدَّ عليه الشيخ بأن العطفَ على التوهم لا ينقاس، ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حذف جواب الشرط، ولا يُحْذَفُ إلا إذا كان فعل الشرط ماضياً، لو قلت: "أنت ظالمُ إنْ تفعل" لم يجز. وهذا - كما رأيتَ - مضارعٌ. وفي هذا الردِّ نظرٌ لا يَخْفَى.
(5/67)
---(1/1775)
"ولو كنتم" قالوا: هي بمعنى "إنْ" وجوابُها محذوف أي: لأردككم. وذكر الزمخشري فيه قولاً غيريباً من عند نفسِه فقال: "ويجوزُ أن يتصل بقوله {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لأنَّ انتفاءَ الظلم ظاهراً إنما هو في الآخرة لقوله:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} وأما من حيث الصناعةُ النحوية فإنَّ ظاهرَ كلامِه يَدُلُّ على أن "أينما تكونوا" متعلقٌ بقوله: {ولا تُظْلمون} بمعنى ما فَسَّره، وهذا لا يجوز لأن أسماءَ الشرط لها صدرُ الكلام فلا يتقدَّم عامُلها عليها، فإنْ وَرَدَ مثلُ: "اضربْ زيداً متى جاء" قُدِّر له عاملٌ يدلُّ عليه "اضرب" لا نفسُ "اضرب" المتقدم. فإن قيل: فكذلك يُقَدر الزمخشري عاملاً يدلُّ عليه "ولا تُظْلمون" تقديره: "أينما تكونوا فلا تظلمون" فحذف "فلا تظلمون" لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإشكال المذكور. قيل: لا يمكن ذلك لأنه حينئذ يُحذف جواب الشرط وفعلُ الشرط مضارع، وقد تقدم أنه لايكون إلا ماضياً" وفي هذا الردِّ نظرٌ، لأنه أراد تفسير المعنى. قوله: "ولا يناسب أن يكون متصلاً بقوله: "ولا تظلمون" ممنوعُ، بل هو مناسب، وقد أوضحه الزمخشري بما تقدَّم أحسنَ إيضاح.
والجملة الامتناعية في محلِّ نصب على الحال أي: أينما تكونوا من الأمكنة يدركْكم الموت، ولو كانت حالُكم أنكم في هذه البروج فيُفْهَمُ أن إداركَه لهم في غيرها بطريق الأَوْلى والأَحْرى، وقريبٌ منه: "أعطُوا السائل ولو على فرسٍ" والجملةُ الشرطية تحتمل وجهين، أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب لأنها استئنافُ إخبارٍ، أخبر تعالى أنه لا يفوتُ الموتَ أحدٌ ومنه قولُ زهير:
1614- ومَنْ هابَ أسبابَ المنايا يَنَلْنَه * ولو رامَ أسباب السماء بسُلَّمِ
والثاني: أنها في محل نصب بالقول قبلها / أي: قُلْ متاعث الدنيا قليل، وقل أيضاً: أينما تكونوا.
(5/68)
---(1/1776)
والجمهور على "مُشَيَّدة" بفتح الياء اسم مفعول. ونعيم بن ميسرة بكسرها، نسَبَ الفعلَ إليها مجازاً كقولهم: "قصيدةٌ شاعرة"، والموصوفُ بذلك أهلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مبالغةً في الوصف.
والبُروج: الحصونُ مأخوذةٌ من "التبرُّج" وهو الإظهارُ، ومنه: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} والبَرَجُ في العين سَعَتُها، ومنه قولُ ذي الرمة:
1615- بيضاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في غَنجٍ * كأنَّها فِضةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقولهم: "ثوبٌ مُبَرَّجٌ" أي: عليه صورُ البروج كقولهم: "مِرْطٌ مُرَجَّل" أي: عليه صورُ الرجال، يروى بالجيم والحاء. والمشيَّدة: المصنوعة بالشِّيد وهو الجِصُّ، ويقال: "شاد البناء وشَيَّده" كَرَّرالعين للتكثير. ومن مجيء "شاد" قولُ الأسود:
1616- شادَه مرمراً وجَلَّله كِلْـ * ـسَاً فللطير في ذُراه وكُورُ
ويقال: "أشاد" أيضاً فيكون فَعَل وأَفْعل بمعنى.
ووقف أبو عمرو والكسائي - بخلاف عنه - على "ما" في قوله "فما لهؤلاء" وفي قوله: {مَالِ هَاذَا الرَّسُولِ} وفي قوله: {مَالِ هَاذَا الْكِتَابِ} وفي قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} والباقون على اللام التي لجرِّ دون مجرورها إتباعاً للرسم، وهذا ينبغي أن لا يجوز - أعني الوقفين - لأنَّ الأول يُوقف فيه على المبتدأ دونَ خبرِه، والثاني يُوقف فيه على حرفِ الجَرِّ دونَ مجرورِه، وإنما يجوزُ ذك لضررورة قطعِ النفَس أو ابتلاءٍ.
* { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }
(5/69)
---(1/1777)
قوله تعالى: {َمَّآ أَصَابَك}: في "ما" هذه قولان، أحدهما: أنها شرطيةٌ وهو قول أبي البقاء وضَعَّف أن تكونَ موصولةً قال: "ولا يَحْسُن أن تكونَ بمعنى الذي؛ لأنَّ ذلك يقتضي أن يكون المصيبُ لهم ماضياً مخصَّصاً، والمعنى على العمومِ والشرطيةُ أشبهُ، والمرادُ بالآيةِ الخِصْب والجَدْب ولذلك لم يَقُلْ: ما أصبت"، انتهى. يعني أنَّ بعضَهم يقول: إنَّ المرادَ بالحسنة الطاعةُ وبالسيئةِ المعصيةُ، ولو كان هذا مراداً لقال: {مَّآ أَصَابَك} لأنه الفاعلُ للحسنةِ والسيئة جميعاً، فلا تضاف إليه إلا بفعلِه لهما. والثاني: أنها مصولةٌ بمعنى الذي وإليه ذهب مكي، ومَنَع أن تكونض شرطية قال: "وليسَتْ للشرِط لأنها نزلت في شيءٍ بعينه وهو الجّدْب والخِصْب والشرطُ لا يكون إلا مبهماً، يجوزُ أَنْ يقع وألاَّ يقعَ، وإنما دخلت الفاءُ للإبهام الذي في "الذي" مع أن صلتَه فعلٌ، فدلَّ ذلك على أنَّ الآيةَ ليست في المعاصي والطاعات كما قال أهلُ الزَّيْغ، وأيضاً فإنَّ اللفظَ "ما أصابَك" ولم يقل "ما أَصَبْتَ" انتهى. والأولُ أظهرُ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصلٌ في الإبهام - كما ذكر أبو البقاء - والموصلةُ فبالحمل عليها. وقولُ مكيّ: "لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه" هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه به حتى يرادَ به الإبهامُ لا شيءَ بعينه، وإلاَّ فمتى أُريد به شيءٌ بعينه لم يُشَبَّه بالشرط فلم تَدْخُلِ الفاءُ في خره، نَصَّ النحويون على ذلك، وفي المسألةِ خلافٌ منتشر، ليس هذا موضعَه. فعلى الأول "أصابَك" في محلِّ جزم بالشرط، وعلى الثاني لا مَحَلَّ له لأنه صلة.
(5/70)
---(1/1778)
و "من حسنةٍ" الكلامُ فيه كالكلامِ في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} وقد تقدَّم والفاءُ في "فَمِنَ الله" جوابُ الشرط على الأولِ وزائدةٌ على الثاني، والجارُّ بعدها خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه: فهو من الله، والجملةُ: إمَّا في محلِّ جزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ القولين. واخُتِلفَ في كافِ الخطاب: فقيل: المرادُ كلُّ أحدٍ، وقيل: الرسول والمرادُ أمتُه: وقيل: الفريقُ في قولِه "إذا فريقٌ" وذلك لأن "فريقاً" اسمُ جمعٍ فله لفظٌ ومعنىً، فراعَى لفظَه فَأَفْرَدَ، كقوله:
1617- تفرَّق أهلانا بِبَيْنٍ فمنهمُ * فريقٌ أقامَ واستقلَّ فريقُ
وقيل في قوله {فَمِن نَّفْسِكَ}: إنَّ همزةَ الاستفهام محذوفةٌ تقديرُه: أفمِنْ نفسِك، وهو كثير كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} وقوله تعالى: {بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّي} ومنه:
1618- رَفَوْني وقالوا: يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ * فقلتُ وأنكرءتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ
وقوله:
1619- أفرحُ أَنْ أُرْزَأ الكرامَ وأنْ * أُورَثَ ذَوْدَاً شَصائِصاً نَبْلاً
تقديره: وأتلك، واهذا ربي، وأهمُ هُم، وأأفرحُ" وها لم يُجِزْه من النحاة إلا الأخفشُ، وأمَّا غيره فمل يُجِزْه إلا قبل "أم" كقوله:
1620- لَعَمْرُكَ ما أدري وإنْ كنت؟ُ دارِياً * بسبعِ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمانِ
وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدر أي: لا يكادونَ يَفْقهون حديثاً يقولون: ما أصابك.
وقرأت عائشة: "فَمَنْ نفسُك" بفتح ميم "من" ورفع السين، على الابتداء والخبر، أي: أيُّ شيءٍ نفسُك حتى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ قوله: "رسولاً فيه وجهان، أحدهما: أنه حال مؤكدة والثاني: أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال، ومن مجيء "رسول مصدراً قوله:
1621- لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهم * بِسِرِّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
(5/71)
---(1/1779)
أي بإرسال، بمعنى رسالة. و"للناس" يتعلق بـ "أرسلناك" واللام للعلة. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من "رسولاً" كأنه جَعَله في الأصل صفةً للنكرة فَقُدِّم عليها، وفيه نظر.
* { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
و{حَفِيظاً}: حال من كاف "أرسلناك" و"عليهم" متعلق بـ "حفيظاً" وأجاز فيه أبو الباقء ما تقدم في "للناس".
* { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }
قوله تعالى: {طَاعَةٌ}: في رفعِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: "أمرٌ طاعةٌ" ولا يجوز إظهارُ هذا المبتدأ لأن الخبر مصدر بدلٌ من اللفظ بفعلِه. والثاني: أنه مبتدأ والحبر محذوف أي: مِنَّا طاعة، أو: عندنا طاعةٌ. قال مكي: "ويجوز في الكلامِ النصبُ على المصدر". وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء "بَيَّت" في طاء "طائفة" لتقارُبِهما، ولم يَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيث لكونه مجازياً. و"منهم" صفةٌ لـ "طائفة"، والضمير في "تقول" يحتمل أن يكون ضمير خطاب للرسول عليه السلام أي: غيرَ الذي تقول وترسم به يا محمد. ويؤيِّده قراءة عبد الله: "بَيَّتَ مُبَيِّتٌ منهم" وأن يكونَ ضميرَ غَيْبة للطائفة أي: تقول هي. وقرأ يحيى ابن يعمر: "يقول" بياء الغيبة، فيحتمل أن يعود الضميرُ على الرسول بالمعنى المتقدم، وأن يعود على الطائفة. ولم يؤنث الضميرَ لأن الطائفة في معنى الفريق والقوم. و"ما" في "ما يبيِّنون" يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفة أو مصدرية.
* { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }
(5/72)
---(1/1780)
وقرأ ابن محيصن: {يَتَدَبَّرُونَ}: بإدغام التاء في الدال، والأصل: يَتَدبرون [وهي مخالفةٌ للسواد]، والضميرُ من "فيه" يُحتمل أن يعودَ على القرآن وهو الظاهر، وأن يعود على ما يخبره الله تعالى به ممَّا يُبَيِّتون ويُسِرُّون، يعني أنه يخبرهم به على حَدِّ ما يقع.
* { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }
قوله تعالى: {أَذَاعُواْ بِهِ}: جواب إذا، وعَيْنُ أذاع ياء لقولهم: ذاع الشيَ يذِيع، ويُقال: أذاع الشيء أيضاً بمعنى المجرد، ويكونُ متعدياً بنفسه وبالباء، وعليه الآيةُ الكريمةن وقيل: ضَمَّن "أذاع" معنى "تَحَدَّثَ" فَعدَّاه تعديتَه أي: تحدَّثوا به مذيعين له. والإذاعة: الإشاعةُ، قال أبو الأسود:
1622- أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه * بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب
والضميرُ في "به" يجوزُ أن يعودَ على الأمر، وأن يعودَ على الأمن أو الخوفِ؛ لأنَّ العطفَ بـ"أو"، والضميرُ في "رَدُّوه" للأمر فقط. ولاستنباط: والاستخراج، وكذا الإنباط قال:
1623- نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي * إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في الثَّرى
/ ويقال: نَبَطَ الماءُ يَنْبطُ بفتحِ الباءِ وضَمِّها، والنَّبَط: الماءُ الذي يَخْرج من البئرِ أولَ حَفْرها. والنَّبَط أيضاً" جيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرجل الذي يكون بعيد العِزِّ والمنعة: "ما يَجِدُ عدوُّه له نَبَطاً" قال كعب:
1624- قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه * له نَبَطاً، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ
(5/73)
---(1/1781)
و"منهم" حال: إمَّا من الذين، أو من الضمير في "يستنبطونه" فيتعلق بمحذوف. وقرأ أبو السمَّال: "لَعَلْمه" بسكون اللام، قال ابن عطية: "هو كتسكين {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وليس مثله؛ لأن تسكين فَعِل بكسر العين مقيسٌ، وتسكينَ مفتوحِها شاذٌّ، ومثلُ تسكين "لَعَلْمه" قوله:
1625- فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ * من الأُدْمِ دُبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُه
أي: دَبِرت، فسكَّن.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه عشرةُ أوجه، أحدها: أنه مشتثنى من فاعل "اتَّبعتم" أي: لا تَّبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم، فإن لم يَتَّبع الشيطان، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الأيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعه الرسول. وقيل: المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ، وعلى هذا التأويل قيل: فالاستناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر. الثاني: أنه متسثنى من فاعل "أذاعوا" أي: أظهروا أمرَ الأمن او الخوف إلا قليلاً. الثالث: أنه مستثنى من فالع "عَلِمه" أي: لعلمه المستنبطون منهم إى قليلاً. الرابع: أنه مستثنى من فاعل "لوجدوا" أي فيما هو من عند الله التناقضَ إلا قليلاً منهم، وهو مَنْ لم يُمْعِن النظرَ، فيظنَّ الباطلَ حقاً والمتناقضَ موافقاً. الخامس: أنه مستثنى من الضمير المجرور في "عليكم" وتأوليُه كتأويل الوجه الأول. السادس: أنه مستنثى من فاعل "يستنبطونه" وتأويله كتأويل الوجه الثالث. السابع: أنه مستثنى من المصدر الدالِّ على الفعلُ، والتقدير: لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً، ذكر ذلك الزمخشري. الثامن: أنه مستثنى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشيطان كلَّهم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فالمعنى: لا تبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من(1/1782)
(5/74)
---
الأمور، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ، ذكر ذلك انب عطية، إلا أنَ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال "أي: لا تبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها" فجعله هنا مستثنى من المتَّبع فيه المحذوف على ما تقدم تقريره، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع، فتقديرُه يؤيدِّي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع، هما غَيْران التاسع: أن المراد بالقلة العدمُ، يريد: لا تبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم، نقهل انب عطية عن جماعة وعن الطبري، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها، قال: "وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: "هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا" أي لا تنبت شيئاً. وهذا الذي قاله صحيح، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أن التقليل هنا بمعنى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هناك فَتَنَبَّهَ لهذا المعنى هنا ولم يتنبهْ له هناك. العاشر: أن المخاطبَ بقوله "لا تبعتم" جميعُ الناس على العموم، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقولِه عليه السلام "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيطاء في الثور الأسود
".
* { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً }
(5/75)
---(1/1783)
قوله تعالى: {فَقَاتِلْ}: في هذه الفاءِ خمسةُ أوجه، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةِ قوله {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. الثاني: أنها عاطفتها على جملةِ قوله {فَقَاتِلُوااْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} الثالث: أنها عاطفتها على جملة قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} الرابع: أنها عاطفتها على جملة قوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} الخامس: أنها جوابُ شرط مقدر أي: إنْ أردت فقاتِل، وأولُ هذه الأقوال هو الأظهر.
قوله: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها في محلِّ نصب على الحال على الحال من فاعل "فقاتِلْ" أي: فقاتِلْ غيرَ مُكَلِّفٍ إلا نفسَك وحدَها. والثاني: أنها مستأنفة أخبهر تعالى أنه لايكلِف غيرَ نفسه. والجمهور على "تُكَلَّفُ" بتاء الخطاب وفع الفعل مبنياً للمفعول، و"نفسَك" هو المفعول الثاني. وقرأ عبد الله بن عمر: "لا تُكَلِّفْ" كالجماعة إلا أنه جزمه، فقيل: على جواب الأمر، وفيه نظر، والذي ينبغي أن يكون نهياً. وهي جملة مستأنفة. ولا يجوز أن تكون حالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطلب لا يكون حالاً. وقرئ "لا نُكَلِّف" بنون العظمة ورفعِ الفعل وهو يحتمل الحال والاستئناف المتقدمين.
والتحريض: الحَثُّ على الشيءِ، قال الراغب: "كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَضْ نحو: "قَذَيْتُه" أي: أزلت قذاه، وأَحْرضته: أَفْسَدْتُه كأقذيته أي: جَعَلْتُ فيه القذى، والحَرَضُ في الصل ما لا يُعْتَدُّ به ولا خير فيه، ولذلك يقال للمشرف على الهلاك: "حَرَض" قال تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} وأَحْرَضَه كذا، قال:
1626- إني امرؤٌ رابني هَمٌّ فَأَحْرضني * حتى بُليِتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ
و"بأساً وتنكيلاً" تمييزٌ، والتنكيل: تفعيلٌ من النَّكْل وهو القيد، ثم استعمل في كل عذاب.
(5/76)
---(1/1784)
* { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً }
* {والكِفْلُ}
: النصيب، إلاَّ أنَّ استعمالَه في الشر أكثر، عكسَ النصيب، وإنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخير، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} وأصلُه قالوا: مستعارٌ مِنْ كِفْلِ البعير وهو كساء يدار حول سَنامِه ليُرْكَبَ، سُمِّي بذلك لأنه لم يَعُمَّ ظهرَه كله بل نصيباً منه، ولغلبةِ استعمالِه في الشر واستعمالِ النصيب في الخير غاير بينهما في هذه الآية الكريمة، إذ أتى بالكِفْل مع السيئة، والنصيب مع الحسنة. و"مها" الظاهر أن "مِنْ" هنا سببية أي: كِفْلٌ بسببها ونصيب بسببها، ويجوز أن تكونَ ابتدائيةً. والمُقِيت: المقتدر قال:
1527- وذي ضِغْن كَفَفْتُ الودَّ عنه * وكنتُ على إساءته مُقيتا
أي: مقتدراً، ومنه:
1628- ليت شِعْري وأَشْعُرَنَّ إذا ما * قَرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ
ألِيَ الفضلُ أم عليَّ إذا حو * سِبْتُ؟ إني على الحسابُ مُقيتُ
/ قال النحاس: "هو مشتقٌّ من القُوت، وهو مقدارُ ما يُحْفَظ به بدنُ الإنسان من الهلاك" فأصل مُقيت: مُقوِت كمقيم.
* { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }
والتحية في الأصل: المُلْك. قال:
1269- أَؤمُّ بها أبا قابوسَ حتى * أُنيخَ على تَحِيَّته بجُندي
وقال آخر:
1630- ولكل ما نال الفتى * قد نلتُ إلا التحِيَّهْ
(5/77)
---(1/1785)
ويقال: التحية: البقاء والمُلْك، ومنه: "التحيات لله" ثم استُعملت في السلام مجازاً، ووزنها تَفْعِلة، والأصل: تَحْيِيَة فأدغمت، وهذا الإدغامُ واجبٌ خلافاً للمازني، وأصل الأصل تَحْيِيٌّ، لأنه مصدر حَيّا، وحَيّا: فَعَّل، وفَعَّل مصدرُه على التفعيل، إلا أن يكون معتلَ اللام نحو: زكَّى وغَطَّى [فإنه تحذف إحدى الياءين] ويعوض منها تاء التأنيث فيقال: تزكية وتغطية، إلا ما شَذَّ من قوله:
1631- باتَتْ تُنَزِّي دلوَها تَنْزِيَّاً * كما تُنَزِّي شَهْلَةٌ صبيَّاً
إلا أن هذا الشذوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو "حَيّا" لاعتلالِ عينه ولامه بالياء، وألحق بعضُم ما لامُه همزةٌ بالمعتلِّها نحو: "نَبّأ تنبئهة" و"خَبّأ تخبئة". ومثلُها: أَعْيِيَة وأَعِيَّة، جمع عَيِيٌّ. وقال الراغب: "وأصلُ التحيَّة من الحَياة، ثم جُعِل كلُّ دعاءٍ تحيةً لكون جميعِه غيرَ خارجٍ عن حصولِ الحياةِ أو سببِ الحياة. وأصل التحية أن تقول: "حَيَّاك الله" ثم استُعْمِل في عُرْفِ الشرعِ في دعاء مخصوصٍ.
وقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَآ} أي: رُدُّوا مثلَها؛ لأنَّ ردَّ علينها مُحالٌ، فحُذِفَ المضاف نحو: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وأصلُ "حَيُّوا" حَيِّيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ، فَحُذِفت الضمةُ فالتقى ساكنان: الياءُ والواوُ فحُذِفت الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو. وقوله "بأحسنَ" اي: بتحيةِ أحسنَ من تلك التحيةِ الأولى.
* { اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً }
(5/78)
---(1/1786)
قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}: جوابُ قسمٍ محذوف، وفي جملةِ هذا القسم مع دجوابِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لقوله "اللَّهُ"، و"لا إلهَ إلا هو" جملةُ خبر أول. والثاني: انها خبر لقوله: "الله" أيضاً، و"لا إله هو" جملة اعتراضٍ بين المبتدأ وخبره. والثالث: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. وقد تقدم إعراب {اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} {لاَ رَيْبَ فِيهِ} في البقرة.
قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها على بابها من انتهاءِ الغايةِ، قال الشيخ: "ويكونُ الجمعُ في القبور، أو تُضمِّن "ليجمعنَّكم" معنى ليحشرنَّكم" فيُعَدَّى بـ "إلى" يعني أنه ضُمِّن الجمعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مجموع فيه. وقال أبو البقاء - بعد أَنْ جَوَّز فيها أن تكونَ بمعنى "في" - "وقيل: هي على بابها أي: ليجمعنَّكم في القبور، فعلى هذا يجوز أن يكون معفولاً به، ويجوز أن يكونَ حالاً أي: ليجمعنَّكم مُفْضِين إلى حساب يوم القيامة" يريد بقوله "مفعولاً به" أنه فَضْلَةٌ كسائرِ الفَضَلات نحو: "سرت إلى الكوفة" ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأَنْ يُضَمَّنَ الجمعُ معنى الحشر كما تقدم، وأمَّا تقديرُه الحالَ بـ "مُفَضِين" فغيرُ جائزٍ لأنه كونٌ مقيِّدٌ. والثاني: أنها بمعنى "في" أي: في يوم القيامة، ونظيرُه قولُ النابغة:
1632- فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني * إلى الناسِ مَطْلِيُّ به القارُ أَجْرَبُ
(5/79)
---(1/1787)
أي: في الناس. والثالث: أنها بمعنى "مع"، وهذا غيرُ واضح المعنى. والقيامة بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب، قالوا: ودَخَلَتْ التاءُ فيه للمبالغة كعَلاَّمة ونَسَّابة لشدةِ ما يقع فيه من الهَوْل، وسُمِّي بذلك لقيامِ الناس فيه للحسابِ، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} والجملةُ من قوله:"لا ريب فيه" فيها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصب على الحال من "يوم" فالضمير في "فيه" يعودُ عليه، والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوف دَلَّ عليه "ليجمعنَّكم" أي: جمعاً لا ريبَ فيه، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ. "ومَن أصْدَقُ" تقدَّم نظيرُ هذه الجملة. و"حديثاً" ينصبٌ على التمييز. وقرأ الجمهور "أَصْدَقُ" بصاد خالصة، وحمزة والكسائي بإشمامها زاياً، وهكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ، نحو: "تَصْدُقون" و"تَصْدِيَةً" وهذا كما فعل حمزة في {الصّرَاطَ} و {بِمُصَيْطِرٍ} للمجانسةِ قَصْدَ الخِفَّةِ.
* { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوااْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ}: مبتدأ وخبر. و"في المنافقين" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ وهو "لكم" أي: أيُّ شيءٌ كائنٌ لكم - أو مستقر لكم - في أمر المنافقين. والثاني: أنه متعلق بمعنى فئتين، فإنه في قوة "ما لكم تفترون في أمور المنافقين" فحُذِف المضافُ، أُقيم المضافُ إليه مُقامَه. والثالث: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "فئتين" لأنه في الأصل صفةٌ لها، تقديرُه: فتئتين مفترقتين في المنافقين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها انتصبَتْ حالاً.
(5/80)
---(1/1788)
وفي "فئتين" وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ من الكاف والميم في "لكم"، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به "لكم" ومثلُه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ؛ لأن الكلامً لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني - وهو مذهب الكوفيين-: أنه نصبٌ على خبر "كان" مضمرةً، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأجازوا: "مالك الشاتمَ" أي: ما لك كنت الشاتمَ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كونه حالاً التزامُ مجيئه في هذ التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في "ضربي زيداً قائماً"إن "قائماً" لا يجوز نصبُه على خبر "كان" المقدرِة، بل على الحال لالتزامِ تنكيره. وقد تقدَّم اشتقاقُ "الفئة" في البقرة.
قوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيها وجهان أظهرهما: أنها حالٌ: إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحل أن الله قد ردَّهم إلى الكفر. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك. و"بما كَسَبوا" متعلقٌ بـ "أَرْكَسهم" والباء سببية أي: بسبب كَسْبهم، و"ما" مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا [على] الأولِ على الصحيح.
والإركاس: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس للرجيع، قال عليه السلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: "إنها رِكْس" وقال أمية بن أبي الصلت:
1633- فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ * كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا
أي: رُدُّوا، وقال الراغب: "الرِّكْس والنِّكْس: الرِّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ، لأن النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفله، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أن كان طعاماً. وقيل: أَرْكسه أَوْبقَه، قال:
1634- بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا * وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا
(5/81)
---(1/1789)
وقيل: الإركاس: الإضلال، ومنه:
1365- وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى * وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى
وقيل: هو التنكيسُ، ومنه:
1636- رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ * كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ
ويقال: أَرءكس وَرَكَّس بالتشيدد ورَكَس بالتخفيف: ثلاث لغات بمعنى واحد، وارتكس هو أي: رجَع. وقرأ عبد الله: "ركَسَهم" ثلاثياً، وقرئ "رَكَّسهم - رُكِّسوا" بالتشديد فهيما. وقال أبو البقاء: "وفيه لغةٌ أخرى "رَكَسه الله" من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحداً قرأ به" قلت: قد تقدَّم أن عبد الله قرأ "والله ركسهم" من غير همز ولا تشديد، وكلا أبي البقاء مُخّلِّصٌ فإنه إنما ادَّعى عدمَ العلمِ بأنها قراءةٌ لا عدمَ القراءة بها. قال الراغب: "إلا أن "أركسه" أبلغُ من "رَكَسه" كما أنَّ أَسْفَله أبلغُ من سُفْلَه" وفيه نظر.
* { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }
قوله تعالى: {لَوْ تَكْفُرُونَ}: "لو" يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ مصدرية. والثاني: أنها على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، فعلى الأول تتقدَّر مع ما بعدَها بمصدر، وذلك المصدرُ في محل المفعول لـ "وَدُّوا"، وحينئذ فلا جوابَ لها، والتقدير: وَدُّوا كفركم، وعلى الثاني يكون مفعولُ "وَدَّ" محذوفاً"، وجوابُ "لو" أيضاً" محذوف، لدلالةِ المعنى عليهما، والتقدير: وَدُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسُرُّوا بذلك.
(5/82)
---(1/1790)
و"كما كفروا" نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: كفراً مثلَ كفرهم، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدر كما هو مذهب سيبويه، و"فتكونوا" عطف على "تكفرون" والتقدير: وَدُّوا كفركم فكونَكم مستوين معهم في شَرْعهم. قال الزمخشري: "ولو نُصِب على جوابِ التمني لجاز" وجعل الشيخ فيه نظراً من حيث إن النصبَ في جواب التمني إذا كان التمني بلفظ الفعل يَحْتاج إلى سماع من العرب، بل لو جاء لم تتحقَّقَ فيه الجوابيةُ، لأنَّ "ودَّ" التي بمعنى التمني متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعيَّنْ أن تكون فاءَ جواب، لاحتمال أن يكونَ من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به فيكون من باب:
1637- لَلُبْس عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *...................
يعني كأنَّ المصدر المفعولَ بـ "يود" ملفوظٌ به، والمصدرُ المقدَّرُ بـ "أن" والفعلِ عطفٌ عليه، فَجَعَل المصدرَ المحذوفَ ملفوظاً به في مقابلةِ المقدِّرِ بـ "أَنْ" والفعلِ، وإلاَّ فالمصدرُ المحذوفُ ليس ملفوظاً به إلا بهذا التأويل المذكورِ، بل المنقولُ أنَّ الفعلَ ينتصبُ على جوابِ المتني إذا كان بالحرفِ نحو" ليت"، و"لو" و"ألا" إذا أُشْربتا معنى التمني. وفيما قاله الشيخ نظر؛ لأن الزمخشري لم يَعْنِ بالتمني المفهومَ من فعل الوَادادةِ، بل المفهومَ من لفظ "لو" المشعرة بالتمني، وقد جاء النصب في جوابها كقوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذه المسألةِ، فقد ظَهَر ما قاله الزمخشري من غير توقُّفٍ. "وسواءً" خبر "تكونون" وهو في الأصل مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعلِ بمعنى مُسْتوين؛ ولذلك وُحِّد نحو: "رجال عَدْلٌ".
(5/83)
---(1/1791)
* { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ}: فيه قولان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ متصلٌ، والمستثنى منه قولُه {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ كفارٌ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ، وقال أبو عبيد: "هو اتصالُ النسب" وغَلَّطة النحاس بأن النسب كان ثابتاً بين النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والصحابة وبين المشركين، ومع ذلك لم يَمءنضعْهم ذلك من قتالهم. والثاني: أنه منقطعٌ - وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، واختيار الراغب - قال أبو مسلم: "لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استثنى مَنْ له عذرٌ فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرسول ونصرتَه، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ، واستنثى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابهِ لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه، أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في أيديهم" فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا تحت قولِه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} والمستثنَنْون على هذا مؤمنون.
(5/84)
---(1/1792)
و{بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} يجوز أن يكونَ جملةً من مبتدأ وخبر في محل جرِّ صفةً لـ "قوم"، ويجوز أن يكونَ "بينكم" وحده صفةً لـ "قوم" فيكونَ في محلِّ جر ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و"ميثاق" على هذا رفعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة.
قوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنء جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. والثاني: أنه عطفٌ على صفةِ "قوم" وهي قولُه {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فيكون المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ. واختار الأولَ الزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: "الوجهُ العطفُ على الصلةِ لقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} فقرَّر أنَّ كفَّهم عن القتال أحدُ سببي استحقاقِهم لنفي التعرُّض لهم، وتَرْك الإيقاع. بهم. فإن قلت: كلُّ واحد من الاتصالين له تأثيرٌ في صحة الاستثناء استحقاق تَرْكِ التعرضِ للاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافِّين، فهلا جَوَّزْتَ أن يكون العطفُ على صفةِ "قوم" ويكون قولُه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} تقريراً لحكمِ اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطِهم بهم وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت: هو جائز، ولكنّ الأولَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام"انتهى.
(5/85)
---(1/1793)
وإنما كان أظهرَ لوجهين، أحدهما من جهة الصناعة، والثاني من جهة المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ عطفَه على الصلة لكون النسبة فيه إسناديةً، وذلك أن المستثنى مُحَدَّثٌ عنه محكومٌ له بخلاف حكم المستثنى منه، فإذا قَدَّرْتَ العطفَ على الصلة كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه بخلاف ما إذا عَطّفءته على الصفة، فإنه يكونُ تقييداً في "قوم" الذين هم قيدٌ في الصلةِ المُحَدَّثِ عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسناديةً وبين أن تكون تقييدية كان جعلُها إسناديةً أَوْلى لاستقلالها. والثاني من جهة المعنى: وذلك أنَّ العطفَ على الصلة يؤدي إلى أنَّ سببَ تَرْكِ التعرُّض لهم تركُهم القتالَ وكَفُّهم عنه، وهذا سببٌ قريب، والعطفُ على الصفة يؤدي إٍلى أنَّ سببَ تركِ التعرضِ لهم وصولُهم إلى قوم كافِّين عن القتال وهذا سببٌ بعيدٌ، وإذا دار الأمرُ بين سببٍ قريب وآخرَ بعيدٍ فاعتبارث القريبِ أَوْلَى.
والجمهورُ على إثبات "أو"، وفي مصحف أُبَيّ: "جاؤوكم" من غير "أو" وخَرَّجها الزمخشري على أحد أربعة أوجه: إمَّا البيانِ لـ"يَصِلون"، أو البدلِ منه، أو الصفة لقومٍ بعد صفة، أو الاستئنافِ.
قال الشيخ: "وهي وجوهٌ محتملةٌ وفي بعضِها ضعفٌ وهو البيانُ والبدلُ، لأنَّ البيانَ لايكون في الأفعال، ولأن البدل لا يتأتَّى لكونِه ليس إياه ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه". انتهى. ويحتاج الجوابُ عنه إلى تأمُّل ونظر.
(5/86)
---(1/1794)
قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سعبة أوجه، أحدها: أنه لا محلَّ لهذه الجملة، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صدورهم عن القتال، وهذا منقولٌ عن المبرد، إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاء العداوة بينَهم فنقولُ: "اللهم أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفار" لكن يكونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم. وقد أجابَ عن هذا الردِّ بعضُ الناس، فقال ان عطية: "يُخَرَّجُ قولُ المبرد على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزق لهم، والدعاءُ علهيم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم، والدعاءُ عليهم بأن لا يقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي: هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىَ عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: "لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي" معنى أسْتغنِي عنه وأستقلُّ دونَه" وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه "قومهم" قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم، بل عن مُعادِيهم".
(5/87)
---(1/1795)
الثاني: أنَّ "حَصَرِت" حالٌ من فاعل "جاؤوكم" وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقترانهِ بـ "قد" أم لا؟ والراجحُ عدُ الاحتياجِ لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تُضْمَرُ "قد" قبل "حَصِرَتْ" ومَنِ اشترط ذلك قَدَّرها هنا. والثالث: أَنَّ "حَصِرَتْ" صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه: أو جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم. وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهذا الوجهُ يُعْزَي للمبرد أيضاً/ الرابع: أن يكون في محل جَرٍّ صفةً لقوم بعد صفة، و"أو جاؤوكم" معترضٌ. قال أبو البقاء: "يَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ أسقط "أو" وهو أُبَيُّ، كذا نقله عنه الشيخ، والذي رأيتُه في إعرابه إسقاطُ "أو جاؤوكم" جميعه وهذا نَصُّه قال: "أحدهما: هو جَرٌّ صفةً لقوم وما بنهما صفة أيضاً، و"جاؤوكم" معترضٌ، وقد قرأ بعضُ الصحابة بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم، بحذف "أو جاؤوكم" هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوجهِ.
الخامس: أن يكونَ بدلاً من "جاؤوكم" بدلَ اشتمال لأن المجيء مشتملٌ على الحَصْر وغيره، نقله الشيخ عن أبي البقاء أيضاً. السادس: أنه خبرٌ بعد خبر، وهذه عبارة الزجاج، عين أنها جملة مستأنفة، أَخْبر بها عن ضيقِ صدرو هؤلاء عن القتال بعد الإخبار عنهم بما تقدَّم: قال ابن عطية بعد حكاية قولِ الزجاج: "يُفَرَّق بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك: "جاء زيد ركب الفرسَ" أنك إذا أردت الحال بقولك "رَكَب الفرس" قَدَّرْتَ"قد"، وإن أردت خبراً بعد خبر لم تحتج إلى تقديرها" السابع: أنه جواب شرط مقدر تقديره: إن جاؤوكم حصرت، وهو رأي الجرجاني، وفيه ضَعْفٌ لعدم الدلالة على ذلك.
وقرأ الجمهور: "حَصِرَتْ" فعلاً ماضياً، والحسن وقتادة ويعقوب: "حَصِرةً" نصباً على الحال بوزن "نَبَقَة" وهي تؤيد كونَ "حَصِرت" حالاً، ونقلها المهدوي عن عاصم في رواية حفص، ورُوي عن الحسن أيضاً: "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ".
(5/88)
---(1/1796)
وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ" نصباً على الحال، أو جراً على الصفة لـ "قوم"، لأنَّ جمع المؤمنث السلم يتسوي جَرُّه ونصبه إلا أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصف الرافعَ لظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّد كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تسير ويَقِلُّ جمعُه تصيحيحاً، تقول: مررت بقومٍ ذاهب جواريهم، أو قيام جواريهم، ويَقَلُّ: "قائماتٍ جواريهم" وقرئ "حَصِرةٌ" بالرفع على أنه خبر مقدم، و"صدوُرهم" مبتدأ، والجمةل حال أيضاً. وقال أبو البقاء. "وإن كان قد قرئ "حصرةٌ" بالرفع، فعلى أنه خبر، و"صدورهم"مبتدأ، والجملةُ حال".
قول: {أَن يُقَاتِلُونَكُمْ} أصلُه: عن أَنْ، فلمَّا حُذِف حرف الجر جرى الخلاف المشهور: أهي في محل جر أو نصب؟ والحَصْرُ: الضيق، وأصلُه في المكان ثم تُوُسِّع فيه، قال:
1638- ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا * حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً
وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} اللام جواب "لو" لعطفِه على الجواب، وقال ابن عطية: "هي لامُ المحاذاة والازدواج بمثابةِ الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول "لقاتلوكم" وهي تسميةٌ غريبة، وقد سبقه إليها مكي. والجمهور على "فَلَقاتلوكم" من المُفاعلة. ومجاهد وجماعة: "فَلقتلوكم ثلاثياً" والحسن والجحدري: "فلقتَّلوكم" بالتشديد وقرأ الجحدري: "السَّلْم" بفتحِ السين وسكوِن اللام، والحسنُ بكسرها وسكون اللام. قوله: {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} "لكم" متعلق بـ "جَعَل" و"سبيلاً" معفولُ "جَعَل" و"عليهم حالٌ من "سبيلاً" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، ويجوز أن تكونَ "جعل" بمعنى "صَيَّر" فيكونُ "سبيلاً" مفعولاً أولَ، و"عليهم" مفعولٌ ثان قُدِّم.
(5/89)
---(1/1797)
* { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوااْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوااْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوااْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }
والسين في {سَتَجِدُونَ}: للاستقبال على أصلها. قالوا: وليست هنا للاستقبال بل للدلالةِ على الاستمرار، وليس بظاهر. وقرأ عبد الله: "رُكسوا" فيها ثلاثياً مخففاً، ونقل ابن جني عنه "رُكِّسُوا" بالتشديد.
* { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
(5/90)
---(1/1798)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ}: قد تقدَّم نظيرُ هذا التركيب: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} و"إلا خَطَأًط فيه أربعة أوجه، أحدثهم: أنه استثناء منقطع - وهو قولُ الجمهور - إنْ أُريد بالنفي معناه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً إذ يصير المعنى: إلا خطأ فله قتلُه. والثاني: أنه متصلٌ إنْ أريد بالنفي التحريمُ، ويصير المعنى: إلا خطأ بأن عَرَفَه كافراً فقتله ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً. الثالث: أنه استثناء مفرغ، ثم في نصبهِ ثلاثة احتمالات، الأول: أنه مفعولٌ له أي: ما ينبغي له أن يقتلَه لعلة من العلل إلا لخطأِ وحدَه، الثاني: أنه حال أي: ما ينبغي له أن يقتلَه في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. الثالث: أنه نعتث مصدرٍ محذوف أي: إلا قَتْلاً خطأ، ذكر هذه الاحتملاتِ الزمخشري. الرابع من الأوجه: أن تكونَ "إلا" بمعنى "ولا" والتقدير: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ، ذَكَره بعضُ أهل العلم، حكى أبو عبيدة عن يونس قال: "سألتُ رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال: "ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ" فأقام "إلا" مقامَ الواوِ، وهو كقول الشاعر:
1639- وكلُّ أخٍ مفارِقُه أخوه * لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ
إلا أن الفراء ردَّ هذا القولَ بأن مثل ذلك لا يجوزُ، إلا إذا تقدَّمه استثناء آخر فيكونُ الثاني عطفاً عليه كقوله:
1640- ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ * دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا
وهذا رأي الفراء، وأمَّا غيرُه فيزعم أن "إلا" تكون عاطفة بمعنى الواو من غير شرط، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ
(5/91)
---(1/1799)
}. والجمهور قرأ "خَطَأً" مهموزاً بوزن "نبأ" والزهري: "خَطَا" بوزن عصا، وفيها تخريجان، أحدهما: أنه حذف لام الكلمة تخفيفاً، كما حذفوا لام دم ويد وأخ وبابِها. والثاني: أنه خَفَّف الهمزة بإبدالها ألفاً، قالتقت مع التنوينِ فَحُذِفت لالتقاء الساكنين، كما يُفْعَل ذلك بسائر المقصور، والحسن قرأ: "خَطاءً" بوزن "سَماء".
قوله: {فَتَحْرِيرُ} الفاء جواب الشرط، أو زائدةٌ في الخبر إنْ كانت "مَنْ" بمعنى الذي، وارتفاعُ "تحريرُ": إمَّا على الفاعلية، أي: فيجبُ عليه تحريرُ وإما على الابتدائية والخبر محذوف أي: فعليه تحريرُ، أو بالعكس أي: فالواجبُ تحريرُ. والدِّيَةُ في الأصل مصدر، ثم أُطْلِقَ على لمال المأخوذ في القتل، ولذلك قال: "مُسَلَّمَةٌ إلى أهله" والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الاعيان، تقول: وَدَى يَدِي دِيةً ووَدْياً كوشَى يشي شِيَةً، فحذفت فاء الكلمة، ونظيره في الصحيح اللام "زِنة" و"عِدة" و"إلى أهله" متعلق بـ "مُسَلَّمة" تقول: سَلَّمت إليه كذا، ويجوزُ أن يكونً صفةً لـ "مُسَلَّمة" وفيه ضعفٌ. و"خطأ" في قوله: "من قتل مؤمناً خطأ" منصوبٌ: إمَّا على المصدر أي: قتلاً خطأ، وإمَّا على أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: ذا خطأ أو خاطئاً.
(5/92)
---(1/1800)
قوله: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} فيه قولان، أحدهما: أنه استثناء منقطع. والثاني: أنه متصلٌ، قال الزمخشري: "فإنْ قلت: بمَ تَعَلَّق "أَنْ يصَّدَّقوا" وما محلُّه؟ قلت: تَعَلَّق بـ "عليه" أو بِـ "مُسَلَّمَةٌ" كأنه قيل: وتَجِبُ عليه الدِّية أو يسلِّمها إلا حين يتصدقون عليه، ومحلُّها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: "اجِلسْ ما دام زيد جالساً" ويجوز أن يكون حالاً من "أهله" بمعنى إلا مصتدقين". وخَطَّأه الشيخ في هذين التخريجين، أما الأول فلأنَّ النحويين نَصُّوا على منع قيام "أَنْ" وما بعدَها مقامَ الظرف، وأنَّ ذلك ما تختص به "ما" المصدريةُ لو قلت: "آتيك أن يصيحَ الديك" أي: وقت صياحِه لم يجز. وأما الثاني فنصَّ سيبويه على منعه أيضاً قال في قول العرب: "أنت تنازلَ، أو أن تخاصمَ" أي: أنت لارجل نزالا ومخاصمة: "إنَّ انتصابَ هذا انتصابَ هذا انتصابُ المفعول من أجله، لأنَّ المستقبل لا يكون حالاً" فكونُه منقطعاً هو الصوابُ. وقال أبو البقاء: "وقيل: هو متصلٌ، والمعنى: فعليه دِيَةٌ في كل حال إلا في حال التصدُّ عليه بها".
والجمهور على "يَصَّدَّقوا" بتشديد الصادن والأصل يتصدَّقوا، فأغمت التاء في الصاد. ونقل عن أُبيّ هذا الأصلُ قراءةً، وقرأ أبو عمر في روايةِ عبد الوراث- وتُعْزى للحسن وأبي عبد الرحمن -: "تَصَدَّقوا" بتاء الخطاب والأصل: تَتصدقوا بتاءين، فَأُدغمت الثانية. وقُرئ: "تَصْدُقوا" بتاء الخطاب وتخفيف الصاد، وهي كالتي قبلها، إلا أنَّ تخفيفَ هذه بحذفِ إحدى التاءين: الأولى أو الثانية على خلاف في ذلك، وتخفيفَ الأولى بالإدغام.
(5/93)
---(1/1801)
قوله: {مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعولُه محذوفٌ أي: فَمَنْ لم يجِدْ رقبة، وهي بمعنى وجدان الضالّ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ. وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} ارتفاعُه على أحدِ الأوجه المذكور في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد مَرَّ. أي: فعليه صيامُ أو: فيجبُ عليه صيام أو فواجبُه صيام. قال أبو البقاء: "ويجوزُ في غير القرآن النصبُ على "فليصم صومَ شهرين". وفيه نظرٌ لأنَّ الاستعمالَ المعروفَ في ذلك أَنْ يُقالَ" "صمتُ شهرين ويومين" ولا يقولون: صمتُ صومَ - ولا صيامَ - شهرين.
قوله: {تَوْبَةً} في نصبه ثلاثة أوجه، أحدهم: أنهما مفعول من أجله تقديره: شَرَعَ ذلك توبةً منه. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون العامل "صوم" إلا على حذف مضاف، أي: لوقوعِ توبة أو لصحول توبة" يعني أنه إنما احتاج إلى تقدير ذلك المضاف ولم يقل إن العامل هو الصيام؛ لأنه اختلَّ شرطٌ من شروطِ نصبه؛ لأنَّه فاعلَ التوبة. الثاين: أنها منصوبةً على المصدر أي: رجوعاً منه إلى التسهيل حيث نَقَلكم من الأثقلِ إلى الأخفِّ، أو توبة منه أي: قَبُولاً منه، مِنْ تاب عليه إذا قَبِل توبته، فالتقدير: تابَ عليكم توبةً. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال ولكن على حذف مضافٍ تقديرُه: فعليه كذا حالَ كونِه صاحبَ توبةٍ، ولا يجوز ذلك من غير تقدير هذا المضافِ لأنك لو قلتَ: "فعليه صيامُ شهرين تائباً من الله" لم يَجُزْ "ومِن الله" في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لـ "توبة" فيتعلَّقُ بمحذوف.
* { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }
(5/94)
---(1/1802)
و {مُّتَعَمِّداً}: حالٌ من فاعل "يَقتلْ" وروي عن الكسائي سكون التاء كأنه فَرَّ من توالي الحركات. و"خالداً" نصب على الحال من محذوف، وفيه تقديران، أحدهما: "يُجْزاها خالداً فيها" فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضمير المنصوب أو المرفوع، والثاني: "جازاه" بدليل "وغضب الله عليه ولعنه" فعطفَ الماضي عليه، على هذا هي حالٌ من الضمير المنصوب لا غيرُ، ولا يجوز أن تكون حالاً من الهاء في جزاؤه" لوجهين، أحدهما: أنه مضاف إليه، ومجيء الحال من المضاف إليه ضعيفٌ أو ممتنع. والثاني: أنه يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو خبرُ المبتدأ الذي هؤ "جهنم".
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }
قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُواْ}: قرأ الأخوان من التثبُّت، والباقون من البيان، قيل: هما متقاربان لأن مَنْ تَثَّبت في الشيء تبينه، قاله أبو عبيد، وصَحَّحه ابن عطية وقال الفارسي: "التثبُّت هو خلاف الإقدام والمراد التَّأنِّي، والتثبت أشد اختصاصاً بهذا الموضع، يدل عليه قوله: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي: أشدُّ وقعاً لهم عَمَّا وُعِظوا به بأَنْ لا يقدُموا عليه" فاختارَ قراءة الأخوين. وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة قالوا: لأن المثبِّت قد لا يتبيَّن، قود قوبل العجلة في قوله عليه السلام: "التبيُّن من الله والعجلةُ من الشيطان" قلت: فهذا يقوي قراءة الأخوين أيضاً. وتَفَعَّل في كلتا القراءتين بمعنى استغفل الدال على الطلب أي: اطلبوا التثبيت أو البيان.
(5/95)
---(1/1803)
وقوله: {لِمَنْ أَلْقَى} اللام للتبليغ هنا، و"مَنْ" موصولة. أو مصوفةٌ، و"ألقى" هنا ماضي اللفظِ، إلا أنه بمعنى المستقبل أي: لمن يُلْقي، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عَمَّا وقع وانقضى، والماضي إذا وقع صلة صَلَح للمضيِّ والاستقبال. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: "السَّلَم" بفتح السين واللام من غير ألف، وباقي السبعة: "السلام" بألف، ورُوي عن عاصم: "السِلْم" بكسر السين وسكون اللام. فأما "السلام" فالظاهر أنه التحية. وقيل: الاستسلام والانقياد، والسَّلَم - بفتحهما - الانقياد فقط، وكذا {السِّلْمِ} بالكسر والسكون. والجحدري بفتحها وسكون اللام، وقد تَقَدَّم القول فيها في البقرة فعليك بالالتفات إليه. والجملة "لست مؤمناً" في محل نصب بالقول. والجمهور على كسر الميم الثانية من "مؤمناً" اسم فاعل وأبو جعفر بفتحها اسمَ مفعول أي: لانُؤَمِّنك في نفسك، وتُروى هذه القراءة عن علي وابن عباس ويحيى بن يعمر.
(5/96)
---(1/1804)
قوله {تَبْتَغُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل "يقولوا" أي: لا تقولوا ذكل مبتغين. قوله: "كذلك" هذا خبر لـ" كان" قُدِّم عليها وعلى اسمها أي: كنتم من قبل الإسلام مثلَ مَنْ أقدم ولم يَثَبَّتْ. وقوله {كَذالِكَ} الظاهر أن هذه الجملة من تتمة قوله {فَمَنَّ اللَّهُ} فهي معطوفة على الجملة قبلها. وقيل: بل هي من تتمة قوله "تبتغون" والأولُ أظهر: وقوله: "فتبيِّنوا" قرئت كالتي قبلها فقيل: هي تأكيد لفظي للأولى، وقيل: ليست للتأيكد لاختلاف متعلقهما، فإنَّ الأول: "فتبيَّنوا في أمر مَنْ تقتلونه"، وتقدير الثاني: فتبينوا نعمةَ الله، أو تثبَّتوا فيها، والسياقُ يدل على لك، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد. والجمهور على كسر همزة "إنَّ الله"، وقرئ بتفحها على أنها معملة لـ"تبينَّوا" أو على حذف لام العلةِ، وإن كان قد قرئ بالفتح مع التثبيت فيكونُ على لام العلة لا غير. والمغانم: جمع "مَغْنَم" وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان، ثم يُطلق على [كل] ما يؤخذ من مال العدو في الغزو، إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول نحو: "ضَرْب الأمير".
* { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بمحذوف لأنه حال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه القاعدون، فالعامل في الحال في الحقيقة يستوي، والثاني: أنه الضمير المستكنُّ في "القاعدون" لأن "أل" بمعنى الذي، أي: الذين قعدوا في هذه الحال، ويجوز أن تكون "مِنْ" للبيان.
(5/97)
---(1/1805)
قوله {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم "غير" بالرفع، والباقون بالنصب، والأعمش بالجر. والرفع من وجهين، أظهرهما: أنه على البدل من "القعدون" وإنما كان هذا أظهرَ لأن الكلام نفي، والبدلُ مع أرجحُ لِما قُرِّر في عمل النحو. والثاني: أنه رفع على الصفة لـ "القاعدون"، ولا بد من تأوليل ذلك لأن "غير" لا تتعَرَّفُ بالإضافة، ولا يجوز اختلافُ النعت والمنعوت تعريفاً وتنكيراً، وتأويله: إمَّا بأن القاعدين لَمَّا لم يكونوا ناساً بأعيانهم بل أُريد بهم الجنسُ أَشْبَهوا النكرة فَوُصِفوا كما توصف، وإمَّا بأن "غير" قد تتعرَّف إذا وقعت بين ضدَّين، وهذا كله كما تقدم في إعراب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} في أحد الأوجه، وهذا كلُّه خروج عن الأصول المقررة فلذلك اخترت الأول، ومثله:
1641- وإذا اُقْرِضْتَ قَرْضاً فاجْزِهِ * إنما يَجْزي الفتى غيرُ الجَمَلْ
برفع "غير" كذا ذكره أبو علي، والراوية "ليس الجمل" عند غيره. والنصبُ على أحد ثلاثة أوجه، الأول: النصبُ على الاستثناء من "القاعدون" وهو الأظهرُ لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني: من "المؤمنين" ولي بواضحِ، والثالث: على الحال من القاعدون" والجرُّ على الصفة للمؤمنين، وتأويلُه كما تقدم في وجه الرفع على الصفة.
وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ} كِلا الجارَّيْن متعلقٌ بـ"المجاهدون" و"المجاهدون" عطف على "القاعدون" قوله: {دَرَجَةً} فيها أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبة على المصدر لوقوع "درجة" موقعَ المَرَّة من التفضيل كأنه قيل: فَضَّلهم تفضيلةً نحو: "ضربته سوطاً" الثاني: أنها حال من "المجاهدين" أي: ذوي درجة. الثالث: أنها منصوبة انتصابَ الظرف أي: في درجة ومنزلة. الرابع: انتصابها على إسقاط الخافض أي: بدرجة.
(5/98)
---(1/1806)
قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} "كلاً" مفعول أول لـ "وعد" مقدماً عليه، و"الحسنى" مفعول ثان. وقرئ: "وكلُّ" على الرفع بالابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي: وعده، وهذه كقراءة ابن عامر في سورة الحديد {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قوله "أجراً" في نصب أربعة أوجه، أحدهما: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه؛ لأن معنى "فَضَّل الله" آجرَ. الثاني: النصب على إسسقاطِ الخافض أي: فضَّلهم بأجر. الثالث: النصب على أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنه ضَمَّن "فضَّل" أعطى، أي: أعطاهم أجراً تَفَضُّلاً منه. الرابع: أنه حال من "درجات" قال الزمخشري: "وانتصب "أجراً" على الحال من النكرة التي هي "درجات" مقدَّمةً عليها" وهو غير ظاهر؛ لأنه لو تَأَخَّر عن "درجات" لم يجز أن يكون نعتاً لـ "درجات" لعدم المطابقة، لأنَّ "درجات" جمع، و"أجر" مفرد. كذا ردَّه بعضهم، وهي غفلة، فإنَّ "أجراً" والأفصحُ فيه أن يُوَحَّدّ ويُذَكَّر مطلقاً.
* { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ}: فيه ستة أوجه: الأربعة المذكورة في "درجة"، والخامس: أنه بدلٌ من "أجراً" السادس:- ذكره ابن عطية - أنه منصوبٌ بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر كما تقول:"لك عليَّ ألفُ درهمٍ عُرْفاً" كأنك قلت: أعرفها عُرْفاً، وفهي نظر. و"مغفرة ورحمة" عطف على درجات، ويجوز فيهما النصب بفعلهما أي: وغفر لهم مغفرةً ورحمهم رحمةً.
* { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاائِكَةُ ظَالِمِيا أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوااْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً }
(5/99)
---(1/1807)
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ}: "توفَّاهم" يجوز أن يكون ماضياً، وإنما لم تحلق علامة التأنيث للفعل لأن التأنيث مجازي،و يدل على كونِه فعلاً ماضياً قراءةُ "توفَّتْهم" بتاء التأنيث، ويجوز أن يكون مضارعاً حُذِفت إحدى التاءين منه، والأصلُ: تتوفاهم.
و"ضالمي" حالٌ من ضمي "توفَّاهم" والإضافةُ غير محضة، إذ الأصل: ظالمين أنفسَهم. وفي خبر "إنَّ" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ تقديرُه: إنَّ الذين توفَّاهم الملائكةُ هَلَكوا، ويكون قوله: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} مبيِّناً لتلك الجملةِ المحذوفةِ. الثاني: أنه {فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ودخلت الفاءُ زائدةً في الخبر تشبيهاً للموصول باسمِ الشرط، ولم تمنع "إنَّ" من ذلك، والأخفش يمنعه، وعلى هذا فيكون قولُه: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} إمَّا صفةً لـ"ظالمي" أو حالاً للملائكة، و"قد" معه مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك، وعلى القول بالصفة فالعائد محذوف أي: ظالمين أنفسَهم قائلاً لهم الملائكة. والثالث: أنه "قالوا فيم كنتم"،ولا بد من تقدير العائد أيضاً أي: قالوا لهم كذا، و"فيم" خبر "كنتم" وهي "ما" الاستفهامية حُذِفت ألفها حين جُرَّتْ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ} والجملة من قوله: "فيم كنتم" في محل نصب بالقول. "وفي الأرض" متعلقٌ بـ "مستضعفين"، ولا يجوز أن يكون "في الأرض" هو الخبرَ، و"مستضعفين" حالاً، كما يجوز ذلك في نحو: "ان زيدٌ قائماً في الدار" لعدمِ الفائدةِ في هذا الخبر.
(5/100)
---(1/1808)
قوله: {فَتُهَاجِرُواْ} منصوبٌ في جوابِ الاستفهام، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال أبو البقاء: "ألم تكن" استفهام بمعنى التوبيخ، "فتهاجروا" منصوبٌ على جواب الاستفهام، لأنَّ النفيَ صار إثباتاً بالاستفهام" انتهى قولُه: "لأنَّ النفي" إلى آخره لا يَظْهر تعليلاً لقوله"منصوبٌ على جواب الاستفهام" لأن ذلك لا يَصِحُّ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه علةً لقوله "بمعنى التوبيخ". و"ساءت": قد تقدم القول في {وَسَآءَ} وأنها تجري مَجْرى "بِئْس" فيُشْترط في فاعلها ما يُشترط في فاعل تيك. و"مصيراً" تمييز.
* { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ}: في هذا الاستثناءِ قولان، أحدهما: أنه متصلٌ، والمستثنى منه قولُه: {فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}. والضميرُ يعودُ على المتوفَّيْن ظالمي أنفسِهم، قال هذا القائل: كأنه قيل: فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا يكون استثناء متصلاً. والثاني - وهو الصحيح - أنه منقطعٌ؛ لأن الضمير في "مَأواهم" عائد على قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} وهؤلاء المتوفَّوْن: إمَّا كفارٌ أو عصاة بالتخلف، على ما قال المفسرون، وهم قادرون على الهجرة فلم يندرجْ فيهم المستضعفون فكان منقطعاً. و"من الرجال" حالٌ من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيهم، فيتعلَّقُ بمحذوف.
قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} في هذه الجملة أربعة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما وجهُ استضعافِهم؟ فقيل: كذا.
(5/101)
---(1/1809)
والثاني: أنها حالٌ. قال أبو البقاء: "حالٌ مبيِّنة عن معنى الاستضعاف" قلت: كأنه يشير إلى المعنى الذي قَدَّمتْهُ في كونها جواباً لسؤال مقدر. والثالث: أنها مفسرةٌ لنفسِ المستضعفين؛ لأنَّ وجوه الاستضعاف كثيرة فبيَّن بأحد محتملاِته كأنه قيل: إلا الذين استُضْعِفوا بسبب عجزهم عن كذا وكذا. والرابع: أنها صفة للمستضعفين أو للرجال ومَنْ بعدَهم، ذكره الزمخشري، واعتذر عن وَصْف ما عُرِّف بالألف واللام بالجمل التي في حكم النكرات بأن المُعَرَّف بهما لما لم يكن مُعَيَّناً جاز ذلك فيه كقوله:
1642- ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني *.....................
وقد قَدَّمْتُ تقرير المسألة مراراً.
* { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
و {مُهَاجِراً}: نصبٌ على الحال من فاعل "يَخْرج" قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ} الجمهورُ على جزم "يدركْه" عطفاً على الشرط قبله، وجوابه "فقد وقع"، وقرأ الحسن البصري بالنصب. قال ابن جني: "وهذا ليس بالسهل وإنما بابُه الشعر لا القرآنُ وأنشد:
1643- وسأترُكُ منزيل بني تميم * وألحقُ بالحجازِ فاستريحا
والآيةُ أقوى من هذا لتقدُّم الشرط قبل المعطوف"، يعني أن النصب بإضمار "أن" إنما يقع بعد الواو والفاء في جواب الأشياء الثمانية أو عاطفٍ، على تفصيلٍ موضوعه كتب النحو، والنصبُ بإضمار "أن" في غير تلك المواضع ضرروةٌ كلابيتِ المتقدم، وكقول الآخر:
1644- ............... * ويَأْوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما
(5/102)
---(1/1810)
وتبع الزمخشري أبا الفتح في ذلك، وأنشد البيت الأول. وهذه المسألة جَوَّزها الكوفيون لمدركٍ آخرَ وهو أن الفعلَ الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء، واستدلُّوا بقول الشاعر:
1645- ومَنء لا يُقَدِّمْ رِجْلَه مطمئنةً * فَيُثْبِتَها في مستوى القاعِ يَزْلَقِ
وقول الآخر:
1646- ومَنْ يَقْتَرِبْ منا ويخضع نُؤْوِه * ولا يَخْشَ ظلماً ما أقامَ ولا هَضْما
وإذا ثبت ذلك في الواو والفاء فليَجُزْ في "ثم" لأنها حرف عطف. وقرأالنخعي وطلحة بن مصرف برفع الكاف، وخَرَّجها ابن جني على إضمار مبتدأ أي: "ثم هو يدركُه الموت"، فعطفَ جملةً اسمية على فعلية، وهي جملة الشرط: الفعلُ المجزومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يونس قولَ الأعشى:
1647- إنْ تركَبوا فركوبُ الخيل عادتُنا * أو تَنْزِلون فإنَّا معشرٌ نُزُلُ
أي: وأنتم تنزلون، ومثله:
1648- إنْ تُذْنِبوا ثم تأتيني بَقِيَّتُكُمْ * فما عليَّ بذنبٍ عندكم حُوبُ
أي: ثم أنتم تأتيني. قلتُ: يريدُ أنه لايُحْملُ على إهمالِ الجازمِ فيُرْفَعُ الفعلُ بعدَه، كما رُفِعَ في "أليم يأتيك" فلم يَحْذِفِ الياء، وهذا البيت أنشده النحويون على أنَّ علامَةَ الجزمِ حَذْفُ الحركةِ المقدرة في حرفِ العلة، وضَمَّوا إليه أبياتاً أُخَرَ، أمَّا أنهم يزعمون أنَّ حرف الجزم يُهمل ويَسْتدلون بهذا البيت فلا. ومنهم مَنْ خَرَّجها على وجه آخر، وهو أنه أراد الوقفَ على الكلمة فنقلَ حركةَ هاءِ الضمير إلى الكافِ الساكنةِ للجزم، كقولِ الآخر:
1649- عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ * مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ
(5/103)
---(1/1811)
يريد "لم أَضْرِبْه" بسكون الباء للجازم، ثم نَقَلَ إليها حركة الهاء فصار اللفظُ "ثُم يُدْرِكُهْ" ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فالتقى ساكنان فاحتاج إلى تحريك الأولِ وهو الهاءُ فَحَرَّكها بالضمِّ؛ لأنه الأصلُ وللإتباعِ أيضاً، وهذه الأوجهُ تَشْحَذُ الذِّهنَ وتنقِّحُه.
* { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوااْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً }
قوله تعالى:{أَن تَقْصُرُواْ}: هذا على حذفِ الخافض أي: في أَنْ تَقْصُروا، فيكونُ في محلِّ "أَنْ" الوجهان المشهوران، وهذا الجارُّ يتعلقُ بلفظِ "جُناح" أي: فليس عليكم جُناحٌ في قَصْرِ الصلاة. والجمهور على "تَقْصُروا" من "قَصَر" ثلاثياً. وقرأ ابن عباس: "تُقْصِروا" من "أَقْصر" وهما لغتان: قَصَر وأقصر، حكاهما الأزهري، وقرأ الضبي عن رجاله بقراءة ابن عباس. وقرأ الزهري: "تُقَصِّروا" مشدداً على التكثير. قوله: {مِنَ الصَّلاَةِ} في "مِنْ" وجهان، أظهرُهما: أنها تبعيضيةٌ، وهذا معنى قول أبي البقاء وزعم أنه مذهبُ سيبويه وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً من الصلاة. والثاني: أنها زائدةٌ وهذا رايُ الأخفش فإنه لا يشترط في زيارتِها شيئاً. و"أن يَفْتِنَكم" معفول "خِفْتم" وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي: "من الصلاة أن يَفْتنكم" بإسقاط الجملة الشرطية، و"أَنْ يفْتنكم" على هذه القراءة مفعولٌ من اجله، ولغةُ الحجاز "فَتَن" ثلاثياً، وتميم وقيس: "أفتن" رباعياً.
(5/104)
---(1/1812)
و"لكم" متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من "عَدُوّاً" فإنه في الأصل صفةُ نكرةٍ ثم قُدِّم عليها، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بـ"كان"، وفي المسألةِ خلافٌ مرَّ تفصيلُه. وأفرد "عَدُواً" وإن كان المرادُ به الجمعَ لِما تقدَّم تحقيقُه في البقرة، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه ما قبله. وقيل: الكلامُ تَمَّ عند قوله {مِنَ الصَّلاَةِ}، والجملةُ الشرطيةُ مستأنفةٌ، حتى قيل: إنها نزلت بعد سنةٍ من نزول ما قبلها، وحينئذ فجوابُه أيضاً محذوفٌ، لكن يُقَدَّرُ مِنْ جنس ما بعده، وهذا قولٌ ضعيفٌ، وتأخيرُ نزولها لا يقتضي استئنافاً.
* { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوااْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُوااْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
والضمير في "فيهم" يعودُ على الضاربين في الأرض، وقيل: على الخائفين، وهما محتملان، والضميرُ في "وليأخذوا" الظاهر عَوْدُه على "طائفة" لقُربه منها، ولأنَّ الضمير في قوله {سَجَدُواْ} لها. وقيل: يعدو على طائفة أخرى وهي التي تحرس المُصَلِّية. واختار الزجاج عَوْدَه على الجميع قال: "لأنه أَهْيَبُ للعدو". والسلاح: ما يُقاتَل به وجمعُه أَسْلِحَة وهو مذكر، وقد يُؤَنَّث باعتبار الشوكة، قال الطرماح:
1650- يَهُزُّ سِلاحاً لم يَرِثْها كَلالةً * يشكُّ بها منها غموضَ المَغَابِنِ
(5/105)
---(1/1813)
فأعاد الضميرَ عليه كضمير المؤنثة، ويقال: سِلاح كحِمار، وسِلْح كضِلْع، وسُلَح كصُرَد، وسُلْحان كسُلْطان نقله أبو بكر بن دريج والسَّلِيح نبت إذا رَعَتْه الإبل سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها، وما يُلْقيه البعير من جوفه يقال له "سُلاح" يزنة غُلام، ثم عُبِّر به عن كل عَذِرة حتى قيل في الحُبارى: "سِلاحُه سُلاحه" .
قوله: {لَمْ يُصَلُّواْ} الجملة في محل رفع لأنها صفة لـ "طائفة" بعد صفةٍ، ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال؛ لأنَّ النكرة قبلها تخصَّصت بالوصف بأخرى. وقرأ الحسن: "فَلِتَقُمْ" بكسر لام الأمر، وهو الأصل. وقرأ أبو حيوة "وليأت" بناء على تذكير الطائفة. ورُوي عن أبي عمرو الإظهار والإدغامُ في "ولتأت طائفة" ووجوهث هذه واضحة. وفي قوله {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} مجازٌ حيث جعل الحِذْر - وهو معنى من المعاني- مأخوذاً مع الأسلحة فجَعَلَه كالآلة، وهو كقوله تعالى: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} في أحدِ الأوجه. وقد تقدَّم الكلامُ في "لو" الواقعةِ بعد {وَدَّ} هنا وفي البقرة وقرئ "أَمْتِعاتِكم" وهو الشذوذِ من حيث إنه جمع الجمعِ كقولهم: أَسْقِيات وأَعْطيات. وقوله: {أَن تَضَعُوااْ} كقوله: {أَن تَقْصُرُواْ} وقد تقدم.
* { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }
(5/106)
---(1/1814)
قوله تعالى: {قِيَاماً وَقُعُوداً}: حالان من فاعل "اذكروا"، وكذلك "وعلى جُنوبكم" فإنه في قوة مُضطجعين، فيتعلق بمحذوف. وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} قد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة واختلافُ الناس فيها، وهل هي مقلوبةٌ أم لا؟ وصَرَّح أبو البقاء هنا بأنَّ الهمزة أصلٌ وأن وزن الطُّمَأْنينة: فُعَلِّيلَة، وأن "طأمن" أصل آخر براسه، وهذا مذهبُ الجرميّ. و"موقوتاً" صفةٌ لـ"كتاباً" بمعنى محذوداً بأوقات، فهو من وَقَت مخففاً كمضروب من ضرب، ولم يقل "مَوْقوتة" بالتاء مراعاة لـ"كتاب" فإنه في الأصل مصدر.
* { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ}: الجمهورُ على كسر الهاء، والحسن فتحا من "وَهِن" بالكسر في المِاضي، أو من وهَن بالفتح، وإنما فُتِحت العين لكونِها حلقيةً فهو نحو: يَدَع. وقرأ عبيد بن عمير: "تُهانوا" من الإهانة مبنياً للمفعولِ ومعناه: لا تَتَعاطَوا من الجبنِ والخَورَ ما يكون سبباً إهانتِكم كقولهم: "لا أُرَيَنَّك ههنا" والأعرج: "أن تكونوا" بالفتح على العلة. وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر "{تِأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يِأْلَمُونَ كَمَا يِأْلَمونَ} بكسر حرف المضارعة، وابن السَّمَيْفَع بكسر تاء الخطاب فقط وهذه لغة ثابة، وكنت قد قَدَّمْتُ في الفاتحة أنًَّ مَنْ يكسِرُ حرفَ المضارعة يستثنى التاء، وذكرت شذوذ "تِيجل" ووجهَه، فعليك بالالتفات إليه، وزاد أبو البقاء في قراءةِ كسر حرف المضارعة قَلْبَ الهمزةِ ياء، وغيرُه أطلق ذلك.
* { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }
(5/107)
---(1/1815)
قوله تعالى: {بِالْحَقِّ}: في محلِّ نصبٍ على الحال المؤكِّدة فيتعلَّق بمحذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو الكتابُ أيك أنزلناه ملتبساً بالحق. و"لتحكمْ" متعلق بـ "أَنْزلنا" و"أراك" متعدٍّ لاثنين أحدهما العائدُ المحذوفُ، والثاني كافُ الخطابِ أيك بما أراكه الله. والإراءَةُ هنا يجوزُ أن تكون من الرأي كقولك: "رأيتُ رَأْيَ الشافعي" أو من المعرفة، وعلى كلا التقديرين فالفعلُ قبلَ النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد وبعدَه متعدٍّ لاثنين كما عَرَفْتَز و"للخائنين" متعلِّق بـ"خصيماً" واللامُ للتعليلِ على بابها، وقيل: هي بمعنى "عن"، وليس بشيء لصحة المعنى بدون ذلك. ومفعولُ "خصيماً محذوفٌ تقديرُه: "خصيماً البرآء" وخصيم يجوز ان يكون مِثالَ مبالغةٍ كضريب، وأن يكون بمعنى مُفاعِل نحو: خلِيط وجَلِيس بمعنى مُخاصِم ومُخالط ومُجالِس.
* { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً }
و{يَسْتَخْفُونَ}: فيها وجهان، أظهرهما: أنها مستأنفة لمجرد الإخبار بأهم يطلبون التستُّر من الله تعالى بجهلهلم. والثاين: أنها في محلِّ نصب صفةً لـ"مَنْ" في قوله: {لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} وجُمع الضمير اعتباراً بمعناها إنْ جَعَلْتَ "مَنْ" نكرةً موصوفة، أو في محل نصب على الحال مِنْ "مَنْ" إنْ جَعَلْتَها موصلةً، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار معناها أيضاً. "وهو معهم" جملة حالية: إمّا من الله تعالى أو من المُسْتَخْفِين، و"إذا" منصوبٌ بالعاملِ في الظرف الواقع خبراً وهو "معهم".
* { هَا أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }
(5/108)
---(1/1816)
وتقدَّم الكلامُ في نحو {هَا أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ}: وقولُه: {فَمَن يُجَادِلُ} مَنْ استفهامية في محل رفع بالابتداء، و"يجادل" خبره، و"أم" منقطعة وليست بعاطفة. وظاهرُ عبارة مكي أنها عاطفة فإنه قال: "وأم من يكونُ مثلُها عطف عليها" أي: مثلث "مَنْ في قوله: {فَمَن يُجَادِلُ} وهو في محلِّ نظرٍ، لأنَّ في المنقطعة خلافاً: هل تُسَمَّى عاطفة أم لا؟.
* { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيائَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }
قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ}: في هذه الهاء أقوالٌ، أحدها: أنها تعود على "إثماً"، والمتعاطفان بـ"أو": يجوز أن يعودَ الضمير على المعطوف كهذه الآية، وعلى المعطوف عليه كقوله {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوااْ إِلَيْهَا} والثاني: أنها تعودُ على الكَسْب المدلول عليه بالفعلِ نحو: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الثالث: أنها تعود على أحد المذكورين الدالِّ عليه العطفُ بـ"أو" فإنه في قوة "ثم يَرْمِ بأحد المذكورين". الرابع: أنَّ في الكلام حذفاً، والأصل: "ومَنْ يكسِبْ خطيئة ثم يرم بها، وهذا كما قيل في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا} أي: يكنزون الذَهب ولا ينفقونه. و"أو" هنا لتفصيلِ المُبْهَمِ، وتقدَّم له نظائرُ. وقرأ معاذ بن جبل: "يَكِسِّبْ" بكسر الكاف وتشديد السين، وأصلها: يَكْتَسِبْ فأدغمت تاءُ الافتعال في السينِ وكُسِرت الكافُ إتباعاً، وهذا شبيه بـ {يَخْطَفُ} وقد تقدَّم توجيهُه في البقرةِ. والزهري: "خَطِيَّة" بالتشيد وهو قياسُ تخفيفِها.
(5/109)
---(1/1817)
قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ} في جواب "لولا" وجهان، أظهرهما: أنه مذكورٌ وهو قولُه: "لَهَمَّتْ" والثاني: أنه محذوفٌ أي: لأضلُّوك، ثم استأنف جملةً فقال: "لَهَمَّتْ" أي: لقد هَمَّتْ. قال أبو البقاء في هذا الوجه: "ومثل حذفِ الجوابِ هنا حَذْفُه في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ محذوفاً استشكل كونَ قولِه "لهمَّتْ جواباً لأنَّ اللفظَ يقتضي انتفاءَ هَمِّم بذلك، والغرضُ أنَّ الواقع كونُهم هَمُّوا على ما يُروى في القصة فلذك قَدَّره محذوفاً، والذي جعله مثبتاً أجابَ عن ذلك بأحدِ وجهين: إمَّا بتخصيص الهَمِّ أي: لَهَمَّتْ هَمَّاً يؤثِّر عندك، وإمَّا بتخصيص الإضلال أي: يضلونك عن دينك وشريعتِك، وكلا هذهين الهمَّيْنِ لم يقع. و"اَنْ يُضِلُّونك" على حذف الباء أي: بأن يُضِلُّوك، ففي محلِّها الخلافُ المشهور، و"مِنْ" في "من شيء" زائدةٌ" و"شيء" يراد به المصدرُ أي: وما يَضُرُّونك ضرراً قليلاً ولا كثيراً.
* { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }
(5/110)
---(1/1818)
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ}: في هذا الاستثناءِ قولان، أحدهما: أنه متصلٌ، والثاني: أنه منقطعٌ، وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يُرادَ بها المصدرُ كالدَّعْوى فتكون بمعنى التناجي، وأَنْ يُرادَ بها القومُ المتناجُون إطلاقاً للمصدرِ على الواقع منه مجازاً نحو: "رجلٌ عَدْل وصَوْم" فعلى الأول يكون منقطعاً لأنَّ مَنْ أَمَر ليس تناجياً، فكأنه قيل: لكنْ مَنْ أَمَر بصدقةٍ ففي نجواه الخيرُ، والكوفيون يقدِّرون المنقطع بـ"بل"، وجَعَلَ بعضُهم الاستثناءَ متصلاً وإنْ أُريد بالنجوى المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ كأنه قيل: إلا نجوى مَنْ أَمَر، وإنْ جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلاً. وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع منصوبٌ أبداً في لغة الحجاز، وأنَّ بين تميم يُجْرونه مُجْرى المتصل بشرط توجُّهِ العاملِ عليه، وأنَّ الكلامَ إذا كان نفياً أو شبهَه جاز في المستثنى الإتباعُ بدلاً وهو المختار والنصبُ على أصل الاستثناء، فقوله{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ}: إما منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع إنْ جَعَلْتَه منقطعاً في لغة الحجاز، أو على أصل الاستثناءِ إنْ جَعَلْتَه متصلاً، وإمَّا مجرورٌ على البدلِ من "كثير" أو مِنْ "نجواهم" أو صفةٌ لأحدهما: كما تقول: "لا تَمُرَّ بجماعة من القوم إلا زيد" إنْ شئتَ جَعَلْتَ زيداً تابعاً للجماعةِ أو للقومِ. ولم يَجْعلْه الزمخشري تابعاً إلا "لكثير" قال: "إلا نَجْوَى مَنْ أمر على أنه مجرورٌ بدلٌ من "كثير" كما تقولُ: "لا خيرَ في قيامِهم إلا قيامِ زيدٍ" وفي التنظير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينتُه للآية، هذا كله إنْ جَعَلْنَا الاستثناءَ متصلاً بالتأويلين المذكورين أو منقطعاً على لغة تميم. وتلخَّص فيه ستة أوجه: النصب على الانقطاع في لغةِ الحجاز أو على أصل الاستثناءِ،و الجرُّ على البدل من "كثير" أو مِنْ "نجواهم" أو على الصفةِ لأحدهما.
(5/111)
---(1/1819)
و{مِّن نَّجْوَاهُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأن صفةٌ لـ "كثير" فهو في محلِّ جر، والنجوى في الأصلِ مصدرٌ كما تقدم، وقد يُطْلَقُ على الأشخاص مجازاً [قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}]، ومعناها المُسَارَّة، ولا تكون إلا من اثنين فأكثرَ، وقال الزجاج: النجوة ما تَفَرَّد به الاثنانُ فأكثرُ سراً كان أو ظاهراً. وقي: النجوى جمع نَجِيّ نقله الكرماني. قوله: "بين" يجوز ان يكون منصوباً بنفس "إصلاح" تقول: "أصلحت بين القوم" قال تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وأَنْ يتعلق / بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"إصلاح" و"ابتعاءَ" مفعولٌ من أجله. وألف "مرضاة" عن واوٍ، وقد تقدم تحقيقُ. وقرأ أبو عمرو وحمزة: "فسوف يُؤتيه" بالياءِ نظراً إلى الاسم الظاهر في قوله {مَرْضَاتِ اللَّهِ} والباقون بالنون نظراً لقوله بعدُ: "نُولِّه ونُصْلِه" وهو أوقعُ للتعظيمِ.
* { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }
* {وَمَن يُشَاقِقِ}
تقدَّم أنّ المضارعَ المجزوم والأمرَ من نحو "لم يَرْدُهْ" و"رَدَّ" يجوزُ في الإدغامُ وتركُه على تفصيلٍ في ذلك ما فيه من اللغات في آل عمران، وكذلك حكُم الهاء في قوله: "نُؤْته" و"نُصْلِه" وتقدَّم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وخُتمت تيك بقوله "فقد افترى" وهذه بقوله: "فقد ضَلَّ" لأنَّ ذلك في غاية المناسبة، فإن الأولى في شأن أهل الكتاب من أنه عندهم علمٌ بصحة ثبوته، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائعِ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك فافتروا على الله تعالى، وهذه في شأنِ قومٍ مشركين غير أهلِ كتابٍ ولا علمٍ فناسَب وصفُهم بالضلال، وأيضاً فقد تقدَّم ذكر الهدى وهو ضدُّ الضلال.
(5/112)
---(1/1820)
* { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً }
قوله تعالى: {إِلاَّ إِنَاثاً}: في هذه اللفظة تسعُ قراءات: المشهورةُ وهي جمع أُنْثى نحو رِباب جمعُ رُبّى. والثانية: وبها قرأ الحسن "أنثى" بالإفراد والمرادُ به الجمع. والثالثة:- وبها قرأ ابن عباس وأبو حيوة وعطاء والحسن أيضاً ومعاذ القارئ وأبو العالية وأبو نهيك-: "إلا أُنُثا" كرُسُل، وفيها ثلاثة أوجه، أحدها:- وبه قال ابن جيرير - أنه جمعُ "إناث" كثِمار وثُمُر، وإناث جمع أنثى فهو جمع الجمع، وهو شاذ عند النحويين. والثاني: أنه جمع "أنيث" كقليب وقُلُب وغدير وغُدُر، والأنيث من الرجال المُخَنَّثُ الضعيفُ، ومنه "سيف أنيث وميناث وميناثة" أي: غير قاطع قال صخر:
1651- فتخْبِرَه بأنَّ العقلَ عندي * جُرازُ لا أَفَلُّ ولا أَنيثُ
(5/113)
---(1/1821)
والثالث: أنه مفردٌ أي: يكون من الصفات التي جاءت على فُعُل نحو امرأة حُنُثٌ. والرابعة: - وبها قرأ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو الجوزاء - "وثَنا" بفتح الواو والثاء على أنه مفرد يراد به الجمع. والخامسة - وبها قرأ سعيد بن المسيب ومسلم بن جندوب وابن عباس أيضاً - "أُثُنا" بضم الهمزة والثاء، وفيها وجهان، أظهرهما: أنه جمع وثَنَ نحو: "أسَد وأُسُد" ثم قَلَبَ الواوَ همزةً لضمِّها ضماً لازِماً، والأصلُ: "وثُنُ" ثم أُثُن. والثاني: أن "وَثَناً" المفردَ جُمِع على "وِثان" نحو: جَمَل وجِمال، وجَبَل وجِبال، ثم جُمِع "وِثان" على "وُثُن" نحو: حِمار وحُمُر، ثم قُلبت الواوُ همزةً لِما تقدَّم فهو جمعُ الجَمْعِ. وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه بأنَّ فِعالاً جمعُ كثرة، وجموعُ الكثرة لا تُجْمع ثانياً، إنما يجمعُ من الجموع ما كان من جموعِ القلة. وفيه مناقشة من حيث إن الجمع لا يُجمع إلا شاذاً سواءً كان من جموع القلة أم من غيرها. والسادسة - وبها قرا أيوب السختياني -: وُثُنا وهي أصل القراءة التي قبلها. والسابعة والثامنة: "أُثْنا ووُثْنا" بسكون الثاء مع الهمزة والواو، وهي تخفف فُعُل كسُقُف. والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار، وكذا وُجِدَتْ في مصحف عائشة: "إلا أَوْثاناً" جمع "وَثَن" نحو: جَمَل وأَجْمال وجَبَل وأَجْبال. وسُمِّيتْ أصنامهم إناثاً لأنهم كانوا يُلْبسونها أنواعَ الحُلِيّ ويسمونها بأسماءِ المؤنثات نحو: اللات والعزى ومَناةَ. وقد وُدَّ هذا بأنهم كانوا يُسَمَّون بأسماء الذكور نحو: هُبَل وذي الخَلَصة، وفيه نظر، لأن الغالب تسميتهم بأسماء الاناث. و"مريداً" فعيل من "مَرَدَ" أي تَجرَّد للشرِّ، ومنه "شجرة مَرْداء" أي: تناثر ورقُها، ومنه: الأمْرَدُ لتجرُّدِ وجهِه من الشعر، والصّرحُ الممرَّد الذي لا يعلوه غبار من ذلك. وقرأ أبو رجاء - ويُرْوى عن عاصم - "تدْعُون" بالخطاب.
(5/114)
---(1/1822)
قوله: {لَّعَنَهُ اللَّهُ} فيه وجهان. أظهرُهما: أنَّ الجملة صفة لـ "شيطاناً" فهي في محلِّ نصب، والثاني: أنها مستأنفةٌ: إمَّا إخبار بذلك، وإمَّا دعاء عليه. وقوله: "وقال" فيه ثلاثة أوجه: الصفةُ أيضاً، أو الحالُ على إضمار "قد" أي: وقد قال، أوع لى الاستناف. و"لأتَّخِذَنَّ" جوابُ قسم محذوف. و"من عبادك" يجوزُ أَنْ يتلَّق بالفعل قبله أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "نصيباً" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها.
* { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً }
ومفعولاتُ الأفعال الثلاثة محذوفةٌ للدلالةِ علهيا أي: وَلأُضِلَّنَّهم عن الهدى ولأُمَنِّيَنَّهم بالباطل ولآمُرَنّضهم بالضلال، كذا قدَّره أبو البقاء والأحسنُ أن يُقَدَّر المحذوفُ من جنس الملفوظِ به أي: ولآمُرَنَّهم بالبَتك، ولآمُرَنّهم بالتغيير. وقرأ أبو عمرو فيما نَقَل عنه ابن عطية: "ولامُرَنَّهم" بغيرِ ألفٍ وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القصدَ الإخبارُ بوقوعِ هذه الأفعال من غير نظرٍ إلى متعلِّقاتها نحو: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} والبتَكُ: القَطْعُ والشقُّ، والبِتْكَةُ: القطعة من الشيء جَمْعُها بِتَك:
1652- حتى إذا ما هَوَتْ كَفُّ الغلام لها * طارَتْ فوي كفِّه مِنْ ريشها بِتَكُ
ومعنى ذلك: أنَّ الجاهلية كانوا يَشُقُّون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن آخرُها ذَكَر.
* { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }
* {يَعِدُهُمْ}
(5/115)
---(1/1823)
: بسكونِ الدال تخفيفاً لتولي الحركات، ومفعولُ الوعدِ محذوفٌ أي: يعِدهُم الباطل أو السلامة والعافية. {إِلاَّ غُرُوراً} يُحْتمل أن يكونَ مفعولاً ثانياً، وأن يكونَ مفعولاً من أجله، وأن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: وعداً ذا غُرور، وأَنْ يكونَ مصدراً على غير الصدرِ لأنَّ "يَعِدُهم" في قوةِ يَغُرُّهم بوعدِه.
* { أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }
و {عَنْهَا}: يجوز أن يتعلَّق بمحذوف: إمَّا على الحال من "محِيصاً" لأنه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها، وإمَّا على التبيين أي: أعني عنها، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى بـ "عن" ولا بـ "محيصاً"، وإنْ كان المعنى عليه لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّمُ معمولُه عليه، ومَنْ يُجَوِّزُ ذلك يُجَوِّزُ تَعَلُّق "عن" به والمحيصُ: اسمُ مصدر من حاصَ يَحِيص إذا خَلَص ونَجا، وقيل: هو الزَّوَغَان بنُفُور، ومنه قولُه:
1653- ولم نَدْرِ إنْ حِصْناً من الموت حَيْصَةً * كم العمرُ باقٍ والمَدَى مُتَطاوِلُ
ويروي: "جِضْنا" بالجيم والضاد المعجمة، ومنه: "وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ" وحاصَ باصَ، أي: وقعوا في أمرٍ يَعْسَرُ التخلُّص منه، ويقال: مَحِيص ومَحاص قال:
1654- أتَحِيصُ من حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهداً * ما للرجال عن المَنونِ مَحاصُ
ويقال: حاصَ يَحُوص حَوْصاُ وحِياصاً أي: زَايَل المكانَ الذي كان فهي، والحَوْصُ: ضيق مؤخر العين ومنه الأحْوَصُ.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً }
(5/116)
---(1/1824)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ}: يجوزُ فيه وجهان: الرفع على الابتداء،و الخبر "سَنُدْخِلُهم" والنصبُ على الاشتغال أي: سَنُدْخِل الذين آمنوا سندخلهم، وقرئ: "سيُدْخِلُهم" بياء الغيْبة. وانتصب "وعد الله" على المصدرِ المؤكِّد لنفسِه "وحقاً" على المصدرِ المؤكِّد لغيرِه، فـ"وعدَ" مؤكدٌ لقولهِ "سندخلهم"، وهو مفهومٌ مما قبله، و"حقاً" مؤكِّدٌ لقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} و"قيلا نصبٌ على التمييز. والقيل والقول والقال مصادرُ بمعنى واحدٍ، ومنه قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارَبِّ
}.
* { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }
(5/117)
---(1/1825)
قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ}: في "ليس" ضميرٌ هو اسمُها، وفيه خلافٌ: فقيل: يعودُ على ملفوظٍ به، وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه اللفظُ من الفعلِ، وقيل: يَدُلُّ عليه سببُ الآية. فأمَّا عَوْدُه على ملفوظٍ به فقيل: {وَعْدَ اللَّهِ} وهذا ما اختاره الزمخشري قال: "في ليس ضميرُ وعدَ الله أي: ليس يُنالُ ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب. والخكابُ للمسلمين لأنه لايُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن به" وهذا وجهٌ حسنٌ. وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه اللفظ فقيل: هو الإيمان المفهومُ من قوله: "والذين آمنوا" وهو قولُ الحسنِ وعنه: "ليس الإيمانُ بالتمني" وأمّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه السببُ فقيل: يعودُ على مجاورةِ المسلمين مع أهلِ الكتاب، وذلك أنّض بعضَهم قال: "دينُنا قبلَ دينكم، ونبينا قبلَ نبيكم، فنحن أفضلُ" وقال المسلمون: "كتابُنا يقضي على كتابكم، ونبينا خاتمُ الآنبياء" فنزلت وقيل: يعودُ على الثواب والعقاب أي: ليس الثوابُ على الحسنات ولا العقابُ على السيئات بأمانيكم. وقيل: قالت اليهودُ نحن أنبياء الله وأحبَّاؤه، ونحن أصحاب الجنة، وكذلك النصارى. وقالت كفار قريش: لا نُبْعَثُ، فنزلت أي: ليس ما ادعيتموه يا كفار قريش بأمانيِّكم.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبةُ بن نصاح والحكم والأعرجك "أمانِيكم" "ولا أمانِي"بالتخفيف كأنَّهم جَمَعُوه على فعالِل دون فعاليل كما قولوا: قَرْقور وقراقير وقراقِر، والعرب تُنْقص من فعاليل الياء، كما تَزيدُها في فعالِل نحو قوله:
1655- ............... *...........تَنْقادَ الصياريفِ
(5/118)
---(1/1826)
وقوله: {مَن يَعْمَلْ} جملة مستأنفة مؤكدةٌ لحكم الجملة قبلها. وقرأ الجمهرو "ولا يَجِدْ" جزماً، على عطفه على جواب الشرط، وروي عن ابن عامر رفعُه، وهو على القطعُ عن النسق. ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً، كذا قيل، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي بـ"لا" لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً.
قوله: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ} "من" الأولى للتبعيض لأنَّ المكلَّف لا يطيق عمل كل الصالحات. وقال الطبري: "هي زائدة عند قوم" وفيه ضعفٌ لعدمِ الشرطين. و"مِنْ" الثانية للبيين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً، وفي صاحبِها وجهان أحدُهماك أنه الضميرُ المرفوع بـ"يعمل"، والثاني: أنه الصالحات أي: الصالحات كائنةً من ذكر أو أنثى، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} والكلامُ على "أو" أيضاً" وقوله: "وهو مؤمن" جملة حالية من فاعل "يعمل" وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: "يُدْخَلون" هنا وفي مريم وأول غافر بضم حرف المضارعة وفتح الخاء مبنياً للمفعول، وانفردَ ابنُ كثير وأبو بكر بثانية غافر، وأبو عمرو بالتي في فاطر والباقون بفتحِ حرفِ المضارعة وضَمِّ مبنياً للفاعل، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ، وقد يظهرُ فروقٌ لا يَسَعُها هذا الكتابُ.
* { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }
(5/119)
---(1/1827)
قوله تعالى: {مِمَّنْ أَسْلَمَ} متعلِّقٌ بـ "أَحْسَنُ" فهي "مِنْ" الجارة للمفضول، و"لله" متعلقٌ بـ "أَسْلَم" وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من "وجهه" وفيه نظرٌ لا يخفى. "وهو مُحْسِنٌ" حالٌ من فاعل "أَسْلم" و"اتَّبع" يجوز أن يكون عطفاً على "أسلم" وهو الظاهر، وأن يكونَ حالاً ثانية من فاعل "أسلم" بإضمار "قد" عند مَنْ يشترط ذلك، وقد تقدَّم الكلام على {حَنِيفاً} في البقرة، إلا أنه يجوزُ هنا أن يكونَ حالاً من فاعلِ "اتّبع".
قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فيه وجهان، وذلك أن اتَّخذ" إنْ عَدَّيْناها لاثنين كان مفعولاً ثانياً وإلا كانَ حالاً، وهذه الجملة عطف على الجملةِ الاستفهامية التي معنها الخبرُ نَبَّهَتْ على شرف المتبوع وأنه جديرٌ بأن يُتَّبع لاصطفاءِ الله له بالخُلّة، ولا يجوز عطفها على ما قبلها لعدم صلاحيتها صلةً للموصول. وجعلها الزمخشري جملةً معترضة قال: "فإنْ قلت ما محلُّ هذه الجملةِ؟ قلت: لا محلَّ لها من الإعراب لأنها مِنْ جمل الاعتراضاتِ نحو ما يجيء في الشعر من قولهم "والحوادثُ جَمَّةٌ" فائدتُها تأكيدُ وجوبِ اتِّباع مِلَّته، لأنَّ مَنْ بَلَغ من الزُّلقى عند الله أَن اتَّخذه خليلاً كان جديراً بأن يُتَّبع" فإنْ عنى بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس ثَمَّ اعتراضٌ، إذ الاعتراضُ بين متلازمين كفعلٍ وفاعل مبتدأ وخبر وشرط وجزاء وقسم وجواب، وإن عَنَى غيرَ ذلك احتُمِل، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم: "والحوادثُ جَمَّةٌ" يُشْعِر بالاعتراض المصطلح عليه؛ فإن قولهم "والحوادث جمة" وَرَدَ في بيتينِ، أحدُهما بين / فعل وفاعل كقوله:
1656- وقد أَدْرَكَتْني والحوادثُ جَمَّةٌ * أَسِنَّةُ قومٍ لا ضعافٍ ولا عُزْلِ
والآخرُ يحتمل ذلك، على أن تكونَ الباءُ زائدةً في الفاعل كقوله:
1657- ألا هل أتاها والحوادثُ جَمَّةٌ * بأنَّ امرأ القيس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
(5/120)
---(1/1828)
ويحتمل أن يكونَ الفاعلُ ضميراً دلَّ عليه السياق أي: هل أتاها الخبر بأن امرأ القيس، فيكون اعتراضاً بين الفعل ومعموله.
والخليلُ: مشتق من الخَلَّة بالفتح وهي الحاجاة، أو من الخُلَّة بالضمر، وهي المودة الخالصة، أو من الخَلَل. قال ثعلب: "سُمِّي خليلاً لأن مودته تَتَخَلَّلُ القلبَ" وأنشد:
1658- قد تَخَلَّلْتَ مسلكَ الروحِ مني * وبه سُمِّي الخليلُ خليلا
وقال الراغب: "الخَلَّة - أي بالفتح- الاختلافُ العارضُ للنفس: إمَّا لشَهْوَتِها لشيء أو لحاجتِها إليه، ولهذا فَسَّر الخَلّة بالحاجة، والخُلّة - أي بالضم - المودة: إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تُخِلُّ النفسَ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السهم في الرميَّة، وإمَّا لفَرْطِ الحاجة إليها".
* { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }
(5/121)
---(1/1829)
قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى}: فيه سبعة أوجه، وذلك أن موضع "ما" يحتمل أن يكون رفعاً أو نصباً أو جراً. فالرفعُ من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكنِّ في "يُفتيكم" العائدِ على الله تعالى، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجار والمجرور مع أن الفصلَ بأحدِهما كافٍ. والثاني: أنه معطوفٌ على لفظ الجلالة فقط، كذا ذكره أبو البقاء وغيرُه، وفيه نظر، لأنه: إمَّا أَنْ يُجعلَ من عطف مفردٍ على مفرد فكان يجب أن يُثَنَّى الخبرُ وإنْ توسط بين المتعاطفين فيقال: "يُفْتِيانكم"، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز، ومَنِ ادَّعى جوازه يَحْتاج إلى سماع من العرب فيقال: "زيد قائمان وعمرو" ومثلُ هذا لا يجوز، وإمَّا أَنْ يُجْعَلَ من عطف الجمل بمعنى أنَّ خبرَ الثاني محذوفٌ أي: وما يتلى عليكم يُفْتيكم، فيكون هذا هو الوجهَ الثالث - وقد ذكروه - فيلزم التكرار. والثالث من أوجه الرفع: أنه رفع بالابتداء وفي الخبر احتمالان، أحدهما: أنه الجار بعده وهو "في الكتاب" والمرادُ بما يتلى القرآنُ، وبالكتاب اللوحُ المحفوظ، وتكون هذه الجملةُ معترضةً بين البدل والمبدل منه على ما سيأتي بيانُه. وفائدةُ الاخبارِ بذلك تعظيمُ المتلوِّ ورفعُ شأنِه، ونحوه: {وَإِنَّهُ فِيا أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} والاحتمال الثاني: أن الخبر محذوف: أي: والمتلوُّ عليكم في الكتاب يُفْتيكم أو يبيِّن لكم أحكامَهن، فهذه أربعة أوجه. وكلام الزمخشري يحتمل جميع الأوجهه، فإنه قال: "ما يُتْلى" في محل الرفع أي: اللّهُ يُفْتيكم والمتلوُّ في الكتاب في معنى اليتامى، يعين قولَه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} وهو من قولك: "أعجبني زيدٌ وكرمه" انتهى. يعني أنه من بابِ التجريد، إذ المقصودُ الإخبارُ بإعجاب كرمِ زيدٍ، وإنما ذُكِر زيدٌ ليُفيدَ هذا المعنى الخاص لذلك المقصود أنّ الذي يُفْتيهم هو المتلو في الكتاب، وذُكِرت(1/1830)
(5/122)
---
الجلالةُ للمعنى المشار [إليه]، وقد تقدَّم تحقيق التجريد في أول البقرة عند قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ
}. والجر من وجهين، إحدهما: أن تكون الواو للقسم، وأقسمَ اللّهُ بالمتلوِّ في أن النساء تعظيماً له كأنه قيل: وأُقْسم بما يُتْلى عليكم في الكتاب، ذكره الزمخشري والثاني: أنه عطفٌ على الضمير المجرور بـ"في" أي: يُفْتيكم فيهنَّ وفيما يتلى، وهذا منقولٌ عن محمد بن أبي موسى قال: "أفتاهما لله فيما سألوا عنه وفيما لم يَسْألوا" إلا أنَّ هذا ضعيف من حيث الصناعةُ، لأنه عطفٌ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو رأي الكوفيين، وقد قَدَّمْتُ ما في ذلك من مذاهب الناس ودلائلهم مستوفى عند قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فعليك بالالتفات إليه. قال الزمخشري: "ليس بسديدٍ أن يُعْطَف على المجرور في "فيهنَّ" لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى" وهذا سبَقَه إليه أبو إسحاق قال: "وهذا بعيدٌ بالنسبةِ إلى اللفظ وإلى المعنى: أمَّا اللفظُ فإنه يقتضي عطفَ المُظْهَر على المضمرِ، وأما المعنى فلأنه ليس المرادُ أنَّ اللّهَ يفتيكم في شأنِ ما يُتْلى عليكم في الكتاب، وذلك غيرُ جائزٍ كما لم يَجُزْ في قوله {تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} يعني من غير إعادة الجار. وقتد أجاب الشيخ عما ردَّ به الزمخشري والزجاج بأن التقدير: يُفْتيكم في متلوِّهنَّ وفيما يُتْلى عليكم في الكتابِ في يتامى النساء، وحُذِفت لدلالة قوله {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وإضافةُ "متلوّ" إلى ضمير "هُنَّ" سائغةٌ، إذ الإضافةُ تكون بأدنى ملابسةٍ لمَّا كان متلواً فيهن صَحَّتِ الإضافةُ إليهن، كقوله: {مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لمَّا كان المكرُ يقع فيهما صَحَّتْ إضافُته إليهما، ومثله قول الآخر:
1659- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بِسُحْرَةٍ * سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في الغرائب
وفي هذا الجواب نظرٌ.
(5/123)
---(1/1831)
والنصبُ بإضمار فعل أي: ويبيِّن لكم ما يُتْلى، لأنَّ "يُفْتيكم" بمعنى بيِّن لكم. واختار الشيخ وجهَ الجرِّ على العطفِ على الضمير، مختاراً لمذهب الكوفيين وبأنَّ الأوجه كلَّها تؤدي إلى التأكيد، وأمَّا وجهُ العطف على الضمير فيجعلُه تأسيساً قال: "وإذا دار الأمرُ بينهما فالتأسيسُ أَوْلى" وفي جَعْلِه هذا الوجهَ منفرداً بالتأسيس دونَ بقية الأوجه نظرٌ لا يَخْفى.
قوله: {فِي الْكِتَابِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلق بـ"يُتْلى" والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في "يتلى" والثالث: أنه خبر "ما يتلى" على الوجه الصائر إلى أنَّ "ما يتلى" مبتدأ، فيتعلق بمحذوف أيضاً، إلاَّ أنَّ محلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ، وعلى ما قبله نصبٌ.
(5/124)
---(1/1832)
قوله: {فِي يَتَامَى} فيه خمسة أوجه، أحدُهما: أنه بدل من "الكتاب" وهو بدلُ اشتمالٍ، ولا بد مِنْ حذفِ مضافٍ أي في حُكْم يتامى، ولا شك أن الكتابَ مشتملٌ على ذكرِ أحكامهن. والثاني: أن يتعلق بـ"يتلى" فإن قيل: كيف يجوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جر بلفظ واحد ومعنى واحد؟ فالجوابُ أنَّ معناهما مختلف، لأنّ الأولى للظرفيةِ على بابها، والثانية بمعنى الباء لسببية مجازاً أو حقيقةً عند مَنْ يقولُ بالاشتراك. وقال أبو البقاء: كما تقولُ "جئتُك في يوم الجمعة في أَمْرِ زيد" والثالث: أنه بدل من "فيهن" بإعادة العامل، ويكون هذا بدل بعض من كل. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: بِمَ تعلَّق قوله "في يتامى النساء؟" قلت: في الوجه الأول هو صلةُ "يُتْلى" أي: يُتْلى عليكم في معناهن، ويجوز أن يكونَ "في يتامى" بدلاً من "فيهنَّ"، وأمّا في الوجهين الأخيرين فبدلٌ لا غير" انتهى. يعني بالوجه الأول أن يكونَ "ما يتلى" مرفوعَ المحل. قال الشيخ: "أمَّا ما أجازه في وجَهْ الرفع من كونه صلة "يتلى" فلا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "في الكتاب" أو تكون "في" للسببية، لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعاملٍ واحد، وهو ممتنعٌ لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعاملٍ واحد، وهو ممتنعق إلا في البدل والعطف، وأمَّا تجويزُه أن يكونَ بدلاً من "فيهن" فالظاهرُ أنه يجوز للفصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالمعطوفِ، ويصير هذا نظيرَ قولك: "زيدٌ يقيمُ في الدار وعمروٌ في كِسْرٍ منها" فَفَصَلْتَ بين "في الدار" وبين "في كِسْر" بـ"عمرو" والمعهودُ في مثل هذا / التركيب: زيدٌ يقيمُ في الدار في كِسْرٍ منها وعمروٌ" الرابعُ: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب أي: فيما كَتَب في حكم اليتامى. الخامس: أنه حال فيتعلَّق بمحذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو المرفوعُ بـ"يُتْلى" أي: كائناً في حكم يتامى النساء، وإضافةُ "يتامى" إلى النساء من بابِ إضافةِ الخاص إلى العام لأنهن ينقسمن(1/1833)
(5/125)
---
إلى يتامى وغيرهن. وقال الكوفيون: هو من إضافةِ الصفة إلى الموصوف، إذا الأصلُ: في النساء اليتامى، وهذا عند البصريين لا يجوز، ويؤولون ما وَرَدَ من ذلك. وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: إضافة اليتامى إلى النساء ما هي؟ قلت: هي إضافةٌ بمعنى "مِنْ" نحو: سُحْقِ عمامةٍ. قال الشيخ: "والذي ذكره النحويون من ذلك إضافة الشيء إلى جنسه نحو: "خاتمُ حديدٍ" ويجوزُ الفصل إمَّا بإتباع نحو: "خاتمٌ حديدٌ" أو تنصبَه تمييزاً نحو: "خاتمٌ حديداً" أو تجرُّه بـ "مِنْ" نحو: خاتم من حديد" قال: "والظاهر أن إضافة "سُحْق عمامةٍ" و"يتامى النساء" بمعنى اللامِ، ومعنى اللام الاختصاص" وهذا الردُّ ليس بشيء فإنهم ذكروا ضابط الإضافة التي بمعنى "مِنْ" أن تكونَ إضافةَ جزءٍ إلى كل بشرطِ صدقِ اسمِ الكل على البعض، ولا شك أن "يتامى" بعض من النساء، والنساء يَصْدُق عليهنَّ، وتحرَّزْنا بقولنا "بشرطِ صدقِ الكل على البعض، من نحو "يد زيد" فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليد وحدَها. وقال أبو البقاء: "في يتامى النساء" أي: في اليتامى منهن" وهذا تفسيرُ معنى لا إعرابٍ.
والجمهور على "يتامى" جمع يتيمة. وقرأ أبو عبد الله المدني: "ييامى" بياءين مِنْ تحتُ، وخَرَّجه ابن جني على أن الأصل "أَيامى" فأَبْدَل من الهمزة ياءً، كما قالوا: "فلانٌ ابنُ أعصر ويَعْصر"، والهمزةُ أصلٌ، سُمِّي بذلك لقوله:
1660- أبْنَيَّ إنَّ أباكَ غَيَّر لونَه * كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ
(5/126)
---(1/1834)
وهم يُبْدلون الهمزةَ من الياء كقولهم: "قطع الله أَدَاهُ" يريدونك يَده، فلذلك يُبْدِلون منها الياءَ، و"أيامى" جمع "أَيِّم" بوزن فَيْعِل، ثم كُسِّر على أيام كسيِّد وسيايد، ثم قُلِبَتِ اللامِ إلى موضع العين، والعين إلى موضع اللام فصار اللفظ "أَيامي" ثم قُلِبت الكسرةُ فتحةً لخفتِها، فتحركت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصار: "أيامى" فوزنه فيالع. وقال أبو الفتح أيضاً: "ولو قيل إنه كُسِّر أيِّم على فَعْلى كسَكْرى ثم كُسِّر ثانياً على "أيامى" لكان وجهاً حسناً. وسيأتي تحقيق هذه اللفظة عند قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ} إنْ شاء الله تعالى. وقرئ: "ما كَتَبَ اللَّهُ لهنَّ بتسمية الفاعل.
قوله: {وَتَرْغَبُونَ} فيه أوجه، أحدُهما: - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على الصلةِ عطفَ جملةٍ مثبتةٍ على جملةٍ منفية أي: اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون أن تنكوحوهُن، كقولك: "جاء الذي لا يَبْخَلُ ويكرم الضيفان" والثاني: أنه معطوفٌ على الفعلِ المنفيِّ بـ"لا" أي: لا تؤتونهن ولا ترغبون والثالث: أنه حالٌ من فاعل "تؤتونهن" أي: لا تؤتونهن وأنتم راغبون في نكاحهن. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وفيهما نظر: أمّا الأولُ فلخلافِ الظاهر، وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به ههنا.
(5/127)
---(1/1835)
و{أَن تَنكِحُوهُنَّ} على حَذْفِ حرفِ الجر ففيه الخلاف المشهور: أهي في محل نصب أم جر؟ واختُلِفَ في تقدير حف الجر فقيل: هو "في" أي: ترغبون في نكاحهن لجالِهِنَّ ومالِهنَّ، وقيل: هو "عن" أي: ترغبون عن نكاحهن لقُبْحِهن وفقرهنَّ، وكان الأولياء كذلك: إن رَأَوها جميلة موسِرَةً تزوجها وليُّها، وإلاَّ رغبَ عنها. والقول الأول مرويُّ عن عائشة وطائفة كبيرة. وهنا سؤال: وهو أنَّ أهلَ العربية ذكروا أن حرف الجر يجوز حذفُه باطراد مع "أَنْ" و"أنَّ" بشرط أَمْنِ اللبس، يعني أن يكون الحرفُ متعيناً نحو: "عجبت والآيةُ من هذا القبيل. والجواب: أن المعنيين صالحان يدل عليه ما ذكرت لك من سببِ النزولِ فصار كلُّ من الحرفين مراداً على سبيلِ البدل.
قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} فيه ثلاثة أوجه الأول - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على "يتامى النساء" أي: ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، والذي تُلي عليهم فيهم قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِيا أَوْلاَدِكُمْ} وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يحمي الحَوْزة ويَذُبُّ عن الحرَمِ فيَحرمون المرأة والصغيرَ فنزلت. والثاني: أنَّه في محلِّ جر عطفاً على الضمير في "فيهن" وهذا رأيٌ كوفي. والثالث: أنه منصوب عطفاً على موضع "فيهن" أي: ويبيِّن حالَ المستضعفين. قال أبو البقاء: "وهذا التقديرُ يَدْخُلُ في مذهبِ البصريين مشنْ غير كَلَفَةٍ" يعني أنه خير من مذهب الكوفيين، حيث يُعْطَفُ على الضمير المجرور مِنْ غير إعادَةِ الجار.
(5/128)
---(1/1836)
قوله: {وَأَن تَقُومُواْ} فيه خمسةُ أوجه: الثلاثة المذكورة فيما قبله فيكون هو كذلك لعطفِه على ما قبلَه، والمتلوُّ عليهم في هذا المعنى قولُه: {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ونحوه. والرابع: النصبُ بإضمار فعل. قال الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار "يأمركم" بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطابٌ للأئمة بأَنْ ينظروا إليهم ويستوفوا لهم حقوقهم ولا يَدَعوا أحداً يهتضم جانبهم" فهذا الوجه من النصبِ غيرُ الوجهِ الذي ذكرته فيما قبلُ والخامس: أنه مبتدأ وخبره محذوفٌ أي: وقيامُكم لليتامى بالقسطِ خيرُ لكم. وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ.
* { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ}: "امرأةٌ" فاعلٌ بفعلٍ مضمر واجبِ الإضمار، وهذه من باب الاشتغال، ولا يجوزُ رفعُها بالابتداء لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يليها إلا الفعلُ عند جمهور البصريين خلافاً للأخفش والكوفين، والتقديرُ: "وإنْ خافت امرأة خافت" ونحوهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} واستدلَّ البصريون على مذهبهم بأن الفعل قد جاء مجزوماً بعد الاسم الواقع أداة الشرط في قول عدي:
1661- ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو * هُ وتُعْطَفء عليه كأسُ الساقي
و{مِنْ بعلها} يجوزُ أن يتلعَّق بـ"خافت" وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "نُشوزاً" إذ هو الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها تعذَّر جَعْلُه صفةً فنُصِب حالاً. و"فلا" جوابُ الشرط.
(5/129)
---(1/1837)
قوله: {أَن يُصْلِحَا} قرأ الكوفيون: / "يُصْلِحا" من أصلح، وباقي السبعة "يَصَّلاحا" بتشديد الصاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البتي والجحدري: "يَصَّلِحا" بتشديد الصادر من غير ألف، وعبيدة السلماني: "يُصالِحا" بضمِّ الياءِ وتخفيفِ الصادِ وبعدَها ألفٌ من المفاعلة، وابن مسعود والأعمش: "أن اصَّالحا" فأمّا قراءةُ الكوفيين فواضحةٌ، وقراءةُ باقي السبعة أصلُهَا "يتصالحا" فأُريد الإدغام تخفيفاً فَأُبْدِلت التاءُ صاداً وأُدْغِمت، وأمَّا قراءةُ عثمان فأصلُها: "يَصْطَلِحا" فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاء المبدلةِ من تاءِ الافتعال صاداً وإدغامهما فيها الأولى" وهذا ليس بجيدٍ، لأنَّ تاءً الافتاعل يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحرف الأربعة كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة، فلا حاجة إلى تقديرها تاءً، لأنه لو لُفِظ بالفعلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتاء إلا بياناً لأصلِهِ. وأمَّا قراءةُ عبيدة فواضحةٌ لأنها من المصالحة. وأما قراءة "يصطلحا" فأوضحُ. ولم يُخْتلف في "صُلْحاً" مع اختلافِهم في فعلِه.
(5/130)
---(1/1838)
وفي نصبه أوجهٌ: فإنه على قراءة الكوفيين يَحْتمل أن يكونَ مصدراً، وناصبُه: إمَّا الفعلُ المتقدمُ وهو مصدرٌ على حذف الزوائد، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسمُ مصدرٍ كالعطاءِ والنبات، وإمَّا فعلٌ مقدرٌ أي: فيُصْلِحُ حالهما صالحاً. وفي المفعولِ على هذين التقديرين وجهان، أحدُهما: أنه "بينهما" اتُسِّع في الظرف فجُعِل مفعولاً به. والثاني: أنه محذوف "وبينهما" ظرفٌ أوحالٌ مِنْ "صلحا" فإنه صفةٌ له في الأصل. ويُحْتمل أن يكونَ نصبُ "صلحاً" على المفعول به إن جعلته اسماً للشيء المصطلح عليه كالعَطاء بمعنى المُعْطى، والنبات بمعنى المُنْبَت. وأمَّا على بقيةِ القراءات فيجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً على أحدِ التقديرين المتقدمين: أعني كونَه اسمَ المصدرِ، أو كونَه على حَذْفِ الزوائد، فيكون واقعاً موقعَ "تصالحا أو اصطلاحاً أو مصحالةً" حَسْبَ القراءات المتقدمة، ويجوزُ أَنْ يكون منصوباً على إسقاطِ حرفِ الجرِ أي: بصلح أي بشيء يقعُ بسببِ المصالحة، وإذا جَعَلْناه اسماً للشيء المصطلح عليه. والحاصلُ أنه من بقية القراءات ينتفي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورِ في قراءة الكوفيين، وتبقى الأوجهُ الباقيةُ جائزةً في سائر القراءات.
(5/131)
---(1/1839)
قوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر، وهذه الجملة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها: "إنهما اعتراضٌ" ولم يبيِّنْ ذلك، وكأنه يريد أن يقولَه: "وإنْ يَتفَرَّقا" معطوفٌ على قوله: "فلا جناج" فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً، هكذا قال الشيخ وفيه نظر، فإن بعدهما جملاً أُخَرَ فكان ينبغي أن يول الزمخشري في الجميع: إنها اعتراض، ولا يخص: "والصلح خير" "وأُحْضِرَت الأنفسُ" بذلك، وإنما يريد الزمخشري بذلك الاعتراضَ بين قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} وقوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ} فإنهما شرطان متعاطفان، ويَدُلُّ عليه تفسيرُه له بما يفيد هذا المعنى فإنه قال: "وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوزَ والإعراضَ" انتهى. والألفُ واللام في "الصلح" يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكونَ للعهد لتقدُّمِ ذكره نحو: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} و"خير" يُحْتمل أن تكون للتفضيل على بابها والمفضَّلُ عليه محذوفٌ فقيل: تقديرُه: من النشوز والإعراض، وقيل: خيرٌ من الفرقة، والتقدير الأولُ أوْلى للدلالة اللفظية، ويُحْتمل أن تكون صفةً مجردةً أي: والصلحُ خيرٌ من الخيور، كما أنَّ الخصومةَ شرُّ من الشرور.
(5/132)
---(1/1840)
قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} "حَضَر" يتعدى إلى مفعول، واكتسب بالهمزة مفعولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعول قامَ أحدُهما مقامَ الفاعل فانتصبَ الآخرُ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ هنا يَحْتمل وجهين أظهرهما - وهو المشهورُ مِنْ مذاهب النحاة - أنه الأول وهو "الأنفس" فإنه الفاعل في الأصل، إذ الأصل: "حضرت الأنفسُ الشحَّ" والثاني: أنه المفعول الثاني، والأصل: وحضر الشحُّ الأنفسَ، ثم أحضر اللَّهُ الشحَّ الأنفسَ، فلما بُني الفعل للمفعول أٌقيم الثاني - وهو الأنفسُ- مقامَ الفاعل، فأُخِّر الأول وبقي منصوباً، وعلى هذا يجوز أن يقال: "أُعْطِي درهمٌ زيداً" و"كُسِي جبةً عمراً" والعكس هو المشهورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزمخشري يَحْتمل كونَ الثاني هو القائمَ مقامَ الفاعلِ فإنه قال: "ومعنى إحضارِ الأنفس الشحَّ أنَّ جُعِل حاضراً لها لا يَغيب عنها أبداً ولا ينفكط يعني أنها مطبوعةٌ عليه، فأُسْنِدَ الحضورُ إلى الشح كما ترى، ويحتمل أنه جَعَله من باب القلب فنسَب الحضورَ إلى الشحِّ وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس. وقرأ العدوي: "الشِحَّ" بكسر الشين وهي لغة. والشُّحُّ: البخل مع حرص فهو أخص من البخل.
* { وَلَن تَسْتَطِيعُوااْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
(5/133)
---(1/1841)
قوله تعالى: {كُلَّ الْمَيْلِ}: نصبٌ على المصدرية، وقد تقرر أن "كل" بحسَبِ ما تُضاف إليه، إنْ أضيفت إلى مصدر كانت [مصدراً]، أو ظرفٍ أو غيره فكذلك. قوله: {فَتَذَرُوهَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب بإضمارِ "أَنْ" في جواب النهي، والثاني: أنه مجزوم عطفاً على الفعل قبله أي: فلا تذروها، ففي الأول نَهْيٌ عن الجمع بينهما، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضميرُ في "تَذَروها" يعود على المميلِ عنها لدلالة السياق عليها. قوله: {كَالْمُعَلَّقَةِ} حال من "ها" في "تَذَروها" فيتعلق بمحذوف أي: قتذروها مشبهةً المعلقة، ويجوز عندي أن يكون مفعولاً ثانياً لأن قولك: / "تذر" بمعنى "تترك" وتَرَكَ" يتعدَّى لاثنين إذا كان بمعنى صيَّر.
* { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً }
(5/134)
---(1/1842)
قوله تعالى: {وَإِيَّاكُمْ}: عطف على "الذين أُوتوا" وهو واجبُ الفصلِ هنا لتعذُّرِ الاتصال. واستدلَّ بعضُهم على أنه إذا قُدِر على الضمير المتصل يجوز أن يُعْدَلَ إلى المنفصل بهذه الآية، لأنه كان يمكن أن يقال: "ولقد وَصَّيْناكم والذين أوتوا" وكذلك استُدِلَّ بقوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} إذ يمكن أن يقالَ: يخرجونكم والرسولَ. وهذا ليس يَدُلّ له، أمَّا الآيةُ الأولة فلأنَّ الكلامَ فيها جاء على الترتيب الوجودي، فإنَّ وصية مَنْ قبلَنا قبلَ وصيتنا، فلمَّا قَصَدَ هذا المعنى استحال - والحالةُ هذه- أَنْ يُقْدَر عليه متصلاً. وأما الآية الثانية فلأنه قصد فيها تقدُّمَ ذِكْرِ الرسول تشريفاً له وتشنيعاً على مَنْ تجاسر على مثلِ ذلك الفعل الفظيع، فاستحال- والحالة هذه - أن يُجاء به متصلاً. "ومِنْ قبلكم" يجوزُ أَنْ يتعلق بـ"أوتوا" ويجوز أَنْ يتعلَّق بـ"وَصَّيْنا" والأولُ أظهرُ.
قوله: {أَنِ اتَّقُواْ} يجوزُ في "أن" وجهان، أحدهما: أن تكونَ مصدريةً على حَذْفِ حرفِ الخفض تقديره: بأن اتَّقوا، فلما حُذِف الحرفُ جَرى فيها الخلافُ المشهور. والثاني: أن تكون المفسرةَ لأنها بعد ما هو بمعنى القول لا حروفِه وهو الوصية. والظاهر أن قوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} جملة مستأنفة للإخبار بهذه الحال ليست داخلة في معمول الوصية. وقال الزمخشري: "وإنْ تكفروا فإن لله" عطفٌ على "اتقوا" لأنَّ المعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقُلْنا لهم ولكم إنْ تكفروا" وفي كلامِه نظرٌ، لأنَّ تقديرَه القولَ ينف كونَ الجملةِ الشرطيةِ مندرجةً في حَيِّزِ الوصيةِ بالنسبة إلى الصناعة النحوية، وهو لم يقصد تفسيرَ المعنى فقط، بل قَصَدَه هو وتفسيرَ الإعرابِ بدليل قوله: "عطف على "اتقوا" و"اتقوا" داخلٌ في حَيِّز الوصيةِ، سواءً أَجَعَلْتَ "أن" مصدريةً أم مفسرة.
(5/135)
---(1/1843)
* { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً }
قوله تعالى: {بِآخَرِينَ}: آخرين صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ مِنْ جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه: بناسٍ آخرين يعبودن الله، ويجوز أن يكونَ المحذوفُ من غير جنس ما تقدَّمه. قال ابن عطية: "يحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم، ويكونُ الآخرون من غير نوعهم، كا رُوي أنه كان ملائكةٌ في الأرض يعبدون الله. وقال الزمخشري: "أو خلقاً آخرين غيرَ الإنس" وكذلك قال غيرهما. وقد رَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنَّ مدلولَ آخر وأخرى وتثنيتهما وجمعَهما نحو مدلول "غير" إلا أنه خاصُّ بجنسِ ما تقدَّمه، فإذا قتل: "اشتريت فرساً وآخرَ، أو: ثوباً وآخر، أو: جارية وأخرى، أو: جاريتين وأُخْريين، أو جواري وأُخَرَ" لم يكن ذلك كلُه إلا من جنس ما تقدم، حتى لو عنيت "وحماراً آخر" فيا لأمثلة السابقة لم يَجُزْ، وهذا بخلاف "غير" فإنَّها تكون من جنسِ ما تقدَّم ومِنْ غيرِه، تقول "اشتريت ثوباً وغيره" لو عنيت: "وفرساً غيره" جاز. قال: "وقَلَّ مَنْ يعرف هذا الفرق" وهذا الفرقُ الذي ذكره وَردَّ به على هؤلاء الأكابر غيرُ موافَقٍ عليه، لم يستند فيه إلى نَقْل، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريق أخرى، وهو أن "آخرين" صفةٌ لموصوف نحو: "مررت بكاتب" أو يدل عليه دليل، وهنا ليست بخاصةٍ، فلا بد وأن تكونَ من جنسِ الأولِ لتحصُلَ بذلك الدلالةُ على الموصوفِ المحذوفِ.
* { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً }
(5/136)
---(1/1844)
قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ}: "مَنْ" يجوز فيها وجهان، أظهرهما: أنها شرطية، وجوابُها قولُه: {فَعِندَ اللَّهِ} ولا بد من ضمير مقدر في هذا الجواب يعودُ على اسم الشرط لِما تقرر قبل ذلك، والتقدير: فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرةِ له إنْ أراده، وهذا تقدير الزمخشري. قال: "حتى يتعلَّق الجزاءُ بالشرط" وجَوَّز الشيه - وجعله الظاهرَ- أنَّ الجواب محذوف تقديره: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يَقْتصر عليه، وليطلبِ الثوابين، فعند الله يوابُ الدارين. والثاني: أنها موصلةٌ ودخلت الفاءُ في الخبر تشبيهاً له باسم الشرط، ويُبْعِده مُضِيُّ الفعلِ بعدَه [والعائدُ محذوفٌ كما تقرَّر تمثيلُه].
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }
قوله تعالى: {شُهَدَآءِ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه خبر ثان لـ":ان" وهذا فيه خلافٌ قد مَرَّ ذكره. والثاني: أنه حال من الضمير المستكن في "قَوَّامين" فالعاملُ فيها "قَوَّامين" وقد رَدَّالشيخ هذا الوجهَ بأنه يلزمُ منه تقييدُ كونِهم قوامين بحال الشهادة، وهم مأمورن بذلك مطلقاً، وهذا الردُّ ليس بشيء، فإن هذا المعنى نحا إليه ابن عباس قال - رضي الله عنه-: "كونوا قَوَّامين بالعدلِ في الشهادة على مَنْ كانَتْ" وهذا هو معنى الوجهِ الصائرِ إلى جَعْلِ "شهداء" حالاً.
(5/137)
---(1/1845)
قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} "لو" هذه تحتمل أَنْ تكونَ على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقعُ لوقوعِ غيره وجوابُها محذوفٌ أي: ولو كنتم شهداءَ على أنفسم لوجب عليكم أن تَشْهدوا عليها. وأجاز الشيخ أن تكونَ بمعنى "إن" الشرطية،ويتعلَّقُ قولُه "على أنفسكم" بمحذوفٍ تقديرُه: وإن كنتم شهداء على أنفسهم فكونوا شهداء لله، هذا تقديرُ الكلام، وحَذُْ "كان" بعد "لو" كثير، تقول: ائتِني بتمر ولو حَشَفاً" أي: وإن كان التمر حشفاً فأتني به". انتهى وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه، ومجيءُ "لو" بمعنى "إنْ" شيءْ أثبته بعضُهم على قلة فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ عليه. وقال ابن عطية: "على أنفسكم" متعلِّقٌ بـ"شهداء" قال الشيخ "فإنْ عنى بـ"شهداء" الملفوظَ به فلا يَصِحُّ، وإنْ عَنَى به ما قَدَّرْناه نحن فيصِحُّ" يعني تقديرَه "لو" بمعنى "إنْ" وحَذْفَ "كان" واسمِها وخبرِها بعد "لو" وقد تقدَّم أن ذلك قليلٌ، فلم يبق إلا أن ابن عطيةَ يريد "شهداء" محذوفةً كما قَدَّرْتُه لك أولاً نحو: "ولم كنتم شهداء" على أنفسكم لوجَبَ عليكم أن تشهدوا.
(5/138)
---(1/1846)
وقال الزمخشري: "ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسكم" فَجَعَل "كان" مقدرةً، وهي تحتملُ في تقديرِه التمام والنقصان: فإنْ قَدَّرْتَها تامةً كان قولُه "على أنفسكم" / متعلقاً بنفسِ الشهادة، ويكون المعنى: "ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنفسكم، وإنْ قَدَّرْتَها ناقصةً فيجوزُ أَنْ يكونَ "على أنفسكم" متعلقاً بمحذوفٍ على أنه خبرها، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الشهادة، وحينئذ يكون الخبر مقدراً، والمعنى: "ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسِكم موجودةً، إلا أنه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا "على أنفسكم" متعلقاً بالشهادة حَذْفُ المصدرِ وأبقاءُ معمولِه وهو قليلٌ أو ممتنع. وقال أيضاً: "ويجوز أن كون المعنى: "وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم" ورَدَّ عليه الشيخ هذين الوجهين فقال: "وتقديرُه: ولو كانت الشهادة على أنفسكم ليس بجيد؛ لأن المحذوف إنما يكون مِنْ جنسِ الملفوظِ به ليدلَّ عليه، فإذا قلت: "كن محسناً ولو لمَنْ أساء إليك" فالتقدير: ولو كنت محسناً لمَنْ أساء، ولو قَدَّرْته "ولو كان إحسانك" لم يكن جيداً لأنك تحذف ما لا دلالةَ عليه بلفظٍ مطابقٍ" وهذا الردُّ ليس بشيء، فإن الدلالة اللفظية موجودةٌ لاشتراكِ المحذوفِ والملفوظِ به في المادة، ولا يَصُرُّ اختلافُهما في النوع. وقال في الوجه الثاني: "وهذا لا يجوز لأن ما تعلق به الظرف كونٌ مقيدٌ، والكونُ المقيد لا يجوزُ حَذْفُه بل المطلقُ، لو قلت: "[كان] زيدٌ فيك" تعني: محباً فيك لم يجز" وهذا الرد أيضاً ليس بشيء لأنه قَصَد تفسير المعى، ومبادئُ النحو لا تَخْفى على آحاد الطلبة فكيف بشيخِ الصناعة؟.
(5/139)
---(1/1847)
قوله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} إذا عُطف بـ"أو" كان الحكمُ في عَوْدِ الضمير والإخبارِ وغيرِهما لأحدِ الشيئين أو الأشياء، أو الأشياء، ولا يجوز المطابقةُ تقول: "زيد أو عمرو أكرمته" ولو قلت: أكرمتها لم يَجُزْ، وعلى هذا يقال: كيف ثَنَّى الضميرَ في الآية الكريمة والعطفُ بـ أو؟ ولا جرم أن النحويين أختلفوا في الجوابِ عن ذلك على خمسةِ أوجه. أحدها: أنَّ الضميرَ في "بهما" لي عائداً على الغني والفقير المذكورين أولاً، بل على جنسَيْ الغني والفقير المدلولِ عليهما بالمذكورَيْن، تقديرُه: وإنْ يكنِ المشهودُ عليه غنياً أو فقيراً فليشهد عليه، فاللَّهُ أَوْلى بجنسَي الغني والفقير، ويَدُلُّ على هذا قراءة أُبَيّ: "فالله أوْلَى بهم" أي بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجنس على ما قَرَّرته لك، ويكون قوله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ليس بجواباً للشرط، بل جوابُه محذوفٌ كما قد عرفته، وهذا دالٌّ عليه. والثاني: أنَّ "أو" بمعنى الواو، ويُعْزى هذا للأخفش، وكنت قدَّمْتُ أولَ البقرة أنه قولُ الكوفيين وأنه ضعيفٌ. الثالث: أن "أو" للتفصيل أي: لتفصيلِ ما أُبْهم. وقد أوضح ذلك أبو البقاء فقال: "وذلك أنَّ كلَّ واحد من المشهود عليه والمشهد له قد يكون غنياً وقد يكون فقيراً. فلما كانتِ الأقسام عند التفصيل على ذلك أُتِي بـ"أو" لتدل على التفصل، فعلى هذا يكون الضمير في "بهما" عائداً على المشهود له والمشهودِ عليه على أيِّ وصفٍ كانا عليه" انتهى. إلاَّ أنَّ قولَه: "وقد يكون أحدهما غنياً والآخر فقيراً" مكررٌ لأنه يُغْني عنه قولُه "وذلك أنَّ كلَّ واحد" إلى آخره. الرابع: أنَّ الضمير يعود على الخصمين تقديره: إن يكن الخصمان غيناً أو فقيراً فالله أَوْلى بذينك الخصمين. الخامس: أنَّ الضميرَ يعودُ على الغِنى والفقر المدلول عليهما بلفظِ الغني والفقير. والتقديرُ: فاللَّهُ أولى بغِنى الغَني وفَقْر الفقير. وقد أساء ابنُ عصفور العبارةَ(1/1848)
(5/140)
---
هنا بما يُوقَفُ عليه في كلامه. وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشرطِ ملفوظاً به وهو قولُه: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} بخلافِ الأول فإنه محذوفٌ وقرأ عبد الله: "إن يكنْ غنيٌ أو فقيرٌ" برفعِهما، والظاهرُ أنَّ "كان" في قراءته تامةٌ، أي: وإنْ وُجِد غني أو فقير، نحو: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
}. قوله: {أَن تَعْدِلُواْ} فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: فلا تَتَّبِعوا الهوى محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، أو إرادةَ أَنْ تَعْدلوا أي: تَعْدِلوا عن الحق وتَجُوروا. وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف: "تقديرُه: مخافةَ أَنْ تَعْدِلوا عن الحق" وقال ابن عطية: "يُحْتمل أن يكونَ معناه: مخافةَ أن تعْدِلوا، ويكون العدلُ هنا بمعنى / العُدول عن الحق، ويُحْتمل أن يكونَ معناه: محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، ويكونُ العدلُ بمعنى القسط، كأنه يقول: انتهو خوفَ أَنْ تجوروا، أو محبةَ أَنْ تُقْسِطوا، فإنْ جَعَلْتَ العامل "تتبعوا" فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى محبةَ أَنْ تَجُورا" انتهى. فتحصَّل لنا في العاملِ وجهان: الظاهرُ منهما أنه نفسُ "تتبَّعوا" والثاني: أنه مضمر وهو فعلٌ مِنْ معنى النهي كما قَدَّره ابنُ عطية، كأنه يزعم أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قولِه: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى} ثم أضْمَرَ عاملاً، وهذا ما لا حاجةَ إليه.(1/1849)
الثاني: أنه على إسقاط حرفِ الجر وحَذْفِ "لا" النافية، والأصل: فلا تَتَّبعوا الهوى في ألاَّ تَعْدِلوا أي: في تَرْكِ العدل، فَحَذفت "لا" لدلالة المعنى عليها، ولَمَّا حَذَفَ حرفَ الجر من "ان" جرى القولان الشهيران. الثالث: أنه على حَذْفِ لام العلة تقديرُه: فلا تتبعوا الهوى لأنْ تَعْدِلوا. قال صاحب هذا القول: "والمعنى: لا تتبعوا الهوى لتكونوا في اتِّباعكموه عدولاً تنبيهاً [على] أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ متنافيان لا يجتمعان، وهو ضعيفٌ في المعنى.
(5/141)
---
قوله: {وَإِن تَلْوُواْ} قرأ ابن عامر وحمزة "تَلُوا" بلامٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنة، والباقون بلامٍ ساكنةٍ وواوين بعدها، أولاهما مضمومة.
فأمَّا قراءةُ الواوين فظاهرةٌ لأنه من لَوَى يَلْوي، والمعنى: وإنْ تَلْووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، والأصل: تَلْوِيُون كتَضْرِبون، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فَحُذفت، فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فحُذِف أولُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكسورةُ التي هي عني لأجل واوِ الضمير فصار تَلْوُون، وتصريفُه كتصريف "تَرْمُون".
(5/142)
---(1/1850)
وأما قراءة حمزة وابن عامر ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: وهو وقول الزجاج والفراء والفارسي في إحدى الروايتين عنه - أنه من لَوَى يَلْوي كقراءة الجماعة، إلاَّ أنَّ الواوَ المضومةَ قُلِبَتْ همزةً كقلبها في "أُجوه" و"أُقِّتتْ" ثم نُقِلت حركةُ هذه الهمزة إلى الساكنِ قبلها وحذفت فصار "تَلُون" كما ترى. الثاني: أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً. إلا ان الضمةَ استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلبت إلى اللام الساكنة تخفيفاً، فالتقى ساكنان وهما الواوان / فحُذِفت الأول منهما، ويُعْزى هذا للنحاس. وفي هذين التخريجين نظرٌ، وهو أنَّ لامَ الكلمة قد حُذِفَت أولاً كما قررته فصار وَزْنُه: تَفْعُلوا، بحذف اللام، ثم حُذِفت العينُ ثانياً فصار وزنُه: تَفُوا، وذلك إجْحاف بالكلمة. الثالث- ويُعْزى لجماعة منهم الفارسي- أن هذه القراءة مأخوذة من الولاية بمعنى: وإنْ وُلِّيتم إقامةَ الشهادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ فتعدلوا عنه، والأصل: "تَوْلِيُوا" فحذفت الواوُ الأولى لوقوعِها بين حرفِ المضارعة وكسرةٍ، فصار "تَلِيُوا" كتَعِدُوا وبابه، فاستثقلت الضمةُ على الياء ففُعِل بها ما تقدَّم في "تَلْوُوا" وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة حمزة وابن عامر - منهم أبو عبيد- قالوا: لأنَّ معنى الولاية غيرُ لائق بهذا الموضع. قال أبو عبيد: "القراءةُ عندنا بواوين مأخوذةٌ من "لَوَيْتُ" وتحقيقه في تفسير ابن عباس: هو القاضي يكونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخصمين للآخر. وهذا الطعنُ ليس بشيء لأنها قراءةٌ متواترةٌ ومعناها صحيح، لأنه إنْ أَخَذْناها من الولاية كان المعنى على ما تقدم، وإن أخذناها من الليِّ فالأصلُ "تَلْوُوا" كالقراءة الأخرى، وإنما "فُعِل بها ما تقدم من قَلْبِ الواوِ همزةً ونَقْلِ حركتها، أو من نَقْلِ حركتها من غير قَلْبٍ فتتفق القراءتان في المعنى.
(5/143)
---(1/1851)
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيا أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ}: أي: داواموا على الإيمان، أو يُراد بالذين آمنوا جميعُ الناس، وذلك يوم أخذ عليهم الميثاقَ. وقرأ نافع والكوفيون: "والكتابِ الذي نَزَّل على رسوله والكتاب الذي أَنْزل من قبل" على بناء الفعلين للفاعل، وهو الله تعالى، والباقون على بنائهما للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير الكتاب. وقال الزمخشري. "فإن قتل: لِمَ قال: "نَزَّل على رسوله، وأَنْزل من قبل؟ قلت: لأنَّ القرآنَ نَزَلَ منجَّماً مفرَّقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله" وقد تقدَّم [البحثُ] معه في ذلك، وأن التضعيف في "نَزَّل" للتعدية مرادفٌ للهمزة لا للتكثير. وقوله: "فقد ضَلَّ ضلالاً" ليس جواباً للأشياء الثلاثة، بل المعنى: ومَنْ يكفرْ بواحدٍ منها.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }
وقوله تعالى: {لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ}: كقوله: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه ومذاهبُ الناس وأن لام الجحود تفيدُ التوكيدَ، والفرق بين قولِك: "ما كان زيدٌ يقوم" و"ما كان ليقومَ.
* { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً }
(5/144)
---(1/1852)
والفاءُ في قوله تعالى: {فَإِنَّ العِزَّةَ}: لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: إن تبتغوا من هؤلاء عزةً. و"جميعاً" حال من الضمير المستكنِّ في قوله "لله" لوقوعه خبراً. قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ} يجوز فيه النصبُ والرفعُ، فالنصب من وجهين، أحدهما: كونُه نعتاً للمنافقين. والثاني: أنه نصب بفعل مضمر أي: أذمُّ الذين، والرفع على خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين.
* { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }
قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ} قرأ الجماعة: "نُزِّل" مبنياً للمفعول، وعاصم / قرأه مبنياً للفاعل، وأبو حيوة وحميد "نَزَل" مخففاً مبنياً للفاعل، ولانخعي "أُنْزِل" بالهمزة مبنياً للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الجماعة والنخعي هو "أَنْ" وما في حَيِّزها أي: وقد نَزَّل عليكم المنعَ من مجالستهم عند سماعِكم الكفرَ بالآيات والاستهزاء بها. وأمّا في قراءةِ عصام فـ"أَنْ" مع ما بعدها في محل نصب مفعولاً به بـ "نزَّل" والفاعل ضميرُ الله تعالى كما تقدم. وأما في قراءة أبي حيوة وحميد فمحلُّها رفع بالفاعلية لـ"نزل" مخففاً، فمحلها: إمّا نصب على قراءة عاصم أو رفع على قراءة غيره، ولكن الرفع مختلف. و"أن" هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن، أي: أنَّ الأمر والشأن إذا سمعتم الكفر والاستهزاء فلا تقعدوا.قال الشخي "وما قَدَّره أبو البقاء من قوله: "أنكم إذا سمعتم" ليس بجيد، لأن "أن" المخففة لا تعمل إلاَّ في ضمير الشأن، إلا في ضرورة كقوله:
1662- فلو أَنْكِ في يومِ الرخاءِ سَأَلْتِني * طلاقَك لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ
(5/145)
---(1/1853)
هكذا قال، ولم أَرَه أنا في إعراب أبي البقاء إلا أنه بالهاء دون الكاف والميم. والجملةُ الشرطية المنعقدةُ من "إذا" وجوابها في محل رفع خبراً لـ"أَنْ" ومن مجيء الجملة الشرطية خبراً لـ "أنْ" المخففة قوله:
1663- فعلمْتُ أَنْ ما تَتَّقُوه فإنه * جَزْرٌ لِخامعةٍ وفَرْخِ عقابِ
فـ "ما" شرطيةٌ و"فإنه جوابُها، والجملةُ خبرٌ لـ"أن" المخففةِ.
قوله: {يُكَفَرُ بِهَا} في محلِّ نصبٍ على الحال من الآيات، و"بها" في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ، وكذلك في قوله {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} والأصل: يَكفر بها أحدٌ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ قام الجارُّ والجرورُ مقامه، ولذك رُوعي هذا الفاعل المحذوف، فعاد عليه الضميرُ من قوله "معهم" "حتى يخوضوا" كأنه قيل: إذا سمعتم آياتِ الله يَكْفُر بها المشركون ويستهزئ بها المنافقون فلا تَقْعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيرِه أي: غيرِ حديث الكفر والاستهزاء، فعاد الضمير في "غيره" على ما دلَ عليه المعنى. وقيل: الضمير في "غيره" يجوزُ أَنْ يعود على الكفر والاستهزاء المفهومَيْن من قوله "يكفر بها" و"يستهزأ بها" وإنما أفرد الضمير وإن كان المراد به شيئين لأحد أمرين: إمَّا لأنَّ الكفرَ والاستهزاء شيءٌ واحدٌ في المعنى، وإمَّا لإجراءِ الضميرِ مُجْرى اسمِ الإشارةِ نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ} و[قوله:]
1664- كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ
وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. و"حتى" غايةٌ للنهي، والمعنى: أنه يجوز مجالتسهم عند خوضِهم في غيرِ الكفر والاستهزاء.
(5/146)
---(1/1854)
وقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } "إذنْ" هنا مُلْغَاةٌ لوقوعها بين مبتدأ وخبر. والجمهور على رفعِ اللام في "مثلُهم" على خبرِ الابتداء. وقرئ شاذاً بفتحها، وفيها تخريجان، أحدهما: - وهو قلُ البصريين- أنه خبر أيضاً، وإنما فُتِح لإضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} بفتح اللام، وقول الفرزدق:
1665- ..................... * ..........وإذما مثلَهم بشرُ
في أحدِ الأوجه. والثاني: - وهو قولُ الكوفيين- أن "مثل" يجوز نصبُها على المحل أي الظرف، ويجيزون: "زيد مثلك" بالنصب على المحل أي: زيدٌ في مثلِ حالك. وأفرد "مثل" وإن أخبر به عن جمع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله: {ثُمَّ لاَ يَكُونُوااْ أَمْثَالَكُم} وقوله {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} قال أبو البقاء وغيرُه: "لأنه قَصَدَ به هنا المصدرَ فوحَّد كما وحَّد في قوله: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وتحرير المعنى: أن التقدير: إن عصيانكم مثلُ عصيانهم، إلا أنَّ تقدير المصدرية في قوله "لبشر مثلنا" قلق.
* { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوااْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوااْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }
(5/147)
---(1/1855)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ}: فيه ستة أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ} فيجيء فيه الأوجه المذكورة هناك. الثاني: أنه نعتٌ للمنافقين على اللفز فيكون مجرورَ المحل. الثالث: أنه تابعٌ لهم على الموضعِ فيكونُ منصوبَ المحلِّ، وقد تقرر أنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ إذا أُضيفَ إلى معمولِه جاز أن يُتْبَعَ معمولُه لفظاً وموضعاً، تقول: "هذا ضاربٌ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ" بجرِّ العاقلة ونصبها. الرابع: أنه منصوبٌ على الشتم. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمر أي: هم الذين. السادس: - وذكره أبو البقاء- أنه مبتدأ والخبرُ قولُه:"فإنْ كان لكم فتحُ" وهذا ضعيفٌ لنبوِّ المعنى عنه ولزيادة الفاءِ في غيرِ محلِّها، لأنّ هذا الموصولَ غيرُ ظاهرِ الشبهِ باسم الشرط.
قوله: {وَنَمْنَعْكُمْ} الجمهورُ على جزمه عطفاً على ما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة بنصب العين وهي ظاهرةٌ، فإنه على إضمار "أن" بعد الواو المقتضية للجمع في جوابِ الاستفهام كقول الحطيئة:
1666- ألم أكُ جارَكمْ ويكونَ بيني *وبينكمُ المودةُ والإخاءُ
وعَبَّر ابنُ عطية بعبارة الكوفيين فقال: "بفتحِ العين على الصرف" ويعنون بالصرف عدمَ تشريكِ الفعلِ ما ما قبَه في الإعراب. وقرأ أُبَي: "ومنعناكم" فعلاً ماضياً وهي ظاهرةٌ أيضاً لأنه حُمِلَ على المعنى، فإن معنى "ألم نستحوذ": إنَّا قد استحوذنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نفي قَرَّره، ومثلُه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} لَمَّا كان "ألم نشرح" فيم عنى "قد شرحنا" عُطِفَ عليه "ووضَعْنا".
(5/148)
---(1/1856)
ونستخوذ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً وفَصُحَ استعمالاً / لأنَّه مِنْ حقه نَقْلُ حركةِ حرفِ علتِه إلى الساكن قبلها، وقَلْبُها ألفاً كاستقام واستبان وبابه، وقد قدمت تحقيق هذا في قوله: {نَسْتَعِينُ} في الفاتحة، وقد شَذَّت معه الفاظُ أُخَرُ نحو: "أَعْمَيتء وأَغْيلت المرأة وأَخْيلت السماء" قرسها النحويون على السماع، وقاسضها أبو زيد. الاستحواذ: التغلُّب على الشيء والاستيلاءُ عليه. ومنه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} ويقال: "حاذَ وأحاذ" بمعنى، والمصدُر الحَوْذ.
وقوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} قيل: هنا معطوفٌ محذوف أي: وبينهم كقوله:
1667- فما كانَ بين الخيرِ لو جاء سمالماً * أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي: وبيني، والظاهرُ أنه لا يَحْتاج لذلك، لأن الخطاب في "بينكم" شاملٌ للجميع، والمرادُ المخاطبون والغائبون، وإنما غَلَّبَ الخطاب لِما عَرَفْتَ من لغة العرب. قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يجوز أن يتعلقَ بالجَعْلِ، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ لـ"سبيلا" فلمَّا قُدِّم عليه انتصبَ حالاً عنه.
* { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوااْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }
(5/149)
---(1/1857)
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ}: قد تقدَّم اشتقاقُه ومعنى المفاعلة فيه اول البقرة قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيها ثلاثةُ أوجه أحدها: - ذكره أبو البقاء- وهو أنَّها نصبُ على الحال. والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على خبر "إنَّ" والثالث: أنها استئناف إخبار بذلك. قال الزمخشري: "وخادِع" اسمُ فاعل من خادَعْتُه فَخَدَعْتُه إذا غلبتَه وكنتَ أخدعَ منه. قوله: "إذا قاموا" عطفٌ على خبرِ "إنَّ" أخبر عنهم بهذه الصفاتِ والجمهورُ على ضم الكاف، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ الأعرج بفتحها، وهي لغةُ تميم وأسدٍ، وقرأ ابن السَّمَيْفَع: "كَسْلى" وَصَفَهم بما تُوصف به المؤنثة المفردةُ اعتباراً بمعنى الجماعة كقوله: {وتَرَى الناسَ سَكْرى} والكسلُ: الفتورُ والتواني، وأَكْسَل: إذا جامَعَ وفَتَر ولم يُنْزِل.
(5/150)
---(1/1858)
قوله: {يُرَآءُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنها حالٌ من الضمير المستتر في "كُسالى" الثاني: أنها بدلٌ من "كُسالى" ذكره أبو البقاء، فيكونُ حالاً من فاعل "قاموا" وفيه نظرٌ، لأنَّ الثاني ليس الأولَ ولا بعضه ولا مشتملاً عليه. الثالث: أنها مستأنفةٌ أَخْبر عنهم بذلك. وأصلُ يُراؤُون: يُرائِيوُن فأُعِلَّ كنظائرِه. والجمهور على "يُراؤُون" من المفاعلةِ قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما معنى المراءاة وهي مُفَاعَلَة من الرؤية؟ قلت: لها وجنان أحدهما: أنَّ المرائِيَ يُريهم عمله وهم يُرُوْنه الاستحسانَ. والثاني: أنْ تكونَ من المفالعة بمعنى التفعيل، يقال: نعَّمه وناعمه، وفَنَّقه وفانَقَه، وعيش مُفَانِق، وروى أبو زيد: "رأَّت المَرْأةُ المِرْآة" إذا أَمْسَكَتْها له ليرى وجهه، ويدل عليه قراءةُ ابن أبي اسحاق: "يُرَؤُّونهم" بهمزةٍ مشددةٍ مثلَ: يُدَعُّونهم، أي: يُبَصِّرونهم ويُرَاؤُوْنهم كذلك، يعني أنّ قراءةَ "يُرَؤُّونَهم" مِنْ غير ألفٍ بل بهمزةٍ مضمومةٍ مشددةٍ توضِّح أنَّ المُفَاعلةَ هنا بمعنى التفعيل. قال ابن عطية: "وهي - يعني هذه القراءة - أقوى من "يراؤون" في المعنى؛ لأنَّ معناها يَحْمِلُون الناسَ على أَنْ يَرَوْهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة ويُبْطُنون النفاقَ" وهذا منه ليس بجيد؛ لأنَّ المفاعلة إنْ كانت على بابها فهي ألغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرة، وإنْ كانت بمعنى التفعيل فهي وافيةٌ بالمعنى الذي أرداه، وكأنه لم يعرف أنَّ المفاعلة قد تجيء بمعنى التفعيل. ومتعلِّقُ المراءاةِ محذوفٌ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءَى به. والأحسن أن تُقَدِّر يُراؤون الناسَ بأعمالهم.
(5/151)
---(1/1859)
وقوله: {قَلِيلاً} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو لزمان محذوف أي: ذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً، والقلةُ هنا على بابِها، وجَوَّز الزمخشري وابن عطية أن تكون بمعنى العَدضم، ويأباه كونُه مستثنى، وقد تقدَّم الردُّ عليهما في ذلك. وقوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ} يجوز أن يكونَ عطفاً على "يُراؤُون" وأن يكون حالاً من فاعل "يُراؤون" وهو ضعيفٌ لأنَّ المضارع المنفي بـ"لا" كالمثبت، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً لا يَقْتَرِنُ بالواوِ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جاز.
* { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلااءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلااءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }
قوله تعالى:{مُّذَبْذَبِينَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنه حال مِنْ فاعل "يُراؤون" الثاني: أنه حالٌ من فاعل "ولا يَذْكَرون" الثالث: أنه منصوبٌ على الذمّ والجمهور على "مذبذّبين" بميمٍ مضمومة وذالين معجمتين ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول، من ذبذبته فهو مُذَبْذّب أي: متحيِّر. وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد بكسر الذال الثانيةِ اسمَ فاعل، وفيه احتمالان، أحدهما: أنه من "ذّبْذّبَ" متعدِّياً فيكونُ مفعولُه محذوفاً أي: مُذَبْذِبين أنفسهم أو دينَهم أو نحوَ ذلك. والثاني: أنه بمعنى تَفَعْلَل نحو: "صَلْصَلَ" فيكون قاصراً، ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أُبَيّ وما في مصحف عبد الله: "مُتَذّبْذِبين" فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابنِ عباس بمعنى متذبذبين. وقرأ الحسن البصري "مَذَبْذَبين" بفتح الميم. قال ابن عطية:
(5/152)
---(1/1860)
"وهي مردودة" ولَعَمْري لقد صدق، ولا ينبغي أن تَصِحَّ عنه. واعتذر الشيخ عنها لأجل فصحاة الحسن واحتجاج الناس بكلامه بانَّ فتح الميم لأجل إبتاعها بحركة الذال قال: "وإذا كانوا قد اتبعوا في "مِنْتِن" حركة الميم بحركة التاء مع الحاجز بينهما، وفي نحو" منحدْر" أبتعوا حركة الدال بحركة الراء حال الرفع مع أنَّ حركةَ الإعرابِ غيرُ لازمة فَلأَنْ يُتْبعوا في نحو "مَذَبذبين" أولى. وهذا فاسدٌ لأن / الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائرها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً وهي الضمةُ والكسرةُ، وأمَّا الفتحةُ فخيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجلها. وقرأ ابن القعقاع بدالين مهملين من الدُّبَّة وهي الطريقة، يقال: "خَلَّني ودُبَّتي" أي: طريقتي قال:
1668- طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنه * على دُبَّةٍ مثلِ الخنيفِ المُرَعْبَلِ
وفي حديث ابن عباس: "اتَّبِعوا دُبَّة قريش" أي: طريقها، فالمعنى على هذه القراءة: أنْ يأخذَ بهم تراةً دُبَّةً وتارة دُبَّةً أخرى، فَيَتْبَعثون متحيِّرين غيرَ ماضين على طريق واحد.
ومُذّبْذَب وشبهُه نحو: مُكَبْكَب ومُكَفْكَف مِمَّا ضُعِّف أولُه وثانيه وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثِه فيه مذاهبٌ، أحدُهما:- وهو قولُ جمهورِ البصريين- أنَّ الكلَّ أصولٌ، لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ وليس أحدُ المكررين أَوْلى بالزيادةِ من الآخر. الثاني - ويُعْزَى للزجاج- أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ. الثال: - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني، ويزعمون أن أصل كفكف: كَفَّفَ بثلاث قاءات، وذبذب: ذّبَّب بثلاث باءات فاستُقْلِ توالي ثلاثةِ أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ من جنس الأول، ولهذه المذاهب موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرْتُ مباحثَهم فيه، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث نحو: سِمْسم ويُؤْيؤ ووعْوَع فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ. والذبذبة في الصل: الاضطرابُ والتردُّد بين حالتين. قال النابغة:
(5/153)(1/1861)
---
1669- ألم تَرَ أنَّ اللّهَ أَعْطاك سُورةً * تَرى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذّبُ
وقال آخر.
1670- خيالٌ لأمِّ السَّلْبيل ودونَها * مسيرةُ شهرٍ للبعير المُذّبْذِبِ
بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: "أي القَلِق الذي لا يستقر" قال الزمخشري: "وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين أي يُزاد ويُدْفع فلا يقرُّ في جانبٍ واحد، كما يقال: "فلان يُرْمَى به الرَّحَوان" إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليس في الذّبِّ، كأنَّ المعنى: كلما مالَ إلى جانبٍ ذّبِّ عنه".
و"بين" معمولٌ لقوله: "مُذَبْذَبين" و"ذلك" إشارةٌ إلى الكفر والإيمان المدلولِ عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين ونحو:
1671- إذا نُهِي السفيهُ جَرَى إليه *.......................
أي: إلى السَّفَهِ لدلالةِ لفظ السفيه عليه. وقال ابن عطية: "أشير إليه وإن لم يَجْزِ له ذِكْرٌ لتضمن الكلام له نحو: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} عيني توارَت الشمسُ وكلُّ مَنْ على الأرض. قال الشيخ: "ولي كذلك، بل تقدَّم ما يَدُلُّ عليه" وذكر ما قَدَّمْتُه. وأشير بـ"ذلك" وهو مفردٌ لاثنين لِما تقدَّم في قوله {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ} قوله: {لاَ إِلَى هَاؤُلااءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلااءِ} "إلى" في الموضعين متعلقةٌ بمحذوف،وذلك المحذوفُ هو حالٌ حُذِفَ لدلالةِ المعنى عليه، والتقدير: مُذّبْذّبين لا منسوبين إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلا، فالعاملُ في الحال نفسُ "مُذَبْذّبين" قال أبو البقاء: "وموضعُ "لا إلى هؤلاء" نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين أي: يتذبذبون متلوِّنين" وهذا تفسير معنى لا إعراب.
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }
(5/154)
---(1/1862)
قوله تعالى: {سُلْطَاناً}: السطان يُذّكَّرُ ويؤنث، فتذكيرُه باعتبار البرهخان، وتأنيثُه باعتبار الحجة، إلا أن التأنيث أكثرُ عند الفصحاء، كذا قاله الفراء، وحكى: "قَصَتْ عليك السلطان" "وأَخَذَتْ فلاناً السلطانُ" وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته فقيل: مبيناً دون: مبينة؟ والجواب أن الصفة هنا رأسُ فاصلة فلذلك عَدَلَ إلى التذكير دون التأنيث. وقال ابن عنطية ما يخالف ما حكاه الفراء فإنه قال: "والتذكيرُ أشهرُ، وهي لغة القرآن يحث وقع". "وعليكم" يجوزُ تعلُّقه بالجَعْل" أو بمحذوف على أنه حال من "سلطانا"؛ لأنه صفة له في الأصل وقد تقدَّم نظيره.
* { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }
(5/155)
---(1/1863)
قوله تعالى: {فِي الدَّرْكِ}: قرأ الكوفيون- بخلاف عن عاصم- بسكونِ الراء، والباقون بتفحِها، وفي ذلك قولان، أحدُهما: أنَّ الدَّرْك والدَّرِكِ لغتنان بمعنى واحدٍ كالشَّمْع والشَّمَع، والقَدْر والقَدَر. والثاني: أنَّ الدَّرَك بالفلتح جمعُ "دَرَكة" على حدِّ بَقَر وبَقَرة، واختار أبو عبيد الفتحَ قال "لأنه لم يَجِىءْ في الآثار ذِكْرُ "الدَّرَك" إلا الفتحِ، وهذا غيرُ لازمٍ لمجيء الأحاديث بإحدى اللغتين. واختار بعضُهم الفتحَ لجَمْعِه على أَفْعال، قال الزمخشري: "والوجهُ التحريكُ لقولِهم "أدراك جهنم" يعني أنَّ أفعالاً منقاسٌ في فَعَل بالفتحِ دونَ فَعْل بالسكون، على أنه قد جاء أَفْعال في فَعْل بالسكون نحو: فَرْخ وأَفْراخ، وزَنْ وأَزْناد، وفَرْد وأَفْراد. وقال أبو عبد الله الفاسي في شرحِ القصيد: "وقال غيرُه - يعين غيرَ عاصم- محتجَّاً لقراءة الفتح قولُهم في جَمْعِه: "أَدْراك" يَدُلُّ على أنه "دَرَك" بالفتح، ولا يَلْزم ما قال أيضاً، لأنَّ فَعَلاً بالتحريك قد جُمِع على أَفْعاله كقَلَم وأَقْلام، وجَبَل وأَجبال" انتهى، وهذه غفلةٌ منه لأنه المتنازعَ فيه إنما هو فَعْل بالتسكين: هل يُجْمَعُ على أَفْعال أم لا؟ وأما فَعَلَ بالتحريك فأفْعال قياسُه، وكأنه قَصَدَ الردَّ على الزمخشري فوقَع في الغلطِ، كان ينبغي له أن يقول: وقد جُمِع فَعْل بالسكون على أَفْعال نحو: فَرْخ وأَفْراخ كما ذكرته لك. وحُكِي عن عاصم / أنه قال "لو كان "الدرَك" بالفتح لكان يبغي أن يقال السُّلْلى لا الأسفل" قال بعض النحويين: "يعني أن الدرَ بالفتح جمع "دَرَكة" كبَقَر جمع بَقَرَة، والجمعُ يُعامل معاملةَ المؤنثة. وهذا غيرُ لازمٍ لأنَّ اسمَ الجنسِ الفارقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثُه إلا ما استُثْنيَ وجوبُ تذكيره أو تأنيثه، والدرَك ليس منه، فيجوز فيه الوجهان، هذا بعد تسليم كون "الدرك" جمع "دَرَكة" بالسكون كا(1/1864)
(5/156)
---
تقدم. والدَّرَكُ مأخوذق من المُدراكة وهي المتابعةُ، وسُمِّيت طبقاتُ النار "دَرَكات" لأنَّ بعضَها مدارك لبضع أي: متتابعة. قوله: {مِنَ النَّارِ} في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه "الدرك" والعامل فيها الاستقرار، والثاني: أنه الضميرُ المستتر في "الأسفل" لأنه صفةٌ فيتحمل ضميراً.
* { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ}:فيه ثلاثةُ أوجه، احدُها: أنه منصوبٌ على الاستثناء مِنْ قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} الثاني: أن مستثنى من الضميرِ المجرور في "لهم" الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ من قوله: {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قيل: "ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لشبهِ المبتدأ باسم الشرط قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما: "مع المؤمنين" خبرُ "أولئك" والجملةُ خبر "إلا الذين" والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المؤمنين، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعة، بل الذي تقتضيه الصناعة أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلق به هذا الظرف شيئاً يليق به، وهو "فأولئك مصاحبون أو كائنون أو مستقرون" ونحوه، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً أو مايقاربه.
(5/157)
---(1/1865)
قوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ} رُسِمت "يؤت" دون "ياء" وهو مضارعٌ مرفوع فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخطاً، إلا أنها حذفت لفظاً في الوصل لالتقاء الساكنين فجاءُ الرسم تابعاً للفظ، وله نظائر تقدم بعضها. والقراءُ يقفون علهي دون ياء أتِّباعاً للخط الكريم، إلا يعقوبَ فإنه يقف بالياء نظراً إلى الأصل، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسائي وحمزة. وقال أبو عمرو: "ينبغي أن لا يُوقَفَ علهيا، لأنه إنْ وُقف عليها كما في الرسم دون ياء خالف الننحويين، وإن وقف بالياء خالف رسم المصحف" ولا بأسَ بما قال، لأن الوقف ليس ضرورياً، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ لقَطْعِ نَفَس ونحوه فنيبغي أن يُتابَع الرسمُ، لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذْفُها، ومِمَّا يشبه هذا الموضعَ قولهُ: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} فإنه رسم "تَقِ" بقافٍ دون هاءِ سكت، وعند النحويين أنه إذا حُذِف من الفعل شيءٌ حتى يلم يبق منه إلا حرفٌ واحد ووُقِف عليه وَجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره جبراً له نحو: "قِهْ" ولي يقه" و"عِه" و"لم يَعِه"، ولا يُعْتَدُّ بحرف المضرعة لزيادتِه على بنية الكلمة فإذا تقرر هذا فنقول: ينبغي ألاَّ يوقف عليه؛ لأنه إنْ وُقِف بغير هاءِ سكت خالف الصناعة النحوية، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رسمَ المصحفَ.
* { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً }
(5/158)
---(1/1866)
قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ}: في "ما" وجهانن أحدهما: أنها اسفهامية فتكون في محل نصب بـ"يفعل" وإنما قُدِّم لكونه له صدر الكلام. والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ بـ"يفعل"، والاستفهام هنا معناه النفي، والمعنى: أنّ الله لا يفعل بعذابكم شيئاً؛ لأنه لا يجلب لنفسِه بعذابكم نفعاً ولا يدفع عنها به ضراً، فأيُّ حاجة له في عذابكم؟ والثاني: أن "ما" نافية كأنه في: لا يعذبكم الله، وعلى هذا فالباء زئادة ولا تتعلق بشيء. وعندي أن هذين الوجهين في المنعنى شيءٌ بمعنى النفي فلا فرق، واالمصدر هنا مضاف لمفعوله وقوله: {إِن شَكَرْتُمْ} جوابه محذوف لدلالةِ ما قبله عليه أي: إنْ شكرتم وآمنتم فما يفعلُ بعذابكم؟
* { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }
قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ}: "بالسوء" متعلق بالجهر، وهو مصدر معرف بـ"أل" استدل به الفارسي على جوازِ إعمالِ المصدر المعرف بأل. قيل: ولا دليلَ فيه لأنَّ الظرف والجار يعلم فيهما روائح الأفعال. وفاعلُ هذا المصدر محذوفٌ أي: الجهر أحد، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّرد حَذْفُه في صورِ منها المصدر، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فِعْل مبني للمعفول على خلاف في ذلك، فيكون الجار بعده في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، لأنه لو قلت: لا يحب الله أن يُجهر بالسوء، كان "بالسوء" قائماً مقامَ الفاعل ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به. و"من القول" حال من "السوء".
(5/159)
---(1/1867)
قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه متصل والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل فقيل: هو مستثنى من "أحدط المقدرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر، فيجوز أن تكن "مَن" في محلِّ نصبٍ على أصل الاسثناء أو رفعٍ على البدل من "أحد" وهو المختار، ولو صُرِّح به لقيل: لا يحبُّ الله أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء إلا المظلومُ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ: "وهذا مذهب الفراء، أجاز في "ما قام إلا زيدٌ" أن يكون "زيد" بدلاً من "أحد" وأمَّا على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العامل فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر، وحَسَّنَ ذلك كونُ الجهر في حَيِّز النفي، كأنه قيل: لا يَجْهَزُ بالسوء من القول إلا المظلومُ" انتهى. والفرقُ ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية، فإن النحيين إنما لم يَرَوا بمذهب الفراء قالوا: لأن المحذوف صار نَسْياً منسياً، وأما فاعل المصدر هنا فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعلِ المقدر أن يكونوا تابعين لمذهب الفراء لِما ظهر من الفرق. وقيل: هو مستثنى مفرغ، فتكون "مَنْ" في محل رفع بالفاعلية كما تقدَّم تقريرُه في كلام الشيخ، والتفريغُ لا يكون إلا في / نفي أو شهبه، ولكنْ لَمَّا وقع الجهر متعلقاً للحبِّ الواقعِ في حَيِّز النفي ساغ ذلك. وقيل: هو مستثنى من الجَهْر على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: إلا جَهْرَ مَنْ ظُلِم، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متصلاً، تحصَّل منها في محل "مَنْ" أربعةُ أوجه: الرفع من وجهين وهما البدل من "أحد" المقدر، أو الفاعلية على كونه مفرغاً، والنصبُ على أصلِ الاستثناء من "أحد" المقدَّر أو من الجهر على حَذْفِ مضاف.
والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، تقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامتَه فتكون "مَنْ" في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع.(1/1868)
(5/160)
---
والجمهورُ على "إلاَّ مَنْ ظُلِمَ" مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: "ظَلَم" مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقعطع، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقيرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعاً إلى الجملة الأولى كأنه قيل: لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو يعفله، وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء، لكن الظالم يَجْهر به، وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو "مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء" أي: لا يحب الله أن يُجْهر بالسوء لأحد لكن الظالم يُجْهَرُ له به، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعله أن يَرْتدع. وكونُ هذا المستنى في هذه القراءة منصوبَ المحل على الانقطاع هو الصحيح، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكونَ في محلِّ رفع على البدلية، ولكن اختلف مدركُهما فقال ابن عطية: "وإعراب "مَنْ" يحتمل في بعض هذه التأويلات النصبَ، ويحتمل الرفع على البدل من "أحد" المقدر" يعين احداً المقدرَ في المصدر كما تقدَّم تحقيقُه. وقال الزمخشري: و"يجوز أن يكون "مَنْ" مرفوعاً كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسوء إلا الظالمُ، على لغةِ مَنْ يقول: "ما جاءني زيدٌ إلا عمروٌ" بمعنى: ما جاءني إلا عمرو، ومنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} ورد الشيخ عليهما فقال: "وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ، وذلك أن المنقطع قسمان: قسمٌ يتوجه إليه العامل نحو: "ما فيها أحدٌ إلاِ حمار" فهذا فيه لغتنانك لغة الحجاز وجوب النصب، ولغةُ تميم جوازُ البدل، وإن لم يتوجه عليه العامل وجب نصبُه عند الجميع نحو: "المالُ ما زاد إلا النقصَ" أي: لكن حصل له النقص، ولا يجوز فيه البدل، لأنك(1/1869)
لو وجهت
(5/161)
---
إليه العامل لم يصحط قال "والآية من هذا القسمِ، لأنك لو قلت: "لا يحبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوءِ إلا الظالمُ" فتسلِّطُ "يجهر" على "الظالم" وقال: "وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشري- لا يجوز لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لغواً ولا يمكن أن يكونَ الظالمُ بدلاً من "الله" ولا "عمرو" بدلاً من "زيد" لأنَّ البدلَ في هذا الباِبِ يَرْجِع إلى بدل بضع من كل حقيقة نحو: "ما قام القومُ إلا زيدٌ" أو مجازاً نحو: "ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ، والآيةٌ لا يجوز فهيا البدلُ حقيقةً ولا مجازاً، وكذلك المثالُ المذكور، لأن الله تعالى عَلَمٌ وكذا زيدٌ فلا عمومَ فيهما ليُتَوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُسْتثنى، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاسثناء المنقطع فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتَوَهَّم دخولُه فيه فيُبْدل ما قبله مجازاً، وأمَّا قولُه على لغةِ مَنْ يقول: "ما جاءني زيد إلا عمروٌ" فلا نعملُ هذه لغةً إلا في كتاب سيبويه بعد أَنْ أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرُها.
1672- عَشِيَّةَ ما تُغْني الرماحُ مكانَها * ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المُصَمَّمُ
(5/162)
---(1/1870)
ما نصُّه: "وهذا يقوِّي: "ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانَه إخوانُكم إلا إخوانُه" لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضَها" ولم يصرِّح ولا لَوَّح أن "ما أتاني زيدٌ إلا عمرةٌ" من كلام العرب، قال مَنْ شَرَح كلام سيبويه: "فهذا يُقَوِّي "ما أتاني زيدٌ إلا عمرو" أي: ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب لأن النبلَ معرفةٌ ليس بالمشرفي، كما أن زيداً ليس بعمرو، كما ان إخوة زيد ليسوا أخوتك. قال الشيخ: "وليس ما أتاني زيدٌ إلا عمرو" نظيرَ البيت؛ لأنّه قد يُتَخَيَّل عمومٌ في البيت ذ المعنى: لا يُعْني السلاح، وأمَّا "زيد" فلا يُتَوهم فيه عموم على أنه لو ورد من كلامهم: "ما أتاني زيدٌ إلا عمرو" بدلاً من "زيد" فإنه لا يجوز، وأمَّا الآية فليست مِمَّا ذَكَر، لأنه يحتمل أن تكونَ "مَنْ" مفعولاً بها، و"الغَيبَ" بدلٌ منها بدلُ اشتمال، والتقديرُ: لايعمل غيبَ مَنْ في السمواتِ والأرضِ إلا اللَّهُ أي: سِرَّهم وعلانيتهم لاَ يَعْلَمها إلا الله، ولو سُلِّم أنَّ "مَنْ" مرفوعةٌ المحل فيتخيل فيها عمومٌ فيُبدل منها "الله" مجازاً كأنه قيل: لا يَعْلَمث الموجودون الغيبَ إلا اللَّهُ، أو يكونُ على سبيلِ المجازِ في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، إذ جاء ذلك عنه في القرآنِ والسنة نحو: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَاهٌ} قال: "أين الله" قالت: "في السماء" ومِنْ كلامِ العرب: "ولا ذو في السماءِ بيتُه" يعنون اللَّهَ، وإذا احتملت الآيةُ هذه الوجوه لمي تيعيَّنْ حملُها على ما ذكره" انتهى ما رَدَّ به عليهما.
(5/163)
---(1/1871)
أمَّا ردُّه على ابن عطية فواضحٌ، وأمَّا ردُّه على الزمخشري / ففي بعضه نظر، أما قوله "لا نعلمها لغةً إلى في كتاب سيبويه" فكفى به دليلا على صحة استعمالِ مثله، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلامَ أنه قياسُ كلام العربِ لما أَنْشد من الأبيات. وأمَّا تأويلُه "ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ" بـ"ما أتاني زيد ولا غيرُه" فلا يتعيَّن ما قاله، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قولَ القائل "ما أتاني زيد" قد يُوهم أن عمراً أيضاً لم يَجِئه فنفى هذا الوهمَ، وهذا القَدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويل "ما أتاني زيد إلا عمروٌ" على ما قال لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً، وقد اتفق النحويون على ان ذلك من المنقطع، وأمّا تأويلُ الآية بما ذكره فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خطرٌ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله.
* { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُواءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً }
قوله تعالى: {أَوْ تُخْفُوهْ}: الظاهرُ أنَّ الضميرَ المنصوبَ في "تُخْفوه" عائدةٌ على "خيراً" والمرادُ به أعمالُ البر كلها. وأجاز بعضُهم أن يعودَ على "السوء" أي: أو تُخْفوا السوء، وهو بعيدٌ.
* { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {بَيْنَ ذالِكَ}: أُشير بـ"ذلك" وهو للمفرد، والمراد به البينية أي: بين الكفر والإيمان، وقد تقدَّم نظيرُه في البقرة و"بين يجوز أن يكونَ منصوباً بـ"يتخذ" وأن يكونَ منصوباً بمحذوف إذ هو حال من "سبيلاً".
* { أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
(5/164)
---(1/1872)
قوله تعالى: {حَقّاً}: فيه أوجهٌ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملة قبله فيجب إضمارُ عامِله وتاخيرُه عن الجملة المؤكِّد لها، والتقدير: أَحُقُّ ذلك حقاً، وهكذا كلُّ مصدر مؤكد لغيره أو لنفسه والثاني: أنه حالٌ من قوله: {هُمُ الْكَافِرُونَ} قال أبو البقاء: أي: "كافرون غير شك" وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصدر المؤكد. وقد طَعَن الواحدي على هذا التوجيه فقال: "الكفرُ لا يكون حقاص بوجه من الوجوه" والجوابُ: أنَّ الحق هنا ليس يُراد به ما يقابل الباطل، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ وأنَّ كفرهم مقطوع به. الثالث: أنه نعت لمصد محذوف أي: الكافرون كفارً حقاً، وهو أيضاً مصدر مؤكد، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ، هو اسمُ الفاعل وذاك عاملُه محذوفٌ كما تقدم.
* { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
قوله تعالى: {بَيْنَ أَحَدٍ}: قد تقدَّم الكلامُ على دخول "بين" على {أَحَدٍ} في البقرة فَأَغنى عن إعادته. وقرأ الجمهور: "سوف نُؤتيهم" بنونِ العظمة على الالتفاف ولموافقة قوله: "وأَعْتدنا" وقرأ حفص عن عصام بالياء، أعاد الضمير على اسم الله تعالى في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ} وقولُ بعضهم: قراءة النون أولَى لأنها أفخم، ولمقابلة "وأعتدنا" ليس بجيد لتواتر القراءتين.
* { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوااْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً }
(5/165)
---(1/1873)
قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ}: في هذه الفاءِ قولان، أحدهما: أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة، قال ابن عطية: "تقديره: فلا تبادل يا محمد بسؤالِهم وتشطيطهِم فإنها عادتُهم، فقد سألوا موسى اكبرَ من ذلك.
والثاني: أنها جوابُ شرطٍ مقدر، قال الزمخشري أي: إنْ استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا" و"أكبَرَ" صفةٌ لمحذوف أي: سؤالاً أكبر من ذلك. والجمهور: "أكبرَ" بالباء الموحدة، وقراءة الحسن "أكثر" بالثاء المثلثة. وقوله: {فَقَالُوااْ أَرِنَا} هذه الجملةُ مفسرةٌ لكبر السؤال وعظمته. و {جَهْرَةً} تقدَّم الكلام عليها، إلا أنه هنا يجوز أن يكون "جهرةً" من صفةِ القول أو السؤالِ أو مِنْ صفة السائلين أي: فقالوا مجاهرين أو: سألو مجاهرين، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على الحال أو على المصدر. وقرأ الجمهور "الصاعقةُ" وقرأ النخعي: "الصَّعْقةُ" وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة "وبظلمهم" الباءُ فيه سببيةٌ، وتتعلق بالأخذ.
* { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً }
(5/166)
---(1/1874)
قوله تعالى: {فَوْقَهُمُ}: فيه وجهان، الظاهرُ منهما أنه متعلق لـ "رَفَعْنا" وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور. و"يميثاقهم" متعلقٌ أيضاً بالرفع، والباءُ لسسبية، قالوا: وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: بنقض ميثاقهم وقال الزمخشري: "بميثاقِهم" بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه" وظاهر هذه العبارة أنه لايُحتاج إلى حذف مضاف، بل أقول: لا يجوز تقدير هذا لمضاف لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق فرفَع اللَّهُ الطورَ عليم عقوبةً على فِعْلهم النقضَ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطور، فخَافوا فلم يَنْقُضوه، وإن كانوا قد نَقَصوه بعد ذلك. وقد صَرَّح أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاق، وأنه تعالى رفع الطور عقوبةً لهم فقال: "تقديرُه: بنقض ميثاقهم، والمعنى: ورَفَعْنا فوقَهم الطور تخويفاً، لهم بسببِ نقضهم الميثاقَ" وفيه ذلك النظرُ المتقدم، ولقائل أن يقول: لَمَّا هَمُّوا بنقضه وقاربوه صح أن يقال: رَفَعْنا الطور فوقهم لنقضهم الميثاق أي: لمقاربتم نقضَه، لأنَّ ما قارب الشيء أُعْطِي حمَه، فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً كأبي البقاء وغيره. والميثاق مصدر مضاف لمفعوله. و"سُجَّداً" حال من فاعل "ادخلوا".
(5/167)
---(1/1875)
قوله: {لاَ تَعْدُواْ} قرأ الجمهور "تَعْدُوا" بسكون العين وتخفيفِ الدال مِنْ عَدا يعدو، كغزا يغرو، والأصل: "تَعْدُوُوا" بواوين: الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فَحُذِفَتْ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان، فحُذِفَ الأول وهو الواو الأولى، وبقيت واو الفاعلين، فوزنه: تَفْعَوا. وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالوان عن نافع: فرووا عنه تارة بسكون العين سكوناً محضاً، وتارة إخفاء فتحة العين. فأما قراءة نافع فاصلها: تَعْتَدوا، ويدل على ذلك إجاعُهم / على: {اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} كونِه من الاعتداء وهو افتعالٌ من العدوان، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدال فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلبت دالاً وأدغمت. وهذه قراءةٌ واضحة. وأما ما يُروى عن قالون من السكون المحض فشيءٌ لا يراه النحويون لأنه جَمْعٌ بين ساكنين على غيرِ حَدِّهما. وأمَّا الاختلاسُ.
فهو قريب للإتيان بحركة ما، وإن كانت خفيَّةً، إلا أنَّ الفتحةَ ضعيفةٌ في نفسِها فلا ينبغي أن تُخْفى لِتُزادَ ضعفاً، ولذلك لم يُجزِ الفراء رَوْمَها وقفاً لضعفِها. وقرأ الأعمش: "تَعْتَدُوا" بالصل الذي أدغَمُه نافع.
* { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }
(5/168)
---(1/1876)
قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ}: في "ما" هذه وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ بين الجار ومجروره تأكيداً، والثاني: أنه نكرة تامة، و"نقضِهم" بدلٌ منه، وهذا كا تقدَّم في {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} و"نقض" مصدرٌ مضاف لفاعله، و"ميثاقهم" مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ لـ"ما" هذه وجهان ، أحدهما: أنه "حَرَّمنا" المتأخر في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا} وعلى هذا فيقال: "فبظلمٍ" متعلق بـ"حَرَّمنا" أيضاً فيلزم أن يتعلق حرفا جر متحدان لفظاً ومعنى بعامل واحد، وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل. وأجابوا عنه بأن قولَه "فبظلمٍٍ" بدل من قوله "فبما" بإعادة العامل. فيقال: لو كان بدلاً لما دخلت عليه فاء العطف؛ لأنه البدل تباع بنفسِه من غير توسُّط حرف عطف. وأُجيب عنه بأنه لَمَّا طال الكلام بين الدبل والمبدل منه أعادَ الفاء للطول، ذكر ذلك ابو البقاء والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم.
وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبلد، وبأنَّ المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون سبباً أو جزءَ سببٍ إلا بتأويل بعيد، [وذلك أن قولهم: "إنَّا قتلنا المسيحَ" وقولهم على مريم] البهتانَ إنما كان بعد تحريم الطيبات. قال: "فالأَوْلى أن يكونَ التقدير: لعنَّاهم. وقد جاء مصرّضحاً به في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.
(5/169)
---(1/1877)
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم. قال: "وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ" وتسميةُ مثل هذا "جواب" غيرُ معروف لغةً وصناعة. وقَدَّره أبو البقاء: "فبما نقضهم ميثاقهم طُبع على قلوبهم، أو لُعِنوا. وقيل: تقديرُه: فبما نقضِهم لا يؤمنون، والفاء زائدةٌ" انتهى. [وهذا الذي أجازه أبو البقاء تتعرَّضَ له الزمخشري وردَّه فقال: "فإنْ قالت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء] ما دل عليه قولُه "بل طَبضع اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على قلوبهم، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم: "قلوبُنا" غُلْفٌ" فكانَ متعلقاً به" قال الشيخ: "وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العطفَ بـ"بل" للإضرابِ، والإضاربُ إبطالٌ أو انتقالٌ، وفي كتابِ الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقال، ويُسْتفاد من الجملة الثانية ما لايُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قرناه، لأنَّ قولَه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} هو مدلولُ الجملة التي صَحِبتها "بل" فأفادَتِ الثانية ما أفادت الأولى، ولو قلت: "مَرَّ زيد بعمرو، بل مَرَّ زيد بعمرو" لم يَجُزْ" وقَدَّره الزمخشري "فَعَلْنا بهم ما فعلنا".
(5/170)
---(1/1878)
قوله: {بَلْ طَبَعَ} هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدم أي: ليس الأمرُ كما قولوا مِنْ قولهم: "قلوبُنا غلف" وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بل في "طبع" إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف، وعن حمزة خلاف. والباء في بكفرهم" يُحتمل أن تون للسببية، وأن تكون للآلة كالباء في "طعبت" بالطين على الكيس" يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مُغَطِّياً عليها، فيكونُ كالطابع. وقوله: "إلا قليلاً" يحتمل النصبَ على نعت مصدر محذوف أي: إلا إيماناً قليلاً: ويحتمل كونَه نعتاص لزمان محذوف أي: زماناً قليلا، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً على الاستثناءِ من فاعل "يؤمنون" أيك قليلاً منهم فإنهم يؤمنون، لأنَّ الضمير في "لا يؤمنون" عائدٌ على المطبوع على قلوبهم، ومن طَبَع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإيمان.
* { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً }
(5/171)
---(1/1879)
قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوف على "ما" في قوله:{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فيكونُ متعلقاً بما تعلق به الأول. الثاني: أنه عطفٌ على "بكفرهم" الذي بعد "طبع" وقد أوضح الزمخشري ذلك غايةَ الإيضاح، واعترض وأجابَ بأحسنِ جواب، فقال: "فإنْ قتل: علامَ عَطَفَ قولَه "وبكفرهم"؟ قلت: الوجهُ أن يُعْطَفَ على "فبما بنقضِهم" ويُجْعَلَ قولُه: "{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلاماً يَتْبع قوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على وجهِ الاستطراد، ويجوز عطفُه على ما يله من قوله "بكفرِهم" فإنْ قلت: فما معنى المجيءِ بالكفر معطوفاص على ما فيه ذِكْرُه؟ سواءً عطف على ما قبل الإضراب، أو على ما بعده، وهو وقوله: {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ} وقوله "بكفرهم" قلت: قد تكرر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمدٍ، فعطف بعضَ كفرِهم على بعض، أو عَطَف مجموعَ المطعوفِ على مجموعِ المعطوف عليه، كأنه قيل: فبجمعهم بين نقضِ الميثاقِ، والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقولِهم: قولبنا غلف، وجمعِهم بين كفرهم وبُهْتِهِم مريمَ وافتخارِهم بقتل عيسى عاقبناهم، أو بل طبع الله عليها بكفرِهم وجمعِهم بين كفرهم كذا وكذا".
قوله: {بُهْتَاناً} في نصبِه خمسةُ أوجه، أظهرُها: أنه مفعول به، فإنه مُضَمَّنٌ معنى "كلام" نحو: قلت خطبة وشعراً. الثاني: أنه منصوبٌ على نوع المصدر كقولهم: "قَعَد القرفصاء" يعني أن القول يكون بُهتاناً وغيرَ بهتان. الثالث: أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف أي: قولاً بُهتاناً، وهو قريبُ من معنى الأول الرابع: أنه منصوبٌ بفعل مقدرٍ من لفظه أي: بَهَتوا بُهْتاناً. الخامس: أنه حال من الضمير المجرور في قولهم أي: مباهتين، وجازَ مجيء الحال من المضاف إليه لأنه فاعل معنًى، والتقدير: بأن قالوا ذلك مباهتين.
(5/172)
---(1/1880)
* { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }
وقوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ}: عطفٌ على "وكفرهم" و"عيسى" بدلٌ من "المسيح" أو عطفُ بيان، وكذلك "ابن مريم" ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً، وأجاز أبو البقاء في "رسول الله" هذه الأوجهَ الثلاثةَ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليل. وقد يُقال: إنَّ "رسول الله" جرى مَجْرى الجوامد / وأجازفيه أن يَنْتصب بإضمارِ "أعني"، ولا حاجةَ إليه. قوله "شُبِّه لهم": "شُبِّه" مبني للمفعول وفيه وجهان، أحدهما: أنه مسند للجار بعده كقولك: "حِيل إليه، ولُبس عليه". والثاني: أنه مسندٌ لضمير المقتول الذي دَلَّ عليه قولهم: "إنَّا قتلْنا" أي: ولكن شُبِّه لهم مَنْ قتلوه. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يعودَ على المسيح؟ فالجواب أن المسيح مشبه به لا مشبه.
[قوله]: "لفي شك منه": "منه" في محلِّ جرٍ صفة لـ"شك" يتعلَّقُ بمحذوف، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْله بنفس "شك"؛ لأن الشك إنما يتعدَّى بـ"في" لا بـ"من"، ولا يقال: إنَّ "مِنْ" بمعنى "في" فإن ذلك قولٌ مرجوح، ولا ضرورةَ لنا به هنا.
(5/173)
---(1/1881)
وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يجوز في "علم" وجهان، أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية والعاملُ أحد الجارَّيْن: إمّا "لهم" وإما "به"، وإذا جُعِل أحدُهما رافعاً له تعلَّق الآخر بما تعلَّق به الرفع من الاستقرارِ المقدر. و"مِنْ" زائدةٌ لوجودِ شرطَي الزيادةِ. والوجه الثاني: أَن يكونَ "من علم" مبتدأ زِيدت فيه "من" أيضاً، وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ "لهم" فيكون "به": إمَّا حالاً من الضمير المستكنّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدر، وإمَّا حالاً من "عِلْم" وإنْ كان نكرةً لتقدُّمها عليه ولاعتمادِه على نفي. فإن قيل: يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرور بالحرف عليه وهو ضرورةٌ لا يجوزُ في سَعة الكلام. فالجوابُ أنَّا لا نُسَلِّم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره أنَّ مذهب أكثر البصريين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جر زائد، والزائد في كم المُطَّرَح، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيان أي: أعني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن يتعلقَ بنفس "علم" لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. والاحتمال الثاني: أن يكون "به" هو الخبر، و"لهم" متعلق بالاستقرار كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنة مخصصة كالتي في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجر على أنها صفةٌ ثانية لـ"شك" أي: غيرِ معلوم. الثاني: النصب على الحالِ من "شك" وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله "منه" الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، وهو بعيد.
(5/174)
---(1/1882)
قوله: {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهورُ غيرَه أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، ولم يُقْرأ فيما علمت إلا بنصبِ "اتِّباع" على أصل الاستثناء المنقطع، وهي لغةُ الحجاز، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من "علم" لفظاً فيجرُّ، او على المضع فيُرفَعُ لأنه مرفوعُ المحل كما قَدَّمته لك، و"من" زائدة فيه. والثاني - قال ابن عطية-: أنه متصل قال: "إذ العلم والظن يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانُّ على طريق التجوُّر: "علمي في هذا الأمر كذا" إنما يريد ظني" انتهى. وهذا غيرُ موافَقِ عليه لأن الظنَّ ما ترجَّح فيه أحد الطرفين، واليقين ما جُزِم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظن ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضاً أي: ولكنَّ اتباعَ الظن حالصٌ لهم.
قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الضمير في "قتلوه" فيه اوقال أظهرها أنه لعيسى، وعليه جمهور المفسرين. والثاني:- وبه قال ابن قتيبة والفراء انه يعودُ على العلم أي: ما قتلوا العلم يقيناً، على حد قولهم: "قتلت العلم والرأي يقيناً" و"قتلته علماً" ووجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: وما كان علمهم علماً أُحيط به، إنما كان عن ظن وتخمين. الثالث- وبه قال ابن عباس والسدي وطائفة كبيرة- أنه يعود للظن تقولك "قتلت هذا الأمر علماً ويقيناً" أي: تحققت، فكأنه قيل: وما صَحَّ ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ولا قطعوا الظن باليقين.
(5/175)
---(1/1883)
قوله: {يقيناً} فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي: قتلاً يقيناً. الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه، لأنه في معناه أي: وما تيقنوه يقيناً. الثالث: أنه حال من فاعل "قتلوه" أيك وما قتلوه متيقنين لقتله. الرابع: أنه منصوب بفعل من لفظه حُذِف للدلالة عليه. أي: ما تيقَّنوه يقينا، ويكون مؤكداً لمضمون الجملة المنفية قبلهز وقدّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً فقال: "تقديره: تيقنوا ذلك يقنيا" وفيه نظر. الخامس - ويُنْقل عن ابي بكر بن الأنباري- أنه منصوبٌ بما بعد "بل" من قوله: {رَّفَعَهُ اللَّهُ} وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي: بل رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليل فمَنْ دونه على منعِه، أي: إن "بل" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ردُّ لما ادَّعَوْه مِنْ قتله وصلبه. والضمير في "إليه" عائد على "الله" على حَذْفِ مضاف أي: إلى سمائِه ومحلِّ أمره ونهيه.
* { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }
(5/176)
---(1/1884)
قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: "إنْ" هنا نافيةٌ بمعنى "ما" و"من أهل" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا واللّهِ ليؤمِنَنَّ به، فهو كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ]} أي: هذا أحدٌ منا، وكقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} أي: ما أحد منكم إلا ورادُها، هذا هو الظاهر، والثاني:- وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - أنه في محلِّ الخبر، قال الزمخشري: "وجملة "ليؤمِنَنَّ به" جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإنْ من أهل / الكتابِ أحدٌ إلا ليؤمنن به، ونحوه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} والمعنى: وما من اليهود أحدٌ إلا ليؤمن" قال الشيخ: "وهو غلطٌ فاحش، إذ زعم أن "ليؤمننن به" جملة قسيمة واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخرهن وصفة "أحد" المحذوف إنما [هو] الجار والمجرور كما قَدَّرناه، وأمّا قوله: "ليؤمنن به" فليست صفةً لموصوف ولا هي جملة قسيمة، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ إذ لا ينتظم من "أحد" والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محطُّ الفائدة، وكذلك أيضاً الخبرُ هو "إلاَّ له مقام"، وكذلك "إلا واردها" إذ لا ينتزم مما قبل "إلا" تركيب إسنادي" وهذا - كما ترى - قد أساء العبارة في حق الزمخشري بما زعم أنه غلط وهو صحيح مستقيمن وليت شعري كيف لا ينتظم الإسناد من "أحد" الموصوفِ بالجملة التي بعده ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول: "ما في الدار رجلٌ إلا صالحٌ" بفكما أن "في الدار" خبر مقدم، و"رجل" مبتدأ مؤخر، و"إلا صالحٌ" صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيم، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ "إلا" دَخَلَتْ على الصفة لتفيدَ الحصر. وأما ردُّه عليه حيث(1/1885)
(5/177)
---
قال: جملةٌ قسمية، وإنما هي جوابُ القسم فلا يَحْتاج إلى الاعتذار عنه ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضات.
واللام في "ليؤمِنَنَّ" جوابُ قسمٍ محذوف كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: "ليؤمِنَنَّ جواب قسم محذوف، وقيل: أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي والاستفهام" فقوله: "وقيل إلى آخره" إنما يستقيم ذلك إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطَّراد، وفي النفي على خلاف فيه، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام فلم يُعْهَد البتة. وقال أيضاً قبل ذلك: "وما مِنْ أهل الكتاب أحدٌن وقيل: المحذوف "مَنْ" وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ "مَنْ" هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم، و"مَنْ" الموصولة والموصوفة غيرُ تمامة" يعني أنَّ بعضَهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ "مَنْ" فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهل مَنْ إلا ليؤمِنَنَّ، فجعل موضع "أحد" لفظَ "مَنْ" وقوله: "وقد مر نظيره" يعني قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ومعنى التنظير فيه أنه قد صَرَّح بلفظ "مَنْ" المقدَّرة ههنا.
(5/178)
---(1/1886)
وقرأ أُبَي: {ليؤمِنُنَ به قبل موتهم} بضم النون الأولى مراعاة لمعنى "أحد" المحذوف، وهو إن كان لفظه مفرداً فمعناه جمع. والضمير في "به" لعيسى. وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمد عليه السلام. وفي "موته" لعيسى. ويُروى في التفسير أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلُّ أحد حتى تصيرَ الملةُ كلها إسلاميةً. وقيل: يعود على "أحد" المقدر، أي: لا يموتُ كتابي حتى يؤمن بعيسى، وينقل عن ابن عباس ذلك، فقال له عكرمة: "أفرأيت إنْ خَرَّ من بيت أو احتراق أو أكله سَبُعٌ" قال: لا يموتُ حتى يُحَرِّكَ بها شفتيه أي: بالإيمان بعيسى. وقرأ الفياض بن غزوان: "وإنَّ من أهل الكتاب" بتشديد "إنَّ" وهي قراءةٌ مرودوق لإشكالها. قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} العامل فيه "شيهداً" وفيه دليلٌ على دوازِ تقدُّم خبرِ "كان" عليها، لأنَّ تقديمً المعمولِ يُؤْذِن بتقديم العامل. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بـ"يكون" وهذا على رَأْي مَنْ يجيز لـ "كان" أن تعمل في الظرفِ وشبهِه. والضميرُ في "يكون" لعيسى، وقيل: لمحمد عليه السلام.
* { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً }
قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ}: هذا الجارُّ متعلق بـ "حَرَّمنا" والباء سبية، وإنما قُدِّم على عامِله تنبيهاً على قبح سبب التحريم، وقد تقدَّم أنَّ قولَه: "فبظلمِ" بدلٌ من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغنى عن إعادته. و"من الذين" صفة لـ" ظلم" أي: ظلمٍ صادرس من الذين هادُوا.وقيل: ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعمل بها أي: فبظلمٍ أيِّ ظلم، أو فبظلمٍ عظيمٍ كقوله:
1673- فلا وأبى الطيرِ المُرِبَّةِ بالضحى *على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ
أي: لحم عظيم.
(5/179)
---(1/1887)
قوله: {أُحِلَّتْ لَهُمْ} هذه الجملةُ صفةٌ لـ"طيبات" فمحلُّها نصبٌ، ومعنى وصفِها بذلك أي: بما كانت عليه مِنَ الحِلِّ، ويوضَّحه قراءة ابن عباس: { كانت أُحِلَّتْ لهم} قوله: "كثيراً" فيه ثلاثة أوجه، أظرها: أنه مفعول به أي: بصدِّهم ناساً أو فريقاً أو جمعاً كثيراًز وقيل: نصبُه على المصدرية أي: صَدَّاً كثيراً. وقيل: على ظرفيه الزمان أي: زماناً كثيراً، والأول أولى، لأنَّ المصاردرَ بعدها ناصبةٌ لمفاعيلها، فيجري البابُ على سَننٍ واحدٍ، وإنما أعيدت الباءُ في قوله: {وَبِصَدِّهِمْ} ولم تَعُدْ في قوله: "وأَخْذِهم" وما بعده لأنه قد فُصِل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه وهو "حَرَّمْنا" وما تعلق به، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصلِ بما ليس معمولاً للمعطوف عليه أُعيدت الباء لذلك، وأمَّا ما بعده فلم يُفْصَل فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطوفِ عليه وهو "الربا".
* { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
والجملةُ من قوله تعالى: { وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ}: في محلِّ نصب لأنها حاليةٌ، ونظير ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادتِه ما تقدَّم في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} الآية. و"بالباطل" يجوز أن يتعلق بـ "أَكْلِهم" على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من "هم" في "أكلهم" أي: ملتبسين بالباطل.
* { لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }
(5/180)
---(1/1888)
قوله تعالى: {لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ}: جيء هنا بـ "لكن" لأنها بين نقيضين، وهما الكفارُ والمؤمنون. و"الراسخون" مبتدأ، وفي خبره احتمالان، أظهرُهما: أنه "يؤمنون"، والثاني: أنه الجملة من قوله: "أولئك سنؤتيهم" و"في العلم" متعلقٌ بـ"الراسخون". و"منهم" متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في "الراسخون". قوله: "المؤمنون" عطفٌ على "الراسخون" وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر "الراسخون"، ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ "أولئك سنُؤتيهم" فيكون / يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض لأنَّ فيه تأكيداً وتسديداً للكلام، ويكون "يؤمنون" يعود على "الراسخون" و"المؤمنون" جميعاً، ويجوز أن تكون حالاً منهما، وحينئذ لا يُقال: إنها حال مؤكدة لتقدُّم عاملٍ مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإيمانَ فيها مقيدٌن والإيمانُ الأولُ مطلقٌ، فصار فيها فائدةٌ لم تكن في عاملها، وقد يُقال: إنها مؤكدة بالنسبة لقوله: "يؤمنون" غيرُ مؤكدة بالنسبةِ لقوله: "الراسخون".
(5/181)
---(1/1889)
قوله: والمقيمن" قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة "والمقيمون" بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه: "يؤمنون" ولا يجوز أن يكون قوله {أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي: "ومَنْ جَعلَ نَصْبَ "المقيمين" على المحدِ جَعَلَ خبرَ "الراسخين": "يؤمنون"، فإنْ جَعَل الخبر "أولئك" سنؤتيهم" لم يجز نصب "المقيمين على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام" وقال الشيخ: "ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ" قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائل لا يَجْعَلُ نصبَ "المقيمين" حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبة إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج "المقيمين" كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقوله الخرنق:
1674- لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ * سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ * والطيبون معاقدَ الأزْرِ * على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت "النازين" فنصبته، و"الطيبون فرفعَتْه عن قولِها" "قومي"، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه:
(5/182)
---(1/1890)
1675- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ * وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي
فنصب "شعثاً" وهو معطوف.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في "منهم" أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في "إليك" أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على "ما" في "بما أُنْزِل" أي: يؤمنون "بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت عبارة هؤلاء في "المقيمين" فقيل: هم الملائكة قال مكي: "ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في "قبلك" أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعين بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أيٍ: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريج هذه القراءةِ.
(5/183)
---(1/1891)
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ، ونلقهم عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله: "ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم عيرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم" وأمَّا قراءة الرفعِ فواضحةٌ.
(5/184)
---(1/1892)
قوله: {وَالْمُؤْتُونَ} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على "الراسخون"، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال: "مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ" بنصب "العاقل" وجر "الفاضل" فكذلك هذا. الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في "الراسخون"، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في "المؤمنون" الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في "يؤمنون" السادس: أنه معطوفٌ على "المؤمنون"، السابع: أنه مبتدأ وخبره "أولئك سنؤتيهم" فيكون "أولئك" مبتدأ، و"سنؤتيهم" خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في "أولئك" أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جحةِ أنَّ "زيدٌ ضرتبه" بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو "سأضربُ زيداً" مَنَعَ بعضهم "زيداً سأضرب"، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلا فيه. وقرأ حمزة: "سيؤتيهم" بالياء مراعاةً للظاهر في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبة قوله: "وأعتدْنا" وهما واضحتان.
* { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }
(5/185)
---(1/1893)
قوله تعالى: {كَمَآ أَوْحَيْنَآ}: / الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إيحاءَ مثلَ إيحائنا، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرفاً أي: أوحيناه أي: الإيحاء حالَ كونِه كشبهاً لإيحائنا إلى مَنْ ذكر. وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم تحقيقه. و"ما" تحتمل وجهين: أنه تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح، وأن تكونَ بمعنى الذي، فيكونُ العائدُ محذوفاً أي: كالذي أوحيناه إلى نوح. و"من بعده" متعلقٌ بـ"أوْحينا"، ولا يجوز أن تكونَ "من" للتبيين، لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى، ولا يُخبر بظرف الزمان عن الجثة إلا بتأويل ليس هذا محلِّه. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس "النبيين"، يعني أنه في معنى الفعل كأنه قيل: "والذين تنبَّؤوا مِنْ بعدِه" وهو معنى حسن.
وفي "يونس" ستُ لغاتٍ أفصحُهاك واو خالصةٌ ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِي كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبان، وحُكِي أيضاً فتحها مع الواو، وبها قرأ النخعي وهي لغة لبعض عقيل، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضهم منقولتين من الفعلِ المبني للفاعل أو للمفعول، جَعَل هذا الاسمَ مشتقاً من الأنس، وإنما أُبدلت الهمزةُ واواً لسكونِها وانضمامِ ما قبلها، ويدلُّ على ذلك مجيئُه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجمي، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو، كأنهم قلبوا الواوَ همزةً لانضمامِ ما قبلها نحو:
1676-أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى *..............
(5/186)
---(1/1894)
وقد تقدَّم تقريرُه، وحُكي أنَّ ضمَّ النونِ مع الهمزة لغةُ بضع بني أسد، إلا أني لا أعلم أنه قُرئ بشيء من لغات الهمز. هذا إذا قلنا: إن هذا الاسمَ ليس منقولاص من فِعْلٍ مبني للفاعل أو للمفعول حالةَ كسر النون أو فتحِها، أمَّا إذا قلنا بذلك فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو لأنه مشتق من الأنس، وأمَّا مع ضمِّ النونِ فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو لانتفاء الفعلية مع ضم النون.
قوله: {زَبُوراً} قراءةُ الجمهور بفتح الزاي، وحمزة بضمها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنه جمعُ "زَبْر" قال الزمخشري: "جمعَ "زَبْر"، وهو الكتاب، ولم يَذْكر غيرَه، يعني أنه في الأصل مصدر على فَعْل، ثم جُمع على فُعول نحو: فَلْس وفُلوس، وقَلْس وقُلُوس، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسي في أحد التخريجين عنه. قال أبو علي: "ويحتمل أن يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور، كما قالوا: ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن، كما سُمِّي المكتوب كتاباً" يعين أبو علي أنه مصدرٌ واقعٌ موقَع المفول به كما مثَّله والثاني: أنه جمع "زَبُور" في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليّ، قال أبو علي: "كما قالوا: ظريف وظُروف، وكَرَوان وكَرْوان، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذف الياء والألف" وهذا لا بأس به، فإنَّ التكسير والتصيغر يَجْريان غالباً مجرىً واحداً، وقد رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائد نحو: "زُهَيْر وحُمَيْد" في أزهر ومحمود، ويسميه النحويون "تصيغر الترخيم"، فكذلك التكسيرُ. الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على فُعول كالدُّخول والقُعود والجُلوس، قاله أبو البقاء وغيره. وفيه نظر من حيث إن الفُعول يكون مصدراً للازم، ولا يكون للمتعدي إلا في ألفاظ محفوظةٍ نحو: اللُّزوم والنُّهوك، وزَبَر - كما ترى - متعدٍ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُول مصدراً له، وقد تقدم منعنى(1/1895)
(5/187)
---
هذه المادة.
* { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }
قوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ}: الجمهور على نصب "رسلاً" وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب على الاشتغال لوجود شروطه، أي: وقصصنا رسلاً، والمعنى على حَذْل مضاف أي: قصصنا أخبارهم، فيكون "قد قصصناهم" لا محلَّ له لأنه مفسرٌ لذلك العملِ المضمر، ويُقَوِّي هذا الوجهَ قراءةُ أُبي: "ورسل" بالرفعِ في الموضعين، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملةٍ فعلية وهي: "وآتينا داودَ زبوراً" الثاني: أنه منصوب عطفاً على معنى "وحينا إليك كما أوحينا إلى نوح" أي: أَرْسَلْنا وَنبَّأْنا نوحاً ورسلاً، وعلى هذا فيكون "قد قَصَصْناهم" في محل نصب لأنه صفةٌ لـ"رسلاً" الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعل اي: وأرسلنا رسلاً، وذلك أنَّ الآية نزلت رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسالَ الرسل وإنزال الوحي، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله: {مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} والجملةُ أيضاً في محل الصفة.
وقرأ أُبي: "ورسلٌ" بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان، أظهرُهما: أنه مبتدأ وما عبده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأحدِ شيئين: إمَّا العطفِ كقولِه:
1677- عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي * فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وإما التفصيل كقوله:
1678- فأقبلتُ زحفاص على الركبتينِ * فثوبٌ لَبِسْتٌ وثوبٌ أَجُرّْ
وكقوله:
1679- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له * بشقٍ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
والثاني: - وإليه ذهب ابن عطية - أنه ارتفعَ على خبر ابتداء مضمر أي: وهم رسلٌ، وهذا غير واضح. والجملة بعد "رسل" على هذا الوجه تكون في محلِّ رفع لوقوعها صفةً للنكرة قبلها.
(5/188)
---(1/1896)
قوله: {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ} / كالأول. وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحة. و"تكليماً" مصدر مؤكد رافعٌ للمجاز، وهي مسألةٌ يبحث فيها الأصوليون، تحتمل كلاماً كثيراً ليس هذا موضعَه، على أنه قد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز كقول هند بنت النعمان بن بشير في زوجِها روحِ بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
1680- بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكَر جِلْدَه * وعَجَّتْ عجيجاً مِنْ جُذامَ المطارِفُ
تقول: إنَّ زوجها رَوْحاً قد بكى ثيابُ الخَزِ من لُبْسه، لأنه ليس من أهل الخز، وكذلك صرخت صراخاً من جُذام - وهي قبيلة رَوْح- ثيابُ المطارف، تعني أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب، فقولها: "عَجَّت المطارف" مجازٌ لأن الثياب لا تعجُّ، ثم رَشَّحَتْه بقولها عجيجاً. وقال ثعلب: "لولا التأكيدُ بالصمدر لجاز ان يكونَ كما تقول: "كَلَّمْتُ لك فلاناً" أي: أرسلت إليه، أو كتبت له رُقْعةً. وقرا يحيى بن وثاب والنخعي: "وكَلَّم اللَّهَ موسى" بنصب الجلالة، وهي واضحةٌ أيضاً.
* { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }
(5/189)
---(1/1897)
قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ}: فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه بدل من "رسلاً" الأول في قراءة الجمهور، وعَبَّر الزمخشري عن هذا بنصبه على التكرير، كذا فهم عنه الشيخ الثاني: انه منصوبٌ على الحال الموطئة، كقولك: "مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً" ومعنى الموطئة أي: إنَّها ليست مقصودةً، إنما المقصودُ صفتُها، ألا ترى ان الرجولية مفهومة من قولك "بزيدط وإنما المقصودُ وصفُه بالصلاحية. الثالث: أنه نُصب بإضمار فعل أي: أَرْسَلْنا رسلاً. الرابع: أنه منصوبٌ على المدح، قَدَّره أبو البقاء بـ"أعني"، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاً على المدح نحو: "أمدح" وقد رجَّح الزمخشري هذا الأخير فقال: "والأوجَهُ أن ينتصِبَ "رسلاً" على المدح".
قوله: {لِئَلاَّ} هذه لام كي، وتتعلَّقُ بـ"منذرين" على المختار عند البصريين، وبـ"مبشِّرين" على المختار عند الكوفيين، فإنه المسألةَ من التنازع، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ فكان يُقال: مبشِّرين ومنذرين له لئلا، ولم يَقُلُّ كذلك فدلَّ عل مذهب البصريين، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة. وقيل: اللام تتعلقُ بمحذوف أي: أرسلناهم لذلك. و"حُجَّةٌ اسمُ "كان"، وفي الخبر وجهان، أحدُهما: هو "على الله" و"للناس" حال، والثاني، أن الخبرَ "للناس" و"على الله" حال، ويجوز أن يتعلق كلُّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّقَ به الآخرُ إذا جَعَلْناه خبراً، ولا يجوز أن يتعلقَ على الله بـ "حجة"، وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمولَ المصدر لا يتقدَّم عليه. و"بعد الرسل" متلعقٌ بـ "حجة"، ويجوز أن يتلَّقَ بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "حُجَّة" لأنَّ ظروف [الزمان] تُوصَفُ بها الأحداثُ كما يُخْبر بها عنها نحو: "القتالُ يوم الجمعة".
* { لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }
(5/190)
---(1/1898)
قوله تعالى: {لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ}: هذه الجملة الاستداركية لابتدأ بها، فلا بد من جملة محذوفة، وتكون هذه الجملةُ مستدركة عنها، والجملة المحذوفة هي ما رُوي في سبب النزول أنه لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} قالوا: ما نشهد لك بهذا أبداً، فنزلت: {لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} وقد أحسن الزمخشري هنا في تقدير جملةٍ غير ما ذكرتُ، وهو: "فإنْ قلت: الاستدراكُ لا بُدَّ له من مستدرَك، فأني هو في قوله: {لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ}؟ قلت: لَمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزالَ الكتاب من المساء وتعنَّتوا بذلك، واحتَّ عليهم بقوله: إنَّا أوحينا إليك" قال: "لكن اللَّهُ يشهد" بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّهُ يَشْهد ثم ذكر الوجهَ الأول.
وقرأ الجمهور بتخفيفِ "لكن" ورفعِ الجلالة. والسُّلمي والجراح الحكمي بتشديدها نصبِ الجلالة، وهما كالقراءتين {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ} وقد تقدَّم حكمه. والجمهور على "أَنْزله"مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، والحسن قرأه "أُنزل" مبنياً للمفعول، وقرأ السلمي "نَزَّله بعلمه" مشدداً. والباء في "بعلمه" للمصاحبة أي: ملتبساً بعلمه، فالجار والمجرور في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: الهاءُ في "أنزله" والثاني: الفاعل في "أنزله" أي: أنزله عالماً به. و"الملائكةُ يشهدون" مبتدأ وخبر، يجوز أن تكونَ حالاً أيضاً من المفعول في "أنزله" أي: والملائكةُ يشهدون بصدقه، ويجوز ألاَّ يكونَ لها محل، وحكمه حينئذٍ كحكم الجملةِ الاستدراكية قبله. وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قوله: {َكَفَى بِاللَّهِ} وعلى قوله: {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وأن الفعل مع هذه اللامِ أبلغُ منه دونَها. والجمهور على "وصَدُّوا" مبنياً للفاعل، وقرأ عكرمة وابن هرمز: "وصُدُّوا" مبنياً للمفعول، وهما واضحتان، وقد قرئ بهما في المتواتر في قوله: {وَصُدُّواْ} في الرعد، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} في غافر.
(5/191)
---(1/1899)
* { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
وقوله تعالى: {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ}: فيه قولان، أحدهما: أنه استثناءٌ متصل لأنَّ المرادَ بالطريقِ الأولِ العمومُ فالثاني من جنسه، والثاني: أنه منقطعٌ إنْ أُريد بالطريقِ شيءٌ مخصوصٌ وهو العمل الصالح الذي توصَّلون به إلى الجنة. "وخالدين" حالٌ مقدَّرة.
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
وقوله تعالى: {بِالْحَقِّ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق بمحذوفٍ، والباء للحال أي: جاءكم الرسولُ ملتبساً بالحق أو متكلماً به. والثاني: أنه متعلقٌ بنفس "جاءكم" أي: جاءكم بسببِ إقامةِ الحق. و"من ربكم" فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف على أنه حال أيضاً من "الحق" والثاني: أنه متلعقٌ بـ"جاءك" أي: جاء من عند الله أي: أنه مبعوثٌ لا متقوِّل.
(5/192)
---(1/1900)
قوله: {خَيْراً لَّكُمْ} في نصبه أربعة أوجه، أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه - أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإضمار تقديره: وأتوا خيراً لكم، لأنه لَمَّا أمرهم بالإيمان / فهو يريدُ إخراجَهم من أمر وإخالَهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشري غيره قال: "وذلك أنه لمَّا بعثهَم على الإيمان وعلى الانتهاءِ من التثليث علم أنه يَحْمِلُهم على أمر فقال: خيراً لكم، أي: اقصِدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثلث". الثاني: - وهو مذهب الفراء- أنه نعت لمصدر محذوف أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم. وفيه نظر، من حيث أنه يُفْهِم أنَّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييد بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقال: إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة، وأيضاً فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغيره ذلك. الثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - أنه منصوبٌ على خبرِ "كان" المضمرةِ تقديرُه: يكنِ الإيمانُ خيراً. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب بأن "كان" لا تُحْذَف مع اسمها دونَ خبرها إلا فيما لا بد له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ "يكن" المقدرةَ جوابُ شرط محذوف فيصير المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، يعني أنَّ التقديرَ: إنْ تؤمنوا يكنٍ الإيمانُ خيراُ، فَحَذفْتَ الشرطَ وهو "إنْ تؤمنوا" وجوابَه، وهو "يكن الإيمان"، وأبقيتَ معمولَ الجواب وهو "خيراً" وقد يقال: إنه لا يُحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعي وإن كان المعنى عليه، لأنَّا نَدَّعي أن الجزم في "يكن" المقدرةِ إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله وهو وقوله: {فَآمِنُواْ} من غير تقدير حرفِ شرط ولا فعلٍ له، وهو الصحيح في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقولك "قم أكرمْك" فـ"أكرمكط جواب مجزوم بنفس "قم" لتضمُّن هذا الطلبِ معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعي. الرابع: - والظاهرُ فساده- أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيين، قال: "وهو بعيد" ونقله أبو البقاء أيضاً ولم يَعْزُه.(1/1901)
(5/193)
---
* { ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }
قوله تعالى: والغُلُوُّ: تجاوزُ الحدِّ، ومنه: "غَلْوة السهم" و"غَلاء السعر" قوله: {إِلاَّ الْحَقَّ} هذا استثناء مفرغ، وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعونل به لأنه تضمَّن معنى القول نحو: "قلت خطبةً" والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف أي: إلا القولَ الحق، وهو قريب في المعنى من الأول. وقرأ جعفر بن محمد: "المِسِّيح" بوزن "السِّكِّيت" كأنه جَعَله مثالَ مبالغة نحو: شِرِّيبٌ العسلَ" و"المسيح" مبتدأ بعد "إنَّ" المكفوفة، و"عيسى" بدل منه أو عطف بيان، و"ابن مريم" صفته و"رسول الله" خبر المبتدأ، و"كلمتُه" عطف عليه.
(5/194)
---(1/1902)
و"ألقاها" جملةٌ ماضية في موضع الحال، و"قدط معها مقدرةٌ. وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء. أحدها: أنه معنى "كلمة" لأنَّ معنى وصف عيسى بالكلمة: المكونُ بالكلمة من غير أب، فكأنه قال: ومنشؤه ومبتدعُه. والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، فـ"إذا" ظرفُ زمانٍ مستقبل، و"كان" تامة، وفاعلها ضمير الله تعالى. و"ألقاها" حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم: "ضربني زيداً قائماً" والثاث: أن يكونَ حالاً من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإضافة تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقِياً إياها" انتهى. أمّا جعله العاملَ معنى "كلمة" فصحيح، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في "كَلِمتُه" العائدُ على عيسى لم تَضمَّنَتْه من معنى المشتق نحو: "مُنشَأ ومُبتدَع"، وأمّا جَعْلُه العاملَ بمثل "ضربي زيدا قائماً" ففاسد من حيث المعنى. والله أعلم.
و"روحٌ" عطفٌ على "كلمة" و"منه" صفة لـ"روح"، و"من" لابتداء الغاية مجازاً، وليست تبعيضيةً. ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ علي بن الحسين بن واقد المروزي وقال: "في كتاب الله ما يَشْهد أنَّ عيسى جزءٌ من الله" وتلا: "وروح منه"، فعارضه ابن واقد بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} وقال: "يلزم أن تكون تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى وهو مُحالٌ بالاتفاق" فانقطع النصراني وأسلم.
و"ثلاثةٌ" خبر مبتدأ مضمر، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول أي: ولا تقولوا: "آلهتنا ثلاثةٌ" يدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} وقيل: تقديره: الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة. وقال الفارسي: "تقديره: الله ثالث ثلاثة، ثم حُذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مُقامه، يريد بذلك موافقةَ قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ(1/1903)
(5/195)
---
}. وقوله: {انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ} نصب "خبراً" هنا كنصبه فيما تقدم في جميع وجوهِه نسبته إلى قائليه. و"أن يكون له ولد" تقديره: من أن يكون، أو: عن أن يكون، لأنَّ معنى "سبحان" التنزيهُ، فكأنه قيل: نَزَّهوه عن أن يكون، أو من أن يكون له ولد، فيجيء في محل "ان" الوجهان المشهوران. و"واحد" نعت على سبيل التوكيد، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد، فإنه قال: "والله" مبتدأ، و"إله" خبره، "واحد" نعت تقديه: إنما الله منفرد في إلهيتَّه" وقي: "واحدٌ تأكيد بمنزلة {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ} ويجوز أن يكون "إله" بدلاً من "الله" و"واحد" خبره، تقديره: إنما المعبودُ واحدٌ. وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تقدم نظيره وقرأ الحسن: "إنْ يكونُ" بكسرِ الهمزة ورفع "يكون" على أن "إنْ" نافية أي: ما يكون له ولد، فعلى قراءته يكون هذا الكلامُ جملتين، وعلى قراءة العامة يكون جملة واحدة.
* { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلاائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }
(5/196)
---(1/1904)
قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً}: قرأ عليُّ: "عُبَيْداً" على التصغير وهو مناسبٌ للمقام. وقوله: {وَلاَ الْمَلاائِكَةُ} عطف على "المسيح" أي: ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيداً لله. وقال الشيخ: ما نصُّه: "وفي الكلام حذف، التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، فإنْ ضُمِّن "عبداً" معنى "مِلْكاً لله" لم يَحتجْ إلى هذا التقدير: ويكونُ إذ ذاك "ولا الملائكة" من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لُحِظَ في "عبد" معنى الوِحْدة، فإن قوله: "ولا الملائكة" يكون من عطف الجمل لاختلاف الخبر، وإنْ لُحِظَ في قوله: "ولا الملائكة" معنى: "ولا كل واحد من الملائكة" كان من باب عطف المفردات" وقال الزمخشري: "فإن قلت: علام عُطِفَ و"الملائكة"؟ قتل: إمَّا أن يُعْطَفَ على "المسيح" أو اسمِ "يكون" أو على المستتر في "عبداً" لِما فيه من معنى الوصف لدلالته على العبادة، وقولك: "مررت برجلٍ عبدٍ أبوه" فالعطفُ على المسيح هو الظاهرُ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنفُ أن يكونَ هو لا مَنْ فوقه موصوفين بالعبودية أو أن يَعْبد الله هو ومن فقوه" قال الشيخ: "والانحرافُ عن الغرض الذي أشار إليه كونُ الاستنكافِ يكون مختصاً بالمسيح والمعنى التام إشراك الملائكة مع المسيح في انتفاءِ الاستنكافِ عن العبودية، ويظهرُ أيضاً مرجوحيةُ الوجهين مِنْ جهة دخولِ "لا" إذ لو أُريد العطفُ على الضمير في "يكون" أو في "عبدا" لم تَدْخُل "لا"، بل كان يكون التركيب بدونها، تقول: "ما يريد زيدٌ أن يكونَ هو وأبوه قائمين" و"ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو" فهذان التركيبان ليسا من مَظَنَّةِ دخولِ [لا] وإنْ وُجد منه شيءٌ أُوِّلَ" انتهى. فتحصَّل في رفع "الملائكة" ثلاثة أوجه، أوجَهُها الأول.
(5/197)
---(1/1905)
والاستنكافُ: استفعال من النَّكْف، والنَّكْفُ: أن يُقال له سوء، ومنه: "وما عليه في هذا الأمر نَكْفٌ ولا وَكْف" قال أبو العباس: "واستفعل هنا بمعنى دَفَع النَّكْفَ عنه" وقال غيره: "هو الأَنَفَةُ والترفع" ومنه: "نَكَفْتُ الدَّمعَ بإصبعي" إذا منعتُه من الجري على خَدِّك، قال:
1681- قبانوا فلولا مَا تَذَكَّرُ منهمُ * من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لعَيْنَيْك مَدْمَعُ
قوله {فَسَيَحْشُرُهُمْ} الفاءُ يجوز ان تكونَ جواباً للشرط في قوله: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} فإنْ قيل: جواب "إنْ" الشرطية واخواِها غيرَ "إذا" لا بد أن يكون محتملاً للوقوع وعدمه، وحشرُهم إليه جميعاً لا بد منه، فكيف وقع جواباً لها؟ والوعيد، لأنَّ حَشْرَهم يقتضي جزائهم بالثوابِ أو العقاب، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله: "فأمَّا الذين" إلى آخره، فيكونُ التقدير: وَمَنْ يستنكِفْ عن عبادته ويستكبرْ فيعذبُه عند حَشْرِه إليه، ومَنْ لم يستنكف ولم يستكبر فيثيبه. والثاني: أنَّ الجوابَ محذوف أي: فيجازيه، ثم أخبر بقوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} وليس بالبيِّن. وهذا الموضوع محتمل أن يكون مِمَّا حُمِل على لفظةِ "مَنْ" تارة في قوله: يستنكف" ويستكبر" فلذلك أفرد الضمير، وعلى معناها أخرى في قوله: فسيحشرهم" ولذلك جَمَعه، ويَحْتمل أنه أعاد الضمير في فسيحشرهم" على "مَنْ" وغيرِها، فيندرجُ المستكنفُ في ذلك، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العموم المشار إليه. وقيل: بل حَذَفَ معطوفاً لفهم المعنى، والتقدير: فسيحشرهم أي: المستنكفين وغيرَهم، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد. و"جميعاً" حالق أو تأكيدٌ عند مَنْ جَعَلها كـ"كل" وهو الصحيح. وقرأ الحسن: "فسنحشرهم" بنونِ العظمة، وتخفيفِ باء "فيعذبهم" وقرئ: "فسيحشرهم" بكسرِ الشين وهي لغةٌ في مضارع "حَشَر".
(5/198)
---(1/1906)
* {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ}: قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها. ولكن هنا سؤالٌ حسن قاله الزمخشري وهو: "فإن قلت: التفصل غيرُ مطابق للمفصَّل، لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصَّل على فريق واحد. قلت: هو مثلُ قولك: "جَمَعَ الإمام الخوارج: فمن لم يخرج عليه كساه حُلَّةً ومَنْ خرج عليه نَكَّل به" وصحةُ ذلك لوجهين، أحدُهما: أنه يُحذف ذِكُر أحدِ الفريقين لدلالةِ التفصيل عليه، ولأنَّ ذِكْرَ أحدهما يدل على ذكرِ الثاني كما حذف أحدَهما في التفصل في قوله عقيب هذا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} والثاني: وهو أن الإحسان إلى غيرهم ما يَغُمُّهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكفْ عن عبادتهِ ويسكبرْ فسيعذُبهم بالحسرة إذا رأوا أجور العاملين وبما يصيبهم من عذاب الله" انتهى. يعني بالتفصيل قولَه: "فأما" و"أما" وقد اشتمل على فريقين أي: المثابين والمعاقبين، وبالمفصَّل قولَه قبل ذلك: "ومَن يستنكف"، ولم يشتمِلْ إلا على فريق واحد هم المعاقبون.
* { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لـ"برهان" أي: برهانٌ كائن من ربكم. "ومِنْ" يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية مجازاً، أو تبعيضية أي: من براهين ربكم. والثاني: أنه متعلقٌ بنفسِ "جاء" و"مِنْ" لابتداء الغاية كا تقدم.
(5/199)
---(1/1907)
* { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }
قوله تعالى: {صِرَاطاً}: مفعول ثان لـ"يهدي" لأنه يتعدى لاثنين كما تقدم تحريره. وقال جماعة منهم مكي: إنه مفعول بفعلٍ محذوف دَلَّ عليه "يهديهم"، والتقدير: "يُعَرِّفهم" وقال أبو البقاء قريباً من هذا إلا أنه لم يُضْمِرْ فعلاً، بل جَعَلَه منصوباً بـ"يهدي" على المعنى، لأنَّ المعنى يُعَرِّفهُم. قال مكي في الوجه لاثاني: "ويجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً لـ"يَهْدي" أي: يهديهم صراطاً مستقيماً إلى ثوابه وجزائه" ولم اَدْرِ لِمَ خَصَّصوا هذا الموضعَ دونَ الذي في الفاتحة، واحتاجوا إلى تقير فعل أو تضمنيه معنى "يُعَرِّفهم"؟ وأجاز أبو عليّ أن يكون منصوباً على الحال من محذوف فإنه قال: "الهاءُ في "إليه" راجعةٌ إلى ما تقدم من اسم الله، والمعنى: ويهديهم إلى صارطه، فإذا جعلنا "صراطاً مستقيماً" نصباً على الحال كانت الحالُ من هذا المحذوفِ" انتهى. فتحصَّل في نصبه أربعةُ أوجه، أحدهم: أنه مفعول بـ"يهدي" من غير تضمين معنى فعل آخرَ. الثاني: أنه على تضمين معنى "يُعَرفهم" الثالث: أنه منصوبٌ بمحذوفٍ. الرابع: أنه نصبٌ على الحال، وعلى هذا التقديرِ الذي قَدَّره الفارسي تقْرُب من الحالِ المؤكدة، وليس كقولك: "تبسِّم ضاحكاً" لمخالفتِها لصاحبِها بزيادةِ الصفةِ وإن وافقته لفظاً. والهاءُ في "إليه" إمَّا عائدةٌ على "الله" بتقدير حذف مضاف كما تقدم من نحو: "ثوابه" أو "صراطه"، وإمَّا على الفضلِ والرحمة لأنهما في معنى شيءٍ واحد، وإما عائدةٌ على الفضلِ لأنه يُراد به طريق الجنان.
(5/200)
---(1/1908)
* { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوااْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {فِي الْكَلاَلَةِ}: متعلق بـ"يُفْتيكم" على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريين، ولو أَعْمل الأولَ لأضمرَ في الثاني، وله نظائرُ في القرآن: {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} {آتُونِيا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} وقد تقدَّم الكلام فيه بأشَبع من هذا في سورة البقرة فليراجَعْ. وتقدَّم أيضاً اشتقاقُ الكلالة أول هذه السورة. وقوله: {إِن امْرُؤٌ} كقوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} و"هلك" جملةٌ فعليةٌ في محلّ رفع صلة لـ"امرؤ".
(5/201)
---(1/1909)
و"ليس له ولدٌ" جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمي في "هلك" ولم يذكر غيره. ومع الزمخشري أن تكونَ حالاً، ولم يبيِّنْ العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحبَ الحال أيضاً: هل هو "امرؤ" أو الضمير في "هلك"؟ قال الشيخ: "ومَنَعَ الزمخشري أن يكونَ قولُه: "ليس له ولد" جملةً حالية من الضمير في "هلك" فقال: "ومحلُّ لي له ولد الرفعُ على الصفةِ لا النصبُ على الحال" انتهى. والزمخشري لم يَقُلْ كذلك أي: لم يمنع كونَها حالاً من الضمير في "هلك"، بل منع حاليَّتَها على العموم كما هو ظاهرُ قوله، ويحتمل أنه أراد مَنْعَ حاليتها من "امرؤ" لأنه نكرةٌ، لكنَّ النكرة هنا قد تخصَّصت بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرة أقلُّ مه من المعرفة والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقاً كما هو ظاهر عباته، وذلك أنَّ هذه الجملةَ المفسِّرةَ للفعل المحذوف لا موضِعَ لها من الإعراب فأشبهت الجملَ المؤكدة، وأنت إذا أتبعت أو أخبرتَ فإنما تريدُ ذلك الاسمَ المتقدِّمَ في الجملة المؤكدة السابقة لا ذلك الاسمَ المكرَر في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً، لأنَّ الجملة الأولى هي المقصودةُ بالحديثِ، فإذا قلت: "ضربتُ زيداً ضربت زيداً الفاضلَ" فـ"الفاضل" صفةُ "زيداً" الأول لأنه في الجملة التأكيد، فهذا المعى يَنْفي كونَها حالاً من الضمير في "هلك" وأما ما ينفي كونَها حالاً من "امرؤ" فلِما ذكرته لك من قلةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة. وفي هذه الآيةِ على ماختاره من كونِ "ليس له ولد" صفةً دليلٌ على الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال، ونظيرُه: "إنْ رجلٌ قام عاقلٌ فأكرمْه" فـ"عاقل" صفةٌ لـ"رجل" فُصِل بينهما بـ"قام" المفسِّرٍ لـ"قام المفسَّر.
(5/202)
---(1/1910)
وقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} كقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، والفاء في "فلها" جوابُ "إنْ" وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَآ} لا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب لاستئنافِها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جواباً خلافاً للكوفيين وأبي زيد. وقال أبو البقاء: "وقد سَدَّتْ هذه الجملة مسدَّ جوابِ الشرط" يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرط وقسم أُجيب سابقُهما، وجعل ذلك الجواب ساداً مسدَّ جواب الآخر. والضميران من قوله: "وهو يرثها" عائدان على لفظ امرئ وأخت دونَ معناهما، فهو من باب قوله:
1682- وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ * ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ
وقولهم: "عندي درهمٌ ونصفه" وقوله تعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} إنما احتيج إلى ذلك لأنَّ الحيةَ لا تُورَثُ والهالكَ لا يرثُ فالمعنى: وامرأً آخرَ غيرَ الهالك يرثُ أختاً له أخرى.
(5/203)
---(1/1911)
قوله: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} الألفُ في "كانتا" فيها أقوال أحدُهما: أنها تعودُ على الاختين يدلُّ على ذلك قولُه: "وله أخت" أي: فإن كانتِ الأختان اثنتين. وقد جَرَتْ عادةُ النحويين أن يسألوا هنا سؤالاً وهو أنَّ الخبر لا بد أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ، وإلاَ لم يكن كلاماً، ولذلك مَنَعوا: "سيدُ الجارية مالكُها" لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في "كانتا" وقد أجابو عن ذلك بأجوبةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن والأخفش وهو أنَّ قوله "اثنتين" يدلُّ على مجرد الاثنيية من غير تقييدٍ بصيغر أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعنيأ، الثلثين يُستَحقان بمجرد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر، فصار الكلام بذلك مفيداً". وهذا غيرُ واضحٍ لأنَّ الألفَ في "كانتا" تدل أيضاً على مجرد الاثنيية من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجعَ الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غيرَ ما أفاده المبتدأ. ومنها: ما ذكره مكي عن الأخفش أيضاً، وتبعه الزمخشري وغيره وهو الحَمْلُ على معنى "مَنْ" وتقريه ما ذكره الزمخشيري، قال رحمه الله: "فإن قلت: إلى مَنْ يرجع ضميرُ التثنية والجمع في قوله: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، وَإِن كَانُوااْ إِخْوَةً} قلت: أصلُه: فإن كان مَنْ يرث بالأخوَّة اثنتين، وإن كان [من] يرث بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً، وإنما قيل: "فإن كانتا، وإن كانوا" كما قيل: "مَنْ كانت امَّك" فكما أَنَّث ضميرَ "مَنْ" لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في "كانتا" و"كانوا" لمكانِ تثنية الخبر وجمعِه" / وهو جوابٌ حسن.
(5/204)
---(1/1912)
إلا أن الشيخَ اعتراضه فقال: "هذا تخريجٌ لا يَصِحُّن وليس نظيرَ "مَنْ كانت أمَّك" لأنه قد صَرَّح بـ"مَنْ" ولها لفظ ومعنى، فمن أنَّث راعى المعنى، لأن التقدير: أيةُ أُمٍ كانت أمكَ" ومدلول ُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلول الاسم، بخلافِ الآية فإن المدلولين واحد، ولم يؤنث في "مَنْ كانت أمك" لتأنيث الخبر، إنما أنث لمعنى "من" إذ أارد بها مؤنثاً ألا ترى أنك تقول "مَنْ قامت" فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردْتَ السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنَّثَ "قامت لأجلهِ" انتهى وهو تحاملٌ منه على عادته، والزمخشري وغيره لم ينكروا أن لم يُصَرَِّح في الآية بلفظ "مَنْ" حتى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامض، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف.
والظاهرُ أنَّ الضميرَ في "كانتا" عائدٌ على الوارثتين. و"اثنتين" خبرُه، و"له" صفةٌ محذوفة بها حَصضلت المغايرة بين الاسم والخبر، والتقدير: فإنْ كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات، وهذا دوابٌ حسن، وحَذْفُ الصفةِ لهمِ المعنى غير منكرٍ، وإن كان أقلَّ من عكسه، ويجوز أن يكونَ خبرُ "كان" محذوفاً، والألفُ تعودُ على الاختين المدلول عليهما بقوله: "اثنتين" حالاً مؤكدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختان له، فَحَذَفَ "له" لدلالةِ قوله: "وله أخت" عليه فهذه أربعةُ أقوال.
و"إنْ كانوا" في هذا الضمير ثلاثة أوجه أحدها: أنه عائد على المعنى "مَنْ" المقدرة تقديرُه: "فإن كان مَنْ يرث إخوة" كا تقدَّم تقريره عن الزمخشري وغيره. الثاني: أنه يعود على الإخوة، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل، فإنَّ الإخوة يشمل الذكورَ والإناث، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصفة فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم، وإن عاد على الوارث فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادة واضحة، وهذا هو الوجه الثالث. وقوله: "فللذكرِ" أي: منهم فحُذِفَ لدلالة المعنى عليه.
(5/205)
---(1/1913)
قوله: {أَن تَضِلُّواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و"أن تَضِلُّوا" مفعولٌ من أجله على حَذْفِ مضاف تقديره: يبيِّن اللَّهُ أمرَ الكلالة كراهةَ أن تَضِلوا فيها، أي: في حكمها، وهذا تقديرُ المبرد. والثاني: - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين- أنَّ "لا" محذوفةٌ بعد "أن" والتقدير: لئلا تضلوا. قالوا: "وحَذْفُ "لا" ذائعٌ كقوله:
1683- رأينا ما رأى البُصَراءُ فيها * فآلينا عليها أَنْ تُباعَا
أي: أن لا تُباع. وقال أبو إسحاق الزجاج: "وهو مثلُ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} أي: لئلا تزولا. وقال أبو عبيد: "رَوَيْتُ للكسائي حديثَ ابن عمر وهو: "لا يَدْعُوَنَّ أحدُكم على ولدِه أن واقَ من الله إجابةَ" فاسنحسنه أي: لئلا يوافق. ورجَّح الفارسي قولَ المبرد بأنَّ حَذْفَ المضاف أشيعُ من حذف "لا" النافية. الثالث: أنه مفعول "يبين" والمعنى: يبيِّن الله لكم الضلالة فتجتنبونَها، لأنه إذا بَيِّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بَيَّن الخيرَ ارتُكِب.(1/1914)
سورة المائدة
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
هذه السورة مدنية. بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدَّم نظيرُ قوله تعالى: [آية 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ} والبهيمة: كلُّ ذات أربع في البر أو البحر. وقل: ما أَبْهم من جهة نقص النطق والفهم. وكل ما كان على وزن فعيل أو فعلية حلقيَّ العين جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه نحو: بيهمة وشعيرة وصغيرة وبحيرة" والأنعام تقدَّم بيانها في آل عمران.
(5/206)
قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَى} هذا مستثنى من بهيمة الأنعام، والمعنى: ما يتلى عليكم تحريمه، وذلك قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [وفيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والثاني:] أنه منقطعٌ حَسْبَ ما فُسِّر به المتلوُّ عليهم كا سيأتي بيانه، وعلى تقديرِ كونه استثناء متصلاً يجوز في محله وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أ، يُرْفَع على أنه نعتٌ لـ"بهيمة" على ما قُرَّر في علم النحو. ونَقَل ابن عطية عن الكوفييين وجهين آخرين، أحدهما: أنه يجوز رفعه على البدل من "بهيمة" والثاني: أنَّ "إلا" حرف عطف وما بعدها عطف على ما قبلها، ثم قال: "وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو: "جاء الرجالُ إلا زيدٌ" كأنك قلت: غيرُ زيد" وقوله: "وذلك" ظاهرُه أنه مشارٌ به إلى وجهي الرفع: البدلِ والعطف. وقوله: "إلا من نكرة" غيرُ ظاهر، لأن البدل لا يجوز البتة من موجب عند أحد من الكوفيين والبصريين. ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً. وأمَّا العطفُ فذكره بضع الكوفيين، وأما الذي اشترط في البصريون التنكيرَ أو ما قاربه فإنما اشترطوه في النعت بـ"إلا" فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرطُ النعت فجعله شرطاً في البدل، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمُه قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} إلى آخره، وإنْ أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمُرهُ فيكون منقطعاً بمعى "لكن" عند البصريين وبمعنى "بل" عند الكوفيين، وسيأتي بيانُ هذا المنقطع بأكثرَ من هذا عند التعرُّض لنصب "غير" عن قرب.
(5/207)
---(1/1915)
قوله تعالى: "غيرَ" في نصبه خمسة أوجه/، أحدها: أنه حال من الضمير المجرور في "لكم" وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية وغيرهما، وقد ضُعِّف هذا الوجهُ بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحالِ كونهم غيرَ مُحِلِّي الصيد وهم حرم، إذ يصير معناه: "أُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام في حال كون انتفاء كونكم تُحِلّون الصيدَ وأنتم حرم"، والغرض أنهم قد أُحِلَّتْ نفسها، وأما إذا غُنِي بها الظباءُ وحمر الوحش وبَقَره على ما فَسَّره بعضم فيظهر للتقيدِ بهذه الحال فائدةٌ، إذ يصير المعنى: أُحِلت لكم هذه الأشياء حالَ انتفاء كونكم تُحِلُّون الصيد وأنتم حرم فهذا معنى صحيح، ولكن التركيب الذي قَدَّرته لك فيه قلقٌ. ولو أُريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه.
الوجه الثاني: - وهو قولُ الأخشِ وجماعةٍ - أنه حالٌ من فاعل "أوْفوا" والتقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم مُحِلِّين الصيد وأنتم حرم. وقد ضَعَّفوا هذا المذهبَ من وجهين، الأول: أنه يلزم منه الفصلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض، وهذه الجملةُ وهي قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} ليست اعتراضيةً، بل هي منشئةٌ أحكاماً ومُبَيِّنَةٌ لها، وجملةُ الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسديداً. والثاني: أنه يلزمُ منه تقييد الأمر بإيقاء العقود بهذه الحالة فيصيرُ التقدير كما تقدَّم، وإذا اعتبرنا مفهومَه يصير المعنى: فإذا انتفت هذه الحالُ فلا تُوفوا بالعقود، والأمرُ ليس كذلك، فإنهم مأمورون بالإيفاءِ بالعقودِ على كلِّ حالٍ من إحرامٍ وغيرِه.
(5/208)
---(1/1916)
الوجه الثالث: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير المجرور في "عليكم" أي: إلاَّ ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصيد. وهو ضعيفٌ أيضاً بما تقدَّم من أنَّ المتلوِّ عليهم لا يُقَيَّد بهذه احالِ دون غيرها بل هو متلو عليهم في هذه الحال وفي غيرها.
الوجه الرابع: أنه حالٌ من الفاعل المقدَّر، يعني الذي حُذف وأقيم المفعولُ مُقامه في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ} فإن التقدير عنده: أَحَلَّ الله لكم بهيمة الأنعام غيرَ محلٍ لكم الصيد وأنتم حرم. فحذفت الفاعلَ وأقامَ المفعولَ مقامه، وترك الحال من الفعل باقية. وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ من وجوه. الأولك أن الفاعلَ المنوبَ عنه صار نسياً منسيَّاً غيرض ملتفَتٍ إليه، نصُّوا على ذلك، لو قلت: "أُنْزِلَ الغيث مجيباً لدعائهم" وتجعل "مجيباً" حالاً من الفاعل المنوبِ عنه، فإنَّ التقدير: "أَنْزل اللّهُ الغيثَ حالَ إجابته لدعائهم" لم يَجُزْ فكذلك هذا، ولا سيما إذا قيل: بأن بنْية الفعلِ المبني للمعفولِ بنيةٌ مستقلة غيرُ محولةٍ من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين وجماعة من البصريين. الثاني: أنه يلزم منه التقييدُ بهذه الحالِ إذا عَنَى بالأنعام الثمانية الأزواج، وتقييدُ إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلالِه الصيدَ وهم حرمٌ، واللّهُ تعالى قد أَحَلَّ لهم هذه مطلقاً. والثالث: أنه كُتب "مُحِلِّي" بصيغة الجمع فيكف يكون حالاً من الله؟ وكأن هذا القائل رزعم أن اللفظَ "مُحِلّ" من غير ياء، وسياتي ما يشبه هذا القول.
(5/209)
---(1/1917)
الوجه الخامس: أنه منصوبٌ على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقولَه "إلا ما يتلى" مستثنيان من شيء واحد، وهو "بيهمة الأنعام" نَقَل ذلك بعضُهم عن البصريين قال: "والتقديرُ: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيدَ وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} على ما يأتي بيانُه، قال هذا القائل: "ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيد في الإحرام لأنه مستثنى من الإباحة. وهذا وجه ساقط، فإذن معناه: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعام غيرَ محلّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلا مايُتلى عليكم سوى الصيدِ" انتهى.
وقال الشيخ: "إنما عَرْضُ الإشكالِ مِنْ جَعْلم "غير محلّي الصيد" حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو مِن المحلِّل لهم وهو الله تعالى، أو من المتلوِّ عليهم، وغَرَّهم في ذلك كونُه كتب "محلِّي" بالياء، وقدَّروه هم أ،ه اسم فاعل من "أحلِّ" وأنه مضاف إلى الصيد إضافةَ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى المفعول، وأنه جَمْعٌ حُذِف منه النونُ للإضافة، وأصلُه: "غيرَ محلين الصيد" إلا في قولِ مَنْ جعله حالاً من الفعل المحذوف فإنه لا يُقَدِّر حذفَ نون، بل حذفَ تنوين. وإنما يزول الإِشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله "مُحِلّي الصيد" من باب قولهم "حسان النساء"، والمعنى: النساء الحسان فكذلك هذا، أصلُه: غيرَ الصيدِ المُحِلّ، والمُحِلُّ صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف. ووصفُ الصيد بأنه مُحِلُّ على وجهينن أحدهما: أن يكون معناه دَخَل في الحل، كما تقول: "أَحَلَّ الرجلُ" إذا دخل في الحِلِّ، وأَحْرم إذا دخل فيا لحرم. الوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حِلّ، أي: حَلالاً بتحليلِ الله، وذلك أنَّ الصيدَ على قسمين: حلالٌ وحرام، ولا يختصُّ الصيدُ في لغةِ العرب / بالحلال لكنه يختصُّ به شرعاً، وقد تَجَوَّزت العربُ فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحِلٍّ ولا حُرْمة كقوله:
(5/210)
---(1/1918)
1684- لَيْثٌ يعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا * ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقَا
وقولِ الآخر:
1685- وقد ذَهَبَتْ سَلْمَى بعقلِك كلِّه * فهل غيرُ صيدٍ أَحْرَزَتْهُ حبائِلُهْ
وقولِ امرئ القيس:
1686- وهِرُّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ * وأَفْلَتَ منها ابنُ عمروٍ حُجُرْ
ومجيءُ "أَفْعَل" على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لسان العرب، فمشنْ مجيء افعل لبلوغِ المكان ودخولِه قولُهم: أحرمَ الرجلُ وأَعْرق وأَشْأَم وأَيْمن وأَتْهم وأَنْجد، إذا بلغ هذه الأمكان وحَلَّ بها، ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: "أعشبت الأرض، وأبقلت، وأَغَدَّ البعير، وأَلْبنت الشاة وغيرها، وأَجْرت الكلبة، وأَصْرم النخل، وأَتْلَت الناقة، وأَحْصَدَ الزرع، وأَجْرب الرجل، وأنجبت المرأة" وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكون مُحِلاًّ باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بَلَغ أو صار ذا حِلّ اتضح كونُه استثناء ثانياً ولا يكون استثناء من استثناء. إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكمِ، لأنَّ المستثنى من المُحَلَّل مُحَرَّم، والمستثنى من المحرم مُحَلَّل، بل إنْ كن المعنيُّ بقوله "بيهمة الأنعام" الأنعامَ أنفسها فيكونُ استثناء منقطعاً، وإن كان المرادُ الظباءَ وبقرَ الوحش وحمره، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المُحِلّ، استثنى الصيد الذي بلغ الحِلَّ في حال كونهم مُحْرمين. فإن قلت: ما فائدةُ هذا الاستثناءِ بقيدِ بلوغِ الحِلِّ، والصيد الذي في الحرم لا يَحِلُّ أيضاً؟ قلت: الصيدُ الذي في الحَرَم لا يَحِلُّ للمرحم ولا لغير المحرم، وإنما يَحِلُّ لغير المحرم الصيدُ الذي في الحِلّ، فنبَّه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحِلِّ على المُحْرِم - وإن كان حالاً ليغره- فأحرى أن يَحْرُم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَم، وعلى هذا التفسير يكون قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إنْ كان المراد به ما جاء بعده من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} الآية استثناءً منقطعاً، إذ(1/1919)
(5/211)
---
لا تختص الميتة وما ذُكِر معها بالظباء وبقرِ الوحش وحمره فيصير: "لكن ما يتلى عليكم - أي: تحريمُه - فهو مُحَرَّم"، وإن كان المرادُ ببهيمة الأنعام الأنعامَ والوحوشَ فيكون الاستثناءان راجِعَيْن إلى المجموع على التفصيل فيرجع "ما يتلى عليكم" إلى ثمانية الأزواج، ويرجع "غيرَ مُحِلّي الصيد" إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول، وإذا الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء الأول، وإذا لم يمكن ذلك وأمكمن رجوعه إلى الأول بوجهٍ ما رجع إلى الأول، وقد نص النحويون أنه إذا لم يمكن استثناءُ بعضِ المستثنيات من بعض جُعِل الكلُّ مستثنًى من الأول نحو: "قام القومُ إلا زيداً إلا عمرواً إلا بكراً" فإن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج وهو كونُ المُحِلِّ من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يأباه رسمه في في المصحف "مُحِلّي" بالياء، ولو كان من صفته الصيد دون الناس لكتب "مُحِلّ" من غير ياء، وكونُ القراء وقفوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك. قلت: لا يعكر ذلك على التخريج، لأنهم قد رسموا في المصحف الكريم أشياءَ تخالف النظق بها ككتابتهم {لأَذْبَحَنَّهُ} {ولأَوْضَعُواْ} ألفاً بعد لام الألف، وكتابتم "بأَيْيد" بياءين بعد الهمزة، وكتابتهم "أولئك" بزيادة واو، ونقصِ ألفٍ بعد اللام، وكتابتهم "الصالحات" ونحوه بسقوط الألفين إلى غير ذلك. وأمَّا وفقُهم عليه بالياء فلا يجوزُ، إذ لا يوقف على المضافِ دون المضاف إليه، وإنْ وقف واقف فإنَّما يكون لِقَطْع نَفَسٍ أو اختبار، وعلى أنه يمكن توجيهُ كتابته بالياء والوقف علهي بها وهو أنَّ لغةَ الأزد يقفون فيها على "بزيدٍ" بزيدي، بإبدال التنوين ياءً فكتب "مُحِلِّي" على الوقف على هذه اللغة بالياء، وهذا توجيهُ شذوذٍ رَسْمي، ورسمُ المصحف مما لا يقاس عليه" انتهى.
(5/212)
---(1/1920)
وهذا الذي ذكره واختاه وغَلَّط الناس فيه ليس بشيء، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء خطاً ووقفاً فخطأ محض؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللغة فأين التنوينُ الذي في "مُحِل"؟ وكيف يكون فيه تنوين وهوم ضاف حتى يقول: إنه قد يُوَجَّه بلغة الأزد، وما ذكره من كونه يحتمل مما يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة فشيء لا يُعَوَّل عليه، لأنَّ خط المصحف سُنَّةٌ متبعة لا يقاس عليه فيكف يقول: يحتمل أن يقاس هذا عليه تلك الأشياء؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْربوا "غير" إلا حالاً، فقوله: إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضعيفة خرقٌ للإجماع، إلا ما تقدم نَقْلَه عن بعضهم من أنه استثناء ثان، وعزاه للبصريين، لكن لا على هذا المَدْرَك الذي ذكره الشيخ. وقديماً وحديثاً استشكل الناسُ هذه الآية. قال ابن عطية: "وقد خَلَط الناس في هذا الموضع في نصب "غير" وقدَّروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مُرْضِ، لأنَّ الكلام على اطراده فيمكن استثناء بعد استثناء" وهذه الاية مما اضتطع للفصحاء البلغاء فصاحتُها وبلاغتها، حتى يُحْكَى أنه قيل للندي: "أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن" فقال: "نعم أعملُ لكم مثلَ بعضِه"، فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خَرَجَ فقال: "واللّهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك، إنني فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة / فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء وهى عن النكث وحَلَّل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أَخْبَرَ عن قُدْرَتِه وحكمته في سطرين".
(5/213)
---(1/1921)
والجمهور على نصب "غير"، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه نعت لـ"بهيمة الأنعام" والموصوف بـ"غي" لا يلزم فيه أن يكونَ مماثلاً لما بعدها في جنسه، تقول: مررت برجلٍ غير حمار" هذكذا قالوه، وفيه نظر، ولكن ظاهر هذه القراءة يدلُّ لهم. والثاني: أنه نعتٌ للضمير في "يُتْلى" قال ابن عطية: "لأنَّ "غير محلي الصيد" في المعنى بمنزلة "غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيداً" وقيه تكلُّفٌ.
والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد ويُصاد، ويُطْلق على المصيد كـ"درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ" وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين: عين مِنْ كونِه باقياً على مصدريته، كأنه قيل: أَحَلَّ لكم بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين الاصطيادَ وأنتم مُحْرِمون، ومن كونه واقعاً موقع المفعول أي: غيرَ محلِّين الشيء المصيدَ وأنتم مُحْرمون.
وقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحال؟ فقال الزمخشري: "هي حال عن "مُحِلّي الصيد" كأنه قيل: أَحْلَلْنا لكن بعضَ الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم مُحْرِمون لئلا نتحرَّج عليكم" قال الشيخ "وقد بَيَّنَّا فساد هذا القول بأنَّ الأنعامَ مباحةٌ مطلقاً لا بالتقيد بهذه الحال". وهذا الردُّ لي بشيء لأنه إذا أَحَلَّ لهم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِهم من الصيد فأنْ يُحِلِّها لهم وهم غيرُ مُحْرِمين بطريقِ الأولى. و"حُرُم" جمعَ بمعنى مُحْرِم قال:
1687- فقلْتُ هلا فيئي إليك فإنني * حَرَامُ وإني بعد ذاك لبيبُ
أي: مُلَبّ، وأَحْرَمَ: إذا دَخَل في الحَرَم أو في الإحرام. وقال مكي بن أبي طالب: "هو فيم وضع نصب على الحال من المضمر في "محلي" وهذا هو الصحيح، وأما ما ذكره أبو القاسم فلا يَظْهَرُ وفيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.
(5/214)
---(1/1922)
وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم والحسن: "حُرْم" بسكون الراء، قال أبو الحسن: "هي لغة تميم" يعني يسكِّنون ضم "فُعُل" جمعاً نحو: "رُسْل".
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاائِدَ وَلاا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {وَلاَ الْقَلاائِدَ}: ولا ذوات القلائد، ويجوز أن يكونَ المرادُ القلائدَ حقيقة، ويكون فيه مبالغةٌ في النهي عن التعرض للهَدي المقَّد، فإنه إذا نَهَى عن قِلادته أن يُتَعَرَّض لها فبطريق الأَوْلى أن يَنْهى عنه التعرض للهَدْي المُقَلَّد بها، وهذا كما قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} لأنه إذا نَهَى عن إظهار الزينة فما بالك بمواضعها من الأعضاء. وقوله: ولا آمِّيْنَ" أي: ولا تُحِلُّوا قوماً آمِّين، ويجوز ان يكون على حذف مضاف أي: لا تُحِلُّون قتالَ قوم أو أذى قوم آمِّين. وقرأ عبد الله ومَنْ تبعه: "ولا آمِّي البيتِ" بحذف النون وإضافة اسم الفاعلِ إلى معموله. و"البيت" نصبٌ على المفعول به بـ"آمّين" أي قاصدين البيتَ، وليس ظرفاً.
(5/215)
---(1/1923)
وقوله: {يَبْتَغُونَ} حالٌ من الضمير في "آمِّين" أي: حالَ كون الآمِّين مبتغين فَضْلاً، ولا يجوزُ أن تكونَ هذه الجملة صفة لـ"آمّين" لأن اسم الفاعل متى وُصف بَطَل عمله على الصحيح، وخالف الكوفيون في ذلك، وأعرب مكي هذه الجملةَ صفةً لـ"آمِّين" وليس بجيد لِما تقدم، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين. وهنا سؤال: وهو أنه لِم لا قيل بجوازِ إعماله قبل وصفِه كما في هذه الآية قياساً على المصدر فإنه يَعْمل قبلَ أن يُوصف نحو: يعجبني ضربٌ زيداً شديدٌ؟ والجمهور على "يبتغون" بتاء الخطاب، على أنه خطاب للمؤمنين وهي قَلِقة لقوله: {مِّن رَّبِّهِمْ} ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمامُ المناسبة: "تبتغون فضلاً من ربكم" و"من ربهم" يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ"فضلاً" أي: فضلاً كائناً من ربهم. وقد تقدم الخلاف في ضم راء "رضوان" في آل عمران. وإذا عَلَّقنا "من ربهم" بمحذوفٍ على أنه لـ"فضلاً" فيكون قد حَذَفَ صفة "رضوان" لدلالةِ ما قبله عليه أيك ورضواناً من ربهم، وإذا عَلَّقناه بنفس الفعل لم يَحْتَجْ إلى ذلك.
قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} قُرئ: "أَحْللتم" وهي لغة في "حَلَّ"، ويقال: "أحَلَّ من إحْرامِه" كما يقال: حَلَّ وقرأ الحسن بن عمران وأبو واقد ونبيح الجراح بكسر الفاء العاطفة، وهي قراءةٌ ضعيفة مشكلة، وخَرَّجها الزمخشري على أن الكسر في الفاء بدلٌ من كسر الهمزة في الابتداء. وقال ابن عطية: "هي قراءةٌ مشكلة، ومن توجيهها أن يكونَ رعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ، فكسر الفاءَ مراعاةً وتذكُّراً لكسر ألف الوصل". وقال الشيخ: "وليس عندي هو كسراً محضاً بل هو إمالة محضةٌ لتوهُّم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا فاء "فإذا" لوجود كسر الهمزة".
(5/216)
---(1/1924)
قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأ الجمهور: "يَجْرِمَنَّكم" بفتح الياء من "جرم" ثلاثياً" ومعنى "جَرَمَ" عند الكسائي وثعلب: حمل، يقال: "جَرَمه على كذا" أي: جمله عليه، فعلى هذا التفسير يتعدَّى "جرم" لواحد، وهو الكاف والميم، ويكون قوله: {أَن تَعْتَدُواْ} على إسقاط حرف الخفض وهو "على" أي: ولا يَحْملنكم بُعْضكم لقوم على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محلِّ "أَنْ" الخلافُ المشهور، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه عند أبي عبيد والفراء كسب، ومنه "فلان جريمةُ أهله" أي: كاسبهُم، وعن الكسائي أيضاً: أنَّ جرم وأجرم بمعنى كَسَب غيره، وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدهما: أنه متعد لواحد. والثاني: أنه متعد لاثنين، كما أن "كَسَب" كذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعدياً لاثنين أولُهما ضميرُ الخطاب. الثاني: "أن تعتدوا" أي: لا يَكْسِبَنَّكم بغضُكم لقومٍ الاعتداءَ عليهم.
(5/217)
---(1/1925)
وقرأ عبد الله: "يُجْرِمَنَّكم" بضم الياء من أجرم رباعياً، وقيل: هو بمعنى جَرَم كا تقدم نَقْلُه عن الكسائي، وقيل: "أجرم" منقول من"جرم" بهمزة التعدية. قال الزمخشري: "جَرَم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: "جَرَمَ يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: "جَرَمَ ذنباً" نحو: كَسبه، وجرمته ذنباً أي: كَسَبته إياه، ويقال: أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولك: "أكسبته ذنباً" وعليه قراءةُ عبد الله: "ولا يُجْرمنكم"، وأولُ المعفولين على القراءتين / ضميرُ المخاطبين، والثاني: "أَنْ تعتدوا" انتهى وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابن عيسى الرماني - القطعُ، فجرم "حَمَل على الشيء" لقطعِه عن غيره، وجَرَم "كَسَب" لانقطاعه إلى الكسب، وجَرَم بمعنى "حَقّ" لأن الحق يُقطع عليه. قال الخليل: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي: لقد حق، هكذا قال الرماني، فجَعَل بين هذه الألفاظ قَدْراً مشتركاً، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي.
و"شَنآنُ: معناه بُغْض، وهو مصدر شَنِئ أي: أبغض. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: "شَنْآن" بسكونِ النون، والباقون بفتحها، وجَوَّزوا في كل منهما أن يكونَ مصدراً وأن يكون وصفاً، حتى يُحْكى عن أبي عليّ أنه قال: "مَنْ زَعَم أن "فَعَلان" إذا سَكَنت عينه لم يكن مصدراً فقد أخطأ إلا ان فَعْلان بسكون العين قليلٌ في المصادر نحو: "لَوَيْتُه دَيْتُه لَيَّاناً" بل هو كثير في الصفحات نحو سَكْران وبِابِه، وفَعَلان بالفتح قليلٌ في الصفات قالوا: حمارٌ قَطَوان أي عَسِر السير، وتيس عَدَوان قال:
1688- .................. *كَتَيْسِ ظِباء الحُلَّبِ العَدَوانِ
ومثله قولُ الآخر: - أنشده أبو زيد -
1689- وقبلَك ما هابَ الرجالُ ظُلامتي * وفَقَّأْتُ عينَ الأَشْوَسِ الأَبَيَانِ
(5/218)
---(1/1926)
بفتح الباء والياء، بل الكثيرُ أن يكونَ مصدراً نحو: "الغلَيان والنزوان" فإنْ أُريد بالشنآن الساكنِ العين الوصفُ فالمعنى: ولا يَجْرمنكم بغيضُ قوم، بمعنى مُبْغض اسم فاعل من أبغض وهو متعدّ، ففعيل بمعن الفاعل كقدير ونصير، وإضافته لقوم على هذا إضافةُ بيان أي: إنَّ البغيض من بينهم، وليس مضافاً لفاعل ولا مفعول، بخلاف ما إذا قَدَّرْته مصدراً فإنه يكون مضافاً إلى مفعوله أو فاعله كما سيأتي. وقال صاحبُ هذا القول: "يقال: رجلٌ شَنْآن وامرأة شنْآنة كَنْدمان وندمانة، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ متعدّ" وحكى: رجل شنآن وامرأة شَنْأى كَسكْران وسكرى، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ لازم، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنهم قد يسشتقون من مادة واحة القاصر والمتعدي، قالوا: "فَعَرْتُ فاه وفَغَر فُوه" أي: فتحة فانفتح، وإنْ أُريد به المصدرُ فواضحٌ، ويكون مضافاً إلى مفعولِه أي: بغضُكم لقومٍ، فحُذِف الفاعل، ويجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله أي: بغضُ قوم إياكم فحذف معفوله، والأول أظهر في المعنى، وحكم" شنآن" بفتح النون مصدراً وصفةً حكمث الساكنِها، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومن مجيءِ "شَنآن" الساكِن العين مصدراً قول الأحوص:
1690- وما الحبُّ إلا مَا تَلذُّ وتَشْتَهي * وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ وفَنَّدا
(5/219)
---(1/1927)
أراد الشنْآن بسكونِ النونِ فنقلَ حركةَ الهمزة إلى النون الساكنة، وحذف الهمزة، ولولا سكونُ النونِ لما جاز النقل، ولو قال قائل: إن الأصل "الشنآن" بفتح النون، وخفف الهمزة بحذفها رأساً، كما قرئ {إنها لاحْدى الكُبَر} بحذفِ همزة "إحدى" لكان قولاً يسقط به الدليل لاحتماله. والشنآن بالفتح مِمَّا شَذَّ عن القاعدة الكلية، قال سيبويه: "كلُّ بناء من المصادر على وزن فَعَلان بفتح العين لم يتعدَّ فعلُه إلا أن يَشِذَّ شيءٌ كالشَّنآن" يعني أنه مصدرٌ على فَعَلان بالفتح ومع ذلك فعلُه متعدٍّ، وفعلُه أكثر الأفعال مصادِرَ، سُمِع له ستةَ عشرَ مصدراً قالوا: شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئَاً وشَنآناً مثلثي الشين فهذه ست لغات وقرأ ابن وثاب والحسن والوليد عن يعقوب: "يَجْرِمَنْكم" بسكون النون، جَعَلوها نونَ التوكيد الخفيفةَ، والنهي في الفظ للشنآن وهو في المعنى للمخاطَبين نحو: "لا أُرَينَّك ههنا" {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} قال مكي.
(5/220)
---(1/1928)
قوله تعالى: {أَن صَدُّوكُمْ} قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر "إنْ" والباقون بفتحها، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية، والفتح على أنها علة للشنآن أي: لا يكسبنَّكم - أولا يَحْمِلَنَّكم - بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءةٌ واضحة. وقد استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع، والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه بمدة، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضاً فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فيكف يُصَدون عنها؟ قال ابن جريج والنحاس وغيرهما: "هذه القراءة منكرةٌ" واحتجوا بما تقدم من الإشكال، ولا إشكالَ في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين، أحدهما: أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه. وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل الصدِّ فصار الصدُّ أمراً متظراً، والثاني: أنه وإنْ سَلَّمنا أن الصدَّ كان متقدماً على نزولها فيكون المعنى: إنْ وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصدَّ الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم، قال مكي: "ومثلُه عند سيبيوه قول الشاعر - وهو الفرزدق -:
1691- أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا *....................
(5/221)
---(1/1929)
وذلك شيءٌ قد كان ووقع، وإنما معناه: إنْ وقع مثلُ ذلك الغضب، وجواوب الشرِط ما قبله" يعني: وجوابُ الشرط دلَّ عليه ما قبلَه، لأن البصريين يمنعون تقديمَ الجوابِ إلا أبا زيد. وقال مكي أيضاً: "ونظيرُ ذلك أنَّ يقول رجل لامرأته "أنت طالق إنْ دخلت الدار" بكسر "إن" لم تَطْلُق عليه بدخولها الأول لأنه أمر يُنْتَظَر، ولو فتح لَطَلَقَتْ عليه، لأنه أمرٌ كان ووقع، ففتحُ "أن" لما هو علة لما كان ووقع، وكَسْرُها إنما هو لأمرٍ يُنْتظر، والوجهان حَسَنان على معنييهما" وهذا الذي قاله مكي فَصَّل فيه الفقهاء بين مَنْ يعرف النحو وبين مَنْ لا يعرفه. ويؤد قراءَة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود: "إنْ يَصُدُّوكم" قال أبو عبيد: "حَدَّثنا حجاج عن هرون قال: قرأ ابن مسعود فذكرها، قال: وهذا لا يكونُ إلا على استئنافِ الصدِّ، يعني إنْ وقع صَدُّ آخرُ مثلُ ما تقدم عام الحديبية.
ونَظْمُ هذه الآيات على ما هي عليه مِنْ أبلغ ما يكون وأفصحِه،و ليس فيها تقديمٌ ولا تأخير كما زعم بعضهم فقال: / أصلُ تركيب الآية الأولى: "غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم، فإذا حَلَلْتم فاصطادوا" وأصل تركيب الثانية:{وَلاا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} ونَظَّره بآيةِ البقرة يعني: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} وهذا لا حاجةَ إليه مع أنَّ التقديم والتأخير عند الجمهور من ضرائر الشعر فيجبُ تنزيه القرآن عنه، وليست الجملةُ أيضاً من قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} معترضةً بين قوله: {وَلاا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وبين قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بل هي مؤسسةٌ ومنشئةٌ حكماً، وهو حِلُّ الاصطياد عند التحلُّل من الإحرام، والجملةُ المعترضةُ إنما تفيد توكيداً وتسديداً، وهذه مفيدةٌ حكماً جديداً كما تقدم.
(5/222)
---(1/1930)
وقوله: {أَن تَعْتَدُواْ} قد تقدَّم أنه من متعلقات "لا يجرمنكم" على أنه مفعولٌ ثانٍ أو على حذف حرف الجر، فَمَنْ كسر "إن صدوكم" يكونُ الشرطُ وجوابُه المقدر في محلِّ جر صفة لـ"قوم" اي شنآن قوم هذه صفتُهم، ومَنْ فتحا فمحلُّها الجرُّ أو النصب، لأنها على حَذْفِ لام العلة كما تقدم. قال الزمخشري: "والمعنى: ولا يكسبنكم بغضُ قوم لأنْ صَدُّوكم الاعتداءَ ولا يَحْملنكم عليه" قال الشيخ: وهذا تفسيرُ معنى الا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكونَ مدلولُ "جرم" حمل وكَسَب في استعمال واحد لاختلافِ مقتضاهما، فيمتنعُ أن يكونَ "[أن] تعتدوا"في محلِّ مفعول به ومحلِّ مفعولٍ على إسقاط حرف الجر" وهذا الذي قال لا يُتَصَوَّر أن يتوهَّمه مَنْ له أدنى بصر بالصناعة حتى يُنَبِّه عليه.
وقد تقدَّم قراءة البزي في نحو: "ولا تَّعاوَنُوا" وأنَّ الأصل: "تتعاونوا" فأدغم، وحَذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ
}.
* { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(5/223)
---(1/1931)
وتقدَّم أيضاً إعرابُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}: وأصلُها وقدم هنا لفظَ الجلالة في قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وأُخِّرت هناك، لأنها في البقرة فاصلةٌ أو تشبه الفاصلة بخلافِها هنا، فإنها بعدَها معطوفاتٌ. والموقوذة: هي التي وُقِذَت أي: ضُربت بعصا ونحوها حتى ماتت، مِنْ: وَقَذَه أي: ضَرَبه حتى استرخى، ومنه: "وقَذَه النعاس" أي: غَلَبه، ووقَذْه النعاس" أي: غَلَبه، ووقَذه الحُلُم أي: سكنه، وكأن المادة دالة على سكون واسترخاء. والمُتَرَدِّيَةُ: مِنْ تتَرَدَّى أي: سقط من عُلُوٍّ فهلك، ويقال: "ما يَدْري أين رَدَى" أي: ذهب، وَرَدَى وَتَردَّى بمعنى هَلك، والنَّطيحة: فعلية بمعنة مفعولة، وكان مِنْ حقها ألاَّ تدخلها تاءُ التأنيث كقتيل وجريح، إلا أنها جَرَتْ مَجْرى الأسماء أو لأنها لم يُذْكَر موصوفها، كذا قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ، لأنهم إنما يُلحقون التاء إذا لم يُذْكر الموصوف لأجلِ اللَّبس نحو: "مَرَرْتُ بقتيلة بن فلان" لئلا يُلْبِس المذكرُ بالمؤنث، وهنا اللبسُ منتفٍ، وأيضاً وعائده محذوف أي: وما أكلَه السبع، و"ما أكل السَّبُعُ": "ما" بمعنى الذي وعائده محذوف أي: وما أكلَه السبع، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عطفاً على ما لم يُسَمَّ فاعله، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهرة لأنَّ ما أكله السبع وفرغ منه لا يُذَكَّى، ولذلك قال أبو القاسم الزمخشري: "وما أكل بعضَه السبُع" وقرأ الحسن والفياض وأبو حيوة: "السَّبْع" بسكون الباء وهو تسكين للمضموم. ونُقل فتح السين والباء معاً، والسَّبُع: كل ذي ناب ومِخْلب كالأسد والنمر، ويُطْلَقُ على ذي المخلب من الطيور أيضاً، قال:
1692- وسِباعُ الطيرِ تَغْدُو بِطاناً * تتخطَّاهُمُ فما تَسْتَقِلُّ
(5/224)
---(1/1932)
قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والقائلون بأنه استثناء متصل اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} إلى قوله: {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} وقال أبو البقاء: "والاستثناءُ راجعٌ إلى المتردية والنطيحة وأكيلة السَّبعُ" وقال أبو البقاء: "والاستثناءُ راجعٌ إلى المتردية والنطيحة و:يلة السَّبع" وليس إخارجُه المنخنقة منه بجيدٍ. ومنهم مَنْ قال: "هو مستثنى مِنْ"ما أكل السَّبُع" خاصة. والقول الثاني: أنه منقطعٌ أي: ولكن ما ذَكَّيْتم من غيرها فحلال، أو فكلوه، وكأنَّ هذا القائلَ رأى أنها وَصَلَتْ بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالةٍ قريبة منه فلم تُفِدْ تَذْكِيتُها عندَه شيئاً. والتذكية: الذَّبْحُ، وذَكَت النارُ: ارتفعَتْ، وذَكَى الرجلُ: أَسَنَّ، قال:
1693- على أعراقهِ تَجْري المَذاكي * وليس على تقلُّبِه وجُهْدِهْ
قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} رُفِع أيضاً عطفاً على "الميتة" واختلفوا في النصبِ فقيل: هي حجارةٌ كانوا يَذْبحون عليها فـ "على" هنا واضحةٌ، وقيل: هي للأصنام لأنها تُنصب لتُعْبَدَ، فعلى هذا في "على" وجهان،أحدُهما: أنها بمعنى اللام أي: وما ذُبِحَ لأجل الأصنام. والثاني: هي على بابها، ولكنها في محلِّ نصب على الحال أي: وما ذبح مُسَمَّى على الأصنام، كذا ذكره أبو البقاء وفهي النظر المعروف وهو كونه قدَّر المتعلق شيئاً خاصاً. والجمهور على ا"النُّصُب" بضمتين فقيل: هو جمع "نِصاب" وقيل: هو مفرد، ويدل له قول الأعشى:
1694- وذا النُّصُبَ المنصوبَ لا تَقْرَبَنَّه * ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبُدا
(5/225)
---(1/1933)
وفيه احتمالٌ. وقرأ طلحة بن مصرف بضمِّ النون وإسكان الصاد وهي تخفيف القراءة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر: "النَصَب" بتفتحتين، قال أبو البقاء: "وهو اسمٌ بمعنى المنصوب كالقبَض والنقَص بمعنى المقبوض والمنقوص، والحسنُ: "النَّصْب" بفتح النون وسكون الصاد، وهو مصدرٌ واقع موقعَ المفعول به، ولا يجوز أن تكون تخفيفاً لقراءة عيسى بن عمر لأنَّ الفتحة لا تُخَفَّفُ.
/قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} "أن" وما في حيزها في محلِّ رفع عطفاً على "المتية" والأزلام: القِداح، واحدُها "زَلْم" و"زُلْم" بفتح الزاي وضمها. والقِداح: سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قُسم لها من خير وشر، مكتوبٌ على أحدها: "أمرني ربي" وعلى الآخر: "نهاني ربي"، والآخر غُفْل. وقيل: هي سهام الميسر أي: القِمار، ووجهُ ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت تُرفع عند البيت معها.
قوله: {ذالِكُمْ فِسْقٌ} مبتدأُ وخبر، واسمُ الإشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام خاصة، وهو مرويٌ عن ابن عباس. وقيل: إلى جميع ما تقدَّم، لأنَّ معناه: حَرَّم عليكم تناولَ المتية وكذا، فرجعَ اسمُ الإشارة إلى هذا المقدَّر.
قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} "اليوم" ظرفٌ منصوبٌ بـ"يئس" والألفُ واللام فيه للعهدِ، قيل: أرادَ به يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عامَ حجة الوداع، نزلَتْ هذه الآيةُ فيه بعد العصر. وقيل: هو يومَ دخولِه عليه السلام مكة نسة تسع، وقيل: ثمان وقال الزجاج - وتبعه الزمخشري- إنها ليست للعَهد، ولم يُرد باليوم معيناً، وإنما أراد به الزمانَ الحاضر وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية كقولك: "كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب" لا تريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم الزمنَ الحاضر فقط، ونحوه: "الآن" في قول الشاعر:
1695- الآن لَمَّا ابيضَّ مَسْربتي * وعَضَضْتُ مِنْ نابي على جِذْمِ
ومثلُه أيضاً قول زهير:
(5/226)
---(1/1934)
1696- وأَعلم ما في اليوم والأمسِ قبلَه * ولكنني عن علمِ ما في غَدٍ عَمِ
لم يُرِد بهذه حقائقَها. والجمهورُ على "يَئِس" بالهمز، وقرأ يزيد ابن القعقاع: "يَيِس" بياءين من غير همزة، ورُويت أيضاً عن أبي عمرو، يقال يَئِس يَيْئَس ويَيْئِسُ بفتح عين المضارع وكسرِها وهو شاذ، ويقال: "أَيِس" أيضاً مقلوب من يئس فزونه عَفِل، ويدل على القلب كونُه لم يُعَل، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء المقتضي وهو تحرُّكُ حرف العلة وانفتاحِ ما قبله، لكنه لما كان في معنى ما لم يُعَلَّ صح. واليأس: انقطعا الرجاء، وهو ضد الطمع. و"من دينكم" متعلق دينكم. والكلامُ في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } كالكلامِ على "اليوم" قبله. و"عليكم" متعلقٌ بـ"أَتْممت"، ولا يجوزُ تعلُّقه بـ"نعمتي" وإن كان فعلُها يتعدَّى بـ"على" نحو: {أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، إلا أَنْ ينوبَ منابَه، قال أبو البقاء: "فإنْ جَعَلْته على التبيين، أي: أتممت أعني عليكم جازَ" ولا حاجةَ إلى ما ادَّعاه.
قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} في "رَضي" وجهان، أحدهما: أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو الإسلام. و"ديناً" على هذا حالٌ. وقيل: هو مُضَمَّن معنى صَيَّر وجَعَل، فيتعدَّى لاثنين أولهما "الإسلام" والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من الإسلام، ولكنه قُدِّم عليه. قوله: "فمن اضطر" قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ وما قرئ فيها في البقرة فأغنى عن إعادته.
و"في مَخْمَصَةٍ" متعلقٌ بـ"اضْطُرَّ"، والمجاعة لأنها تَخْمُصُ لها البطونُ أي: تَضْمُرُ، وهي صفةٌ محمودةٌ في النساء، يقال: رجلٌ خُمْصان وامرأةٌ خُمْصانة، ومنه: أَخْمَصُ القدمِ لدقتها، ويُستعمل في الجوع والغَرْث قال:
1697- تَبيتون في المَشْتى مِلاءً بطونُكم * وجارتُكم غَرْثضى يَبِتْنَ خمائصا
وقال آخر:
(5/227)
---(1/1935)
1698- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا * فإنَّ زمانَكم زمنق خَميصُ
وُصِق الزمان بذلك مبالغةً كقوله: "نهارهُ صائم وليله قائم" و"غيرَ" نصب على الحال. والجمهور على "متجانِفٍ" بألف وتخفيفِ النون من تَجانَفَ وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي "مُتَجَنِّف بتشديد النون دون ألف. قال أبو محمد بن عطية: "وهي أبلغُ مِنْ "متجانف" في المعنى لأنَّ شدَّة العين تدلُّ على مبالغةٍ وتوغلٍ في المعنى" و"لإثم" متعلق بـ"متجانف" واللامُ على بابها، وقيل: هي بمعنى "إلى" أي: غيرُ مائل إلى إثم، ولا جاحةَ إليه، وقد تقدَّم معنى هذه اللفظة واشتقاقُها عند قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملةٌ: إمَّا في محلِّ جزم أو رفع على حسب ما قيل في "من"، وكذلك القولُ في الفاء: إما واجبةٌ أو جائزةٌ، والعائد على كلا التقديرين محذوف أي: فإن الله غفور له.
* { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
(5/228)
---(1/1936)
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ}: قد تقدَّم الكلام على "ماذا" وما قيل فها فَلْيلتفت إليه. وقوله: "لهم" بلفظ الغيبة لتقدُّم ضمير الغَيْبة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} ولو قيل في الكلام: "ماذا أُحِلَّ لنا" لكانَ جائزاً على حكاية الجملة كقولك: "أقسم زيدٌ ليضربن ولأضربن" بلفظِ الغَيْبة والتكلمِ، إلاَّ أنَّ ضميرَ المتكلم يقتضي حكايةَ ما قالوا، كما أنَّ "لأضربنَّ" يقتضي حكايةَ الجمةلِ المُقْسَمِ عليها، و"ماذا أحِلَّ" هذا الاستفهامُ مُعلِّقٌ للسؤال وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب، إلا أنَّه كان سبب العلمِ، والعلمُ يُعَلَّق، فكذلك سبُبه، وقد تقدَّم تحريرُ القول فيه في البقرة. وقال الزمخشري هنا: "في السؤالِ منعنى القولِ، فلذلك وقعَ بعدَه "ماذا أُحِلَّ لهم"، كأنه قيل: يقولون ماذا أ؛ل لهم؟ ولا حاجةَ إلى تضمين السؤال معنى القول لما تقدَّم من أنَّ السؤالَ يُعَلَّق بالاستفهام كمسببه. وقال ابن الخطيب: "لو كان حكاية لكلامِهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم، ومعلومٌ أنَّ ذلك باطل لا يقولونه، وإنما يقولون: ماذا أحِلَّ لنا، بل الصحيح أنه ليس حكايةً لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيانُ كيفية الواقعة".
قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} في "ما" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، العائدُ محذوف أي: ما عَلَّمْتموه، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوعِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي وأُحِلَّ لكم صيدٌ أو أخذُ ما عَلَّمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف. والثاني: أنها شرطية فمحلُّها رفع بالابتداء، والجوابُ قولُه: "فكُلوا" قال الشيخ: "وهذا أظهرُ لأنه لا إضمار فيه" والثالث: أنها موصولة أيضاً ومحلُّها الرفعُ بالابتداء، والخبر قوله: "فكُلوا، وإنما دخَلَتِ الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط.
(5/229)
---(1/1937)
وقوله: {مِّنَ الْجَوَارِحِ} في محلِّ نصبٍ على الحال / وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: أنه الموصول وهو "ما" والثاني: أنه الهاء العائدةٌ على الموصول، وهو في المعنى كالأول. والجوارح: جمع "جارحة"، والهاءُ للمبالغة سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْرَحُ الصيدَ غالباً أو لأنها تَكْسَبُ، والجَرْحُ: الكَسْبُ ومنه: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} والجارحَةُ: صفةٌ جارية مجرة الأسماء لأنها لم يذكر موصوفها غالباً. وقرأ عبد الله بن عباس وابن الحنفية: "عُلِّمتم" مبنياً للمعفول، وتخريجها أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: وما عَلَّمكم الله من أمر الجوارح.
(5/230)
---(1/1938)
"مكلِّبين" حالٌ من فاعل "عَلَّمتم"، ومعنى "مكلِّبين" مؤدبين ومُضْرِين ومُعَوِّدين قال الشيخ "وفائدةٌ هذه الحالِ - وإنْ كانت مؤكدة لقولِه: "عَلَّمتم" فكان يَسْتغنى عنها - أن يكون المعلمُ ماهراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به" انتهى، وفي جَعْلِه هذه الحالِ مؤكدةً نظرٌ، بل هي مؤسسةٌ. واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ "الكَلْب" هذا الحيوانِ المعروف وإن كانت الجوارحُ يندرج فيها غيرُه حتى سباعُ الطيور تغليباً له، لأنَّ الصيدَ أكثرُ ما يكون به عند العرب. أو اشتقت من "الكَلَب" وهو الضراوة، يقال: هو كَلِبٌ بكذا أي: حريص، وبه كَلَبٌ أي: حرص، وكأنه أيضاً مشتق من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه، أو اشتقت الكَلْب، والكَلْبُ يُطْلق على السَّبُع أيضاص، ومنه الحديثُ: "اللهم سَلِّط عليه كَلْباً من كلابك" فأَكَله الأسد. قال الشيخ: وهذا الاشتقاقٌ لا يَصحُّ لأنَّ كونَ الأسدِ كلباً هو وصف فيه، والتكليبُ من صفة المعلِّم، والجوارحُ هي سباعٌ بنفسها وكلاب بنفسِها لا بجَعْلِ المُعَلِّمِ" ولا طائلَ تحت هذا الرد وقرئ: "مُكْلِبين" بتخفيفِ اللام، وفَعَّل وأَفْعل قد يشتركان في معنى واحد، إلا أن "كَلَّب" بالتشديد معناه عَلَّمها وضَرّاها، و"أَكْلب" معناه صار ذا كِلاب، على أن الزَّجاج قال: رجلُ مُكَلِّب - يعني بالتشديد - ومُكْلِب يعني من أكلب، وكَلاَّب يعين بتضعيف اللام أي: صاحب كلاب". وجاءَتْ جملةُ الجوابِ هنا فعليةً وجملةُ السؤال اسمية ويه: ماذا أُحِل؟ فيه جوابٌ لها من حيث المعى لا من حيث اللفظُ؛ إذ مل يتطابقا في الجنس.
(5/231)
---(1/1939)
قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها جمةل مستأنفة. الثاني: أنها جملة في محلِّ نصب على أنها حال ثانية من فاعل "عَلّضمتم" ومَنَع أبو البقاء ذلك لأنه لا يُجيز للعامل أن يَعْمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك. الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في "مُكَلِّبين" فتكون حالاً من حال وتسمى المتداخلة، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة، لأن معناها مفهوم من "عَلَّمْتُمْ" ومن "مُكَلِّبين" والرابع: أن تكون جملة اعتراضية، وهذا على جَعْل "ما" شرطية، أو موصولة خبرها "فكلوا" فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه أو بين المبتدأ وخبره. فإن قيل: هل يجوز وجهٌ خامس، وهو أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الجوارح أي: من الجوارحِ حالَ كونِها تُعَلِّمونهن، لأنَّ في الجملةِ ضميرَ ذي الحال" فالجوابُ أن ذلك لا يجوز، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحِبها بأجنبي وهو "مكلِّبين" الذي هو حالٌ من فاعل "عَلَّمتم".
(5/232)
---(1/1940)
قوله: {مِمَّآ أَمْسَكْنَ} في"مِنْ" وجهان، أظهرُهما: أنها تبغيضيةٌ، وهي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، هو مفعولُ الأكل، أي: فكلوا شيئاً مما أمسكنه عليكم. والثاني: أنها زائدةٌ وهو قياسُ قولِ الأخفش، فعلى الأول تتعلَّق "مِنْ" بمحذوفٍ، وعلى الثاني لا تَعَلُّقَ لها، و"ما" موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، والعائدُ محذوفٌ، وعلى كلا التقديرين أي: أَمْسَكَتْه كما تقدم. والنونث في "أمسكن" للجوارح. و"عليكم" متعلق بـ"أمسكن" والاستعلاءُ هنا مجازٌ. قوله: "عليه" في هذه الهاء ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها تعود على المصدرِ المفهومِ من الفعل وهو الأكلُ كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكلِ، ويؤيده ما في الحديث "سَمِّ الله، وكُلْ مِمَّا يَليك" والثاني: أنه يعود على "ما عَلَّمْتم" أي: اذكروا اسمَ الله على الجوارح عند إرسالِها على الصيد، وفي الحديث: "إذا أَرْسَلْت كلبك وذكرت اسمَ الله" والثالثُ: أنَّها تعودُ على "ما أَمْسَكْن" أي: اذكروا اسمَ الله ما أَدْركتم ذكاته مما أَمْسَكَتُه عليكم الجوارح.
* { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ}: "مِنْ آية" فاعل زيدت فيه "مِنْ" لوجود الشرطين فلا تَعَلُّ لها. و"من آيات" صفة لـ"آية" فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع. ومعنى "مِنْ" التبعيض.
(5/233)
---(1/1941)
قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في "تأتيهم" والثاني: أنه "من آية" وذلك لتخصُّصِها بالوصف. "وتأتيهم" يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله "كانوا" ويحتمل أن يكون "كانوا" مستقبلَ المعنى لقوله "تأتيهمْ". واعلمْ أن الفعل الماضي لا يقع بعد "غلا" إلا بأحد شرطين: إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية الكريمة، أو يقترن بـ"قد" نحو: ما زيدٌ إلا قد قام". وهنا التفات من خطابه بقوله: "خلقكم" إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله: "وما تأتيهم".
* { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيا أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ}: الكلامُ فيه كالكلامِ فيما قبله. وزعمَ قومٌ أنَّ المرادَ ثلاثةِ الأيام المذكورةِ هنا وقتٌ واحدٌ، وإنما كرره توكيداً، ولاختلاف الأحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشي. وادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، وأن الأصل: "فاذكروا اسم اللّهِ عليه وكلُوا مِمَّا أَمْسَكْن عليكم" وهذا يُشْبه قولَ مَنْ يعيدُ الضميرَ على الجوارحِ المرسلة.
(5/234)
---(1/1942)
قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ} فيه وجهان، الصحيحُ منهما أنه مبتدأ، وخبرُه "حِلُّ لكم" أبرز الأخبارَ بذلك في جملة اسميةٍ اعتناءً بالسؤال عنه. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمِّ فاعلُه وهو "الطيبات" وجَعَل قولَه "حِلٌّ لكم" خيرَ مبتدأ محذوف، وهذا يَنْبغي ألاَّ يجوزَ البتة لتقدير ما لا يُحْتاج إليه مع ذهابِ بلاغةِ الكلامِ. وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} مبتدأ وخبر، وقياسُ قولِ أبي البقاء أن يكونَ "طعام" عطفاً على ما قبله، و"حِلٌّ خبر مبتدأ محذوف، ولم يَذْكره كأنه استشعر الصواب.
قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} في رفعه أيضاً وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي: المُحْصَنات حِلُّ لكم أيضاً، وهذا هو الظاهر. واختار أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على "الطيبات" فإنه قال: "مِن المؤمنات" حالٌ من الضمير في "المُحْصَنات" أو من نفس "المحصنات" إذا عَطَفَتْها "الطيبات" و"حِلٌّ": مصدر بمعنى الحال فلذلك لم يُونَّث ولم يُثَنَّ ولم يُجْمع، لأنه أحسن الاستعمالين في المصارد الواقعة صفةً للأعيان، ويُقال في الإتباع: حِلُّ بِلُّ" وهو كقولهم: "حَسَن بَسَ" و"عَطْشان نَطْشان" و"من المؤمنات" حالٌ كما تقدم: إمَّا من الضمير في "المحصنات" أو من "المحصنات" وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظة واختلافِ القُرَّاء فيها في سورة النساء.
(5/235)
---(1/1943)
قوله: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} ظرفٌ العاملُ فيه أحدُ شيئين: إمَّا "أُحِلَّ" وإمَّا "حِلُّ" المحذوفُ على حَسَب ما قُرِّرَ. والجملة بعده في محلِّ خفضٍ بإضافته إليها، وهي هنا لمجرد الظرفية. ويجوز أن تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوف، أي: إذا آتيتموهن أجورَهن حَلَلْنَ لكم، والأولُ أظهر. و"مُحْصِنين" حال، وعاملُها أحد ثلاثة أشياء: إمَّا "آتيتموهُنَّ"، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المرفوعُ، وإمَّا "أُحِلَّ" المبني للمفعول، وإمَّا "حِلٌّ" المحذوفُ كما تقدم. وغيرَ" يجوز فيه ثلاثة أجه، أحدها: أن ينتصب على أنه نعت لـ"محصنين" والثاني: أنه يجوزُ نصبُه على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر في "مُحْصِنين" والثالث: أنه حالٌ من فاعل آتيتموهن" على أنها حالٌ ثانيةٌ منه، وذلك عند مَنْ يُجَوِّز ذلك وقوله: {وَلاَ مُتَّخِذِيا} يجوزُ فيه الجر على أنه عطفٌ على "مسافحين" وزيدت "لا" تأكيداً للنفي المفهوم من "غير"، والنصبُ على أنه عطفٌ على "غير" باعتبارِ أَوْجهها الثلاثة، ولا يجوز عطفُهُ على "مُحْصِنين" لأنه مقترنٌ بـ"لا" المؤكدةِ للنفي المتقدمِ ولا نفيَ مع "محصنين" وتقدَّم معاني هذه الألفاظ.
وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ} تقدَّم له نظائر. وقي: المراد بالإيمان المؤمَنُ به، فه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول كـ "درهم ضَرْبُ الأمير" وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: بموجِبِ الإيمان وهو الباري تبارك وتعالى.
(5/236)
---(1/1944)
قوله: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الظاهرُ أنَّ الخبرَ قوله: "من الخاسرين" فيتلَّقُ قولُه "في الآخرة" بما تعلَّق به هذا الخبر. وقال مكي: "العاملُ في الظرف محذوفٌ تقديرُه: "وهو خاسر في الآخرةِ" ودَلَّ على المحذوفِ قولُه: "من الخاسرين". فإن جعلة الألف واللام في "الخاسرين" ليستا بمعنى الذين جاز أن يكون العامل في الظرف "من الخاسرين" يعني أنه لو كانَتْ موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، لأنَّ الموصولَ لا يتقدم عليه ما في حَيِّزه، وهذا كما قالوا في قوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} وتقديرُ مكي متعلِّق هذا الظرف وهو "خاسر" إنما هو بناء على كون "أل" موصولةً بدلي قوله: "فإنْ جعلت الألف واللام ليستا بمعنى "الذين" وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقدير: بل العاملُ فيه كما تقدم العاملُ في الظرف الواقع خبراً وهو الكون المطلق، ولا يجوز أن يكونَ "في الآخرة" هو الخبر، و"من الخاسرين" متعلِّقٌ بما تعلَّق به لأنه لا فائدة في ذلك، فإنْ جُعِل "من الخاسرين" حالاً من ضمير الخبر وتكونُ حالاً لازمةً جاز، وهو ضعيفٌ في الإعراب، وقد تقدَّم وقد تقدَّم هذه الآية في البقرة: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
}.
(5/237)
---(1/1945)
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: قالوا تقديرُه: إذا أردتم القيامَ كقولِه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} وهذا من إقامة المسبِّب مقام السبب، وذلك أنَّ القيامَ متسبِّبٌ عن الإرادة والإرادة سببه.
(5/238)
---(1/1946)
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل" قلت: لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادنه له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ داعيتهِ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل في قولهم: "الإنسانُ لا يطير، والأعمى لا يبصر" أي: لا يَقْدران على الطير والابصار، ومنه قولُه تعالى: {نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب عن القدرة، فأقيم المُسَبَّب مُام السببِ للملابسة بينهما ولإيجاوز الكلام". وقيل: تقديره: إذا قَصَدْتُم الصلاةَ؛ لأنَّ مَنْ توجَّه إلى شيءٍ وقام إليه كان قاصدا له فعبَّر بالقسام عن القصدِ. والجمهورُ قَدَّروا حالاً محذوفة من فاعل "قمتم"، أي: إذا قمتن إلى الصلاةِ مُحْدِثين، إذ لا وضوءَ على غير المحِدث، وإن كان قال به جماعة، قالوا: ويدُلُّ على هذه الحالِ المحذوفة مقابلتُها بقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} فكأنه قيل: إنْ كنتم مُحْدِثين الحندُ الأصفر فاغسِلو كذا وامسَحوا كذا، وإنْ كنتم مُحْدثين الحدثَ الأكبر فاغسلوا الجسدَ كله، وهو مَحَلُّ نظر.
(5/239)
---(1/1947)
قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} في "إلى" هذه وجهان، أحدهما: أنها على ابها من انتهاء الغاية، وفيها حنيئذ خلاف، فقائلٌ: إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، وقائلٌ بعكس ذلك، وقائل: لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه، وإنما يدور الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه. وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم وإلا فلا، ويُعْزى لأبي العباس. وقائل: إنْ كان ما بعدَها من غير جنس ما قبلها لم يَدْخُل، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه، وأول هذه الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة. قال بعضُهم: وذلك أنَّا حيث وَجدْنا قرينةً مع "إلى" فإن تلك القرينة تقتضي الإخراجَ مما قبلها، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإخراج، وفَرَّق هذا القائل بين "إلى" و"حتى" فجعل "حتى" تقتضي الإدخالَ، و"إلى" تقتضي الإخراج بما تقدم من الدليل، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب، وقد أوضَحْتُها في كتابي "شرح التسهيل" والقول الثاني: أنها بمعنى "مع" أي: مع المرافق، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} والمرافقُ: جمع "مَرْفِق" بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة، وهو مِفْصَلٌ ما بين العَضْد والمِعْصَم.
قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه، أحدها: أنها للإلصاق أي: أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم. قال الزمخشري: "المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس، وما سحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه" قال الشيخ: "وليس كما ذكر" يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/. وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها. والثاني: أنها زائدةٌ، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} وقوله:
1699- ........... * ......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
(5/240)
---(1/1948)
وهو ظاهرُ كلام سيبويه، فإنه حكى: "خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره" و"مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه" بمعنَى واحد، وقال الفراء: "تقول العرب: "خُذِ الخِطامَ وبالخطام" و"هَزَّه وهَزَّ به" و"خُذْ برأسِه ورأسَه" والثالث: أنها للتعيضِ كقوله:
1700- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ * ................
وهذا قولٌ ضعيف، وقد تقدَّم القولُ في ذكل أولَ البسملة.
قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم: "أرجلكم" نصباً، وباقي السبعة: وأرجلكم" جراً، والحسن بن أبي الحسن: "وأرجلُكم" رفعاً، فأمَّا قراءة النصب ففيها تخريجان، أحدُهما: أنها معطوفةٌ على "ايديكم" فإنَّ حكمَها الغُسْلُ كالأوجه والأيدي، كأنه قيل: "واغسلوا أرجلكم" إلا أنَّ هذا التخريجَ أفسده بعضُهم بأ،ه يلزم منه الفصلُ بين المتعاطِفَيْنِ بجملةٍ غير اعتراضية لأنها مُنْشِئَةٌ حمكاً جديداً فليس فيها تأكيد للأول. وقال ابن عصفور- وقد ذكر الفصلَ بين المتعاطِفَيْن -: "وأقبحُ ما يكونُ ذلك بالجمل" فدلَّ قولُه على أنه لا يجوزُ تخريجُ الآية على ذلك. وقال أبو البقاء عكسَ هذا فقال: "وهو معطوفٌ على الوجوه" ثم قال "وذلك جائظٌ في العربية بلا خلاف" وجَعَلَ السنِّيَّة الواردة بغسل الرجلين مقويةً لهذا التخريج، وليس بشيء، فإنَّ لقائل أن يقول: يجوز أن يكون النصب على محلِّ المجرور وكان حكمُها المسحَ ولكن نُسِخ ذلك بالسنَّة وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء. والثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على محل المجرور قبله، كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك.
(5/241)
---(1/1949)
وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ، أحدها: أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة،و إنما خُفض على الجوار، كقولهم: "هذا جُحْرُ ضبٍ خَرِبٍ" بجر "خرب" وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصة اتصافه به، والضَّبُّ لا يوصف به، وإنما جَرُّه على الجوار، وهذه المسألة عند النحويين لها شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدمت تمثيله، بخلاف: "قام غلام زيد العاقل" إذا جعلت "العاقل" نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس، وأنشد أيضاً قول الشاعر:
1701- كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها * قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ
وقول الآخر:
1702- فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ * هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ
وقول الآخر:
1703- كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه * كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وقول الآخر:
1704- كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل
بجر "محلوج" وهو صفةٌ لـ"قطنا" المنصوبِ، وبجر "هموز" وهو صفة لـ"حية" المنصوبِ، وبجر "المزمل" وهو صفة "كبير" لأنه بمعنى الملتف، وبجرِّ"المُرْمل" وهو صفة "نَسْج"، وإنما جُرَّت هذه لأجلِ المجاورِة، وقرأ الأعمش: {إنَّ الله هو الرازقُ ذو القوةِ المتينِ} بجر المتين مجاورَةً لـ"القولة" وهو صفةٌ لـ"الرازق"، وهذا وإن كان وارداً، إلا ان التخريجَ علهي ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ على الجوارِ إنما وَرَدَ في النعتِ لا في العطف، وقد وَرَدَ في التوكيدِ قليلاً في ضرورة الشعر، قال:
1705- يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجات كلِّهمِ * أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ
(5/242)
---(1/1950)
بجر "كلهم" وهو توكيدٌ لـ"ذوي" المنصوب، وإذا لم يَرِد إلا في النعت أو ما شَذَّ من غيره فلا يينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله تعالى، وهذه المسألةُ قد أوضَحْتُها وذكرت شواهدها في "شرح التسهيل" وممن نَصَّ على ضعفِ تخريجِ الآية على الجوارمكي بن أبي طالب وغيرُه، قال مكي: "وقال الأخفش وأبو عبيدة: "الخفضُ فيه على الجورا، والمعنى للغسل" وهو بعدي لا يُحْمل القرآن عليه" وقال أبو البقاء "وهو الإعرابُ الذي يقال: هو على الجوار، وليس بممتنع أن يقع في القرآن لكثرته فقد جاء في القرآن والشعر، فَمِنض القرآن قولُه تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} على قراءة مَنْ جَرَّ، وهو معطوفٌ على قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} وهو مختلفُ المعنى، إذ ليس المعنى: يَطُوف عليهم وِلْدان مخلَّدون بورٍ عين. وقال النابغة:
1706- لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ * أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ مَجْنُوبِ
والقوافي مجروةٌ، والجواب مشهورٌ عندهم في الإعراب" ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقويةٌ لمُدَّعاه، منها: قَلْبُ الإعراب في الصفات كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} واليومُ ليس بمحيطٍ، وإنما المحيط [هو] العذابُ، ومثلُه قولُه تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} و"عاصف" ليس في صفة اليوم بل من صفة الريح. ومنها: قَلْب بعض الحروف إلى بعض كقول عليه السلام: "ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات" والأصل: "مَوْزورات"، ولكنْ أُريد التواخي، وكذلك قولُهم: "إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا" ويعني أنَّ الأصلَ: "بالغَدَاوى" لأنها من الغُدْوة، ولكن لأجل "ياء" العشايا" جاءت بالياء دون الواو. ومنها: تأنيثُ المذكر كقوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فحذف التاءَ منْ "عشر" وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه، وكذلك قوله:
1707- لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ * سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ(1/1951)
(5/243)
---
وقولهم: "ذَهَبَتْ بعضُ أصابِعه" يعني أنَّ "سور" مذكرةٌ" و"بعض أيضاً كذلك، ولكنْ لَمَّا جاروا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه. ومنها: "قامت هند" لَمَّا لم يَفْصِلوا أتوا بالتاء، ولمَّا فَصَلوا لم يأتوا بها، ولا فرق إلا المجاورةُ وعدمُها: ومنها: استحسانُهم النصبَ في الاشتغال بعد جملةٍ فعلية في قولهم: "قام زيدٌ وعمراً كلمته" لمجاورِة الفعل. ومنها: قَلْبُهم الواوَ المجاورَة للطرفِ همزةً نحو: "أوئل" بخلاف "طواويس" لبُعْدِها من مجاورِة الطرف. قال: "وهذا موضعٌ يَحْتمل أن يكتب فيه أوراقٌ من الشواهدِ، قد بَوَّب النحويون له باباً ورتَّبوا عليه مسائلَ وأصَّلوه بقولهك "هذا جُحْرِ ضبٍ خربٍ" حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع، فأجاز الاتباعَ فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المفرد المسموع، ولو كان لا وجهَ له بحالٍ لاقتصروا فيه على المسموع فقط، ويتأيد ما ذكرناه أنَّ الجرَّ في الآية قد أجيز غيره- وهو الرفع والنصب- والرفع والنصب غير قاطعين ولا ظاهرين على أنَّ حكمَ الرِجْلين المسحُ، فكذلك الجرُّ يجب أن يكونَ كالنصب والرفعِ في الحكم دون الإعراب" انتهى.
(5/244)
---(1/1952)
أمَّا قوله: "إنَّ{وَحُورٌ عِينٌ} من هذا الباب فليس بشيء، لأنه: إمَّا [أن] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل، وإما أن لا يعطفَهما، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر، وإن مل يعطفهما لم يَجُز الجر، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما على المجرور بالباء قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم "يتلذذون ونَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا" أولا يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة لهم بذلك، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما قبله، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على "بأكواب" إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية. وأما البيتُ فجرُّ "موثقٍ" ليس لجواره" لـ"منقلتٍ" وإنما هو مراعات للمجرور بـ"غير"، وأن يَتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى: "لم يبق فيها طريدٌ غيرُ منفلتٍ" وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاروة التي تؤثر في تغيير الإعراب، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد ضرورةً.
(5/245)
---(1/1953)
التخريج الثاني: أنه معطوفٌ على "برؤوسكم" لفظاً ومعنى، ثم نُسِخ ذلك بوجوب الغسل، أو هو حكمٌ باقٍ، وبه قال جماعة، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأوحوال وهو لُبْسُ الخفِّ، ويُعزى للشافعي. التخريج الثالث: انها جُرَّت مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيراً، فَعَطَفَتْ على الممسوح، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم، وإليه ذَهَب الزمخشري. قال: "وقيل: "إلى الكعبين" فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة، لأنَّ المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة" وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا الوهمِ وهو كما قال. التخريج الرابع: أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه المعنى، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضاً يليق بالمل، فيُدَّعى حذفُ جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر، قالوا: وتقديرُه: "وافعَلُوا بأرجلِكم غسلاً".
قال أوب البقاء: "وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله:
1708- مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً * ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها
وقال الآخر:
1709- بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى * ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا
فجر بتقدير الباء، وليس بموضعِ ضرورةٍ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتاباً" قوله: "وإبقاء الجر" ليس علا إطلاقهِ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ اللسانِ ليس هذا منها، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى "العطف علا التوهُّم" يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر "ليس" لأنها يكثُر زيادتُها، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} بجزم "أَكُنْ" عطفاً على "فأصَّدَّق" على توهم سقوط الفاء من فأصَّدَّق" نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه، فظهرَ فاسدُ هذا التخريج.
(5/246)
---(1/1954)
وأمَّ قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي: وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها. والكلام في قوله: "إلى الكعبين" كالكلام في "إلى المرفين". والكعبان فيهما قولان مشهوران، أشهرهما: أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبانز والثاني: أنه العظم النائتان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبان. والثاني: أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل، ومرادُ الآية هو الأول. والكعبة: كلُّ بيتٍ مربع، وسيأتي في موضعِه.
قوله: "منه" في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً بـ"امسحوا" و"مِنْ" فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغاية، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ. وقوله: "ليجعلَ" الكلامُ في هذه اللام كالكلامِ عليها في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعول الإرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ "ليجعلَ" زاد "مِنْ" في الإيجاب في قوله "من حرج"، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على فعل الحرج. و"من حرج" مفعول "ليجعل" والجعلُ يحتمل أنه بمعنى الإيجاد والخَلْق فيتعدى لواحد وهو "من حرج" و"مِنْ" مزيدةٌ فيه، كما تقدم، ويتعلق عليكم حينئذ بالجعل / ويجوز أن يتعلق بـ"حرج" فإن قيل: هو مصدرٌ، والمصدرُ لا يتقدَّم معمولُه عليه. قيل: ذلك في المصدر المؤمول بحرفٍ مصدري وفعكل لأنه بمعنى الوصف، وهذا ليس مؤولاً بحرف مصدري، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيكون "عليكم هو المفعولَ الثاني.
(5/247)
---(1/1955)
قوله: {عَلَيْكُم} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلق ب"يتم" والثاني: "أنه متعلقٌ بـ"نعمته" والثالث: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "نعمته" ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه. قال الزمخشري "وقرئ فَأَطْهِروا أي: أَطْهروا أبدانكم، وكذلك: "ليُطْهِركم" يعين أنه قُرِئ: "أَطِهِروا" أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم، ونسب الناسُ القراءة الثانية - أعني قوله "لِيُطهِرَكم" لسعيد بن المسيب.
* { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا}: "إذا" فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه منصوبٌ بـ"واثقكم" الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في "به" الثالث: أنه حالٌ مِنْ "ميثاقه" وعلى هذين الوجهين الأخيرين يتعلق بمحذوفٍ على القاعدة المقررةِ، و"قلتم" في محلِّ خفضِ بالظرف، و"سَمِعْنا" في محل نصب بالقول.
* { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(5/248)
---(1/1956)
قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ}: تقدَّم نظيرُها في النساء إلا أنه هناك قَدَّم لفظة "القسط" وهنا أُخِّرت، وكأن الغرضَ في ذلك - والله أعلمُ - أنَّ آية النساء جيء بها معرض الإقرار على نفسِه ووالديه وأقاربه والتي هنا: جِيء بها في معرض تكر العداووة فبُدِئ فيها بالأمر بالقيام لله؛ لأنه أردعُ للمؤمنين، ثم ثَنَّى بالشهادة بالعدل، فجيء في كل مَعْرِضٍ بما يناسِبُه. وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم} تقدَّم مثله، وظهورُ حرفِ الجر هنا يرجِّع تقديرَه قبلُ. "هو أقرب": "هو" ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي: العدل، وقد تقدَّم له نظائُر كثيرة.
* { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }
(5/249)
---(1/1957)
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ}: "وعد" يتعدَّى لاثنين أولهما الموصول، والثاني محذوفٌ أي: الجنةَ، وقد صَرًَّح بهذا المفعولِ في غير هذا الموضع وعلى هذا فالجملة من قوله: "لهم مغفرة" لا محل لها لأنها مفسرةٌ لذلك المحذوفِ تفسيرَ السبب للمسبب، فإن الجنةَ مسببةٌ عن المغفرةِ وحصولِ الأجر العظيم، والكلامُ قبلها تام بنفسه. وذكر الزمخشري في الآية احتمالاتٍ أخَرَ، أحدها: أنَّ الجملةَ من قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} بيانٌ للوعد، كأنه قال: قَدَّم لهم وعداً، فقيل: أيَّ شيء وعده؟ فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم، وعلى هذا فلا محلَّ لها أيضاً، وهذا أَوْلى من الأول لأن تفسرَ الملفوظِ به أَوْلى من ادِّعاء تفسير شيء محذوف. الثاني: أنَّ الجملةَ منصوبةٌ بقولٍ محذوفٍ كأنه قيل: وَعَدهم وقال لهم مغفرة. الثالث: إجراءُ الوعد مُجرى القول لأنه ضَرْبٌ منه، ويجعل "وعد" واقعاً على الجملة التي هي قوله: "لهم مغفرة" كما وقع "تَرَكْنا" على قوله: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ} كأنه قيل: وعدهم هذا القول، وإذا وعدهم مَنْ لا يُخْلِفُ الميعادَ فقد وعدهم مضمونَة من المغفرة والأجر العظيم، وإجراءُ الوعدِ مُجْرى القولِ مذهبٌ كوفي.
* { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
(5/250)
---(1/1958)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ}: مبتدأ، و"أولئك" مبتدأ ثان، و"أصحاب" خبره، والجملة الأول، وهذه الجملة مستأنفة أُتي بها اسميةً دلالة على الثبوت والاستقرار، ولم يُؤْتَ بها في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سيقا الوعد حسماً لرجائهم، وأجاز بعضُهم الوعيد كما أتى بالجملةُ داخلةً في حَيِّز الوعد، على ما تقدَّم تقريرُه في الجملةِ قبلَها، قال: "لأنَّ الوعيد اللاحقَ بأعدائهم مِمَّا يَشْفي صدروَهم، ويُذْهب ما كانوا يَجِدونه من أذاهم، ولا شك أن الأذى اللاحقَ للعدوِّ مِمَّا يَسُرُّ، ويُفْرِحُ ما عند عدوه" وفيه نظرٌ، فإنَّ الاستئناف وافٍ بهذا المعنى؛ فإنَّ الإنسانَ إذا سمع خبراً يسوءُ عدوَّه سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعَدْ به، وقد يَتَقوّى صاحبُ هذا القول المتقدم بأ، الزمخشري قد نَحا إلى المعنى في سورة سبحان، قال: "فإن قلت: علامَ عطف وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}؟ قلت: على {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} على أنه بَشَّر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابِهم وبعقابِ أعدائهم، فجعل عقابَ عقابَ أعدائِهم داخلاً في حَيِّز البِشارة، فالبشارةُ هناك كالوعدِ هنا.
* { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
(5/251)
---(1/1959)
وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّق بـ"نعمة" وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها. و"إذ هم" ظرفٌ، ناصبُه النعنمة أيضاً أي: اذكروا نعمته عليكم في وقتِ هَمِّهم، ويجوز أن يتعلقَ هذا الظرفُ بما تعلّق به "عليكم" إذا جعلتَه حالاً من "نعمة"، ولا يجوزُ أَنْ يكون منصوباً بـ"اذكروا" لتنافي زمنيهما، فإنَّ "إذ" للمضي، و"اذكروا" مستقبل. و"أن يَبْسُطوا" على إسقاط الباء أي: هَمُّوا بأن يبسطوا، ففي موضع "أَنْ" الخلافُ المشهور.
* { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }
(5/252)
---(1/1960)
قوله تعالى: {مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}: "منهم" يجوز أن يتعلق بـ" بَعَثْنا" وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ "اثني عشر" لأنه في الأصلِ صفةُ له، فلما قُدُّمِ نُصِب حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ في تركيب "اثني عشر" وبنائه وحَذْفِ نونِه في البقرة فَأَغْنى عن إعادته. و"ميثاق" يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى المفعول - وهو الظاهر- أي: إنه الله تعالو واثَقَهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لفاعله: أي: واثقوه تعالى. والمفاعلة يجوز نسبةُ الفعلِ فيها إلى كلِّ مضافاً لفاعله أي: إنهم واثقوه تعالى. والمفاعلة يجوز نسبةُ الفعلِ فيها إلى كلِّ من المذكورَيْنِ. والنقيب: فعيل، قيل: بمعنى فاعِل مشتقاً من النَّقْب وهو التفتيس، ومنه: {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} وسُمِّي بذلك لأنه يفتشُ عن أحوالِ القوم وأسرارهم. وقيل: هو بمعنى مفعول، كأن القوم اختاره على علمٍ منهم تفتيشٍ على أحواله. وقيل: هو للمبالغةِ كعليم وخبير.
قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} هذه اللامُ هي الموطئة للقسم،معها محذوفٌ، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ أجيب سابقهما، إلا أن يتقدّضم ذو خبرٍ فيُجاب الشرطُ مطلقاً. وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} هذه اللام هي جوابُ القسم لسبقه، وجوابُ الشرط محذوفٌ/ لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى قول الزمخشري أنَّ قوله "لأكفرنَّ" سادٌّ مسد جوابي القسم والشرط، لا كما فهمه بعضُهم، وردَّ عليه ذلك. ويجوز أن يكون "لأكفرن" جواباً لقوله تعالى قبل ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ} لِما تَضَمَّنه الميثاقُ من معنى القسم، وعلى هذا فتكون الجملتان - أعني قوله: "وبعثنا" "وقال الله" - فيهما وجهان،أحدهما: أنهما في محلِّ نصب على الحال، والثاني: أن تكونا جملتي اعتراض، والظاهرُ أنَّ قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} جوابُه: "لأكفرنَّ" كم تقدم، وجملةُ هذا القسم المشروطِ وجوابُه مفسرةٌ لذلك الميثاق المتقدم.
(5/253)
---(1/1961)
والتعزيز: التعظيم، قال:
1710- وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ * ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ
وقيل: هو الثناء بخير، قال يونس، وهو قريب من الأول. وقيل: هو الردُّ عن الظلم قال الفراء. وقال الزجاج: "هو الردع والمنع" فعلى القولين الأولين يكون المعنى: "وعَظَّمْتُموهم وأثنيتم عليهم خيراً" وعلى الثالث والرابع يكون المعنى: "وردَدْتم وردَعْتم سفهاءَهم عنهم. قال الزجاج: "عَزَّزْتُ فلاناً": فَعَلْتُ به ما يردعه عن القبيح، مثل نَكَّلت، فعلى هذا يكون "عَزَّزْتُموهم" رَدّدْتم عنهم اعداءهم" وقرأ الحسن البصري: "برسْلي" بسكون العين حيث وقع. وقرأ الجحدري: "وعَزَرْتموهم" خيفيفةً الزاي وهي لغة. وقرأ في الفتح: "وتَعْزُوروه" بفتح حرف المضارعة وسكون العين وضم الزاي، وهي موافقة لقراءته هنا.
قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً} تقدَّم الكلام في "قَرْضا" وفي نصبه في البقرة.
* { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم} تقدم الكلام على نظيره، وكذلك {سَوَآءَ السَّبِيلِ} وقرأ الجمهور: "قاسيةً" اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ الأَخَوان: - وهي قراءة عبد الله - "قَسِيَّةً" بفتح الفارسي: "ليست في ألفاظِ العربِ في الأصل، وإنما هي كلمةٌ أعجميه معرَّبة" يعني أنها مأخوذةٌ من قولِهم: "دِرْهم قِسِيّ" أي: مَغْشُوش، شَبَّه قلوبَهم في كونِها غيرَ صافيةٍ من الكَدَر بالدارهم المغشوشةِ غير الخالصةِ، وأنشدوا قولَ أبي زبيد:
1711- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما * صاحَ القِسِيَّات في أَيْدي الصياريفِ
وقوله الآخر:
(5/254)
---(1/1962)
1712- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ * وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ
وقال صحاب الكشفا: "وقرأ عبد الله: "قَسِيَّة" أي: رديئة مغشوشة مِنْ قولِهم: "درهم قَسِيّ" وهو من القسوة؛ لأنّ الذهبَ والفضة الخالصين فهيما لينٌ، والمغشوشُ فيه صلابةٌ ويُبس، والقسي والقاسح - بالحاءِ المهملة - أَخَوانِ في الدلالة على اليُبْس" وهذا القول سبقه إليه المبردُ فإنه قال: "يُسَمَّى الدرهمُ المغشوشُ قَسِيّاً لصلابته وشدتِه للغشِّ الذي فه"، وهو يَرْجِعُ للمعنى الأول، والقاسي والقاسح، بمعنى واحد، وعلى هذين القولين تكوت اللفظةُ عريبة، وقيل: بل هذه القراءة توافِقُ قراءةُ الجماعة في المعنى والاشتقاق، لأنه فعيل للمبالغة كاشهد وشهيد فكذلك قاسٍ وقسِيّ، وإنما أُنِّث على معنى الجماعةِ. وقرأ الهَيْصم بن شداخ: "قُسِيَّة" بضم القاف وتشديد الياء. وقرئ "قِسَّية" بكسر القاف إتباعاً، وأصل القراءتين: قاسِوَة وقَسِيوة لأنَّ الاشتقاق من القسوة.
(5/255)
---(1/1963)
قوله:{يُحَرِّفُونَ} في هذه الجملة أربعة أوجه، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة قولبهم، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى. والثاني: أنها حال من مفعول "لعنَّاهم" أي: لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف. والثالث: - قال أبو البقاء - أنه حال من الضمي المستتر في "قاسية"، وقال: "ولا يجوزُ أن يكون حالاً من القلوب، لأن الضمير في "يُحَرِّمون" لا يرجع إلى القلوب" وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في "قاسية" يلزَمُه أن يُجّوِّز أن يكون حالاً من "القلوب" لأنّض الضميرَ المسترر في "قاسية" يعودُ على القلوب، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره، يمتنع أن يكونَ حالاً من ضميرِه، وكأن المانع الذي توهَّمه كونُ الضمير - وهو الواو في "يُحَرِّفون- إنما يعود على اليهود بجملتِهم لا على قلوبهم خاصةً، فإنَّ القلوبَ لا تُحَرِّف، إنما يحرِّف أصحاب القلوب، وهذا لازمٌ له في تجويزه الحاليةَ من الضمير في "قاسية". ولقائل أن يقولَ: المرادُ بالقولب نفسُ الأشخاص، وإنما عَبَّر عنهم بالقلوب لأن هذه الأعضاءَ هي محلُّ التحريف أي: إنه صادرٌ عنها بتفكُّرها فيه، فيجوزُ على هذا أن يكونَ حالاً من القلوب. والرابع: أن تكون حالاً من "هم" قال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ" يعن لأنَّ الحالَ من المضافَ إليه لا تجوزُ، وغيرُه يجوِّزُ ذلك في مثلِ هذا الموضعِ؛ لأنَّ المضاف بعضُ المضاف إليه/ وقرأ الجمهورُ بفتح الكافِ وكسرِ اللامِ وهو جمعُ "كلمة" وقرأ أبو رجاء: "الكِلْمِ" بكسر الكافِ وسكونِ اللام، وهو تخفيفُ قراءة الجماعة، وأصلُها أنه كَسَرَ الكافَ إتباعاً ثم سكَّن العينَ تخفيفاً، وقرأ السُلمي والنخغي: "الكلام" بالألف. "وعن مواضِعه" قد ذُكِر مثلُه في النساء.
قوله: {عَلَى خَآئِنَةٍ} في "خائنة" ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها اسمُ فاعل فالهاء للمبالغة كراوية ونسَّابة أي: على شخص خائن، قال الشاعر:
(5/256)
---(1/1964)
1713- حَدَّثْتَ نفسَك بالوفاءِ ولم تَكُنْ * للغدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ
الثاني: أن التاء للتأنيث، وأُنِّث على معنى طائفة أو نفس أو فَعْلَة خائنة. الثالث: أنها مصدرٌ كالعافية والعاقبة، ويؤِّيد هذ الوجه قراءةُ الأعمش:{على خيانة} وأصل خائنة: خاونة، وخيانة: خِوانة، لقولهم: تَخَوَّن وخَوَّان وهو أَخْوَن، وإنما أُعِلاَّ إعلالَ "قائمة وقيام" و"منهم" صفة لـ"خائنة" إن أريد بها الصفة، وإن أريد بها المصدرُ قُدِّم مضافٌ أي: من بعض خياناتهم.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستنثى منه أربعةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه لفظ خائنة، وهمُ الأشخاصُ المذكورين في الجملة قبله أي: لا تزالُ تَطَّلع على مَنْ يَخْون منهم إلى القليلَ، فإنه لا يخون فلا تَطَّلِعُ عليه، وهؤلاء هم عبد الله بن سلام وأصحابه. قال أبو البقاء "ولو قرئ بالجر على البدل لكان مسقيماً" يعين على البدل من "خائنة" فإنه في حَيِّز تطَّلع على فَعْل الخيانة إلا فعلاً قليلاً، وهذا واضح إنْ أُريد بالخيانة أنها صفة للفعلة المقدرة كما تقدَّم، ولكن يُبْعِدُ ما قاله ابنُ عطية قولُه بعدَه "منهم"، وقد تقدَّم لنا نظيرُ ذلك في قوله {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} حيث جَوَّز الزمخشري فيه أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ. الثالث: أنه "قلوبهم" في قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قال صاحبُ هذا القول: "والمرادُ بهم المؤمنون لأن القسوة زالَتْ عن قلوبهم" وهذا فيه بُعْدٌ كبير، لقوله "لعنَّاهم" الرابع: أنه الضمير في "منهم" مِنْ قوله تعالى: {عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} قاله مكي.
* { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }(1/1965)
(5/257)
---
قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ}: فيه خمسةُ أوجه، أحدهما: - وهو الظاهر- أنَّ "مِنْ" متعلقة بقوله "أخذنا" والتقدير الصحيح فيه أن يقال: تقديرُه: "وأَخَذْنا من الذين قالوا: إنَّا نصارى ميثاقهم" فتوقع "الذين بعد "أَخَذْنا" وتؤخِّر عنه "ميثقاقهم" ولا يجوز أن تقدِّر "وأَخَذْنا ميثاقَهم من الذين" فتقدم "ميثاقَهم" على "الذين قالوا" وإنْ كان ذلك جائزاً من حيُ كونُهما مفعولين، كلُّ منهما جائزُ التقديم والتأخيرِ، لأنه يلزم عودُ الضميرِ على متأخر لفظاً ورتبة، وهو لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، نصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ قامَتْ صفتُه مَقامه، والتقدير: "ومن الذين قالوا إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم" فالضمير في "ميثاقهم" يعود على ذلك المحذوف. والثالث: أنه خبر مقدم أيضاً، ولكن قَدَّروا المبتدأ موصولاً حُذِف وبقيت صلتُه، والتقدير: "ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى مَنْ أخذنا ميثاقهم" فالضمير في "ميثاقهم" عائد على "مَنْ" والكوفيون يجزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك. ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا، وقَدَّره عندهم: "ومن الذين قالوا: إنَّ نصارى مَنْ أخذنا" وهذا التقدير لايؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط، بل يجوز أن تكونَ "مَنْ" المقدرةُ نكرةً موصوفةً حُذِفت وبقيت صفتُها، فيكون كالمذهب الأول. الرابع: أن تتعلِّق "مِنْ" بـ"أخذنا" كالوجه الأول، إلا أنه لا يلزَمُ فيه ذل التقديرُ، وهو أن توقع "من الذين" بعد "أخذنا" وقبل "ميثاقهم"، بل يجوز أن يكون التقدير على العكسِ، بمعنى أنَّ الضميرَ في "ميثاقهم" يعودُ على بني إسرائيل، ويكون المصدرُ من قوله "ميثاقهم" مصدراً تشبيهاً، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثلَ ميثاق بني إسرائِيل كقولك: "أخَذْتُ من زيد ميثاق عمرو" أي: ميثاقاً مثل ميثاق عمرو، وبهذا الوجه بدأ(1/1966)
الزمخشري فإنه قال:
(5/258)
---
"أَخَذْنا من النصارى ميثاقَ مَنْ ذُكِر قبلَهم من قوم موسى أي: مثل ميثاقِهم بالإيمان بالله والرسل. الخامس: أنَّ "من الذين" معطوف على "منهم" من قوله تعالى: "ولا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم أي: من اليهود، والمعنى: ولا تزال تَطَّلع على خائنةٍ من اليهود ومن الذين قالوا إنَّا نصارى، ويكون قوله: {ا أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} على هذا مستأنفاً. وهذا ينبغي ألاَّ يجوز لوجهين، أحدهما: الفصلُ غيرُ المغتفر. والثاني: أنه تهيئةٌ للعامل في شيء وقطعه عنه، وهو لا يجوز.
قوله: {بَيْنَهُمُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ لـ"أغرينا". والثاني: أنه حالٌ من "العداوة" فيتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً للعداوة، لأنَّ المصدر لا يتقدم معموله عليه. "وإلى يوم القيامة" أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بأغيرنا، أو بالعداوة، أو بالبغضاء، أي: أغرينا إلى يوم القيامة بنيهم العداوة والبغضاء، أو انهم يتعادَون إلى يوم القيامة، أو يتباغضون إلى يوم القيامة. وعلى مأ أجازه أبو البقاء تكونُ المسألةُ من باب الإعمال، ويكون قد وُجد التنازع بين ثلاثة عوامل، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني، وتقدم تحرير ذلك. و"أغرينا" مِنْ أغراه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصلُه من الغِراء الذي يُلْصَقُ به ولامه واو، فالأصل: أَغْرَوْنا، وإنما قُلِبت الواو ياء لوقوعها رابعة كأغوينا، ومنه قولُهم: "سَهْمٌ مَغْرُوُّ" أي معمول بالغِراء،يقال "غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء، فإذا أريد / تعديتُه عُدِّي بالهمزة، فقيل: "أغريته بكذا". والضميرُ في "بينهم" يحتمل أن يعود على "الذين قالوا إنَّا نصارى" وأن يعودَ على اليهود المتقدمين الذكر، وبكلٍ قال جماعةٌ، وهذا الكلامُ معطوف على الكلام قبله من قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ} أي: ولقد أخذ اللّهُ ميثاقَ بين إسرائيل، وأخذنا مِنَ الذين قالوا.(1/1967)
(5/259)
---
* { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ} في محلِّ نصب على الحال من "رسولنا" أي: جاءكم رسولنا في هذه الحالة. و"ممَّا" يتعلق بمحذوف لأنه صفة لـ"كثيراً" و"ما" موصولةٌ اسميةٌ، و"تُخْفون" صلتُها والعائد محذوف أي: من الذين كنتم تخفونه. "ومن الكتاب" متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من العائد المحذوف. وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} لا محلِّ له لاستئنافِه، والضميرُ في "يبيِّن" و"يَعْفُو" يعود على الرسول، وقد جَوِّز قوم أَنْ يعودَ على الله تعالى، وعلى هذا فلا محلِّ لقوله: "يبيِّن" من الإعراب. ويمتنع أن يكونَ حالاً من ذنوبكم، وحَذْفُ الصفة قليل. وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ} لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها، و"من الله" يجوز أَنْ يتعلَّق بـ"جاء" وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال من "نور" قُدِّمَتْ صفةُ النكرة عليها فنُصِبَتْ حالا.
* { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
(5/260)
---(1/1968)
قوله تعالى: {يَهْدِي}: فيه خمسة أوجه، أظهرهما: انه في محل رف لأنه صفة ثانية لـ"كتاب" وَصَفه بالمفرد ثم بالجملة وهو الأصل. الثاني: أن يكون صفة أيضاً لكن لـ "نور" ذَكَره أبو البقاء، وفيه نظر، إذ القاعدة انه إذا اجتمعت التوابعُ قُدِّم النعتُ على عطف النسق تقول: "جاء زيدٌ العاقلُ وعمرو" ولا تقول: "جاء زيدٌ وعمرو العاقل" ولأن فيه إلباساً أيضاً. الثالث: أن يكونَ حالاً من "كتاب" لأنَّ النكرة لَمَّا تخصصت بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة، وقياسُ قول أبي البقاء أنه يجوز أن يكونَ حالاً من "نور" كما جاز أن يكون صفة له. الرابع: أنه حال من "رسولنا" بدلاً من الجملة الواقعة حالاً له وهي قوله "يبين" الخامس: أنه حالٌ من الضمير في "يبيِّن" ذكرهما أبو البقاء ولا يَخْفى ما فيها من الفصل، ولأنَّ فيه ما يُشْبه تهيئة العامل للعمل وقطعَه عنه.
والضميرُ في "به" يعودُ على مَنْ جَعَلَ "يَهْدي" حالاً منه أو صفة له، قال أبو البقاء: "فلذلك أُفْرِد، أي: إنَّ الضمير في "به" أتى به مفرداً، وقد تقدَّمه شيئان، وهما نورٌ وكتابٌ، ولكنْ لَمَّا قَصَد بالجملة من قوله "يهدي" الحالَ أو الوصفَ من أحدهما أفردَ الضمير، وقيل: الضمير في "به" يعودُ على الرسول. وقيل: يعودُ على السلام، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجملة من قوله "يهدي" حالاً ولا صفةً لعدم الرابط. و"مَنْ" موصولةٌ أو نكرة موصوفة، وراعى لفظَها في قوله "اتَّبع" فلذلك أفرد الضمير، ومعناها، فلذلك جَمَعَه في قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ}.
(5/261)
---(1/1969)
وقرأ عبيد بن عمير ومسلم بن جندب والزهري: "بهُ" بضمِّ الهاء حيث وقع، وقد تقدم أنه الأصل. وقرأ الحسن: "سُبْل" بسكون الباء، وهو تخفيف قياسي به كقولهم في "عُنُق": "عُنْق"، وهذا أولى لكونه جمعاً، وهو مفعول ثاني لـ"يهدي" على إيسقاط حرف الجر أي: إلى سبل، وتقدم تحقيق نظيه، ويجوز أن ينتصب على أنه بدلٌ من "رضوانه": إمَّا بدلُ كل مِنْ كل؛ لأن "سبل السلام" هي رضوان الباري تعالى، وإمَّا بدل اشتمال لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام، أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل بعض من كل، لأنَّ سبل السلام بعض الرضوان. و"بإذنه" متعلق بـ"يخرجهم" أي بتيسيره أو بأمره، والباء للحال أي: مصاحبين لتيسيره، أو للسببية، أي: بسببِ امره المنزل على رسوله.
* { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوااْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(5/262)
---(1/1970)
قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ}: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملة مقدرة قبلها، والتقديرُ: قل كذبوا - أوليس الأمر كذلك - فمن يملك؟ وقوله: "من الله" في احتمالان، أظهرهما: أنه متعلق بالفعل قبله. والثاني: ذَكَره أبو البقاء أنه حال من "شيئاً" يعني من حيث إنه كان صفةً في الأصل للنكرة فقُدِّم عليها فانتصب حالاً، وفيه بٌعْدٌ أو منعٌ. وقوله: {فَمَنْ} استفهامُ توبيخ وتقرير، وهو دالٌ على جواب الشرط بعده عند الجمهور. وقوله: {وَمَن فِي الأَرْضِ} من باب عطف العام على الخاص حتى يبالِغَ في نفي الإلهية عنهما، فكأنه نصَّ عليهما مرتين مرة بذكرهما مفردين، ومرةً باندراجِهما في العموم و"جميعاً" حالٌ من المسيح وأمه ومَنْ في الأرض، أو من "مَنْ" وحدها لعمومها، ويجوز أن تكونَ منصوبةً على التوكيد مثل "كل"، وذكرها بعض النحويين من ألفاظ التوكيد. وقوله: {يَخْلُق} جملةٌ لا محلَّ لها لاستئنافها.
* { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى: {فَلِمَ}: هذه الفاءُ جوابُ شرط مقدر وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: "فإن صَحَّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلِمَ تُذْنبون وتُعَذَّبون؟" ويجوز أن تكون كالفاء قبلها في كونها عاطفة على جملة مقدرة أي: كَذَبْتُمْ فلِمَ يعذبكم؟ والباء في "بذنوبكم" سببية. و"مِمَّن خلق" صفةٌ لـ"بشر" فهو في محل رفع متعلق بمحذوف.
(5/263)
---(1/1971)
* { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ لَكُمْ}: تقدَّم نظيره. وقوله: "على فترة" فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلقٌ بـ"جاءكم" أي: جاءكم / على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، ذكره الزمخشري والثاني: أنه حال من فاعل "يبين" أي: يبين في حال كونه على فترة. والثالث: أنه حال من الضمير المجرور في "لكم" فيتلَّق على هذين الوجهين بمحذوفٍ. و"من الرسل" صفةٌ لـ"فترة" على أن معنى "من" ابتداءُ الغاية أي: فترةٍ صادرة من إرسال الرسل. قوله: {أَن تَقُولُواْ} مفعول من أجله، فقدَّره الزمخشري: "كراهة أن تقولوا" وأبو البقاء: مخافةَ أن تقولوا، والأول أَوْلى. وقوله: "يبيِّن" يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعول البتة، والمعنى: يبذل لكم البيانَ، ويجوز أن يكون محذوفاً: إمَّا لدلالة اللفظ عليه وهو ما تقدَّم من قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} وإمَّا لدلالة الحال أي: يبيِّن لكم ما كنتم تختلفون فيه. "ومن بشير" فاعل، زِيْدَتْ فيه "مِنْ" لوجود الشرطين و"لا نذير" عطف على لفظه، ولو قرئ برفعه مراعاةً لموضعه جاز. وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُمْ} عطف على جملة مقدرة أي: لا تعتذروا فقد جاءكم. وما بعد هذا من الجمل واضحُ الإعرابُ لِما تقدم من نظائره.
* { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }
(5/264)
---(1/1972)
قوله تعالى: {عَلَى أَدْبَارِكُمْ}: حالٌ من فاعل "ترتدَّوا" أي: لا ترتدَّوا منقلبين، ويجوز أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، وقوله: {فَتَنْقَلِبُوا} فيه وجهان أظهرهما: أنه مجزومُ عطفاً على فعل النهي. والثاين: أنه منصوبٌ بإضمار "أنْ" بعد الفاء في جواب النهي. و"خاسرين" حال. وقرأ ابن محيصن هنا وفي جميع القرآن: {يا قومُ} مضمومَ الميم، ويُروى قراءةً عن بان كثير، ووجهُها أنها لغةٌ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كقراءة: {قل ربُّ احكمْ بالحق} وقد بَيَّنْتُ هذه المسألة قبل ذلك. وقرأ ابن السَّمَيْقَع: {يا قوميَ ادخلوا} بفتح الياء.
* { قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ }
قوله تعالى: { فَإِنَّا دَاخِلُونَ}: أي: فإنَّا داخلون الأرضَ حَذَفَ المفعولَ للدلالة عليه.
* { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوااْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
(5/265)
---(1/1973)
قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ}: هذا الجارُّ والمجرو في محل رفعٍ صفةً لـ"رجلان"، ومفعولُ "يخافون" محذوفٌ، تقديرُه: يخافون اللَّهَ أو يخافون العدوَّ، ولكن ثَبَّتهما الله تعالى بالإيمان والثقة به حتى قالوا هذه المقالة، ويؤِّيد التقديرَ الأول التصريحُ بالمفعول في قراءة ابن مسعود: {يخافون الله}، وهذان التأويلان بناءَ على ما هو المشهور عند الجمهور مِنْ كَوْنِ الرجلين القائلَين ذلك مِنْ قومَ موسى وهما يُوشع وكالب، وقيل: الرجلان من الجبارين، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان حتى قالا هذه المقالة يُحَرِّضهم على قومهم لمعاداتهم لهن في الدني، وعلى هذا القول فيحتمل أن يكونَ مفعولُ "يخاون" كما تقدَّم، أي: يخافون الله أو العدو، والمعنى كما تقدَّم، ويحتمل أن يكون المفعول ضميراً عائداً على الموصول ويكونُ الضميرُ المرفوع في "يخافون" ضميرَ بني اسرائيل، والتقدير: من الذين يخافهم بنو اسرائيل، وأيَّد الزمخشري هذا التأويل بقراءة مَنْ قرأ "يُخافون" مبنياً للمفعول، وبقوله أيضاً: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} فإن قال: "وقراءةُ مَنْ قرأ "يُخافون" بالضم شاهدة له، ولذلك أنعم الله عليهما، كأنه قيل: مِنْ المُخَوَّفين" انتهى. والقراءة المذكورة عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد، وأبدى الزمخشري أيضاً في هذه القراءة أيضاً وجهاً آخر: وهو أن يكونَ المعنى: "يُخافون" أي: يُهابون ويُوَقَّرون، ويُرْجَعُ إليهم لفضلِهم وخيرِهم، ومع هذين الاحتمالين الأخيرين فلا ترجيحَ في هذه القراءة لكونِ الرجيلن من الجبارين. وأما قوله: وكذلك "أنعم الله عليهما" أي: في كونه مرجِّحاً أيضاً لكونما من الجبارين فغيرُ ظاهرٍ، لكون هذه الصفةِ مشتركةً بين يوشع وكالب وبين غيرِهما مِمَّن أنعمَ الله عليه.
(5/266)
---(1/1974)
قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أظهرهم: أنها صفةٌ ثانيةٌ فمحلُّها الرفعُ، وجِيء هنا بأفصح الاستعمالين من كون قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالجملة لقُربه من المفرد. والثاني: أنها معترضةٌ، وهو أيضاً ظاهرٌ. الثالث: أنها حالٌ من الضمير في "يَخافون" قاله مكي. الرابع: أنها حلاٌ من "رجلان" وجاءت الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِهما بالوصف. الخامس: أنها حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِّ، وهو "مِنَ الذين" لوقوعِه صفةً لموصوف، وإذا جَعَلْتها حالاً فلا بُدَّ من إضمارِ "قد" مع الماضي على خلافٍ سَلَق في المسألة.
* { قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }
قوله تعالى: {مَّا دَامُواْ فِيهَا}: "ما" مصدريةٌ ظرفيةٌ، و"داموا" صلتُها، وهي "دام" الناقصةُ، وخبرُها الجارُّ بعده، وهذا الظرفُ بدل من "أبداً" وهو بدلُ بعضٍ من كل؛ لأنَّ الأبَدَ يَعُمُّ الزمنَ المستقبل كلَّه، وداومُ الجبارين فيها بعضُه، وظاهرُ عبارة الزمخشري يحتمل أن يكون بدلَ كل من كل أو عطفَ بيان، والعطفُ قد يقع بين النكرتين على كلامٍ فيه تقدَّم، قال الزمخشري: "وأبداً" تعليقُ للنفي المؤكدة الدهر المتطاول، و"ما داموا فيها" بيانُ الأمر" فهذه العبادة تحتمل أنه بدلُ بعضٍ من كل، لأنَّ بدلَ البعض من الكل مبيِّنٌ للمراد نحو: "أكلت الرغيف ثلثه" ويَحْتمل أن يكون بدلَ من كل فإنه بيانٌ أيضاً للأولِ وإيضاحٌ له، نحو: "رأيت زيداً أخاك"، ويحتمل أن يكونَ عطفَ بيان.
(5/267)
---(1/1975)
قوله: {وَرَبُّكَ} فيه أربعة أوجه، أحدهما: أنه مرفوع عطفاً على الفاعل المستتر في "اذهب" وجازَ ذلك للتأكيد بالضمير. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعل محذوف أي: وليذهب ربك، ويكون من عطف الجمل، وقد تقدم لي نقلُ هذا القول والردُّ عليه ومخالفتهُ لنصِّ سيبويه عند قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفُ والواوُ للحالِ. الرابع: أن الواوَ للعطفِ وما بعدها مبتدأ محذوف الخبرِ أيضاً، ولا محلَّ لهذه الجملة لكونِها دعاءً، والتقدير: وربُّك يعينُك. قوله: "ههنا قاعدون" "هنا" وحدَه هو الظرف المكاني الذي لا يتصرَّفُ إلا بجرِّه بـ"مِنْ" و"إلى"، و"ها" قبله للتنبيه كسائر أسماءِ الإشارة، وعاملُه "قاعدون" وقد أُجيز أن يكونَ خبرَ "إنَّ"، "وقاعون" خبرٌ ثاني وهو بعيدٌ، وفي غير القرآن إذا اجتمع ظرف يصلح الإخبار به مع وصفٍ آخرَ يجوزُ أن يُجْعَلَ الظرفُ خبراً والوصفُ حالاً، وأن يكونَ الخبرُ الوصفَ والظرفُ منصوبٌ به كهذه الآية.
* { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
(5/268)
---(1/1976)
قوله تعالى: {وَأَخِي}: في ستة أوجه أظهرها: أنه منصوب عطفاً على "نفسي" والمعنى: ولا أملك إلا أخي مع مِلْكي لنفسي دون غيرنا. الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على اسمِ "إنَّ"، وخبرُه محذوفٌ للدلالة اللفظية عليه أي: وإنَّ أخي لا يملك إلا نفسَه. الثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على محل اسم "إنَّ" لأنه بعد استكمالِ الخبر، على خلافٍ في ذلك، وإن كان بعضُهم قد ادَّعى الإجماعَ على جوازِه. الرابع: أنه مررفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ للدلالة المتقدمة، ويكون قد عَطَف جملةً غيرَ مؤكدة على جملة مؤكَّدة بـ"إنَّ" الخامس: انه مرفوع عطفاً على الضمير المستكنِّ في "أملك"، والتقدير: ولاَ يَمْلِكُ أخي إلا نفسَه، وجاز ذلك للفصلِ بقوله: {إِلاَّ نَفْسِي} وقال بهذا الزمخشري ومكي وابن عطية وأبو البقاء وردَّ الشيه هذا الوجهَ بأنه يلزم منه أن موسى وهرون لا يملكان إلا نفسَ موسى فقط، وليس المعنى على ذلك". وهذا الردُّ ليس بشيءً، لأنه القائلَ بهذا الوجهِ صرَّح بتقدير المفعول بعد الفاعل بشيءٍ، لأن القائل بهذا الوجهِ صرَّح بتقدير المفعول بعد الفاعل المعطوف، وأيضاً اللَّبْسُ مأموتٌ، فإنَّ كلَّ أحدٍ يتبادر إلى ذهنه انه يملك أمرَ نفسِه. السادس: أنه مجرورٌ عطفاً على الياء في "نفسي" أي: إلا نفسَ أخي، وهو ضعيفٌ على قواعد البصريين للعطف على الضمير المجرور مِنْ غيرِ إعادةِ الجارّ وقد تقدَّم ما فيه.
والحسن البصري يقْرأ ياء "نفسي" و"أخي" وقرأ يوسف ابن داود وعبيد بن عمير: "فافرِقْ" بكسرِ الراء وهي لغة: فَرَق يفرِق كيضرِب. قال الراجز:
1714- يا ربِّ فافرُقْ بينه وبيني * أشدَّ مَا فرَّقْتَ بين اثنَيْنِ
(5/269)
---(1/1977)
وقرأ ابن السَّمَيْفَع: "فَفرَّقْ" مضعفاً وهي مخالفةٌ للرسم. و"بين" معمولةٌ لـ"افْرُق"، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تُكَرَّرر في العطف، تقول: المال بين زيد وعمرو" وإنما كُرِّرت للاحتياج إلى تكرُّرِ الجار في العطف على الضمير المجرور، وهو يؤيِّدُ مذهبَ البصريين.
* { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً}: فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ بـ"مُحَرَّمة" فإنه رُوي في القصة أنهم بعد الأربعين دَخَلوها فيكون قد قَيَّد تحريمَها عليهم بهذه المدةِ، وأخبر أنهم يتيهون، ولم يبيِّن كمية التيه، وعلى هذا ففي "يتيهون" احتملان، أحدها: أنه مستأنفٌ، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في "عليهم" الوجه الثاني: أنَّ "أربعين" منصوبٌ بـ"يتيهون" فيكونُ قد قَيّضد التيه بالأربعين، وأمذَا التحريمُ فملطقٌ، فيحتمل أن يكونَ مستمراً وأن يكونَ منقطعاً، وأنها أُجِّلتْ لهم، وقد قيل بكلِّ من الاحتمالين، رُوي أنه لم يَدْخُلْها أحد مِمَّن كان في التيه ولم يَدْخُلْها إلا أبناؤهُم، وأما الآباءُ فماتوا. وما أدري ما الذي حَمَل أبا محمد ابن عطية على تجويزِه أن يكونَ العاملُ في "أربعين" مضمراً يفسِّره "يتيهون" المتأخر، ولا ما اضطره إلى ذلك من مانعٍ صناعي أو معنوي؟ وجوازُ الوقف والابتداء بقوله: "عليهم" و"يتيهون" مفهومان ممَّا تقدَّم من الإعراب والتِّيه: الحَيْرةُ، ومنه: "أرضٌ تَيْهاء" لحَيْرة سالكها، قال:
1715- بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها * قَطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها
(5/270)
---(1/1978)
ويقال: "تاه يتيه" و"هو أَتْيَهُ منه" و"تاه يَتُوه" و"هو أتْوَهُ منه" فقولُ مَنْ قال: ييته" و"تَوَّهْتُه" من التداخل. ومثله": "طاح" في كونِهِ سُمع في عينِه الوجهان، وأنَّ فيه التداخلَ أيضاً، فإنَّ مَنْ قال "يطيح" قال "طَوَّحته" و"هو أَطْوَحُ منه".
والأسى: الحُزْن، يقال: أَسِي - بكسر العين - يَأْسَى، بفتحها ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واو، وهو الظاهرُ لقولهم: "رجل أَسْوان" بزنة سَكْران، أي: كثير الحزنِ، وقالوا في تثنية الأسى: أَسَوان، وإنما قُلبت الواوُ في "أَسِيَ" ياءً لانكسرِ ما قبلَها، ويُحْتمل ان تكون ياءً فقد حُكى "رجل أسْيان" أي: كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا "أَسَيان".
وعادةُ الناسِ يسْأَلُون هنا سؤالاً: وهو - كما قال الزمخشري - "كيف نُوَفِّقُ بين قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وبين قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؟ وأجابَ بوجهين، أحدُهما: أن يكونَ كَتَبها لهم بشرط أن يجاهدو فلم [يجاهدوا]، والثاني: أنَّ التحريم كان مؤقتاً بمدة الأربعين، فلما انتهت دَخَلُوها/.
* { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {بِالْحَقِّ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه حال من فاعل "اتلُ" أي: اتلُ ذلك حالَ كونِك ملتبساً بالحق أي: بالصدق.
(5/271)
---(1/1979)
الثاني: أنه حالٌ من مفعولِه وهو "نبأ" أي: اتلُ نبأَهما ملتبساً بالصدق موافقاً لِما في كتب الأولين لتثبتَ عليهم الحجةُ برسالتك. الثالث: أنه صفةٌ لمصدرِ "اتلُ" أي: اتل ذلك تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ والصدق، وكأنه اختيار الزمخشري إذ به بدأ، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ فالباء للمصاحبة، وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ. وقرأ أبو عمرو بسكون الميم من "آدم" قبل باءِ "بالحق"، وكذا كلُّ ميمٍ قبلها متحركٌ وبعدها باءٌ.
قوله: {إِذْ قَرَّبَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وبه بدأ الزمخشري وأبو البقاء - أن يكونَ متعلقاً بنفسِ النبأ، أي: قصتُهما وحديثهما في ذلك الوقتِ، وهذا واضحٌ. الثاني: أنه بدلٌ من "نبأ" على حذف مضافٍ تقديرُه: واتلُ عليهم النبأَ نبأَ ذلك الوقتِ، كذا قَدَّره الزمخشري. قال الشيخ: "ولا يجوزُ ما ذَكَر لأنَّ "إذ" لا يُضافُ إليهما إلا الزمانُ، و"نبأ" ليس بزمان. الثالث: ذكَره أبو البقاء - أنه حالٌ من "نبأ" وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، لكن هذا الوجهَ غيرُ واضحٍ، قال أبو البقاء: "ولا يكونُ ظرفاً لـ"اتلُ" قلت: لأنَّ الفعلَ مستقبل و"إذ" وقتٌ ماضٍ فيكف يتلاقيان؟
(5/272)
---(1/1980)
والقُرْبان: فيه احتملان، احدُهما: وبه قال الزمخشري - أنه اسمٌ لِما يُتَقَرَّب به، قال: "كما أنَّ الحُلْوان اسم ما يُحَلِّي أو يُعْطي يقال: "قَرَّبَ صدقةً وتقرَّب بها" لأن "تقرَّب" مطاوعُ "قَرَّب" قال الأصمعي: "تَقَرَّبوا قِرْفَ القِمَع" فيُعَدَّى بالباء حتى يكون بمعنى قَرَّب" أي: فيكونُ قوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} يَطْلُبُ مطاوعاً لهن فالتقدير: إذ قَرَّباه فتقرَّباه به، وفيه بُعْدٌ. قال الشيخ: "وليس "تقرَّب بصدقة" مطاوع "قَرَّب صدقة" لاتحاد فاعلِ الفعلين، والمطاوعةُ يختلف فيها الفاعل يكونُ من أحدِهما فعلٌ ومن الآخر انفِعال نحو: كَسَرْتُه فانكسرن وفَلَقْتُه فانقلق، فليس قَرَّب صدقته وتقرَّب بها من هذا الباب، فهو غلط فاحش". وفيما قاله الشيخ نظرٌ، لأنَّا لا نسَلِّم هذه القاعدة. والاحتمال الثاني: أن يكونَ في الأصلِ مصدراً ثم أُطلق على الشيء المتقرَّب به كقولهم: "نَسْج اليمن" و"ضَرْب الأمير" ويؤيِّد ذلك أنه لم يُنَنَّ والموضعُ موضعُ تثنية؛ لأنَّ كلاً من قابيل وهابيل له قُرْبان يَخُصُّه، فالأصلُ: إذ قَرَّبا قربانين وإنما لم يُثَنَّ لأنه مصدرٌ في الأصل. وللقائل بانه اسمُ أبو علي الفارسي- إذ قَرَّب كلُّ واحدٍ منهما قرباناً كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي: كلَّ واحدٍ منهم.
(5/273)
---(1/1981)
وقوله: {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي: قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منه للمقبول منه. وقرأ الجمهور: "لأقتلنَّك" بالنون الشديدة. وهذا جوابُ قسم محذوفن وقرأه زيد بالخفيفة. قال: إنما يتقبَّل الله" مفعولُه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: قرابينَهم وأعمالَهم، ويجوز ألاَّ يُراد له مفعول كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} هذه الجملة قال أبو محمد بن عطية: "قبلها كلامٌ محذوف، تقديره: لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أَجْنِ شيئاً ولا ذنبَ لي في تقبُّل الله قرباني دونَ قربانِك؟" وذكَر كلاماً كثيراً. وقال غيرُه: "فيه حذْفٌ يَطُول" وذكرَ نحوه، ولا حاجة إلى تقدير ذلك كلِه، إذ المعاني المفهومةُ من فَحْوى الكلام إذا قُدِّرَتْ قصيرةً كان أحسنَ، والمعنى هنا: قال لأقلنك حسداً على تقبُّل قربانك فعرّض له بأنَّ سببَ التقبُّل التقوى. وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف كان قولُه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} جواباً لقوله: "لأقتلنَّك".؟ قلت: لَمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تقبُّل قربانه هو الذي حَمَله على توعُّدِه بالقتل، قال: إنما أُتيت مِنْ قِبل نفسك لانسلاخِها من لباس التقوى" انتهى. وهذا ونحوه من تفسير المعنى الا الإعراب. وقيل: إن هذه الجملةَ اعتراضٌ بين كلام القاتل وبين كلامك المقتول. والضمير في "قال" إنما يعود على الله تعالى، أي: قال الله ذلك لرسوِله فيكونُ قد اعترضَ بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ} بين كلامِ قابيل وهو: "قال لأقتلنَّك" وبين كلامِ هابيل، وهو "لئن بَسَطْتَ" إلى آخره، وهو في غاية البُعْد لتنافِر النظم.
* { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيا أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
(5/274)
---(1/1982)
واللامُ في قوله: {لَئِن}: هي الموطئةُ. وقوله: {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} جوابُ القسم المحذوف، وهذا على القاعدة المقرَّرة من أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما إلا في صورته تقدَّم التنبيه عليها.
وقال الزمخشري: "فإنْ قتل: لِمَ جاء الشرطُ بلفظِ الفعلِ، والجزاء بلفظِ اسمِ الفاعلِ وهو قوله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ}؟ قلت: ليفيدَ أنه لا يفعلُ هذا الوصفَ الشنيعَ، ولذلك أكَّده بالباء المفيدة لتأكيد النفي" وناقشه الشيخ في قوله: {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ}"جزاءٌ للشرط" قال: "لأنَّ هذا جوابٌ للقسمِ لا للشرطِ" قال: "لأنه لو كان جواباً للشرطِ لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه منفياً بـ"ما" والأداةُ جازممةٌ، ولَلَزِم أيضاً خَرْمُ تلك القاعدة، وهو كونُه لم / يُجَبِ الأسبقُ منهما" وهذا ليس بشيء لأنه أبا القاسم سَمَّاه جزاء للشرط لَمَّا كان دالاً على جزاء الشرط، ولا نكير في ذلك، مُغْرَى بأَنْ يُقال: قد اعترض على الزمخشري: وقال أيضاً: "وقد خالفَ الزمخشري كلامَه هنا بما ذكَره في البقرة في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} من كونِه جَعَله جواباً للقسم ساداً مسدَّ جوابِ الشرط، وله معه هناك كلامق قد قَدَّمته عنه في موضعِه فَلْيُراجَعْ.
* { إِنِّيا أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ }
(5/275)
---(1/1983)
قوله تعالى: {إِنِّيا أُرِيدُ أَن تَبُوءَ}: فيه ثلاثة تأويلات، أحدها: أنه على حَذْفِ همزةِ الاستفهام، وتقديرُه: أإني أريد، وهو استفهام إنكارٍ لأنَّ إرادة المصعيةِ قبيحةٌ، ومن الأنبياء أقبحُ؛ فهم معصومون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التأويل قراءةُ مَنْ قرأ: "أنَّي أريد" بفتح النون وهي أنَّى التي بمعنى "كيف" أي: كيف أريد ذلك. والثاني: أنَّ "لا" محذوفة تقديره: إني أريدُ أن لا تبوء كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: أن لا تضلوا، وأَنْ لا تميد، وهو مستفيضٌ، وهذا أيضً فرارٌ من إثبات الإرادة له. وضَعَّفَ بعضهم هذا التأويلَ بقوله عليه السلام: "لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْلٌ من دمِها؛ لأنه أولُ مَنْ سَنَّ القتلَ" فثبت بهذا أنَّ الإثم حاصلٌ، وهذا الذي ضَعَّفَه به غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ قائل هذه المقالة يقول: لا يلزم من عدمِ إرادته الإثمَ لأخيه عدمُ الإثم، بل قد يريدر عدَمَه ويقع. والثالث: أن الإرادة على حالِها، وهي: إمَّا إرادةٌ مجازية أو حقيقةٌ على حَسَبِ اختلاف أهلِ التفسير في ذلك، وجاءت إرادةُ ذلك به لمعانٍ كذروها، مِنْ جملتها أنه ظَهَرَتْ له قرائنُ تَدُلُّ على قرب أجلِه وأنَّ أخاه كافر وإرادةُ العقوبةِ بالكافرِ حسنةٌ. وقولُه: "بإثمي" في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "تَبُوء" أي: ترجعُ حاملاً له وملتبساً به، وتقدَّم نظيرُه في قوله {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} وقالوا: للا بُدَّ من مضافٍ، فقدَّره الزمخشري : "بمثلِ إثْمي" قال: "على الاتساع في الكلام كما تقول: قرأتُ قراءة فلانٍ، وكتبت كتابته" وقَدَّره بعضُهم:بإثم قتلي. وقوله: {وَذَلِكَ جَزَآءُ} يَحْتَمل أَنْ يكونَ من كلامِه وأن يكون مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى.
* { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(5/276)
---(1/1984)
قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ}: الجمهورُ على "طَوَّعت" مشددَ الواو من غير ألفٍ بمعنى "سَهَّلَتْ وبعثت" قال الزمخشري: "وسَّعَتْه وَيسَّرَتْه من "طاع له المرتعُ" إذا اتسع" انتهى. والتضعيفُ فيه للتعدية لأنَّ الأصلَ: طاعَ له قتلُ أخيه، أي: انقادَ، من الطواغية فَعُدِّي بالتضعيف، فصار الفاعلُ مفعولاً كحالِه مع الهمزة. وقرأ الحسن وزيد بن علي وجماعةٌ كثيرة: "فطاوعت"، وأبدَى الزمخشري فيها احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ مِمَّا جاء فيه فاعَلَ لغير مشاركه بين شيئين، بل بمعنى فَعَّل نحو: ضاعفتُه وضَعَّفْته وناعمته ونَعَمْتُه، وهذانا المثالان من أمثلةِ سيبويه، قال: "فجاؤوا به على مثالث عاقَبْتُه" قال: "وقد تجيء فاعَلْتُ لا تريد بها عملَ اثنين، ولكنهم بَنَوا عليه الفعلَ كما بَنَوه على أَفْعَلْتُ" وذكر أمثلةً منها "عافاه الله" وقَلَّ مَنْ ذَكَر أنَّ فاعَلَ يَجيءُ بمعنى فَعَّلْتُ. والاحتمال الثاني: أن تكن على بابها من المشاركة وهو أنَّ قَتْلَ أخيه كأنه دعا نفسَه إلى الإقدام عليه فطاوضعَتْه" انتهى. وإيضاحُ العبارةِ في ذلك أَنْ يُقال: جَعَل القتلَ يدعو إلى نفسه لأجل الحَسَدِ الذي لحق قابيل، وجَعَلَتِ النفسُ تَأْبى ذلك وتشمئز منه، فكلُّ منهما- أعني القتلَ والنفسَ - كأنه يريد من صاحبه أن يطيعَه إلى أن غَلَب القتلُ النفسَ فطاوعته.
(5/277)
---(1/1985)
و"له" متعلقٌ بـ"طَوَّعت" على القراءتين. قال الزمخشري: و"له" لزيادة الربط، كقولك: حَفِظْتُ لزيدٍ مالَه" يعنيأنه الكلام تمام بنفسه لو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قتلَ اخيه، كما كانَ كذلك في قولك "حَفِظْتُ مالَ زيد" فأتى بهذه اللامِ لقوةِ ربطِ الكلام. وقال أبو البقاء "وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير لام، وهذا خطأ، لأنَّ التي تتعدى بغير اللام تتعدَّى لمفعولٍ واحد، وقد عَدَّاه هنا إلى قَتْل أخيه، وقيل: التقدير: طاوعَتْه نفسُه على قَتْلِ أخيه، فزادَ اللامَ وحَذَفَ "على" أي: زاد اللام في المفعولِ به وهو الهاء، وحَذَفَ "على" الجارَّة لـ "قتل أخيه".
* { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }
قوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي}: هذه اللامُ يجوز فيها وجهان، أحدهما: انها متعلقةٌ بـ"يبحث" أي: يَنْبُشُ ويُثير الترابَ للإراءة، الثاني: انها متعلقةٌ بـ "بَعَثَ"، و"كيف" معمولةٌ لـ"يُوارِي"، وجملةُ الاستفهامِ معلقةٌ للرؤية البصرية، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادةٌ مسدَّه، لأن "رأى" البصرية قبل تعدِّيها بالهمزةِ متعديةٌ لواحد فاكتسب بالهمزةِ آخرَ، وتقدَّم نظيرُها في قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما الا يَجُوز أن ينكشِفَ مِنْ جسِده، وهي الفضيحة أيضاً قال:
1716- ................. * يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ
(5/278)
---(1/1986)
ويجوزُ تخفيفُها بإلقاءِ حركةِ الهمزة على الواوِ وهي قراءةُ الزهري، وحينئذ فلا يجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ ألفاً وإنْ صَدَقَ عليَها أنها حرفُ علٍة متحركٌ منتفحُ ما قبلَه، لأنَّ حركتَها عارضةٌ، ومثلُها: "جَيَلَ" "وتَوَم" مخفَّفَيْ جَيْئَل وتَوْءَم، ويجزُ أيضاً قلْبُ هذه الهمزةِ واواً، وإدغام ما قبلها فيها تشبيهاً للأصلي بالزائد وهي لغةٌ، يَقُولون في "شيء" و"ضوء": شيّ، وضوّ، قال:
1717- وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً *مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا
وبهذا الوجهِ قرأ أبو جعفر
قوله: {يَاوَيْلَتَا} قلب ياء المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادي المضافِ إليها، وهي إحدى اللغاتِ الست، وقد تقدَّم ذكرها، وقُرئ كذلك على الأصل، وهي قراءةُ الحسن البصري. والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقبالُ وهم العقلاءُ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل، والمعنى: يا ويلتي احْضُري فهذا أوانُ حضورك، ومثله: {ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ، و {ياحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ} وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية الدوري ألف "حسرتا" والجمهورُ قرأ "أعَجْزْتَ" بفتح الجميم وهي اللغة الفصحية يقال: "عَجَزت" - بالفتح في الماضي - "أعجِزُ" بكسرِها في المضارع. وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة، وإنما المشهور أن يقال: "عَجِزت المرأة" بالكسر، أي كَبُرت عجيزتُها. و"أن أكون" على اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور.
(5/279)
---(1/1987)
قوله: {فَأُوَارِيَ} قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تخريجان أصحُّهما: أنه عطفٌ على "أكونَ" المنصوبةِ" بـ"أَنْ" منتظماً في سكله أي: أعجَزْت عن كوني مشبهاً للغراب فموارياً. والثاني:- ولم يذكر الزمخشري غيره- أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام في قوله: "أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب قوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} وهذا الذي ذكره أبو القاسم رَدَّه أبو البقاء بعد أن حكاه عن قوم، قال: "وذَكَر بعضُهم أنه يجوزُ أن ينتصِبَ على جواب الاستفهام وليس بشيء، إذ ليس المعنى: أيكونُ مني عجزٌ فمواراةٌ، ألا تَرى أنَّ قولَك: "أين بيتُك فأزورَك" معناه: لو عَرَفْتُ لزرتُ، وليس المعنى هنا لو عَجَزت لَوارَيْتَ" قلت: وهذا الردُّ على ظاهرِه صحيحٌ، وبَسْطُ عبارةِ أبي البقاء أنَّ النحاةَ يشترطون في جوازِ نَصْب الفعل بإضمار "أنْ" بعد الأشياء الثماينة - غير النفي- أن ينحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجزاء، فإنْ انقعدَ منه شرطٌ وجزاءٌ صَحَّ النصبُ، وإلاَّ امتنعَ، ومنه: أين بيتك فأزورَك" [أي:] إن عَرَّفْتَني بينك أزرُك، وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجزاء لفسدَ المعنى، إذ يصير التقديرُ: إنْ عَجَزْت وارَيْتَ، وهذا لس بصحيح، لأنه إذا عَجَز كيف يواري. وردَّ الشيه على أبي القاسم بما تقدَّم، وجعله غلطاً فاحِشاً، وهو مسبوقٌ إليه كما رأيت، فأساءَ عليه الأدبَ بشيءٍ نقله عن غيرِه، اللَّهُ أعلمُ بصحتِه.
وقرأ الفياضُ بن غزوان وطلحة بن مصرف بسكون الياء، وخَرَّجَها الزمخري على أحدِ وجهين: إمَّا القطعِ، أي: فأنا أواري، وإمَّا على التسكين في موضعِ النصب تخفيفاً. وقال ابن عطية: "هي لُغَيَّةٌ لتوالي الحركاتِ" قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ أَنْ تعلل القراءة بهذا ما وُجِد عنه مندوحةٌ، إذ التسكينُ في الفتحة لا يجوزُ إلا ضرورةً، وأيضاً فلم تتوالَ حركاتٌ" .
(5/280)
---(1/1988)
وقوله: {فَأَصْبَحَ} بمعنى صار، قال ابنُ عطية: "قوله: "فأصبح" عبارةٌ عن جميعِ أقواته أٌقيم بعضُ الزمانِ مُقامَ كله، وخُصَّ الصباحُ بذلك لأنه بَدْءُ النهارِ والابنعاثِ إلى الأمور ومَظَنَّةُ النشاط، ومنه قولُ الربيع:
1718- أصبحتُ لا أحملُ السلاح ولا * ...................
وقولُ سعد بن أبي وقاص: "ثم أَصْبحت بنو أسد تعذرني على الإسلام" إلى غير ذلك". قال الشيخ: "وهذا التعليلُ الذي ذكره لكونِ "أصبح"عبارةً عن جميعِ أوقاته وإنما خُصَّ الصباحُ لكونِه بدءَ النهار ليس بجيدٍ، لأنَّ العربَ استعملت أضحى وبات وأمْسى بمعنى صار، وليس شيءٌ منها بدءَ النهار" وكيف يَحْسُنُ أَنْ يرُدَّ على أبي محمد بمثل هذا؟ وهو لم يَقُلْ إنها لَمَّا أُقيمت مُقامَ أوقاتِه للعلةِ التي ذَكَرها تكونُ بمعنى صار حتى يلزمُ بأخواتِها ما نقضه عليه.
* { مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِيا إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ}: فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق بـ"كتبنا"، و"ذلك إشارةٌ إلى القتل، والأجْلُ في الأصل هو الجناية، يقال: أَجَلَ الأمر إجْلاً وأَجْلاً بفتح الهمزة وكسرها إذا جَناه وحدَه ومنه قولُ زهير:
1719- وأهلِ خباءٍ صالحٍ ذاتُ بينِهم * قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجِلُهْ
(5/281)
---(1/1989)
أي: جانبه، ومعنى قول الناس: "فَعَلْه من أجْلِك ولأجلك" أي: بسببك، يعني مِنْ أَنْ جَنَيْتَ فَعْلَه وأوجبته، وكذلك قولهم: "فَعَلْتُه من جَرَّائك" أصله مِنْ أَنْ جَرَرْتُه، ثم صار يستعمل بمعنى السبب، ومنه الحديث: "مِنْ جَرَّاي" أي من أجلي. و"من" لابتداء الغاية أي: نشأ الكَتْبُ وابتدأ من جناية القتل، ويجوزُ حَذْفُ "مِنْ" واللام وانتصابُ "أَجْل" على المفعول له إذا استكمل الشروط، قال:
1720- أَجْلَ أنَّ اللّهَ قد فَضَّلكمْ *.....................
والثاني - أجازَه بعضُ الناس- أن يكونَ متعلقاً بقوله: "مِن النادمين" أي: ندم من أجل ذلك: أي: قَتْلِه أخاه، قال أبو البقاء: "ولا تتعلق بـ"النادمين" لأنه لا يحسن الابتداء بـ"كتبنا" هنا، وهذا الرد غير واضح، وأين عدمُ الحسنِ بالابتداء بذلك.؟ ابتدأ الله إخباراً بأنه كَتَب ذلك، والإخبارُ متعلق بقصة ابنَيْ آدم، إلا أنَّ الظاهرَ خلافُه كما تقدم.
والجمهورُ على فتح همزة "أجل"، وقرأ أبو جعفر بكسرها، وهي لغة كام تقدم، ورُوي عنه حذفُ الهمزة وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون "من"، كما ينقل ورش فتحتها إليها. في "أنه" ضمير الأمر والشأن، و"مَنْ" شرطيةٌ مبتدأ، وهي خبرُها في محل رفع خبراً لـ"أن". قوله: "بغير نفسٍ" فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بالقتل قبلها. والثاني: أنه في محلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في "قَتَل" أي: قتلها ظالماً، ذكره أبو البقاء.
قوله: {أَوْ فَسَادٍ} الجمهور على جره، عطفاً على "نفس" المجرور بإضافةِ "غير" إليها. وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به بعاملٍ مضمرس يَليقُ بالمحلِّ أي: أو أتى - أو عمل - فساداً والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أَفْسَدَ فساداً بمعنى إفساداً، فهو اسمُ مصدرٍ كقوله:
1721- ..................... * وبعد عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا
(5/282)
---(1/1990)
ذكره أبو البقاء و"في الأرض" متعلقٌ بنفس "فساد" لأنك تقول: "افسد في الأرض" إلا في قراءةِ الحسن بنصبه، وخَرَّجناه على النصب على المصدريةِ - كما ذكره أبو البقاء - فإنه لا يتعلَّقُ به، لأنه مصدر مؤكد فقد نَصُّوا على أن المؤكِّدة لا يعمل، فيكون "في الأرض" متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ لـ"فساداً" والفاء في: "فكأنما" في الموضعين جواب الشرط واجبةُ الدخولِ، و"ما" كافةٌ لحرفِ التشبيه، والأحسن / أَنْ تُسَمَّى هنا مهيئةً لوقوعِ الفعلِ بعدها. و"جميعاً" إمَّا حال أو توكيد.
قوله: {بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ} هذا الظرفُ والجارُّ بعده يتعلقان بقوله: "لمُسْرِفون" الذي هو خبر "إنَّ" ولا تَمْنَعُ من ذلك لامُ الابتداء فاصلةً بين العامل ومعمولِه المتقدِّم عليه، لأنَّ دخولها على الخبر على خلافِ الأضل، إذ الأصلُ دخولُها على المبتدأ، وإنما مَنَع منه دخولُ "إنَّ" و"ذلك" إشارةٌ إلى مجيء الرسل بالبينات.
* { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوااْ أَوْ يُصَلَّبُوااْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(5/283)
---(1/1991)
قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ}: مبتدأٌ، وخبرُه: "أن يُقَتَّلوا" وما عُطف عليه، أي: إنما جزاؤهم التقتيل أو التصيب أو النفي. وقوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} أي: يحاربون أولياءَه، كذا قَدَّره الجمهور. وقال الزمخشري: "يحاربون رسولَ الله، ومحاربةُ المسلمين في حكم محارتبه" يعين أنَّ المقصودَ أنْ يخبرَ بأنهم يحاربون رسولَ الله، وإنما ذَكَر اسمَ الله تبارك وتعالى تعظيماً وتفخيماً لِمَنْ يُحارَبُ، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ} وقد تقدَّم تحقيقُ ذكل وتقديرُه عند قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقيل: معنى المحاربة المخالفةُ لأحكامها، وعلى هذه الأوجهِ لا يلزَمُ في قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} الجمعُ بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، ومَنْ يُجِزْ ذلك لم يحتجْ إلى تأويلٍ من هذه التأويلات، بل يقول: تُحْمَلُ محاربتُهم لله تعالى على معنى يليق بها وهي المخالفة مجازاً، ومحاربتُهم لرسولِ على المقاتلة حقيقة.
(5/284)
---(1/1992)
قوله: {فَسَاداً} في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعول من أجلِه أي: يحاربُون ويَسْعون لأجل الفاسد، وشروطُ النصبِ موجوة الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، أي: ويسعون في الأرض مفسدين، أو ذوي فساد، أو جُعِلوا نفسَ الفساد مبلغة، ثلاثةٌ مذاهبَ مشهورةٌ تقدَّم تحريرها. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر اي: إنه نوع من العامل قبله، فإن معنى "يَسْعَون" هنا يفسدون، وفي الحقيقة ففساد اسمُ مصدر قائمٌ مقامَ الإفساد، والتقدير: ويُفْسِدون في الأرض بسعيهم إفساداً. "وفي الأرض" الظاهرُ أنه متعلق بالفعل قبله، كقوله: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ} وقد أُجيز أن يكونَ في محل نصب على الحال؛ لأنه يجوزُ أَنْ لو تأخَّرت عنه ان يكونَ صفةً له، وأُجيز أيضاً أن يتعلق بنفس "فساداً" وهذا إنما يتمشَّى إذا جَعَلْنا "فساداً" حالاً، أما إذا جَعَلْناه مصدراً امتنع ذلك لتقدُّمه عليه، ولأنّض المؤكِّد لا يعمل. وقرأ الجمهور: "أَنْ يُقَتَّلوا" وما بعده من الفعلين بالتثقيل، ومعنهاه الكتثير بالنسبة إلى مَنْ تقعُ به هذه الأفعالُ. وقرأ الحسن وابن محيصن بتخفيفِها.
(5/285)
---(1/1993)
قوله: "من خِلافٍ" في محلِّ نصب على الحال من "أيديهم" و"أرجلُهم" أي بقَطْعِ مختلِف، بمعنى أن تُقْطَعَ يَدُه اليمنى ورجلُه اليسرى. والنفي: الطرد، والأرض: المراد بها هنا ما يريدون الإقامة بها، أو يُرادُ مِنْ أرضهم، وأل عوضٌ من المضاف إليه عند مَنْ يراه. قوله: {ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}: "ذلك" [إشارةٌ إلى الخبر المتقدم أيضاً]، وهو مبتدأُ. وقوله: {لَهُمْ خِزْيٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ "لهم" خبراً مقدماً، و"خِزْيٌ" مبتدأ مؤخراً و"في الدنيا" صفةً له، فيتعلَّق بمحذوف، أو يتعلق بنفس "خزي" على أنه ظرفُه، والجملةُ في محل رفع خبراً لـ"ذلك" الثاني: أن يكون "خزي خبراً لـ"ذلك"، و"لهم" متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من "خِزْي"؛ لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً. وأما "في الدنيا" فيجوزُ فيه الوجهان المتقدمان مِنْ كونِه صفةً لـ"خزي" أو متعلقاً به، ويجوز فيه أن يكونَ متعلقاً بالاستقرار الذي تعلَّق به "لهم" الثالث: أنه يكونَ "لهم" خبراً لـ"ذلك" و"خزي" فاعل، ورَفَع الجارُّ هنا الفاعلَ لَمَّا اعتمد على المبتدأ، و"في الدنيا" على هذا فيه الأوجهُ الثلاثة.
* { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الاستثناء من المحاربين، وللعلماءِ خلافٌ في التائبِ من قطاع الطريق: هل تسقط عنه العقوبات كلها أو عقوبةُ قطعِ الطريق فقط، وأما ما يتعلق بالأموال وقَتْلِ الأنفس فلا تَسْقُطُ، بل حكمُه إلى صاحب المال وولي الدم؟ والظاهر الأول. الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائُد محذوف أي غفور لهم، ذكر هذا الثاني أبو البقاء، وحينئذ يكون استثناء منقطعاً بمعنى: لكن التائب يُغفر له.
(5/286)
---(1/1994)
* { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُوااْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قوله تعالى: {وَابْتَغُوااْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}:في "إليه" ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بنفس الوسيلة. قال أبو البقاء: "لأنها بمعنى المتوسَّل به، فلذلك عِمَلَتْ فيها قبلها" يعني أنها ليسَتْ بمصدرٍ حتى يمتنَع أَنْ يتقدَّم معمولُها عليها. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الوسيلة" وليسَ بذاك.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ}: قد تقدَّم الكلامُ على "أنَّ" الواقعة بعد "لو" وأنَّ فيها مذهبين، و"لهم" خبر لـ"أَنَّ" و"ما في الأرض" اسمُها، "وجميعاً" توكيد له أو حالٌ منه. و"مثلَه" في نصبه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على اسم "أنَّ" وهو "ما" الموصولة. والثاني: أنه منصوبٌ على المعية وهو رَأْيُ الزمخشري وسيأتي ما يَرِدُ على ذلك والجوابُ عنه. و"معه" ظرفٌ موقعَ الحال، واللام في "ليفتدوا" متعلقة بالاستقرار الذي تلعق به الخبر وهو "لهم" و"به" و"مِنْ عذاب" متعلِّقان بالافتداءِ، والضميرُ في "به" عائدٌ على "ما" الموصولة، وجيء بالضمير مفرداً وإنْ تقدَّمه شيئان وهما: "ما في الأرض" و"مثلَه" إمَّا لتلازُمِهما، فهما في حكمٍ شيء واحد، وإمَّا لأنه حذف من الثاني لدلالةِ ما في الأول عليه كقولهِ:
1722- .................... * فإني وقَيَّرٌ بها لَغَريبُ
أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإمَّا لإجراء الضمير مُجْرى اسم الإشارة كقوله:
1723- كأنَّه الجِلْدِ ................
(5/287)
---(1/1995)
وقد تقدَّم في البقرة. و"عذاب" بمعنى تعذيب، وبإضافته إلى "يوم" خَرج "يوم" عن الظرفية. و"ما" نافيةٌ، وهي جوابُ "لو" / وجاء على الأكثر من كونِ الجوابِ المنفيِّ بغير لام، والجملةُ الامتناعية في محل رفعٍ خبراً لـ"إنَّ".
وجَعَل الزمخشري توحيدَ الضيمرِ في "به" لمَدْركٍ آخرَ، وهو أن الواوَ ف"ومثلَه" واوُ "مع"، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: "وجيوز أن تكونَ الواوُ في "ومثلَه" بمعنى "مع" فيتوحَّد المرجوع إليه. فإن قلت: فبِمَ يُنْصَبُ المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه "لو" من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض" يعني أن حكمَ ما قبل المفعول مع في الخبر والحالِ وعودِ الضمير حكمُ لو لم يكن بعده مفعولٌ معه، تقول: "كنتُ وزيداً كالأخ" قال:
1724- وكان وإيَّاها كحَرًَّان لم يُفِقْ * عن الماءِ إذ لاقَاه حتى تَقَدَّدا
فقال: "كحَرَّان" بالإفراد، ولم يَقُلْ "كحرَّانَيْنِ" وتقول: "جاء زيد وهنداً ضاحكاً في داره" وقد أجاز الأخفش أن يُعْطَى حكمَ المتعاطفين، يعين فيطابقُ الخبرَ، والحالُ والضميرُ له ولما بعده، فتقول: "كنتُ وزيداً كالأخوين". قال بعضُهم: "والصحيحُ جوازُه على قلة".
(5/288)
---(1/1996)
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم وطَوَّل معه، فلا بُدَّ من نَقْل نَصِّه قال: "وقولُ الزمخشري: "ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ بمعنى "مع" لأنه يصيرُ التقدير: مع مثلِه معه أي: مع مثلِ ما في الأرض مع ما في الأرض، إنْ جَعَلْتَ الضميرَ في "معه" عائداً على "ما" يكون "معه" حالاً من مثلَه"، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثلُه معه ضرورةً، فلا فائدة ي ذِكْر "معه" لملازمةِ معيَّة كلٍّ منها للآخر، وإنْ جَعَلْتَ الضمير عائداً على "مثله" أي: مع مثلِه مع ذلك المثلِ، فيكونُ المعنى مع مثلين، فالتعبير في هذا المعنى بتلك العبارة عِيُّ، إذ الكلامُ المتظمُ أَنْ يكونَ التركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْه، وقول الزمخشري: "فإنْ قلت" إلى آخرِ الجواب هذا السؤالُ لايَرِدُ، لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن تكونَ الواو واوَ مع، وعلى تقديرِ ورودِه فهذا بناءً منه على أن "أنَّ" إذا جاءت بعد "لو" كانت في محل رفع بالفاعلية، فيكون التقدير على هذا: لو ثبت كينونةُ ما في الأرض مع مثلِه لهم ليفتدوا به، فيكونُ الضمير عائداً على "ما" فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريعٌ منه على مذهب المبرد في أنَّ "أنَّ" بعد "لو" في محلِّ رفع على الفاعللية، وهو مذهب مرجوح، ومذهبُ سيبويه أنَّ "أنَّ" بعد "لو" في محل مبتدأ والذي يظهرُ في كلام الزمخشري هنا وفي تصانيفه أنه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألةِ، وعلى المفرع على مذهبِ المبرد لا يجوز أن تكون الواوُ بمعنى مع، والعاملُ فيها "ثَبَتَ" المقدَّر لِما تقدَّم مِنْ وجودِ لفظةِ معه، وعلى تقدير سقوطِها لا يَصِحُّ، لأن "ثبت" ليس رافعاً لـ"ما" العائدِ عليها الضميرُ، وإنما هو رافعٌ مصدراً منسبكاً من أنَّ وما بعدها وهو كونٌ، إذ التقدير: لو ثبت كونُ ما في الأرض جيمعاً لهم ومثلِه معه ليفتدوا به، والضميرُ عائدٌ على ما دونَ الكون، فالرافع للفاعل غيرُ الناصب للمفعول معه، إذ لو كان إياه لَلَزِمَ من(1/1997)
(5/289)
---
ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك سماصحباً للمثْل، وهذا فيه غموضٌ، وبيانه: إذا قتل: "يعجبني قيامُ زيدٍ وعمراً" جعلت "عمراً" مفعولاً معه، والعامل فيه "يعجبني" لَزِم من ذلك أنَّ عمراً لم يَقُم، وأعجبك القيامُ وعمروٌ، وإنْ جعلت العاملَ فيه القيامَ كان عمروٌ قائماً، وكان الإعجابُ قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيامِ عمرو، فإن قتل: هل كان "ومثلَه معه" مفعولاً معه، والعامل فيه هو العامل في "لهم" إذ المعنى عليه" قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجودِ "معه" في الجملة، وعلى تقديرِ سقوطها لا يَصِحُّ، لأنهم نَصُّوا على أنَّ قولك: "هذا لك وأباك" ممنوعق في الاختيار، قال سيبويه: "وأما هذا لك وأباك" فقبيحٌ لأنه لم يَذْكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل، حتى يصيرَ كأنه قد تكلم بالفعل" فأصبح سيبويه بأن اسمَ الإشارة وحرفَ الجر المتضمِّن لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، وقد أجاز بعضُ النحويين في حرفِ الجر والظرف أن يعملا في المفعول معه نحو: "هذا لك وأباك" فقولُه: "وأباك" يكون مفعولاً معه والعامل الاستقرار في "لك" انتهى.
ومع هذا الاعتراضِ الذي ذكره فقد يظهر عنه جواب وهو أنَّا نقول: نختار أن يكون الضميرُ في قوله: {معه} عائداً على "مثلَه" ويصيرُ المعنى: مع مِثْلين، وهو أبلغ من أَنْ يكونَ مع مثل واحد، وقوله: "تركيبٌ عِيُّ" فَهْمٌ قاصر. ولا بد من جملة محذوفة قبل قوله: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} تقديره: "وبذلواه أو افتدوا به" ليصِحَّ الترتيب المذكور، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض جميعاً ومثلِه معه لهم عدمُ التقبل، إنما يترتب عدمُ التقبل على البذل والافتداء. والعامةُ على "تُقُبِّل" مبنياً للمفعول حُذِف فاعله لعظمته وللعم هب. وقرأ يزيد بن قطيب: "ما تَقَبَّل" مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الباري تبارك وتعالى.
(5/290)
---(1/1998)
قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ} مبتدأٌ وخبرُه مقدَّم عليه]. و"أليم" صفتُه بمعنى مُؤْلم. وهذه الجملةُ أجازُوا فيها ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً، وفيه ضَعْفٌ مِنْ حيثُ المعنى. الثاني: أَنْ تكونَ في محل رفع عطفاً على خبر "أنَّ" أخبر عن الذين كفروا بخبرين: لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه لم يُتَقَبَّلْ منهم، وأن لهم عذاباً أليماً. الثالث أن تكون معطوفةً على الجملة من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وعلى هذا فلا محلَّ لها لعطفها على ما محلَّ له.
* { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ}: كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقد تقدَّم. والجمهروُ على "أن يخرجوا" مبنياً للفاعل، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي: "يُخْرَجوا" مبنياً للمفعول، وهما واضحتا التخريج.
* { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوااْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(5/291)
---(1/1999)
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}: قراءةُ الجمهور بالرفعِ، وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة بالنصبِ، ونُقِل عن أُبَي: "والسُّرَّقُ والسُّرَّقةُ" بضم السين وفتح الراء مشددتين. قال الخفاف: "وجَدْتُه في مُصحف أُبي كذلك" ومِمَّن ضبطَهما بما ذكرت أبو عمرو، إلا أن ابن عطية جَعَل هذه القراءة تصحيفاً فإنه قال: "ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط، لأنَّ قراءة الجماعة إذا كُتِبت: "والسارق" بغير ألف وافقعت في الخط هذه" قلت: ويظهر توجيهُ هذا القراءة بوجه ظاهر وهو أن السُّرَّق جمع سارق، فإنَّ فُعَّلاً يطَّرد جمعاً لفاعل صفةً نحو: ضارب وضُرَّب، والدليل على أن المرادَ الجمعُ قراءةُ عبد الله: "والسارقون والسارقات" بصيغتي جمع السلام، فدلَّ على أن المرادَ الجمع، إلا أنه يُشْكل علينا في هذا شيءٌ وهو أن فُعَّلاً يكون جمعَ فاعِل وفاعِله أيضاً، تقول: "نساء ضُرَّب" كما تقول: "رجالٌ ضُرَّب" ولا يدخلون عليه تاء التأنيث حين يراد به الإناث، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بتاء التأنيث حين أريد بـ "فُعَّل" جمع فاعله، فهو مُشْكل من هذه الجهة، لا يال: إن هذا التاء يجوز أن تكونَ لتأكيد الجمع، لأنَّ ذلك محفوظٌ لا يقاس عليه نحو: "حجارة" .
(5/292)
---(1/2000)
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها وجهان، أحدُهما- وهو مذهبُ سيبويه والمشهورُ من أقوالِ البصريين- أنَّ "السارقُ" مبتدأُ محذوفُ الخبر، تقديره: "فيما يتلى عليكم - أو فيما فُرِضَ - "السارقُ" والسارقة، أي حكمُ السارق، ويكون قولُه: "فاقْطَعُوا" بياناً لذلك الحكمِ المقدَّر، فما بعد الفاءِ مرتبطٌ بما قبلها، ولذلك أُتِي بها فيه لأنه هو المقصودُ، ولم يأتِ بالفاء لتُوُهِّم أنه أجنبي، والكلام على هذا جملتان: الأولى خبرية، والثانية أمريةٌ. والثاني - وهو مذهبُ الأخفش، ونُقِل عن المبرد وجماعةُ كثيرة - أنه مبتدأُ أيضاً، والخبر الجملة الأمرية من قوله: {فَاقْطَعُوااْ} وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأنه يُشْبه الشرطَ، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي، والصفةُ صلتُها فيه في قوة قولك: "والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا" وأجاز الزمخشري الوجهين، ونسب الألو لسيبويه، ولم يَنْسُبِ الثاني، بل قال: "ووجهٌ آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر "فاقطعوا".
(5/293)
---(1/2001)
وإنما اختار سيبويه أنَّ خبرَه محذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجملة الطلبية بعده لوجهين، أحدُهما: أنَّ النصبَ في مثله هو الوجه في كلام العرب نحو: "زيداً فاضربه" لأجلِ الأمر بعده، قال سيبويه في هذه الآية: "الوجهُ في كلامِ العرب النصبُ، كما تقول: "زيداً فاضربه" ولكن أَتَبت العامةُ إلا الرفعَ" والثاني: دخولُ الفاءِ في خبره، وعنده أن الفاءَ لا تدخلُ إلا في خبر الموصول الصريح كالذي و"مَنْ" بشروط أُخَرَ ذكرْتُها في كتب النحوية؛ وذلك لأنَّ الفاءَ لا تدخلُ إلى في خبر المصول الصريح كالذي و"مَنْ" بشروط أُخَرَ ذكرْتُها في كتبي النحوية؛ وذلك لأنَّ الفاءَ إنما دخلت لشبه المبتدأ بالشرط، واشتَرطوا في صلتِه أَنْ تصلح لأداة الشرط من كونها جملةً فعلية مستقبلة المعنى، أو ما يقوم مقامَها من ظرفٍ وشبهه، ولذلك إنها إذا لم تصلح لأداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء في الخبر، وصلةُ "أل" لا تصلح لمباشرة أداةِ الشرط فلذلك لا تدخُلُ الفاءُ في خبرها، وأيضاً فـ "أل" وصلتُها في حكمِ اسمٍ واحدس ولذلك تَخَطَّاها الإعرابُ.
وأمَّا قراءةُ عيسى بن عمر وإبراهيم فالنصبُ بفعلٍ مضمر يفسِّره العامل في سببِّهما نحو: "زيداً فأكرم أخاه" والتقدير: فعاقبوا السارق والسارقة، تقدِّره فعلاً من معناها نحو: "زيداً ضربْتُ غلامه" أي: أهنتُ زيداً، ويجوز أن يقدَّرَ العاملُ موافقاً لفظاً لأنه يُساغ أَنْ يقال: "قطعت السارق" وهذه قراءةٌ واضحة لمكانِ الأمر بعد الاسم المشتغل عنه.
(5/294)
---(1/2002)
قال الزمخشري "وفَضَّلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر؛ لأنَّ "زيداً فاضربه" أحسنُ مِنْ "زيدٌ فاضربه" وفي نقله تفضيلَ النصب على قراءة العامة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه، قال سيبويه: "الوجه في كلام العرب النصبُ كما تقول: "زيداً اضربه" ولكن أَبت العامة إلا الرفعَ"، وليس في هذا ما يقتضي تفضيلَ النصب، بل معنى كلامه أ، هذه الآية ليست في الاشتغال في ما يقتضي تفضيلَ النصب، بل معنى كلامه أن هذه الآية ليست من الاشتغال في في شيء، إذ لو كانت من باب الاشتغال لكن الوجهُ النصبَ، ولكن لم يَقْرأها الجمهورُ إلا بالرفع، فدلَّ على أن الآية محمولةٌ على كلامَيْن كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحدٍ، وهذا ظاهرٌ.
(5/295)
---(1/2003)
وقد ردَّ الفخر الرازي على سبيويه بخمسة أوجه، وذلك أنه فَهم كما فهم صاحب "الكشاف" من تفضيل النصب، قال الفخر الرازي، "الذي ذهبَ إليه سيبويه ليس بشيءٍ، ويدلُّ على فساده وجوهٌ، الأول: أنه طعن في القراءة المتواترة المنقولة عن الرسول وعن أعلامه الأمة، وذلك باطلٌ قطعاً، فإن قال سيبويه: لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءةُ بالنصب أَوْلى، فنقول: رديء أيضاً لأنَّ ترجيحَ قراءةٍ لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءةِ الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمرٌ منكرٌ وكلامٌ مردودٌ. الثاني: لو كانت القراءةُ بالنصبِ أَوْلى لوجَبَ أن يكونَ في القراء مَنْ يقرأ {واللذان يأتيانِها منكم فآذوهما} بالنصب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء مَنْ يقرأ كذلك عَلِمْنا سقوطَ هذه القول. الثالث: أنَّا إذا جعلنا "السارق والسارقة" مبتدأً وخبرُه مضمرٌ وهو الذي يقدِّره: "فيما يتلى عليكم" بقي شيء آخر تتعلَّق به الفاء في قوله: {فَاقْطَعُوااْ} فإنْ قال: الفاء تتعلق بالفعل الذي دلَّ عليه قولُه: "والسارق والسارقة" يعني أنه إذا أتى بالرسقة فاقطعوه يده، فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر [أن تقول]: السارق والسارقة [تقديرُه]: مَنْ سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى اإضمار الذي ذكرته. الرابع: أنَّا إذا اخترْنا القرءاةَ بالنصب لم تدلَّ على أنَّ السرقةَ علةٌ لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءةَ بالرفع افادت الآيةُ هذا المعنى، ثم إنَّ هذا المعنى متأكدٌ بقوله: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} فثبت أنَّ القراءةَ بالرفعِ أَوْلى. الخامس: أن سيبويه قال: "وهم يقدِّمون الأهمَّ والذي هم ببيانِه أَعْنى" فالقراءة بالرفعِ تقتضي تقديمَ ذِكْرِ كونه سارقاً على ذِكْرِ وجوب القطع، هذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السراق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكونَ العنايةُ بيان القطع(1/2004)
(5/296)
---
أتمَّ من العناية بكونه سارقاً، ومعلوم أنه ليس كذلك فإن المقصود في هذه الآية تقبيحُ السرقة والمبالغةُ في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة" انتهى ما زعم أنه ردُّ على إمام الصناعة.
والجوابُ عن الوجه الأول ما تقدَّم جواباً عما قاله الزمخشري، وقد تقدم، ويؤديه نص سيبويه فإنه قال: "وقد يَحْسُن ويستقيم: "عبدُ الله فاضربه" إذا كان مبنياً على مبتدأ مُظْهَرٍ أو مضمر، فأمّا في المُظْهَرِ فقولُه: "هذا زيدٌ فاضرِبْه" وإن شئت لم يظهر هذا ويعمل كعمله إذا كان مظهراً، وذلك قولك: "الهلالُ واللَّهِ فانظرْ إليه" فكأنك قلت: "هذا الهلال" ثم جئت بالأمر، ومن ذلك قولُ الشاعر:
1725- وقائلةٍ: خَوْلانُ فانكِحْ تفاتَهُمْ *وأُكْرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا
(5/297)
---(1/2005)
هكذا سُمع من العربِ تُنْشدُه" يعني برفع "خولان فمع قوله: "يحسن ويستقيم" كيف [يكونُ] طاعناً في الرفع؟ وقولُه: "فإنْ قال سيبويه إلى آخره" فسيبويه لا يقول ذلك، وكيف يقوله وقد رجَّح الرفعَ بما أوضحته، وقوله: "لم يقرأ بها إى عيسى" ليس كما زعم، بل قرأ بها جماعة كإبراهيم ابن أبي عبلة، وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرَؤُوها من تلْقاء أنفسِهم، بل نقلوها إلى أن تتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم، غايةُ ما في الباب أنها ليست في شهرة الأولى. وعن الثاني: أنه سيبويه لم يَدَّعِ ترجيحَ النصب حتى يُلْزمَ بما قاله، بل خَرَّج قراءة العامة على جملتين، لِما ذكرت لك فيما تقدم من دخول الفاء، ولذلك لمَّا مَثَّل سيبويه جملةَ الأمرِ والنهي بعد الاسم مثَّلأها عاريتيت من الفاء، قال: "وذلك قولك: "زيداً اضربْه" "وعمراً امرُرْ به" وعن الثالث: ما تقدم من الحكمةِ المقتضية للمجيء بالفاء وكونها رابطة للحكم بما قبله، وعن الرابع: بالمنع أن يكون بين الرفع والنصب فَرْقٌ بأنَّ الرفعَ يقضتي العلةَ، والنصبَ لا يقتضيه، وذلك أن الآية من باب التعليل بالوصفِ المُرَتَّب عليه الحكمُ، ألا ترى أن قولك: "اقطع السارق" يفيد العلةَ، أي: إنه جَعَلَ علةً القطعِ اتصافَه بالسرقة، فهذا يشعر بالعلة مع التصريح بالنصبِ، وعن الخامس: انهم يُقَدِّمون الأهمَّ حيث اختلفت بالنسبَةُ الإسناديةُ كالفاعلِ مع المفعولِ، وَلْنَسْرُدْ نصَّ سيبويه ليتبيِّن ما ذكرناه، قال سيبويه: "فإنْ قَدَّمْتَ [المفعول] وأخَّرت الفاعلَ درى اللفظُ كما جرى في الأول" عين في: "ضرب عبدُ الله زيداً" قال: "وذلك: ضرب زيداً عبدُ الله، لأنهك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم تُرِد أن يشتغل الفعلُ بأولَ منه وإن كان مؤخراً في اللفظ، فمِن ثَمَّ كان حَدُّ اللفظِ أن يكونَ فيه مقدماً وهو عربي جيدٌ كثير، كأنهم يُقَدَّمون الذي يبانُه اهمُّ لهم، وهم ببيانِه أَعْنَى، وإن كانا جميعاً(1/2006)
(5/298)
---
يُهِمَّانِهم ويَعْنِيانهم" والآية الكريمة ليست من ذلك.
قوله: {أَيْدِيَهُمَا} جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ لأمْنِ اللَّبْس، لأنه معلومٌ أنه يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه، فهو من باب {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله: "فاقطعوا أيمانَهما" واشترط النحويون في وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً، ومن جملتها: ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ مفرداً من صاحبه نحو: "قلوبكما" و"رؤوس الكبشين" لأمن الإلباس بخلافِ العينين واليدين والرجلين، لو قلت: "فَقَأْتُ أعينَها" / وأنت تعني عينيهما، و"كَتَّفْتُ أيديَهما" وأنت تعني "يديهما" لم يَجُزْلِلَّبْسِ، وهذا مستفيضٌ في لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطه - قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
}. وَلْنذكر المسألةَ فنقول: كلُّ جزأين أضيفا إلى كُلَّيْهما لفظاً أو تقديراُ وكانا مفردَيْنِ من صاحبيهما جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ: الأحسنُ الجمعُ، ويليه الإفرادُ عند بعضِهم، وليله التثنيةُ، وقال بعضُهم: الأحسنُ الجمعُ ثم التثينةُ ثم الإفرادُ نحو: "قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين ورأسَ الكبشين ورأسَيْ الكبشين"، قال:
1726- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ * ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ
فقولي: "جزآن" تَحَرُّزٌ من الشين المنفصلين، لو قلت: قبضت دارهمكما" تعني: دِرْهميكما لم يَجُزْ لِلَّبْس، فلو أُمِنَ جاز كقوله: اضرباه باسيافِكما" "إلى مضاجعكما" وقولنا "أُضيفا" تحرُّزٌ من تفرُّقهما كقوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وقولنا "لفظاً مثالُن: فإنَّ الإضافة فيه لفظيةٌ. وقولُنا "أو تقديراً" نحو قوله:
1727- رأيت بني البكري في حومة الوغى * كاغِرَي الأفواهِ عند عَرِين
(5/299)
---(1/2007)
فإنَّ تقديره: كفاغري أفواهما. وقولنا "مفردين" تحرزٌ من العينين ونحوهما: إنما اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل لاستثقال توالي تثنيتين، وكان الجمعُ أولى من المفرد لمشاركة التثنيةِ في الضم، وبعده المفردُ لعدم الثقل، هذا عند بعضِهم قال: "لأنَّ التثنيةَ لم تَرِدْ إلى ضرورةً كقوله:
1728- هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما * على النابحِ العاوي أشدَّ رِجامِ
بخلاف الإفراد فإنه وَرَدَ في فصيح الكلامِ، ومنه: "مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنَهما". وقال بعضُهم: "الأَحسنُ الجمعُ ثم التثنيةُ ثم الإفراد كقوله:
1729- حمامةَ بطنِ الواديَيْن تَرَنَّمي * سَقالك من الغُرَِّ الغوادِي مطيرُها
وقال الزمخشري: "أيديهما: يديهما، ونحوه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} اكتفى بتثنيةِ المضاف إليه عن تثنيةِ المضاف، وأريد باليديد اليُمْنَيان، بدليلِ قراءة عبد الله: "والسارقون والسارقات فقطعوا أَيْمانهم" وردَّ عليه الشيخ بأنهما ليسا بشيئين، فإنَّ النوعَ الول مطردٌ فيه وضعُ الجمعِ موضعَ التثينةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا ينقاس، لأن المتبادَرَ إلى الذهن من قولك: "قَطَعْتُ آذانَ الزيدين: أرعبة الآذان" وهذا الردُّ ليس بشيءٍ لأنَّ الدليلَ دَلَّ على أن المراد اليمنيان.
(5/300)
---(1/2008)
قوله: {جَزَآءً} فيه أرعبة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مقدر أي: جازوهما جزاءً. الثاني: أنه مصدر أيضاً لكنه منصوب على معنى نوع المصدر، لأنه قوله: "فاقطعوا" في قوة: جازُوهما بقطع الأيدي جزاء" الثالث: أنه منصوب على الحل، وهذه الحالُ يُحْتمل أن تكون من الفاعل أي: مُجازِين لهما بالقطع بسببِ كسبِهما، وأن تكونَ من المضافِ إليه في "أيديهما" أي: في حالِ كونها مجازَيْن، وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لأن المضاف جزؤه كقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} الرابع: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجل الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودةٌ. و"نَكالاً" منصوبٌ كما نُصِب "جزاء" ولم يذكر الزمخشري فيهما غيرَ المفعولِ من أجله. قال الشيخ: "تَبع في ذلك الزجاج" ثم قال: "وليس بجيدٍ، إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ فيكون ذلك طريق البدل، وأما إذا كان متباينين فلا يجوز ذلك إلى بوساطة حرف العطف" قلت: النكالُ نوعٌ من الجزاء فهو بدل منه، [على أن الذي نيبغي أن يُقال هنا إن "جزاء" مفعول من أجهل، العاملُ فيه] "فاقطعوا" فالجزاُ علةٌ للأمر بالقطع، و"نَكالاً" مفعول من أجله أيضاً، العاملُ فيه "جزاء" والنكال علة للجزا، فتكون العلة معللةً بشيء آخرَ فتكونُ كالحال المتداخلة، كما تقول: "ضربته تأديباً له إحساناً إليه" فالتأديبُ علةٌ للضرب والإحسان علة للتأديب، وكلامُ الزمخشري والزجاج قبله لا يُنافي ما ذكرته، فإنه لا منافاة بني هذا وبين قولهما "جزاء" مفعولٌ من أجله، وكذلك "نكالاً" فتأمَّلْه، فإنه وجه حسن، فطاحَ الاعتراضُ على الزمخشري والزجاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: "إلا إذا كان الجزاءُ هو النكال" ثم ظَفِرت بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن يَنْصِبَ مفعولاً له آخرَ [يكون علة] فيه، وذلك أنَّ المُعْرِبين أجازوا في قوله تعالى {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً} أن يكون "بغياً"(1/2009)
(5/301)
---
مفعولاً له، ثم ذكروا في قوله: "أَنْ يُنَزِّل ا لله" أنه مفعول له ناصبه "بغياً فهو علةٌ له، صَرَّحوا بذلك فظهر ما قلت؟ و"بما" متعلق بـ "جزاء" و"ما" يجوز أن تكون مصدرية أي: بكسبِهما، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروطِ أي: بالذي كَسَباه، والباء سببية.
* { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ}: متعلق بـ "تاب" و"ظلم" مصدرٌ مصافٌ إلى فاعله أي: من بعد أَنْ ظَلَمَ غيرَه بأخذِ ماله، وهذا واضحٌ، وأجاز بعضُهم أن يكونَ مضافاً للفعول أي: من بعد أن ظلم نفسَه، وفي جوازِ هذا نظرٌ، إذ يصير التقديرُ: مِنْ بعد أن ظلمه، ولو صَرَّح بهذا الأصلِ لم يجز لأنه يؤدي إلى تعدِّي فعلِ المضمر إلى ضميره المتصل، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن وفَقَدَ وعَدِم، كذك قاله الشيخ، وفي نظره نظر، لأنَّا إذا حَلَلْنا المصدرَ لحرف مصدري وفعل فإنما يَأتي بعد الفعل بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النفسِ، أي من بعد أن ظلَم نفسَه.
* { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوااْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(5/302)
---(1/2010)
قوله تعالى: {لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ}: قد تقدَّم أنَّ "يحزن" يُقرأ بفتحِ الياءِ وضَمِّها وأنهما لغتان، وهل هما بمعنًى أو بينهما فرقٌ؟ والنهيُ للذين في الظاهر وهو من باب قوله: "لا أُرَيَنَّك ههنا" أي: لا تتعاطَ أسباباً يحصُل لك بها حزنٌ من جهتهم، وتقدم لك تحقيق ذلك مراراً، وقول أبي البقاء في "يحزنك": "والجيد فتح الياء وضم الزاي، ويُقرأ بضم الياء وكسر الزاي من أحزنني وهي لغة" ليس بجيد، لأنها قراءةٌ متواترةٌ، وقد تقدَّم دليلها في آل عمران و"يُسارعون" من المسارعة، و"في الكفر" متلعق بالفعل قبله، وقد تقدَّم نظيرُها في آل عمران. قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوااْ} يجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل في "يُسارعون" أي: يُسارعون حالَ كونِهم / بعضَ الذين قالوا، ويجوز أن يكونَ حالاً من نفس الوصول وهو قريبٌ من معنى الأول، ويجو أن تكونَ "مِنْ" بياناً لجنس الموصول الأول وكذلك "مِنْ" الثانية، فتكون تبييناً وتقسيماً للذين يُسارعون في الكفر، ويكون "سَمَّاعون" على هذا خبرَ مبتدأ محذوف. و"آمنَّا" منصوبٌ بـ"قالوا" وبـ"أفواههم" متعلق بـ"قالوا" لا بـ "آمنًّا" بمعنى أنه لم يُجَاوِزْ قولُهم أفواهَهم، إنما نطقوا به غيرَ معتقدين له بقلوِبهم وقوله: {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملةٌ حالية.
(5/303)
---(1/2011)
قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: ما تقدم، وهو أن يكونَ معطوفاً على "من الذين قالوا" بياناً وتقسيماً. والثاني: ان يكونَ خبراً مقدما، و"سَمَّاعون" مبتدأ والتقدير: "ومن الذين هادوا قومٌ سَمَّاعون" فتكونُ جملةً مستأنفة، إلا أنَّ الوجه الأول مُرَجَّح بقراءة الضحاك: "سَمَّاعين" على الذم بفعل محذوف، فهذا يدل على أن الكلامَ ليس جملةً مستقلة، بل قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ} عطفٌ على "من الذين قالوا". وقوله "سَمَّاعون" مثال مبالغة، و"للكذب" فيه وجهان، أحدُهما أن اللامَ زائدةٌ، و"الكذب" هو المفعول، أي: سَمَّاعون الكذب، وزيادةُ اللامِ هنا مطردةٌ لكونِ العاملِ فَرْعاً فَقَوِي باللام، ومثلُه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} والثاني: على بابها من التعليل، ويكون مفعول "سَمَّاعون" محذوفاً، أي: سَمَّاعون أخباركم وأحاديثم ليكذبوا فيها بالزيادة والنقصِ والتبديلِ بأَنْ يُرْجِفوا بقتل المؤمنين في السريا كما نُقِل من مخازيهم. وقوله: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ} يجوز ان تكون هذه تكريراً للأولى، فعلى هذا يجوز أَنْ يتلَّقَ قولُه "لقوم" بنفس الكذب أي: يَسْمعون ليكذبوا لأجل قوم، ويجوزُ أن تعلق اللام بنفس "سَمَّاعون" أي: سَمَّاعون لأجلِ قومٍ لم يأتوك لأنهم لبغضِهم لا يقربون مجلسَك وهم اليهودُ، و"لم يأتوك" في محلِّ جرٍّ لأنه صفة لـ"قوم".
(5/304)
---(1/2012)
قوله: {يُحَرِّفُونَ} يجوز أن يكونَ صفةً لـ"سَمَّاعون" أي: سَمَّاعون مُحَرِّفون، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في "سَمَّاعون" ويجوز أن يكون مستأنفاً لا محل له، ويجوز أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف أي: هم مُحَرِّفون، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ جر صفة لـ"قوم" أي: لقوم محرفين. و"من بعد مواضعه" قد أتقنته في النساء و"يقولون" كـ"يحرفون" ويجوز أن يكون حالاً من ضمير أتقنته في النساء و"يقولون" كـ"يحرفون" ويجوز أن يكون حالاً من ضير "يحرفون". والجملة الشرطية من قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعولةٌ بالقول، و"هذا" مفعولٌ ثان لأوتيتم، والأول قائمٌ مقامَ الفاعل، والفاءُ جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ لعدم صلاحيةِ الجزاء لأن يكونَ شرطاً، وكذلك الجملةُ من قوله: {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} وقوله: {وَمَن يُرِدِ} "مَنْ" مفعول مقدم وهي شرطية. وقوله: {فَلَن تَمْلِكَ} جوابه، والفاء أيضاً واجبةٌ لما تقدم، و"شيئاً" مفعولٌ به أو مصدر. و"من الله" متعلقٌ بـ "تملَك"، وقيل: هو حالٌ من "شيئاً" لأنه صفتُه في الأصل. قوله: {أُوْلَائِكَ} مبتدأ، و{لَمْ يُرِدِ اللَّهُ} جملة فعلية خبره.
* { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
(5/305)
---(1/2013)
وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: يجوز أَنْ يكونَ مكرراً للتوكيد إن كان من وصفِ المنافقين، وغيرَ مكرر إنْ كان مِنْ وصف بني إسرائيل، وإعرابُ مفراداته تقدَّم، ورفعُه على خبر ابتداء مضمر، أي: هم سَمَّاعون وكذلك أكَّالون. و"للسحتِ" في اللام الوجهان المذكروان في قوله: "للكذب" و"السَّحْتُ" الحرامُ، سُمِّي بذلك لأنه يُذْهِبُ البركة ويُمْحَقُها، يقال: سَحَته الله وأسحته، أي: أهلكه وأذهبه، وقد قرئ قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُم} بالوجهين من سحته وأَسْحته. وقال الفرزدق.
1730- وعضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ * من المالِ إى مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
وعن الفراء: "السُّحْتُ: كلبُ الجوع" وهو راجعٌ للهلكة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: "السُّحْت" بضم السين وسكون الحاء، والباقون بضمها، وزيد بن نعلي وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفتحتين، فالضمتان اسم للشيء المسحوت، والضمة والسكون تخفيفُ هذا الأصل، والفتحتان والكسر والسكونُ اسمق له أيضاً، وأمَّا المفتوحُ السين الساكنُ الحاءِ فمصدرٌ أريد به اسمٌ المفعول كالصيد بمعنى المصيد، ويجوز أن يكون تخفيفاً من المفتوح وهو ضعيف.
* { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }
(5/306)
---(1/2014)
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ}: كقوله: {كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وقد تقدَّم قولُه: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} الواوُ للحالِ، و"التوراة" يجوز أن يكونَ متبدأً والظرفُ خبرُه، ويجوز أَنْ يكونَ الظرفُ حالاً و"التوراة" فاعلٌ به لاعتمادِه على ذي الحلا، والجملةُ الاسميةُ أو الفعلية في محل نصب على الحال. وقوله: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} "فيها" خبرٌ مقدم و"حكم" مبتداٌ أو فاعلٌ كما تقدَّم في "التوراة" والجملةُ حال من "التوراة" أو الجار وحده، و"حكم" مصدرٌ مضافٌ لفاعله. وأجاز الزمخشري ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب، بل هي مبيِّنة لأنَّ عندهم ما يُغْنيهم عن التحكيم، كما تقولُ: "عندكَ زيدٌ ينصحك ويُشير عليكم بالصواب فما تصنعُ بغيرِه؟" وقوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} معطوفٌ على "يحكِّمونك" فهو في سياقِ التعجِبِ المفهومِ من "كيف".
* { إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
(5/307)
---(1/2015)
قوله تعالى: {فِيهَا هُدًى}: يحتملُ الوَجْهين المذكورين في قوله: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} فـ "هُدَى" مبتدأٌ أو فاعلٌ، والجملةُ حالٌ من التوراة. وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا} يجوز أن تكونَ جملةً متسأنفة، ويجوز أن تكون منصوبةً المحلِّ على الحال: إمَّا من الضميرِ في "فيها" وإمَّا من التوارة. وقوله: {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} صفةٌ لـ "النبيون" وصفهم بذلك على سبيل المدحِ والثناء لا على سبيل التفصيلِ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلمون، وإنما أثنى عليهم بذلك كما تَجْري الأوصافُ على أسماءِ اللَّهِ تعالى. قال الزمخشري: "أُجْرِيَتْ على النبيين على سبيلِ المدحِ كالصفات الجاريةِ على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح، وأُريد بإجرائِها التعريضُ باليهود وأنهم بُعَداءُ من ملةِ الإسلام الذي هو دُن الأنبياء كلِّهم في القديم والحديث، فإنَّ بمعزل عنها، وقوله: {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} منادٍ على ذلك" أي دليلٌ على ما ادِّعاه.
قوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُهما: أنها متعلقةٌ بـ "يحكم" فعلى هذا معناها الاختصاصُ، وتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم عليه، ولهذا ادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام حَذْفاً تقدره: "يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم" ذكره ابن عطية وغيره. والثاني: أنها متعلقةٌ بأنزلنا، أي: أنزلنا التوراةَ للذين هادُوا يحكمُ بها النبيون. والثالث: أنها متعلقةٌ بنفسِ "هُدى" أي: هدى ونور للذين هادوا، وهذا فيه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وعلى هذا الوجهِ يجوز ان يكون "للذين هادوا" صفةً لـ"هدى ونور" أي: هدى ونور كائن للذين هادوا، وأولُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ.
(5/308)
---(1/2016)
قوله: {وَالرَّبَّانِيُّونَ} عطفٌ على "النبيون" أي: إنَّ الربانيين - وقد تقدَّم تفسيرُهم في آل عمران - يَحْكُمون أيضاً بمقتضى ما في التوراة. والأحبارُ: جمع "حَبرْ" بفتح الحاء وكسرها وهو العالم، وأنكر أبو الهيثم الكسر، والفراء والفتح، وأجاز أبو عبيد الوجهين، واختار الفتحَ، فأمَّا "الحِبْر" الذي يُكْتَبُ به فالبكسر فقط، وأصلُ المادةِ الدلالةُ على التحسين والمسرَّة، وسُمِّي ما يكتب به حِبراً لتحسين الخط، وقيل: لتأثيره، ويدلُّ للأول قولُه تعالى: {أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي: تفرحون وتُزَيَّنون وقال أبو البقاء: "وقيل الربانيون [مرفوع] بفعل محذوف أي: ويحكم الربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا" انتهى. يعني أنه لَمَّا اختلف متعلَّقٌ الحكم غاير بين الفعلين أيضاً فإنَّ النبيين يحكمُون بالتوارة، والأحبارُ والربانيون يحكمون بما ساتحفظهم اللّهُ، وهذا بعيدٌ عن الصواب؛ لأنَّ الذي استحفظهم الله هو مقتضى ما في التوراة، فالنبيون والربانيون حاكمون بشي واحد، على أنه سيأتي أنَّ الضميرَ في "استُحْفِظوا" عائدٌ على النبيين فَمَنْ بعدهم.
(5/309)
---(1/2017)
قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ "بما" بدلٌ من قوله "بها" بإعادة العامل لطول الفصل، قال: "وهو جائزٌ وإنْ لم يَطُلْ" أي: يجوزُ إعادةُ العامل في البدل وإن لم يَطُلْ، قتل: وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً: الثاني: أن يكون متعلقاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: ويحكم الربَّانيون بما استُحْفِظوا، كما قدمته عنه. والثالث: أنه مفعولٌ به أي: يَحْكُمون بالتوارة بسبب استحفاظهم ذلك، وهذا الوجهُ الأخير هو الذي نَحَا إليه الزمخشري فإنه قال: "بما استُحْفِظوا بما سألم أنبياؤهم حِفْظَه من التوراة، أي: بسبب سؤالِ أنبيائهم إياهم أَنْ يحفَظُوه من التبديلِ والتغيير" وهذا على أن الضميرَ يعودُ على الربانيين والأحبار دون النبيين، فإنه قَدَّر الفاعلَ المحذوف "النبيين"، وأجازَ أن يعودَ الضميرُ في "استُحْفِظوا" على النبيين والربانين والأحبار، وقَدَّر الفاعلَ المنوبَ عنه الباري تعالى أي: بم استحفظهم الله، يعني بما كلَّفهم حِفْظَه.
وقوله: {مِن كِتَابِ اللَّهِ} قال الزمخشري: "و"مِنْ" في "مِنْ كتاب الله" للتبين" يعين أنها لبيانِ الجنسِ المبهمِ في "بما" فإن "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً اسمية بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بما استحفظوه، وأن تكونَ مصدريةً أي: باستحفاظهم. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من أحدِ شيئين: إمَّا من "ما" الموصولةِ أو مِنْ عائدها المحذوفِ، وفيه نظرٌ من حيث المعنى. وقوله: "وكانوا" داخل في حَيِّز الصلة أي: وبكونهم شهداءَ علهي أي: رُقَبَاء لئلا يُبَدِّل، فـ "عليه" متعلقٌ بـ "شهداء" والضميرُ في "عليه" يعودُ على "كتاب الله" وقيل: على الرسولِ، أي: شهداءَ على نبوتِه ورسالتِه، وقيل: على الحُكْم، والأولُ هو الظاهرُ.
(5/310)
---(1/2018)
* { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }: الآية. "عليهم" الضمير للذين هادُوا، و"فيها" للتوراةِ و"أن النفس بالنفس": "أن" واسمُا وخبرُها في محلِّ نصبٍ على المعفولية بـ "كتبنا" والتقدير: وكتبنا عليهم أَخْذَ النفسِ بالنفس. وقرأ الكسائي و"العينُ" وما عطف عليها بالرفع، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيما عدا "الجروح" فإنهم يرفعونها. فأما قراءة الكسائي فوجَّهَها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسية على جملةٍ فعليةٍ فَتَعْطِفُ الجملَ كما تعطِفُ المفردات، يعني أنَّ قولَه: "والعين" مبتدأ، و"بالعين" خبره، وكذا ما بعدها والجملةُ الاسميةُ عطفٌ على الفعليةِ من قوله: "وكتبنا" وعلى هذا فيكون ذلك ابتداءَ تشريع، وبيانَ حكمٍ جديد غير مندرج فيما كتب في التورة، قالوا: وليست مشكرة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى. وعَبَّر الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف، قال: "أو للاستنئافِ، والمعنى: فَرَضْنا عليهم أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفسِ مقتولةٌ بها إذا قَتَلها بغيرِ حقٍّ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ بالعينِ، والأنفُ مجدوعٌ بالأنف، والأذنُ مصلومةٌ أو مقطوعة بالأذن، والسنُّ مقلوعةٌ بالسن، والجروحُ قصاصٌ وهو المُقاصَّة" وتقديرُه: أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفس، سبقه إليه الفارسي، إلا أنه قَدَّر ذلك في جمعي المجروراتِ، أي: والعينُ مأخوذةٌ بالعين إلى آخره، والذي قَدَّره الزمخشري مناسبٌ جداً، فإنه قَدَّر متعلَّق كلِّ مجرور بما يناسِبُه:(1/2019)
(5/311)
---
فالفَقْءُ للعينِ، والقلعُ للسنِّ، والصَّلْمُ للأذن، والجَدْعُ للأنفز إلا أنَّ الشيخ كأنه غَضَّ منه حيث قَدَّر الخبرَ تعلَّق به المجرورُ كوناً مقيداً. والقاعدةُ في ذلك إنما يقدِّر كوناً مطلقاً، قال: "وقال الحوفي: "بالنفس" يتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه يجب أو يستقر، وكذا العينُ بالعينِ وما بعدها، فقدَّر الكونَ المطلقَ، والمعنى: يستقر قَتْلُها بقتل النفس" إلا أنه قال قبلَ ذلك: "وينبغي أَنْ يُحمل قولُ الزمخشري على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الاعراب" ثم قال: "فقدَّر - يعني الزمخشري - ما يقرب من الكونِ المطلق وهو: "مأخوذٌ" فإذا قلت: "بعت الشياه شاةً بدرهم فالمعنى: مأخوذة بدرهم، وكذلك الحر بالحر أي: مأخوذ".
(5/312)
---(1/2020)
الوجه الثاني من توجيه الفارسي: أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسمية على الجملة من قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لكنْ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، فإنَّ معنى "كَتَبْنا عليهم أنَّ النفس بالنفس" قلنا لهم النفس بالنفس، فالجملُ مندرجةٌ تحت الكَتْبِ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ. وقال ابنُ عطية: "ويُحْتمل أن تكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى، وذكر ما تقدم، ثم قال: "ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قوله: {يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين} يُمْنحون عَطَفَ "وحوراً عينا" عليه، فنظَّر هذه الآية بتلك لا شتراكِهما في النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ. قال الشيخ: "وهذا من العطف على التوهُّم، إذ توهَّم في قوله {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}: النفسُ بالنفسِ وضعَّفه بأن العطفَ على التوهُّمِ لا ينقاس. والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عَبَّر بعبارةٍ آخرى فقال: "الرفع [للعطف] على محلِّ "أنَّ النفسَ" لأن المعنى: "وكتبنا عليهم النفسُ: إمَّا لإجراء "كتبنا" "مُجْرى" قُلْنا، وإمَّا أن معنى الجملة التي هي "النفس بالنفس" مِمَّا يقع عليه الكَتْب كما تقع عليه القراءة تقول: كَتَبْتُ: الحمدُ لله، وقرأت: سورةٌ أَنْزلناها، ولذلك قال الزجاج: "لو قُرئ إنَّ النفسَ بالنفسِ بالكسر لكانَ صحيحاً" قال الشيخ: "هذا هو [الوجهُ] الثاني من توجهي أبو عليّ، إلا أنه خَرَج عن المصطلح حيث جَعَله من العطفِ على المحلِّ وليس منه، لأنَّ العطف على المحل هو العطفُ على الموضعِ، وهو محصورٌ ليس هذا منه، ألا ترى أنَّا لا نقول: "أنَّ النفسَ بالنفس" في محلِّ رفعٍ لأنَ طالبَه مفقودٌ، بل "أن" وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ لفظُه وموضعُه نصبٌ، إذ التقديرُ: كَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ" قلت: والزمخشري لم يَعْنِ أنَّ "انَّ" وما في حَيِّزها في محل رفع فعطف عليها المرفوع حتى يُلْزِمَه الشيخً بأنَّ لفظها ومحلَّها نصبٌ، إنما عَنَى أنَّ اسمَها(1/2021)
(5/313)
---
محلُّه الرفعُ قبلَ خولِها، فراعى العطفَ عليه كما راعاه في اسم "إنَّ" المسكورة. وهذا الردُّ ليس للشيخش، بل سَبَقَه إليه أبو البقاء فأخذه منه. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكونَ معطوفاً على "أَنَّ" وما عملت فيه؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب" انتهى. وليس بشيء لما تقدم.
قال الشيخ شهاب الدين أو شامة: "فمعنى الحديثِ: قُلْنا لهم: النفسُ بالنفسُ، فَحَمَل "العين بالعين" على هذا، لأنَّ "أنَّ" لو حُذِفت لاسقتام المعنى بحذفِها كما اسقام بثبوتِها، وتكون "النفس" مرفوعةً فصارت "أنَّ" هنا كـ"إنَّ" المكسورة في أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجملةِ، فجاز العطفُ على محل اسمِها كما يجوزُ على محلِّ اسم المكسورة، وقد حُمِل على ذلك: {أَنَّ اللَّهَ بَرِياءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} قال الشيخ أبو عمرو - يعني أن الحاجب - ورسولُه بالرفع معطوف على اسم "انَّ" وإنْ كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة، وهذا موضعٌ لم يُنَبِّه عليه النحويون" قلت: بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك واختلفوا فيه، فجوَّزه بعضهم وهو الصحيحُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد "علم" أو ما في معناه كقوله:
1731- وإلا فاعلموا أنَّا وأنتمْ * بُغاةٌ ما بَقِينا في شقاق
وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} الآية؛ لأنَّ الأذانَ بمعنى الإعلام.
(5/314)
---(1/2022)
الوجه الثالث: أنَّ "العين" عطفٌ على الضمير المرفوع المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً، إذ التقديرُ: أنَّ النفسَ بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجارُّ والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينةً للمعنى، إذ المرفوعُ هنا مروفوعٌ بالفاعلية لعطفِه على الفاعل المستتر، وضُعِّفَ هذا بأنّ هذه أحوالٌ لازمةٌ، والأصلُ أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزضمُ العطفُ على الضميرِ المرفوع المتصلِ من غير فصل بين المتعاطفين ولا تأكيدٍ ولا فصلٍ بـ "لا" بعد حرف العطف كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةً، قال أبو البقاء: "وجاز العطفُ من غيرِ توكيدٍ كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} قلت: قام الفصلُ بـ "لا" بين حرف العطف والمعطوف مقامَ التوكيدِ فليس نظيرَه. وللفارسي [بحثٌ في قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا} مع سيبويه، فإنَّ سيبويه يجعلُ طولَ الكلامِ بـ "لا" عوضاً عن التوكيد بالمنفصل، كما طال] الكلامُ في قولهم: "حضر القاضيَ اليومَ امرأةٌ" قال الفارسي: "هذا يستقيمُ إذا كان قبل حرف العطف، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير، ألا ترى أنك لو قتل: "حضر امرأة القاضي اليوم" لم يُغْنِ طولُ الكلامِ في غير الموضعِ الذي ينبغي أن يقع فيه". قال ابنُ عطية: "وكلامُ سيبويه متجهٌ على النظرِ النحوي وإن كان الطول قبل حرفِ العطف أَتَمَّ، فإنه بعد حرفِ العطفِ مؤثِّرٌ لا سيما في هذه الآية لأن "لا" رَبَطتِ المعنى، إذ قد تَقدَّمها نفيٌ ونَفَتْ هي أيضاً عن الآباءِ فيمكن العطفُ".
(5/315)
---(1/2023)
واختار أبو عبيد قراءةَ رفعِ الجميع، وهي روايةٌ الكسائي، لأن أَنَساً رواها قراءةً للنبي صلى الله عليه وسلم. ورَوَى أنس عنه السلام أيضاً "أنْ النفسُ بالنفس" تبخفيف "أَنْ" ورفعِ النفس وفيها تأويلان، أحدهما: أَنْ تكونَ "أَنْ" مخففةً من الثقيلة واسمُها ضميرُ الأمر والشأن محذوفٌ، و"النفسُ بالنفس" مبتدأ وخبر، في محلِّ رفع خبراً الـ "أَنْ" المخففة، كقوله: {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيكون المعنى كمعنى المشددة. والثاني: أنها "أَنْ" المفسرةُ لأنها بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه وهو "كَتَبْنا" والتقديرُ: أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزَمث من الأولِ وقوعُ المخففةِ بعد غيرِ العلم وهو قليل أو ممنوعٌ، وقد يُقال: إن "كتبنا" لَمَّا كان بمعنى "قضينا" قَرُبَ من أفعال اليقين.
وأمَّا قراءةُ نافع ومضنْ معه فالنصبُ على اسم "أَنَّ" لفظاً وهي النفس والجارُّ بعدَه خبرُه، و"قصاصٌ" خبر "الجروح" أي: وأنَّ الجروحَ قصاص، وهذا من عطفِ الجملِ، عَطَفنا الاسمَ على الاسم والخبرَ على الخبر، كقولك "إنَّ زيداً وعمراً منطلق" عطفْتَ "عمراً" على "زيداً" و"منطلق" على "قائم" ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع، إلاَّ أنَّ في كلام بان عطية ما يقتضي أن يكونَ "قصاص" خبراً على المنصوبات أجمعَ فإنه قال: "وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصبِ ذلك كلِّه، و"قصاص" خبرُ أَنَّ" وهذا وإنْ كان يَصْدُقُ أنَّ أَخْذَ النفسِ بالنفسِ والعينَ بالعينِ قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح، وهو محلُّ نظر.
(5/316)
---(1/2024)
وأمَّا قراءة أبي عمرو ومَنْ معه فالمنصوبُ كما تقدَّم في قراءة نافع، لكنهم لم يَنْصِبُوا "الجروح" قطعاً له عَمَّا قبله، وفيه أربعة أوجه: الثلاثة المذكورة في توجيهِ قراءة الكسائي، وقد تقدَّم إيضاحُه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره "قصاص" يعني أنه ابتداءُ تشريعٍ، وتعريفُ حكمٍ جديد، قال أبو عليّ "فأمَّا والجروحُ قصاص: فمن رفعه يَقْطَعْه عما قبله، فإنه يحتمل هذه الأوجهَ الثلاثةَ التي ذكرناها في قراءة مَنْ رفع "والعينُ بالعين" ويجوز أن يُستأنف: "والجروحُ قصاص" ليس على أنه مما كُتِب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف وابتداء تشريع" انتهى. إلا أنَّ أبا شامة قال: قبل أن يَحْكي عن الفارسي هذ الكلامَ - "ولا يستقيم في رفع الجروح الوجهُ الثالث وهو أنه عطفٌ على الضمير الي في خبر "النفس" وإنْ جاز فيما قبلها، وسببُه استقامةُ المعنى في قولك: مأخوذةٌ هي بالنفس، والعينُ هي مأخوذة بالعين، ولا يَسْتقيم: والجروحُ مأخوذةٌ قصاص، وهذا معنى قولي "لَمَّا خلا قولُه "الجروح قصاص" عن الباءِ في الخبر خالَق الأسماءَ التي قبلها فخولِفَ بينهما في الاعراب" قلت: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبَّه لم كثيرٌ من المُعْرِبين.
وقال بعضُهم: "إنما رُفِع "الجروح" ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لِما قبله فرقاً بين المجملِ والمفسر" يعني أنَّ قَولَه "النفس بالنفس والعينَ بالعين" مفسَّرٌ غيرُ مجملٍ، بخلاف "الجروح" فإنها مجملةٌ؛ إذ ليس كلُّ جرح يَجْرَي فيه قصاصٌ: بل ما كان يُعْرَفُ فيه المساواةُ وأمكن ذلك فيه، على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضُهم: خُولِف في الإعراب لاختلافِ الجراحات وتفاوتِها، فإذن الاختلافُ في ذلك كالاخلاف المشارِ إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمةَ بين مخالفة الإعراب ومخالفةِ الأحكامِ المشار إليها بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما ذَكَرْتُها تنبيهاً على ضَعْفِها.
(5/317)
---(1/2025)
وقرأ نافع: "والأذْن بالأذْن" سواء كان مفرداً أم مثنى كقوله: {كَأَنَّ فِيا أُذُنَيْهِ وَقْراً} بسكون الذال وهو تخفيفٌ للمضوم كعُنْق في "عُنُق" والباقون بضمِّها، وهوا لأصل، ولا بد من حذف مضاف في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه تقديرُه: وحكمُ الجروحِ قصاصٌ، أو: والجروحُ ذتُ قصاص.
والقِصاص: المُقاصَّةُ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب "النفس" والأربعة بعدها و"أنِ الجروحُ" بزيادة "أن" الخفيفة، ورفع "الجروحُ، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ، بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنس عنه عليه السلام بتخفيف "أن" ورفعِ "النفس" حيث جَوَّزْنا فيها الوجهين، وذلك لأنه لو قَدَّرْتها التفسيريةَ وجَعَلْتضها معطوفةً على ما قبلَها فَسَدَ من حيث إنَّ "كتبنا" يقتضي أَنْ يكونَ عاملاً لأجل "أنَّ" المشددة غيرُ عامل لأجل "أَنْ" التفسيرية، فإذا انتفى تسلُّطُه عليها انتفى تشريكُها مع ما قبلها، لأنه إذا لم يكن عملٌ فلا تشريكٌ، فإذا جعلتها المخففةَ تسلَّط عملُه فاقتضى العملُ التشريكَ في انصبابِ معنى الكَتْب عليهما. وقرأ أبيّ: "فهو كفارتُه له" أي: التصدُّق كفارةٌ، يعني الكفارة التي يستحفها له لا ينقصُ منها، وهو تعظيمٌ لِما فَعَلَ كقوله: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
(5/318)
---(1/2026)
}. قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي: بالقصاصِ المتعلِّق بالنفس أو بالعين أو بما بعدَها، فهو أي: فذلك التصدقُ عاد الضمير على المصدر لدلالة فعلِه عليه، وهو كقوله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} والضميرُ في "له" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهر-: أنه يعود على المصتدِّق والمرادُ به مَنْ يستحِقُّ القِصاصَ مِنْ مصابٍ أو وليّ، أي: فالتصدقُ كفارةٌ لذلك المتصدِّق بحقه، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمَنْ بعدَهم. والثاني: أنَّ الضميرَ يُراد به الجاني، والمراد بالمتصدِّق كما تقتدم مستحقُ القصاص، والمعنى: انه إذا تصدَّق المستِحقُّ على الجانز كان ذلك التصدُّقُ كفارةً للجاني حيث لم يُؤَاخَذْ به. قال الزمخشري: "وقيل: فهو كفارةٌ له أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحبُ الحق سَقَط عنه ما لَزِمه" وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الضميرَ يعودُ على المتصدِّق أيضاً، لكن المرادَ به الجاني نفسه، ومعنى كونِه متصدِّقاً أنه إذا جنى جنايةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّف هو بنفسه كان ذلك الاعترافُ بمنزلةِ التصدُّق الماحي لذنبِه وجنايِته، قاله مجاهد، ويُحْكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه فلم يَعْرف الرجلُ مَنْ أصابه، فقال له عروة: "أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير، فإنْ كان يعنيك شيءٌ فيها أنا ذا"، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون "تصدَّ" من الصدَقة وأن يكون من الصِدْق. قلت: الأول واضح، والثاني معناه أنه يتَكَلَّفُ الصدق، لأن ذلك مما يَشُقُّ. وقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} يجوزُ في "مَنْ" أن تكونَ شرطيةٌ، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاءُ في الخبر زائدةٌ لشبهِه بالشرط. و"هم" في قوله: {هُمُ الْكَافِرُونَ} ونظائرهُ فصلٌ أو مبتدأٌ، وكلُّه ظاهرٌ مِمَّا تقدَّم في نظائره.
(5/319)
---(1/2027)
* { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى}: قد تقدَّم معنى "قَفَّينا" وأنه من قفا يقفو أي: تبع قفاه في البقرة. وقوله: {عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى} كِلا الجارَّيْن متعلقٌ به على تضمينِه معنى "جئْنا به على آثارهم قافياً لهم" وتقدَّم أيضاً أن التضعيفَ فيه ليس للتعديةِ لعلة ذُكِرت هناك. وإيضاحُها أنَّ "قَفا" متعدٍ لواحدٍ قبلَ التضعيفُ، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فـ "ما" موصولةٌ بمعنى الذي هي مفعول، وتقول العربُ: "قَفا فلانٌ أثرَ فلانٍ" أي: تَبِعه، فلو كان التضعيف للتعدِّي لتَعَدَّى إلى اثنين، فكان التركيبُ يكون: "ثم قَفَّيْنا هم عيسى بن مريم" فـ "هم" مفعول ثاني و"عيسى" أول،ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدَّى بالباء و"على". قال الزمخشري: "قَفْيْتُه" مثل: عَقَّبْتُه به، فتعدِّيه إلى الثاني بزيادةِ الباء. فإنْ قلت: أين المفعولُ الأول؟ قلت: هو محذوفٌ والظرفٌ الذي "على آثارهم" كالسادِّ مسدِّه، لأنه إذا قَفَّى به على اثرِه فقد قَفَّى به إياه" فكلامُه هنا ينحو إلى أنَّ "قَفَّيه" مضعفاً كقفوتُه ثلاثياً ثم عَدَّاه بالباء، وهذا وإنْ كان صحيحا من حيث إنَّ فَعًّل قد جاء بمعنى فَعَل المجرد كقَدذَر وقَدَر، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعديةَ المتعدي لواحد لايتعدَّى إلىثاني بالباء، لا تقول في "طعم زيد اللحمَ": "أطعمتُ زيداً باللحم" ولكنَّ الصوابَ أنه قليلٌ غيرُ ممتنعٍ، جاءت منه ألفاظٌ قالوا: "صَكَّ الحجُر الحجر" ثم يقولون: صككتُ الحجرَ بالحجر، و"دفع زيدٌ عمراً" ثم: دَفَعْتُ زيداً بعمرو، يا: جعلتُه دافعاً له، فكلامُه: إما(1/2028)
(5/320)
---
ممتنع أو محمولٌ على القليل، وقد أشَرْتُ إلى منعِ أدِّعاء حذفِ المفعول من نحو: {وَقَفَّيْنَا} في البقرة فليُطلب ثَمَّة. وناقشَه الشيخ في قوله: "فقد قَفَّى به إياه" من حيث إنه أتى بالضمير المنصفل مع قدرته على المتصل، فيقول: "قَفَّيْتُه به" قال: "ولو قتل: زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه" لم يجز إلا في ضرورة شعر، بل ضربتُه بسوط" وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} وقد تقدَّم تحقيقه.
والضمير في "آثارهم" إمَّا للنبيين لقولِه: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}، وإمَّا لِمَنْ كُتب عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر لقوله في موضع آخر: {بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} و"مصدقاً" حال من "عيسى" قال ابن عطية "وهي حالٌ مؤكدة" وكذلك قال في "مصدقاً" الثانية، وهو ظاهرٌ فإنَّ مِنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن. و"لِما" متعلق به، وقوله: {مِنَ التَّوْرَاةِ} حال: إمَّا من الموصول وهو "ما" المجروةُ باللام، وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف لوقوعِه صلةً، ويجوز ان تكونَ لبيانِ جنس الموصول.
(5/321)
---(1/2029)
قوله: {وَآتَيْنَاهُ} يجوزُ فيها وجهان،أحدُهما: أَنْ تكونَ عطفاً على قوله: {وَقَفَّيْنَا} فلا يكونُ لها محلُّ، كما أنا المعطوف عليه لا محلَّ له، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ عطفاً على "مصدقاً" الأول إذا جُعل "مصدقاً" الثاني حالاً مِنْ "عيسى" أيضاً كما سيأتي، ويجوز ان تكون الجملةُ حالاً وإنْ لم يكن "مصدقاً" الثاني حالاً من "عيسى". وقوله: {فِيهِ هُدًى} يجوزُ أَنْ يكونَ "فيه" وحدَه حالاً من الإنجيل"، و"هُدى" فاعل به، لأنه لَمَّا اعتمد على ذي الحال رَفَعَ الفاعل، ويجوز أن يكون "فيه" خبراً مقدماً، و"هدى" مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ حال، "ومصدقاً" حالٌ عطفاً على محل "فيه هدى" بالاعتبارين: أعني اعتبار أ نيكون "فيه" وحدَه هو الحالَ فعطفْتَ هذه احل عليه، وأن يكون "فيه هدى" جملةً اسميةً محلُّها النصب، و"مصدقاً" عَطْفٌ على محلها، وإلى هذا ذهب ابن عطية، إلا أنَّ هذا مرجوحٌ من جوهين، أحدهما: أنَّ أصلَ الحال أن تكونَ مفردةً والجارُّ أقربُ إلى المفرد من الجمل. الثاني: أنَّ الجملةَ الاسمية والقعة حالاً الأكثرُ أَنْ تأتيَ فيها بالواوِ وإنْ كان فيها ضميرٌ، حتى زعم الفراء- وتَبَعه الزمخشري - أنَّ ذلك لا يجوز إلا شاذاً وكونُ "مصدقاً" هذا حالاً مِنَ "الإنجيل" هو الظاهرُ وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون "مصدقاً" الثاني حالاً أيضاً من "عيسى" كُرِّر توكيداً. قال ابن عطية: "وهذا فيه لقلقٌ من جهة اتِّساق المعاني" قلت: إذا جعلنا "وآتيناه" حالاً منه، وعَطَفْنا هذه الحالَ الأخرى فلا أدري وجهَ القلق من الحيثية المذكورة؟
(5/322)
---(1/2030)