يقولون: رَأَيْتُ الشهرَ أي: هلاله، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ، فيه، ويقال: أَشْهَرْنا أي: أتى علينا شهرٌ. قال الفراء: "لم أَسْمَعْ فعلاً إلاَّ هذا" قال الثعلبي: "يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ". ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر / وفي الكثرةِ على شُهور. وهما مَقِيسان.
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ، أحدُهما: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك، كربيع لموافقتِه الربيعَ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء، وقيل: لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي: يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها. وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة. وقيلك من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ يقال: نَصْلٌ رَميض ومَرْموض. وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً. أنشد المفضَّل:
847 - وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى * وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا
وقال الزمشخري: "الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء" قال الشيخ: "وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً". وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب.
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ "قَرَأْتُ"، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما:
848 - ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به * يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا
(2/262)
---(1/683)
وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي: جَمَعَ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ. واختُلِف في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما: أنه من باب النقلِ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ: {قَدْ أَفْلَحَ} وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين.
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين، فيكونُ وزنُهُ على هذا: فُعالاً، وعلى الأول. فُعْلاناً، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ.
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ، لأنَّهما مادتان متغايرتان. و "القرآنُ" مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله، ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}: أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه: قيل في الرابع والعشرين منه، وقيل: أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه، كقولك "أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ".
قوله: {هُدًى} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعاملُ فيه "أُنْزِلَ" وهُدَىً ومصدرٌ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: هادياً، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً.
(2/263)
---(1/684)
قوله: {لِّلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتلَّقَ بـ"هُدَىً" على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ "هادٍ"، أي: هادياً للناس. والثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ، ولا يجوزُ أَنْ يكون "هُدَىً" خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: "هو هدى" لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو: "بَيِّنات"، و "بَيِّنات" عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة.
قوله: {مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله: "هدىً وبَيِّناتٍ" فمحلُّه النصبُ، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ" هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ "من الهُدى والبينات" فياطبقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان. وقال بعضُهم: "المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها". وقال ابنُ عطية: "اللامُ في الهُدى للعهدِ، والمرادُ الأولُ" يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه: {إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}، ومِنْ هنا قال ابن عباس: "لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن" وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى، ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه لكان كلاماً صحيحاً".
(2/264)
---(1/685)
قال الشيخ: "وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ "هدى" منصوبٌ على الحالَ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال، وعَطَفَ عليه "وَبيِّنات" فلا يَخْلو قولُه "من الهدى" - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه "هُدَىً" أو لقولِهِ "وبيناتٍ" أَوْ لهما، أو متعلِّقاً بلفظ "بينات". لا جائزٌ أن يكونَ صفةً لـ"هدى" لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ لفقط لأنَّ "وبينات" معطوفٌ على "هُدَى" و "هُدَى" حالٌ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ "بَيِّنات" بقوله: "مِنَ الهدى" خَصَصْناها به / فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله: "هُدَىً وَبَيَّنات" معاً، ومن حيثُ جَعَلْتَ "مِنَ الهدى" صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ "بيِّنات" على "هُدَى" فَلَزِمَ من ذلك تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ. ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ "بينات" لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ: منه، أي: من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما".
(2/265)
---(1/686)
قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "مَنْ" فيها الوجهانِ: أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً، وهو الأظهرُ. و "منكم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميِ المستكنِّ في "شَهِدَ"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي:كائناً منكم. وقال أبو البقاء: "منكم" حالٌ من الفاعلِ، وهي متعلقةٌ بـ"شِهِدَ". قال الشيخ: "فَناقَضَ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً". ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه "منكم" هو متعلِّقٌ بشَهِدَ، وهو الحالُ حقيقةً.
وفي نَصْبِ "الشهر" قولان، أحدثهما: أنَّه منصوبٌ على الظرف، والمرادُ بشَهِدَ: حَضَر ويكونُ مفعولُ "شَهِدَ" محذوفاً تقديرُه: فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ. والثاني: أنه منصوبٌ على المفعولِ به، وهو على حَذْفِ مضافٍ. ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيحُ أنَّ تقديره "دخول الشهر". وقال بعضُهم: هلال الشهر، وهذا ضعفٌ لوجهين، أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهلالَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلالَ.
والثاني: أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ، وليس كذلك. وقال الزمخشري: "الشهرَ منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاءُ في "فَلْيَصُمْه"، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك: شَهِدْتُ الجمعة، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ" وفي قوله: "الهاء منصوبةٌ على الظرفِ" فيه نظرٌ لا يَخْفَى، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا بـ"في"، اللهم إلاَّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ.
(2/266)
---(1/687)
والفاءُ في قولِه: "فَلْيَصُمْهُ": إمَّا جوبُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في "مَنْ"، واللامُ لامُ الأمرِ. وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ بـ"كَتِف"، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ. وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن. وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن. وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء، فقال: "مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها"، قال: "فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو: لِيُنْذِرُ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً".
والألفُ واللامُ في قولِه {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ: فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به.
قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا}. و "أراد" يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ، قال الشاعر:
849 - أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ * عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
(2/267)
---(1/688)
والباءُ في "بكم" قالَ أبو البقاء: "للإِلصاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ، أي: يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ. وفي قولِه: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تأكيدٌ، لأنَّ قبلَه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز: "اليُسُر والعُسُر" بضمّ السين، واختلف النحاةُ: هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم.
قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ، أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لزيدٍ، و "أَنْ" مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه: "ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة" أي: تكميلَ، فهو معطوفٌ على اليُسْر. ونحوُه قولُ أبي صخر:
850 - أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما * تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه الام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ. الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِ بالتقديم.
(2/268)
---(1/689)
الثاني: أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدثها: أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه: "ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا"، وهو قولُ الفراء. الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه: فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا. الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: "ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك" ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين. الرابع: أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه: يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا، وهذا ضعيفٌ جداً. الخامسُ: أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه: "ولَعَلَّكم تَشْكُرون"، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامِه قال: "شَرَعَ ذلك، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر، فقولُه: "ولِتُكْمِلوا" علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة، و "لِتُكَبِّروا" علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و "لعلَّكم تَشْكرون" علةُ الترخيصِ والتسير، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ". السادس: أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا، قاله الزمخشري، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ. واختصارُ هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو "يُريد".
(2/269)
---(1/690)
الثالث: أنَّها لامُ الأمرِ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفرادات كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابنِ عطية، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ: لِتَقُمْ يا زيد، وقد قرىء شاذاً: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} بتاء الخطاب. والثاني: أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ "ولِتُكْمِلوا" مخففاً من أَكْمل، والهمزةُ فيه للتعدية. وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً، والألفُ واللامُ في "العِدَّة" تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما: أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ، والثاني: أَنْ تكونَ للجنسِ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. واللامُ في "وَلِتُكَبِّروا" كهي في "ولِتُكْمِلوا"، فالكلام فيها كالكلام فيها، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا.
قوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} هذا الجارُّ متعلِّقٌ بـ"تُكَبِّروا". وفي "على" قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزمخشري: "كأنَّه قيل: ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم" قال الشيخ: "وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ "على" بـ"حامدين" التي قَدَّرها لا بـ"تُكَبِّروا"، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو: "ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم، كما قدَّره الناسُ في قوله:
(2/270)
---(1/691)
851 - قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي
أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قولِه:
852 - ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ * بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ
أي: متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى". والثاني: أنها بمعنى لامِ العلَّةِ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و "ما" في قوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مصدريةٌ، أي: على هدايته إياكم. والثاني: أنَّها بمعنى لاذي. قال الشيخ: "وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن، أحدُهما: حَذْفُ العائدِ تقديرُه: هداكُموه" وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ، والثاني:حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ، تقديرُه: على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه".
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً، فناسَبَ خَتْمَها بذلك. وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى، وهو قولُه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقولُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ، فناسَب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ.
* { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ}: في "أُجيب" وجهانِ أحدُهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً لـ"قَرِيبٌ" والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي، لأنَّ "قريب" خبرٌ أولُ.
(2/271)
---(1/692)
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه: فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ. وجاء قولُه "أجيب" مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ: "يُجيبُ" بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه: "قريبٌ" لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ، كقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، وقولِ الشاعر:
853 - وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً * إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ
/ ولو راعى الخبر لقال: "مَا يَرَوْنَ القَتْلَ".
وفي قوله: {عَنِّي} و "إنِّي" التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ، لأنَّ قبلَه، "ولتُكَّبِّروا الله" والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ. والكافُ في "سألَكَ" للنبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ، إلاَّ أنَّ قولَه: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} يَدُلُّ عليه، لأنَّ تقديره: "أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صلى الله عليه وسلم". وفي قوله: "فإني قريب" مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان، ونظيرُه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، "هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم".
(2/272)
---(1/693)
والعاملُ في "إذا" قال الشيخ: "قولُه: أُجيبُ" يعني "إذا" الثانيةَ فيكونُ التقديرُ: أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها لدلالةِ "أُجِيْبُ" عليه، وحينئذٍ لا يكونُ "أُجيبُ" هذا الملفوظُ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفُ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط، وأمَّا "إذا" الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ. والهاء في "دعوة" ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو: ضَرْبَة وقَتْلَة، بل التي يُنِيَ عليها المصدرُ نحو: رَحْمة ونَجْدة، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قولِه: "الداع - دعانِ" من الزوائدِ عند القُرَّاء، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً ويَحْذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً.
قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان، أحدُهما: أنَّه للطلب على بابِه، والمعنى: فَلْيَطْلُوبا إجابتي قاله ثعلب. والثاني: أنه بمعنى الإِفعال، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد، واستثار الشيء وأثارَه، واستعجله وأَعْجَله، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} فاستجاب لَهُمْ"، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله:
854 - وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى * فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
(2/273)
---(1/694)
ولقائلٍ أن يقولَ: يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر.
واللامُ لامُ الأمر، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستحاب: بأنَّ "استجاب" لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}، وأمَّا "أجاب" فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً.
والجمهورُ على "يَرْشُدون" بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرىء بفتحها. وماضيه رَشِد بالكسر، وقرىء، يُرْشَدون" مبنياً للمفعول، وقرىء: "يُرْشِدُونَ" بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد. المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه: يُرْشِدون غيرَهم.
* { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ}: منصوبٌ على الظرفِ، وفي الناسبِ له ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه "أُحِلَّ"، وليس بشيءٍ، لأنَّ الإِحلال ثابتٌ قبلَ ذلك الوقتِ. الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ "الرفث"، تقديرُه: أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ، كما خَرَّجوا قول الشاعر:
855 - وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْـ * ــلِ للذِّلَّلةِ إذْغان(1/695)
(2/274)
---
أي: إذعان للذلة إذعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ. الثالث: أنه متعلِّق بالرفثِ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها، والإِضافة [تحصُل] بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك.
والجمهورُ على "أُحِلَّ" مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى، وقرىء مبنياً للفاعلِ، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم. والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلمُ، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله "لكم" التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في: "فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا". وعُدِّي "الرفث" بإلى، وإنما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى الإِفضاء، كأنه قيل: أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث.
وقرأ عبد الله "الرَّفوث". والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج:
856 - ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ * عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم
وقال الزجاج: - ويُروى عن ابن عباس - "إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة". وقيل: الرفث: الجِماعُ نفسُه، وأنشد:
857 - ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا * ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ يفارُ
وقول الآخر:(1/696)
858 - فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
(2/275)
---
ولا دليل فيه لاحتنمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ، وأنشد ابنُ عباس وهو مُحْرِمٌ: /
859 - وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا * إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا
فقيل له: رَفَثْتَ، فقال: إنما الرَّفَث عند النساء.
قوله: {كُنتُمْ تَخْتانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لنَّ. و "تَخْتانون" في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان. قال أبو البقاء: "وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً، والمعنى: أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال، وذَكَرَ "كان" ليحكي بها الحالَ كما تقول: إن فعلت كنت ظالماً" وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى.
و "تَخْتَانون" تَفْتَعِلُون من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم: خانَ يخُون، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير:
860 - بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا * قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
وقال الزمخشري: "والاختيانُ: من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة" يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قَدَّمَهُ في قولِهِ الرحمنُ الرحيمُ. وقيل هنا: تختانون أَنْفُسَكُم أي: تتعهدونها بإتيانِ النساء، وهذا يكون بمعنى التخويل، يقال: تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام، بمعنى تَعَهَّده، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام، لأنه باللامِ أشهرُ.
و "عَلِمَ" إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف، فتكونُ "أنَّ" وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش.
(2/276)
---(1/697)
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} لا محلَّ له من الإِعراب، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ: وقَدَّمَ قولَه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي -:
861 - إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها * تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وفيه أيضاً:
862 - لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ * وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} قد تقدَّم الكلامُ على "الآن". وفي وقوعِهِ ظرفاً للأمرِ تأويلٌ، وذلك أنه للزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً، وتأويلُهُ ما قاله أبو البقاء قال: "والآن: حقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه، وقد يفع على الماضي القريب منكَ، وعلى المستقبلِ القريبِ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ، وهو المرادُ هنا، لأنَّ قولَه: "فالآن باشِروهُنَّ" أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل" وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته,
وقرىء: "واتَّبِعُوا" من الاتِّباع، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري. وفَسَّروا "ما كَتَبَ اللَّهُ" بليلةِ القدر، أي: اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشري: "وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير".
قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} "حتى" هنا غايةٌ لقولِهِ: "كُلُوا واشربوا" بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً، إلاَّ "بان" فلازمٌ ليس إلاَّ. و "مِن الخيط" مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ بيتبيَّن، لأنَّ المعنى: حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ من الأسودَ.
(2/277)
---(1/698)
و "من الفجر" يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً بـ"يتبيَّن"؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناها. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض، أي: الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ "مِنْ" لبيانِ الجنس كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ. والثالث: أن يكونَ تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قولَه "الخيط الأبيض" بقولِهِ: "مِنَ الفجرِ"، ولم يُبَيِّن الخيطَ الأسود فيقول: مِنَ الليلِ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاك لأنَّه هو المَنُوط به الأحكامُ المذكورةُ من المباشَرَةِ والأكلِ والشُّرْبِ.
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه، وقال: "إن وسادَك لَعَرِيض" ويُروى: "إنك لعريضُ القَفَا". وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ "الخيط الأبيض" "من الخيط الأسود" عاماً كاملاً في النزولِ. وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ: "من الفجر"، ونظيرُهُ قولُكَ: "رأيت أسداً من زيدٍ" لو لم تَذْكُر: "من زيدٍ" لكانَ استعارةً. ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً، حتى نَزَلَ "مِنَ الفَجْرِ" فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك.
والفجر مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي: انشَقَّ.
(2/278)
---(1/699)
قوله: {إِلَى الَّليْلِ} فيه وجهان: أحدُهما: أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى الليل، و "إلى" إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه، والآيةُ من هذا القبيلِ.
"وأنتم عاكفون" جملةٌ حاليةٌ من فاعل "تباشروهُنَّ"، والمعنى: لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.
والعُكُوف: الإِقامَةُ والملازَمَةُ له، يقال: عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم ولاكسر، وقد قُرىء: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ} بالوجهين وقال الفرزدق:
863 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم * على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ
وقال الطرماح:
864 - وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً * عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ
ويقال: الافتعالُ منه في الخير، والانفعالُ في الشَّرِّ. وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ. وقرأ قتادة: "عَكِفُون" كأنه يقال: عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ. وقرأ الأعمش: "في المسجدِ" بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ.
(2/279)
---(1/700)
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو: "ولا تباشِرُوهُنَّ" فأَطْلَقَ على الكل "حدوداً" تغيلاً للمنطوقِ به، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه "فلا تَقْرَبُوها".
قال أبو البقاء: "دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه: "تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها" ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} على أحدِ القولَيْنِ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ "حدودَ الله" على الاشتغالِ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو: "زيداً فاضْرِبْه، وعمراً فلا تُهِنْهُ" فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي "فلا تَقْرَبُوها" منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ.
والحدودُ: جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ، ومنه قيلَ للبَوَّاب: حَدَّاد، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور. وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه، ولها يُقال: الحَدُّ مانِعٌ جامع أي: يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ. والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ.
(2/280)
---(1/701)
وقال هنا: "فلا تقْرَبُوها" وفي مواضع أُخَرَ: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ومثلُه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ}{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرَ فجاء "فلا تَعْتَدُوها" عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها.
قوله: {كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} الكافُ في محلِّ نصب: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بياناً مثلَ هذا البيانِ، أو حالً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه.
* { وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قولُه تعالى: {بَيْنَكُمْ}: في هذا الظرفٍِ وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى: لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "أموالكم"، أي: لا تأكلوها كائنةً بينكم. وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم، وهو في المعنى كقولِهِ: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، وفي تقدير "دائرةً" - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى، إلاَّ أَنْ يُقالَ: دَلَّتِ الحالُ عليه.
(2/281)
---(1/702)
قولُه {بِالْبَاطِلِ} فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان، أحدهما: أنه المالُ، كأن المعنى، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ، والثاني: أَنْ يكونَ الضميرَ في "تأكلوا" كأنَّ المعنى: لا تأكلوها مُبْطِلين، أي: مُلْتَبِسينَ بالباطِل.
قوله {وَتُدْلُواْ} في "تَدْلُوا" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ: "ولا تُدْلُوا" بإعادةِ لا الناهيةِ، والثاني: أنَّه منصوبٌ على الصرف، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي، وهذا مذهبُ الأخفشِ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء. قال الشيخ: "وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ: "لا تأكل السمك وتشربَ اللبن". قال النحويون: إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه المُحَرَّمات. والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه "لِتأكلوا" عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام".
(2/282)
---(1/703)
و "بها" متعلقٌ بـ"تُدْلُوا"، وفي الباء قولان، أحدُهما: أنها للتعديةِ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام، والثاني: أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلاَءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام. والضميرُ في "بها" الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل: إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها، وليس بشيءٍ.
و "من أموال" في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"فريقاً"، أي: فَريقاً كائناً من أموالِ الناس.
قوله: {بِالإِثْمِ} تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله "لتأكلوا" وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في "لتأكلوا"، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم. "وأنتم تعلمون" جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ "لتأكلوا"، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ "بالإِثم" غيرَ حالٍ.
* { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قولُه تعالى: {عَنِ الأَهِلَّةِ}: متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه، يُقال:"سألَ به وعنه" بمعنىً. والضميرُ في "يَسْأَلُونك" ضميرُ جماعةٍ، وفي القصةِ أن السائل اثنان، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين، أحدُهما: أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً. والثاني: من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامِهِم.
(2/283)
---(1/704)
والجمهور على إظهار نونِ "عَنْ" قبل لام "الأهلَّة" وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، وقُرِىءَ شاذاً: "علَّ هِلَّة" وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة "أهلة" إلى لامِ التَّعريفِ، وأدغم نونَ "عن" في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدذَرْج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول: "لَحْمَر" من غيرِ همزةِ وصلٍ.
وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ. والهلاُ هذا الكوكبُ المعروفُ. واختَلَفَ اللغويون: إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ: يُقال له: هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لثلاثٍ، ثم يكونُ قمراً. وقال أبو الهيثم: "يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ". وقال الأصمعي: "يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرُ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق"، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ، وقيل: "يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ"، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ، ويكونُ مصدراً، يقال: هَلَّ الشهرُ هلالاً.
ويقال: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد:
865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ * وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدٌ
وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه، وقيل: لأنه من البيان والظهورِ، أي: لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ، ولذلك يُقال: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ: ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه . . . ومنه قول تأبَّط شرّاً.
866 - وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه * بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ
(2/284)
---(1/705)
وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم: عِنَن وحِجَج في: عِنَان وحِجاج.
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ "الأهِلَّة" أي: عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ، ولذلك أُجيبوا بقولِه: "قل هي مواقيتُ" وقيل: إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ.
و "للناسِ" متعلِّقٌ بمحذوفٌ، لأنه صفةٌ لـ"مواقيت" أي: مواقيتُ كائنةً للناسِ. والمواقيتُ: جَمْعُ ميقات، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ: مِوْقات من الوقت، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ. والميقات منتهى الوقت.
قوله: {وَالْحَجِّ} عطفٌ على "الناس"، قالوا: تقديرُه: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر، وكأنه تخصَّص بعد تعميم، إذ قولُه "مواقيتُ للناسِ" ليس المعنى لذواتِ الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي: مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب" الناس" منابَه في الإِعراب.
وقرأ الجمهورُ "الحج" بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي وحفصاً عن عاصم فقرؤوا {حِجُّ الْبَيْتِ} بالكسر، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ قال سيبويه: "هما مصدران" فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتحِ هو مصدرٌ، وبالكسرِ هو اسمٌ.
(2/285)
---(1/706)
قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ} وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع "البر"، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم.
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش "البُيوت" و "بُيوت" بضمِّ الباء وهو الأصلُ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً، قاله أبو البقاء.
و "مِنْ" في قولِه: "مِنْ ظهورِها" و "من أبوابها" متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية. والضميرُ في "ظهورها" و "أبوابِها" للبيوتِ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك.
وقوله: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} "كقوله: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان، وهما: "وليس البرُّ" {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} عُطِف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: "وَأْتُوا البيوت" "واتَّقوا الله". وفي التصريح بالمفعول في قوله: "واتقوا الله" دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى، أي: اتقى الله.
* { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوااْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلِّقٌ بقاتِلوا، على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر مضافاً، أي في نصرةِ سبيلِ الله، / والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصلِ الطريقُ، فتُجُوِّز به عن الدينِ، لَمّا كان طريقاً إلى الله، وإمَّا أن تُضَمِّن "قاتلوا" معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دينِ الله. والذين يقاتلونكم "مفعولُ" قاتلوا.
(2/286)
---(1/707)
* { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم}: "حيث" منصوبٌ بقوله: "اقتلوهم"، و "ثَقِفْتُموهم" في محلِّ خفضٍ بالظرف، وثَقِفْتموهم أي: ظَفِرتْم بهم، ومنه: "رجلٌ ثقيف": أي سريعُ الأخذ لأقرانِه، قال:
867 - فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ
وثَقِفَ الشيءَ ثقالةً إذا حَذَقَه، ومنه الثقافةُ بالسيف، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة، قال الشاعر:
868 - ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ
قوله: {مِّنْ حَيْثُ} متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في "حيث" بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي، وبإضافة "لدى" إليها. و "أَخْرجوكم" في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه. ولم يذكر "للفتنة" ولا "للقتل" - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر.
قوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ} قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: "ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم، فإنْ قاتلوكم" بالألف من القتال، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى. وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان، أحدُهما: أن يكونَ المجازُ في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم. ومنه {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} ثم قال: "فما وَهَنوا" أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم، وقال الشاعر:
(2/287)
---(1/708)
869 - فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ * وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ
أي: فإنْ تقتلوا بعضنا. وأَجْمَعوا على "فاقتلوهم" أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
و "عند" منصوبٌ بالفعل قبله. و "حتى" متعلقٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى "إلى"، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار "أَن" كما تقرَّر. والضميرُ في "فيه" يعودُ على "عند"، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا بـ"في"، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشيءاَ إلى أصولِها، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ "في" اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ "في"، لا يُقال: "الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه. ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي: فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه.
قوله: {كَذَلِكَ جَزَآءُ} فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "جزاءُ الكافرين" خبرثه، أي: مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ "كذلك" خبراً مقدماً، و "جزاءٌ" مبتدأ مؤخراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ. و "جزاء" مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي: جزاءُ الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "الكافرين" مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، تقديرُه: كذلك يُجْزى الكافرون، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ.
* { فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(2/288)
---(1/709)
ومتعلق الانتهاء محذوف؛ أي: عن القتال. وانتهى "افتعل" من النهي، وأصلُ انتهَوا: انتهَيُا، فاستُثْقِلَتْ الضمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ساكنان فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَتِ الألفُ وبَقِيَتِ الفتحة تَدُلُّ عليها.
* { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {حَتَّى لاَ تَكُونَ}: يجوزُ في "حتى" أن تكونَ معنى كي، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى إلى، وأَن مضمرةٌ بعدَها في الحالين. و "تكونُ" هنا تامةٌ و "فتنةٌ" فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ} فيجوزُ أن تكونَ تامةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ "لله" بها، وأن تكونَ ناقصةً و "لله" الخبرَ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً لله. و {إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} في محلِّ رفعٍ خبرُ "لا" التبرئةِ، ويجوزُ أن يكونَ خبرُها محذوفاً تقديرُه: لا عدوانَ على أحد، فيكونُ "إلا على الظالمين" بدلاً على إعادةِ تكرارِ العامل. وهذه الجملةُ وإنْ كانَتْ بصورةِ النفي فهي في معنى النهي، لئلا يلزم الخُلْفُ في خبره تعالى، والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أَبْرَزَتْه في صورةِ النفي المَحْضِ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتةَ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثباتِ إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشيءِ أبرزوه في صورة الخبرِ نحو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} وسيأتي.
* { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
(2/289)
---(1/710)
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ} مبتدأٌ خبرُه الجارُ بعده، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ / تقديرُه: انتهاكُ حرمةِ الشهرِ الحرام بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشهر الأول والثاني للعهد، لأنهما معلومان عند المخاطبين، فإنَّ الأولَ ذو القعدة من سنة سبع، والثاني من سنة ست.
وقرىء: "والحُرْمات" بسكون الراء، ويُعْزى للحسن، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه: هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين، عند قوله {فِي ظُلُمَاتٍ} وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} يجوزُ في "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ فتكونُ الفاء جواباً. والثاني: أن تكونَ موصولةً فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم لذلك نظائر.
قوله: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} في الباء قولان، أحدُهما: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه. والثاني: أنها زائدةٌ أي: مثلَ اعتدائه، فتكون: إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: اعتداء مماثلاُ لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي: فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه. و "ما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً، أي: مثلَ ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان.
* { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوااْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ}: في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعول به لأن "ألقى" يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ}، وقال:
870 - حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ * وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
(2/290)
---(1/711)
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله:
871 - وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً * من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة، وغليه ميلُ الزمخشري، قال: "والمعنى: ولا تَقْبِضُوا لتهلكة أيديكم، أي: لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم" إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله:
872 - ................ * سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم، ويكون معناها السبب كقولِك: لا تُفْسِدْ حالَك برأيك. الثالث: أن يضمَّن "ألقى" معنى ما يتعدَّى بالباء، فيُعدَّى تعديته، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره: ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقولك: أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي: طَرَحْتُه على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن "ألقى" يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ، فإنه قال: "وقال المبرد: ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيد والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ".
(2/291)
---(1/712)
والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة. وقال الزمخشري "ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار والجُوار"، ورَدجَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ. وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأَولى أن يقال: إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر. وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة. قال ابن عطية: "وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام" وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري.
وزعم ثعلب أن "تَهْلُكَه" لا نظير لها، وليس كذلك لِما حكى سيبويه. ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن: التَّنْفُلة والتنصُبة.
والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَة: ما أمكن التحرُّزُ منه، والهَلاكُ ما لا يمكن. وقيل: هي نفسُ الشيء المُهْلِك. وقيل: هي ما تَضُرُّ عاقبتُه. والهمزة في "ألقى" للجَعلِ على صفة نحو: أَطْرَدْتُه أي: جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول، كأنه قيل: لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه.
(2/292)
---(1/713)
* { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {وَالْعُمْرَةَ للَّهِ}: الجمهورُ على نصب "العمرة" على العطفِ على ما قبلها و "لله" متعلقٌ بأتِمُّوا، واللامُ لامُ المفعولِ من أجله. ويجوزُ أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ من الحج والعمرة، تقديره: أتِمُّوها كائنين لله. وقرأ عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت: "والعمرةُ" بالرفع على الابتداء، و "لله" الخبر، على أنها جملةٌ مستأنفةٌ.
قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} ما موصولةٌ بمعنى الذي، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدثها: أنها في محلِّ نصبٍ أي: فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر، وهذا مذهبُ ثعلب. والثاني: ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه ما استَيْسر. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو: تكَّبر واستكبر، وتَعَظَّم واستعظم. وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب.
(2/293)
---(1/714)
والحَصْرُ: المَنْعُ، ومنه قيل للمَلِك: الحَصِير، لأنه ممنوعٌ من الناس، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ. فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا:
873 - وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ * عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وفَرَّق بعضُهم، فقال الزمخشري: يقال: أُحْصِر فلانٌ إذا معه أمرٌ من خوف أو مرض أو عجز، قال تعالى: {الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وقال ابن ميادة: "وما هَجْرُ ليلى أن تكون تباعَدَتْ"، وحُصِر إذا حبسه عدوٌّ أو سجن، هذا هو الأكثرُ في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء / مثل: صَدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً فإنه قال: "والمشهورُ من اللغة: أُحْصِر بالمرضِ وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس ابن فارس في "مجمله" فقال "حُصِر بالمرضِ وأُحْصِر بالعَدُوّ" وقال ثعلب: "حُصِر في الحَبْسِ أقوى من أُحْصِر"، ويقال: حَصِرَ صدرُه أي: ضاق؛ ورجل حَصِر: لا يبوحُ بسرِّه، قال جرير:
874 - وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا * حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا
والحَصيرُ معروفٌ لامتناعِ بعضه ببعض، والحصير أيضاً المِلك كما تقدَّم لاحتجابه. قال لبيد:
875 - ................... * جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ
قوله: {مِنَ الْهَدْيِ} فيه وجهان: أحدُهما: أن تكونَ "مِنْ" تبعيضيةً ويكونَ محلُّها النصبَ على الحال من الضمير المستتر في "اسْتَيْسر" العائدِ على "ما" أي: حالَ كَوْنِهِ بعض الهَدْي. والثاني: أن تكون "مِنْ" لبيان الجنس فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أيضاً.
وفي الهَدْي قولان، أحدُهما: أنه جمعُ هَدْيَة كجَدْي جمع جَدْيَة السَّرْج. والثاني: أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع المفعول أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجمعِ. قال أبو عمرو بن العلاء: "لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً".
(2/294)
---(1/715)
وقرأ مجاهد والزهري: "الهَدِيُّ" بتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا. والثاني: أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو: قتيل بمعنى مَقْتُول.
و "مَحِلَّه" يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ، ولم يُقْرَأ إلاَّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلاَّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً. وفَرَّق الكسائي بينهما، فقال: "المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار".
وقيل: {مِنكُم} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من "مريضاً"؛ لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتكونُ "مِنْ" تبعيضيةً، أي: فَمَنْ كان مريضاً منكم. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً، قال الشيخ: "وهو لا يكادُ يُعْقَلُ". "ومَنْ" يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً.
(2/295)
---(1/716)
قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل: أما الأولُ فيكونُ "به" هذا الجَارُّ والمجرور معطوفاً على "مريضاً" الذي هو خبرُ كان، فيكونُ في محلِّ نصبٍ. ويكونُ "أذىً" مرفوعاً به على سبيلِ الفاعليةِ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد رَفَع الفاعل عند الكل، فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أذى من رأسِهِ. وأما الثاني فيكونُ "به" خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفي الوجهِ الأولِ كان نصباً، و "أذىً" مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وتكونُ هذه في محلِّ نصبٍ لأنها عَطفٌ على "مريضاً" الواقع خبراً لكان، فهي وإنْ كانَتْ جملةً لفظاً فهي في محلِّ مفردٍ، إذ المعطوفُ على المفردِ مفردٌ، لا يقال: إنه عاد إلى عطفِ المفرداتِ فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفرقِ. وأجازوا أن يكونَ "أذى" معطوفاً على إضمارِ "كان" لدلالةِ "كانَ" الأولى عليها، وفي اسمِ "كان" المحذوفَةِ حنيئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ ضمير "مَنْ" المتقدمة، فيكونُ "به" خبراً مقدماً، و "أذى" مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لكان المضمرةِ. والثاني: أن يكونَ "أذى"، و "به" خبرَها، قُدِّم على اسمِها.
(2/296)
---(1/717)
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "أو به أذى" معطوفاً على "كان"، وأَعْرَبِ "به" خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ، و "أذى" مبتدأ مؤخراً، والهاءُ في "به" عائدةٌ على مَنْ. وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه، قال: "لأنه كان قد قَدَّ أن "مَنْ" شرطيةُ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ. فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا "مَنْ" موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون "به أذى" معطوفاً على "كان"؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ "مَنْ" الموصولةَ إذا ضَمِّنَتْ معنى اسم الشرطَ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جملةً فعليةً أو ما هي في قوتها". والباءُ في "به" يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للإِلصاق، والثاني: أن تكونَ ظرفيةً.
قولُهُ: {مِّن رَّأْسِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ. والثاني: أن يتعلَّق بما يعلَّقُ "به" من الاستقرارِ، وعلى كلا التقديرين تكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغاية.
قوله: {فَفِدْيَةٌ} في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ، أي: فعليه فديةٌ. والثاني: أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي: فالواجبُ عليه فديةٌ. والثالثُ: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي: فَتَجِبُ عليه قديةُ. وقُرىء شاذاً: "فَفِدْيَةً" نصباً، وهي على إضمارِ فعلٍ أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و "مِنْ صيام" في محلذِ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً لـ"فدية"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و "أو" للتخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ: فَخَلأَقَ فَفِدْيَة.
(2/297)
---(1/718)
وقرأ الحسنُ والزهري "نُسْك" بسكون السين، وهو تخفيفُ المضموم. والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ، يقال: آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء، والنبات للإِنبات.
وفي النُّسُك قولان، أحدُهما: أنه مصدرٌ يقال: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم، والإِسكان كما قرأه الحسن. والثاني: أنه جمع نَسِيكة، قال ابن الأعرابي: "النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيبكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً، وقيل للذَّبِيحة "نَسِيكة" لذلك".
قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} الفاءُ عاطفةٌ على ما تقدَّم، و "إذا" منصوبةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التقديرَ: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي. فاستقرَّ عليه ما استيسر.
وقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا، والفاءُ في قولِهِ: "فما استيْسَرَ" جوابُ الشرطِ الثاني. ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ في "فما استَيْسَرَ" / فأغنى عن إعادته.
قوله: {فَصِيَامُ} في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ: "فَفِدْيَةٌ". وقرىء "فصيام" نصباً، على تقديرِ فَلْيَصُمْ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ. و "في الحج" متعلقٌ بصيام. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: في وقتِ الحَجِّ. ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي: مكانَ الحج، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ.
(2/298)
---(1/719)
قوله: {وَسَبْعَةٍ} الجمهورُ على جَرِّ "سبعة" عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: "وسبعةً" بالنصب. وفيها تخريجان، أحدهما: قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ "ثلاثة" كأنه قيل: فصيامُ ثلاثة، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المثنَوَّنِ النصبَ في "يتيماً". والثاني: أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: "فَلْيَصُومُوا"، قال الشيخ: "وهذا مُتَعَيَّنٌ، لأنَّ العطفَ على الموضعِ يُشْتَرَطُ فيه وجودُ المُحْرِزِ" يعني على مذهب سيبويه.
قوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ} منصوبٌ بصيام أيضاً، وهي هنا لِمَحْضِ الظرف، وليس فيها معنى الشرط. لا يقال: يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ "سبعةٍ" على "ثلاثة" وعطف "إذا" على "في الحج".
وفي قوله: {رَجَعْتُمْ} شيئان: أحدُهما التفاتٌ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبلَه "فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ" فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على "مَنْ"، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل: "إذا رجع" بضميرِ الغَيْبَةِ. وأمَّا الحملُ: فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى "منْ"، ولو راعى اللفظَ لأفردَ، فقال: "رَجَعَ".
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} مبتدأ وخبرٌ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به. وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ، وفي الحديث:"وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال"، وحكى الكسائي: "صُمْنَا من الشهرِ خمساً
(2/299)
---(1/720)
" وفي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني، منها قولُ ابن عرفة: "العرب إذا ذكرت عددين، فمذهبُهم أن يُجملوهما"، وحَسَّن هذا القولَ الزمخشري بأَنْ قال: "فائدةُ الفَذْلَكَةِ في كل حساب أن يُعْلَمَ العددُ جملةً كام يُعْلَمُ تفصيلاً، لِيُحْتَاط به من جهتين فيتأكَّد العِلمُ، وفي أمثالهم "علمان خيرٌ من علم". قال ابن عرفة: "وإنا تَفْعَلُ العربُ ذلك لأنَّها قليلةُ المعرفة بالحساب، وقد جاء: "لا نَحْسُب ولا نكتُب"، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم، قال النابغة:
876 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها * لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ
وقال الفرزدق:
877 - ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ * وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام
وقال الأعشى:
878 - ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي * وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ
فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي * وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ
وقال آخر:
879 - فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً * وأربعةً فذلك حِجَّتانِ
(2/300)
---(1/721)
وعن المبرد: "فتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ في الحج وسبعةٌ إذا [رجعتم] فَقَدَّم وأخَّر"، ومثله لا يَصِحُّ عنه. وقال ابن الباذش: "جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول: "زيدٌ رجل صالح" يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجل. وقال الزجاج "جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثلاثةً أو سبعةً؛ لأنَّ الووَ قد تقوم مَقامَ أو، ومنه: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} فأزال احتمالَ التخيير، وهذا إنما يتمشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُقيمون الواوَ مُقامَ أو. وقال الزمخشري: "الواوُ قد تجيء للإِباحةِ في قولِك: "جالس الحسنَ ابن سيرين" ألا ترى أنه لو جالَسَهما معاً أو أحدَهما كان ممتثلاُ فَفُذْلِكَتْ نفياً لِتَوَهُّم الإِباحة" قال الشيخ: "وفيه نظرٌ لأنه لا تُتَوَهَّمُ الإِباحه، فإنَّ السياق سياقُ إيجاب، فهو ينافي الإِباحة، ولا ينافي التخييرَ، فإن التخييرَ يكون في الواجبات، وقد ذكر النحويون الفرقَ بين التخييرِ والإِباحةِ".
قوله: {ذالِكَ لِمَن} "ذلك" مبتأٌ، والجارُّ بعدَه الخبرُ. وفي اللامِ قولان، أحدُهما: أنَّها على بابِها، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ. والثاني: أنها بمعنى على، كقولِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ}، ولا حاجةَ إلى هذا. و "مَنْ" يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً. و "حاضري" خبرُ "يكن" وحُذِفَت نونُه للإِضافة و "شديدُ العقاب" من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة غلى مرفوعها، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف.
(2/301)
---(1/722)
* { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ}: "الحَجُّ" مبتدأ و "أشهرٌ" خبرهُ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة، و "الحَجُّ" فِعْلٌ من الأفعال، و "أشهرٌ" زمانٌ، فهما غَيْران، فلا بُدَّ من تأويل، وفيه ثلاثةُ احتمالاتٍ، أحدُهما: أنه على حَذْف مضافٍ من الأول، تقديره: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ. الثاني: الحَذْفُ من الثاني تقديرُه: الحَجُّ حَجُّ أشهرٍ، فيكونُ حَذَفَ من كلِّ واحدٍ ما أَثْبَتَ نظيرَهُ. الثالث: ان تَجْعَلَ الحدثَ نفسَ الزمانِ مبالغةً، ووجهُ المجازِ كونُه حالاً فيه، فلما اتُّسِعَ في الظرفِ جُعِلَ نفسَ الحدثِ، ونظيرُها: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} وإذا كان ظرفُ الزمانِ نكرةً مُخْبَراً به عن حَدَثٍ جاز فيه الرفعُ والصنبُ مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظرفِ أم لا، هذا مذهبُ البصريين.
وأمَّا الكوفيون فقالوا: إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو: "الصومُ يومٌ" وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو: "ميعادُك يومُ" والفراءُ يجيز نصبَه مثلَ البصريين، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ "أشهر" يعني في الآية كتبُ النحويين. قال ابن عطية: "ومَنْ قَدَّر الكلامَ: [الحج] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبٌ الأشهر، ولم يقرأ به أحدٌ" قال الشيخ: "ولا يلزم ذلك، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي".
(2/302)
---(1/723)
قوله: {فَمَنْ}: "مَنْ" يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها، و "فيهن" متعلِّقٌ بـ"فَرَضَ"، والضميرُ في "فيهن" يعودُ على "أشهر"، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العالِ في القلَّةِ يُعامَل معاملةَ جمْعِ الإِناثِ على الأفصحِ، فلذلك جاء "فيهنَّ" دونَ "فيها"، وهذا بخلافِ قولِهِ {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} لأنه هناك جمعُ كثرة.
قوله: {فَلاَ رَفَثَ} الفاءُ: إمَّا جوابُ الشرطِ، وإمَّا زائدٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين "رفث" و "فُسوق" ورفعِهما وفتحِ "جدال"، والباقون بفتح الثلاثة، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ "لا" ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها. و "في الحجّ" خبرُ المبتدأ الثالث، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما، أو يكونُ "في الحج" خبرَ الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أَنْ يكونَ "في الحج" خبرَ الثلاثة. ولا يجوزُ أن يكونَ "في الحج" خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ.
والثاني: أن تكون "لا" عاملَةً عملَ ليس، ولعلِمها عملَها شروطٌ: تنكيرُ الاسم، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا يتنتقض النفيُ، فيكونُ "رفث" اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه، و "وفي الحجِّ" الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه. وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ "لا" عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً، أنشد سيبويه:
880 - مَنْ صَدَّ عن نيرانِها * فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ
وأنشد غيره:
(2/303)
---(1/724)
881 - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا * ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا
وقول الآخر:
882 - أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها * لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا
وأنشدَ ابنُ الشجري:
883 - وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً * سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا
والكلامُ في هذه الأبيات له موضعٌ غيرُ هذا.
وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها، تقديرُه: فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و "في الحجِّ" متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ، على أن المسألة من التنازعِ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين، وقد يمكنُ أن يُقَال: إن هذه "لا" هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله:
884 - ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً * .........................
وقد تقدَّم تحريرُ هذا المذهبِ.
(2/304)
---(1/725)
وأمَّا قراءةُ الفتحِ في الثلاثةِ فهي "لا" التي للتبرئةِ. وهل فتحةُ الاسمِ فتحةُ إعرابٍ أم بناءٍ؟ قولان، الثاني للجمهورِ. وإذا بُني معها فهل المجموعمنها ومن اسمِها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، وإن كَانَتْ عاملةً في الاسمِ النصبَ على الموضع ولا خبرَ لها؟ أو ليس المجموعُ في موضعِ مبتدأ، بل "لا" عاملةٌ في الاسمِ النصبَ على الموضعِ وما بعدها خبرٌ لـ"لا"، لأنها أُجْرِيَتْ مُجْرى "أنَّ" في نصبِ الاسمِ ورفعِ الخبر؟ قولان، الأولُ قولُ سيبويه، والثاني قولُ الأخفش. وعلى هذين المذهبين يترتَّب الخلافُ في قوله "في الحج" فعلى مذهبِ سيبويه يكونُ في موضعِ خبرِ المبتدأ، وعلى رأي الأخفش يكونُ في موضعِ خبرِ "لا"، وقد تقدَّم ذلك أولَ الكتابِ، وإنما أُعيدُ بعضَه تنبيهاً عليه.
وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث: فالرفعُ على ما تقدَّم، وكذلك الفتحُ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ: وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ "لا" وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ "في الحج" خبراً عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ. وأمَّا على مذهبِ الخفشِ فلا يجوز أن يكونَ "في الحج" إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً لـ"لا". ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له.
(2/305)
---(1/726)
وإنما قُرِىء كذلك، قال الزمخشري: "لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال، كأنه قيل: ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج" واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفثُ والفسوقُ دونَ الجدالِ بقولِه عليه السلام:"مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ" وأنه لم يَذْكُرِ الجدالَ. وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحبُ هذه القراءة، إلا أنه أفصحَ عن مرادِه، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفعُ بمعنى فلا يكونُ رفثٌ ولا فسوقٌ؛ أَيْ شيءٌ يَخْرُج من الحَجِّ، ثم ابتدأ النفيَ فقال: "ولا جدالَ"، فأبو عمرو لم يجعل النفيَيْن الأوَّلَيْن نهياً، بل تركهما على النفي الحقيقي؛ فمِنْ ثَمَّ كان في قولِه هذا نظرٌ؛ فإنَّ جملة النفيِ بلا التبرئةِ قد يرادُ بها لنهيُ أيضاً، وقيل ذلك في قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}. والذين يظهر في الجوابِ عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: "وقيل: الحُجَّةُ لمَنْ رفعهما أنَّ النفي فيهما ليس بعامٍّ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعضِ الناسِ بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامٌّ . . ." وهذا يتمشَّى على عُرْفِ النحويين فإنهم يقولون: لا العاملةُ عملَ "ليس" لنفي الوَحْدة، والعاملةُ عملَ "إنَّ" لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يُقال: لا رجلَ فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت، ولا يَحْسُن ذلك إذا بَنَيْتَ اسمَها أو نَصَبْتَ بها. وتوسَّط بعضُهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العمومِ، وتلك ليست نَصَّاً، والظاهرُ أنَّ النكرةَ في سياق النفي مطلقاً للعوم.
وقد تقدَّم معنى الرَّفَثِ والفِسْق.وقرأ عبد الله "الرَّفُوث" وهو مصدر بمعنى الرَّفث.
(2/306)
---(1/727)
وقوله: {فَلاَ رَفَثَ} وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت "مَنْ" شرطيةٌ، ورفع إن كانت موصولةً، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى "مَنْ"؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان، أحدُهما: أن تقدِّره بعد "جدال" تقديرُه: ولا جدالَ منه ويكون "منه" صفةً لـ"جدال"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم: "السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم" تقديره: منوانِ منه. ولثاني: أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج" تقديره: ولا جدالَ في الحجِّ منه، أو: له. ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "الحج". وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ / وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ، والأصلُ: في حَجِّه، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} ثم قال: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: مَأْواه.
وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله:
885 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * ........................
وكأنَّ نظمَ الكلام يقتضي: "فَمَنْ فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَث فيه"، وحَسَّنَ ذلك في الآيةِ الفصلُ بخلاف البيت.
والجِدال مصدر "جادَلَ". والجدالُ: أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة، وهي الأرض؛ كأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلَيْن يرمي صاحبه بالجَدالَةِ، قال الشاعر:
886 - قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ * وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
ومنه: "الأجْدل" الصقر، لشِدَّته. والجَدْلُ فَتْلُ الحَبْل، ومنه: زِمامٌ مجدولٌ أي مُحْكَمُ الفَتْلِ.
(2/307)
---(1/728)
قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهي: {مَا نَنسَخْ}، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا. قال أبو البقاء: "ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ "منْ خير" في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ".
و "يَعْلَمْه" جزمٌ على جوابِ الشرطِ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام: فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير، كأنه قيل: يُجازِكم، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي: فيثيبه عليه.
وفي قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ} التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه: "فَمَنْ فَرَض". وحُمِلَ على معنى "مَنْ" إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه.
وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال: "مِنْ خير" متعلقٌ بتَفْعلوا، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقدرُه: "وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير" والهاءُ في "يَعْلَمْه" تعودُ إلى "خير". وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ قبلَه كيف يَجْعَلُه نعت مصدرٍ محذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعود إلى "خير" يلزم منه خلوُّ جملةِ الجوابِ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ، وذلك لا يجوز أمَّا لو كانَتْ أداةُ الشرط حرفاً فلا يُشْترط فيه ذلك فالصوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرتُ لك هذا لئلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائدةٌ على "ما" التي هي اسمُ الشرط. وألفُ "الزاد" منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم: تَزَوَّدَ.
* { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }
(2/308)
---(1/729)
قوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ}: "أَنْ" في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ، في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ: إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهما، وإمَّا بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ لـ"جُناح"، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي: جناحٌ كائنٌ في كذا. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ بـ"ليس"، واستضعفه، ولا ينبغي ذلك، بل يُحْكَُ بتخطئتِه البتة.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا، وأن يكونَ صفةً لـ"فضلاً"، فيكونُ منصوبَ المحل، متعلقاً بمحذوفٍ. و "مِنْ" في الوجهين لابتداءِ الغاية، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي: فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم.
قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم} العاملُ فيها جوابُها وهو "فاذكروا" قال أبو البقاء. "ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ". وقد منع الشيخ مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة.
قوله: {مِّنْ عَرَفَاتٍ} متعلِّقٌ بـ"أَفَضْتُم" والإِفاضةُ في الأصل: الصبُّ، يقال: فاضَ الماء وأَفَضْتُه، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً. والهمزة في "أَفَضْتُم" فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري، وقَدَّره الزجاج فقال: "معناه: دَفَع بعضُكم بعضاً". والثاني: أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به. قال الشيخ: "لأنه لا يُحفظ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة.
(2/309)
---(1/730)
وأصل أَفَضْتُم: أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ ذلك، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ.
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما: أنه مرتجلٌ وإليه ذهب لزمخشري قال: "لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عرف". والثاني: أنه مشتقٌّ، واختُلِفَ في اشتقاقه، فقيل: من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال: عَرَفْتُ عَرَفْتُ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء. وقيل: مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة، وقيل: من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد. وقيل: عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال، أظهرُها: أنه تنوينُ مقابلةٍ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع / الذكور، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب. والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: "فإن قلت: فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان: التعريفُ والتأنيثُ. قلت: لا يخلو التأنيثُ: إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها، لأنَّ [هذه] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها(1/731)
(2/310)
---
بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها" فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ. والثالث: أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعق مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات.
والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين: الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً، وفيه لغة ثانية: وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً وإعرابُه بالكسرةِ نصباً. والثالثة: إعرابُه غيرض منصرف بالفتحة جراَ، وحكاها الكوفيون والأخفش، وأنشدَ قول امرىء القيس:
887 - تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها * بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي
بالفتح.
قوله: {عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بذاكروا. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ "اذكروا" أي: اذكروه كائنين عند المشعِر.
قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة، وهذا تقدير الزمخشري. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ، وهو مذهبُ سيبويه. والثالث: أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجلِ هدايته إياكم، حكى سيبويه "كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه". ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ.
و "ما" في "كما" يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ مصدريةً، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ، أي: كهدايته. والثاني: - وبه قال الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله:
888 - ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه * كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ
وقال آخر:
889 - لعمرك إنني وأبا حميدٍ * كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ
(2/311)
---(1/732)
أريد هجاءَه وأخاف ربي * وأعلم أنه عبدٌ لئيم
وقد منع صاحبُ "المستوفى" كونَ "ما" كافةً للكافِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم.
والرابع: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل "اذكروا" تقديرُه: مُشْبِهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء: "ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ. والخامس: أن تَكونَ الكافُ بمعنى "على" كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}: "إنْ" هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ، وجازَ دخولُ "إنْ" على الفعل لأنه ناسخٌ. وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ "إنَّ" أو لامٌ أخرى غيرُها، اجتُلِبَتْ للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فالفراءُ يزعم أنها بمعنى "إنْ" النافية واللامُ بمعنى إلاَّ أي: ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ: بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ "إنْ" بمعنى قد، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ الفراء، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال.
و "من قبله" متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه "لمن الضالين"، تقديرُه: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين. ولا يتلعَّق بالضالِّين بعده، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في "قبله" عائدةٌ على "الهدى" المفهومِ من قوله "كما هداكم.
* { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(2/312)
---(1/733)
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ} استشكل الناسُ مجيءَ "ثم" هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلة وسائرُ الناسِ بعرفة، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ أجوبةٌ: أحدُها: أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ. والثاني: أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه: {واتقوني يا أولي} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ "ثم" بمعنى الواو، وقد قال به بعضُ النحويين، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الاول. الرابع: أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جَمْعٍ إلى مُنى، والمخاطبون بها جميعُ الناس، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا فـ"ثم" على بابها، ثال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف موقعُ "ثم"؟ قلت: نحوُ موقِعها في قولك: "أحْسِنَ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم" تأتي بـ"ثم" لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينما، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال: "ثم أفيضوا" لتفواتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ". قال الشيخ: "وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن "ثم" تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ / والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء "ثم" لتفاوتِ ما بينها، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم". وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين. وسيأتي له نظائرُ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل.
(2/313)
---(1/734)
و "من حيث" متعلِّقٌ بأَفيضوا، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، و "حيث" هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ، وقال القفال: "هي هنا لزمانِ الإِفاضة" وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش، وتقدَّم دليلُه، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء "ثم" هنا، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه.
و "أفاض الناسُ" في محلِّ جرٍّ بإضافة "حيثُ" إليها. والجمهورُ على رفعِ السين من "الناسُ". وقرأ سعيد بن جبير: "الناسي" وفيها تأويلان، أحدها: أنه يُراد به آدمُ عليه السلام، وأيَّدوه بقوله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. والثاني: أن يُراد به التاركُ للوقوف بمزدلفة، وهم جَمْعُ الناس، فيكون المرادُ بالناسي حنسَ الناسين. قال ابن عطية: "ويجوزُ عند بعضِهم حذفُ الياءِ، فيقول: "الناس كالقاضِ والهادِ" قال: أمّا جوازُه في العربية فذكره سيبويه، وأمّا جوازُه قراءَةً فلا أحفظه". قال الشيخ: "لم يُجِزْ سيبويه ذلك إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلامِ، وأمّا قوله: "لم أحفظْه" قد حَفِظَه غيرُه، حكاها المهدوي قراءةً عن سِعيد بن جبير أيضاً.
قوله: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} "استغفر" يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه، والثاني "بـ"مِنْ"، نحو: استغفرتُ الله من ذنبي، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه:
890 - أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه * ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
(2/314)
---(1/735)
هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس. وقال ابن الطراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً، وإنما يتعدَّى بـ"من" لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده "استغفرت الله من كذا" بمعنى تُبْت إليه من كذا، ولم يَجِىءْ "استغفر" في القرآن متعدِّياً إلاَّ للأولِ فقط، فأمَّا قولُه تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ}{فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ لا لامُ التعديةِ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به. وأمّا "غَفَر" فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}، وحُذِف أخرى: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ}. والسين في "استغفر" للطلبِ على بابها. والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به، أي: مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم.
* { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }
(2/315)
---(1/736)
قوله تعالى: {مَّنَاسِكَكُمْ}: جمعُ "مَنْسَك" بفتحِ السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُهما، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً. القُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً "مناسككم" ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو: {جِبَاهُهُمْ} و {وُجُوهُهُمْ} قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ} إلاَّ في كونِها بمعنى "على" أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ "آباءكم" مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: "آباؤكم" رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهُجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: "أباكم" بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري "أباك" ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.
قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في "أشد" أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على "ذكِركم" المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية.
والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: "أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه: "كذكركم" كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً" وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ "أشد" من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.
(2/316)
---(1/737)
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على "آباءكم" قال الزمخشري، فإنه قال: "بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن "ذِكْراً" من فشعْلِ المذكور" وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه: "هو معطوفٌ على آباءكم" معناه أنك إذا عَطَفْتَ "أشدّ" على "آباءكم" كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد "أشدَّ" هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد "أَفْعَلَ" الذي هو صفةٌ / للقومِ، ومعنى "من آبائِكم" أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في "كذكركم" لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني.
الثالث: قاله مكي: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ، قال: "تقديرُه: فاذكروه ذكراً أسد من ذكركم لآبائكم، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكروه بالغين في الذِّكْر.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون، قال أبو البقاء: "وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: "فاذكروا الله" أي: كونوا ذاكِريه، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز" يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه.
الخامس: أن يكون "أشدَّ" نصباً على الحال من "ذِكْراً" لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له، كقوله:
891 - لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ * يَلُوح كأنه خِلَلُ
(2/317)
---(1/738)
"موحشاً" حالٌ من "طلل"،لأنه في الأصلِ صفةٌ، فلام قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً فَجُعِلَ حالاً، قاله الشيخ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثةَ أوجه لنصبه ووجهين لجِرّه: "فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفة، والذي يتبادر إلى الذهنِ في الآية أنهم أُمروا بأَنْ يَذْكُروا الله ذكراً يُماثل ذكرَ آبائِهم أو أشدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية عليه بوجهٍ، ذُهلوا عنه"، فَذَكَر ما قتدم. ثم جَوَّز في "ذِكْراً" والحالةُ هذه وجهين، أَحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في "كذكركم". ثم اعترض على نفسِه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف وهو "أو" وبين المعطوف وهو "ذِكْراً" بالحال "وهو" أشدَّ"، وقد نصَّ النحيوين [على] أن الفصلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطين، أحدُهُما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد. والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً أو ظرفاً أو جاراً، وأحدُ الشرطين موجودٌ وهو الزيادة على حرفٍ والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدمة. ثم أجابَ بأن الحالَ مقدرةٌ بحرفِ الجر وشَبَّه بالظرفِ فَأُجْرِيَت مُجْرَاها.
والثاني: من الوجهين في "ذِكْراً" أن يكونَ مصدراً لقوله: "فاذكروا" ويكون قولُه: "كذكركم" في محلِّ نصبٍ على الحال من "ذِكْراً" لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال، ويكون "أشدَّ" عطفاً على هذه الحالِ، وتقديرُ الكلام: فاذكروا الله ذكراً كذكركم، أي: مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ، فيصيرُ نظيرَ: "اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد" الأصل: اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ.
(2/318)
---(1/739)
و "ذِكْراً" تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو: "وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ"، "وعِلْمُهُ أكثرُ علم" وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو: "زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً". إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه: "ذِكْراً" هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ: "اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ" بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في "أشدَّ" من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم: "شِعْرٌ شاعرٌ" كما قال به الفارسي وصاحبُه، أو يُجْعَلَ "أشدَّ" من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري، أو يُجْعَلَ "أشدَّ" حالاً من "ذِكْراً" أو ننصبَه بفعلٍ. وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل. وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب. و "أو" هنا قيل للإباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بل.
قوله: {مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا} "مَنْ" مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفة. وفي هذا الكلام التفاتٌ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل: "فمنكم"، وحُمِل على معنى "مَنْ" إذ جاء جَمْعاً في قوله: "ربَّنا آتِنا"، ولو حُمِل على لفظِها لقال "ربِّ آنني".
وفي مفعول "آتِنا الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً، لأنه من باب "أعطى"، أي: آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا. والثاني: أن "في" بمعنى "مِنْ" أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدةُ، أي: آتِنا الدنيا، وليسا بشيء.
(2/319)
---(1/740)
* { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: يجوز في الجار وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بآتِنا كالذي قبله. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من "حسنةً" لانه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً.
قوله: {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين. فـ"في الآخرة" عطفٌ على "في الدنيا" بإعادةِ العاملِ. و "حسنةً" عطفٌ على "حسنةٍ". والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ. تقول: "أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً" اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية وتفصيلٌ كثيرٌ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله تعالى. وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ / بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: "أكرمت زيداً وعندك عمراً". وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ [بِالْعَدْلِ]} وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وقوله: "قِنا" ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية. أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ فكذلك الأمرُ منه، فوزن "قِنا" حينئذ: عِنا، والأصل: اوْقِنا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغْنِي عن همزةِ الوصلِ(1/741)
(2/320)
---
فَحُذِفَتْ. و "عذاب" مفعولٌ ثانٍ.
* { أُولَائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {أُولَائِكَ}: مبتدأ و "لهم" خبرٌ مقدم، و "نصيب" مبتدأ، وهذه الجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ "لهم" خبرَ "أولئك"، و "نصيب" فاعلٌ به لِما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه بأولئك فيه قولان، أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة. وقيل: بل للفريقِ الأخيرِ فقط، أعنى طالبَ الدنيا والآخرة.
قوله: {مِّمَّا كَسَبُواْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"نصيب"، فهو في محلِّ رفعٍ. وفي "مِنْ" ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا. والثاني: أنها للسببيةِ، أي: من أجلِ ما كَسَبوا. والثالث: أنها للبيان. و "ما" يجوزُ فيها وجهان، أن تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَسْبِهم، فلا تحتاجُ إلى عائدٍ. والثاني: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروط، أي: من الذي كسبوه.
* { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِيا أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
(2/321)
---(1/742)
قوله تعالى: {مَّعْدُودَاتٍ}: صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ. وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب، أما السؤالُ فقال: إنْ قيل "الأيام" واحدُها "يوم" و "المعدودات" واحدتُها "معدودةٌ"، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر، وإنما الوجهُ أن يقالَ: "أيامٌ معدودةٌ" فَتَصِفُ الجمع والموصوفُ مذكَّر، وإنما الوجهُ أن يقالَ: "أيامٌ معدودة" فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ، فالجوابُ أنه أَجْرى "معدودات" على لفظ أيام، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً، والأصلُ معدودة، كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}، ولو قيل: إن الأيام تَشْمل على الساعات، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها لكانَ جواباً سديداً. ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنَها يُجاب بها عن كم، [وكم] إنما يجابُ عنها بالعدد، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودا فكانت جواباً من هذا الوجهِ" وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ، وقولُه "مفرد معدودات معدودة بالتأنيث" ممنوعٌ بل مفردُهَا "معدود" بالتذكير، ولاَ يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لاَ يسْتْدعي تأنيثَ المفرد، ألا ترى إلى قولِهم: حَمَّامات وسِجِلاَّت وسُرادِقات.
(2/322)
---(1/743)
قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} "مَنْ" يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً، فـ"تَعَجَّل" في محلِّ جزمٍ، والفاءُ في قولِه: "فلا" جوابُ الشرط، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب. والثاني: أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه. والفاءُ في "فلا" زائدةُ في الخبرِ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ. و "في يومين" متعلق بتَعجَّل، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه، تقولُ: "سِرْت يومين" لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجهُ المجاز: إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في أحدهما واقعاً فيها كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}، والناسي أحدهما، وكذلك المُخْرَجُ من أحدِهما، وإمَّا من حيث حَذْفُ مضافٍ أي: في تمامِ يومين أو كمالِهما.
و "تعجَّل" يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ، كتكبَّر واستكبر، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر، أو بمعنى المجرد، وهو عَجِل، قال الزمخشري: "والمطاوعة أوفق، لقوله: "ومَنْ تأخَّر"، كما هي كذلك في قوله:
892 - قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه * وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ
لأجلِ قولِه "المتأني". وتعجَّل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين، ومتعلَّقُ التعجيلِ محذوفٌ، فيجوزُ أن تقدِّرَه مفعولاً صريحاً أي: من تعجَّل النَّفْر، وأن تقدِّرَه مجروراً أي: بالنفر، حَسَبَ استعمالِه لازماً ومتعدياً.
(2/323)
---(1/744)
وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ: الطباقُ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في "تعجَّل وتأخر" فهو كقوله: {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وهذا طباقٌ غريب، من حيث جَعَل ضدَّ "تَعَجَّل": "تأخَّر"، وإنما ضدُّ "تعجَّل": "تأنَّى" وضدُّ تأخَّر: تقدَّم، ولكنه في "تعجَّل" عَبَّر بالملزوم عن اللازم، وفي "تاخَّر" باللازم عن الملزومِ. وفيها من علم البيان: المقابلةُ اللفظية، وذلك أن المتأخِّرَ بالنَّفْر آتٍ بزيادة في العبادة فله زيادةٌ في الأجر على المتعجِّل فقال في حقه أيضاً: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ليقابلَ قولَه أولاً: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهو كقولِهِ: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} و {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ} وقرأ الجمهور {فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله: "فلا اثمَ" بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألفُ لا وثاء "أثم"، فَحُذِفت ألفُ "لا" لالتقاءِ الساكنين. وقال أبو البقاء: "ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ اتلاسمَ بـ"لا" حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف" يعني أنه لمّضا رُكِّبت "لا" مع اسمها صارا كالشيء الواحد، والهمزةُ شبيةُ الألف، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك.
(2/324)
---(1/745)
قوله: {لِمَنِ اتَّقَى} / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل: يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه: {فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي: انتقاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى. وقيل: متعلِّقٌ بقولِه: "واذكروا" أي: الذكرُ لمَنِ اتقى. وقيل: متعلِّق بقولِه: "غفورٌ رحيم" أي: المغفرة لمن اتقى. وقيل: التقديرُ: السلامة لمن اتقى. وقيل: التقديرُ: ذلك التخييرُ وَنفْيُ الإِثم عن المستعجلِ والمتأخرِ لأجلِ الحاجِّ المتَّقي، لئلا يتخالجَ في قلبِه شيءٌ منهما فيحسَبَ أنَّ أحدَهما يُرهِقُ صاحبَه إثماً في الإِقدامِ عليه، لأنَّ ذا التقوى حَذِرٌ متحرزٌ من كلِّ ما يُريبه. وقيل: التقديرُ: ذلكَ الذي مَرَّ ذكرهُ من أحكام الحج وغيرهِ لِمَنِ اتقى، لأنه هو المنتفعُ به دونمَنْ سِواه، كقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}. قال هذين التقديرين الزمخشري. وقال أبو البقاء: "تقديرُه: جوازُ التعجيل والتأخير لمن اتقى". وكلُّها أقوالٌ متقاربة. ويجوز أن يكونَ "لمَن اتقى" في محلِّ نصب على أن اللامَ لامُ التعليل، وتيعلَّقُ بقولِه {فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: انتقى الإِثمُ لأجلٍ المتَّقي، ومفعولُ: اتَّقى" محذوفٌ، أي: اتَّقى اللهَ، وقد جاءَ مصرَّحاً به في مصحفِ عبدِ الله وقيل: اتقى الصيدَ.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
(2/325)
---(1/746)
قولُه تعالى: {مَن يُعْجِبُكَ}: "مَنْ" يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرُها أول السورة فيُنْظر هناك. والإِعجاب: استحسان الشيء والميلُ إليه والتعظيمُ له. والهمزةُ فيه للتعدي. وقال الراغب: "العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإِنسان [عند الجهل] بسبب الشيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةٌ. بل هو بحسَبِ الإِضافات إلى مَنْ يَعْرِف السبب ومَنْ لا يعرفه، وحقيقةُ أعجبني كذا: ظَهَر لي ظهوراً لم أَعْرِفْ سبَبه". انتهى. ويقال: عَجِبْتُ من كذا، قال:
893 - عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ * مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ
قوله: {فِي الْحَيَاةِ} في وجهانِ، أحدهُما أن يتعلَّقَ بـ"قوله"، أي: يعجِبُك ما يقولُه في معنى الدنيا، لأنَّ ادِّعاءَه المحبةَ بالباطلِ يَطْلُب حظاً من الدنيا. والثاني: أن يتعلَّقَ بـ"يعجِبُك" أي: قولُه حلوٌ فصيحٌ في الدنيا فهو يعجبُك ولا يعجبُك في الآخرة، لِمَا يُرْهِقُه في الموقف من الحَبْسَة واللُّكْنة، أو لأنه لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ. قال الشيخ: "والذي يظهرُ أن متعلق بيعجُبك، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحْسِنُ مقالتَه دائماً في مدةِ حياته إذ لا يَصْدُرُ منه من القولِ إلا ما هو معجِبٌ رائقٌ لطيفٌ، فمقالتُه في الظاهرِ مُعْجِبَةٌ دائماً، لا تراه يَعْدِل عن تلك المقالةِ الحسنةِ الرائعة إلى مقالةٍ خَشِنَةٍ منافيةٍ".
(2/326)
---(1/747)
قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على "يُعْجِبَك"، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في "مَنْ". والثاني: أن تكونَ حاليةً، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان، أحدهُما: أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في "يعجبك"، والثاني: أنه الضميرُ المجرُور في "قوله" تقديرُه: يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا، مُقْسِماً على ذلك. وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين، أحدهُما: من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعة، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ. وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ، نحو: "قُمْتُ وأصُكُّ عينه، أو ضرورةً نحو:
894 - ....................... * نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا
وتقديرُه مبتدأً قبلَه على خلافِ الأصلِ، أي: وهو يُشْهِدُ.
والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً، وقرأ أُبيّ: "يستشهد الله". فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى: يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان، قيل: فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي: يُقْسِمُ بالله، وهذا سهوٌ من قائِله، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم "شَهِد" الثلاثي لا "أَشْهَد" الرباعي، لا تقولُ: أُشْهِد بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءةِ الجمهور: يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه
(2/327)
---(1/748)
وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى، تقديرُه: وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ، وهو لا يَحْلِفُ عليه، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها: وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيّ فيَحْتمل استَفْعَل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى أَفْعل فيوافِقَ قراءةَ الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرد وهو شَهِد، وتكونُ الجلالةُ منصوبةً على إسقاطِ الخافضِ.
قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الكلامُ في هذه الجملةِ كالتي قبلَها، ونزيد عليها وجهاً آخرَ وهو أن تكونَ حالاً من الضميرِ في "يُشْهِدُ". والأَلَدُّ: الشديدُ من اللَّدَدِ وهو شدةُ الخصومةِ، قال:
895 - إنَّ تحتَ الترابَ عَزْماً وحَزْما * وخَصيماً أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ
ويقال: لَدِدْتُ بكسر العين ألَدُّ بفتحهِا، ولَدَدْتُه بفتح العَيْن ألُدُّ بضمها أي: غَلَبْتُه في ذلك فيكونُ متعدياً قال:
896 - تَلُدُّ أقرانَ الرجالِ اللَّدَدِ * .......................
ورجلٌ أَلَدُّ وأَلَنْدَدٌ وَيَلَنْدَدٌ، وامرأةٌ لَدَّاءٌ، الجمعُ لُدٌّ كحُمْر.
وفي اشتقاقهِ أقوالٌ، أحدُها: من لُدَيْدَي العُنُق وهما صَفْحتاه قاله الزجاج، وقيل: مَن لُدَيْدَي الوادي وهما جانباه، سُمِّيا بذلك لاعوجاجهما وقيل: هو مِنْ لدَّه إذا حَبَسه فكأنه يَحْبِسُ خصمَه عن مفاوضِته.
(2/328)
---(1/749)
وفي "الخصامِ" قولان، أحدُهما: أنه جَمْعُ خَصْم / بالفتح نحو: كَعْب وكِعاب وكَلْب وكِلاَب وبَحْر وبِحار، وعلى هذا فلا تَحْتاج إلى تأويلِ، والثاني: أنه مصدرٌ، يقال: خاصَمَ خِصاماً نحو: قاتَل قِتالاً، وعلى هذا فلا بد من مُصَحِّحٍ لوقوعِه خبراً عن الجثة، فقيل: في الكلام حذفٌ من الأولِ أي: وخصامُه أشدُّ الخصامِ، وقيل: من الثاني: أي وهو أشدُّ ذو الخصام، وقيل: [أُريد] بالمصدر اسمُ الفاعلِ كما يُوصَفُ به في قولِهم: رجلٌ عَدْلٌ. وقيل: "أفْعَلُ" هنا ليسَتْ للتفضيلِ، بل هي بمعنى لَديدُ الخِصام، فهو من بابِ إضافةِ الصفةِ المشبهةِ. وقال الزخشري: "والخِصامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى "في" كقولشهم: "ثَبْتُ الغَدْر" يعني أن "أَفْعَل" ليس من بابِ ما أُضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافةٌ على معنى "في" قال الشيخ: "وهذا مخالِفٌ لِما يَزْعمه النحاةُ من أن أَفْعَل لا تُضاف إلا إلى ما هي بعضُه، وفيه إثباتُ الإِضافةِ بمعنى "في" وهو قولٌ مرجوحٌ. وقيل: "هو" ليس ضميرَ "مَنْ" بل ضميرُ الخصومة يفسِّرهُ سياقُ الكلامِ، أي: وخصامُه أشدُّ الخصام. وجعل أبو البقاء "هو" ضميرَ المصدر الذي هو "قوله" فإنه قال: "وَيجوزُ أن يكونَ "هو" ضميرَ المصدرِ الذي هو "قولُه" وقوله خِصام".
* { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى}: "سَعَى" جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو "يُعْجِبُكَ" فتكون: إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في "مَنْ"، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ: "ألدُّ الخصام".
(2/329)
---(1/750)
والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وقال امرؤُ القيس:
897 - فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ * كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ * وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي
وقال آخر:
898 - أسعى على حَيِّ بني مالِكِ * كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي
والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ، قال:
899 - ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا * سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
قوله: {فِي الأَرْضِ} "متعلِّقٌ بـ"سَعَىَ"، فإنْ قيل: معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل: لأنه يُفيدُ العمومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ خَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ، و "ليفسِدَ" متعلقٌ بـ"سعى" علةً له.
(2/330)
---(1/751)
قوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} الجمهورُ على: "يُهْلِكَ" بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ. "الحَرْثَ" مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى: {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} فإنَّ قولَه: "ليفسدَ" يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما بالذكر لذلك. وقرأ أُبيّ: "وليُهْلِكَ" لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو - "وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ" بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي، و"الحرث" فاعل، و "النسلُ" عطفٌ عليه. وقرأ قوم: "ويُهْلِكُ الحرثَ" من أَهْلَكَ، و "الحرث" مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ. وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ: أن تكونَ عطفاً على "يُعْجِبُك" أو على "سَعَى" لأنه في معنى المستقبل، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أيك وهو يُهْلِكُ، أو على الاستئنافِ. وقرأ الحسن: "ويُهْلَكَ" مبنياً للمفعول، "الحَرْثُ" رفعاً، وقرأ أيضاً: "ويَهَلَكُ" بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ، "الحرثُ" رفعاً على الفاعلية، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتحِ فيهما. و "ألحَرثُ" تقدَّم.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه: "نُسالُ الطائر" ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس:
900 - وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ * فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} يحتمِلُ المعنيين. و "الحرثَ والنسلَ" وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به.
(2/331)
---(1/752)
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ}: هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على "يُعْجِبُك" وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ} ما لذي قام مقام الفاعلِ؟ وخلافُ الناسِ فيه.
قوله: "بالإِثمِ" في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال: "أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه" قال الشيخ: "وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، {[وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ] بِسَمْعِهِمْ}، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: "صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ" أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله:
901 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ * فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث: أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من "العزَّةُ" أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكنَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ.
(2/332)
---(1/753)
وفي قوله "العزَّةُ بالإِثم" التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}{ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل: "بالإِثم" تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} "حَسْبُهُ" مبتأ و "جهنَّمُ" خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: "جهنَّمُ" فاعلٌ بـ"حَسْب"، ثم اختلف القائلُ بذلك في "حَسْب" فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ / أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ "حَسْب" لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل "حَسْب" اسمُ فعلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ: فقيل: اسمُ [فعلٍ] ماضٍ، أي: كفاهم، وقيل فعلُ أمرٍ أي: لِيَكْفِهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن "حَسْب" هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ، تقولُ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء.
(2/333)
---(1/754)
و "جهنَّمُ" اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها "فَعَتَّل" مشتقةٌ من "رَكِيَّةٌ جَهْنام" أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، قال: لأن "فعنَّلاً" مفقودٌ في كلامِهم، وجعل "زَوْنَكاً" فَعَلَّلاً أيضاً، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظ، قالوا: "ضَغَنَّط" من الضَّغاطة وهي الضخامة، و "سَفَنَّج" و "هَجَنَّف" للظَّلِيم، والزَّوْنَك: القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي: يَتَبَخْتَرُ، قال حسان:
902 - أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى * في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ
وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في "زَوْنَكَ" وعلى هذا فامتناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
"ولَبِئْسَ المِهادُ" المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ "المِهاد" وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على "بئس" وخلافِ الناسِ فيها. وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً.
(2/334)
---(1/755)
والمِهَادُ فيه قولان، أحدثهما: أنه جَمْعُ "مَهْد" وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جَعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ:
903 - وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ * تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }
قوله تعالى: {مَن يَشْرِي}: في "مَنْ" الوجهانِ المتقدِّمان في "مَنْ" الأولى، ومعنى يَشْري: يَبيع، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة، وقال:
904 - وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني * من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فالمعنى: يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه.
قوله: {ابْتِغَآءَ} منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله. والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَة، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين. و "مرضاة" مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو: مَغْزَى ومَرْمَى
ووقَفَ حمزة عليها بالتاء، وذلك لوجهين: أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي: وأنشدوا:
905 - دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ * بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ
وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه. والثاني: أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها. وقد أمالَ الكسائي وورش "مَرْضات".
(2/335)(1/756)
---
وفي قولِهِ: {بِالْعِبَادِ} خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ، إذ كان الأصلُ "رؤوف به" أو "بهم"، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ "العباد" يُؤْذِنُ بالتشريفِ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
قولُه تعالى: {السِّلْمِ}: قرأ هنا "السَّلْم" بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير، والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم، واليت في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً، وسيأتي. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وحَكَوْا: "بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ"، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:
906 - دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا * رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
يُنْشَد بالكسر، وقال آخر في المفتوح:
907 - شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها * فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء "السَّلَم" بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ.
(2/336)
---(1/757)
قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في "ادخُلوا" والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: "قام القومُ كافةً" بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه "السِّلْم"، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: "ويَجُوزُ أن تكونَ "كافةً" حالاً من "السِّلْمِ" لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ، قال الشاعر:
908 - السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به * والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال الشيخ: "تعليلُه كونُ "كافةً" حالاً من "السِّلم" بقولِه: "لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب" ليس بشيء / لأنَّ التاءَ في "كافة" ليست للتأنيثِ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى جميع وكل، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت: "قامَ الناسُ كافً وقاطبةً" لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث، كما لا يَدُلُّ عليه "كُلّ" و "جميع".
والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ "ادخُلُوا" و "السِّلْم" فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال: "وتَسْتَغْرِفُ" "كافة" حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}. ثم قال بعد كلامٍ: "وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها".
(2/337)
---(1/758)
وقوله: "نحو قوله: تَحْمِلُه" يعني أنَّ "تَحْمِلُهُ" حالٌ من فاعل "أَتَتْ" ومِنَ الهاء في "بِهِ". قال الشيخ: "هذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ "تَحْمِلُهُ" لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُها، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو:
909 - وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ * ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا * إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البُهْمُ
فصغيرَيْنِ حالٌ من فاعل "عُلِّقْتُ" ومن "سلمى" لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صغيران [لَصَحَّ]، ومثلُه قولُ امرىءِ القيس:
910 - خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا * على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنمشي حالٌ من فاعل "خَرَجْتُ" ومن "ها" في "بها"، لأنَّك لو قلت: "أنا وهي نمشي" لصَحَّ، ولذلك أَعْب المُعْرِبون "نَمْشِي" حالاً منهما كما تَقَدَّم، و "تَجُرُّ" حالاً من "ها" في "بها" فقط، لأنه لا يصلح أن تجعل "تَجُرُّ" خبراً عنهما، لو قلت: "أنا وهي تَجَرُّ" لم يَصِحَّ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو "جارَّة" وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثنين لم يَصِحَّ فكذلك "تحمله" لا يَصْلُح أن يكونَ خبراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أن يكونَ حالاً منهما، وأمَّا "كافة" فإنها بمعنى "جميع"، و "جميع" يَصحُّ فيها ذلك، لا يُقال: فلذلك لا تقع حالاً على ما قَرَّرتُ؛ لأنَّ ذلك إنما هو بسبب التزام نصب "كافةً" على الحال، وأنها لا تتصرَّف لا من مانعِ معنوي، بدليلِ أنَّ مرادفها وهو "جميع" و "كل" يُخْبَرُ به، فالعارضُ المانِعُ لـ"كافَّة" من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقوله: "الجماعة التي تَكُفُّ مخالِفيها" يعني أنَّها في الأصلِ كذلك، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكُل".
(2/338)
---(1/759)
واعلَمْ أنَّ أصلَ "كافة" اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع، ومنه: "كَفُّ الإِنسان"، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و "كِفّة الميزان" لجمعِها الموزون، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ، وبالكسر لكلِّ مستدير. وقيل: "كافة" مصدرٌ كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزِم نصبُهما على الحالِ فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.
* { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
والجمهورُ على {زَلَلْتُمْ}: بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسرِ، وهما لغتان كضَلَلْتُ وضَلِلْتُ. و "ما" في "مِنْ بعدِما" مصدريَّةٌ، و "مِنْ" لابتداء الغايةِ، وهي متعلِّقَةٌ بـ"زَللْتُم".
* { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }
قولُه تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ}: "هل" لفظُهُ استفهامٌ والمرادُ به النفيُ كقوله:
911 - وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ * وإنْ تَرْشُدْ عُزَيَّةُ أَرْشُدِ
أي: ما ينظُرون، وما أنا، ولذلك وقَعَ بعدها "إلاَّ" كما تَقَعُ بعد "ما".
و "يَنْظُرون" هنا بمعنى يَنْتَظِرون، وهو مُعَدَّىً بنفسِه، قال امرؤ القيس:
912 - فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً * من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ
(2/339)
---(1/760)
وليس المرادُ هنا بالنظرِ تَرَدُّدَ العينِ، لأنَّ المعنى ليس عليه. واستدّلَّ بعضُهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بإلى، ويُضافُ إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسِه، وليسَ مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجهِ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فيكونُ بمعنى الانتظار. وهذا ليس بشيءٍ. أمَّا قولُه: "إنَّ الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى فمُسَلَّم، قوله: "وهو هنا متعدٍّ بنفسه" ممنوعٌ، إذ يُحتمل أن يكونَ حرفُ الجر وهو "إلى" محذوفاً، لأنه يَطَّرِدُ حَذْفُه مع "أَنْ"، إذ لم يكن لَبْسٌ، وأمَّا قولُه: "يُضافُ إلى الوجهِ" فممنوعٌ أيضاً، إّ قد جاء مضافاً للذاتِ. قال تعالى: {أَرِنِيا أَنظُرْ إِلَيْكَ}{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ}. والضميرُ في "ينظرون عائدٌ على المخاطبين بقولِه: "زَلَلْتُم" فهو التنفاتٌ.
قولُه: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعولُ "ينظرون" وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
قوله: {فِي ظُلَلٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّق بيأتِيَهم، والمعنى: يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: هو مفعولُ يأتيهم، أي: في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ. والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم، أي: أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل. الثالث: أن تكونَ "في" بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ، أي: أَنْ يأتيهم بظُلَل. ومِنْ مجيءِ "في" بمعنى الباءِ قوله:
913 - ................. * خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ
لأنَّ "خبيرين" إنَّما يتعدَّى بالباءِ كقوله:
914 - ................ * خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ
(2/340)
---(1/761)
الرابع: أن يكونَ حالاً من "الملائكة" مقدَّماً عليها، والأصل: إلاَّ أَنْ يأتيَهم اللهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ، ويؤيَّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا أيضاً يَقِلُّ المجازُ، فإنَّه والحالةُ هذه لم يُسْنَدْ إلى اللهِ تعالى إلا الإِتيانُ فقط بالمجازِ المتقدِّم.
وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ: في ظلالٍ، وفيها وجهان، أَحدُهما: أَنَّها جمع ظِلّ نحو: صِلّ وصِلال. والثاني: أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال، وخُلَّة وخِلال، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة.
قوله: {مِّنَ الْغَمَامِ} فيه وجهانِ، أنه متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لـ"ظُلَل" التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام. و "مِنْ" على هذا للتبعيضِ.
والثاني: أنها متعلقةٌ بـ"يأتيهم"، وهي على هذا لابتداءِ الغاية، / أي: من ناحيةِ الغمام.
والجمهور: "الملائكةُ" رفعاً عطفاً على اسم "الله". وقرأ الحسن وأبو جعفر: "والملائكةِ" جراً وفيه وجهان، أحدُهما: الجر عطفاً على "ظُلُلٍ"، أي: إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني: الجر عطفاً على "الغمام" أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه.
(2/341)
---(1/762)
قوله: {وَقُضِيَ الأُمُورُ} الجمهور على "قُضِيَ" فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على "يَأْتِيهم" وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل، والأصل، ويُقْضى الأمر، وإنما جِيء به كذلك لأنه محققٌ كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. والثاني: أن يكونَ جملةً مستأنفةً برأسِها، أَخْبر الله تعالى بأنه قد فَرَغَ من أمرهم، فهو من عطفِ الجملِ وليس داخلاً في حَيِّز الانتظار، وقرأ معاذ ابن جبل "وقضاء الأمر" قال الزمخشري: "على المصدرِ المرفوع عطفاً على الملائكة". وقال غيرُه: بالمدِّ والخفض عطفاً على "الملائكة" قيل: "وتكون على هذا "في" بمعنى الباء" أي: بُظللٍ وبالملائكةِ وبقضاء الأمر، فيكونُ عن معاذ قراءتان في الملائكة: الرفعُ والخفضُ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله: "وقُضي الأمر".
قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: "تُرْجَعُ" بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافاً قرؤوا ببنائِه للفاعل، والباقون ببنائِه للمفعول، و "رجع" يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى. وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سُمِع في المتعدي "أرجع" رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع:
"يُرْجَعُ" بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي، والفاعلُ المحذوفُ في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول: إمَّا اللهُ تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لَمَّا كانت ذواتُهم وأحوالُهم شاهدةً عليهم بأنهم مَرْبوبون مَجْزِيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورَهم إلى خالقها.
(2/342)
---(1/763)
* { سَلْ بَنِيا إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: {سَلْ}: قرأ الجمهور: "سَلْ" وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أَن تكونَ مِنْ لغة: سال يَسال مثل: خاف يخاف، وهل هذه الألفُ مُبْدَلَةٌ من همزة أو واو أو ياء؟ خلافٌ تقدَّم في قوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} فحينذٍ يكونُ الأمر منها: "سَلْ" مثل "خَفْ"، لَمَّا سكنت اللام حَمْلاً للأمر على المجزوم التقى ساكنان فَحُذِفت العين لذلك، فوزنُه على هذا فَلْ. والثاني: أن تكون من سأل بالهمز، والأصل: اسْأَلْ ثم أُلقيت حركة الهمزة على السين تخفيفاً، واعتدَدْنا بحركةِ النقلِ فاستَغْنينا عَنْ همزة الوصلِ فَحَذَفْنَاها ووزنُه أيضاً: فُلْ بحذفِ العين، وإن كان المأخَذُ مختلفاً. وروى عباس عن أبي عمرو: "اسأَلْ" على الأصْلِ من غير نَقْلٍ. وقرأ قومُ: "اسَلْ" بالنقلِ وهمزةِ الوصلِ، كأنهم لم يَعْتَدُّوا بالحركةِ المنقولةِ كقولِهم: "الحْمَر" بالهمز. وسيأتي لهذه المسائل مزيدُ بيانٍ في مواضِعها كما ستقفُ عليه إنْ شاء الله. و "بنى" مفعولٌ أولُ عند الجمهور.
(2/343)
---(1/764)
وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم} في "كَمْ" وجهانِ، أحدُهما أنَّها في محل نصبٍ. واختُلف في ذلك فقيل: نصبُها على أنها مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم على مذهبِ الجمهور، وأولُ على مذهبِ السهيلي، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: يجوزُ أَن يَنْتَصِبَ بفعل مقدَّر يفسِّرهُ الفعلُ بعدَها تقديرُه: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدَّرْنَا ناصبَها بعدَها لأنَّ الاستفهامَ له صدُر الكلامِ ولا يَعْمَلُ فيه ما قبلَه، قاله ابنُ عطية، يعني أنه عنده من بابِ الاشتغالِ. قال الشيخ: "وهذا غيرُ جائز إنْ كان "من آية" تمييزاً، لأن الفعلَ المفسِّر لم يعملْ في ضمير "كم" ولا في سببّها، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال، إذ من شرطِ الاشتغال أن يعملَ المفسِّرُ في ضميرِ الأولِ أو في سببِّه. ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ: "زيداً ضربْتُ" ويكونُ من بابِ الاشتغال،وهذا ما لا يُجيزه أحدٌ. فإنْ قُلْنَا إنَّ مميِّزها محذوفٌ، وأُطْلِقَتْ "كم" على القوم جاز ذلك لأنَّ في جملةِ الاشتغالِ ضميرَ الأول، لأنَّ التقديرَ: "كم من قومٍ آتيناهُمْ" قلت: هذا الذي قاله الشيخُ مِنْ كونِه لا يتمشَّى على كونِ "من آية" تمييزاً قد صَرَّح به ابنُ عطية فإنه قال: "وقولُه "مِن آية" هو على التقديرِ الأولِ مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم، وعلى الثاني في موضعِ التمييز" يعني بالأول نصبَها على الاشتغالِ، وبالثاني نصبَها بما بعدَها.
والثاني من وَجْهَي كم: أن تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ والجملةُ بعدَها في محلِّ رفعٍ خبراً لها والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها، أجاز ذلك ابنُ عطية وأبو البقاء، واستَضْعَفَه الشيخ من حيث إنَّ حَذْفَ عائدِ المنصوبِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله.
915 - وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا * بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِل
(2/344)
---(1/765)
أي: وخالدٌ يحمَدُه / . وهذا نقلُ بعضِهم، وأمَّا ابنُ مالك فَنَقَل أنَّ المبتدأ إذا كانَ لفظَ "كُل" أو ما أشبهها في الانتقار والمعموم جازَ حَذْلإُ عائده المنصوب اتفاقاً من البصريين والكوفيين، ومنه: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ} في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأُ غيرَ ذلك فالكوفيون يَمْنَعُون ذلك إلاَّ في السَّعَةِ، والبصريُّون يُجيزونه بضعفٍ، ومنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} برفع "حكم". فقد حَصَل أنَّ الذي أجازَه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ضعيفٌ عند البصريين.
وهل "كَمْ" هذه استفهاميةٌ أو خبريةٌ؟ الظاهرُ الأولُ، وجَوَّزَ الزمخشري فيها الوجهين، ومَنَعَه الشيخُ من حيث "إنَّ" كَمْ" الخبرية مستقلةٌ بنفسها غيرُ متعلقةٍ بالسؤال، فتكونُ مفلتةً مِمّا قبلها، والمعنى يؤدِّي إلى انصاب السؤال عليها، وأيضاً فَيَحْتَاج إلى حَذْفِ المفعول الثاني للسؤالِ تقديرُه: سَلْ بَنِي إسرائيل عن اآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهاميةُ لا تحتاجُ إلى ذلك.
و "من آيةٍ" فيه وجهان، أحدُهما: أنها مفعولٌ ثانٍ على القولِ بأن "كم" منصوبةٌ على الاشتغال كما تقدَّم تحقيقُه، ويكون مميِّز "كم" محذوفاً، و "مِن" زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غيرُ موجب إذ هو استفهامٌ. وهذا إذا قلنا إنَّ "كم" استفهاميةٌ لا خبريةٌ، إذ الكلام مع الخبرية إيجابُ، و "مِنْ" لا تُزادُ في الواجب إلا على رأي الأخفش والكوفيين، بخلاف ما إذا كانت استفهاميةً. قال الشيخ: "فيمكن أن يجوزَ ذلك فيه لانسحابِ الاستفهام على ما بعده وفيه بُعْدٌ، لأنَّ متعلَّقَ الاستفهامِ هو المفعولُ الأول لا الثاني، فلو قلت: "كم من درهمٍ أعطيتهُ من رجلٍ" على زيادةِ "من" في "رجل" لكان فيه نظرٌ" انتهى.
(2/345)
---(1/766)
والثاني: أنها تمييزٌ، ويجوزُ دخولُ "مِنْ" على ممِّز "كم" استفهاميةٌ كانت أو خبريةً مطلقاً، أي: سواءً وليها مميِّزها أم فُصِل بينهما بجملةٍ أو ظرفٍ أو جارٍ ومجرورٍ، على ما قَرَّره النحاةُ. و "كم" وما في حَيِّزها في محلِّ نصب أو خفضٍ، لأنها في محلِّ المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدَّى لاثنين: إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ جَر: إمّا عن وإمَّا الباء نحو: سألته عن كذا وبكذا، قال تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}، وقد جُمِع بينهما في قوله:
916 - فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما بِه * .......................
وقد يُحْذَفُ حرفُ الجرِّ، فمِنْ ثَمَّ جاز في محلِّ "كم" النصبُ والخفضُ بحسَبِ التقديرين و "كم" هنا معلِّقةٌ للسؤال، والسؤالُ لا يُعَلَّقُ إلا بالاستفهامِ كهذه الآية، وقوله تعالى: {سَلْهُمْ: أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} وقوله:
917 - يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطِيَّتَه * سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ
وقال آخر: 918 - ..................... * واسألْ بمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ ما فَعَلا
وإنما علَّق السؤالَ وإن لم يكن من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سببٌ للعلمِ والعلمُ يُعَلَّق فكذلك سَبَبُه، وإذا كانوا قد أَجْرَوا نقيضه في التعليق مُجْراه في قوله:
919 - وَمَنْ أنتُمُ إنَّا نسِينا مَنَ أَنْتُمُ * وريحُكمُ من أيِّ ريحِ الأَعاصِرِ
فإجراؤهم سبَبَه مُجْراه أَوْلى.
واختلفِ النحويون في "كم": هل بسيطةٌ أو مركبةٌ من كافِ التشبيه وما الاستفهاميةُ حُذِفَتْ ألفُها لانجرارِها، ثم سُكِّنَتْ ميمُها، كما سُكِّنَّتْ ميمُ "لِمْ" من "لِمْ فَعَلْتَ كذا" في بعض اللغاتِ، فَرُكِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيحُ الأول. وأكثرُ ما تجيء في القرآنِ خبريةً مراداً بها التكثيرُ ولم يأتِ مميِّزُها في القرآنِ إلا مجروراً بِمِنْ.
(2/346)
---(1/767)
قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} "مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقد تقَدَّمَ الخلافُ في خبرِ اسمِ الشرطِ ما هو؟ ولا بُدَّ للتبديل من مفعولين: مُبَدَّل وبَدَل، ولم يَذْكر هنا إلا أحدَهما وهو المُبَدَّل، وحَذَفَ البَدَلَ، وهو المفعول الثاني لفهمِ المعنى. وقد صَرَّح به في قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} فكفراً هو المحذوفُ هنا. وكان قد تقدَّم عند قولِهِ تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أن "بَدَّل" يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسه وهو البدلُ وهو الذي يكون موجوداً وإلى الآخر بحرفِ الجر وهو المُبَدَّلُ وهو الذي يكون متروكاً، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجَرِّ لفهمٍ المعنى فالتقدير هنا: "وَمَنْ يُبَدِل بنعمتِهِ كفراً"، فَحَذَفَ حرفَ الجر والبدل لفهمِ المعنى. ولا جائِزٌ أَنْ تُقَدِّر حرفَ الجر داخِلاً على "كفراً" فيكونَ التقديرُ: "وَمَنْ يُبَدِّل بالكفرِ نعمةَ الله" لأنه لا يترتَّبُ عليه الوعيد في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وكذلك قولُه: {فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} تقديرُهُ: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديرُه: "سيئاتِهِم بحسناتٍ" لأنه لا يترتَّبُ على قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ}.
وقُرِىء: "يُبْدِل" مخففاً، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. و "ما" مصدريةٌ، والعائدُ من جملةِ الجزاءِ على اسمِ الشرطِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: العقاب له، أو لأنَّ "أَلْ" نابَتْ منابَه عند الكوفيين.
* { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
(2/347)
---(1/768)
قوله تعالى: {زُيِّنَ} : إنَّما لم تَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيثٍ لكونِهِ مؤنثاً مجازياً، وحَسَّن ذلك الفصلُ. وقرأ ابن أبي عبلة: "زُيِّنَتْ" بالتأنيث مراعاةً للفظِ. وقرأ مجاهد وأبو حيوة: "زَيَّنَ" مبنياً للفاعل، و "الحياة" مفعولٌ، والفاعلُ هو الله تعالى، والمعتزلةُ يقولون: إنه الشيطان.
وقوله: {وَيَسْخَرُونَ} يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على الجملة الفعليةِ، لا من بابِ عطفِ الفعلِ وحدَه على فعلٍ آخرَ، فيكونُ من عطف المفردات، لِعَدَمِ اتِّحادِ الزمانِ. ويَحْتَمل أن يكونَ "يَسْخَرُون" خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يَسْخَرُون فيكون مستأنفاً، وهو من عَطْفِ الجملةِ الاسمية على الفعلية. وجِيءَ بقولِهِ: "زُيِّن" مضياً دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع وَفُرِغَ منه، وبقوله: "وَيَسْخَرُون" مضارعاً دلالةً / على التَّجَدُّدِ والحدوثِ.
قوله: {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌُ، و "فوق" هنا تَحْتَمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين، والكافرين في أسفلِ سِجِّين. والثاني: أن تكون الفوقيةُ مجازاً: إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا. و "يوم" منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به "فوقهم".
(2/348)
---(1/769)
قولُه: {مَن يَشَآءُ} مفعولُ "يشاء" محذوفٌ، أي: مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه. و "بغيرِ حساب" هذا الجارُّ فيه وجهان، أحدُهما: أنه زائدٌ. والثاني: أنه غيرُ زائدٍ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف. فأمّا وجهُ الزيادةِ: فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ، تقديرُهُ: والله يرزق رزقاً غيرَ حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ رزقاً غيرَ حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباءُ زائدةٌ.
وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين، والتقديرُ: واللَّهُ يرزق غيرَ محاسِبٍ بل منفصلاً أو غيرَ حاسِبٍ، أيك عادٍّ. فـ"حساب" واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلٍ من حاسَب أو من حَسَبَ، ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ، أي: الله يرزقُ مُحَاسَبٍ أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يُعْطِي، فيكونُ المصدرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الفاعل، والباءُ فيه مزيدةٌ.
(2/349)
---(1/770)
وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ: والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه، أي: معدود عليه، أي: إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي: لا يَعُدُّ. فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي: محاسبة، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ، والتقديرُ: يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك، أي: غيرَ ظانٍّ له، فهو حالٌ أيضاً. ومثلُه في المعنى {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}. وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله:
920 - فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ * حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها
وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى.
وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة. وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ: "بغير حساب" باقيةٌ أيضاً، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها. والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ أي: يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ، أو ولا حسابَ للرازق، أو ولا حسابَ على المرزوق، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد "غير" أي: غيرَ ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لوقوعِه حالاً من أي الثلاثةِ المقتدِّمةِ شِئْتَ كما تقدَّم تقريرُه، أي: ملتبساً بغيرِ حسابٍ.
(2/350)
---(1/771)
* { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قولُه تعالى: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}: حالان من "النبيين". قيل: وهي حالٌ مقارنَةٌ، لأنَّ بعثَهم كان وقتِ البِشارة والنِّذارة. وفيه نظرٌ، لأنَّ البِشارةَ والنِّذارةَ بعدَ البعثِ. والظاهِرُ أنها حالٌ مقدَّرَةٌ. وقد تقدَّم معنى البشارة والنذارةِ في قولِهِ: {أَأَنذَرْتَهُمْ}{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ} قوله: {مَعَهُمُ} هذا الظرفُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بأنزلَ. وهذا لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وذلك أنه يلزَمُ من تعلُّقِهِ بأَنْزَلَ أن يكونَ النبيون مصاحِبين للكتابِ في الإِنزالِ، وهم لا يُوصَفُونَ بذلك لِعَدَمِهِ فيهم. وتأويلُهُ أنَّ المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ، لأنه مُسَبِّبٌ عنه، كأنه قيل: وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مقدرةً أي: وأنزلَ مقدِّراً مصاحبتَه إياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: "شاهداً لهم ومُؤَيِّداً"، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
(2/351)
---(1/772)
والألفُ واللامُ في "الكتاب" يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابُ معينٌ كالتوراةِ مثلاً، فإنها أُنْزِلَتْ على موسى وعلى النبيين بعدَه، بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستداموا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزلَ مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنسِ. وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الجَمْعِ، أي: وأَنْزَلَ معهم الكُتُبَ وهو ضعيفٌ.
وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ: "فَبَعَثَ" لا يُقال: البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من "النبيين" فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم.
قوله: {بِالْحَقِّ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ. والثاني: أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أن يتعلَّق بأنزالَ، وهذا أَوْلَى لأنَّ / جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ. ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ.
(2/352)
---(1/773)
قوله: {لِيَحْكُمَ} هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله: "أنزل" واللامُ للعلةِ. وفي الفاعلِ المضمرِ في "ليحكم" ثلاثةُ أقوالٍ، أحدثها: وهو أظهرُها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله: "فَبَعَثَ الله" ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي فيما نقله عنه مكي: "لنحكمَ" بنون العظَمَةِ، وفيه التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلُّمِ. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غَلِطَ في نَقْلِ هذه القراءةِ عنه وقال: "إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجحدري: "ليُحْكَمَ" على بناءِ الفعلِ للمفعولِ" ولا ينبغي أن يُغَلِّطَه لاحتمالِ أن يكونَ عنه قراءتان. والثاني: أنه يعودُ على "الكتاب" أي: ليحكم الكتابُ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى: {هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ}، ونسبةُ القضاء إليه في قوله:
921 - ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها * وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ
ووجهُ المجازِ أنَّ الحكمَ فيه فَنُسِبَ إليه. والثالثُ: أنه يعودَ على النبي، وهذا استضعَفَهُ الشيخُ من حيث إفرادُ الضميرِ، إذ كان ينبغي على هذا أن يُجْمَعَ ليطابِقَ "النبيين". ثم قال: "وما قالَه جائزٌ على أَنْ يعودَ الضميرُ على إفراد الجمعِ على معنى: ليحكمَ كلُ نبي بكتابِهِ. و "بين" متعلق بـ"يَحْكم". والظرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك "فيما اختلفوا" متعلقٌ به أيضاً. و "ما" موصولةٌ، والمرادُ بها الدين، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أن كانوا متفقين عليه. ويَضْعُفُ أن يُرَادَ بـ"ما" النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لأنها لغير العقلاءِ غالباً. و "فيه" متعلِّقٌ بـ"اختلفوا"، والضميرُ عائدٌ على "ما" الموصولةِ.
(2/353)
---(1/774)
قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} الضمير في "فيه" فيه أوجهٌ، أظهُرها: أنه عائدٌ على "ما" الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في "أتوه". وقيل: يعودان على الكتابِ، أي: وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ. وقيل: يعودان على النبيِّ قاله الزجاج. أي: وما اختلفَ في النبيّ إلا الذين أُوتوا علمَ نبوتِه. وقيل: يعودُ على عيسى للدلالةِ عليه.
قوله: {مِن بَعْدِ} فيه وجهانِ، أحدُهما: وهو الصحيحُ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ: اختلفوا فيه مِنْ بَعْد. والثاني: أنه متعلِّقٌ بـ"اختلف" الملفوظِ به، قال أبو البقاء: ولا تَمْنَعُ "إلاَّ" من ذلك، كما تقول: "ما قام إلا زيدٌ يومَ الجمعة". وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ. وملخَّصُه أن "إلا" لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وذلك أنَّ "إلاَّ" مُعَدِّيَةٌ للفعلِ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها ما قبلَها، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية، فكما أن واو "مع" وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ، إلاَّ مع العطفِ، أو البدليةِ كذلك "إلا". وهذا هو الصحيحُ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ. فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل. فمنه قولُه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيا} ثم قال: "بالبينات"، فظاهر هذا أن "بالبينات" متعلقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِيَ بـ"إلا" شيئان، أحدُهما "رجالاً" والآخرُ "بالبينات". وتأويلُه أنَّ "بالبينات" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: "ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً" و "ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بعضا". واختلفوا في تصحيحِها فقال أبو الحسن: "طريقُ تصحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوعَ الذي بعد "إلاَّ" عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا درهماً، فيكونُ "زيدٌ" بدلاً من "أحد" و "درهماً" مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديرُهُ: ما أخذ أحدٌ زيدٌ(1/775)
(2/354)
---
شيئاً إلا درهماً". وقال أبو علي: "طريقُ ذلك زيادةُ منصوبٍ في اللفظ فَيَظْهَرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال: "ما أخذ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً" فيكونُ المرفوعُ بدلاً من المرفوعِ، والمنصوبُ بدلاً من المنصوب وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إلا بعضُهم بعضاً. وقال أبو بكر بن السراج: تقول: "أعطيت الناسَ درهماً إلا عُمَراً" جائز. ولو قلت: "أعطيتُ الناسَ درهماً إلا عمراً الدنانيرَ" لم يَجُزْ، لأنَّ الحرفَ لا يُسْتَثْنَى به إلا واحدٌ. فإنْ قُلْتَ: "ما أَعْطَيْتُ الناسَ درهماً إلا عَمْراً دانقاً" على الاستثناءِ لم يَجُزْ، أو على البدلِ [جاز] فَتُبْدلُ "عمراً" من الناس، و "دانقاً" من "درهماً". كأنك قلتَ: "ما أعطيت إلا عمراً دانقاً" يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين.
قال بعض المحققين: "وما أجازَه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيفٌ، وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ من مُقارَنَتِهِ بـ"إلاَّ"، فَأَشْبَهَ العطفَ، فكما أنه لا يَقَعَ بعدَ حرفِ العطفِ معطوفان لا يَقَعُ بعدَ "إلاَّ" بدلان".
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ وما قال الناسُ فيه كان إعرابُ أبي البقاء في هذه الآيةِ الكريمةِ من هذا البابِ، وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وَقَعَ بعدَ "إلاَّ" الفاعلُ وهو "الذين"، والجارُّ والمجرورُ وهو "مِنْ بعد"، والمفعولُ من أجلِهِ وهو "بغياً" فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ من بعدِ ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بغياً. وإذا كان التقدير كذلك فقد اسْتُثْنِيَ بـ"إلاَّ" شيئان دونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ من غيرِ عطفِ ولا بدليةٍ. وإنما استوفيتُ الكلام في هذه المسألة لكثرةِ دُوْرِها.
(2/355)
---(1/776)
قوله: {بَغْياً} في نصبِهِ وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ، هو علةٌ باعثةٌ. والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعَلِّقُ به "فيه" و "اختلف" المفلوظُ به عند مَنْ يرى أنَّ "إلاَّ" يُسْتثنى بها شيئان. والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّم. و "بينهم" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"بغياً". أي: بَغْياً كائناً بينهم.
قوله: {لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} "لِما" متعلِّقٌ بـ"هَدَى" وما موصولةٌ، والضمِيرُ في "اختلفوا" عائدٌ على "الذين أوتوه"، وفي "فيه" عائدٌ على "ما" وهو متعلِّقٌ بـ"اختلف".
و {مِنَ الْحَقِّ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه في موضعِ الحالِ من "ما" في "لِما". و "مَنْ" يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "مِنَ الحق" حالاً من الضميرِ في "فيه" والعامِلُ فيها "اختلفوا". وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ: "فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا" واختاره الطبري. وقال ابن عطية: "ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ" قال: "والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ" انتهى. قلت: وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً.
قوله: {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "الذين آمنوا" أي: مأذوناً لهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمره.
(2/356)
---(1/777)
* { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ}: "أم" هذه فيها أربعةُ أقوالٍ: أنْ تكونَ منقطعةً فتتقدَّر بـ"بل" والهمزةِ. فـ"بل" لإِضرابِ انتقالٍ من إخبارٍ إلى إخبارٍ، والهمزةُ للتقريرِ. والتقديرُ / :بل أحَسِبْتُم. والثاني: أنها لمجردِ الإِضرابِ من غير تقديرِ همزةٍ بعدها، وهو قولُ الزجاج وأنشد:
922 - بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى * وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت. والثالث: وهو قولُ بعض الكوفيين أنها بمعنى الهمزةِ فعلى هذا يُبْتَدَأُ بها في أولِ الكلامِ. ولا تحتاجُ إلى الجملةِ قبلَها يُضْرَبُ عنها. والرابع: أنها متصلةٌ، ولا يَسْتَقِيمُ ذلك إلا بتقديرِ جملةٍ محذوفةٍ قبلَها، فقدَّرَهُ بعضُهم: فَهَدَى اللَّهُ الذين آمنوا، فصَبَروا على استهزاءِ قومهم، أفتسلُكون سبيلَهم أم تحسَبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوكِ سبيلهِم.
و "حَسِبْتُم" هنا من أخوات "ظنَّ"، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ، و "أَنْ" وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش، كما تقرَّر ذلك. ومضارِعُها فيه الوجهان: الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها من الأفعالِ نظائِرُ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ، ومعناها الظنُّ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال:
923 - حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ * رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا
ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غيرَ متعديةٍ إذا كان معناها الشقرة، تقول: حَسِبَ زيدٌ، أي اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ أي: أَشْقَرُ.
(2/357)
---(1/778)
قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُم} الواوُ للحالِ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غيرَ آتيكم مثلُهم. و "لَمَّا" حرفُ جزمٍ معناهُ النفي كـ"لم"، وهو أبلغُ من النفي بـ"لم"، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ. والفرقُ بينها وبين "لم" من وجوهٍ، أحدُها: أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ:
924 - فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا * فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ
أي: ولمَّا أكن بدءاً أي: مبتدئاً، بخلافِ "لم" فإنه لا يجوزُ ذلك فيها إلا ضرورةً. ومنها: أنَّها لنفيِ الماضي المتصلِ بزمانِ الحال و "لم" لنفِيهِ مطلقاً أو منقطعاً على ما مَرَّ. ومنها: أنَّ "لَمَّا" لاَ تَدْخُل على فعلِ شرطٍ ولا جزاءٍ بخلافِ "لم". واختُلِفَ في "لمَّا" فقيل: بسيطةٌ، وقيل: مركبةٌ مِنْ لم و "ما" زيدَتْ عليها.
وفي قولِه {مَّثَلُ الَّذِينَ} حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ: ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا.
و "مِنْ قبلِكم" متعلِّقٌ بـ"خَلَوا" وهو كالتأكيدِ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ: "خَلَوا".
قوله: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي: فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل: ما كانَ مَثَلُهم؟ فقيل: مَسَّتهم البأساءُ. والثاني: أن تكونَ حالاً على إضمارِ "قد" جَوَّزَ ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلِ "خَلَوا". وفي جَعْلِهَا حالاً بُعْدٌ.
(2/358)
---(1/779)
قوله: {حَتَّى يَقُولَ} قرأ الجمهورُ: "يقولُ" نصباً، وله وجهان، أحدُهما: أنَّ "حتى" بمعنى "إلى"، أي: إلى أن يقولَ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ، و "حتى" إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ، وهذا قد وقع ومَضَى. فالجوابُ: أنه على حكايةِ الحالِ، حكى تلك الحالَ. والثاني: أنَّ "حتى" بمعنى "كي"، فتفيدُ الِلَّةَ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال: "ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا: فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ" و "أَنْ" بعد "حتى" مضمرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد "حتى" ولا غيرِها، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا.
واعلم أنَّ "حتى" إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو: "مَرِض حتى لا يَرْجونه" أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نُصِبَ، تقول: سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتُك له: إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ: حكايةُ حالٍ، وفي قراءةِ نافع أيضاً: حكايةُ حالٍ. وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع. قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور: "والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ" وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ "حتى" للتعليلِ.
(2/359)
---(1/780)
قوله: "معه" هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإِيمانِ.
قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} "متى" منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً، و "نصرٌ" متبدأٌ مؤخرٌ. وقال أبو البقاء: "وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و "نصرُ" مرفوعٌ به". و "متى" ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ. وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ: إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى "مَنْ" الشرطية، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً.
والظاهرُ أنَّ جملةَ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} من قولِ المؤمنينَ، وجملةَ {أَلاا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} من قولِ الرسولِ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للفتصيلِ المذكور. وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: حتى يقولَ الذين آمنوا {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فيقولُ الرسولُ "إلا إنَّ"، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان. قال ابن عطية: "هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ" وهو كما قال. وقيل: الجملتانِ من قولِ الرسولِ والمؤمنين معاً، يعني أن الرسولَ قالَهما معاً، وكذلك أتباعُهُ قالوهما معاً، وقولُ الرسول {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ليس على سبيلِ الشَّكِّ، إنما هو على سبيلِ الدعاء باستِعْجَال النصر. وقيل: إنَّ الجملةَ الأولى من كلام الرسولِ وأتباعه، والجملة الأخيرةَ من كلامِ اللَّهِ تعالى، أجابهُم بما سألوه الرسُلُ واستبطَأَهُ الأتباع. فالحاصل أن الجملتين في محل نصب بالقول.
(2/360)
---(1/781)
* { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مَاذَا يُنْفِقُونَ}: قد تقدَّم أنَّ "ماذا" له ستة استعمالات / وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِه {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً}. وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ "ماذا" بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً، ويجوزُ أن تكونَ "ما" و "ذا" خبرَه، وهو موصولٌ. و "ينفقون" صلتُه والعائدُ محذوفٌ، و "ماذا" معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله: {سَلْ بَنِيا إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم}، وجاء "ينفقون" بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في "يسألون"، ويجوزُ في الكلامِ "ماذا ننفقُ" كما يجوزُ: أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} في المائدةِ.
(2/361)
---(1/782)
[قوله]: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها، فـ"ما" في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ. و "أنفقْتُمْ" في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، و "مِنْ خيرٍ" تقدَّم إعرابُه في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} وقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} جوابُ الشرطِ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فمَصْرِفُه للوالدَيْن، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ: إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى. وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ. والثاني: أن تكونَ "ما" موصولةً، و "أنفقتم" صلتُها، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: الذي أنفقتموه. والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ. قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: "ومِنْ خيرٍ يكونُ حالً من العائدِ المحذوفِ".
وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها: أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف، تقديره: ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه، فجاء الجوابُ عنهما، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله: "مِنْ خيرٍ" وعن المُنْفقِ عليه بقوله: "فللوالدَيْن" وما بعده. ومنها: أن يكون "ماذا" سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها: أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكِرَ المُنْفَقِ، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ}. وقال الزمخشري: قد تضمَّن قولُه: {مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} بيانَ ما يُنفقونه. وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها. [قال]:
(2/362)
---(1/783)
925 - إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً * حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ"
وأمَّا قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ} فـ"ما" شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى. وقرأ علي رضي الله عنه: "وام يفعلوا" بالياء على الغَيْبَة، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه، أي: وما يفعلِ الناسُ.
* { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
وقرىء: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}: ببناءِ "كَتَب" للفاعل وهو ضميرُ اللهِ تعالى ونَصْبِ "القتال".
قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ} هذه واوُ الحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ "هو" عائدٌ على القتالِ. وقيل: يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب، أي: وكَتْبُه وفَرْضُه. وقرأ الجمهورُ "كُرْهٌ" بضمِّ الكافِ، وقرأ السلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعْف والضُّعْف، قاله الزجاج وتبه الزمشخري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ. وقيل: المفتوحُ بمعنى الإِكراه، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ. وقيل: المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو.
فإن كان "الكَرْهُ" و "الكُرْه" مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن "هو"، وذلك التأويلُ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، أي: والقتالُ ذو كُرْهٍ، أو على المبالَغَةِ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول. وإنْ قُلْنا: إنَّ "كُرْهاً" بالضمِّ اسمُ مفعولٍ فلا يُحْتاجُ إلى شيءٍ من ذلك. و "لكم" ي محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لكُره، فيتعلَّقُ بمحذوفِ أي: كرهٌ كائِنٌ.
(2/363)
---(1/784)
قوله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ} "عسى" فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق. وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً بـ"أَنْ". وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله:
926 - أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً * لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً
وقالَتِ الزبَّاء: "عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسا" وقد يَتَجَرَّدُ خبرُها من "أَنْ" كقوله:
927 - عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه * له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر:
928 - عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه * يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ
وقال آخر:
929 - فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ * عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ
وتكونُ تامة إذا أُسْنِدَتْ إلى "أَنْ" و "أنَّ"، لأنهما يَسُدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فعلٌ لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائرِ البارزةِ المرفوعةِ بها، ووزنُها "فَعَل" بفتح العين، ويجوزُ كَسْرُ عينِها إذا أُسْنِدَتْ لضمير متكلمٍ أو مخاطبٍ أو نونِ إناثٍ، وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي: ولا تتصرَّفُ بل تلزم المضيَّ. والفرقُ بين الإِشفاقِ والترجِّي بها في المعنى: أنَّ الترجِّي في المحبوباتِ والإِشفاقَ في المكروهاتِ. و "عسى" من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإِشفاق مُحالان في حقَّه. وقيل: كلُّ "عسى" في القرآن للتحقيقِ، يَعْنُون الوقوعَ، إلا قولَه تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} الآية ، وهي في هذه الآيةِ ليسَتْ ناقصةً فتحتاجُ إلى خبرٍ بل تامةٌ، لأنها أُسْنِدَتْ إلى "أَنْ"، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحوفي أن "أَن تكرهوا" في محلِّ نصب، ولا يمكن ذلك إلا بتلكُّفٍ بعيد.
(2/364)
---(1/785)
قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال / وإنْ كانَتْ الحالُ من النكرةِ بغيرِ شرطٍ من الشروطِ المعروفةٍ قليلةً. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ لشيئاً. وإنما دخلتِ الواوُ على الجملةِ الواقعةِ لأنَّ صورتَها صورةُ الحالِ. فكما تدخل الواوُ عليها حاليةً تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء. ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشري في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} فَجَعل: "ولها كتابٌ" صفةً لقرية، قال: "وكان القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذه الواوُ بينهما كقولِه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، وما يُقال في الحالِ: "جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ". وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا والزمخشري هناك هو رأيُ ابنِ جني، وسائرُ النَّحْويين يُخالِفونه.
* { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلاائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلاائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(2/365)
---(1/786)
قوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ}: قراءةُ الجمهور: "قتالٍ" بالجر، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنه خفضٌ على البدلِ من "الشهر" بدلِ الاشتمال؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه. والثاني: أنه خفضٌ على التكرير، قال أبو البقاء: "يريد أنَّ التقديرَ: "عن قتالٍ فيه". وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: "وهو مخفوضٌ بـ"عَنْ" مضمرةً. وهذا ضعيفٌ جداً، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه في الاختيار". وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين والكسائي والفراء، لأنَّ البدلَ عند جمهور البصريين على نِيَّةِ تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي. وقوله: لأنَّ حرفَ الجرِّ لا يَبْقَى علمُه بعد حَذْفِه" إن أراد في غيرِ البدل فَمُسَلَّم، وإن أرادَ في البدلِ فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي. الثالث: قاله أبو عبيدة: "أنه خفضٌ على الجِوار". قال أبو البقاء: "وهو أَبْعَدُ من قولِهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأن الجِوار من مواضعِ الضرورةِ أو الشذوذِ فلا يُحْمَلُ عليه ما وُجِدَتْ عنه مَنْدُوحة". وقال ابن عطية: "هو خطأ". قال الشيخ: "إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجِوار المصطلحَ عليه فهو خطأ. وجهةٌ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أن يكونَ الشيءُّ تباعاً لمرفوعٍ أو منصوبٍ من حيثُ اللفظُ والمعنى فَيُعْدَلَ به عن تَبَعيِّتِه لمتبوعِه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاوَرَتِه لمخفوضٍ. كقولِهم: "هذا جُحْر ضَبًّ خَرِبٍ" بجرِّ "خرب"، وكان من حقِّه الرفعُ؛ لأنه من صفاتِ الجحر لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضِعه إن شاء الله تعالى، و "قتالٍ" هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ أو منصوب وجاور مخفوضاً فَخُفِض. وإن كان عَنَى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فَخَفْضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي صار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إلا أنه غْمَضَ في عبارته فالتبس بالمصطلحِ عليه.
(2/366)
---(1/787)
وقرأ ابن عباس والأعمش: "عن قتالٍ" بإظهارِ "عن" وهي في مصحفِ عبد الله كذلك،، وقرأ عكرمة: "قَتْلٍ فيه، قل قتلٌ فيه" بغير ألف.
وقُرىء شاذاً: "قتالٌ فيه" بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ، تقديرُه: أقتالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو عالٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدٍ. قالوا: ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنما كان سؤالُهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أولا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأن "سأل" قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ.
وقوله: {فِيهِ} على قراءةِ خفضٍ "قتالٍ" فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ لـ"قتال". والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً. وقال أبو البقاء: "كما يتعلَّقُ بقاتل". ولا حاجة إلى هذا التشبيه، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ. والضميرُ في "يسألونك" قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألفُ واللامُ في "الشهر" قيل: للعهدِ وهو رجب، وقيل: للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ.
(2/367)
---(1/788)
قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جَعَلْنَا قولَه "فيه" صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيرِه. فإنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} فقال أبو البقاء: "ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا "قتالٌ" الثاني غيرُ الأول"، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ. وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم: "إنَّ الثاني غيرُ الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش، وكان لنصرةِ الإِسلامِ. وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ".
(2/368)
---(1/789)
قوله: {وَصَدٌّ} فيه وجهان، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه، و "أكبرُ" خبرٌ عن الجميعِ. وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه: {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وإمَّا لتعلُّقِه به، وإمَّا لكونِه معطوفاً، والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على "كبيرٌ" أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء. قال ابن عطية: "وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: "وكفرٌ به" عَطْفٌ أيضاً على "كبيرٌ"، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه". وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له؛ إذ له أن يقول: إنَّ قولَ "وكفرٌ به" مبتدأٌ، وما بعده عطفٌ عليه، و "أكبرُ" خبر عنهما، أي: مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ. في الشهرِ الحرامِ.
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و "كفرٌ" فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على "صَدّ" على قولنا بن "صداً" مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن "قتال"، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك، إلا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم، فيكونُ كفراً، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط: أي: وكُفْرُكم. والثاني: أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في "به" فيه وجهان، أحدُهما: / أنه يعودُ على "سبيل" لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني أنه يعودُ على الله، والأولُ أظهرُ. و "به" فيه الوجهان، أعني كونَه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في "فيه".
(2/369)
---(1/790)
قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الجمهورُ على قراءته مجروراً. وقرىء شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ، أحدها: - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية، قال ابن عطية: "وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على "سبيلِ الله" أي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد". وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ "صداً" مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و "أَنْ" موصولةٌ، وقد جعلتم "والمسجدِ" عطفاً على "سبيلِ" فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو "وكفرٌ به". ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ. فإن قيل: يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما. قيل: إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ.
الثاني: أنه عطفٌ على الهاءِ في "به" أي: وكفرٌ به وبالمسجِد، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين. وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ. ولا بد من التعرُّض لهذه المسألة وما هو الصحيحُ فيها. فأقولُ وبالله العون اختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ: أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين -: وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ. الثاني: أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً، وهو مذهبُ الكوفيين، وتَبشعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين. والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو: "مررت بك نفسِك وزيدٍ"، وإلا فلا يجوزُإلا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْميّ. والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
(2/370)
---(1/791)
أما السَّماعُ: ففي النثرِ كقولِهم: "ما فيها غيرُه وفرسه" بجرِّ "فرسه" عطفاً على الهاء في "غيره". وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ، وستأتي هذه الآية إن شاء الله، ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} فـ"مَنْ" عطف على "لكم" في قولِه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} وقولُه: {مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} عطف على "فيهِنّ" وفيما يُتْلى عليكم". وفي النظم وهو كثيرٌ جداً، فمنه قولُ العباس بن مرداس:
930 - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي * أفيها كان حَتْفي أم سواها
فـ"سواها" عطفٌ على "فيها"، وقولُ الآخر:
931 - تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا * وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ
وقول الآخر:
932 - هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ * وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ
وقول الآخر:
933 - بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى * وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ
وقول الآخر:
934 - لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ * من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ
وقال آخر:
935 - إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ * فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
وقال آخر:
936 - إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ * ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها
وقال آخر:
937 - آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ * من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ
وأنشد سيبويه:
938 - فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا * فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ
(2/371)
---(1/792)
فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاؤوا تارة بالواو، وأخرى بـ"لا"، وأخرى بـ"أم"، وأخرى بـ"بل" دليلٌ على جوازِه. وأمّا ضَعْفُ الدليل: فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار. ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين.
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه.
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "الشهر الحرام" أي: يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. قال أبو البقاء: "وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرامإذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه، وإنما سَأَلوا عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ لأنه وَقَعَ منهم، ولم يَشْعُروا بدخولِه فخافُوا من الإِثمِ، وكانَ المشركونَ عيَّروهم بذلك "ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بذلكَ لأنه على هذا التخريجِ يكونُ سؤالُهم عن شيئين، أحدُهما القتالُ في الشهر الحرامِ. والثاني: القتالُ في المسجد الحرام، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى، يكون "قتال" أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ.
(2/372)
---(1/793)
الرابع: أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه: ويَصُدُّون عن المسجدِ، كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قاله أبو البقاء، وجَعَله جيداً. وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله:
939 - إذا قيل: أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ *أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
أي: إلى كليب فهذه أربعة أوجه، أجودها الثاني.
وأمَّأ رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على "وكفرٌ به" على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه "وكفرٌّ بالمسجدِ" فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف "كفرٌ" إلى المسجدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذاةُ بأكثرُ مِنْ ذلك.
قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} عَطْفٌ على "كفرٌ" أو "صدٌ" على حَسَبِ الخلافِ المقتدَّمِ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه، وأُضيف إلى مفعولُه، تقديرُه: "وإخراجُكم أهلَه". والضميرُ في "أهله" و "مِنه" عائدٌ على المسجدِ وقيل: الضميرُ في "منه" عائدٌ على سبيلِ الله، والأول أظهرُ و "منه" متعلِّقٌ بالمصدرِ.
قوله: {أَكْبَرُ} فيه وجهان، أحدثهما: أنه خبرٌ عن الثلاثةِ، أعني: صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبراً عن المجموعِ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ، كما تقول: "زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ" أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظاهرُ. وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ. وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
(2/373)
---(1/794)
الثاني من الوجهين في "أكبر": أن يكونَ خبراً عن الأخير، ويكون خبر "وصد" و "كفر" محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه: وصد وكفر أكبر. قال أبو البقاء / كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر "وصد" و "كفر" لدلالة خبر "قتال" عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام. ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذوف.
قوله: {عِندَ اللَّهِ} متعلِّق بـ"أكبر"، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ}؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ، بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ. قوله: "حتى يَرُدُّوكم" حتى حرف جر، ومعناها يَحتمل وجهين: أحدهما: الغاية، والثاني: التعليل بمعنى كي، والتعليلُ أحسنُ لأن فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك، ولذلك لم يَذْكر الزمخشري غيرَ كونِها للتعليل قال: "وحتى" معناها التعليل كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة" أي: "يقاتلونكم كي يردُّكم" ولم يذكر ابن عطية غير كونها غايةً قال: "ويردُّوكم" نصب بـ"حتى" لأنها غاية مجردة" وظاهر قوله: "منصوب بحتى" أنه لا يُضْمِر "أَنْ" لكنه لا يريدُ ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك. الفعلُ بعدها منصوبٌ بضمار أن وجوباً.
(2/374)
---(1/795)
و "يزالون" مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً، وأحكامُها في كتب النحو، ووزنُها فَعِل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يَزيل، وإن كان الأكثر يَزال، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح، وهي من ذوات الواو لوقلِهم في مضارعها يَزُول، ومعناها التحول. و "عن دينكم" متعلق "بيردوكم" وقوله: "إن استطاعوا" شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي: إن اشتطاعاو ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل "لا يزالون" جواباً مقدماً، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم: "أنت ظالم إنْ فعلت".
قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} "مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام، وفي المائدة اختلفوا فيه، فنُؤَخِّر الكلامَ على هذه المسألةِ إلى هناك إن شاءَ اللهُ تعالى.
وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}: قال الشيخ: "وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر، وَجَعَلَ من ذلك قولَه: {فَارْتَدَّ بَصِيراً} أي: رَجَع" وهذا منه [سهو]؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا، ولذلك مثَّلوا بقوله: "فارتدَّ بصيراً" فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى "صار"، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً، وإلا فأينَ المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى "صَيَّر" فهو رَدَّ لا ارتدَّ، فاشتبه عليه ردَّ بـ"ارتَدَّ". وصيَّر بـ"صارَ".
(2/375)
---(1/796)
و "منكم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في "يَرْتَدِدْ"، و "من" للتبعيض، تقديرُه: ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم، أي: بعضكم. و "‘? I???" ?E?????? E??EII?. ? "??????E?" ???? ??? C?O?? ?C??C?? ????????E? EC?E???E.
{?????? ??C????} ???E? ?C??E? ?? ????? "????E?"? ?????C ?C?? ?????I?E? ????C ?? ??????E? ?????? ???C?C? ????? ?C ?E???C ??O????? EC?E???E? ??C?EICI? ???? EC??C?? ??C ???E?? ?EC?UE? ?? C?E???I? ?? ??E E?????? C?????? EI?C?? ?C ?? ???? E?C C??C? ???IC?.
?????: {???????CUC????} ??CE? C?O???. ?C?? ?E? C?E?C?: ? "???? ?? ????? ?EEI?? ?C?IE?? ?? C????E? C?E? ?? ?????: "?????? ??E???E?"? ??C? ?I ?????? ?? ??I ????: {????? E?E??? ??I?C??} ???? IE?? C?? C?O??? ?? ???? C?O??? ?C ??CE?? ???I?? ??? ???? ??I???? ??? E?C ??????E?? ??? E????E?? ???E???I? ??? E???????? ?????C ?????E? ?U???? C????? ?? C????? E?I?C? ??E??? ?C ???? ?? ???.
? "??E??" ??? ?UEC?: ???? C????? - ??? C??O???E? - ???E????C? ?E?C ??? ?E? C???????C? ?? ????? C???A??? ????E? ?? C????? ???C?. ?C???E??: ????? C???CI? ????: "??E??? E????" ??: C?E?I? ???? "????? ??E??????" ??: ??E?I? C?E???.
?????? ???C? ??? ??U? "????" ????????I? ?? ????: "????E?I?I?? ???E? ??? ?C???" ???? ???C?C EC??C? ?? ?????: "??????" ??? AI??? ???????? ??I E?I??? ?? ?E?? ??C C?E???E? ????? C?C?E??C??????: ???? C??????? ???C? ??? C???U? E? ??? C?????. ?????? "?? C?I??C" ?E?????? EU"??E???E?".
(2/376)
---(1/797)
وقوله: {وَأُوْلاائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها. واختلفوا في هذه الجملةِ: هل هي استئنافيةٌ، أي: لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أًحابُ النارِ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان، رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ، والقربُ مُرَجِّعٌ.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلاائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}: إنَّ واسمُها، و "أولئك" مبتدأ، و "يَرْجُون" خبرُه، والجملةُ خبرُ "إنَّ"، وهو أحسنُ من كونِ "أولئك" بدلاً من "الذين" و "يرجُون خبرٌ "إنَّ". وجيء بهذه الأوصافِ الثلاثةِ مترتبةً على حَسَبِ الواقعِ، إذ الإيمانُ أولُ ثم المهاجَرةُ ثم الجهادُ. وأَفْرَدَ الإِيمانَ بموصولٍ وحدَه لأنه أصلُ الهجرةِ والجهادِ، وجَمَعَ الهجرةَ والجهادَ في موصولٍ واحدٍ لأنَّهما فَرْعانِ عنه، وأتى بخبرِ "إنَّ" اسمَ إشارة لأنه متضمِّنٌ للأوصافِ السابقةِ. وتكريرُ الموصولِ بالنسبةِ إلى الصفاتِ لا الذواتِ، فإنَّ الذوات متخحدةٌ موصوقةٌ بالأوصافِ الثلاثةِ، فهو من بابِ عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض والموصوفةِ لأنَّ الواقعَ كان كذلك. وأتى بـ"يَرْجُون" لِيَدُلَّ على التجدُّدِ وأنهم في كلِّ وقتٍ يُحْدِثُون رجاءً.
والمهاجَرةُ مُفاعَلَةٌ من الهَجْرِ، وهي الانتقالُ من أرضِ إلى أرضٍ، وأًلُ الهجرِ التركُ. والمجاهدُ مفالعةٌ من الجُهْدِ. وهو استخراجُ الوُسْع وبَذْلُ المجهود، والإِجهادُ: بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المقصودِ، والرجاءُ: الطمعُ، وقال الراغب: وهو ظَنُّ يقتضي حصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ، وقد يُطْلَقُ على الخوفِ، وأنشد:(1/798)
(2/377)
---
940 - إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها * وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ
أي: لم يخف / ، وقال تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي: لا يَخافون، وهل إطلاقُه عليه بطريقِ الحقيقةِ أو المجازِ؟ فزعم قومٌ أنَّه حقيقةٌ، ويكونُ من الاشتراك اللفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضدادِ، فهو اشتراكٌ لفظي أيضاً. قال ابنُ عطية: "وليس هذا بجيدٍ". يعني أن الرجاء والخوفَ ليسا بضدين إذ يمكنُ اجتماعُهما، ولذلك قال الراغب: - بعد إنشادِه البيتَ المتقدم - "ووجْهُ [ذلك] أن الرجاءَ والخوفَ يتلازمان"، وقال ابن عطية: "والرجاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أن الخوفَ معه رجاءٌ". وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازمِ الذي ذكرناه عن الراغب وابنِ عطية.
وأجاب الجاحظُ عن البيتِ بأنَّ معناه لَم يَرْجُ بُرْءَ لَسْعِها وزواله فالرجاءُ على بابه". وأمَّا قولُه: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يَرْجُون ثوابَ لقائِنا، فالرجاءُ أيضاً على بابِه، قاله ابنُ عطية. وقال الأصمعي: "إذا اقترن الرجاءُ بحرفِ النفي كان بمعنى الخوفِ كهذا البيتِ والآيةِ. وفيه نظرٌ إذ النفيُ لا يُغَيِّر مدلولاتِ الألفاظِ.
وكُتبت "رحمة" هنا بالتاءِ: إمَّا جرياً على لغةِ مَنْ يَقِفُ على تاءِ التأنيث بالتاءِ، وإمَّا اعتباراً بحالِها في الوصلِ، وهي في القرآن في سبعةِ مواضعَ كُتبت في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ}، وفي هود: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}، وفي الروم: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ}، وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ . . . وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ}
(2/378)
---(1/799)
* { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}: الخمرُ: المُعْتَصَرُ من العِنَبِ غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ، ومنه: خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها، و: "خامِري حَضاجِرُ، أتَاك ما تُحَاذِرُ" يُضْرَبُ للأحمقِ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع، أي: استتر عن الناس. ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم. وفي الحديث: "خَمِّروا آنيتَكم"، وقال:
941 - ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا * فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ
أي: ما يَسُْرُكما من شجرٍ وغيرِه. وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر:
942 - في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ * ..............................
والثاني: لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ، ومنه "خَمِّروا آنيتَيكيم
" والثالث: - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي: تخالِطُه، يقال: خامره الداءُ أي: خالَطَه. والرابع: لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ، ومنه: "اختمر العجينُ" أي: بَلَغَ إدراكُه، وخَمَّر الرأيَ أي: تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ.
والمَيْسِرُ: القِمار، مَفْعِل من اليُسْر، يقال: يَسَرَ يَيْسِر. قال علقمة:
943 - لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها * وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ
وقال آخر:
944 - أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني * ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
(2/379)
---(1/800)
وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال، أحدُهما: من اليُسْر وهو السهولةُ، لأنَّ أَخْذَه سهل. الثاني: من اليَسار وهو الغنى، لأنه يَسْلُبه يساره، الثالث: مِنْ يَسَر لي كذا أي: وَجَب، حكَاه الطبري عن مجاهد. وردَّ ابنُ عطية عليه. الرابع: من يَسَر إذا جَزَر، والياسرُ الجازرُ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطية: "وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ اليُسْرِ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة" واليَسَرُ: الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح، ويُجْمع على أَيْسار، وقيل، بل "يُسَّر" جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس.
(2/380)
---(1/801)
وللميسر كيفيةٌ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرعها لتوقَّفِ المعنى عليها. فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ، لسبعةٍ منها حظوظٌ، وعلى كل منها خطوطٌ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ، وتلك القداحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحد، والتَّوْءَمُ وله اثنان، والرقيبُ وله ثلاثةُ، والحِلْسُ وله أربعةٌ، والنافِسُ وله خمسةٌ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ. وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحرْضَة وهو الضاربُ، فلا يميلُ مع أحدٍ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ، ويُخْرِج رأسه، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ: فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه: البَرَم، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً. وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/.
وقولُه {عَنِ الْخَمْرِ} لا بد من حذف مضافٍ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ والميسرِ غيرُ مُرادٍ. والتقدير. عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ، وحُرْمَةً، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ.
(2/381)
---(1/802)
قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجارُ خبرُ مقدمٌ، و "إثمٌ" مبتدأٌ مؤخر، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً، لنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصفُ أو العطفُ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطِيهما إثمٌ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما.
وقرأ حمزةُ الكسائي: "كثيرٌ" بالثاء المثلثة، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ. ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ، ومنه آية {حُوباً كَبِيراً}. وسُمِّيت الموبِقات: "الكبائر"، ومنه قولُه تعالى: {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ}، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر، وقد أجمعِتِ السبعةُ على قوله: "وإثْمهما أكبرُ" بالباء الموحَّدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين: فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة واأفعال القبيحةِ، وإمَّا باعتار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ، فقد لَعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن معها عشرةً: بائِعَها ومُبتاعَها، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ. وأيضاً فإن قوله: "إثم" مقابلٌ لـ"منافع" و "منافع" جمعٌ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم، وقد تقدّضم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ: "مَلِكَ" و "مالِك".
(2/382)
---(1/803)
وقال أبو البقاء: "الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال: إثمٌ كبير وصغير، ويُقال في الفواحش العظامِ "الكَبائرُ"، وفيما دونَ ذلك "الصغائرُ" وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى، لأن الكثرةَ كِبر، والكثيرَ كبيرٌ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه - : "وإثمُهما أكثرُ" بالمثلثة، وكذلك الأَولى في قراءتِهِ ومصحفه. وفي قراءةِ أُبَيّ: "أقربُ من نفعِهما".
[وإثمُهما ونفعُهما مصدران مضافان] إلى الفاعل، لأنَّ الخمرَ والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكونَ الإِضافةُ باعتبار أنهما مَحَلُّهما. وقد تقدَّم القولُ مستوفىً على قولِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} وقرأ أبو عمرو: "قلِ العفوُ" رفعاً والباقون نصباً. فالرفعُ على أن "ما" استفهاميةٌ، و "ذا" موصولةٌ، فوقع جوابُها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوف، مناسبةً بين الجوابِ والسؤال. والتقدير: إنفاقُكُم العفوُ. والنصب على أنها بمنزلةٍ واحدة، فيكون مفعولاً مقدماً، تقديره: أيَّ شيء ينفقون؟ فوقع جوابُها منصوباً بفعلٍ مقدر للمناسبة أيضاً، والتقديرُ: أنفقوا العفوَ. وهذا هو الأحسنُ، أعني أن يُعتقدَ في حالِ الرفع كونُ "ذا" موصولةً، وفي حال النصب كونُها ملغاة. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونِها ملغاةً مع رفعِ جوابِها، وموصولةً مع نصبِهِ. وإنما اختصرْتُ القولَ هنا لأني قد استوفيتُ الكلامَ عليها عند قولِهِ تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ} ومذاهبِ الناسِ فيها، فأغنى عن إعادِتها.
(2/383)
---(1/804)
قوله: {كَذالِكَ يُبيِّنُ} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: تبييناً مثلَ ذلك التبيين يُبَيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدرِ المعرفة، أي: يبِّن التبيينَ مماثلاً ذلك التبيينَ. والمشارُ إليه يبيِّنُ حالَ المُنْفَقِ أو يبِّين حكمَ الخمرِ والميسرِ والمُنْفَقَ المذكور بعدها. وأبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسمَ الإِشارة ببيانِ حكمِ الخمر والميسر، وأَبْعَدُ منه مَنْ جَعَلَه إشارةً إلى جميع ما سبق في السورة من الأحكامِ.
و "لكم" متعلِّقٌ بـ"يُبَيِّن". وفي اللامِ وجهان، أظهرُهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قُلْت لك. والثاني: أنها للتعليلِ وهو بعيدٌ. والكاف في "كذلك" تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامِعِ. فتكونَ على أصلِها من مخاطبة المفرد. والثاني: أن تكونَ خطاباً للجماعةِ فيكونَ ذلك مِمَّا خُوطِبَ به الجمعُ بخطابِ المفردِ، ويؤيِّده قولُه "لكم" و "لعلكم"، وهي لغةٌ للعربِ، يخاطبون في اسم الإِشارة بالكافَ مطلقاً، وبعضُهم يستغنى عن الميمِ بضمة الكاف، قال:
945 - وإنَّما الهالِكُ ثم التالِكُ * ذو حَيْرَةٍ ضاقَتْ به المسالِكُ
كيف يكون النَّوْكُ إلا ذلكُ
* { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(2/384)
---(1/805)
قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا}: فيه خمسةُ أوجهٍ، أظهرُها: أن يتعلَّقَ بيتفكرون على معنى يتفكرون في أمرهما، فيأخذونَ ما هو الأصلحُ، ويُؤْثِرُون ما هو أبقى نفعاً. والثاني: أن يتعلَّقَ بـ"يبيِّن" ويُرْوَى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يُقَدَّر مضافٍ، أي: في أمرِ الدنيا والآخرة، ويُحْتَمل ألاَّ يقدَّرَ، لأنَّ بيانَ الآيات وهي العلاماتُ يظهرُ فيها. وجعل بعضُهم قولَ الحسن من التقديم والتأخري، ثم قال: "ولا حاجة لذلك، لحَمْلِ الكلام على ظاهره، يعني مشنْ تعلق في الدنيا بـ"تتفكرون". وهذا ليس من التقديم والتأخير في شيء، لأنَّ جملةَ الترجِّي جاريةٌ مَجْرى العلةِ فهي متعلقةٌ بالفعل معنى، وتقديمُ أحدِ المعمولاتِ على الآخرِ لا يقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، ويُحْتَمل أن تكونَ اعتراضيةً فلا تقديمَ ولا تأخيرَ.
(2/385)
---(1/806)
والثالث: ان تتعلَّق بنفسِ "الآيات" لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية. قال مكي: "معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات" قال ابن عطية: "فقولُه: "في الدنيا" يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات" وما قاله عنه ليس بظاهرٍ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات. ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق / الاصطلاحي، فقال الشيخ: "فهو فاسدٌ، لأنَّ "الآيات" لا تعملُ شيئاً البتة، ولا يتعلَّقُ بها ظرفٌ ولا مجرورٌ" وهذا من الشيخ فيه نظرٌ، فإن الظروفَ تتعلَّقُ بروائح الأفعال، ولا شك أن معنى الآياتِ العلاماتُ الظاهرةُ فيتعلَّق بها الظرفُ على هذا. وإن عنى التعلقَ المعنويَّ وهو كونُ الجارِّ من تمام معنى "الآيات" فذلك لا يكون إلا إذا جَعَلْنا الجارَّ حالاً من "الآيات" ولذلك قَدَّرَها مكي نكرةً فقال: "يبيِّن لهم آياتٍ في الدنيا" لِيُعْلِمَ أنها واقعةً موقعَ الصفةِ لآيات، ولا فرقَ في المعنى بين الصفةِ والحالِ فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً.
الرابع: أن تكونَ حالاً من "الآيات" كما تقدَّم تقريرُه الآن. الخامسُ: أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا:
946 - لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ * وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
فـ"البيت" عندهم موصول، ولتقرير مذهبِهم والردِّ عليه موضعٌ هو أليقُ به.
والتَّفكُّر: تَفَعُّل من الفِكْر، الذهنُ، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنَه فيه وردَّده.
(2/386)
---(1/807)
قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} "إصلاحٌ" مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين: إمَّا وصفُه بقوله "لهم"، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه، و "خيرٌ" خبرُه. و "إصلاحٌ" مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ، تقديره: إصلاحُكم له، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له، وهذا أَوْضى من تخصيصِ أحدِ الجانبين بال
إصلاح كما فَعَلَ بعضُهم. قال أبو البقاء: "فيجوزُ أن يكونَ التقديرُ: "خيرٌ لكم"، ويجوز أن يكونَ: "خيرٌ لهم" أي إصلاحُهم نافعٌ لكم".
و "لهم": إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً لـ"خير"، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم. وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من "خير" قُدِّم عليه، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ: إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه: أَصْلحُوهم، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ.
قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} الفاء جوابُ الشرط، و "إخوانُكم" خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: فهم إخوانُكم. والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط. والجمهورُ على الرفع، وقرأ أبو مُجْلز: "فإخوانَكم" نصباً بفعل مقدر، أي: فقد خالَطْتُم إخوانَكم. والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء، فإنه قال: "ويجوزُ النصبُ في الكلام، أي: فقد خالطْتُم إخوانَكم".
وقوله: {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} تقدَّم الكلام عليه في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ}، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريفِ المعهود، وهذا هو الظاهرُ. وقد يجوز أن تكونَ للعهدِ أيضاً.
(2/387)
---(1/808)
وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ: "ويسألونك" إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه. ووقَع جوابُ السؤالِ بجملتين: إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهُما غيرُ مرادٍ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل، وأُخْبِرَ عنه بـ"خير" الدالِّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيِتَّيهِ.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} مفعولُ "شاءَ" محذوفٌ، أي: إعناتَكم. وجوابُ لو: "لأعنَتَكم"، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ.
والمشهورُ قطعُ همزةِ "لأعنتكم" لأنها همزةُ قطعٍ. وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ، وليس من أصلِهِ ذلك، ورُوِيَ سقوطُها البتة، وهي كقراءة: {فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} شذوذاً وتوجيهاً. ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً.
والمخالطةُ: الممازَجَةُ. والعَنَتُ: المشقةُ، ومنه "عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ"، أي: شاقةُ المَصْعَدِ.
* { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوااْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
(2/388)
---(1/809)
قولُه تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ}: الجمهورُ على فتح تاءِ المضارعةِ، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكَحَ الرباعي، فالهمزةُ فيه للتعديةِ، وعلى هذا فأحدُ المفعولين محذوفٌ، وهو المفعولُ الأولُ لأنه فاعلٌ معنىً تقديرُهُ: ولا تُنْكِحُوا أنفسَكم المشركاتِ.
والنكاحُ في الأصلِ عند العرب: لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه، ومنه: "نَكَح المطرُ الأرضَ"، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي. وقيل: أصلُه المداخَلَةُ ومنه: تناكَحَت الشجر: أي تداخلت أغصانُها، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله:
947 - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها * حارمٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا
أي: فاعتقد أو توحَّشْ وتجَنَّبِ النساء. ويُطْلَقُ أيضاً على الوَطْءِ كقوله:
948 - البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ * والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا
وحكى الفراء "نُكُح المرأةِ" بضمِّ النونِ على بناء "القُبُل" و "الدُّبُر"، وهو بَضْعُها، فمعنى قولِهم: "نَكَحَها" أي أصابَ ذلك الموضعَ، نحو كَبَده: أي أصابَ كَبِدَه، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضَعَهَا.
(2/389)
---(1/810)
وقال أبو عليك "فَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا: "نكح فلانٌ فلانةً" أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأتَه أو زوجته فلا يريدون غير المجامعَةِ وهل إطلاقُهُ عليهما بطريق الحقيقةِ فيكونُ من باب الاشتراكِ أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظاهر: الثاني: فإنَّ المجازَ خيرٌ من الاشتراكِ، وإذا قيلَ بالحقيقةِ والمجاز فإنهما حقيقة: ذهب قومٌ إلى أنه حقيقةٌ في الوطء وذهبَ قومٌ إلى العكس. قال الراغب: "أصلُ النكاحِ للعقدِ ثم استُعِيرَ للجِماع، ومُحالٌ أن يكونَ في الأصلِ للجماعِ ثم استُعير للعقد، لأنَّ أسماءَ الجماعِ كلَّها كناياتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه كاستقباحِهم تعاطِيه، ومُحالٌ أن يستعير مَنْ لا يقصِدُ فُحشاً اسمَ ما يستفظعونه لِما يستحسنونه. قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} قوله: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} / "حتى" بمعنى "إلى" فقط، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار "أَنْ" أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهورِ لاتصاله بنونِ الإِناث، والأصل: يُؤْمِنْنَ، فَأُدْغِمَت لامُ الفعلِ في نون الإِناث.
قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} سَوَّغَ الابتداءَ بـ"أَمَة" شيئان: لامُ الابتداء والوصفُ "وأصل" أمه": أَمَوٌ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث كـ"قُلَة" و "ثُبَط’ ?I??? ??? ???? ?C???C ?C?? ??????C ?? C????. ?C? C???CE?:
949 - ????C C????C?? ??C ??I??????? ??IC? * ??C EIC?? E??? C??????C?? EC??C??
(2/390)
---(1/811)
??U????C ?? C???I?? ???C?? ?C??C: ????E? E????E C????????E ????????E ?? EC????????E. ??? ?????C "?????E" EE????? C???? ?? "?????E" E?????C? ???C?? ?U??????C C?????? ??C? ??C???C ??? ??C ?? E?????E? ?????C ????C? ?E???????C ?C??EC?? ?C ?E???C ??ECE ????CE? ????? ??????E? ??? U??? ??C?. ?C?EC??: ?C? E? ?E? C???E?? ???? ?????? ???? ?????? C???E ??????? ????? ?????C ?????E E???? C???? ????? ?E? ?I? ??I?E ?????C ??????E? ?????C ?C??C ?? ?C?E ??? ???? ?????C ???????C ??? ?E? ??I??E ???I?? ????????? ?? ?????C: ????E ????? ??????C ?? ??????????C ?????? ????????C ?? ????I???C C??C?? C???????E? ????C ?C?E [AI?] C?C???? ??I????C C??C?? ?????????C ???C? E?? C????E ?C???? ??C??C: ??C. ??C ????? ??? EO?? ?? ?C? ?????? ?? ????? C?????CE? ??? C????? ??C ?C? ??? ?C? "??I??" ??C? "E??"? ????? ??? C?EC?? C???????E? ??I???? ??C ???E? E?C????. ???????E ??? "????C?" ??C E?I???? ???? ??C?? ?C?????: ??C??? ??? ??EE ????CE? ??????E?E C??C?? ???E? ??????C ???C? E?I ???? ?C?IE? ???C?. ??? C??I?E: "?C E????????C ??C?? C?????? ??C?I? C???" ???? A??? ?C? C?OC??:
950 - E???O?? E?C ??E?I? C?????C * ?? E??CO??? C?A?? C???C????
(2/391)
---(1/812)
?C???? "????????" E???E??? C????? ??E??E? ?C?IE?? ?C?EC??E? ?C??E? ?? ?C?? C????E ???: ???????? ????????? ????E C??C?? ???C? ?????C? ?C ?E???C ?? C??? ???E? ??C ?U??? ??? ??????E?E? C??C?? ?C?? ?C???E? ???E? ?E????? C??C??? ??C?? C?C??? ?? ?E??? C???????. ???: UC?? ??C??? E? ????E?E? C????E? C?EC??E? ????C? E??????C E?I ?I?? ??E??E?? ?E????: ?C? A?? ????E EA?? ????E A??C?? E?I???? C???E ?C????E ?E?U????? C??E?E?? ??U????? ?? ??C C???E? ?????C? ??I??? ??????? ???? I????? ??????? ???C C?E????? C??? ????C?? ????I?? ??? ?E? C???E? ????? C??E?I??? ???? ????? ???? ?? A??C? ??? ??????E E????? C?????? ???? ???E? ?? ?? ?C? ????? ??C?? ??EU? ?? ???C?? ?C? A?? ????E EA?? ????E A?C?? ??C? C??? ????E? EC?A?? ??E?????E? EC????CE? C?UC???E?.
والتفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ}: إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ، هذا إذا التزمنا بأن "أَفْعَلَ" لا بد أن يَدُلَّ على زيادةٍ ما وإلاَّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ كما هو مذهبُ الفراء وجماعةٌ.
وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يَحْتَمِلُ أن يكونَ "مشركةٍ" صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي: مِنْ حرَّةٍ مشركةٍ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله: "ولأمةٌ" هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا.
(2/392)
---(1/813)
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقوله "ولو أَعْجَبَكم" هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ "لو" هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى "إنْ" نحو: "رُدُّوا السائرَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ"، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التقديرُ: خيرٌ من مشركةٍ على كلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأحوالِ، وأنَّ ما بعدَ "لو" هذه إنما يأتي وهو مُنافٍ لِما قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ منافٍ لحكمِ الخيريةِ، ومقتضٍ جوازَ النكاح لرغبةِ الناكحِ فيها. وقال أبو البقاء: "لو" هنا بمعنى "إنْ"، وكذا كُلُّ موضعٍ وقع بعد "لو" الفعلُ الماضي، وكان جوابُها متقدماً عليها، وكونُها بمعنى "إنْ" لا يُشْتَرَطُ فيه تقدُّمُ جوابِها، لا ترى أنَّهم قالوا ي قولِهِ تعالى: {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} إنها بمعنى "إنْ" مع أنَّ جوابَها وهو "خافوا" متأخِّرٌ عنها، وقد نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النساء قال في خافوا: "وهو جوابُ "لو" ومعناها "إنْ".
قوله: {وَالْمَغْفِرَةِ} الجمهورُ على جَرَّ "المغفرة" عطفاً على "الجنة" و "بإذنه" متعلِّقٌ بيدعو، أي: بتسهيلهِ.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ "المغفرة" على الجنة: {سَابِقُوااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}{وَسَارِعُوااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ، فإنَّ قبلَها "يدعو إلى النار"، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ. وقرأ الحسن "والمغفرةُ بإذنِهِ" على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصلةٌ بإِذنِهِ.
(2/393)
---(1/814)
* { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
قولُه تعالى: {عَنِ الْمَحِيضِ}: مَفْعِلِ من الحَيْضِ، ويُراد به المصدرُ والزمانُ والمكانُ، تقولُ: حاضَتِ المرأَةُ تحيضُ حَيْضاً، ومَحِيضاً ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعِل ومَفْعَل بالكسرِ والفتحِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ، أحدُها: أنه كالصحيح، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ. والثاني: أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمَحاضُ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان: أعني الكسر والفتح فاقتاسا. والثالث: أن يُقْتَصَرَ على السماع، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال: "حائِضَةٌ" إلا قليلاً، أنشدَ الفراء:
951 - ....................... * كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ
والمعروفُ أن النَّحويين فَرَّقوا بين حائض وحائضة: فالمجرد من تاء التأنيث بمعنى النَسَب أي: ذاتُ حيضٍ، وإنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعرِ ذلك، وهكذا كلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمؤنثِ نحو: طامِث ومُرْضِع وشبهِهما /.
(2/394)
---(1/815)
وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار، يُقال: حاضَ السيلُ وفاضَ، قال الفراء: "حاضَت الشَجرةُ أي: سالَ صَمْغُها"، قال الأزهري: "ومن هذا قيل للحوضِ: حَيْضٌ، لأنَّ الماءَ يسيل إليه" والعربُ تُدْخِلُ الواو على الياءِ، والياءَ على الواو، لأنهما من حَيَّز واحدٍ وهو الهواء. والظاهرُ أن المحيض في هذه الآية يُراد به المصدرُ وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية، قال ابن عطية: "والمحيضُ مصدرٌ كالحيضِ، ومثله: "المقيل" مِنْ قال يَقيل، قال الراعي:
952 - بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة * لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا
وأنشد لرؤبة:
953 - إليك أشكوا شدَّة المعيشِ * ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
وقيل: المَحيضُ في الآية المرادُ به اسمُ موضعِ الدم وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأول قولُه: {قُلْ هُوَ أَذًى}. وقد يجاب عنه بأنَّ ثَمَّ حذفَ مضافٍ أي: هو ذو أذىً، ويؤيِّدُ الثانيَ قولُه: {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ}. ومَنْ حَمَلَه على المصدر قَدَّر هنا حذف مضافٍ أي: فاعتزلوا وَطْءَ النساءِ في زمانِ الحَيْضِ، ويجوزُ أن يكونَ المحيضُ الأولُ مصدراً والثاني مكاناً.
وقوله: {هُوَ أَذَى} فيه وجهان: أحدُهما قالَه أبو البقاء: "أن يكونَ ضميرَ الوطءِ الممنوعِ" وكأنه يقول: إن السياقَ يَدُلُّ عليه وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ. الثاني: أن يعودَ على المحيض، قال أبو البقاء: "ويكون التقديرُ: "هو سببُ أذىً"، وفيه نظرٌ، فإنَّهم فَسَّروا الأذى هنا بالشيء القذِرِ، فإذا أَرَدْنا بالمحيضِ نَفْسَ الدمِ كانَ شيئاً مُسْتَقْذَراً فلا حاجة إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ.
(2/395)
---(1/816)
وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} وهي: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}، و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}. وجاء "يَسْأَلُونك" أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ}. فما الفرقُ؟ والجوابُ: أنَّ السؤالاتِ الأهواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.
قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} "حتى" هنا بمعنى "إلى" والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر تبشديد الطاءِ والهاءِ، والأصلُ: يَتَطَهَّرْنَ، فَأُدغم. والباقون: "يَطْهُرْنَ" مضارعُ طَهُر. قالوا: وقراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ. وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ. ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال: "هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجالِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط؟" قال ابنُ عطية: ",كُلٌّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ الاغتسالُ، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم، وكذلك ادعاؤه الإِجماع" وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ. ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي.
(2/396)
---(1/817)
قوله: {مِنْ حَيْثُ} في "مِنْ" قولان، أحدُهما: أنُّها لابتداءِ الغايةِ، أي: من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض. والثاني: أن تكونَ [بمعنى] "في"، أي: في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض. ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه: {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ}، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ: {لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ}{مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ} أي: في يوم الجمعة وفي الأرضِ. قال أبو البقاء: "وفي الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه: أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيانِ منه" يعني أنَّ المفعولَ الثاني حُذِفَ للدلالةِ عليه. وكَرَّر قولَه "يحب" دلالةً على اختلافِ المقتضي للمحبَّة فتختلفُ المحبَّةُ.
* { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوااْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
قولُه تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}: مبتدأٌ وخبرٌ. ولا بدَّ من تأويلٍ ليصحَّ الإِخبارُ عن الجثةِ بالمصدرِ. فقيل: على المبالغة، جُعِلوا نفس الفعل. وقيل: أراد بالمصدر اسم المفعول. وقيل: عَلى حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: وَطْءُ نسائِكم حَرْثٌ أي: كحَرْث، وقيل: من الثاني أي: نساؤكم ذواتُ حَرْثٍ. و "لكم" في موضِع رفعٍ لأنه صفةٌ لحَرْث، فيتعلَّق بمحذوفٍ. وإنما أفرد الخبرَ والمبتدأُ جمعٌ لأنه مصدرٌ والأفصحُ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ حينئذٍ.
(2/397)
---(1/818)
قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} "أنَّى" ظرفُ مكانٍ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى "متى"، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف، وبمعنى مِنْ أي، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ. وقال النحويون: "أنَّى" لتعميم الأحوال. وقال بعضُهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتُ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ "كيف" ومِنْ "أين" ومِنْ "متى". وقالوا: إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط. واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ،
وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ. والعاملُ فيها هنا قالوا: الفعلُ قبلها وهو: "فأتوا" قال الشيخ: "وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّها: إمَّا / شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين، أحدُهما: من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم، وحينئذ يقضتى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك. والثاني: من جهةِ الصناعةِ. وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله، لأنَّ له صدرَ الكلام، بل يعمل فيه فعلُ الشرط، كما أنه عاملٌ في فعلِ الشرطِ الجزمَ. ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه لأنَّ له صدرَ الكلام، ولأنَّ "أنَّى" إذا كانَتْ استفهاميةً اكتفَتْ بما بعدَها من فعلٍ واسم نحو: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}{أَنَّى لَكِ هَاذَا} وهذه في هذه الآية مفتقرٌ لِما قبلَها كما ترى، وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرِ.
(2/398)
---(1/819)
ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها: لدلالة ما قبله عليه، تقديرُه: أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ بـ"في"، كما أُجْرِيت "كيف" الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: كيف يشاء ينفق، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه. وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ. فإنْ قلتَ: قد أَخْرَجْتَ "أنَّى" عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف، وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد "كيف" التي تُسْتَعَْل شرطية؟ قلت: تَحْتَمِل الأمرين، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ، وهو تقديرُ "في" في كلٍّ منهما". ولم يَجْزِمْ بـ"كيف" غلا بعضُهم قياساً لا سماعاً. ومفعولُ "شئتم" محذوفٌ أي: شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح.
قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعولُه محذوفٌ أي: نيَّةَ الولدِ أو نيةَ الإِعفاف وذِكْرَ اللَّهِ أو الخيرِ، كقولِهِ: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} و "لأنفسكم" متعلقٌ بقَدِّموا. واللامُ تحتملُ التعليلَ والتعدي. والهاءُ في "ملاقوه" يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: ملاقو جزائِه، وأَن تعودَ على مفعولِ "قَدِّموا" المحذوفِ، على حَذْفِ مضافٍ أيضاً أي: ملاقُوا جزاءِ ما قَدَّمتم، وأن تعودَ على الجزاءِ الدالِّ عليه مفعولُ "قَدِّموا" المحذوف.
(2/399)
---(1/820)
والضميرُ في "وبَشِّر" للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله: {يَسْأَلُونَكَ} قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما. ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.
* { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ}: هذه اللامُ تحتملُ وجهينِ، أحدُهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ "عُرْضة" تقديرُه: ولا تجعلوا اللَّهَ مُعَدَّاً ومَرْصَدَآً لحَلْفِكم. والثاني: ان تكون للتعليلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ أي: لا تَجْعلوه عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمانكم.
قوله: {أَنْ تَبَرَّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرُ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكم أَوْلَى، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاع هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهر تعلُّقُها به.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه، فقيل: إرادةَ أن تَبَرُّوا، وقيل: كراهةَ أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أَنْ تَبروا، قال المبرد، وقيل: لئلا تبروا: قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا:
954 - . . . فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً .........................
(2/400)
---(1/821)
أي: لا تهبطُ، فحذف "لا" ومثلثه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} أي: لئلا تضِلُّوا. وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه: "إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ" لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ، تقول: إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ.
الثالث، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا، وحينئذ يَجِيء فيها اقولان: قولُ سيبويه والفراء، فتكونُ في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ. وقال الزمخشري: "ويتعلَّق "أَنْ تَبَرُّوا" بالفعلِ أو بالعُرْضَةِ، أي: ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأجلِ أيْمانكم عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا". قال الشيخ: "وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصلِ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبي، وذلك أنَّ "لأيمانِكم" عنده متعلقٌ بتجعلوا، فوقع فاصلاً بين "عُرْضَة" التي هي العاملُ وبين "أَنْ تَبَرُّوا" الذي هو في أن تبروا، وهو أجنبيٌّ منهما. ونظيرٌ ما أجازه لأأن تقولَ: "امرُرْ واضربْ بزيدٍ هنداً، وهو غيرُ جائزِ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ / : "جاءني رجلٌ ذو فرسٍ راكبٌ أَبْلَقَ" أي رجلٌ ذو فرسٍ أبلقَ راكبٌ، لِما فيه من الفصلِ بالأجنبي.
(2/401)
---(1/822)
الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ. قال الشيخ: "وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه"، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليها إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها" فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من "لأَيْمانكم" بالتأويل الذي ذكره الزمخشري، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ، فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.
السادس: - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذكل الوجه المتقدم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ، والتقديرُ: "لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا" فـ"على" متعلقٌ بإقْسامكم، والمعنى: ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافُ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى !!!.
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقولا، أحدُها: أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة. ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي: مُعَرَّضٌ، قال كعب:
955 - من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِفَتْ * عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقال حبيب:
956 - متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ *يفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي
وقال حسان:
957 - .................. * هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ
وقال أوس:
(2/402)
---(1/823)
958 - وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها * لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.
والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا.
والثالث: أنَّها من العُرْضَة وهي القوة، يقال: "جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ" أي قويٌّ عليه، وقال ابن الزبير:
959 - فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه * لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ، ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البّرِ.
والأيمان: جمعُ يمين، وأصلُها العَضْوُ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم. واشتقاقُها من اليُمْن. واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ تقول: زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه. وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان. وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أولى. وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك.
قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتين الصفتين لتقدُّم مناسبتهما، فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالمسمع، وإرادة البرِ من فِعْلِ القلبِ متعلقةٌ بالعِلْم. وقَدَّم السميع لتقدُّم متعلَّقِه وهو الحَلْفُ.
* { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِيا أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
(2/403)
---(1/824)
قوله تعالى: {بِالَّلغْوِ}: متعلَّقٌ بـ"يُؤاخِذُكم". والباءُ معناها السببيةُ كقولِه تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} واللَّغْوُ: مصدرُ لَغا يَلْغو، يقال: لَغا يلغو لَغْواً، مثل غَزا يغزوا غزواًن ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً، ومن الثاني قولُه تعالى: {وَالْغَوْاْ فِيهِ}. واختُلِفَ في اللغُو: فقيل: ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفراء، ومنه قول الفرزدق:
960 - ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ بلَغْوٍ تَقُوله * إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ
ويُحْكى أن الحسنُ سُئل عن اللغو وعن المَسْبِيَّة ذاتِ زَوْج، فنهض الفرزدق وقال: "ألم تَسْمَع مَا قُلْتُ، وأنشد: ولستَ بمأخوذ، وقوله:
961 - وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا * حالاٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ
فقال الحسنُ: ما أذكاك لولا حِنْثُك". وقد يُطْلَقُ على كل كلامٍ قبيح "لَغْو".
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ}{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} وقال:
962 - ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ * عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ
وقيل: ما يُطْرَحُ من الكلامِ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولِهِم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولادِ الإِبلِ في الدِيَةَ "لَغْوُ" ومنه:
963 - ..................... * كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا
وقيل: هو ما لا يُفْهَمُ، من قولِهم: "لغا الطائرُ" صَوَّت: واللغوُ: ما لَهِجَ به الإِنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا. قال الراغب: "ولَغِي بكذا: أي لَهج به لَهَج العُصفور بِلَغاه، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فَرقةٌ لغة، لجعلها مشتقةً من لَغِي بكذا أي أولعَ به. وقال ابن عيسى: - وقد ذكر أن اللغةَ ما لا يفيدُ - : "ومنه اللغةُ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ" وقد غَلَّطوه في ذلك.
(2/404)
---(1/825)
قوله: {فِيا أَيْمَانِكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتلعَّقَ بالفعلِ قبلَه. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك: "لغا في يمينِه". الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو، وتعرفه من حيث المعنى أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغوَ لصَحَّ المعنى، أي: اللغوُ الذي في أَيْمانِكم.
قوله: {وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم} وَقَعْت هنا "لكن" بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ، لأنها لا تَخْلُوا: إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ.
قوله {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم. و "ما" يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ، أي: لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ. والثاني. أنها بمعنى الذي.
ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي: كَسَبَته، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً. والثالث: أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ / أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه: ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه.
والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة، وأمَّا حَلِيمَ الأديمُ فبالكسر، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي: فسد وتثقَّب قال:
964 - فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ * كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ
وأمَّا "حَلَم" أي رأى في نزمِ فبالفتح، ومصدرُ الأولِ "الحِلْم" بالكسر قال الجَعْدي:
965 - ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له * بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
ومصدرُ الثاني "الحَلَمُ" بفتحِ اللامِ، ومصدرُ الثَالثِ، "الحُلُم" و "الحُلْم" بضمِّ الحاءِ مع ضمِّ اللامِ وسكونِها.
(2/405)
---(1/826)
* { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ}: هذه جلمةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من بابِ الفعلِ والفاعلِ لأنه لا يَشْتَرِط الاعتماد. و "من نسائهم" في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يتعَلَّقَ بيُؤْلُون، قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف عُدِّي بمِنْ وهو مُعَدَّي بـ"على"؟ قلت: قد ضُمِّنَ في القَسَم المخصوص معنى البُعْد، فكأنه قيل: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلين أو مُقْسِمينَ". الثاني: أنَّ "آلى" يتَعَدَّى بعلى وبمن، قاله أبو البقاء نقلاً عن غيرِه أنهُ يقال: آلى من امرأتِهِ وعلى امرأتِه. والثالث: أنَّ "مِنْ" قائمةٌ مقامَ "على"، وهذا رأيٌ الكوفيين. والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ "في"، ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائِهم أو في تركِ وطءِ نسائِهم. والخامس: أنَّ "مِنْ" زائدةٌ والتقديرَ: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزِلون نساءَهم. والسادسُ: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفِ، والتقديرُ: والذين يُؤْلُون لهم من نسائِهم تربُّص أربعةِ، فتتعلَّقَ بما يتعلق به "لهم" المحذوفُ، هكذا قَدَّره الشيخ وعَزاه للزمخشري، وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال: "ويجوزُ أن يُراد: لهم من نسائهم تربُّصُ، كقولك: "لي منك كذا" فقوله "لهم" لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً وهو لفظُ "لهم" إنما أرادَ أَنْ يعلِّق "مِنْ" بالاستقرار الذي تعلَّقَ به "للذين" غايةُ ما فيه أنه أتى بضمير "الذين" تبييناً للمعنى. وإلى هذا المنحى نحا أبو البقاء فإنه قال: "وقيل: الأصلُ "على" ولا يَجُوزُ أن تقومَ "مِنْ" مقامَ "على"، فعندَ ذلك تتعلَّقُ "مِنْ" بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قولُه "للذين"، وعلى تقدير تسليمِ أنَّ لَفظةَ "لهم" مقدرةٌ وهي مُرادةٌ فحينئذٍ إنما تكونُ بدلاً من(1/827)
(2/406)
---
"للذين" بإعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقَ قولُه "للذين يُؤْلُون" مُفْلَتاً. وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ. وأمَّا تقديرُ الشيخِ: "والذين يُؤْلون لم من نسائهم تربُّصُ" فليس كذلك، لأنَّ "الذين لو جاء كذلك غيرَ مجرورِ باللام سَهُل الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام. ثم قال الشيخ: "وهذا كلَّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه، وإنما يتعلَّق بيُؤْلُون علَى أحدِ وجهين: إمَّا أنْ تكونَ "مِنْ" للسبب، أي يَحْلِفون بسببِ نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الامتناع، فيتعدَّى بـ"مِنْ"، فكأنه قيل: للذين يمتنعون من نسائِهم بالإِيلاءِ، فهذان وَجْهان مع الستة المتقدمة، فتكونُ ثمانيةً، وإن اعتَبَرْتَ مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةً.
والإِيلاءُ: الحَلْف، مصدرُ آلى يُولي نحو: أَكْرم يُكرِم إكراماً، والأصل: إإلاء، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو: "إيمان".
ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل، والأصلُ: اإتَلْى، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم.
والحلَلْفَةُ: يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على "ألايا" كعَشِيَّة وعَشايا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على "ألايا" كرَكُوبة ورَكائب. قال كُثَيِّر عزة:
966 - قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه * إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيّضة وأَلايا عند قولِه: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} جمع خطيئة.
والتَّرَبُّصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التصبُّر. قال:
967 - تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها * تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
(2/407)
---(1/828)
وضافةُ التربُّصِ إلى الأشهرِ فيها قولان، أحدهُما: أنَّه من بابِ إضافةِ المصدر لمفعولِه على الاتساع في الظَّرْفِ حتى صارَ مفعولاً به فأُضيفَ إليه والحالةُ هذه. والثاني: أنه أضيفَ الحَدَثُ إلى الظرفِ من غيرِ اتِّساعِ. فتكونُ الإِضافةُ بمعنى "في" وهو مذهبٌ كوفي، والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: تربُّصُهم أربعةُ أشهرٍ.
قوله: {فَآءُوا} ألفُ "فاء" منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم: فاء يفيءُ فَيْئَةً. رجَع. والفَيءُ: الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال. وقال علقمة:
968 - فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني * ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَصَّبِ
* { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {عَزَمُواْ الطَّلاَقَ}: في نصبِ "الطلاق" وجهان، أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافضِ، لأنَّ "عزم" يتعدَّى بـ"على"، قال:
969 - عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ * لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ
والثاني: أن تَثَمِّن "عزم" معنى نَوَى، فينتصبَ مفعولاً به.
والعَزْم: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر. ويستعمل بمعنى القَسَمِ: عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ.
والطلاقُ: إحلالُ العَقْدِ، يقال: طَلَقَتْ بفتح اللام - تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطالقَةٌ، قال الأعشى:
970 - أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ * ...........................
وحكى ثعلب: "طَلُقت" بالضم، وأنكره الأخفش، والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً أو اسمَ مصدرٍ وهو التطليقُ.
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال الشيخ: "ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعوه. وقرأ عبد الله: "فإن فاؤوا فيهنَّ" وقرأ أبَيّ "فيها"، والضميرُ للأَشْهُرِ.
(2/408)
---(1/829)
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه. "فإنْ قلت: كيف موقعُ الفاءِ ذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ، لأنَّ قولَه: "فإنْ فاؤوا، وإنْ عَزَموا" تفصيلٌ لقولِه: "للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل، كما تقول: "أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه، وإلاَّ لم أقُمْ إلاَّ ريثما أتحولُ". قال الشيخ: "وليس بصحيحٍ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ، ألا ترى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حالُه، وهو قولُه: "أنا نزيلُكم هذا الشهر"، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجوابِ الدالِّ على اختلافِ متعلَّقِ / فعلِ الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك، لأنَّ الذين يُؤْلُون ليس مُخْبَراً عنهم ولا مُسْنَداً إليهم حكمٌ، وإنما المحكومُ عليه تربُّصُهم، والمعنى: تربُّص المُؤْلِين أربعةُ أشهر مشروعٌ لهم بعد إيلائِهم، ثم قال: فإنْ فاؤوا وإنْ عَزَموا" فالظاهرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأسْرِهاه، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها، لأنهَّ التقييدَ المغيارَ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقولَ: "للضيفِ إكرامُ ثلاثةِ أيامٍ، فإنْ أقامَ فنحن كرماءُ مُؤْثِرُون وإنْ عَزَم على الرحيلِ فله أنْ يَرْحَلَ" فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطينُ مُقَدَّران بعدَ إكرامِه".
(2/409)
---(1/830)
* { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُواءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيا أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوااْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}: مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمرِ أي: ليترَبَّصْنَ، أو على بابها؟ قولان. وقال الكوفيون: إنَّ لَفظَها أمرٌ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جَعَلَها على بابها قَدَّر: وحكمُ المطلقاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فَحَذَفَ "حكم" مِن الأول و "أنْ" المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جداً.
و "تَرَبَّص" يتعدَّى بنفسِه لأنه بمعنى انتظَر، وهذه الآيةُ تَحتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفعول التربص محذوفاً وهو الظاهرُ، تقديرُ: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ "ثلاثة قروءٍ" على هذا منصوباً على الظرفِ، لأنَّه اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ، والثاني: أن يكونَ المفعولُ هو نفسَ "ثلاثةَ قروءٍ" أي ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قروء.
وأمَّا قولُه: {بِأَنْفُسِهِنَّ} فيحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق بـ"يتربَّصْنَ"، ويكونُ معنى الباءِ السببيةَ أي: بسبب أنفسِهنَّ: وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤْتى بالضميرِ المتصلِ، لو قيل في نظيرِه: "الهنداتُ يتربَّصْنَ بهنَّ" لم يَجُزْ لئلاَ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
(2/410)
---(1/831)
والثاني: أن يكونَ "فأنفسِهِنَّ" تأكيداً للمضمرِ المرفوعِ المتصلِ وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد، لأنه يجوزُ زيادتُها في النفسِ والعينِ مؤكَّداً بهما. تقولُ: جاء زيدٌ نفسُه وبنفسِه وعينُه وبعينِه. وعلى هَذا فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتِها. لا يقالُ: لا جائزُ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجِبُ أن تُؤكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ، لأنه لا يُؤَكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنفسِ والعينِ إلاَّ بعد تأكيدِه بالضميرِ المرفوعِ المنفصلِ فيقال: زيد جاء هو نفسُه عينُه، لأنَّ هذا المؤكَّد خَرَج عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلات، فَخَرَج بذلك عن حكمِ التوابعِ فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التُزِمَ في غيرِه، ويُؤيِّد ذلك قولُهم: "أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ"، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريين، والفاعلُ عندَهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرى الفَضَلاتِ بسبب جَرِّه بالحرفِ أو خَرَجَ عن أصلِ بابِ الفاعلِ، فلذلك جازَ حَذْفُه، على أنَّ أبا الحسنِ الأَخفشَ ذَكَر في "المسائل" أنهم قالوا: "قاموا أنفسُهم" من غير تأكيدٍ. وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرْنَ التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَربُّصَ، ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِز
والقُروءُ: جَمْعُ كثرةٍ، ومِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةُ يُمَيَّز بجموع القلةِ ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك إلا عند عدم استعمالِ جمعِ قلةٍ غلاباً، وههنا لفلفظُ جمعِ القلةِ موجودٌ وهو "أَقْراء"، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمعِ الكثرةِ مع وجودِ جمع القلةِ؟. فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدثها: أنه لَمَّا جَمَع المطلقاتِ جمعَ القُروء، لأنَّ كَلَّ مطلقةً تترَّبصُ ثلاثةَ أقراء فصارَتْ كثيرةً بها الاعتبارِ.
(2/411)
---(1/832)
الثاني: أنه من باب الاتساعِ ووضعِ أحدِ الجميعين موضعَ الآخر. والثالث: أنَّ قروءاً جمعُ قَرْءٍ بفتحِ القافِ، فلو جاءَ على "أَقْراء" لجاءَ على غير القياسِ لأنَّ أَفْعالاً لا يطَّرِدُ في فَعْل بفتح الفاء. والرابع - وهو مذهب المبرد - :أنَّ التقديرَ "ثلاثةً من قروء"، فَحَذَفَ "مِنْ". وأجاز: ثلاثة حمير وثلاثةَ كلابٍ، أي: مِنْ حمير ومِنْ كلاب. وقال أبو البقاء: "وقيل: التقديرُ ثلاثة أقراء مِنْ قروء" وهذا هو مذهبُ المبرد بعيِنه، وإنما فسَّر معناه وأَوْضَحَه.
والقَرْءُ في اللغةِ قيل: أصلُه الوقتُ المعتادُ تردُّدُهُ، ومنه: قَرْءُ النجمِ لوقتِ طلوعِه وأُفولِه، يقال: "أَقْرأ النجمُ" أي: طَلَع أو أَفَل. [ومنه قيلَ لوقت] هبوبِ الريحِ: "قَرْؤُها وقارِئُها، قال الشاعر:
971 - شَنِئْتُ العَقْر عَقْرَ بني شُلَيْلٍ * إذا هَبَّتْ لقارِئِها الرِّياحُ
أي: لوقتها، وقيلك أصلُه الخروجُ من طُهْرٍ إلى حَيْضٍ أو عكسُه، وقيل: هو مِنْ قولِهم: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي: جَمَعْتُهُ، وهو غَلَطٌ لأنَّ هذا من ذواتِ الياءِ والقَرْءُ مهموزٌ.
(2/412)
---(1/833)
وإذا تقرَّر ما ذَكَرْتُ لك فاعلمْ أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في إطلاقِه على الحيضِ والطُّهر: هل هو من بابِ الاشتراكِ اللفظي، ويكونُ من الأضدادِ أو مِنَ الاشتراكِ المعنوي فيكونُ من المتواطِىء، كما إذا أَخَذْنا القَدْرَ المشتركَ: إمَّا الاجتماعَ وإمَّا الوقتَ وإمَّا الخروجَ ونحوَ ذلك. وقَرْءُ المرأةِ لوقتِ حَيْضِها وطُهْرِها، ويُقال فيهما: أَقْرتْ المرأةُ أي: حاضَتْ أو طَهُرت. وقال الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارَتْ ذاتَ حيضٍ، وقَرَأَت بغير ألفٍ أي: حاضَتْ. وقيل: القَرْءُ: الحَيْضُ مع الطهرِ، وقيل: ما بَيْنَ الحَيْضَتين. وقيل: أصلُه الجمعُ، ومنه: قَرأْتُ الماءَ في الحوضِ: جَمَعْتُه، ومنه: قرأ القرآنَ: وقولُهم: ما أَقْرَأَتْ هذه الناقةُ في بطنِها سلاقِط، أي: لم تجمعْ فيه جنيناً، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم:
972 - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بِكْرٍ * هِجانِ اللونِ لَم تَقْرأْ جَنِينَا
وعلى هذا إذا أُريد به الحيضُ فلاجتماعِ الدمِ في الرحمِ، وإذا أُريدَ به الطُّهرُ فلاجتماع / الدم في البدنِ، ولكنَّ القائلَ بالاشتراكِ اللفظي وجَعْلِها من الأضدادِ هم جمهورُ أهلِ اللسانِ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.
ومن مجيء القَرْء والمرادُ به الطُّهرُ قولُ الأعشى:
973 - أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ * تَشُدُّ لقْصاها عظيمَ عَزائِكا
مُوَرِّثَةً عِزَّاً في الحي رفعةً * لِما ضاعَ فيها مِنْ قُروءِ نِساءكا
ومن مجيئِه للحيضِ قولُه:
974 - يا رُبَّ ذي ضِغْن عليَّ فارِضِ * له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
أي: فسالَ دَمُه كدمِ الحائضِ. ويقال "قُرْ" بالضمِّ نقله الأصمعي، و "قَرْ" بالفتح نقله أبو زيد، وهما بمعنى واحدٍ.
(2/413)
---(1/834)
وقرأ الحسن: "ثلاثَةَ قَرْوٍ" بفتحِ القافِ وسكونِ الراءِ وتخفيفِ الواوِ من غير همزٍ: ووجهُها أنه أضافَ العددَ لاسمِ الجنسِ، والقَرْو لغةً في القَرْءِ. وقرأ الزهري - ويُروى عن نافع -: "قُرُوّ" بتشديدِ الواوِ، وهي كقراءةِ الجمهورِ إلا أنه خَفَّفَ فَأَبْدَلَ الهمزةَ واواً وأَدْغَمَ فيها الواوَ قبلها.
قوله: {لَهُنَّ} متعلَّقٌ بـ"يَحِلُّ، واللامُ للتبليغِ، كهي في "قُلْتُ لكط.
قوله: {مَا خَلَقَ} في "ما" وجهان، أظهرُهما: أنَّها مصولةٌ بمعنى الذي، والثاني: أنها نكرةٌ موصوقةٌ، وعلى كِلا التقديرين فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: ما خَلَقَه، و "ما" يجوزُ أن يُرَاد بها الجنينُ وهو في حكمِ غيرِ العاقلِ. فلذلك أُوقِعَتْ عليه "ما" وأَنْ يُرادَ بها دمُ الحيضِ.
قوله: {فِيا أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بخَلق. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من عائِد "ما" المحذوفِ، التقديرُ ما خَلَقه الله كائناً في أرحامِهِنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرَةٌ قال أبو البقاء: "لأنَّ وقتَ خَلْقِه ليس بشيءٍ حتى يَتِمَّ خَلْقُه". وقرأ مُبَشّرين عُبَيْد: "في أرحامهنَّ" و "بردِّهُنَّ" بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وقد تقدَّم أنه الأًلُ وأنه لغةُ الحجازِ، وأنَّ الكسرَ لأجلِ تجانسِ الياءِ أو الكسرةِ.
قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبانِ المشهورانِ: إمَّا محذوفٌ، وتقديرهُ مِنْ لفظِ ما تقدَّم لتقوى الدلالةُ عليه، أي: إن كُنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَحِلُّ لهنَّ أَنْ يكتُمْنَ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ كما هو مذهبُ الكوفيين وأبي زيد، وقيل: "إنْ" بمعنى إذ وهو ضعيفٌ.
(2/414)
---(1/835)
قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهورُ على رفعِ تاءِ بعولتهن، وسَكَّنها مسلمة بن محارب، وذلك لتوالي الحركاتِ فَخُفِّف، ونظيرُه قراءةُ: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} بسكونِ اللامِ حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمروٍ أنَّ لغةَ تميم تسكينُ المرفوعِ من "يُعَلِّمُهم" ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مُجْرى عَضُد وعَجُز، تشبيهاً للمنفصِل بالمتصلِ. وقد تقدَّم ذلك بأشبع مِنْ هذا.
و "أَحَقُّ" خبرٌ عن "بُعُولتهنّ" وهو بمعنى حقيقُون، إذ لا معنى للتفضيلِ هنا، فإنَّ غيرَ الأزواجِ لا حقَّ لهنَّ فيهن البتة، ولا حقَّ أيضاً للنساء في ذلك، حتى لو أَبَتْ هي الرَّجْعَةَ لم يُعْتَدَّ بذلك فلذلك قلت: إنَّ "أحقُّ" هنا لا تفضيلَ فيه.
والبعولةُ: جَمْعُ "بَعْلٍ" وهو زوجُ المرأةِ . . . ، قالوا: وسُمِّي بذلك . . . المستعلي على . . . ولِما علا من الأرض . . . فَشَرِبَ بعروقِه، بَعْلٌ، ويقال: بَعَلَ الرجلُ يَبْعَل كمَنَعَ يَمْنَعُ. والتاء في بعولة لتأنيثِ الجمعِ نحو فُحولة وذُكورة، ولا يَنْقاس هذا لو قلت: كَعْب وكُعوبة لم يَجُزْ. والبُعولة أيضاً مصدرُ بَعَل الرجلُ بُعولةً وبِعالاً، وامرأةٌ حسنةُ التَّبَعُّلِ، وباعَلَها كنايةُ عن الجِماع.
قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ بأحقّ. وأمَّا "في ذلك" ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ أيضاً بأحقّ، ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا العِدَّةَ، أي تستحق رَجْعَتَهَا ما دامَتْ في العِدَّة، وليس المعنى أنه أحقُّ أن يَرُدَّها في العِدَّة، وإنما يَرُدُّها في النكاح أو إلى النكاحِ. والثاني: أن تتعلَّقَ بالردِّ ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا النكاحَ، قاله أبو البقاء.
(2/415)
---(1/836)
والضميرُ في "بُعولَتِهِنّ" عائدٌ على بعضِ المطلقات وهنَّ الرَّجْعِيَّات خاصةً. وقال الشيخ: "والأَولى عندي أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكمُ، أي: وبعولةُ رجعياتِهِنَّ" فعلى ما قاله الشيخُ يعودُ الضميرُ على جميعِ المطلقاتِ.
قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ فهو متعلق بمحذوف، وعلى مذهبِ الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ. وهذا من بديعِ الكلامِ، وذلك أنه قد حِذِف من أوَّله شيءٌ أُثبت في آخره نظيرُه، وحُذِفَ من آخره شيءٌ أُثبتَ نظيرُه في الأولِ، وأصلُ التركيبِ. ولهنَّ على أزواجِهنَّ مِثْلأُ الذي لأزواجِهِنَّ عليهنَّ، فَحُذِف "على أزواجهن" لإِثباتِ نظيرِه وهو "عليهنَّ"، وحُذِفَتْ "لأزواجِهنَّ" لإِثباتِ نظيرِه وهو "لَهُنَّ".
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيها وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به "لَهُنَّ" من الاستقرار أي: استقرَّ لهن بالمعروفِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمثل، لأنَّ "مثل" لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ، فعلى الأول هو في محلِّ نصبٍ، وعلى لاثاني هو في محلِّ رفعٍ.
(2/416)
---(1/837)
قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ "للرجال" خبرٌ مقدَّمٌ و "درجةٌ" مبتدأٌ مؤخرٌ، و "عليهنَّ" فيه وجهان على هذا التقديرِ: إمَّا التعلُّقُ بما تعلَّقَ به "للرجالِ"، وإمَّا التلعق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "درجة" مقدَّماً عليها لأنه كان صفةً في الأصلِ فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً. والثاني: أن يكونَ "عليهنّ" هو الخبرَ، و "للرجالِ" حالٌ من "درجة" لأنه يجوزُ أن يكونَ صفةً لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ من حيث إنه يَلْزَمُ تقديمُ الحالِ على عامِلها / المعنوي لأنَّ "عليهنَّ" حينئذٍ هو العاملُ فيها لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضَهم قال: متى كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو جاراً ومجروراً قوي تقديمُها على عاملها المعنويّ، وهذا مِنْ ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وقد رَدَّه الشيخُ بأنَّ هذه الحالَ قد تَقَدَّمَتْ على جُزْأَي الجملةِ فهي نظيرُ: "قائماً في الدارِ زيدٌ"، قال: "وهذا ممنوعٌ لا ضعيفٌ، كما زعم بعضُهم، وجَعَلَ محلَّ الخلافِ فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العاملُ فيها المعنى - على جُزْأَي الجملةِ، بل تتوسَّطُ نحو: "زيدٌ قائماً في الدار"، قال: "فأبو الحسن يُجيزها وغيرُه يَمْنَعُها".
* { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
(2/417)
---(1/838)
قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}: مبتدأٌ وخبرُ، والطلاقُ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرَ طَلَقَتْ المرأةُ طَلاقاً، وأن يكونَ اسمَ مصدر وهو التطليق كالسلام بمعنى الستليم. ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ليكونَ المبتدأُ عيرن الخبرِ، والتقديرُ: عددُ الطلاقِ المشروعِ فيه الرَّجْعَةُ مرتان.
والتثنية في "مرَّتان" حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد. وقال الزمخشري: "إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكير، وجعلها مثل: لَبَيَّك وسَعْديك وَهَذَاذَيك". وردَّ عليه الشيخ ذلك "بأنه مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمّا المناقضةُ فإنه قال: الطلاقُ مرتان، أي: الطلاقُ الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دونَ الإِرسال دفعةً واحدةً، فقولُه هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقية. وأمَّا المخالفة فلأنه لا يُراد أن الطلاقَ المشروعَ يقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط، ويَدُلُّ عليه قولُه بعدَ ذلك: "فإمساكُ" أي بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَة الثانية، "أو تسريحٌ" أي: بالطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعده "فإن طلَّقها". انتهى ما ردَّ به عليه، والزمخشري إنما قال ذلك لأجلِ معنى ذكره، فيُنْظَرُ كلامُه في "الكشاف"، فإنه صحيحٌ.
والألفُ وللام في "الطلاق" قيل: هي للعهدِ المدلولش عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها.
قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان، أحدُهما: أنها للتعقيبِ، أي: بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين. والثاني: أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقيدرُه: فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ.
(2/418)
---(1/839)
وارتفاعُ "إمساك" على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً، تقديرُه [عند] بعضِهم: فعليكم إمساكُ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً، تقديرُه: فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ. والثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالواجبُ إمساكُ. والثالث: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي: فليكن إمساكٌ بمعروف.
قوله: {بِمَعْرُوفٍ} و "بإحسان" في هذه الباءِ قولان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بنفسِ المصدرِ الذي يليه. ويكونُ معناها الإِلصاق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لما قبلها، فتكونَ في محلِّ رفعٍ أي: فإمساكُ كائنٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ كائنٌ بإحسان.
والتسريحُ: الإِرسالُ والإِطلاقُ، ومنه قيل للماشيةِ: سَرْح، وناقة سُرُح، أي: سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه. وقالوا: ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ "فإمساكُ" و "تسريحٌ" على المصدرِ، أي: فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ.
قوله: {أَن تَأْخُذُواْ} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ، أي: ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ. و "مِمَّا" فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ "تأخذوا"، و "مِنْ" على هذا لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "شيئاً" قُدِّمتَ عليه، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً. و "مِنْ" على هذا للتبعيضِ. و "ما" موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: من الذي آتيتموهُنَّ إياه. وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه.
(2/419)
---(1/840)
و "آتى" يتعدَّى لاثنين أولُهما "هُنَّ" والثاني هو العائدُ المحذوفُ. و "شيئاً" مفعولٌ به ناصبُه "تأخذوا". ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي: شيئاً من الأخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مفرغٌ، وفي "أَنْ يخافا" وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه، فيكونُ مسثتنىً من ذلك العامِّ المحذوفِن والتقديرُ: ولا يَحِلُّ لكم أن تأخُذوا بسبب من الأسباب إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حدودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ لاستكمالِ شروطِ النصب، لا سيما مع "أَنْ"، ولا يجيء هنا خلافُ الخليل وسيوبيه: أهي في موضعِ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّح به لنُصِبَ وهذا قد نصَّ عليه النحويون، أعني كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ بلا خلافٍ إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه: ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألاَّ يقيما / حدودَ الله. قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفين، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ. والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ "أَنْ" وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ "أَنْ" المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله "يخافا" و "يُقيما" عائدةٌ على صنفي الزوجين. وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل: "ألاَّ أَنْ تَخافوا ألاَّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً.
(2/420)(1/841)
---
والقراءةُ في "يخافا" بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول. وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب. وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً. أحسنُها أَنْ يكونَ "أَنْ يقيما" بدلاً من الضميرِ في "يخافا" لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديرُه: إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك: "الزيدان أعجباني عِلْمُهما"، وكان الأصلُ: إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حودَ الله، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو "الوُلاةُ" للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ "أَنْ" وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه.
وقد خَرجَّه ابن عطية على أنَّ "خاف" يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، وأَنْ وما في حَيّضزها هي الثاني، وجَعَل "أَنْ" في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ "خافَ" لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: "خِفْتُ زيداً ضَرْبَه"، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في "استغفرت الله ذنباً"، وبأن نسبة كَوْن "أَنْ" في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر، وتَبِعه الكسائي. وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ.
وقال غيرُه كقولِه، إلاَّ أنَّه قَدَّره حرفَ الجرِّ "على" والتقدير: إلاَّ أن يَخاف الولاةُ الزوجين على ألاّ يقيما، فبُني للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجينِ مَقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ "أَنْ"، فجاء فيه الخلافُ المتقدمُ بين سيبويه والخليلِ.
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي، إلاَّ أنه لم يُنْظِّرْه بـ"استغفر".
(2/421)
---(1/842)
وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرو، لا علمَ لهم بذلك، فقال النحاس: "لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى: أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ {إلاَّ أَنْ تخافوا ألاَّ يقيموا} فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال: {إلاَّ أَنْ يُخاف}. وأمَّا اللفظُ: فإنْ كان على لفظِ "يُخافا" وَجَبَ أَنْ تَخافوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ: "ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم، ولم يَقُلْ تعالى: ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ".
وقد رَدَّ الناسُ على النحاس: أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه أولاً، ويَلْزَمُ النحاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يَقْرأ: "فإنْ خافا"، وإنَّما هو في القراءتين من الالتفاتِ المستحسنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى فلأنَّ الولاةَ هم الأًصلُ في رفعِ التظالمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء.
(2/422)
---(1/843)
ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله {إلا أن تَخافوا} وخَطَّأَهُ الفارسي وقال: "لم يُصِبْ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعُ على "أَنْ"، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ". وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله: إلاَّ أَنْ تخافُوهُمَا، أي الأولياءُ الزوجين ألاَّ يُقيما، فالخوفُ واقعٌ على "أَنْ" وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ: الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المقتدِّمَيْنِ: إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو "على".
والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ "أَنْ" في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرذٍ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ، إذ الأصلُ، مِنْ أَلاَّ يُقيما، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل: إلاَّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حودِ اللَّهِ. والثاني: أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة، وأنشد:
975 - فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ * سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً:
976 - ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني * أخافُ إذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذُوقُها /
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعدَ أَنْ، وهذا لا يَصِحُّ في الآيةِ لظهورِ النصبِ. وأمَّا البيتُ فالمشهورُ في روايتِهِ "فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ". والثالث: الظنَّ، قاله الفراء، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ: {إلاَّ أنْ يَظُنَّا} وأنشد:
977 - أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه * وما خِفْتُ يا سَلاَّمُ أنَّكَ عائِبي
(2/423)
---(1/844)
وعلى هذينِ الوجهينِ فتكونُ "أَنْ" وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويه ومسدَّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش كما تقدَّم تقريرُه غيرَ فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَيْنِ، ولذلك قال الراغب: "الخوفُ يُقال لِما فيه رجاءٌ ما، ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أقدر على طلوعِ السماءِ أو نَسْفِ الجبالِ".
وأصلُ يُقيما: يُقْوِما، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ: {الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وزعم بعضُهم أنَّ قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قولِهِ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} وبين قولِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} وفيه بُعْدٌ.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} "لا" واسمُها وخبرُها، وقولُه: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو: "عَلَيْهِما". ولا جائزٌ أن يكونَ "عليهما" متعلقاً" بـ"جُنَاح"، و "فيما افتَدَتْ" الخبرَ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.
والضميرُ في "عليهِما" عائدٌ على الزوجينِ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ. وقال الفراء: "إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}{نَسِيَا حُوتَهُمَا} وقولُه:
978 - فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ * وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من الملحِ، والناسي يُوشَعُ وحدَه، والمنادى واحدٌ في قوله: "يابنَ عفان". و "ما" بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ "به" عليها، إلا على رَأْيِ مَنْ يجعلُ المصدريةَ امساً كالأخفشِ وابنِ السراج و [مَنْ] تابَعهما.
(2/424)
---(1/845)
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} إلى هنا.
وقوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَةِ: تَفْتَعُوها.
قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} "مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وفي خبرِها الخلافُ المتقدِّمُ.
وقوله: {فَأُوْلَائِكَ} جوابُها. ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيهما بعدَها. و "هم" من قوله: "فأولئك هم" يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ فصلاً. والثاني: أن يكونَ بدلاً و "الظالمون" على هذين خبرُ "أولئك" والإِخبارُ بمفردٍ. والثالث: أن يكونَ مبتدأً ثانياً، و "الظالمونَ" خبرَه، والجملةُ خبرَ "أولئك"، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجلمةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في "الظالمون" أي: المبالغون في الظلم. وَحَمَل أولاً على لفظِ "مَنْ" فَأَفْرَد في قولِهِ "يَتَعَدَّ"، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ: {فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
* { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
(2/425)
---(1/846)
قولُه تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}: أي: مِنْ بعدِ الطلاقِ الثالثِ، فلمَّا قُطِعَتْ "بعدُ" عن الإِضافةِ بُنِيَتْ على الضَّمِّ لِما تَقَدَّم تقريُرُه. و "له" و "مِنْ بعد" و "حتى" ثلاثتُها متعلقةٌ بـ"يَحِلُّ". ومعنى "مِنْ" ابتداءُ الغايةِ واللامُ للتبليغِ، وحتى للتعليل، كذا قال الشيخ، والظاهرُ أنها للغايةِ، لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدمُ التحليلِ له إلى أَنْ تنكَحَ زوجاً غيرَه، فإذا طَلَّقها وانقَضَتْ عِدَّتُها منه حَلَّت للأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، ويَدُلُّ على هذا الحذفِ فحوى الكلامِ.
و "غيرَه" صفةٌ لـ"زوجاً"، وإن كان نكرةً، لأنَّ "غير" وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ. و "زوجاً" هل هو للتقييد أو للتوطِئَةِ؟ وينبني على ذلكَ فائدةٌ، وهي أنه إنْ كان للتقييدِ: فلو كانت المرأةُ أَمَةً وطَلَّقها زوجُها ثلاثاً ووطئِها سَيِّدُها لم تَحِلُّ للأولِ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئةِ حَلَّتْ، لأنَّ ذِكْرَ الزوج كالمُلْعَى، كأنه قيل: حتى تنكِحَ غيره، وإنما أتى بلفظ "زَوْج" لأنه الغالبُ.
(2/426)
---(1/847)
قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على "زوجاً" النكرةِ، أي: فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني، وأتى بلفظِ "إنْ" الشرطية دونَ "إذا" تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك، لأنَّ "إذا" للمحققِ وقعُه و "إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه، المبهمِ زمانُ وقوعِه، نحو قولِهِ تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} قوله: {عَلَيْهِمَآ} الضميرُ في "عليهما" يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، أي: فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا. ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني، أي: فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي "وانقَضَتْ عِدَّتُها" وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ، أحدُهما: أَنها لا تَحِلُّ للأول إلاَّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ، والثاني: أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلّضت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ.
قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} أي: في أَنْ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران، و "عليهما" خبرُ "لا"، و "في أن" متعلِّقٌ بالاستقرارِ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ "عليهما" متعلقاً "بـ" جُنَاح، والجارُّ الخيرُ، إما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ "لا"، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً.
(2/427)
---(1/848)
قولُهُ: "إنْ ظَنَّا" شرطٌ جوابُهُ محذوفٌ عند سيبويهِ لدلالةِ ما قبلَه عليه، ومتقدِّمٌ عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابِهِ من ترجيحِ أحدِ الجانين، وهو مُقَوٍّ أن الخوفَ المتقدِّمَ بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيرُهُ أنه بمعنى اليقين، وضَعَّفَ هذا القولَ الزمخشري لوجهين، أحدُهما من جهةِ اللفظِ وهو أَنَّ "أَنْ" الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففةِ منها، لا تقول: عَلِمْتُ أَنْ يقومَ زيدٌ / ، إنما تقولُ: عَلِمْتُ أن يقومَ زيدٌ. والثاني من جهةِ المعنى: فإنَّ الإِنسانَ لا يتيقَّنُ ما في الغدِ وإنما يَظُنُّه ظناً.
قال الشيخ: "أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال: "علمت أن يقومَ زيد" فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره، إلا أن سيبويه أجاز: "ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ" فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضُهم: الجمعُ بينهما أنَّ "عَلِمَ" قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وقوله:
979 - وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ * وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ
فقوله: "علمَ حق" يُفْهَمُ منه أنه قد يكونُ علمَ غيرِ حق، وكذا قولُه: "غيرِ ظَنٍّ" يُفْهَمُ [منه] أنه قد يكونُ عِلْمٌ بمعنى الظن. ومِمَّا يدلُّ على أنَّ "عَلِمَ" التي بمعنى "ظَنَّ" تعملُ في "أَنْ" الناصبةِ قولُ جرير:
980 - نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا * أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ
(2/428)
---(1/849)
ثم قال الشيخ: "وَثَبَت بقولِ جرير وتجويز سيبويهِ أنَّ "عَلِمَ" تعملُ "أَنْ" الناصبةِ، فليسَ بوهمٍ من طريقِ اللفظِ كما ذكره الزمخشري. وأَمَّا قولُهُ: "لأنَّ الإِنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ" فليسَ كما ذَكَرَ، بل الإِنسانُ يعلمُ أشياءَ كثيرةً واقعةً في الغدِ وَيَجْزِمُ بها" وهذا الرَّدُّ من الشيخِ عجيبٌ جداً، كيف يُقال في الآية: إنَّ الظن بمعنَى اليقين، ثم يَجْعَل اليقينَ بمعنى الظن المسوغِ لعمِلِهِ في "أَنْ" الناصبةِ. وقولُهُ "لأنَّ الإِنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد" مُسَلَّمٌ، لكنْ ليس هذا منها.
وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن، أو الأولِ والثاني محذوفٌ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين.
قوله: {يُبَيِّنُهَا} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ، عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها "حدودُ الله" والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ: "نبيِّنها" بالنون، ويُروى عن عاصم، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم. و "لقومٍ" متعلقٌ به. و "يعلمون" في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ. وخَصَّ العلماَْ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم.
* { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوااْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(2/429)
---(1/850)
قولُه تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ}: شرطٌ جوابُهُ "فَأَمْسِكُوهُنَّ"، وقوله: "فبَلَغْنَ" عطفٌ على فعلِ الشرط. والبلوغُ: الوصولُ إلى الشيء: بَلَغَهُ يبلُغه بُلوغاً، قال امرؤ القيس:
981 - ومَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ * ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه: البُلْغَةُ والبَلاغُ اسمٌ لِما يُتَبَلَّغُ به.
قوله: {بِمَعْرُوفٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا الفاعلُ أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعولُ أي: مصاحباتٍ للمعروف.
قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي: لأجلِ الضِّرارِ. والثاني: أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي: حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءِ}،{وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً}، {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}{وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستقال والجَهْر. وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ: يفعلُ ذلك. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا: لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولُه، وهذا غيرُ صوابٍ.
(2/430)
---(1/851)
قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لامُ العلة، وأجاز أبو البقاء: "أن تكونَ لامَ العاقبةِ، أي: الصيرورة، وفي متعلَّقِها وجهان، أحدُهما: أنه "لا تُمْسِكُوهُنَّ". والثاني: أنه المصدرُ إنْ قلنا إنه حال، وإنْ قُلْنَا إنه مفعولٌ من أجله تعلَّقَتْ به فقطن وتكون علةً للعلةِ، كما تقول: "ضربت ابني تأديباً لينتفعَ"، فالتأديب علةٌ للضربِ والانتفاعُ علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّقُ والحالةُ هذه بـ"لا تُمْسِكُوهن". و "تَعْتَدُوا" منصوبٌ بإضمارِ "أنْ" وهي وما بعدَها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ. وأصل "تَعْتَدُوا" تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائرِهِ، ولا يخفَى ذلك مِمَّا تَقدم.
قوله: {عَلَيْكُمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ "النعمة" إن أريدَ بها الإِنعامُ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
982 - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ * عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ
فأعمل "رهبةٌ" في "عقابك"، وإنما المحذُور أن يعملَ المصدرُ الذي لا يُبْنَى عليها نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله:
983 - يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ * بضربةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وهْوَ راكِبُ
بأنَّ المَلا وهو السراب منصوبٌ بفعلٍ مقدر لا بضربة. والثاني: ان يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من "نعمة" إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً إذا هي فاعلةٌ به وعلى الثاني في محلِّ جر لفظاً وتقديراً.
(2/431)
---(1/852)
قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على "نعمة" أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون قولُه "يَعِظُكُم" حالاً، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ في "أنزل" وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه "ما" الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ اذكروا. والثالث: أنه الائد على "ما" المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل.
والثاني: من وَجْهَي "ما" أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكون "يَعِظُكُم" على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ بـ"أَنْزَلَ". و "من الكتاب" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه "ما" الموصولةُ. والثاني: "أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقدير: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتاب. و "مِنْ" يجوز أن تكون تبعيضية وأن / تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك. والضمير في "به" يعودُ على "ما" الموصولةِ.
* { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
(2/432)
---(1/853)
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ}: الآية. كالتي قبلها، إلاَّ أنَّ الخطابَ في "طَلَّقتم" للأزواجِ، وفي "فلا تعضُلُوهُنَّ" للأولياء. وقيل: الخطابُ فيهما للأولياءِ وفيهِ بَعْدٌ من حيث إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيد، وهو أَنْ جَعَلَ تَسَبُّبهُمْ في الطلاق طلاقاً. وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج وتنُسِبَ العَضْلُ إليهم، لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقونَ ويأْبَوْنَ أن تتزوجَ المرأَةُ بعدَهم ظلماً وقهراً.
قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ لأنه إنْ أُريد المطلَّقون فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتار ما يَؤُولون إليه. والفاء [في] فلا تَعْضُلُوهُنَّ جوابُ "إذا".
والعَضْلُ قيل: المَنْعُ، ومنه: "عَضَلَ أَمَته" مَنَعَها من التزوَّجِ يَعْضِلُها بكسر العين وضَمِّها، قال ابن هرمز:
984 - وإنَّ قصائدي لك فاصطَنِعْني * كرائمُ قد عُضِلْنَ عن النِّكاحِ
وقال:
985 - ونحنُ عَضَلْنا بالرماحِ نساءَنا * وما فيكُمُ عن حُرْمَةِ اللهِ عاضِلُ
ومنه: "جاجةٌ مَعْضِل" أي: أحتبس بيضُها: وقيل: أَصلُه الضيقُ، قال أوس:
986 - تَرى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً * مُعَضَّلَةً منا بجيشٍ عَرَمْرم
أي: ضيقةً بهم، وعَضَلتَتِ المرأةُ أي: نَشَبَ ولدُها في بطنِها، وداءٌ عُضال أي: ضَيِّقُ العلاجِ، وقالت ليلى الأخيلية:
987 - شَفاهَا من الداءِ العُضالِ الذي بها * غلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ شَفاها
والمُعْضِلات: المُشْكَلات لضِيق فَهْمها، قال الشافعي:
988 - إذا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي * كَشَفْتُ حقائقَها بالنَّظَرْ
(2/433)
---(1/854)
قوله: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان: أحدُهما: أنه بدلٌ من الضمير المنصوبِ في "تَعْضُلوهُنَّ" بدلُ اشتمال، فيكونُ في محلِّ نصبِ، أي: فلاَ تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ. والثاني: أن يكونَ على إسقاطِ الخافض، وهو إمَّا "مِنْ" أو "عَنْ"، فيكونُ في محلِّ "أَنْ" الوجهانِ المشهوران: أعني مذهبَ سيبويه ومذهب الخليل. و "يَنْكِحْنَ" مضارعُ نَكَح الثلاثي وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه لأنَّ لامَه حرُف حلقٍ.
(2/434)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 3 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
الكتاب مرجع رئيسي في بابه، وموسوعة علمية حوت الكثير من آراء السابقين، اهتم فيه مصنفه بالجانب اللغوي بشكل كبير أو غالب، فذكر الآراء المختلفة في الإعراب، إضافة إلى شرح المفردات اللغوية، كذلك أوجه القراءات القرآنية، كما أنه ألمح إلى الكثير من الإشارات البلاغية، وذكر الكثير من الشواهد العربية فقلما نجد صفحة إلا وفيها. شاهد أو أكثر
قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: "ينكِحْنَ" أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التراضي. والثاني: أن يكونَ "تعضُلوهنَّ" أي: لاَ تعضُلوهنَّ وقتَ التراضي، والأولُ أظهرُ. و "إذا" هنا متمحضةٌ للظرفية. والضميرُ في "تراضَوا" يجوزُ أن يعودَ إلى الأولياءِ وللأزواج، وأَنْ يعودَ على الأزواج والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تغليبِ المذكرِ على المؤنِثِ.
قوله {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانٍ مجازي، وناصبُه "تراضَوا".
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تراضَوا بما يَحْسُن من الدِّينِ والمروءةِ، والثاني: أن يتعلَّقَ بـ"يَنْكِحْنَ" فيكونُ "ينكِحْنَ" ناصباً للظرفِ، وهو "إذا"؛ ولهذا الجارِّ أيضاً: والثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ تراضَوا. والرابع: أنه نعتُ مصدر محذوف، دَلَّ عليه الفعلُ أي: تراضياً كائناً بالمعروف.(1/855)
قوله: {ذالِكَ} مبتدأُ. و "يُوعظ" وما بعدَه خبرُه. والمخاطَبُ: إمَّا الرسولُ عليه السلام أو كلُّ سامعٍ، ولذلك جِيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحدِ، وإمَّا الجماعةُ وهو الظاهرُ، فيكونُ ذلك بمعنى "ذلكم" ولذلك قال بعدَه: "منكم".
(3/1)
---
و "مَنْ كان" في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وفي "كان" اسمُها يعودُ على "مَنْ"، و "يؤمِنُ" في محلِّ نصبٍ خبراً لها، و "منكم": إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يؤمنُ. وأتى باسم إشارةِ البعيدِ تعظيماً للمشار إليه، لأنَّ المشارَ إليه قريبٌ،وهو الحكمُ المذكورُ في العَضْل. وأَلفُ "أزكى" عن واو.
وقوله: {ذالِكُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"أَزْكى" فهو في محلِّ رفع. وقولُه: "وَأَطْهَرُ" أي: لكم، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ للعمش أي: من العَضْلِ.
* { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوااْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}: كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} فَلْيُلتفتْ إليه. والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ جاريتانِ مَجْرى الجوامدِ، ولذلك لم يُذْكَرَ موصوفُهما.(1/856)
قوله {حَوْلَيْنِ} منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز، إذ قد يُطْلَقُ "الحولان" على الناقصين شهراً وشهرين. والحَوْلُ: السنةُ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ ويقال: لا حولَ ولا قوة، ولا حَيْلَ ولا قوة.
(3/2)
---
قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ، و "مَنْ" واقعةٌ على الآباء، أي: الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ، وهذا نظيرٌ قولِك: "أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانِ ولدَه". والثاني: أنها للتبيين، فتتعَلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى: { هَيْتَ لَكَ}، وفي قولهم: "سُقْياً لك". فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة. و "مَنْ" تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً. كلُّ ذلك محتملٌ. والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدأ محذوفٌ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحكمُ لِمَنْ أرادَ. و "مَنْ" على هذا تكونُ للوالداتِ والوالدَيْنِ معا.(1/857)
قوله: {أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} "أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد، أي: لمن أراد إتمامَها. والجمهور على "يُتمَّ الرَّضاعة" بالياء. المضمومة من "أتَمَّ" وإعمال أنْ الناصبة، ونصب "الرَّضاعة" مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء: "تَتِمَّ" بفتح التاء من تَمَّ، "الرضاعة" بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء "الرضاعة"، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة، والبصريون يقولون: فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكوفيون يزعمون العكسَ. وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس - : {أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة} برفع "يُتِمُّ" وفيها قولان، أحدُهما قولُ البصريين: أنها "أَنْ" الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على "ما" أختِها لاشتراكِهما في المصدرية، وأنشدوا على ذلك قوله:
(3/3)
---
989 - إني زعيمٌ يا نُوَيْـ * ــقَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ
أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ * مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وقولَ الآخر:
990 - يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما * وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما * مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أَحَدا
فأَهْملها ولذلك ثَبَتَتْ نونُ الرفع، وأَبَوأ أن يَجْعلوها المخففةَ من الثقيلةِ
لوجهين، أحد لوجهين، أحدُهما: أنه لم يُفْصَل بينهما وبين الجملةِ الفعليةِ بعدَها، والثاني: أنَّ ما قبلَها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
والثاني: وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ، كما شذَّ وقعُ "أَنْ" الناصبةِ موقعَها في قوله:
991 - ............ قد علموا * أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ(1/858)
وقرأ مجاهد: "الرَّضْعَة" بوزن القَصْعة. والرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْي: ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يَخاف أن يَحْلُبَ الشاةَ فَيُسْمَعَ منه الحَلْبُ، فَيُطْلَبَ منه اللبنُ، فَيَرْتَضِعُ ثديَ الشاةِ بفَمِه.
قوله: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قولُه: "رِزْقُهن"، و "أل" في المولودِ موصولةٌ، و "له" قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ، وهو عائدٌ الموصولِ، تقديرُه: وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ، والمفعولُ وهو الأولادُ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ.
(3/4)
---(1/859)
وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي، فإنهَ مَنَع من ذلك. وليس كما ذَكَر هذا القائلُ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ، فأقول بعونِ الله: اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً، وأما الكوفيون فقالوا: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو: ما ضُرب من أحد، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم.: ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في القائمِ مقامَ الفاعل: فذهب الفراء إلى أنَّ حرفَ الجرِّ وحدَه في موضعِ رفعٍ، كما أنَّ "يقوم" من "زيد يقوم" في موضع رفعٍ. وذهب الكسائي وهِشام إلى أنَّ مفعولَ الفعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضَميرٌ مبهمٌ من حيثُ أَنْ يرادَ به ما يَدُلُّ عليه الفعلُ من مصدر وزمانٍ ومكانٍ ولم يَدُلَّ دليلٌ على أحدِها، وذهب بعضُهم إلى أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ، فإذا قلت: "سِيرَ بزيدٍ" فالتقديرُ: سير هو، أي: السيرُ، لأنَّ دلالةَ الفعلِ على مصدرهِ قويةٌ، وهذا يوافِقُهم فيه بعضُ البصريين. ولهذه الأقوالِ دلائلُ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ لا يحتملها هذا الموضعُ فَلْيُطْلب من كتبِ النَّحْويين.
(3/5)
---(1/860)
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه: "رزقُهنَّ" و "كسوتُهنَّ" على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ، وهو على إعمالِ الثاني، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروفِ. هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كما سيأتي تحقيقُه في النحل، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى، ويكونُ "بالمعروف" متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما. وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه "على".
والجمهورُ على "كِسْوَتِهِنَّ" بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمها، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولّيْ "أعطى" في جوازِ حَذْفِهما أو حَذْفِ أحدِهما اختصاراً أو اقتصاراً. قيل: وقد يتعدَّى إلى وَاحدٍ وأنشدوا:
992 - وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً * كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضَمَّنه معنى غَطَّى. وفيه نظرٌ لاحتمالِ أنه حُذِف أحدُ المفعولين للدلالةِ عليه، أي: كسا وجهَها غبارٌ أو نحوه.
قوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهورُ على "تُكَلَّفُ" مبنياً للمفعولِ، "نفسٌ" قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى، "وُسْعَها" مفعولٌ ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، لأنَّ "كَلَّفَ" يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: "ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ".
(3/6)
---(1/861)
وقرأ أبو رجاء: {لاَ تَكَلَّفُ نفسٌ} بفتح التاء والأصلُ: "تتكلف" فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً: إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكونُ "نفسٌ" فاعلاً، و "وُسْعَها" مفعول به، استثناء مفرغاً أيضاً. وَرَوى أبو الأشهب عن أي رجاء أيضاً: {لا يُكَلِّفُ نفساً} بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى، فتكونُ "نفساً" و "وُسْعَها" مفعولَيْنِ.
والتكليفُ: الإِلزامُ، وأصلُه من الكَلَفِ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ، قال:
993 - يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ * من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ
وَفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرىً به.
وقوله: {لاَ تُضَآرَّ} / ابنُ كثير وأبو عمرو: "لا تضارُّ" برفع الراء مشددةً، وتوجيهُها واضحٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازٌ فَرُفِعَ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي. وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً، وتوجيهُها أنَّ "لا" ناهيةٌ فهي جازمةٌ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ "إسحارّ" وهو اسمُ نباتٍ قالوا: "إسحارَ" بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف.
(3/7)
---(1/862)
وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً، على أصلِ التقاءِ الساكنين، ولم يُراعِ الألفَ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً، وتَحْتمل هذه وجهين، أحدهما: أن يكونَ من ضارَيَضير، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف. والثاني: أن يكونَ من ضارَّ يَضارُّ بتشديد الراءِ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ.
زعم الزمخشري "أن أبا جعفر إنما اختلس الضمة فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك" انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} ونحوه.
ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين، والأولُ أَوْلى، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها.
وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب: "لا تضارَرْ" بفتح الراء الأولى والفك، وهذه لغةُ الحجاز أعني [فكَّ] المِثْلين فيما سَكَنَ للجزمِ أو للوقفِ نحو: لم تَمْرُرْ، وامرُرْ، وبنو تميم يُدْغِمون، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} في المائدةِ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً.
ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول، وتكونُ "والدةٌ" مفعولاً لم يُسَمَّ فعله، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه. وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ، وتكونُ "والدةٌ" حينئذ فاعلاً به، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس.(1/863)
(3/8)
---
وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه: "لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسببِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه بما وَجَبَ لها من رزقٍ وكسوةٍ، فالباءُ للسببيةِ. والثاني: - قاله الزمخشري - أن يكونَ "تُضارَّ" بمعنى تَضُرُّ، وأن تكونَ الباءُ من صلتِه أي: لا تضرُّ والدةٌ بولِدها فلا تسيءُ غذاءه وتعهُّدَه ولا يَضُرُّ الوالدُ به بأن ينزِعه منها بعدما ألِفَها." انتهى. ويعني بقولِه "الباءُ من صلته" أي: تكونَ متعلقةً به ومُعَدِّيةً له إلى المفعول، ويعني بقولِه "الباءُ من صلته" أي: تكونَ متعلقةً به ومُعَدَّيةً له إلى المفعول، كهي في "ذهب بزيدٍ" ويكونُ ضارَّ بمعنى أضرَّ فاعَلَ بمعنى أَفْعَل، ومثلُه: ضاعقْتُ الحِسابَ وأَضْعَفْتُه، وباعَدْته وأبعدْتُه، وقد تقدَّم أن "فاعَلَ" يأتي بمعنى أَفْعَل فيما تقدَّم، فعلى هذا نفسُ المجرور بهذه الباءِ هو المفعول به في المعنى، والباءُ على هذا للتعديةِ، كما ذكرْتُ في التنظيرِ بذَهَبْتُ بزيدٍ، فإنه بمعنى أَذْهبته.
والثالث: أن الباءَ مزيدةٌ، وأنَّ "ضارَّ" بمعنى ضَرَّ، فيكون "فاعَلَ" بمعنى "فعَلَ" المجردِ، والتقديرُ: لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك. وقد جاء "فاعَل" بمعنى فَعَل المجرد نحو: واعَدْته ووعَدْتُه، وجاوَزْته وجُزْته، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه، ولذلك كان مرفوعهُ في التقدير، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه، وتوجيهُ الزمشخري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه.
و "له" في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
(3/9)
---(1/864)
وقوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما، تقول: قامَ زيدٌ وهندٌ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ، فتلحقُ العلامةَ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، ولا يُستثنى من ذلك إلاَّ أَنْ يكونَ المؤنثُ مجازياً، فَيَحْسُنُ الاَّ يراعي المؤنثُ وإنْ تقدَّم كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ / أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} وبين قوله: "لا تضارَّ" لأنَّ قوله: "لا تُضارَّ" كالشرحِ للجملةِ قبَها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتِها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضاً لم يَعْطِف {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله "بالمعروفِ". وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله: "بالمعروفِ" وبين قولِه: "والوالداتُ يُرْضِعْنَ" فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع. وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ، وكذلك "أولادَهُنَّ" عامٌّ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ. ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً، والخبرُ جارٌّ ومجررٌ بحرفِ "على" الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به. وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ. وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي(1/865)
(3/10)
---
ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفضيلِ بعد الإِجمال، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك. ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر مِمّ يتكرَّر ويتجدَّدُ أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأَدْخَلَ عليهما حرف النفي وهو "لا" لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.
وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها نايهةٌ، وهي للاستقبالِ فقط، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ. ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك.
قولُه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً، ولا يَخْفَى ما فيها، وهي معطوفةٌ على قولِه: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله "بالمعروف" كما تقدَّم التنبيهُ عليه.
والألفُ واللامُ في "الوارث" بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضمير: هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ، فكأنه قيل: وعلى وارِثِه، أي: وارِثِ المولدِ له، أو يعودُ على الولدِ نفسه، أي: وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ.
(3/11)
---(1/866)
وقرأ يحيى بن يعمر: "الوَرَثَة" بلفظ الجمعِ، والمشارُ إليه بقوله "مثلُ ذلك" إلى الواجبِ من الرزق والكسوة، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول: أُشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ}. وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل، وقيل: المشارُ إليه هو عَدَمُ المُضَارَّة، وقيل: أجرةُ المثلِ، وغيرُ ذلك.
قوله: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان، أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ لـ"فِصالاً"، فهو في محلِّ نصبٍ أي: فصالاً كائناً عن تراضٍ، وقدَّره الزمخشري: صادراً عن تراضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً. والثني: أنه متعلَّقٌ بأراد، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلفٍ. و "عن" للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ.
و "تراض" مصدرُ تفاعَل، فعينُه مضمومةٌ وأصله: تفاعُل تراضُوٌ، فَفُعِل فيه ما فُعِل بـ"أَدْلٍ" جمعَ دَلْوٍ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قبلها كسرةً، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً.
قوله {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً لـ"تَراضٍ"، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما. و "مِنْ لابتداء الغايةِ.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير: وتشاورٍ منهما، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحادِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه: فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ.
(3/12)
---(1/867)
قوله: {أَن تَسْتَرْضِعُوااْ} أنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بـ"أراد" وفي "استرضع" قولان للنحْويين، أحدُهما: أنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقديرُ: أَنْ تسترضعوا المراضعَ لأولادِكم، فَحُذِف المفعولُ الأول وحرفُ الجر من الثاني، فهو نظيرُ "أمرتُ الخيرَ"، ذكرْتَ المأمورَ به لوم تَذْكُرِ المأمورَ، لأنَّ الثاني منهما غيرُ الأول، وكلُّ مفعولين كانا كذلك فأنتَ فيهما بالخيار بين ذِكْرِهما وحَذْفِهما، وذِكْرِ الأولِ، دونَ الثاني والعكس. والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسِه، ولكنه حُذِفَ المفعولُ الأولُ وهذا رأيُ الزمخشري، ونَظَّر الآية الكريمة بقولكك "أنجح الحاجة" واستَنْجَحَتْه الحاجة" وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ، لأنَّ الأصلَ / "رَضِعَ الولدُ"، ثم تقول: "أَرْضَعَت المرأةُ الولدَ"، ثم تقول: "استرضَعْتُها الولد" هكذا قال الشيخ.
وفيه نظرٌ، لأنَّ قولَه "رضِع الولدُ" يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِن ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال، وليس كذلك لأنَّ "رَضِع الولدُ" متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه: رَضِع الولدُ أمَّه، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه. والسينُ للطلبِ على بابها نحو: استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً، فكما أنَّ ماءٌ وخبراً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك "أولادكم". وقد [جاء] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر، وإن كان "أَفْعَل" الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو: "أفهمني زيدٌ المسألةَ" واستفهمتُه عنها، ويجوز حَذْفُ "عن"، فلم يَجِىءْ مجيء "استَسْقَيْت" و "استطعمت" من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض.
(3/13)
---(1/868)
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتكوينٌ: أمّضا الالتفاتُ فإنه خروجٌ من ضميرِ الغَيْبةِ في قوله "فإنْ أرادوا" إلى الخطابِ في قولِه: "وإنْ أردْتُم" إذا المخَاطَبُ الباءُ والأمهاتُ. وأمَّا التكوينُ في الضمائِر فإنَّ الأول ضميرُ تثنيةٍ وهذا ضميرُ جمعٍ، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضاً، وكأنه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له، ولكنه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له، وغنْ كان مفرداً لفظاً. و "فلا جُناحَ" جوابُ الشرط.
قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} "إذا" شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالة الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه، قال أبو البقاء: "وذلك المعنى هو العاملُ في "إذا" وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به "عليكم". وهذا خطأٌ في الظاهرِ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولاَ عليه بالشرطِ الأولِ. وجوابِه، فقولُه ثانياً "وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم" تناقضٌ، اللهم إلا أن يُقالَ: قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصلُ "أو هو متعلقٌ" فَيَصِحُّ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ "إذا" للظرفية، ولم تكنْ للشرطِ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه.
وقرأ الجمهور: "آتيتم" بالمدِّ هنا وفي الروم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً}، وقَصَرَهما ابنُ كثير. ورُوي عن عاصم "أوتيتم" مبنياً للمفعول، أي: ما أَقْدَرَكم الله عليه. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على "ما" الموصولةِ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ، والتقديرُ: ما آتيتموهنَّ إياه، فـ"هُنَّ" هو المفعول الأول، لأنه فاعلٌ في المعنى، والعائدُ هو الثاني، لأنه هو المفعولُ في المعنى. والكلامُ على حذفِ هذا الضمير وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإِشكال والجوابُ عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فَلْيُلْتفتْ إليه.
(3/14)
---(1/869)
وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير:
994 - وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما * توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ
أي: فعلوه، والمعنى إذا سَلَّمتم ما جِئْتُمُ وفَعَلْتُم، قال أبو علي: "وتقديرُ: ما أتيتم نَقْدَه أو إعطاءه، فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو عائدُ الموصول، فصار: آتيتموه أي جئتموه، ثم حُذِفَ عائدُ الموصولِ". وأجاز أبو البقاء أن يكونَ التقديرُ: ما جِئْتُم به فَحُذِفَ، يعني حُذِف على التدريج، بأنَّ حُذِفَ حرف الجر أولاً فاتصل الضمير منصوباً بفعلٍ فَحُذِفَ.
و "ما" فيها وجهان، أظهرهُما: أنها بمعنى الذي، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة، والتقدير: إذا سَلَّمتم الإِتيان، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف. ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ، تقديرُه: إذا سلَّمتم الإِعطاء، أي المُعْطَى والظاهرُ في "ما" أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ، والخطابُ على هذا في قولِه: "سَلَّمتم" و "آتيتم" للآباء خاصةً، وأجازوا أن يكونَ المرادُ بها الأولادَ، قاله قتادة والزهري. وفيه نظرٌ من حيث وقوعُها على العقلاء، وعلى هذا فالخطابُ في "سَلَّمتم" للآباء والأمهاتِ.
وقرأ عاصم في رواية شيبان: "أُوتيتم" على البناء للمجهول ومعناه: ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قولِه تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق بـ"سَلَّمْتم" أي: بالقولِ الجميلِ. والثاني: أنْ يتعلَّق بـ"آتيتم"، والثالثُ: أن يكونَ حالاً من فاعل "سَلَّمْتم" أو "آتيتم"، فاعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي: ملتبسين بالمعروفِ.
(3/15)
---(1/870)
* { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيا أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية: فيه أوجهٌ: الأولُ: أَنَّ "الذين" مبتدأٌ لا خبرَ له، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ، فجاء الخبرُ عن المقصود، إذ المعنى: مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت. وإليه ذهب الكسائي والفراء، وأنشد الفراء:
995 - لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً * على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما
فقال: "لعلي" ثم قال: "أن يتندم" فأخبر عن ابن أبي ذبَّان، فترك المتكلم، إذا التقيردُ: لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً. وقال آخر:
996 - بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه * بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس.
وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني / نحو: "إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ"، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله:
997 - فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني * وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا.
(3/16)
---(1/871)
الثاني: أَنَّ له خبراً وهو "يتربَّصْن" ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: "ويَذَرون أزواجاً" فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أن الخبرَ أيضاً "يتربَّصْن" ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ "يتربَّصْنَ" خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ، تقديرُه: فيما يُتْلى عليكم حكُم الذين يُتَوَفَّوْن، ويكون قولُه "يتربَّصْنَ" جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإِعرابِ، ويُعْزى هذا لسيبويه. قال ابن عطية: "وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى: "وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوااْ}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ}، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِط. السادس: أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقديرُ: "والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم" فَحُذِف "أزواجهُم" بجملته، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ.
وقراءةُ الجمهورِ "يُتَوَفَّوْنَ" مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري.
(3/17)
---(1/872)
والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. [وهذا] تُناقِضُه هذه القراءة.
وقد تقدَّم احتمالات في قوله: "يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء" وهل "بأنفسهن" تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ "قروء" على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا.
قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ "يَتَوَفَّوْن" والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و "مِنْ" تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ.
قوله: {وَعَشْراً} إنما قال "عشراً" من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد "عَشْر ليال". مع أيامِها، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها. قال الزمخشري: "وقيل "عَشْراً" ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام، تقول: "صُمْت عشراً"، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم، ومن البيِّن قولُه تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً}، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} والثاني - وهو قولُ المبرد -: أَنَّ حَذْلإَ التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العربك "سِرْنا خمساً" أي: بين يوم وليلة قال:
998 - فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ * وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا
والثالث: أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان: ذِكْرُ التاءِ وعدمُها. حكى الكسائي: "صُمْنَا من الشهرِ خمساً"، ومنه الحديث: "وأتبعَه بستٍّ من شوال"، وقال آخر:
999 - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ * تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ
(3/18)
---(1/873)
نَصَّ النحويون على ذلك. قال الشيخ: "فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا" قال: "وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ: "وعشراً" على أحدِ الجائزين، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ، كما حَسَّنَ قولَه: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} كونُه فاصلةً، فقوله: "ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم" ليس كما ذكر، بل هو الأفصحُ. وفائدةُ ذكره "إن لبثتم إلاَّ يوماً" بعد قولِهِ "إلا عَشْراً" أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها، فقولُهُ "إلا يوماً" دليلٌ على إرادةِ الأيام"، قال الشيخ: "وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث، فقال بعضُهم: "عشراً" وقال بعضُهم: "يوما" فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم: عشرُ ليال، فيقول البعضُ: يومٌ".
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل "فَعَلْنَ" أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب / سبيويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي: فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ.
و "بما تعملون" متعلق بـ"خبيرٌ". وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و "ما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.
(3/19)
---(1/874)
* { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيا أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوااْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ}: في محل نصبٍ على الحالِ وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: الهاءُ المجرورةُ في "به"، والثاني: "ما" المجرورُة بـ"في"، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: "حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه "عَرَّضْتم". ويجوزُ أن يكونَ حالاً من "ما" فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ". وهذا على ظاهره ليس بجيد، لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ على ما تقرَّر، إلا أَنْ تريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ فقد يجوزُ له ذلك.
والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي: من خِطْبَتِكم النساء، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به. والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خطبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وقال الفراء: "الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك: إنه لَحِسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي: الجلوس والقعود، والخُطْبَةُ - بالضم - الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزجرِ، وكلاهما من الخَطْب الذي هو الكلام، وكانت سَجاحُ يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.
(3/20)
---(1/875)
قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ} "أو" هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي: أَخْفاه، وَكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوهِ: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في "أكنَّ" للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ. ومعفول "أكنَّ" محذوفٌ يعودُ على "ما" الموصولةِ في قوله: "فيما عَرَّضْتم" أي: أو أكنتموه. فـ"في أنفسكم" متعلِّقٌ بـ"أَكْنَنتم"، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.
قوله: {وَلَاكِن} هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه، وهي قولُهُ: "ستذكرونَهُنَّ"، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ. وهو نظيرُ: "زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُه بِشَرٍّ". لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها. والثاني - قاله أبو البقاء - قاله الزمخشري - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل "لكنْ" تقديرُهُ: "فاذكروهُنَّ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً" وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدراكِ من الجملةِ قبلَه فلا حاجَةَ إلى حذفِ . . . ، وإنما الذي يَحْتاجه ما بعدَ "لكن" وقوعُ ما قبلَها من حيثُ المعنى لا من حيثُ اللفظُ، لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
(3/21)
---(1/876)
قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً لتواعِدُوهُنَّ. والثاني أنه حالٌ من فاعلِ "تواعدوهُنَّ" أي: لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: مواعدةً سراً. والرابعُ: أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ، أي: امواعدةَ مستخفيةً والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ: لا تواعدوهُنَّ نكاحاً.
والسِّرُّ: ضدُّ الجَهْرِ، وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ وعلى الزِّنا بخصوصيةٍ، وأنشدوا للحُطَيئة:
1000 - ويَحْرُم سِرُّ جارتِهم عليهم * ويأكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصاعِ
وقولَ الآخر - هو الأعشى -:
1001 - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها * حَرامٌ عليكَ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا
(3/22)
---(1/877)
قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لا يندرجُ تحت "سِرّ" على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه، به، كأنه [قال]: لكنْ قولوا قولاً معروفاً. والثاني: أنه متصلٌ وفيه تأويلان ذكَرهما الزمخشري فإنه قال: "فإنْ قلتَ بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناءِ؟ قلت: بـ"لا تواعِدُوهُنَّ"، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعَدةً قط إلا مواعدةً معروفة غيرَ مُنْكَرةٍ، أو لا تواعِدُوهُنَّ إلا بِأَنْ تقولوا، أي: لا تواعدوهُنَّ إلاَّ بالتعريض، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من "سراً" لأدائِهِ إلى قولِكَ: لا تواعِدوهُنَّ إلا العريضَ" انتهى. فَجَعَلَهُ استثناءً متصلاً مفرغاً على أحدِ تأويلين، الأولُ: أنه مستثنى من المصدرِ، ولذلك قَدَّر: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قط إلاّض مواعدةً معروفةً. والثاني: أنه من مجرورٍ محذوفٍ، ولذلك قَدَّره بـ"إلاَّ بأَنْ تقولوا"، لأنَّ التقديرَ عنده: لا تواعِدُوهُنَّ بشيء إلا بِأَنْ تقولوا، ثم أَوْضَحَ قولَه بأنْ تقولوا بالتعريضِ، فلمَّا حَذِفَتْ الباءُ من "أَنْ" وهي باءُ السببيةِ بقي في "أَنْ" الخلافُ المشهورُ بعدَ حَذْفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جر؟ وقولُهُ: "لأدائِهِ إلى قولِكَ إلى آخره" يعني أنه لا يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلت: "لا تواعِدُوهُنَّ / إلاَّ التعريض" لم يَصِحَّ لأنَّ التعريضَ ليس مواعداً.
(3/23)
---(1/878)
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين: قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو: "ما جاء أحدُ ألا حماراً"، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدلية بشرطه، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو: "ما زادَ إلا ما نَقَصَ"، و "ما نفَعَ إلا ما ضَرَّ". وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك: "ما جاء أَحدٌ إلا حمار" لو قلت: "ما جاءَ إلا حمارٌ" صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني، فإنَّه لا يتوجَّه عليه العاملُ" ولتحقيقِ هذا موضعٌ هو أليقُ به، وقد تقدّضمَ منه طرفٌ صالحٌ.
قوله: {عُقْدَةَ} في نصبهِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ "عَزَ" معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو: تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو "على"، فإنَّ "عَزَم" يتعدَّى بها، قال:
1002 - عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ * لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز كقول عنترة:
1003 - ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه * حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ
أي: وأظلُّ عليه. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ، فإنَّ المعنى: ولا تَعْقِدُوا عقدةَن فكأنه مصدرٌ على غير الصدرِ، نحو: قَعَدْتُ جلوساً، والعُقْدَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعولِ والفاعلُ محذوفٌ، أي: عُقْدَتَكم النكاحَ.
قوله: {فَاحْذَرُوهُ} الهاءُ في "فاحذَرُوه" تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على "ما" في قوله {مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ} بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ، قاله الزمخشري.
(3/24)
---(1/879)
* { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}: في "ما" هذه ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أن تكونُ مصدريةً ظرفيةً، تقديرُهُ: مدةَ عدمِ المَسيس كقوله:
1004 - إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي * وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي
ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ * يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي
والثاني: أن تكونَ شرطيةً بمعنى إنْ، نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، لأنه يكونُ حينئذٍ من بابِ اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ، فيكونُ الثاني قيداً في الأول نحو: "إنْ تأتِ إنُ تُحْسِنْ إليَّ أكرمْك" أي: إنْ أتيتَ مُحْسِناً، وكذا في الآيةِ الكريمة: إنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غيرَ ماسِّين لَهُنَّ، بل الظاهرُ أنَّ هذا القائل إنما أرادَ تفسير المعنى، لأنَّ "ما" الظرفيةَ مُشَبَّهةُ بالشرطيةِ، ولذلك تقتضي التعميم. والثالث: أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وتكونُ للنساءِ؛ كأنه قيلَ: إنْ طَلَّقْتُمْ النساءَ اللائي لم تَمَسُّوهُنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ "ما" الموصولةَ لا يُصَفُ بها، وإنْ كان يوصفُ بالذي والتي وفروعِهِا.
وقرأ الجمهورُ: "تَمَسُّوهُنَّ" ثلاثياً وهي واضحةٌ. وقرأ حمزة والكسائي: "تماسُّوهُنَّ" من المفاعلَةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر، فتوافِقَ الأولى، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ. ورجَّح الفارسي قراءة الجمهورِ بأنَّ أفعالَ هذا البابِ كلَّها ثلاثيةٌ نحو: نكح فرع سفد وضربَ الفحلُ.
(3/25)
---(1/880)
قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على "تَمَسُّوهُنَّ"، و "أَو" على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين، قاله ابن عطية. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ، و "أو" بمعنى إلاَّ التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا، كقولِهِم: لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي، قاله الزمخشري. والثالث: أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره: "فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا" فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله، وهو ضعيفٌ جداً، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ "لم" موجوداً قبل ذلك. والرابع: أن تكونَ "أو" بمعنى الواو، و "تَفْرِضُوا" عطفاً على "تَمَسُّوهُنَّ" فهو مجزومٌ أيضاً.
قوله: {فَرِيضَةً} فيها وجهان، أظهرُهما: أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً. واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ، قال: "وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ" والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ: متعةً مفروضةً.
قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} قال أبو البقاء: "وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ". وهذا لا حاجَةَ إليه، فإنَّ الضميرَ المنصوبَ في "مَتِّعوهن" عائدٌ على المطلقاتِ قبل المسيسِ وقبلَ الفَرْضِ، المذكورَيْن في قولِه: {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} إلى آخرها.
(3/26)
---(1/881)
قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وفيها قولان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ. والثاني: أنها في موقعِ نصبٍ على الحالِ، وذو الحال / فاعل "متِّعوهن". قال أبو البقاء: "تقديرُهُ: بقَدر الوُسْع"، وهذا تفسير معنىً. وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ تقديرهُ: على الموسِع منكم. ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ: "على مُوْسِعِكُم قَدَرُه".
وقرأ الجمهورُ: "المُوسِعِ" بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة، اسمَ مفعولٍ من "وسَّعَ". وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص: "قَدَرَه" بفتحِ الدالِ في الموضعين، والباقون بسكونِها.
واختلفوا: هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ، حكى أبو زيد: "خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا"ن بمعنى واحدٍ، قال: "ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ: "فسالتْ أوديةٌ بقدَرها" و "قَدْرها"، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ولو حُرِّكَت الدالُ لكان جائزاً. وذهبَ جماعةٌ إلى أنهما مختلفانِ، فالساكنُ مصدرٌ والمتحركُ اسمٌ كالعَدِّ والعَدَدِ والمَدِّ والمَدَد، وكأنَّ القَدْر بالتسكين الوُسْعُ، يقال: "هو يُنفق على قَدْرِهِ" أي وُسْعِهِ. وقيل: بالتسكين الطاقةُ، وبالتحريك المقدارُ. قال أبو جعفر: "وأكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحريكِ إذا كان مساوياً للشيءِ، يُقال: "هذا على قدَر هذا".
(3/27)
---(1/882)
وقرأ بعضهم بفتحِ الراء، وفي نصبِه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ منصوباً على المعنى، قال أبو البقاء: "وهو مفعولٌ على المعنى، لأنَّ معنى "مَتِّعوهن" لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ" وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين، ضَمَّنَ "مَتِّعوهنَّ" معنى "أدُّوا". والثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ: فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره. وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول. وفي السجاوندي: "وقال ابن أبي عبلة: "قَدَرَه أي قَدَرَه الله" انتهى. وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ، فيكونُ "قَدَرَه" فعلاً ماضياً، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من "مَتِّعوهن". والمعنى: أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ.
قوله: {مَتَاعاً} في نصبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ، وتحريرُه أنه اسمُ مصدرٍ، لأنَّ المصدرَ الجاريَ على صَدْرِهِ إنَّما هو التمتيعُ، فهو من بابِ: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}. وقال الشيخ: "قالوا: انتصبَ على المصدرِ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به، فهو اسمٌ له، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ، والعامِلُ فيه: "وَمَتِّعوهُنَّ" وفيه نظرٌ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم "تِرْبَاً وَجَنْدلاً" و "أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ". والصحيح أن "تِرْباً" ونحوَه مفعولٌ به، و "قائماً" نصبٌ على الحالِ.
والثاني من وَجْهَي "متاعاً" أن يَنْتَصِبَ على الحالِ. والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ، والتقديرُ: قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً.
(3/28)
---(1/883)
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا، فيكونَ في محلِّ نصبٍ، والباءُ للمصاحبةِ، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروفِ. وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ "متاعاً".
قوله: {حَقّاً} في نصبِه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك: "هذا ابني حقاً" وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله تقديرُه: حَقَّ ذلك حقاً. ولا يجوزُ تقديمُ هذا المصدر على الجملةِ قبلَه. والثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمتاعاً، أي: متاعاً واجباً على المحسنين. والثالث: أنه حالٌ مِمَّا كان حالاً منه "متاعاً"، وهذا على رأي مَنْ يجيز تعدُّد الحالِ. والرابعُ: أن يكونَ حالاً من "المعروف"، أي بالذي عُرِف في حالِ وجوبِه على المحسنين. و "على المحسنين" يجوزُ أن يتعلَّقَ بحقاً، لأنه بمعنى الواجبِ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له.
* { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قولُه تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ}: هذه الجملةُ في موضع نصبٍ على الحالِ، وذو الحالِ يجوزُ أن يكونَ ضميرَ الفاعلِ، وأَنْ يكونَ ضميرَ المفعولِ لأنَّ الرابطَ موجودٌ فيهما. والتقديرُ: وإنْ طَلَّقتموهنَّ فارِضين لهن أو مفروضاً لهن، و "فريضة" فيهما الوجهان المتقدمان.
(3/29)
---(1/884)
والفاءُ في "فنصفُ" جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزمِ جواباً للشرطِ، وارتفاعُ "نصفُ" على أحدِ وجهين: إمَّا الابتداءُ والخبر حينئذ محذوفٌ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتُه قبله، أي: فعليكم أو فَلَهُنَّ نصفُ، وإنْ شِئْتَ بعدَه أي: فنصفُ ما فرضتُم عليكم - أو لَهُنَّ - وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالجوابُ نصفُ.
وقرأ فرقة: "فنصفَ" بالنصبِ على تقدير: "فادْفَعُوا أو أَدُّوا". وقال أبو البقاء: ولو قُرِىء بالنصبِ لكان وجهُه "فأَدُّوا نصفَ" فكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً مرويَّةً.
والجمهورُ على كسر نونِ "نِصْف". وقرأ زيد وعلي، ورواها الأصمعي قراءةً عن أبي عمرو: "فَنُصف" بضمِّ النون هنا وفي جميع القرآن، وهما لغتان. وفيه لغةٌ ثالثة: "نَصيف" بزيادةِ ياءٍ، ومنه الحديث: "ما بَلَغ مُدَّ أحدِكهم ولا نَصِيفه". و "ما" في "ما فرضتم" بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً /.
قوله: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناءِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطية وغيرُه: "لأنَّ عفوهُنَّ النصف ليس من جنسِ أَخْذِهِنَّ". والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال، لأنَّ قولَه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُم في كلِّ حال إلا في حالِ عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يَجِبُ، وإليه نحا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}. قال الشيخ: "إلاَّ أَنْ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقع أَنْ وصلتُها حالاً كسيبويه فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً".
وقرأ الحسن "يَعْفُونَه" بهاء مضمومةٍ، وفيها وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النصفِ. والأصلُ: إلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عنه، فَحُذِف حرفُ الجرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ. والثاني: أنها هاءٌ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها تشبيهاً بهاءِ الضميرِ كقول الآخر:(1/885)
(3/30)
---
1005 - هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَه * .........................
على أحدِ التأويلين في البيت أيضاً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: "تَعْفُون" بتاءِ الخطابِ، ووجهُها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيْبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهِنَّ وأنه مندوبٌ.
و "يَعْفُون" منصوبٌ بأَنْ تقديراً فإنَّه مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ الإِناثِ. هذا رأيُ الجمهور. وأمَّا ابن درستويه والسهيلي فإنه عندها معربٌ. وقد فَرَّق الزمخشري وأبو البقاء بين قولك: "الرجالَ يَعْفُون" و "النساءُ يَعْفُون" وإنْ كان هذا من واضحاتِ النحو: بأنَّ قولك "الرجالُ يَعْفُون": الواو فيه ضميرُ جماعة الذكورِ وحُذِفة قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: يَعْفُوُون فاستُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةً، فحُذِفت الواو الأولى لئلاَّ يتلقى ساكنان، فوزنُه يَفْعُون والنونُ علامة الرفعِ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ. وأنَّ قولك: "النساء يَعْفُون" الواوُ لامُ الكلمةِ والنونُ ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعلُ معها مبنيٌّ لا يَظْهَرُ للعامِل فيه أثرٌ. وقد ناقش الشيخُ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الوضاحات التي بأدنى قراءة في هذا العلمِ تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّن حَذْفَ الواو من قولك "الرجال يعفون" وأنه لم يذكر خلافاً في بناء المضارع المصتل بنون الإِناث، وكلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُنَاقَشَ بمثلِه.
قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ} "أو" هنا فيها وجهان، أحدُهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخييرِ. والمشهورُ فتحُ الواوِ عطفاً على المنصوبِ قبله. وقرأ الحسن بسكونِها، استثقل الفتحةَ على الواوِ فقدَّرها كما يقدِّرُها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوزُ تقديرثها إلى في ضرورةٍ كقوله - هو عامر بن الطفيل -:
1006 - فما سَوَّدَتْني عامِرٌ عن وراثةٍ * أبى اللَّهُ أَنْ أَسْمو بأمٍّ ولا أَبِ(1/886)
(3/31)
---
ولَمَّا سَكَّن الواوَ حُذِفَتْ للساكن بعدَها وهو اللامُ من "الذي". وقال ابنُ عطية: "والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرفةٍ قبلها متحركٌ لقلَّةِ مجيئِها في كلامِهم، وقال الخليلُ: "لم يَجِيء في الكلامِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلَها فتحةٌ إلا قولُهم: "عَفَوة" جمع عَفْو، وهو ولدُ الحِمار، وكذلك الحركةُ - ما كانت - قبلَ الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ" انتهى. قالَ الشيخ: "فقوله: لقلَّةِ مجيئها يعني مفتوحةً مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلكَ أنَّ الحركةَ قبلَهَا: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً أو كصرةً أو فتحةً. فإنْ كانَتْ ضمةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارعِ الداخلِ عليها حرفُ نصبٍ نحو: "لَنْ يغزُوَ"، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها نحو: "هلَ يَغْزُوَنَّ"، وكذا الأمرُ نحو: "اغزُوَنَّ"، وكذا الماضي على فَعُل في التعجِب نحو: سَرُوَ الرجل، حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجب فيقولون: "لَقَضُوَ الرجلُ"، على ما أُحْكِم في بابِ التصريف. وإنْ كان ذلك في اسم: فإمّضا أن يكونَ مبنياً على هاءِ التأنيث فيكثرُ أيضاً نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقَمَحْدُوَة. وإنْ كان قبلها فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ قُلِبت الواوُ ياءً نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك "أَفْرِوَة" جمع فَرِوَة وهي مَيْلَغَةُ الكلب، و "سواسِوَة" وهم: المستوون في الشر، و "مقاتِوَة" جمعُ مُقْتَوٍ وهو السائسُ الخادِمُ. وتلخَّص من هذا أنَّ المرادَ بالقليلِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةً ما قبلها في اسم غيرٍ ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابنِ عطية "والذي عندي إلى آخره" بظاهر.
والمرادُ بقولِه: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قيل: الزوجُ: وقيلَ: الواليُّ، وأل في النكاحِ للعهدِ، وقيد بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه كقوله:(1/887)
(3/32)
---
1007 - لهمْ شَيمَةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم * من الجوادِ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ
أي أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيين. وقال بعضُهم: في الكلامِ حذفٌ تقديره: بيده حلُّ عقدةِ النكاحِ، كما قيل ذلك في قوله: {وَلاَ تَعْزِمُوااْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي عَقْدَ عقدة النكاح وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزوجُ /.
قوله: {وَأَن تَعْفُوااْ أَقْرَبُ} "أن تَعْفُوا" في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل "عَفْوُكم"، و "أقربُ" خبره. وقرأ الجمهور "تَعْفُوا" بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فَغَلَّبَ المذكَّرَ، والظاهرُ أنه للأزواجِ خاصةً، لأنهم المخاطَبون في صدرِ الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قولُه: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} - على قولنا أنَّ المرادَ به الزوجُ وهو المختارُ - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآيةِ. وقرأ الشعبي وأبو نهيك: "يَعْفوا" بياء من تحت. قال الشيخ: "جعله غائباً، وجُمِع على معنى: "الذي بيدِ عقدةُ النكاح" لأنه للجنس لا يُراد به واحد" يعني أنَّ قولَه: "وأن يَعْفوا" أصله "يَعْفُوُون" فلمَّا دَخَل الناصبُ حُذِفَتْ نونُ الرفعِ ثم حُذِفَتِ الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الياءُ فيه هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصولِ، لأنه وإنْ كان مفرداً لفظاً فهو مجموعٌ في المعنى لأنه جنسٌ. ويظهر فيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفصلِ ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عقدةُ النكاحِ، إلا أنه قَدَّر الفتحة في الواوِ استثقالاً كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديرُه: وأَنْ يعفو الذي بيده عقدةُ.
(3/33)
---(1/888)
قوله: {لِلتَّقْوَى} متعلِّقٌ بأقرب، وهي هان للتعديةِ، وقيل: بل هي للتلعيلِ. و "أقربُ" تتعدَّى تارةً باللام كهذه الآيةِ، وتارةً بإلى كقولِه تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. وليست "إلى" بمعنى اللام، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعني التجوُّزَ في الحروفِ. ومعنى اللامِ و "إلى" في هذا الموضعِ يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء: "ويجوزُ في غيرِ القرآن: "أقربُ من التقوى وإلى التقوى" إلاَّ أنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على معنىً غير معنى "إلى" وغير معنى "مِنْ"، فمعنى اللامِ: العفو أقربُ من أجل التقوى، واللام تدلُّ على علة قرب العفو، وإذا قلت: أقربُ إلى التقوى كان المعنى: يقارب التقوى، كما تقول: أنت أقربُ إليَّ، و "أقرب من التقوى" يقتضي أن يكونَ العفوُ والتقوى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوى، وليس معنى الآية على هذا" انتهى. فَجَعَلَ اللامَ للعلة لا التعديةِ، و "إلى" للتعديةِ.
واعلمْ أنَّ فِعْلَ التعجب وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلُهما قبل أن يكونَ تعجباً وتفضيلاً نحو: "ما أزهدني فيه وهو أزهدُ فيه"، وإنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإن كان الفعلُ يُفْهِمُ علماً أو جَهْلاً تعدَّيا بالباءِ نحو: "هو أعلمُ بالفقه"، وإنْ كان لا يُفْهِمُ ذلك تعدَّيا باللامِ نحو: "ما أضربَكَ لزيدٍ"، و "أنت أضربُ لعمروٍ" إلاَّ في بابِ الحُبِّ والبغضِ فإنهما يتعدَّيان إلى المفعولِ بـ"في" نحو: "ما أحبَّ زيداً في عمروٍ وأبغضه في خالدٍ، وهو أحبُّ في بكر وأبغض في خالد" وإلى الفاعل المعنوي بـ"إلى" نحو: "زيدٌ أحبُّ إلى عمروٍ من خالد، وما أحبَّ زيداً إلى عمرو"ن أي: إنَّ عمراً يحبُ زيداً. وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قَلَّ مَنْ يَضْبِطُها.
(3/34)
---(1/889)
والمُفَضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوى من تَرْكِ العفوِ. والياءُ في التقوى بدلٌ من واو، وواوُها بدلٌ من ياءٍ لأنها من وَقَيْتُ أقِي وقايةً، وقد تقدَّم ذلك أول السورةِ.
قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ} الجمهورُ على ضَمِّ الواو مشنْ "تَنْسَوا" لأنها واوُ ضميرٍ. وقرأ ابن يعمر بكسرِها تشبيهاً بواو "لو" كام ضَمُّوا الواو من "لو" تشبيهاً بواوِ الضميرِ. وقال أبو البقاء "في واو "تَنْسَوا" من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ}. وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامِه عَوْدُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَلْ هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: "ولا تناسَوا" قال ابن عطية: "وهي قراءةُ متمكِّنةٌ في المعنى، لأنه موضعُ تناسٍ لا نسيانٍ، إلاَّ على التشبيه". وقال أبو البقاء: على بابِ المفاعلة، وهي بمعنى المتاركةِ لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابنِ عطية.
قوله: {بَيْنَكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ بـ"تَنْسَوُا". والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ أي: كائناً بينكم. والأولُ أَوْلى لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغَ من فعلٍ لا يكونُ بينهم.
* { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ }
قوله تعالى: {حَافِظُواْ}: في "فاعَل" هنا قولان، أحدُهما: أنه بمعنى فَعِل كطارَقْتُ النعل وعاقَبْتُ اللصَّ. ولمَّا ضَمَّن المحافظةَ معنى المواظبةِ عَدَّاها بـ"على" الثاني: أنَّ "فاعَل" على بابِها من كونِها بين اثنين، فقيل: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ. وقيل: بين العبدِ والصلاةِ أي: احفَظْها تحفَظْك.
(3/35)
---(1/890)
وقال أبو البقاء: "ويكون وجوبُ تكريرِ الحفظِ جارياً مَجْرى الفاعِلين، إذ كان الوجوبُ حاثَّاً على الفعلِ، فكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ، كما قالوا في {وَاعَدْنَا مُوسَى} فالوعدُ من اللهِ والقَبولُ من موسى بمنزلةِ الوعد. وفي "حافِظوا" معنىً لا يوجَدُ في "احفظوا" وهو تكريرُ الحفظ" وفيه نظر؛ إذ المفاعلةُ لا تَدُلُّ على تكريرِ فعلٍ البتةِ.
قوله: {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ذَكَر الخاصَّ بعد العامَّ وقد تقدَّم فائدُته عند قولِه: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ}، والوُسْطى: فُعْلَى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسط، كقولِه - يمدح الرسول عليه السلام -:
1008 - يا أوسطَ الناسِ طُرَّاً في مفاخِرهمْ * وأكرمَ الناسِ أمَّا بَرَّةً وأَبَا
وهي [من] الوسطِ الذي هو الخِيارُ / وليست من الوَسَطِ الذي معناه: متوسطٌ بين شيئين، لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل إلا ما يَقْبل الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسطِ بين الشيئين فإنه لا يَقْبَلُهما فلا يُبْنى منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ علي: "وعلى الصلاة" بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً، وقَرَأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - "والصلاةَ" بالنصبِ، وفيها وجهان، أحدُهما على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشري، والثاني على موضعِ المجرورِ، مثلُه نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة.
قوله: {قَانِتِينَ} حالٌ من فاعلِ "قوموا". و "لله" يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بقوموا، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بقانتين، ويدلُّ للثاني قولُه تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. ومعنى اللامِ التعليلُ.
* { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }
(3/36)
---(1/891)
قوله تعالى: {فَرِجَالاً}: منصوبٌ على الحالِ، والعاملُ فيه محذوفٌ تقديرُه: "فَصَلُّوا رجالاً، أو فحافِظُوا عليها رِجالاً وهذا أَوْلَى لأنه و "رجال" جَمْعُ راجِل كقائِم وقيام، وصاحِب وصِحاب، يُقال منه: رَجِل يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو راجِلٌ ورَجُلٌ بوزن عَضُد، وهي لغةُ الحجازِ، يقولونَ: رَجِل فلانٌ فهو رَجُلٌ ويقال: رَجْلان ورَجِيل قال الشاعر:
1009 - عليَّ إذا لاقَيْتُ ليلى بخُفْيَةٍ * أَنَ أزدارَ بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا
كلُّ هذا بمعنى مَشَى على قدميه لعدمِ المركوبِ. ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رِجال كما تقدَّم، وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}، وقال
1010 - وبنو غُدانَةَ شاخِصٌ أبصارُهُمْ * يَمْشُون تحتَ بُطونِهِنَّ رِجَالا
ورَجِيل ورُجالى، وتُروى قراءةً عن عكرمة، ورَجالى ورَجَّالة ورُجَّال وبها قرأ عكرمةُ وابن مَخْلد، ورُجَّالى ورُجلان ورِجْلة ورَجْلَة بسكونِ الجيمِ وفتحِها وأَرْجِلَة وأراجِل وأراجِيل ورُجَّلاً بضم الراءِ وتشديد الجيمِ من غير ألفٍ، وبها قُرِىء شاذَاً.
ورُكْبَان جمع راكِب، قيل: ولا يُقال إلاَّ لِمَنْ رَكِبَ جَمَلاً، فأمَّا راكبُ الفرسِ ففارسٌ، وراكبُ الحمار والبلغ حَمَّار وبَغَّال، والأَجْوَدُ صاحبُ حمارٍ وبَغْلٍ. و "أو" هنا للتقسيمِ وقيلَ: للإِباحةِ، وقيل: للتخييرِ.
(3/37)
---(1/892)
قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من ضميرِ المصدر المحذوفِ، ويجوزُ فيها أن تكونَ للتعليلِ أي: فاذكروه لأجلِ تعليمِهِ إياكم. و "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والمعنى: فصَلُّوا الصلاةَ كالصلاةِ التي عَلَّمكم، وعَبَّر بالذكر عن الصلاةِ، ويكونُ التشبيهُ بين هيئيتي الصلاتين الواقعةِ قبلَ الخوفِ وبعدَه في حالةِ الأمنِ. قال ابنُ عطية: "وعلى هذا التأويلِ يكونُ قولُه: {مَّا لَمْ تَكُونُواْ} بدلاً من "ما" في "كما" وإلاَّ لَم يَتَّسِقْ لفظُ الآية" قال الشيخ: "وهو تخريجٌ ممكِنٌ، وأحسنُ منه أن يكونَ "ما لم تكونوا" بدلاً من الضمير المحذوفِ في "عَلَّمكم" العائدِ على الموصول، إذ التقديرُ: عَلَّمكموه، ونَصَّ النحويون على أنه يجوزُ: ضَرَبْتُ الذي رأيتُ أخاك" أي: رأيته أخاك، فأخاك بدلٌ من العائدِ المحذوف".
* { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيا أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(3/38)
---(1/893)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} فيه ثمانية أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأ، و "وصيةًٌ" مبتدأٌ ثانٍ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها كونُها موصوفةً تقديراً، إذ التقديرُ: "وصيةٌ من الله" أو "منهم" على حَسَبِ الخلافِ فيها: أهي واجبةٌ من الله أو مندوبة للأزواج؟ و "لأزواجِهم" خبرُ المبتدأ الثاني فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والمبتدأُ الثاني وخبرُهُ خبرُ الأولِ. وفي هذه الجملةِ ضميرُ الأولِ. وهذه نظيرُ قولِهِم: "السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ" تقديرُهُ: مَنَوانِ منه، وجَعَلَ ابنُ عطية المسوِّغَ بها كونَها في موضِعِ تخصيصٍ. قال: "كما حَسُنَ أَنْ يرتفعَ: "سلامٌ عليك" و "خيرٌ بين يديك" لأنها موضعُ دعاءٍ" وفيه نظرٌ.
والثاني: أن تكونَ "وصيةٌ" مبتدأٌ، و "لأزواجِهم" صفتَها، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُهُ: فعليهم وصيةٌ لأزواجِهم، والجملةُ خبرُ الأول.
والثالث: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: كُتِبَ عليهم وصيةٌ، و "لأزواجهم" صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً. ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله: "كُتِبَ عليهم وصيةٌ" وهذا من تفسيرِ المعنى الإِعرابِ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يَضْمَرُ فيها الفعْلُ.
الرابع: "أن "الذينَ" مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ: ووصيةُ الذين.
والخامسُ: أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني: تقديرُهُ: "والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية" ذكر هذين الوجهين الزمخشري. قال الشيخ: "ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك".
(3/39)
---(1/894)
وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع "وصيةٌ"، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقونَ يَنْصِبُونها، وارتفاعُ "الذين" على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ: وَلْيُوصِ الذين، ويكون نصبُ "وصية" على المصدر. والثاني: أنه مرفوعُ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين، تقديرُه: وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ / ويكونُ نصبُ "وصية" على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ، ذكره الزمخشري. وهو والذي قبلَه ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل. والثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ، وهو الناصبُ لوصية تقديرُهُ: والذين يُتَوَفَّوْنَ يُوصُون وصيةً، وقَدَّرَهُ ابنُ عطية: "لِيوصوا"، و "وصيةً" منصوبةٌ على المصدرِ أيضاً. وفي حرفِ عبد الله: "الوصيةُ" رفعاً بالابتداء والخبرُ الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصيةُ: والجارُّ بعدَها حالٌ أو خبرٌ ثانٍ أو بيان.
قوله: {مَّتَاعاً} في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بلفظِ "وصية" لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها، فهي كقولِهِ:
1011 - فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ * عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ
والأصلُ: وصيةٌ بمتاعٍ، ثم حُذِفَ حرفُ الجَرِّ اتساعاً، فَنُصِبَ ما بعدَه، وهذا إذا لم تَجْعَلِ "الوصية" منصوبةً على المصدرِ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يجيء ذلك حالَ رفعِها أو نصبِها على المفعولِ كما تقدّضم تفصيلْهُ.
(3/40)
---(1/895)
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ: إمَّا من لفظِهِ أي: مَتِّعوهن متاعاً أي: تمتيعاً، أو من غير لفظهِ أي: جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً. والثالث: أنه صفةٌ لوصيةٍ، والرابع: أنه بدلٌ منها. الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبَها أي: يُوصُون متاعاً، فهو مصدرٌ أيضاً على يغر الصدر كـ"قَعَدْتُ جُلوساً"، وهذا فيمن نَصَبَ "وصية. السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ. السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، أي: ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج.
وقرأ أُبَيّ: "متاعٌ لأزواجِهِم" بدلَ "وصيةٌ"، ورُوي عنه "فمتاعٌ"، ودخولُ الفاءِ في خبرِ الموصولِ لشبهِهِ بالشرطِ، وينتصِبُ "متاعاً" في هاتين الروايتين على المصدرِ بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع، نحو: "يعجبني ضربٌ لك زيداً ضرباً شديداً" ونظيرُه: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} و "إلى الحَوْلِ" متعلِّقٌ بـ"مَتاع" أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له.
قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ لـ"متاعاً". الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه حالٌ من الزوجات أي: غيرَ مخرجاتٍ. الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غيرَ مُخْرَجين. الخامس: أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ: لا إخراجاً قاله الأخفش. السادس: أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ، تقديرُهُ: مِنْ غيرِ إخراجٍ، قاله أبو البقاء، وفيه نظر.
قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ فِيا أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ "لا" وهو "عليكم" من الاستقرارِ، والتقديرُ: لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ. و "ما" موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: فَعَلْنَهُ. و "مِنْ معروف" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ. فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف.
(3/41)
---(1/896)
وجاء في هذه الآية "من معروفٍ" نكرةً مجرورةٌ بـ"مِنْ"، وفي الآيةِ قبلها "بالمعروفِ" مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ، كقولك: "رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ" إلاَّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل، ولذلك جَعَلَها العماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ. وتقدَّم نظائر هذه الجملِ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ}: هذه همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على حرفِ النفيِ، فَصَيَّرَتِ النفيَ تقريراً، وكذا كلُّ استفهامٍ دخَلَ على نفي نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فيمكن أن يكونَ المخاطبُ عَلِمَ بهذه القصةِ قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونُ التقريرُ ظاهراً أي: قد رأيتَ حالَ هؤلاء، ويمكن أنه لم يَعْلَمْ بها إلا مِنْ هذه الآيةِ، فيكون معنى هذا الكلامِ التنبيهَ والتعجُّبَ من حالِ هؤلاءِ، والمخاطَبُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ أو كُلُّ سامِعٍ. ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بهذا الاستفهام التعجبَ من حالِ هؤلاءِ، وأكثرُ ما يَرِدُ كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً}{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ }، وقالَ الشاعر:
1012 - ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً * وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ
(3/42)
---(1/897)
والرؤية هنا عِلْمية فكانَ من حَقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنها ضُمِّنَتْ معنى ما يتعدَّى بإلى، والمعنى: ألم ينته علمُك إلى كذا. وقال الراغب: "رأيت: يتعدَّى بنفسه دونَ الجارِّ، لكن لما استعيرَ قولُهم: "ألم تَرَ" بمعنى ألم تَنْظُر عُدِّيَ تعديتَه، وقَلَّما يُستعمل ذلك في غيرِ التقديرِ، لا يُقال: رأيت إلى كذا".
وقرأ السلمي: "تَرْ" بسكون الراء، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ:
1013 - قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً * واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا
وقيل: هي لغة قوم، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلة. والثاني: أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، وهذا أَوْلى فإنه كثيرٌ في القرآنِ نحوُ: "الظنونا" و "الرسولا" و "السبيلا" و "لم يَتَسَنَّهْ" "وبهداهم اقتده" وقوله: "ونُصْلِهِ" و "نؤته" و "يُؤدّه"، وسيأتي ذلك.
قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملةُ في [موضع] نصبٍ على الحال، وهذا أحسنُ مجيئِها، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير. و "أُلوفٌ" فيه قولان، أظهرُهُما: أنه جمعُ "أَلْف" لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ، وجمعُ القلةِ: آلاف كحُمول وأَحْمال. والثاني: أَنه جَمْعُ "آلِف" على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود. أي: خَرَجوا وهم مؤتلفون، قال الزمخشري: "وهذا من بِدَع التفاسير".
قوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعولٌ من أجلِهِ، وفيه شروطُ النصبِ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ. /
(3/43)
---(1/898)
قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقالَ لهم اللَّهُ: موتوا، لأنه أَمْرٌ في معنى الخبرِ تقديرُهُ: فأماتَهُم اللَّهُ ثم أحياهُمْ. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديرهُ: فماتوا ثم أحياهم، و "ثم" تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ. وألفُ "أحيا" عن ياء، لأنه من "حَيِيَ"، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة بـ"إنَّ" واللام، وأتى بخبرِ "إنَّ": "ذو" الدالة على الشرفِ بخلافِ "صاحب". و "على الناسِ" متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم.
ٍ، تقديرهُ: فماتوا ثم أحياهم، و "ثم" تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ. وألفُ "أحيا" عن ياء، لأنه من "حَيِيَ"، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة بـ"إنَّ" واللام، وأتى بخبرِ "إنَّ": "ذو" الدالة على الشرفِ بخلافِ "صاحب". و "على الناسِ" متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم.
قوله: {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}، لأنَّ تقديرَه: فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ.
* { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(3/44)
---(1/899)
قولُه تعالى: {وَقَاتِلُواْ}: هذه الجملةُ فيها أقوالٌ، أحدُها: أنها عطفٌ على قولِهِ: "موتوا" وهو أمرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُم اللَّهُ بعدَ الإِماتَةِ بالجهادِ، أي: فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابنِ عباس والضحاك. قال الطبري: "ولا وجهَ لهذا القولِ". والثاني: أنها معطوفةٌ على قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} وما بينهما اعتراضٌ. والثالث: أنها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديرُهُ "فَأَطِيعُوا وقاتِلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلِكُمْ فلم يَنْفَعهم الحذرُ"، قاله أبو البقاء. والظاهرُ أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهادِ، بعد أَنْ ذَكَرَ أن قوماً لم ينفعْهم الحذرُ من الموتِ، فهو تشيجعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ فلا يُشْتَرَطُ التوافُق في أمرٍ ولا غيرِه.
* { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}: "مَنْ" للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ، و "ذا" اسم إشارةٍ خبرُهُ، و "الذي" وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ "مَنْ ذا" كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ: "ماذا صَنَعْتَ" كما تقدَّم شرحُه في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ}. ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ: "ماذا" حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ "ما" أشدُّ إبهاماً مِنْ "مَنْ" لأنَّ "مَنْ" لمَنْ يَعْقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ "مَنْ ذا" حكمُ "ماذا".
(3/45)
---(1/900)
ويجوز أن يكونَ "ذا" بمعنى الذي، وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما: أنَّ "الذي" الثاني تأكيدٌ له، لأنه بمعناه، كأنه قيل: مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني: أن يكونَ "الذي" خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرهُ: "مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ" وذا وصلتُه خبرُ "مَنِ" الاستفهامية. أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك، وهما ضعيفان، والوجهُ مان قَدَّمْتُهُ.
وانتصَبَ "قرْضاً" على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ، إذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: "يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً"، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ: يقرضُ عبادَ اللَّهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ"يُقْرِض".
"وحَسَناً" يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذ جعلنا "قَرْضاً" بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.
قوله: {فَيُضَاعِفَهُ} قرأ عاصم وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ. والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِد العينَ من غير ألفٍ، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه عطفٌ على "يقرضُ" الصلةِ. والثاني: أنه رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين، أحدُهما: أنه منصوبٌ بإضمارٍ "أَنْ" عطفاً على المصدر المفهومِ من "يقرضُ" في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ، كقوله:
1014 - لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني * أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
(3/46)
---(1/901)
والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ. معنىً كأنه قال: أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهامِ على اللفظِ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللفظِ المُقْرِضُ أي الفاعلُ للقرضِ، لا عن القرضِ، أي: الذي هو الفعلُ" وقد مَنَعَ بعضُ النحويين النصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقعِ عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحكمِ، وهو مَحْجوجٌ لهذه الآيةِ وغيرِها، كقوله: "مَنْ يستغفرُونِي فأغفرَ له، مَنْ يدعوني فأستجيبَ له" بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء: "فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ / الذي هو "قرضاً" كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار "أَنْ" مثلَ قولِ الشاعر:
1015 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني * .....................
قيل: هذا لا يَصِحُّ لوجهين، أحدُهما: أنَّ "قرضاً" هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤَكِّدِ لا يُقَدَّرُ بـ"أَنْ" والفعلِ. والثاني: أنَّ عَطْفَهُ عليه يُوجِبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يَصِحُّ هذا في المعنى، لأن المضاعفَةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإنما هي فعلُ اللِّهِ تعالى، وتعليلُه في الوجهِ الأولِ يُؤْذِنُ بأنه يَشْتَرِط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرٍ يتقدَّر بـ"أَنْ" والفعلِ، وهذا ليسَ بشرطٍ، بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ كقوله:
1016 - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ * وآلُ سيبعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما
فـ"أسوءَك" منصوبٌ بأنْ عطفاً على "رجالٌ" فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يٌال: لو عَطِفَ على "قرضاً" لشاركه في عاملِهِ وهو "يُقْرض" فيصيرُ التقديرُ: مَنْ ذا الذي يقرض مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنىً.
(3/47)
---(1/902)
وقد تقدَّم أنه قرىء "يُضاعِفُ" و "يُضَعِّفُ" فقيل: هما بمعنىً، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو: عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ "يُضَعِّف" لِما جُعِلَ مثلين، و "ضاعَفَه" لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.
والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه: "المِقْراضُ" لِما يُقْطَع به، وقيل للقَرْض "قرض" لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، هذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العلم في "القَرْض" فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه. وقيل: أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ. وقال الزجاج: "هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً".
قوله: {أَضْعَافاً} فيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الهاء في "يضاعِفُ" وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ انَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها، وهذا شأنُ المبيِّنة. والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين "يضاعِفُ" معنى يُصَيِّر، أي: يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ.
قال الشيخ: "قيل: ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضاعَفُ أو المضعَّفُ - بمعنى المضاعفَة أو التضعيف، كما أُطلِقَ العَطاء وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاصِ واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجزاء" وسَبَقَه إلى هذا أبو البقاء، وهذه عبارتُهُ، وأنشد:
1017 - أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني * وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا
(3/48)
---(1/903)
والأَضْعافُ جمع "ضِعْف"، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ متساويين. وقيل: مثلُ الشيء في المِقْدَارِ. ويقال: ضِعْفُ الشيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلاَّ أنه إذا قيل "ضعفان" فقد يُطْلَقُ عل الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيث إنَّ كلَّ واحدٍ يُضَعِّفُ الآخرَ، كما يقال زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منما زوجٌ للآخر.
وقرأ أبو عمرو [وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل] "وَيَبْسُطُ" بالسين على الأًلِ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقُه في "الصراط".
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِيا إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {مِن بَنِيا}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه صلةٌ للملأ على مذهب الكوفيين، لأنهم يَجْعِلون المعرَّفَ بأل موصولاً ويُنْشِدُون:
1018 - لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه * وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ
فالبيت موصولٌ، فعلى هذا لا محلَّ لهذا الجارِّ من الإِعرابِ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الملأ، و "مِنْ" للتبعيض، أي: في حالِ كونِهم بعضَ بني إسرائيل.
والملأ: الأشْرافُ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً، [أو المجالسَ إذا حَضَروا]، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه. قال الفراء: "الملأُ: [الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك] القومُ والرهطُ والنفرُ، ويُجْمع على أَمْلاء، قال:
1019 - وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ * وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها
(3/49)
---(1/904)
وهو اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظه كالقومِ والرهطِ.
و {مِن بَعْدِ مُوسَى} متلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ. وقال أبو البقاء: "مِنْ بعدِ" متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول" يعني بالأول: "من بني"، وجعله عاملاً في "مِنْ بعد" لِما تضمَّنه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: "زيدٌ في الدار أبوه" أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الثاني. وقَدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: مِنْ بعدِ موتِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.
قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين، أحدُهما: أنه العاملُ في "مِنْ بعد" لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء والثاني: أنه "ألم تر" وكلاهما غيرُ صحيحٍ. أمَّا الأولُ فلوجهين. أحدُهما: من جهة اللفظِ، والآخرُ: مِنْ جهةِ المعنى. فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة "مِنْ" و "إذ" لا تُجَرُّ بـ"مِنْ". الثاني: أنه ولو كانَتْ "إذ" من الظروف التي تُجَرُّ بـ"من" كوقت وحين لم يَصِحَّ لح أيضاً، لأنَّ العاملَ في "مِنْ بعد" محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى. وأمَّا الثاني فلنه تقدَّم أن معنى "ألم تر" تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فيكف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
(3/50)
---(1/905)
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديرُه: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم.
قوله: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ بـ"قالوا"، فاللامُ فيه للتبليغ، و "لهم" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و "ابعَثْ" وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و "لنا" الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا.
قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر. وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبُ. وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من "لنا" فمحلُّها النصبُ أيضاً أي: ابعَثْه، لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.
قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمُها، وخبرُها {أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ "عسى" داخلةً على المبتدأ والخبرِ، ويقولُ إنَّ "أَنْ" زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معن فعلٍ متعدٍ فيقولُ: "عَسَيْتم" فعلٌ وفاعلٌ، و "أَنْ" وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه: هل قَارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.
(3/51)
---(1/906)
وقرأ نافع "عَسِيْتُم" هنا وفي القتال: بكسرِ السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً / ومع نا، ومع نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: "عسى تُكْسَرُ مع المضر" وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ بما ذَكَرْتُ، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة.
وقال الفارسي: "ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ: "هو عَسٍ بكذا" مثلَ: حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال: "عَسِيَ زيدٌ" مثل: "رَضِي زيدٌ". فإن قيل فهو القياسُ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره" فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله "قولُ العرب: عسىٍ" أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحويون على أن "عسى" لا تتصرَّف.
واعلم أنَّ مدلولَ "عسى" إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلَتْ عليها "هل" التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلا/َ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: "والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقولَ: عَسَيْتُم هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} معناه التقريرُ" وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ، مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها، وبوقوعِها خبراً لإنَّ في قوله:
(3/52)
---(1/907)
1020 - لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً * .........................
وهذا لا دليلَ فيه لأنه على إضمار القولِ كقوله:
1021 - إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ * لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات خلافاً لهشام.
قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و "ما" في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و "لنا في محلِّ رفع خبر لـ"ما".
(3/53)
---(1/908)
و "ألاَّ نقاتِلَ" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ، والتقديرُ: وما لَنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ "في" مع "أَنْ" فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو "لنا"، أو بما يتعلَّق به هو على حَسَبِ ما تقدَّم في {مِن بَعْدِ مُوسَى}. والثاني: مذهبُ الأخفش أنَّ "أَنْ" زائدةٌ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل: ما لَنا غيرَ مقاتِلين، كقولِه: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} وقول العرب: "مالك قائماً"، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وهذا المذهبُ ضعيفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة، فلا يُصارُ إليها دون ضرورةٍ. والثالث: - وهو أضعفُها - مذهبُ الطبري أنَّ ثَمَّ واواً محذوفةً قبلَ قولِه: "أن لا نقاتلَ" . قال: "تقديرُه: وما لنا ولأن لا نقاتلَ، كقولك: إياك أن تتكلَّمَ، أي: إياك وأن تتكلم، فَحُذِفَتْ الواوُ، وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قولُه: "إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ" فليس كما زعم، بل "إياك" ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ، و "أَنْ تتكلمَ" في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذَرْ التكلمَ.
قولُه: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: "نقاتلُ"، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ. وهذه قراءةُ الجمهورِ، أعين بناء الفعلِ للمفعولِ. وقرأ عمرو بن عبدي: "أَخْرَجَنا" على البناء للفاعل. وفيه وَجْهان، أحدُهما: أنه ضميرُ اللهِ تعالى، أي: وقد أَخرَجَنا بذنوبنا. والثاني: أنه ضميرُ العدوّ.
(3/54)
---(1/909)
"وأبنائنا" عَطْفٌ على "ديارنا" أي: ومن أبنائِنا، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: "من بين أبنائِنا" كذا قدَّره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلبِ، والأصلُ: وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا، ولا حاجةَ إلى هذا.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصلِ من فاعل "تَوَلَّوا" والمستثنى لا يكونُ مبهماً، لو قلت: "قام القومُ إلا رجالاً" لم يَصِحَّ، وإنما صَحَّ هذا لأنَّ "قليلاً" في الحقيقةِ صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تَخَصَّص بوصفِه بقولِه: "منهم"، فَقَرُبَ من الاختصاصِ بذلك.
وقرأ أُبَي: "إلاَّ أن يكونَ قليلٌ منهم" وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ. وهذه المسألةُ / تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها. وذلك أنّ العربَ تقول: "قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً" بالرفع والنصبِ، فالرفعُ على جَعْلِ "كان" تامةً، و "زيدٌ" فاعلٌ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً، و "زيداً" خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ، والتقديرُ: قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين، وإذا انتقى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ. فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين، أعني طقام القوم إلا زيداً" و "قاموا إلا أن يكون زيداً"، غلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه.
* { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوااْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
(3/55)
---(1/910)
قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً}: "مَلِكاً" حال من "طالوت" فالعاملُ في الحالِ "بَعَثَ". و "طالوتُ" فيه قولان، أظهرهُما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصَرِفْ للعلتين، أعين العلمية والعجمة الشخصيةَ. والثاني: أنه مشتقٌ من الطُول، ووزنه فَعَللوت كرَهَبوت ورَحَموت، وأصلُه طَوَلُوت، فقُلِبت الواوُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وكأنَّ الحاملَ لهذا القائلِ بهذا القولِ ما روي في القصةِ أنه كان أطولَ رجلٍ في زمانه، إلا أنَّ هذا القولَ مردودٌ بأنه لو كان شمتقاً من الطول لكان ينبغي أن ينصرفَ، إذ ليس فيه إلا العلميةُ. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً ولكنه شبيه بالأعجمي، من حيث إنه ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصيغة، وهذا كما قالوا في حَمْدُون وسراويل ويعقوب وإسحق عند مَنْ جعلهما مِنْ سَحَقَ وعَقِب وقد تقدمَ.
(3/56)
---(1/911)
قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ} "أنَّى" فيه وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى كيف، وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنها بمعنى مِنْ أي، أجازه أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النصبُ على الحالِ، وسيأتي الكلام في عامِلها ما هو؟ و "يكون" فيها وجهان، أحدُهما: أنها تامةٌ، و "الملك" فاعلٌ بها و "له" متعلقٌ بها، و "علينا" متعلقٌ بالملك، تقول: "فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم" فتتعدى هذه المادةُ بـ"على"، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "المُلْك"، و "يكون" هي الاملةُ في "أنَّى"، ولا يجوز أن يعملَ فيها أحدُ الظرفين، أعني "له" و "علينا" لأنه عاملٌ معنوي والعاملُ المعنوي لا تتقدَّمُ عليه الحالُ على المشهور. والثاني: أنها ناقصةٌ و "له" الخبر"، و "علينا" متلعقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "المُلك" كما تقدَّم، والعاملُ في هذه الحالِ "يكون" عند مَنْ يُجيز في "كان" الناقصةِ أن تعملَ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بنفس المُلْك كما تقدَّم تقريرُه، والعاملُ في "أنَّى" ما تعلَّق به الخبرُ أيضاً، ويجوز أن يكونَ "علينا" هو الخبر، و "له" نصبٌ على الحال، واعالمُ فيه الاستقرارُ المتعلِّقُُ به الخبرُ، كما تقدم تقريره، أو "يكون" عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة. ولم أرَ مَنْ جَوَّز أن تكونَ "أنى" في محلِّ نصب خبراً لـ"يكون" بمعنى "كيف يكون الملك علينا له" ولو قِيل به لم يمتنع معنىً ولا صناعةً.
قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} جملةٌ حاليةٌ، و "بالمُلْك" و "منه" كلاهما متعلقٌ بـ"أحقُّ". {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} هذه الجملةُ الفعليةُ عطفٌ على الاسمية قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحالِ، ودخلت الواوُ على المضارعِ لكونه منفياً و "سعةً" مفعولٌ ثانٍ ليُؤْتَ، والأولُ قَام مقامَ الفاعلِ.
(3/57)
---(1/912)
و "سَعَةً" وزنُها "عَلَة" بحذفِ الفاءِ وأصلُها "وُسْعَة" وإنما حُذِفَتِ الفاءُ في المصدر حَمْلاً على المضارع، وإنما حُذِفَتْ في المضارع لوقوعِها بين ياءٍ - وهي حرفُ المضارعة - وكسرةٍ مقدرة، وذلك أنَّ "وَسِع" مثلُ "وَثِق"، فحقُّ مضارعهِ أن يجيء على يَفْعِل بكسرِ العين، وإنما مَنَعَ ذلك في "يَسَع" كونُ لامهِ حرف حلقٍ فَفُتِحَ عينُ مضارعهِ لذلك، وإنْ كان أصلُها الكسرَ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا: بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ، والدليلُ على ذلك أنهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ أصليةً غير عَارِضةً، بخلاف فتحة "يَسَع" و "يَهَب" وبابِهما.
فإن قيل: قد رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواو وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وسكرةٍ، وذلك إذا كان حرفُ المضارعةِ همزة نحو: "أَعِدُ" أو تاءً نحو: "تَعِد" أو نوناً نحو: "نَعِد"، وكذلك في الأمرِ والمصدر نحو: "عِدْ عِدة حسنةً" فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المضارع مع الياءَ طَرْداً لِلْبَاب، كما تقدَّم لنا في حذفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مضارعاً لأجلِ همزةِ المتكلمِ ثم حُمِل باقي البابِ عليه.
وفُتِحَتْ سينُ "السَّعة" لَمَّا فُتِحَتْ في المضارعِ لأجل حرفِ الحلقِ، كام كُسِرت عينُ "عِدة" لَمَّا كُسِرَت في "يَعِد" لا أنه يُشْكِلُ على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كَسَروا الهاء في المصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المضارعِ لأجْلِ أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ، فلا فرقَ بين "يَهَب" و "يَسَع" في كونِ الفتحةِ عارضةً والكسرةِ مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في "هِبة"، وكان مِنْ حَقِّها الفتحُ لفتحِها في المضارع كـ"سَعَة".
و "من المال" فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بيُؤْتَ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسَعَة، أي: سَعَ’ً كائنةً من المالِ.
(3/58)
---(1/913)
قوله: {فِي الْعِلْمِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"بَسْطَة" كقولِك: "بَسَطْتُ له في كذا". والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ"بَسْطَة" أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.
و "واسعٌ" فيه ثلاثةُ اوجهٍ، أحدثها: أنه على النسبِ أي: ذو سَعَةِ رحمةٍ، كقولهم: لابن وتامر أي: صاحبُ تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنه جاءَ على حذفِ الزوائدِ من أَوْسَع، وأصلُه مُوْسِع. وهذه العبارةُ إنما يتداولُها النحويون في المصادرِ فيقولون: مصدر / على حذفِ الزوائدِ. والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من "وَسِع" ثلاثياً. قال أبو البقاء: فالتقديرُ على هذا: واسعُ الحلم، لأنك تقول وَسَِ حلمُه".
* { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}: "أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"إنَّ"، تقديرُه: إنَّ علامَة مُلْكِه إيتاؤُكم التابوت.
وفي "التابوتِ" قولان، أحدُهما: أنه فاعولٌ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ، قال: لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك. والقول الثاني: أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ، وجَعَلَ معناه صحيحاً فيه، لأنَّ التابوتَ هو الصندوقُ الذي توضع فيه الأشياءُ فيَرجع إليه صاحبُه عند احتياجِه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوعِ.
(3/59)
---(1/914)
والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها: إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً، وقد قُرِىء بها شاذاً، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد: "بالهاء"، وقال [ُبَيّ:] "بالتاء"، فجاؤوا عثمان فقال: "اكتبوه على لغةِ قريش" يعني بالتاء.
وهذا الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث؟ فقال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ"، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً. "ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ" يعني في الأوزان العربية، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [إليه] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ.
وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه، إلاَّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهما في الهَمْسِ، ولأنهما من حروفِ الزيادة، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ.
قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكونَ "فيه" وحدَه حالاً من التابوت، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ويرتفعُ "سكينة" بالفاعلية، والعاملُ فيه الاستقرارُ والحالُ هنا من قبيلِ المفردات، ويجوزُ أن يكونَ "فيه" خبراً مقدماً. و "سكينةٌ" مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والحالُ هنا من قبيلِ الجملِ. و "سكينةٌ" فعلية من السكون، وهو الوقارُ. وقرأ أبو السَّمَّال بتشديدِ الكافِ، قال الزمخشري: "وهو غريبٌ".
(3/60)
---(1/915)
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"سكينة"، ومحلُّه الرفعُ. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به "فيه" من الاستقرار. و "مِنْ" يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: من سكيناتِ ربكم.
و "بَقِيَّة" وزنها فَعِيلة والأصلُ: بَقِيْيَة بياءين، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُدْغِمَ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ "بَقِيَّة" ياءٌ بقولهِم: "بَقِيَ" في الماضي، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءٌ، ألا ترى أنَّ "رَضِي" و "شَقِيَ" أصلهما من الواوِ: الشِّقْوَة والرِّضوان.
و "مِمَّا تَرَك" في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ"بَقَيَّة" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بقيةٌ كائنةٌ. و "مِنْ" للتبعيضِ، أي: من بَقِيَّاتِ ربكم، و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً.
و "آل" تقدَّم الكلامُ فيه، وقيل: هو هنا زائدٌ كقولِهِ:
1022 - بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما * يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ
ثَيْنَةُ من النساء. قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يريدَ: مِمَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنِهِما، أي زائدٌ للتعظيمِ. واستشكل الشيخ كيفية إفادةِ التفخيمِ بزيادةِ الآل. و "هارون" أعجمي. قيل: لم يَرِدْ في شيءٍ من لغةِ العربِ،قاله الراغب، أي: لم تَرِدْ مادُتُه في لُغَتِهِم.
قوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلاائِكَةُ} هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تَحْمِلُهُ الملائكةُ.
(3/61)
---(1/916)
وقرأ مجاهد "يَحْمِلُه" بالياء من أسفلَ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان. و "ذلك" مشارٌ به قيل: إلى التابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها. و "إنْ" الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى "إذ".
* { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيا إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
قوله تعالى: {فَصَلَ}: أي: انفصلَ، فلذلك كان قاصراً. وقيل: إنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكنه حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسَه ثم كَثُرَ حَذْفُ هذا المفعولِ حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.
(3/62)
---(1/917)
و "بالجنودِ" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "طالوت" أي: مصاحباً لهم. وبين جملةِ قولِهِ "فلمَّا فَصَلَ" وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فجاءَهم التابوت، فَمَلَكُوا طالوتَ وتأهَّبوا للخروجِ وهي كقولِهِ: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} والجمهورُ على قراءةِ "بنهَر" بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ، وفيه لغةً أخرى: تسكينُ الهاء، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه / اللفظة عند قولِهِ تعالى: {مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وأصلُ الياء في "مُبْتَلِيكُمْ" واوٌ لأنه من بَلاَ يَبْلُوا أي: اختبَرَ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها.
وقوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أشياعي وأصحابي، و "من" للتبعيضِ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه، ومثلُه قولُ النابغة:
1023 - إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً * فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُن تقولُ العربُ: "طَعِمْتُ الشيءَ" أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ قال:
1024 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ * وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
(3/63)
---(1/918)
قوله: {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستثنى منه وجهان، الصحيحُ أنه الجملة الأولى وهي: "فَمَنْ شَرِبَ منه فليس مني"، والجملة الثانيةُ معترِضَةٌ بين المستثنى والمستثنَى منه، وأصلُها التأخيرُ، وإنَّما قُدِّمَتْ لأنها تَدُلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهومِ، فإنَّه لَمَّا قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} فُهِمَ منه أنَّ مَنْ لم يَشربْ فإنَّه منه، فلمَّا كانَتْ مدلولاً عليها بالمفهومِ صارَ الفصلُ بها كَلا فصل. وقال الزمخشري: "والجملةُ الثانية في حكم المتأخرةِ، إلاَّ أنها قُدِّمَتْ للعنايةِ، كما قُدِّمَ "والصابئون" في قولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ} والثاني: أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى: ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلاَّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، ومن الإِثباتِ نفيٌ، كما هو الصحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً.
والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيلِ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك.
(3/64)
---(1/919)
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو: "غَرفة" بفتحِ الغين والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدرِ، إلاَّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولو جاءَ على الصدرِ لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرَفِ كالأكل بمعنى المأكول. وقيل: المفتوحُ مصدرٌ قُصِدَ به الدلالة على الوَحْدَةِ فإنَّ "فَعْلَة" يدلُّ على المَرَّة، والمضِمُومُ بمعنى، فحيث جعلتهما مصدراً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: إلاَّ من اغترف ماءً، وحيث جعلَتهما بمعنى المفعولِ كانا مفعولاً به، فلا يُحتاج إلى تقديرِ مفعولٍ.
ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ، غنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح.
قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّ بـ"اغَتَرف" وهو الظاهِرُ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ لـ"غُرْفة"، وهذا على قولِنا بأن "غُرفة"، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةٌ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ "إلا قليلٌ"، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً، فإنه في قوةِ: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب. قال الزمخشري: "وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ، فلمَّا كان معنى "فَشَرِبُوا منه" في معنى "فلم يُطيعوه" حَمَل عليه، ونحوُه قولُ الفرزدق: "لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ" يشير إلى قولِهِ:
1025 - وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ * من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
(3/65)
---(1/920)
فإنَّ معنى "لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً" لم يَبْقَ من المال إلا مُسْحَتٌ، فلذلك عَطَفَ عليه "مُجَلَّفُ" بالرفعِ مراعاةً للمعنى الذي ذكرْتُهُ لك. وفي البيت وجهان آخران، أحدُهما . . . .
ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسلةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ: إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو: "قام القومُ إلا زيداً" فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ. وقال بعضُهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ "إلا" ما قبلَها في الإِعراب فتقول: "مررت بالقومِ إلا زيدٍ" بجرّ "زيد"، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإلاَّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم. ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ. ومنهم مَنْ قال: قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ. ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد "إلاَّ" قولُهُ:
1026 - وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه * لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ
قولُهُ: {جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} "هو" ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مؤكِّدٌ للضميرِ المستكنِّ في "جاوَزَ".
وقوله: {وَالَّذِينَ} يَحْتَمِلُ وجهين، أظهرُهُما: أنه عطفٌ على الضميرِ المستكنِّ في "جاوَزَ" لوجودِ الشرطِ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالمضير المنفصلِ. والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، قالوا: ويَلْزَمُ من الحالِ أن يكونوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ "الذين" مبتدأ والخبرَ "قالوا: لا طاقة" فصارَ المعنى: "فلمَّا جاوزه والحالُ أنَّ الذين آمنوا قالوا هذه المقالة" والمعنى ليس عليه.
(3/66)
---(1/921)
ويجوز إدغامُ هاء "جاوزه" في هاء "هو"، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ / الإِدغامَ، قال: إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ" يعني فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءةُ أبي عمرو. وأَدْغَمَ أيضاً واوَ "هو" في واو العطف بخلافٍ عنه، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما. ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال: "لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة، فصارَتْ نظيرَ: "آمنوا وكانوا" فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا". وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين، أحدُهما: أنها [ما] صارَتْ مثلَ "آمنوا وكانوا" إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإنهم أدغموا: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} و {الَّذِى يُوَسْوِسُ} بعينِ ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرفِ عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ كهذه الآيةِ، ومثله {هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ} {هُوَ وَجُنُودُهُ}، فلو سَكَنَتِ الهاءُ امتنع الإِدغامُ نحو: "وهو وليُّهم" ولو جرى فيه الخلاف أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ} بل أَوْلى لأن سكونَ هذا عارضٌ بخلافِ: {الْعَفْوَ وَأْمُرْ} قوله: {لاَ طَاقَةَ لَنَا} "لنا" هو خبرٌ "لا" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ "اليوم" و "بجالوت" لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح، بل "اليوم" و "بجالوت" متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به "لنا".
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "بجالوت" هو خبرَ "لا"، و "لنا" حينئذٍ: إما تبيينُ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة.
والطاقَةُ: القدرةُ وعينُها واو، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد، فإنّضها من "أَطَاق" ونظيرُها: أجاب جابةً، وأغار غارةً، وأطاع طاعةً.
(3/67)(1/922)
---
و "جالوت" اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتا من جال يَجُول كما تقدَّم في طالوت، ومثلُهما داود.
قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} "كم" خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ: "وكائن" وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و "من فئةٍ" تمييزُها، و "مِنْ" زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز "كائن" مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذَفُ "مِنْ" فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز "كم". الاستفهامية، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو. ومِنْ مجيءِ مميِّز "كائن" منصوباً قولُ الشاعر:
1027 - اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ * آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وأجازوا أن يكون "من فئةٍ" في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"كم" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. و "غَلَبَت" هذه الجملةُ هي خبرُ "كم" والتقديرُ: كثيرُ من الفئاتِ القليلةِ غالبةٌ الفئات الكثيرةَ.
وفي "فئة" قولان أحدُهما: أنها من فاء يَفِيء أي: رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة. ولاثاني: أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي: كسرتُه، فحُذِفَت لامُها وزنُها فِعَة كمئة، إلاَّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةً من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة.
قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقدير: ملتبسين بتيسيرِ الله لهم. والثاني: أنَّ الباءَ للتعدية ومجرورُها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: "وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مفعولاً به".
(3/68)
---(1/923)
وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} مبتدأٌ وخبرٌ، وتَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم. والثاني: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها.
* { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ}: في هذه اللام وجهان، أحدُهما: أنَّها تتعلَّق ببرزوا، والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها ومجرورَها حالٌ من فاعلِ "بَرَزوا" قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن تكونَ حالاً أي: برزوا قاصدين لجالوتَ". ومعنى برزاو صاروا إلى بَرز من الأرض، وهو ما انكشَفَ منها واستوى، ومنه المُبَارَزَةُ في الحَرْبِ لظهورِ كلِّ قِرْن لصاحبهِ. وفي ندائِهِم بقولِهم: "رَبَّنا" اعترافٌ منهم بالعبودية وطلبٌ لإِصلاحهم لأنَّ لفظة "الرب" تُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأتوا بلفظِ "على" في قولهم: "أَفْرِغ علينا" طلباً لأنْ يكونَ الصبرُ مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرفِ.
* { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {وَالهَزْمُ}: أصلُه الكَسْر، ومنه "سِقاء مُتَهَزِّم" و "قَصَبٌ متهزِّمٌ" أي متكسِّر. قوله: "بإذنِ الله" فيه الوجهانِ المتقدِّمان أعني كونَه حالاً أو مفعولاً به. و "مِمَّا يشاء" فاعلٌ "يشاء" ضميرُ الله تعالى. وقيل: ضميرُ داود والاولُ أظهرُ.
(3/69)
---(1/924)
قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ} قرأ نافع هنا، وفي الحج: "دِفاع" والباقون: "دَفْع". فأمَّا "دَفْع" فمصدر دَفَعَ يَدْفَع ثلاثياً. وأمَّا "دفاع" فيحتمل وجهين: أحدُهما: أن يكونَ مصدر دَفَعَ الثلاثي أيضاً نحو: كَتَب كِتاباً، وأن يكونَ مصدرَ "دافع" نحو: قاتل قِتالاً، قال أبو ذؤيب:
1028 - ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم * فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ
و "فاعَل" هنا بمعنى فَعَل المجرد فتتَّحد القراءتان في المعنى.
ومَنْ قرأ "دفاع" وقرأ في الحج {يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوااْ} وهو نافع، أو قرأ "دَفْع" وقرأ "يَدْفَع" - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل. وأمَّا من قرأ هنا "دَفْع" وفي الحج "يُدافِع" وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي. والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى، و "الناسَ" مفعول أول، و "بعضهم" بدلٌ من "الناسِ" بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ.
و "ببعضٍ" متعلِّقٌ بالمصدرِ، والباءُ للتعديةِ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو: "ذَهَبَ به" فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول: "طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم" / ولا تقول: طَعِمْته باللحم" فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلاَّ فيما شَدَّ قياساً وهو "دَفَع" و "صَكَّ"، نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر.
(3/70)
---(1/925)
قوله: {وَلَاكِنَّ اللَّهَ} وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ غُلِب عمّا يريدُ من الفساد أنَّ الله غيرُ متفضِّلٍ عليه حيث لم يُبْلِغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه أنَّه وإن لم يَبْلُغْ مقاصده أنَّ الله متفضلٌ عليه ومُحْسِنٌ إليه لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما مِنْ أحدٍ ألا والله عليه فضلٌ وله فضلُ الاختراعِ والإِيجادِ.
و "على" يتعلَّق بـ"فَضْل"، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ. قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات -:
1029 - وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً * كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ
أمّا إذا ضُعِّف فإنه لا تُحْذَفُ "على" أصلاً كقولِه: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، ويجوزُ ان تتعلَّقٌ "على" بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً لفَضْل.
* { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ }
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}: مبتدأٌ وخبرٌ، و "نَتْلوها" فيه قولان، أحدُهما: أن تكونَ حالاً، والعاملُ فيها معنى الإِشارة. والثاني أن تكونَ مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوزُ غيرُ ذلك، وأَخْذُه مِمّا مضى سَهْلٌ وأُشير إليها إشارةُ البعيدِ لِما تقدَّم في قولِه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. قوله: "بالحقِّ" يجوزُ فيه أن يكونَ حالاً من مفعولِ "نَتْلوها" أي: ملتبسةً بالحق، أو مِنْ فاعِله؛ أي: نَتْلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرورِ "عليك" أي: ملتبساً بالحق.
(3/71)
---(1/926)
* { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ}: يجوزُ أن يكونَ حالاً من المشارِ إليه، والعاملُ معنى الإِشارةِ كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويجوزُ أن يكونَ خيرَ "تلك" على أن يكونَ "الرسلُ" نعتاً لـ"تلك" أو عطفَ بيانٍ أو بدلاً.
قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} هذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله "فَضَّلْنا" والجمهورُ على رفعِ الجلالة على انه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله. وقُرِىء بالنصبِ على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ مستترٌ وهو عائدٌ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التعظيمِ.
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّمَيْفَع: "كالَمَ اللهَ" على وزن فاعَلَ ونصبِ الجلالة، و "كليم" على هذا معنى مالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالط. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ لأنه خروجٌ من ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه في قوله: "فَضَّلْنا" إلى الاسمِ الظاهرِ الذي هو في حكمِ الغائبِ.
(3/72)
---(1/927)
قوله: {دَرَجَاتٍ} في نسبِه ستةُ أوجهٍ، أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ. الثاني: انه حالٌ على حذفِ مضافٍ، أي: ذوي درجاتٍ. الثالث: أنه مفعول ثان لـ"رفع" على أنه ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات. الرابع أنه بدلُ اشتمالٍ أي: رَفَع درجاتٍ بعضَهم، والمعنى: على درجاتِ بعض. الخامس: أنه مصدرٌ على معن الفعل لا لفظِهن لأن الدرجةَ بمعنى الرَّفْعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضَهم رَفعاتٍ. السادس: أنه على إسقاطِ الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يكونَ "على" أو "في" أو "إلى" تقديرُه: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجاتٍ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} مفعولُه محذوفٌ، فقيل: تقديرُه: أَنْ لا تختلفوا وقيل: أَنْ لا تفشلوا، وقيل: أَنْ لا تُؤمروا بالقتال، وقيل: أَنْ يضطرَّهم إلى الإِيمانِ، وكلُّها متقاربة.
و "مِنْ بعدِهم" متلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صلةٌ، والضميرُ يعودُ على الرسل. و {مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قولِه: "مِنْ بعدِهم" بإعادةِ العاملِ. والثاني: أنه متعلقٌ باقتتل، إذ في البينات - وهي الدلالاتُ الواضحةُ - ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ. والضميرُ في "جاءتهم" يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم، وهم أممُ الأنبياء.
قوله: {وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ} وجهُ هذا الاستدراكِ واضحٌ، فإنَّ "لكن" واقعةٌ بين ضدين، إذ المعنى: ولو شاءَ اللهُ الاتفاقَ لاتفقوا ولكنْ شاءَ الاختلافَ فاختلفوا. وقال أبو البقاء: "لكنْ" استدراكٌ لما دَلَّ الكلامُ عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} فلا محلَّ حينئذٍ لقولِه: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ}.
(3/73)
---(1/928)
وقوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} فيه قولان، أحدُهما: أنها الجملةُ الأولى كُرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري. والثاني: أنها ليست لتأكيدِ الأولى، بل أفادَتْ فائدةٌ جديدةً، والمغايَرةُ حَصَلَتْ بتغايرِ متعلَّقها، فإنَّ متعلَّقَ الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئةِ الثانيةِ، والتقديرُ في الأولى: "ولو شاءَ الله أن يَحُولَ بينهم وبين القتال بأن يَسْلُبَهم القِوى والعقول، وفي الثاني: ولو شاءَ لم يأمرِ المؤمنين بالقتال، ولكن شاءَ أَمَرهم بذلك. وقوله: {وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} هذا استدراكٌ أيضاً على المعنى، لأنَّ المعنى: ولو شاءَ الله لمنعَهم [من ذلك]، ولكنَّ اللهَ يفعل ما يريدُ مِنْ عدمِ منعِهم من ذلك أو يفعلُ ما يريدُ من اختلافِهم.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ}: مفعولُه محذوفٌ، تقديرُه: شيئاً ممَّا رزقناكم فعلى هذا "ممَّا رزقناكم" متعلقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعِه صفةٌ لذلك المفعولِ، وإنْ لم تقدِّرْ مفعولاً محذوفاً فتكونُ متعلقةً بنفسِ الفعلِ.
و "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: رزقناكُموه، وأن تكونَ مصدريةً فلا حاجةَ إلى عائدٍ، ولكن الرزقَ المرادَ به المصدرُ لا يُنفقُ، فالمراد به اسمُ المفعول، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قولِه: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلقٌ أيضاً بأنفِقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافِهما معنىً؛ فإنَّ الأولى للتبعيضِ والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ، و "أَنْ يأتي" في محلِّ جرٍ بإضافة "قبل" إليه أي: من قبلِ إتيانه.
(3/74)
---(1/929)
وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملةُ المنفيَّةُ صفةٌ لـ"يوم" فمحلُّها الرفعُ. وقرأ / "بَيْعُ" وما بعدَه مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيهُ ذلك، مذكورٌ في قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} فليُنْظر ثَمَّةَ.
والخُلَّة: الصداقة كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وَسْطَها.
والخُلَّة: الصديقُ نفسه، قال:
1030 - وكان لها في سالفِ الدهرِ خُلَّةً * يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرا
وكأنه من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ، أي: كان لها ذو خُلَّة. والخليلُ: الصديقُ لمداخَلَتِه إياك، ويَصْلُح أَنْ يكونَ بمعنى فاعل أو مفعول، وجَمْعُه "خُلاَّن"، وفُعْلان جمعُ فَعيل نُقِل في الصفات، وإنما يَكْثرُ في الجوامِدِ نحو: "رُغفانٍ. وقوله: "هم الظالمون" يجوز أن يكونَ "هم" فصلاً أو مبتدأً وما بعده خبرٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ.
* { اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
(3/75)
---(1/930)
قوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ [الْحَيُّ]}: مبتدأٌ وخبرٌ. و "الحيّ" فيه سبعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ خبراً ثانياً للجلالة. الثاني: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الحيُّ. الثالث: أن يكونَ بدلاً من قوله: "لا إله إلا الله هو" فيكونَ في المعنى خبراً للجلالةِ، وهذا في المعنى كالأولِ، إلا أنه هنا لم يُخْبَرْ عن الجلالةِ إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلافِ الأول. الرابع: أن يكونَ بدلاً من "هو" وحدَه، وهذا يبقى من بابِ إقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ، لأنَّ جملةَ النفي خبرٌ عن الجلالةِ، وإذا جعلتَه بدلاً حَلَّ محَلَّ الأولِ فيصيرُ التقدير: الله لا إله إلا اللهُ. الخامس: أن يكون مبتدأً وخبرُه {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}. السادس: أنه بدلٌ من "الله" السابع: أنه صفة لله، وهو أجودُها، لأنه قرىء بنصبِهما "الحيَّ القيومَ" على القطع، والقطعُ إنما هو في باب النعتِ، لا يقال في هذا الوجهِ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالخبرِ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ].
و "الحيُّ" فيه قولان، أحدهما: أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ، وهذا واضح، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أن أصلُه حَيْوٌ فلامه واو، فَقُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها متطرفةً، وهذا لا حاجةَ إليه وكأنَّ الذي أَحْوجَ هذا القائلَ إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كونَ العينِ واللامِ من وادٍ واحد هو قليلٌ في كلامِهم بالنسبةِ إلى عَدَمِ ذلك فيه، ولذلك كتبوا "الحياة" بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصلِ، ويؤيده "الحيوان" لظهورِ الواو فيه. ولناصِر القول الأول أن يقول: قلبت الياءُ الثانيةُ واواً تخفيفاً، لأنه لمّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثُقْل المِثْلان.
وفي وزنه أيضاً قولان، أحدُهما: أنه فَعْل، والثاني: أنه فَيْعِل فَخُفِّف، كما قالوا مَيْت وهَيْن، والأصل: هَيّن ومَيّت.
(3/76)
---(1/931)
والقَيُّوم: فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره، قال أمية:
1031 - لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ * والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ
قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ * والحشرُ والجنةُ والنعيمُ
إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ
وأصلُه قَيْوُوم، فاجتمت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: "القَيَّام"، وقرأ علقمة: "القَيِّم" وهذا كما يقولون: دَيُّور وديار ودَيِّر. ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً كـ"سَفُّود" إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية كسُبُّوح وقُدُّوس وضَرَّاب وقَتَّال، فالزائدُ من جنسِ العَيْنِ، فلمَّا جاء بالياء دونَ الواوِ علمنا أن أصله فَيْعُول لا فَعُّول؛ وعدَّ بعضُهم فَيْعُولاً من صيغ المبالغة كضَرُوب وضَرَّاب.
قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ. الثاني: أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من لاضمير المستكنِّ في "القَيُّوم" كأنه قيل: يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها استئنافٌ إخبارٍ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً، قاله الزمخشري، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً.
والسِّنَةُ: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور، قال عديّ بن الرقاع:
1032 - وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ * في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ
(3/77)
---(1/932)
وهي مصدرُ وَسَن يَسِنُ مثلَ: وَعَد يَعِد، وقد تقدَّم الحذفِ عند قوله {سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}. وقال ابن زيد: "الوَسْنان: الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى إنه ربما جرَّد السيف على أهله" وهذا القولُ ليس بشيءٍ لأنه لا يُفْهَمُ من لغةِ العرب ذلك. وقال المفضَّل: "السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرأسِ، والنعاسُ في العينين، والنومُ في القلب".
وكررت "لا" في قوله: "ولا نومٌ" تأكيداً، وفائدتها انتفاءُ كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تُذْكَرْ لاحتُمِلَ بقيدِ الاجتماعِ، ولا يَلْزَمُ منه نفيُ كلِ واحدٍ منهما على حِدَته، ولذلك تقول: "ما قامَ زيدٌ وعمرٌ بل أحدُهما"، ولو قلت: "ما قامَ زيدٌ ولا عمرو بل أحدُهما" لم يَصِحَّ، والمعنى: لا يَغْفَلُ عن شيءٍ دقيقٍ ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلةِ، لأنه سببها، فَأَطْلَقَ اسمَ السببِ على مُسَبَّبه.
قوله: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} هي كالتي قبلها إلاَّ في كونِها تأكيداً و "ما" للشمولِ. واللامُ في "له" للمِلْك، وكرَّر "ما" تأكيداً، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السمواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه / قبل ذلك أنه خالقُ السموات والأرض.
قوله: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ} و "مَنْ" وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ، ولذلك دَخَلتْ "إلا" في قولِه "إلاّ بإذنه".
(3/78)
---(1/933)
و "عنده" فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [حالاً] من الضمير في "يَشْفع" أي يَشْفَعُ مستقراً عنده، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ. وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى: يَشْفَع إليه.
و "إلاَّ بإذنه" متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من فاعلِ "يَشْفَع" فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباءُ للمصاحبةِ، والمعنى: لا أحدَ يشفعُ عندَه إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً أي: بإذنه يَشْفعون كما تقول: "ضَرَب بسيفه" أي هو آلةٌ للضربِ، والباءُ للتعديةِ.
و "يَعْلَمُ" هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً. والضميرُ في "أيديهم" و "خلفهم" يعودُ على "ما" في قوله: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه. وقيل: يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ "ما" دونَ غيرِهم. وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه "مَنْ ذا" من الملائكةِ والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصةً.
(3/79)
---(1/934)
قوله: {بِشَيْءٍ} متلِّقٌ بيحيطون. والعلمُ عنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى لاذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم: "اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا" وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام "ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلاَّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر" ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ، والاستثناءُ عليه. و "مِنْ علمه" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء، فيكونَ في محلَّ جر. و "بما شاءَ" متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ، كقولك: "ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ" ومفعولُ "شاء" محذوفٌ تقديرُه: إلا بما شاء أن يُحيطوا به، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ}.
قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} الجمهورُ على "وَسِعَ" بفتح الواوِ وكسرِ السينِ وفتحِ العينِ فعلاً ماضياً.
و "كرسيُّه" بالرفع على أنه فاعلُه، وقُرىء "وَسْعَ" سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرىء أيضاً: "وَسْعُ كرسيِّه" بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء، "كرسيِّه" خفضٌ بالإِضافة، "السمواتُ" رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ.
والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ، ومنه قولُ العجاج:
1033 - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً * قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا
وجمعه كَرَاسيّ كبُخْتيّ وبَخَاتيّ، وفيه لغتان: المشهورةُ ضمُّ كافِه، والثانيةُ كسرُها، وكأنه كسرُ إتباع، وقد يُعَبَّر به عن المَلِك لجلوسه عليه تسميةُ للحالِّ باسم المَحَلِّ، ومنه:
(3/80)
---(1/935)
1034 - قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ * أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلِكِ القديمِ الكُرْسي
وعن العلمِ تسميةً للصفةِ باسمِ مكانِ صاحبِها، ومنه قيل للعلماء: "الكَراسيّ" قال:
1035 - يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ * كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ
وَصَفَهم بأنهم عالمونَ بحوادثِ الأمورِ ونوازِلِها ويُعَبَّرُ به عن السِّرِّ قال:
1036 - مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ * ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ
وقيل:الكُرْسيُّ لكل شيء أصلُه.
قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ} يقال: آدَاه كذا أي: أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ، قال:
1037 - ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها * وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها
أي: يُثْقِلها، ومنه المَوْءُوْدَة للبنت تُدْفَنُ حيةً، لأنهم يثقلونها بالتراب. وقُرىء "يَوْدُه" بحذفِ الهمزة، كما تُحذف همزة "أناس"، وقرىء "يَوُوده" بإبدال الهمزة واواً.
و "حِفْظ" مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما.
و "العليّ" أصلُه: عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو: مَيِّت، لأنه من علا يعلو، قال:
1038 - فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ * تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ
و العظيمُ" تقدَّم معناها، وقيل: هو هنا بمعنى المُعَظَّم كما قالوا: "عتيق" بمعنى مُعَتَّق قال:
1039 - فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْـ * ــفَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ
قيل: وأُنْكِرَ ذلك لانتفاء هذا الوصفِ قبل الخَلْقِ وبع فنائِهم، إذ لا مُعَظَّم له حينئذٍ، وهذا فاسدٌ لأنه مستحقٌ هذا الوصفَ. وقيل في الجواب عنه: إنه صفة فعلٍ كالخَلْق والرِّزْق، والأولُ أصحُّ.
(3/81)
---(1/936)
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب: "بين العصا ولِحائها" فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ" انتهى. يعني غالبَ الجملِ وإلاَّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ: "ولا يُحيطُونَ" وقولُهُ "ولا يَؤُودُه" وقولُه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
* { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: كقولِهِ: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وقد تقدَّم. والجمهور على إدغام دالِ "قد" في تاءِ "تَبَيَّن" لأنها من مَخْرَجِها. ومعنى الإِكراه نسبتُهم إلى كراهةِ الإِسلام. قال الزجاجُ: "لا تَنْسُبوا إلى الكراهةِ مَنْ أسلم مُكْرَهاً". يقال: "أَكْفَر" نَسَبَه إلى الكفرِ، قال:
1040 - وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم * وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ
[وأل في "الدين" للعهدِ، وقيل: عِوَضٌ من الإِضافة أي "في دين الله"].
(3/82)
---(1/937)
والرُّشْدُ: مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها. وقرأ الحسن "الرُّشُ" [بضمتين كالعُنُق، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ. وقرأ أبو عبد الرحمن] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً: "الرَّشادُ" بالألف.
/ قوله {مِنَ الْغَيِّ} متعلِّقٌ بتبيَّن، و "مِنْ" للفصلِ والتمييزِ كقولك: مَيَّزتُ هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: "في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ" وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين. والغَيُّ: مصدرُ غَوَى بفتح العين قال: {فَغَوَى}، ويقال: "غَوَى الفصيلُ" إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصلُ الغَيّ: "غَوْيٌ" فاجتمعت الياء والواو، فَأُدْغِمَتْ نحو: مَيّت وبابِهِ.
(3/83)
---(1/938)
قوله: {بِالطَّاغُوتِ} متعلِّقٌ بـ"يكْفر"، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت. واختُلِفَ واختُلِفَ فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصلِت ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان، وهذا مذهبُ الفارسي، وقيل: هو اسمُ جنسٍ مفردٍ، فلذلك لَزِمَ الإِفرادَ والتذكيرَ، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهبُ المبردِ، وهو مؤنثٌ بدليلِ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا}. واشتقاقُه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حَسَبِ ما تقدَّم أولَ السورة؟ هل هو من ذواتِ الواوِ أو من ذواتِ الياء؟ وعلى كِلا التقديرين فأصلُه طَغَيُوت أو طَغَوُوت لقولِهم "طُغْيان" في معناه، فَقُلِبَت الكلمةُ بأَنْ قُدِّمَتْ اللامُ وأُخِّرت العينُ، فتحرَّك حرفُ العلةِ وانفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً، فوزنه الآن فَلَعُوت، وقيل: تاؤُه ليسَتْ زائدةً، وإنما هي بدلٌ من لامِ الكلمة، ووزنُه فاعول. قال مكي: "وقد يَجُوز أن يكونَ أصلُ لامِهِ واواً فيكونُ أصلُه طَغَووتاً لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثلُه في القلب والاعتلال والوزن: حانوت، لأنه من حَنا يَحْنو وأصله حَنَوُوت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولِهم في الجمع حَوانيت" انتهى. كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة، ادَّاعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليسَ بشيءٍ.
وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ "الغَيّ".
(3/84)
---(1/939)
والعُرْوَة: موضعُ شَدِّ الأيدي، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، واعتراه الهَمُّ: تعلَّق به. والوُثْقى: فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل، وجَمْعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا "وُثُق" بضمتين فجمع وَثِيق.
قوله: {لاَ انفِصَامَ لَهَا} كقولِهِ: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها حينئذٍ. والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها "استمسَكَ". والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في "الوُثْقى". و "لها" في موضِعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفاء - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعٌ ببينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.
* { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوااْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوااْ أَوْلِيَآؤُهُمُ}: الذين مبتدأٌ أولُ، وأولياؤهم مبتدأٌ ثانٍ، والطاغوتُ: خبرُه، والجملةُ خبرُ الأول. وقرأ الحسن ["الطوغيت" بالجمعِ، وإن كان أصلُه مصدراً لأنه لمَّا] أطلق على المعبودِ مِنْ دونِ الله اختلفَت أنواعُه، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضمير مَجْمُوعاً من قولِهِ: "يُخْرِجونهم".
(3/85)
---(1/940)
قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ} هذه الجملةُ وما قبلَها من قولِهِ: "يُخْرِجُهم" الأحْسنُ فيها ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، لأنهما خَرَجا مخرجَ التفسيرِ للولاية، ويجوزُ أن يكونَ "يُخْرِجُهم" خبراً ثانياً لقولِهِ: "الله" وأن يكونَ حالاً من الضمير في "وليُّ"، وكذلك "يُخْرجونهم" والعامِلُ في الحال ما في معنى الطاغوت، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسي في قولِهِ: {نَزَّاعَةً} إنها حالٌ العاملُ فيها "لَظَى" وسيأتي تحقيقُه. و "من" [و] "إلى" متعلقان بفعلي الإِخراج.
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي}: تقدَّم نظيرُه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ}. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: "تَرْ" بسكون الراء، وتقدَّم أيضاً توجيهُها. والهاءُ في "ربه" فيهما قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على "إبراهيم"، والثاني: تعودُ على "الذي"، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ.
(3/86)
---(1/941)
قوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ} فيه وجهان، أظهرهُما: أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ، أي: لأنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ "أَنْ" الوجهان المشهوران، أعني النصبَ أو الجرَّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل "أَنْ" لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ، وإنما حُذِفَت اللام، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ، كما تقدَّم غيرَ مرة. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان، أحدُهما: أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إيتانِ المُلْك، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية، ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، وقتول: "عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه" وهو باب بليغٌ. والثاني: أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ.
(3/87)
---(1/942)
الوجه الثاني: أنَّ "أَنْ" وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان، قال الزمخشري: "ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه". وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه بَعْدُ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك، وإنْ عنى أَنْ "أَنْ" وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ ققد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا: لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ، نحو: "أتيتُك صياحَ الديك" ولو قلت: "أن يصيح الديك" لم يَجُزْ. كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، لأنه قال: "لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ" وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ "ما" المصدريةَ تنوبُ عن الزمان، وليست بمصدرٍ صريحٍ.
(3/88)
---(1/943)
والضمير في "آتاه" فيه وجهان، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على "الذي"، وأجاز المهدوي أن يعودَ على "إبراهيم" أي: مَلَكَ النبوة. قال ابن عطية: "هذا تحاملٌ من التأويل" وقال الشيخ: "هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والمُلْك عهدٌ، ولقولِهِ تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه معمولٌ لحاجَّ. الثاني: أن يكونَ معمولاً لآتاه، ذَكَرَهُ أبو البقاء. وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكونَ بدلاً من "أنْ آتاه الله المُلْك" إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ "أَنْ" واقعةٌ موقعَ الظرفِ، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ. وقال أبو البقاء: "وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من "أَنْ آتاه" وليس بشيءٍ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل "إذ" بمعنى "أَنْ" المصدرية، وقد جاء ذلك" انتهى. وهذا بناءٌ منه على أنَّ "أَنْ" مفعولٌ من أجله / وليست واقعةً موقعَ الظرفِ، أمَّا إذا اكنَتْ "أَنْ" واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط، بل بدلُ كلٍ من كلٍ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ "أَنْ آتاه" و "أن آتاه" مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أنَّ العاملَ فيه "تَرَ" من قوله: "ألم ترَ" ذكره مكي، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسرين المذكورينفي نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
(3/89)
---(1/944)
و {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول. قولُه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ منصوبٌ المحل بالقول أيضاً. وأخبر عن "أنا" بالجملةِ الفعلية، وعن "ربي" بالموصولِ بها، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك.
و "أنا" ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والاسمُ منه "أَنْ" والألفُ زائدةٌ لبيانِ الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً، فقيل: أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال:
1041 - وكيفَ أنا وانتحالِ القوا * في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا
وقال آخر:
1042 - أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني * حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما
والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميمٍ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: "أنا أُحيي" أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ}، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ [نَذِيرٌ]}، وقراءةُ ابن عامر: {لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ} على ما سيأتي، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول: "أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف". واللغةُ الثانية: إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل "أنا" كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ: أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن، وكأنه قَدَّم الألفَ على النونِ فصار أان. قيل: إنَّ المرادُ به الزمانُ، [و] قالوا: أنَهْ وهي هاءُ السكت، لا بدلٌ من الألف: قال: "هكذا فَرْدِي أَنَهْ" وقال آخر:
1043 - إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ * من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.
(3/90)
---(1/945)
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ، بل كان تركيبُ الكلامِ: قال إبراهيم إنَّ الله يأتي. وقال أبو البقاء: "دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي، هذا هو المعنى". والباءُ في "بالشمسِ" للتعديةِ، تقولُ: أَتَتِ الشمسُ، وأتى اللهُ بها، أي: أجاءها. و "من المشرق" و "مِن المغرب" متعلقان بالفعلَيْن قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن، وجَعَلَ التقدير: مسخرةً أو منقادةً. وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك.
(3/91)
---(1/946)
قوله: {فَبُهِتَ} الجمهورُ: "بُهِتَ" مبنياً للمفعول، والموصولُ مرفوعٌ به، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ، لأنه المناظِرُ له. ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من "قال" أي: فَبَهَته قولُ إبراهيم. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: "فَبَهَتَ" بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم، و "الذي" هو المفعولُ، أي: فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ، أي غَلَبة في الحُجَّة، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ، أي: بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي: لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته. والثاني: أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ، والمعنى معنى بُهِت، فتتَّحدُ القراءتان، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان. وقرأ أبو حَيْوة: "فَبَهُتَ" بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ" بكسر الهاء، وهو قاصرُ أيضاً. فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ: بَهَتَ بفتحهما، بَهُت بضم العين، بَهِت بكسرها، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً، قال: {فَتَبْهَتُهُمْ}. والبَهْتُ: التحيُّر والدَّهَشُ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ، ومنه الحديث: "إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ"، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه.
* { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
(3/92)
---(1/947)
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ}: الجمهورُ على سكونِ واوِ "أو" وهي هنا للتفصيلِ، وقيل: للتخيير بين التعجب مِنْ شأنهما. وقرأ أبو سفيان ابن حسين "أوَ" بفتحِها، على أنها واوُ العطفِ، والهمةُ قبلها للاستفهام.
وفي قوله: {كَالَّذِي} أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المعنى وتقديرُه عند الكسائي والفراء: هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مَرَّ على قرية، هكذا قال مكي، أمَّا العطفُ على المعنى فهو وإنْ كان موجوداً في لسانهم كقوله:
1044 - تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً * بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ
وقول الآخر:
1045 - أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ * ولا بَيْدَانَ ناجيةً ذَمُولا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ * ببعضِ نواشغِ الوادي حُمُولا
فإنَّ معنى الأولِ: ليسَ بمكثرٍ ولذلك عَطَفَ عليه "ولا بِحَقَلَّدِ" ومعنى الثاني: أَجِدَّك لستَ براءٍ، ولذلك عَطَفَ عليه "ولا متداركٍ"، إلا أنهم نَصُّوا على عدمِ اقتياسِه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ، وإليه نَحَا الزمخشري، وأبو البقاء، قال الزمخشري: "أو كالذي: معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي"، فَحُذِفَ لدلالةِ "ألم تَرَ" لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ، لأنَّ الحذفَ ثابتٌ كثيرٌ بخلافِ العطفِ على المعنى.
الثالث: انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقول الآخر:
1046 - فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ * ......................
والتقدير: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مَرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادةِ.
(3/93)
---(1/948)
والرابع: أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل، لا حرفٌ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه، فالتقديرُ: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ. وللقولِ باسميةِ الكافِ دلائلُ مذكورةٌ في كتب القوم، ذَكَرْنَا أحسَنها في هذا الكتابِ، منها معادَلَتُها في الفاعليةِ بـ"مثل" في قوله:
1047 - وإنّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ * ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخولُ حروف الجرِ، والإِسناد إليها. وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ القرية.
(3/94)
---(1/949)
قوله: { وَهِيَ خَاوِيَةٌ} هذه الجملةُ فيها / خمسةُ أوجهٍ، أحدُها أنْ تكونَ حالاً من فاعلِ "مَرَّ" والواوُ هنا رابطةٌ بين الجملةِ الحاليةِ وصاحبها، والإِتيانُ بها واجبٌ لخلوِّ الجملةِ من ضميرٍ يعودُ إليه. والثاني: أنها حالٌ من "قرية": إمَّا على جَعْل "على عروشها" صفةً لقرية على أحدِ الأوجهِ الآتيةِ في هذا الجارِّ، أو على رأي مَنْ يجيزُ الإِتيانَ باحالِ من النكرة مطلقاً، وهو ضعيفُ عند سيبويهِ. الثالث: أنها حالٌ من "عروشها" مقدَّمةٌ عليه، تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشِها وهي خاويةٌ. الرابع: أن تكونَ حالاً من "ها" المضافِ إليها "عروش" قال أبو البقاء: "والعاملُ معنى الإِضافة وهو ضعيفٌ مع جوازه" انتهى. والذي سَهَّل مجيءَ الحال من المضاف إليه كونُه بعضَ المضافِ، لأنَّ "العروش" بعضُ القريةِ، فهو قريبٌ من قولِه تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. الخامس: أن تكونَ الجملةُ صفةً لقرية، وهذا ليسَ بمرتضى عندَهم، لأنَّ الواوَ لا تَدْخُلُ بين الصفةِ والموصوفِ، وإنْ كانَ الزمخشري قد أجازَ ذلك في قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} فَجَعَل "ولَهَا كتابٌ" صفةً، قال: "وتوسَّطت الواوُ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف" وهذا مذهبٌ سبقه إليه أبو الفتح ابن جني في بعضِ تصانيفِه، وفيه ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سَهَّل ذلك تشبيهُ الجملة الواقعة صفةً بالواقعَةِ حالاً، لأنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى. ورتَّب أبو البقاء جَعْلَ هذه الجملة صفةً لقرية على جوازِ جَعْلِ "على عروشها" بدلاً من "قرية" على إعادةِ حرفِ الجر ورتَّب جَعْلَ "وهي خاويةٌ" حالاً من العروش أو من القرية أو مِنْ "ها" المضافِ إليها على جَعْلِ "على عروشها" صفةً للقرية، وهذا نصُّه قد ذكرتُه ليتضِحَ لك، فإنه قال: "وقيل هو بدلٌ من القرية تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشها أي: مَرَّ على عروش(1/950)
(3/95)
---
القرية، وأعادَ حرفَ الجر مع البدلِ، ويجوز أن يكونَ "على عروشها" على هذا القول صفةً للقريةِ لا بدلاً، تقديرُه: على قريةٍ ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ "وهي خاويةٌ" حالاً من العروشِ وأن تكونَ حالاً من القرية لأنها قد وُصِفَتْ، وأن تكونَ حالاً من "ها" المضافِ إليه، وفي هذا البناءِ نظرٌ لا يخفى.
قوله: {عَلَى عُرُوشِهَا} فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من "قرية" بإعادة العاملِ. الثاني: أن يكونَ صفةً لـ"قرية" كما تقدَّم تحقيقُه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ بـ"مَرَّ" لأنَّ العاملَ في البدلِ العاملُ في المُبْدَلِ منه، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: ساقطةٍ على عروشِها. الثالث: أن يتعلَّقَ بنفسِ خاوية، إذا فَسَّرنا "خاوية" بمعنى متهدِّمة ساقطة. الرابع: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوفُ قالوا: هو لفظُ "ثابتة"، لأنهم فَسَّروا "خاويةٌ" بمعنى: خاليةٌ مِنْ أهلِها ثابتةٌ على عروشِها، وبيوتُها قائمةٌ لم تتهدَّمْ، وهذا حَذْفٌ من غيرِ دليلٍ ولا يتبادَرُ إليه الذهن. وقيل: "على" بمعنى "مع" أي: مع عروشِها، قالوا: وعلى هذا فالمرادُ بالعروشِ الأبنيةُ.
والخاوي: الخالي. يقال: خَوَتِ الدارُ تَخْوِي خَواءً بالمد، وخُوِيَّاً، وخَوِيَتْ أيضاً بكسرِ العينِ تَخْوَى خَوَىً بالقصر، وخَوْياً. والخَوَى: الجوعُ لخلوِّ البطنِ من الزاد. والخَوِيُّ على فَعِيل: البطنُ السهل من الأرض، وخَوَّى البعيرُ: جافى جَنْبَه عن الأرض. قال:
1048 - خَوَّى على مُسْتَوِيات خَمْسِ * كِرْكِرَةٍ وثَفِناتٍ مُلْسٍ
والعروشُ: جمعُ عَرْش، وهو سقفُ البيت، وكذلك كل ما هُيِّىء ليُسْتَظَلَّ به. وقيل: هو البنيانُ نفسُه، قال:
1049 - إنْ يَقْتُلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ * بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بِنْ شهابِ
(3/96)
---(1/951)
قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ اللَّهُ} في "أرنِّى" وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى "متى" قال أبو البقاء: "فعلى هذا تكونُ ظرفاً" والثاني: انها بمعنى كيف. قال أبو البقاء: فيطونُ موضعُها حالاً من "هذه" وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهر انها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين فالعاملُ فيها "يُحْيي". و "بعد" أيضاً معمولٌ له. والإِحياءُ والإِماتةُ مَجازٌ إنْ أُريدَ بهما العمرانُ والخرابُ، أو حقيقةٌ إنْ قَدَّرْنا مضافاً أي: أنَّى يُحْيي أهلَ هذه القريةِ بعد مَوْتِ أهلِها، ويجوزُ أن تكونَ هذه إشارةً إلى عظامِ أهلِ القريةِ البالية وجثثهم المتمزقةِ، دَلَّ على ذلك السياقُ.
قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء: "مئة عام ظرفٌ لأماتَه على المعنى، لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوزُ أن يكونَ ظرفاً على ظاهر اللفظِ، لأنَّ الإِماتةَ تقعُ في أدنى زمان، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً لفعلٍ محذوف تقديرُه: "فأَماته اللهُ فلبِثَ مئة عام"، ويَدُلُّ على ذلك قولُه: "كم لَبِثْتَ"، ولا حاجَةَ إلى هذين التأويلين، بل المعنى جَعَلَه ميِّتاً مئة عام.
و "مئة" عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامُها محذوفةٌ، وهي ياءٌ، يدُلُّ على ذلك قولُهم: "أَمْأَيْتُ الدراهم" أي: صَيَّرْتُها مئةً، فوزنُها فِعَة ويُجْمَع على "مِئات" وشذَّ فيها مِئُون قال:
1050 - ثلاثُ مئينٍ للملوكِ وَفَى بها * ردائي وَجَلَّتْ عن وجوه الأهاتِمِ
كأنهم جَرَوها بهذا الجمعِ لِما حُذِفَ منها، كما قالوا: سِنون في سَنَة.
والعامُ مدةٌ من الزمانِ معلومةٌ، وعينُهُ واوٌ لقولِهم في التصغير، عُوَيْم، وفي التكسير: "أَعْوَام". وقال النقاش: "هو في الأصلِ مصدَرٌ سُمِّيَ به الزمانُ لأنه عَوْمَةٌ من الشمس في الفلك، والعَوْمُ: هو السَّبْح. وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فعلى هذا يكونُ العامُ والعَوْمُ كالقَوْل والقَال".
(3/97)
---(1/952)
قوله: {كَمْ} منصوبٌ على الظرفِ، ومميِّزُها محذوفٌ تقديرُهُ: كم يوماً أو وقتاً. والناصبُ له "لَبِثْتَ"، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والظاهرُ أنَّ "أو" في قوله: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بمعنى "بل" للإِضراب وهو قولٌ ثابتٌ، وقيل: هي للشك. وقوله: {قَالَ بَل لَّبِثْتَ} عَطَفَتْ "بل" هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ تقديرهُ: ما لبثتُ يوماً أو بعضَ يوم، بل لبثتُ مئةَ عام. وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن، والباقُون بالإِدغام.
قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال. وزعم بعضُهم أن المضارعَ المنفيَّ بـ"لم" إذا وَقَع حالاً فالمختارُ دخولُ واوِ الحال وأنشد: /
1051 - بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ
ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون أنَّ الأَوْلَى نفيُ المضارعِ الواقعِ حالاً بما ولمَّا وكلا الزعمين غيرُ صحيحين. لأنَّ الاستعمالَيْنِ واردان في القرآنِ، قال تعالى: {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ}، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فجاء النفيُ بلم مع الواوِ ودونِها.
(3/98)
---(1/953)
قيل: قد تقدَّم شيئاَن وهما "طعامِك وشرابِك" ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [قال:] فانظُرْ إلى غذائِك. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط، لأنه أقربُ مذكورٍ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها. والتقديرُ: وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى، قال معناه أبو البقاء. والثالث: أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ، قاله أبو البقاء وأنشد:
1052 - فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ * أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
(3/99)
---(1/954)
وقرأ حمزةُ والكسائي: "لم يَتَسَنَّهْ" بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً، والباقون بإثباتِها في الحالين. فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ أيضاً للسكتِ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضعُ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ: إمَّا مشتقاً من لفظ "السَّنة" على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع، قالوا: سُنَيَّة وسَنَوات، وعلى هذه اللغة قالوا: "سأنَيْتُ" أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ، فقلبوا الواوَ تاءً، والأصل أَسْنَوُوا، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً، وإمَّا مِنْ لفظ "مَسْنون" وهو المتغيِّرُ ومنه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، والأصل: يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً، كما قالوا في تَظَنَّنَ: تظَنَّى، وفي قَصَّصْت أظفاري: قَصَّيْت، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها، ثم حُذِفَتْ جزماً، قاله أبو عمرو، وخَطَّأَه الزجاج، قال: "لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق".
وحُكِيَ عن النقاش أنه قال: "هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ" أي تغيَّر، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من "أَسِنَ الماء" لكان ينبغي حين يُبْنَى منه تفعَّل أن يقال تأسَّن. ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي: يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ: "قَرَا"، وفي استَهْزا" ثم حُذِفَتْ جزماً.
(3/100)
---(1/955)
والوجه الثاني: أن تكونَ الهاءُ بنفسِها، ويكونُ مشتقاً من لفظ "سنة" أيضاً، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً، وهم الحجازيون، والأصلِ: سُنَيْهَة، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير، قالوا: سُنَيْهَة وسُنَيْنَهات وسانَهْتُ، قال شاعرهم:
1053 - وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ * ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ
ومعنى "لم يَتَسَنَّهْ" على قولِنا: إنه من لفظِ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِه، وهذا أَوْلى من قولِ أبي البقاء في أثناءِ كلامه "من قولك أَسْنى يُسْنِي إذا مَضَتْ عليه سِنونَ" لأنه يَصِيرُ المعنى: لم تَمْضِ عليه سنونَ، وهذا يخالِفُهُ الحِسُّ والواقعُ.
وقرأ أُبَيّ: "لم يَسَّنَّه" بإدغام التاء في السين، والأصل: "لم يَتَسَنَّه" كما قرىء {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ}، والأصل: يَتَسَمَّعون فَأُدْغِم. وقرأ طلحة بن مصرف: "لمئة سنة".
(3/101)
---(1/956)
قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديرُهُ: ولنجعلكَ فَعَلْنا ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على محذفٍ تقديرُهُ: فَعَلْنا ذلك لتعلَمَ قدرتَنا ولنجعلَكَ. الثالث: أن الواوَ زائدةٌ، واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلَها أي: وانظُرْ إلى حمارِك لنعجلَكَ. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم بعضُهم فقال: إنَّ قوله: "ولنجعلَكَ" مؤخر بعد قولِهِ: "ولنجعلَكَ"، وأَنْ الأنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضُها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجار، لأنَّ النظرَ الثالثَ من تمامِ الثاني، فلذلك لم تُجْعَل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار "أَنْ" وهي وما بعدَها من الفعلِ في محلِّ جرٍ على ما سبَقَ بيانُهُ غيرَ مرةٍ. و "آية" مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير. و "للناس" صفةٌ لآية، و "أل" في الناسِ قيل: للعهدِ إنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ. وقيل: للجنس إنْ عَنَى جميعَ بني آدم.
قوله: {كَيْفَ} منصوبٌ نصبَ الأحوالِ، والعاملُ فيها "نُنْشِزُها" وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في "نُنْشِزُها"، ولا يعملُ في هذه الحالِ "انظُرْ"، إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلامِ، فلا يعملُ فيه ما قبلَه، هذا هو القولُ في هذه المسألةِ نظائِرها. وقال أبو البقاء: "كيف نُنْشِزُها في موضِعِ الحالِ من "العظام"، والعامل في "كيف" ننشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها "انظر" لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه، ولكن "كيف" و "نُنْشِزُها" جميعاً حالٌ من "العظام"، والعاملُ فيها "انظر" تقديره: انظرْ إلى العظامِ مُحْياةً وهذا ليس بشيء، لأن هذه جملة استفهام، والاستفهام لا يقع حالاً، وإنما الذي يقع حالاً وحدَه "كيف"، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادةِ حرفِ الاستفهامِ نحو: "كيف ضَرَبْتَ زيداً أقائماً أم قاعداً"؟
(3/102)
---(1/957)
والذي يقتضيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألةِ وأمثالِها أَنْ تكونَ جملةُ "كيف نُنْشِزُها" بدلاً من "العظام"، فتكونَ في محلِّ نصبٍ، وذلك أنَّ "نظر" البصرية تتعدَّى بـ"إلى"، ويجوزُ فيها التعليقُ كقولِهِ تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر يكون ما بعده في محل نصب به. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ لتصِحَّ البدليةُ، والتقديرُ: إلى حالِ العظام، ونظيرُهُ قولُهم: "عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هو؟ فأبو مَنْ هو بدلٌ من "زيداً"، على حذفٍ تقديرُهُ: "عَرَفْتُ قصةَ زيد". والاستفهامُ في بابِ التعليقِ لا يُراد به معناه، بل جرى في لسانِهم مُعَلَّقاً عليه حكمُ اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ "أيّ" في الاختصاص نحو: "اللهم اغفر لنا أَيَّتُها العِصابة" فاللفظُ كالنداء في جميعِ أحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمرو والحرميَّان: "نُنْشِزُها" بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ، والباقون كذلك إلاَّ أنها بالزاي المعجمة. وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً / . والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي.
فَأَمَّا قراءة الحرميّين: فَمِنْ "أَنْشَرَ اللَّهُ الموتى" بمعنى أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فَمِنْ "نَشَر" ثلاثياً، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى أَفْعَلَ فتتحدَ القراءتان. والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ "نَشَرَ" ضِدَّ طَوى أي يَبْسُطها بالإِحياءِ، ويكونُ "نَشَرَ" أيضاً مطاوعَ أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميت فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي واللازمُ بلفظٍ واحد، إلاَّ أنَّ كونَه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارةٍ أبي البقاء في هذا الموضِعِ بعضُ إبهامٍ. ومِنْ مجيء "نشر" لازماً قوله:
(3/103)
---(1/958)
1054 - حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا * يا عجباً للميِّت الناشِرِ
فناشِر مِنْ نَشَر بمعنى حَيِيَ.
وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ "النَّشْز" وهو الارتفاعُ، ومنه: "نَشْزُ الأرضِ" وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء. قال ابنُ عطية: "وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً"، قال: "وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه: "نَشَزَ نابُ البعير" و "أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا"، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ "أَنْشَزَ"، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ "نَشَزَ"، يقال: "نَشَزه" و "أَنْشَزَه" بمعنىً. ومَنْ قرأ بالياءِ فالضمير لله تعالى. وقر أبُيّ "نُنْشِئُها" من النَّشْأَة. ورجَّح بعضُهم قراءة الزاي على الراء بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ بل بانضمامِ بعضَها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عَظمٌ حيٌّ، وهذا ليس بشيءٍ لقولِه: {مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ من قوله: "العِظام" أي العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ "أل" قائمةً مقامَ الإِضافة أي عظامِ حمارِك.
قوله: {لَحْماً} مفعولٌ ثانٍ لـ"نَكْسُوها" وهو من بابِ أعطى، وهذا من الاستعارة، ومثلُه قولُ لبيد:
1055 - الحمدُ للَّهِ إذْ لم يَأْتِنِ أَجَلي * حتى اكتسَيْتُ من الإِسلامِ سِرْبالا
(3/104)
---(1/959)
قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} في فاعِل "تبيَّن" قولان، أحدُهما: مضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلام، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياء التي استقر بها. وقدَّره الزمخشري: "فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه" يعني من أَمْر إحياء الموتى، والأولُ أَوْلَى، لأنَّ قوة الكلامِ تَدِلُّ عليه بخلافِ الثاني. والثاني - وبه بدأ الزمخشري - : أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال، يعني أن "تَبَيَّن" يطلُبُ فاعلاً، و "أَعْلَمُ" يطلبُ مفعولاً، و {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يصْلُح أن يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازعِ، وهذا نصُّه قال: "وفاعل "تبيَّن" مضمرٌ تقديرثه: فلمَّا تبيَّن له أن الله على كل شيء قدير قال: أَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ على كل شيء قديرٌ، فَحُذِفَ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: "ضربني وضربتُ زيداً" فَجَعَله مِنء بابِ التنازعِ كما ترى، وجَعَله من إعمال الثاني وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني أَضْمَرَ في الأولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ من إعمال الأولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول فكان يُقال: فلما تبيَّن له قال أَعلمُه أن الله. ومثلُه في إعمالِ الثاني: {آتُونِيا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}{هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} إلاَّ أنَّ الشيخَ ردَّ عليه بأنَّ شرطَ الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَيْنِ، وأَدْنى ذلك بحرف العطف - حتى لا يكونَ الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول نحو: "جاءني يضحكُ زيدٌ" فإنَّ "يضحك" حالٌ عاملُها "جاءني" فيجعل في "جاءني" أو في "يضحك" ضميراً حتى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جَعلُهُم {آتُونِيا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ(1/960)
(3/105)
---
لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}{هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} من بابِ الإِعمال، لأنَّ هذه العواملَ مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراك، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العملِ، فإذا كان على ما نَصُّوا فليس العاملُ الثاني مشتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأولِ بل هو معمولٌ لقال، و "قال" جوابُ "لَمَّا" إنْ قلنا إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في "لَمَّا" إن قلنا إنها ظرفٌ، و "تبيَّن" على هذا القولِ مخفوضٌ بالظرفِ، ولم يذكر النحاةُ التنازعَ في نحو: "لو جاء قتلتُ زيداً" ولا "لَمَّا جاء ضربتُ زيداً" ولا "حين جاء قتلتُ زيداً" ولا "إذا جاء قتلت زيداً"، ولذلك حَكَ النحاةُ أنَّ العربَ لا تقول: "أَكْرَمْتُ أهنتُ زيداً" - يعني لعدمِ الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قولَه حيث جَعَل الفاعلَ محذوفاً كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فغنْ كان أرادَ بالإِضمارِ في قوله: "وفاعل تبيَّن مضمرٌ" الحذفَ فهو قول الكسائي، لأنه لا يُجيز إضمارَ المرفوع قبلَ الذكر فيدَّعي فيه الحذفَ ويُنْشِدُ:
1056 - تَعَفَّقَ بالأَرْطى لها وأردَها * رجالٌ فَبَذَّت نبلَهم وكَلِيبُ
ولهذا تأويلٌ مذكورٌ، ورُدَّ عيه بالسماع قال:
1057 - هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرَّدَ العُرُبا * أمانَ كنتُ منوطاً بي هوىً وصِبا
فقال: "هَوَيْنَنِي" فجاءَ في الأول بضمير الإِناث من غيرِ حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، وفيه نَظَرٌ لا يَخْفى.
وقرأ ابن عباس: "تُبُيِّن" مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ بعدَه. ابنُ السَّمَيْفَع "يُبَيِّن" من غيرِ تاءٍ مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَه ضميرُ كيفيةِ الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
(3/106)
---(1/961)
قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على "قال" مبنياً للفاعلِ. وفي فاعلِهِ على قراءةِ حمزة والكسائي: "اعْلَمْ" مراً من "عَلِمَ" قولان، أظهرِهُما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللِّهِ تعالى أو على المَلِكِ، أي: قال اللَّهُ أو المَلِكُ أو المَلِكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ. والثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسهِ، نَزَّلَ نفسَه منزلَةَ الأجنبي فخاطَبَهَا، ومنه:
1058 - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ ......... * .....................
[وقوله]:
1059 - ألم تَغْتَمِضْ عيناك... * ............................
[قوله]:
1060 - تطاولَ ليلُك ......... * ....................
يعني نفسَه. قال أبو البقاء: "ما تقولُ لنفسِك: اعلمْ يا عبدَ الله، ويُسَمَّى هذا الجريدَ" يعني كأنه جَرَّد من نفسه مخاطباً يخاطِبُه. وأمَّا على قراءةِ غيرهما: "أعلمُ" مضارعاً للمتكلمِ ففاعلُ "قال" ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلَمُ أنا.
وقرأ الأعمش: "قيل" مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حَسَبَ ما تقدَّم في أولِ السورة.
وقرأ حمزة والكسائي: "اعلمْ" على الأمر، والباقون: "أعلمُ" مضارعاً" والجعفي عن أبي بكر: "أَعْلِمُ" أمراً من "أَعْلَمَ"، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل "قال" ما هو؟ و "أنَّ الله" في محلِّ نصب، سادَّةً مسدَّ المفعولين، أو الأولِ / والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف.
* { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(3/107)
---(1/962)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: في العامل في "إذ" ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أي: قال له ربُّه وقتَ قولِه ذلك. والثاني: أنه "ألم تَرَ" أي: ألم تر إذا قال إبراهيم. والثالث: أنه مضمرٌ تقديرُه: واذكر. فـ"إذ" على هذين القولين مفعولٌ به لا ظرفٌ. و "ربِّ" منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذِفَتْ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِفَ حرفُ النداءِ.
وقوله: {أَرِنِي} تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله: {وَأَرِنَا}. والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً، والأول ياء المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و "رأى" البصرية تُعَلَّق كما تعلق "نظر" البصرية، ومن كلامهم: "أما تَرى أيُّ برقِ ههنا".
و "كيف" في محلِّ نصبٍ: إمَّا على التشبيه بالظرفِ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ}. والعاملُ فيها "تُحْيي" وقَدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان، أظهرُهما: أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ، والهمزةُ هنا للتقريرِ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله:
1061 - ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا * وأندى العاملينَ بطونَ راحِ
[و]: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شَرَحْنا.
(3/108)
---(1/963)
والثاني: أنها واوُ الحالِ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه: والتقدير "أسألْتَ ولم تؤمِنْ"، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ. وهذا ليس بظاهرِ، بل الظاهرُ الأولُ، ولذلك أُجيب ببلى، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى. وقوله "بلى" جوابٌ للجملةِ المنفيَّةِ وإنْ صارَ معناها الإِثباتَ اعتباراً باللفظِ لا بالمعنى، وهذا من قسمِ ما اعتُبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كي، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار "أَنْ"، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد "لكنْ" تقديرُه: ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ "لكنْ" حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ: بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي.
(3/109)
---(1/964)
والطُّمأنينة" السكونُ، وهي مصدرُ "اطمأنَّ" بوزن اقشعرَّ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ، إذ قياسُ "اطمأنَّ" أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان. واختُلِف في "اطمأنَّ" هل هو مقلوبٌ أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من "طَأْمَنَ"، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه: افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم: طامنتُه فتطامَنَ. ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ، وكأنه يقولُ: إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء، فإنه قال: "والهمزةُ في" ليطمَئِنَّ" أصلٌ، ووزنه يَفْعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} مثل: اقْشَعْررتم". انتهى. فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ، وهذا غيرُ بعيدٍ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا: ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ. ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا.
قوله: {مِّنَ الطَّيْرِ} في متعلِّقه قولان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لوقوعِ الجارِ صفةً لأربعة، تقديرُه: أربعةً كائنةً من الطيرِ. والثاني: أنه متعلقٌ بخُذْ، أي: خُذْ من الطير.
و "الطيرُ" اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر. وقيل: بل هو جمعُ طائرٍ نحو: تاجر وتَجْر، وهذا مذهبُ أبي الحسن. وقيل: بل هو مخففٌ من "طَيِّر" بتشديدِ [الياء] كقولِهم: "هَيْنَ ومَيْت" في: هَيِّن ومَيَّت. قال أبو البقاء: "هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ". فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ.
وجاء جَرُّه بـ"مِنْ" بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ }، وقال:
1062 - ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * لقد جارَ الزمانُ على عيالي
(3/110)
---(1/965)
وزعم بعضهم أن إضافته نادرةٌ لا يُقاس عليها، وبعضُهم أَنَّ اسمَ الجمعِ لما يَعْقِل مؤنثٌ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ، لما تقدَّم من الآيةِ الكريمةِ، واسمُ الجمع لما لا يَعْقِل يُذَكَّر ويؤنَّثُ، وهنا جاء مذكراً لثبوتِ التاءِ في عددِه.
قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة بكسر الصادِ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ الراء. واختُلِف في ذلك فقيل: القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنه يقال: صارَه يَصُوره ويَصِيره، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً، وهذا مذهبُ أبي عليّ. وقال الفراء: "الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط". وقال غيرُه: "الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ". ونُقِلأ عن الفراء أيضاً أنه قال: "صَارَه" مقلوبُ من قولهم: "صَراه عن كذا" أي: قَطَعه عنه. ويقال: صُرْتُ الشيءَ فانصار أي: قالت الخنساء:
1063 - فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ * لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ
أي: تَنْقَطِعُ. واختُلف في هذه اللفظةِ: هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ.
و "إليك" إنْ قلنا: إنَّ "صُرْهُنَّ" بمعنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ بـ"خُذْ".
وقرأ ابن عباس: "فَصُرَّهُنَّ" بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها، مشنْ: صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ. ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها، ومنهم مَنْ يفتَحُها، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل: "مُدَّهُنَّ" فالضمُّ على الإِتباعِ، والفتحُ للتخفيفِ، الكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ.
(3/111)
---(1/966)
ولمَّا فَسَّر أبو البقاء "فَصُرْهُنَّ" بمعنى "أَمِلْهُنَّ" قَدَّر محذوفاً بعده تقدرُه: فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به "إلى" تقديرُه: قَطِّعْعُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [إليك]. ثم قال: "والأجودُ عندي أن يكونَ "إليك" حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه: فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك.
قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} "جَعَلَ" ثحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو "جزءاً"، فعلى هذا يتعلَّقُ "على كل" و "منهنَّ" باجعَلْ، وأن يكونَ بمعنى "صَيَّر" فيتعدَّى لاثنين فيكونَ "جُزْءاً" الأولَ، و "على كل" هو الثاني، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و "منهنَّ" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "جزءاً" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً لـ"اجْعَلْ" يعني إذا كانَت "اجْعَلْ" بمعنى "صَيِّر" فيكونُ "جزءاً" مفعولاً أول، و "منهنَّ" مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ. [ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ] قولِه: "كلِّ جبلٍ" تقديرُه: "على كل جبلٍ بحضرتِك، أو يَليك" حتى يَصِحَّ المعنى.
وقرأ الجمهورُ: "جُزْءاً" بسكونِ الزاي والهمزِ، وأبو بكر ضَمَّ الزايَ، وأبو جعفر شَدَّ الزايَ من غيرِ همزٍ، ووجهها أنه لَمَّا حَذَفَ الهمزةَ وقف على الزاي ثم ضَعَّفها كما قالوا: "هذا فَرَجّْ"، ثم أُجري الوصل مُجرى الوقفِ. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك عند قولِه: {هُزُواً}. وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسرُ الجيم. قال أبو البقاء: "ولا أعلم أحداً قرأ بها. والجزءُ: القطعةُ من الشيءِ، وأصلُ المادة يَدُلُّ على القطعِ والتفريقِ ومنه: التجزئةُ والأجزاءُ /.
(3/112)
---(1/967)
قوله: {يَأْتِينَكَ} جوابُ الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتِصاله بنونِ الإِناثِ. قوله: "سَعْياً" فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من ضميرِ الطير، أي: يأتينك ساعياتٍ، أو ذواتِ سَعْي. والثاني: أن يكونَ حالاً من المخاطبِ، ونُقِل عن الخليلِ ما يُقَوِّي هذا، فإنه رُوِي عنه: "أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً" فعلى هذا يكونُ "سعياً" منصوباً على المصدرِ، وذلك الناصبُ لهذا المصدرِ في محلِ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في "يأتينك". قلت: والذي حَمَلَ الخليلَ - رحمه الله - على هذا التقديرِ انه لا يقال عنده: "سَعَى الطائرُ" فلذلك جَعَل السَّعَيَ من صفاتِ الخليلِ عليه السلام لا من صفةِ الطيورِ. والثالث: أن يكونَ "سَعْياً" منصوباً على نوعِ المصدرِ، لأنه نوعٌ من الإِتيان، غذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً. وقال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً، لأنَّ السعي والإِتيان يتقاربان"، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدرَ المؤكِّد لا يزيدُ معناه على معنى عامِله، إلاَّ أنه تَساهََ في العبارةِ.
* { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
(3/113)
---(1/968)
قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}: "مَثَلُ" مبتدأٌ، و "كمثلِ حبةٍ" خبرُه. ولا بُدَّ من حذفٍ حتى يَصِحَّ التشبيهُ، لأنَّ الذين ينفقون لا يُشَبَّهون بنفسِ الحبةِ. واختُلِفَ في المحذوفِ، فقيل: من الأول تقديرُه: وَمُلُ مُنْفَقِ الذين أو نفقةِ الذين. وقيل: من الثاني تقديرُه: ومثل الذي ينفقون كزارعِ حبةٍ؛ أو مِنَ الأولِ والثاني باختلافِ التقدير، أي: مَثَلُ الذين ينفقون ونفقتُهم كمثلِ حبةٍ وزارِعِها. وهذه الأوجهُ قد تقدَّم تقريرُها محررةً عند قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} بأتمِّ بيانٍ فليُراجَعْ. والقولُ بزيادةِ الكافِ أو "مثل" بعيدٌ جداً، فلا يُلْتفت إلى قائله.
والحَبَّةُ: واحدةُ الحَبُّ، وهو ما يُزْرَعُ للاقتياتِ، وأكثرُ إطلاقِه على البُرّ قال المتلمس:
1064 - آليتُ حَبَّ العراقِ الدهرَ أَطْعَمُه * والحَبُّ يأكلُه في القَرْيَةِ السُّوسُ
و "الحِبَّة" بالكسر: بذورُ البَقْلِ مِمَّا لا يُقْتات [به]، و "الحُبَّة" بالضم الحُبُّ.
قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} هذه الجملةُ في محلِّ جرٍ لأنها صفةٌ لحبة، كأنه قيل: كمثل حبةٍ منبتةٍ.
وأَدْغم تاءَ التأنيثِ في سين "سبع" أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام. وأَظْهر الباقون، والتاءُ تقاربُ السينَ ولذلك أُبْدِلَتْ منها، قالوا: ناس ونات، وأكياس وأكيات، قال:
1065 - عمروَ بنَ يربوعٍ شرارَ الناتِ * ليسوا بأجيادٍ ولا أَكْياتِ
أي: شرار الناس ولا أكياس.
(3/114)
---(1/969)
وجاء التمييزُ هنا على مِثال مَفاعِل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألفِ والتاء، فقال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل "سبع سنبلات" على حَقِّه من التمييزِ بجمعِ القلة كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ}. قلت: هذا لِما قَدَّمْتُ عند قولِه: "ثلاثَةُ قروء" من وقوعِ أمثلةِ الجمعِ متعاورةً مواقعها" يعني أنه من بابِ الاتساعِ ووقوعِ أحدِ الجمعين موقعَ الآخرِ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ولا مُحَصِّلٍ، فلا بُدَّ من ذكرِ قاعدة مفيدةٍ في ذلك:
اعلم أنَّ جمعي السلامةِ لا يميز بهما عدد إلا في موضعين، أحدهما: ألا يكونَ لذلك المفردِ جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وتسع آيات، وخمس صلوت، لأنَّ هذه الأشياءَ لم تُجْمَعْ غلا جمعَ السلامةِ، فأمَّا قولُه:
1066 - ................... * ... فوقَ سَبْعِ سَمائيا
فشاذٌّ منصوصٌ على قلتِهِ، فلا التفاتَ إليه. والثاني: أن يُعْدَلَ إليه لأجلِ مجاورة غيرهِ كقولِهِ: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خَضْرٍ} عَدَل من "سنابل" إلى "سنبلات" لأجلِ مجاورتِهِ "سبعِ بقرات"، ولذلك إذا لم توجَدْ المجاورةُ مُيِّز بجمعِ التكسيرِ دونَ جمع السلامةِ، وإنْ كان موجوداً نحو: "سبع طرائق وسبع ليالٍ" مع جواز: طريقات وليلات. والحاصلُ أنَّ أنَّ الاسمَ إذا كان له جمعان: جمعُ تصحيحٍ وجمعُ تكسيرٍ، فالتكسيرُ إمَّا للقلةِ أو للكثرةِ، فإنْ كان للكثرةِ: فإمَّا من بابِ مَفَاعِل أو من غيره، فإنْ كان من بابِ مفاعل أُوثر على التصحيحِ، تقول: ثلاثة أحامد: وثلاث زيانب، ويجوز قليلاً: أحمدِين وزينبات.
(3/115)
---(1/970)
وإن كانَ من غيرِ بابِ مفاعِلِ: فإمَّا أَنْ يكثُرَ فيه غيرُ التصحيحِ وغيرُ جمعِ الكثرةِ أو يَقِلَّ. فإن كانَ الأولَ فلا يجوزُ التصحيحُ ولا جمعُ الكثرةِ إلا قليلاً نحو: ثلاثة زيود وثلاث هنود وثلاثة أفلس، ولا يجوزُ: ثلاثة زيدين، ولا ثلاث هندات، ولا ثلاثة فلوس، إلاَّ قليلاً. وإن كان الثاني أُوثِرَ التصحيحُ وجمعُ الكثرة نحو: ثلاث سعادات وثلاثة شُسُوع، وعلى قلةٍ يجوز: ثلاث سعائد، وثلاثة أَشْسُع. فإذا تقرَّر هذا فقولُهُ: "سبع سنابل" جاءَ على المختارِ، وأمَّا "سبعِ سنبلات" فلأجلِ المجاورةِ كا تقدَّم.
والسنبلةُ فيها قولان، أحدهما: أنَّ نونَها أصليةٌ لقولِهِم: سَنْبَل الزرعُ" أي أخرجَ سنبلَه. والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهورُ لقولِهم: "أسبلَ الزرعُ"، فوزنُها على الأولِ: فُعْلُلَة وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكايةِ اللغتين: سَنْبَلَ الزرعُ وأَسْبَلَ تكونُ من بابِ سَبِط وسِبَطْر.
قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُ في محلِّ جر صفةً لسنابل، أو نصب صفةً لسبع، نحو: رأيتُ سبعَ إمَّاءٍ أحرارٍ وأحراراً، وعلى كِلا التقديرين فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وفي رفعِ "مئة" وجهان، أحدُهما: بالفاعليةِ بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وَقَعَ صفةً. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبلَه خبرُه، والجملةُ صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، إلا أنَّ الوجهَ [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصلَ الوصفُ بالمفرداتِ دونَ الجملِ. ولا بد من تقديرِ حذفِ ضميرٍ أي: في كلِّ سنبلةٍ منها أي: من السنابِلِ.
(3/116)
---(1/971)
والجمهورُ على رفع "مئة" على ما تقدَّم، وقرىء بنصبَها. وجَوَّزَ أبو البقاء في نصبِها وجهينِ، أحدُهما: بإضمارِ فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها بدلٌ من "سبعُ"، وفيه نظرٌ، لأنه: إمَّا أنْ يكونَ بدلَ كلٍّ من كلَّ أو بعضٍ من كلٍ أو اشتمالٍ، فالأولُ لا يَصِحُّ لأنَّ المئة ليست نفسَ سبع سنابل، والثاني لا يَصِحُّ أيضاً لعدمِ الضميرِ الراجِعِ على المبدلِ منه، ولو سُلِّمَ عدم اشتراطِ الضميرِ فالمئة ليسَتْ بعضَ السبعِ، لأنَّ المظروفَ ليس بعضاً للظرفِ والسنبلةُ ظرفٌ للحبةِ، ألا تَرَى قولَه: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فَجَعَلَ السنبلةَ وعاءً للحَبِّ، والثالثُ أيضاً لا يَصِحُّه لعدمِ الضميرِ، وإنْ سُلَّمَ فالمشتملُ على "مئة حبة" هو مشتملٌ على ذلك الشيءِ، فالسنبلةُ مشتملةٌ على مئة والسنبلة مشتمَل عليها سبعُ سنابلَ، فَلَزِمَ أنَّ السبعَ مشتملةٌ على "مئة حبة". وأسهلُ من هذا كلِّه أن يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حَبَّ سبعِ سنابل، فعلى هذا يكونُ "مئة حبة" بدلَ بعضٍ مِنْ كل.
* { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُهُ الجملةُ من قولِه: "لهم أجرُهم"، ولم يُضَمَّن المبتدأُ هنا معنى الشرطِ فلذلك لم تَدْخُلَ الفاءُ في خبره، لأنَّ القصدَ بهذهِ الجملةِ التفسيرُ للجملةِ قبلَها، لأنَّ الجملة قبلَها أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشيءِ الثابت المفروغِ منه، وهو تشبيهُ نفقتِهم بالحَبَّةِ المذكورة، فجاءَتْ هذه الجملةُ كذلك، والخبرُ فيها أُخرج مُخْرَج الثابتِ المستقرِّ غيرِ المحتاجِ إلى تعليقِ استحقاقٍ بوقوعِ غيرِهِ ما قبله.
(3/117)
---(1/972)
والثاني: أنَّ "الذين" خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: / هم الذين يُنْفقون، وفي قوله: "لهم أرجُهم" على هذا وجهان، أحدُهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.والثاني: - وهو الأَوْلَى – ?? E???? ??E???E? ?C ????? ??C ?? C?????CE?? ????C ?E?CE? ?C???? ?C?: ?? ??? ??????? ???????? C?????? ???E? ?I??E??? ??C ????? ??? C????? ???? ??C ??? C?UC?E? ???? ?C? ???? C????? ?C???? C??C??????? ???E? C??I?E? ????.
??C? C???IO??: "?????" E????" ?U?C?? C?E?C?E? E?? C?????C?? ?E????? C????? ?C????? ????? E???????C I??? ?? ???? C?????C??? ??C ?????? C?C?E?C??E? ??? C?????C?? I??C? ?? C?II??? ??? E??????: {E???? C??E???C???C?}? ??????????C ??E?CI? ?? C??EEE? ?C ?? C???C??? ??I E????? ?? ??? U??? ??E?. ? "?C" ???? ??????: "?C ?????????C" ????? ?? E???? ?????E? C???E? ?C??C?I? ??????? ??: ?C ??????? ??? E???? ??I??E? ??C E?EC?? ??? ?C?I?? ??: ?C ??E?E????? ???C????. ??C E?I?? ?? ???? E?I "?????C?" ??: ?????C? ??? C????????? ???? ??C ??? ??? ???????? ??I?C?E.
?C??????: C?C?EICI? EC?????C??? ??? ?? C????: C???????? ????? ???????? ??? C????E?? ????? C????????? ???????? ?? ?C???? ???E? ?????????? ????. ?C??????: C????? ?? C???? ?C??????:C??? ????? E?? ????C? ?? ??C "??C" ?E?: ????C. ?E?I???? COE?C?? C????.
? "?????C?" ?????? EC??? ? "?C ???" ???? ????? ??E?I? ???? ?????? "??C ???" ??E???C?? ?????????? ?? ??CE? C??E?I???? ???? ?C?: C???? ?????? ??C ?E??????? EC?????C??? ?????? "???" C??? ?C ?IE???C ??????? ??: ??C ???? ?C??? ???? ??? ???E? ????E? ?? ???? C????????C E??????? ?????? ??C C??C??? ?? ???? "??C ???" EC???? U??? ?????????? ???? ?E???? ??? C??E? ??? ?O???? ???E? C???CE?.
(3/118)
---(1/973)
* { ?????? ?????????? ????U?????E? I????? ???? ??I???E? ??E?E?????A ????? ??C?????? U?????? ??????? }
???? E?C??: {?????? ??????????}: ??? E?CEE? ?????? ??I??C: ??? ?EEI?? ??CU? C?CEEIC?? EC????E? ??????C ??????? ????C. ? "?U??E?" ?????? ????? ??????U? C?CEEIC?? E?C C????? ?? C???E? C???I????E?? ?? C?E?I???: ??U??E? ?? C??C??? ?? ?? C??????. ? "I???" IE?? ????C. [??C? ?E? C?E?C? ?? ??C C?????: "?C?E?I???: ??EE? ?U??E]? ????? C??U??E? ?? C??? E?C??? ??C E?C???? E???C ?E?? ???? C??EI?? ?????? ?? E???? C??U??E? ??C???E? C??????? ?C?E?C??? ???????? ??C ????? ??? ???? ??C??".
والثاني: أنَّ "قولٌ معروفٌ" مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ أي: أمثلُ أو أَوْلَى بكم، و "مغفرةٌ" مبتدأٌ، و "خيرٌ" خبرُها، فهما جملتان، ذَكَرَهُ المهدويّ وغيرُهُ. قال ابن عطية: "وهذا ذهابٌ برونقِ المعنى". والثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: المأمورُ به قولٌ معروفٌ.
قوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرٍّ صفةً لصدقة، ولم يُعِدْ ذِكْرِ المَنِّ فيقولُ: يتبَعُها مَنٌّ وأذى، لأنَّ الأذى يشملُ المنَّ وغيرَه، وإنَّما ذُكِرَ بالتنصيصِ في قولِهِ: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} لكثرةِ وقوعِهِ من المتصدِّقين وعُسْرِ تحَفُّظِهِمْ منه، ولذلك قُدِّمَ على الأذى.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
(3/119)
---(1/974)
قولُهُ تعالى: {كَالَّذِي}: "كالذي" الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا تُبْطِلُوها إبطالاً كإبطالِ الذي يُنْفِقُ رئاءَ الناسِ. وقيل: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضمير المصدرِ المقدَّرِ كما هو رأيُ سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعِلِ "تُبْطِلُوا" أي: لا تُبْطِلُوهَا مُشْبِهين الذي يُنْفِقُ رياءَ.
و "رئاءَ" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُهُ: إنفاقاً رئاءَ الناس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعولٌ من أَجْلِهِ أي: لأجلِ رئاءِ الناسِ، واستكمل شروطَ النصبِ. والثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: يُنْفِقُ مرائياً.
والمصدرُ هنا مضافٌ للمفعولِ وهو "الناس"، ورئاءَ مصدرٌ راءى كقاتَلَ قِتالاً، والأصلُ: "رِئايا" فالهمزةُ الأولى عينُ الكلمة، والثانيةُ بدلٌ من ياءٍ هي لامُ الكلمة، لأنها وَقَعَتْ طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمُفَاعَلَةُ في "راءى" على بابِها لأنَّ المُرائِيَ يُرِي الناسَ أعمالَهُ حتى يُرُوه الثناءَ عليه والتعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: "رِياء" بإبدالِ الهمزةِ الأولى ياءً، وهو قياسُ تخفيفِها لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودَخَلَتِ الفاءُ، قال أبو البقاء: "لتربطَ الجملةَ بما قبلَها" وقد تقدَّم مثلُه، والهاءُ في "فَمَثَلُهُ" فيها قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على {يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ} لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنها عودُ على المانِّ المُؤْذِي، كأنه تعالى شَبَّهه بشيئين: بالذي يُنْفِقُ رُئَاءَ وبصفوانٍ عليه ترابٌ، ويكونُ قد عَدَلَ من خطابٍ إلى غَيْبه، ومن جمعٍ إلى إفرادٍ.
(3/120)
---(1/975)
والصَّفْوان: حَجَرٌ كبيرٌ أملسُ، وفيه لغتان: أشهرهُما سكونُ الفاءِ والثانيةُ فَتْحُها، وبها قرأ ابن المسيَّبِ والزهري، وهي شاذَّةٌ، لأن "فَعَلان" إنَّما يكونُ في المصادرِ نحو: النَّزَوان والغَلَيَان، والصفاتِ نحو: رجلٌ طَغَيَان وتيسٌ عَدوَان، وأَمَّا في الأسماءِ فقليلٌ جداً. واختُلِفَ في "صَفْوَان" فقيل: هو جمعٌ مفردُهُ: صَفا، قال أبو البقاء: "وجَمْعُ "فَعَلَ" على "فَعْلاَن" قليلٌ". وقيل: هو اسمُ جنسٍ، قال أبو البقاء: "وهو الأجودُ، ولذلك عادَ الضميرُ عليه مفرداً في قولِهِ: "عليه" وقيل: هو مفردٌ، واحدُ صُفِيٌّ قاله الكسائي، وأنكره المبردُ. قال: "لأنَّ صُفِيّاً جمعُ صفا نحو: عُصِيّ في عَصَا، وقُفِيّ في قَفَا".
ونُقِلَ عن الكسائي أيضاً أنه قال: "صَفْوَان مفردٌ، ويُجْمع على صِفْوانٍ بالكسر. قال النحاس: "ويجوزُ أن يكونَ المسكورُ الصادِ واحداً أيضاً، وما قاله الكسائي غيرُ صحيحٍ بل صِفْوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصَفَا كوَرَل ووِرْلان، وأخ وإخْوان وكَرَى وكِرْوَان".
و "عليه ترابٌ" يجوزُ أن يكونَ جملةً من مبتدأٍ وخبرٍ، وقَعَتْ صفةً لصَفْوان، ويجوزُ أن يكونَ "عليه" وحدَه صفةً له، و "ترابٌ" فاعلٌ به، وهو أَوْلى لِمَا تَقَدَّم عند قولِهِ {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ}. والترابُ مَعْرُوفٌ، ويُقال فيه تَوْارب، ويُقال: تَرِبَ الرجلُ: افتقَرَ. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} كأنَّ جِلْدَه لَصِق به لفقرِه، وأَتْرَابَ: أي استغنى، كأنَّ الهمزةَ للسلب، أو صار مالُهُ كالترابَ.
"فأصابَه" عطفٌ على الفعلِ الذي تَعَلَّقَ به قوله: "عليه" أي: استقرَّ عليه ترابٌ فأَصابَهُ. والضميرُ يعودُ على الصَّفْوان، وقيل: على الترابِ. وأمَّا الضميرُ في "فتركه" فعلى الصَفْوَانِ فقط. وألفُ "أَصابه" من واوٍ، لأنه من صَابَ يَصُوب.
(3/121)
---(1/976)
والوابِلُ: المطرُ الشديدُ، وبَلَتِ السماءُ تَبِل، والأرضُ مُوْبُولَة، ويقال أيضاً: أَوْبَلَ فهو مُوبِل، فيكونُ مِمَّا اتفقَ فيه فَعَل وأَفْعَلَ، وهو من الصفاتِ الغالبةِ كالأبطح، فلا يُحْتَاج معه إلى ذكرِ موصوفٍ. قال النضر بن شميل:
"أولُ ما يكونُ المطرَ رَشَّاً ثم طشَّاً. ثم طَلاَّ وَرذاذاً ثم نَضْحَاً، وهو قَطْرٌ بين قَطْرَين، ثم هَطْلاً وَتَهْتَاناً ثم وابِلاً وجُوداً. والوبيلُ: الوَخيمُ، والوبيلةُ: حُزْمَةُ الحطبِ، ومنه قيل للغليظَةِ: وَبِيلَةٌ على التشبيهِ بالحزمة.
قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}. والصَّلْدُ: الأجردُ الأملسُ، ومنه: "صَلَدَ جبينُ الأصلعِ": بَرَقَ، والصَّلِدُ أيضاً صفةٌ، يُقال: صَلِدَ بكسر اللام يَصْلَد بفتحهِا فهو صَلِد. [قال] النقاش: "الصَّلْدُ بلغةِ هُذَيل". وقال أبان بن تغلب: "الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارةِ" وقال علي ابن عيسى: "هو من الحجارة ما لا خيرَ فيه، وكذلك من الأرضين وغيرِها، ومنه: "قِدْرٌ صَلُود" أي: بَطِيئة الغَلَيان".
(3/122)
---(1/977)
قوله {لاَّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإِعراب. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "الذي" في قولِه: "كالذي يُنْفِقُ"، وإنما جُمع الضميرُ حَمْلاً على المعنى، لأنَّ المرادَ بالذي الجنسُ، فلذلك جاز الحَمْلُ على لفظِه مرةً في قولِه: "ماله" و "لا يؤمِنُ" "فمثلُه" وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قولِه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ}، وقد تقدَّم تحقيقُ الوقلِ في ذلك. وقد زَعَم ابن عطية أَنَّ مَهْيَعَ كلامِ العرب الحَمْلُ على اللفظِ أولاً ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكسَ قبيحٌ، وتقدَّم الكلامُ معه في ذلك. وقيل: الضميرُ في "يَقْدِرون" عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ} ويكونُ من بابِ الالتفاتِ من الخطابِ إلى الغَيْبة، وفيه بُعْدٌ. وقيل: يعودُ على ما يُفْهَم من السياقِ. أي: لا يَقْدِرُ المانُّون ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسَمَّى الصدقة كسباً /. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أن يكونَ "ولا يقدرون" حالاً من "الذي" لأنه قد فُصِل بينهما بقوله: "فمثلُه" وما بعدَه، ولا يَلْزَمُ ذلك، لأنَّ هذا الفصلَ فيه تأكيدٌ وهو كالاعتراض.
* { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
وقولُه تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}: إلى قوله: "كَمَثَلِ حَبة" كقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ . . . كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ} في جميعِ التقاديرِ فليُراجَعْ. وقرأ الجحدريَّ "كمثلِ حبةٍ" بالحاءِ المهملة والباءِ.
(3/123)
---(1/978)
قوله: {ابْتِغَآءَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و "تثبيتاً" عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ "ابتغاء" مفعولاً من أجلِه، قال: "لأنه عَطَفَ عليه "تثبيتاً"، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال: "وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه".
وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه: "وتثبيتاً" إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا: "وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة"، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ "تثبيتاً" مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية، أو جَعَلْنَا "مِنْ أنفسهم" هو المفعول في المعنى، وأنَّ "مِنْ" بمَعْنَى اللام أي: لأنفسهم، كما تقولُ: "فَعَلْتثه كسراً مِنْ شهوتي" فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه.
وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ "أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ"، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ "مِنْ أنفسهم" مفعولاً، وأن [تكونَ] "مِنْ" بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.
وتلخَّص أنَّ في "من أنفسهم" قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ لـ"تثبيتاً"، فهو متعلِّقٌ بمحذفوٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً.
(3/124)
---(1/979)
فإن قيل: "تثبيت" مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} والأصلُ: "تبتُّلا" ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ: "وَتَثَبُّتاً"، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال اشيخ: "ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل على غيرِ فعلِه هو في الأصل" ثم قال: "والذي نقول: إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق. قال ابن رواحة:
1067 - فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ * تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا
فإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت "مِنْ" في موضِع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيضِ، مثلُها في "هَزَّ من عِطْفِهِ" و "حَرَّك مِنْ نشاطِه" وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت "مِنْ" أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً".
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: فما معنى التبعيضُ؟ قلت: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها". قال الشيخ: "والظاهرُ أنَّ نفسَه هي اتي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب" يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم".
(3/125)
---(1/980)
قوله: {بِرَبْوَةٍ} في محلِّ جر لأنه صفةٌ لجنة. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى "في" أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. والربوةُ: أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ، قالَه الخليلُ. وهي مشقةٌ من رَبَا يَرْبُو أي: ارتَفَع، وتفسيرُ السدّي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال: رَبْوة ورَباوة بتثليثِ الراءِ فيهما، ويُقال أيضاً: رابية، قال:
1068 - وغيثٍ من الوَسْمِيّ حُوٍّ تِلاعُه * أَجابَتْ روابيه النَّجاءَ هَواطِلُهُ
وقرأ ابن عامر وعاصمِ "رَبْوة" بالفتح، والباقون الضمِّ، قال الأخفشُ: "ونختار الضمَّ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا" يعني فَدَلَّ ذلك على أن المفردَ مضمومُ الفاءِ، نحو بُرْمَة وبُرَم، وصورة وصُوَر. وقرأ ابن عباس "رِبْوَة" بالكسر، والأشهب العقيلي: "رَياوة"، مثل رسالة وأبو جعفر: "رَبَاوة" مثل كراهة، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ.
قوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة، وبُدىء هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ثم بالجملةِ، لأنه الأكثرُ في لسانهم لقُرْبهِ من المفرد، وبُدىء بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونُها بربوة، ثم بالعارضِ وهو إصابةُ الوابلِ. وجاء قولُه في وصف الصفوان - وصَفَهُ بقوله: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} - ثم عَطَفَ على الصفةِ "فأصابه وابلٌ" وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً.
والثانيك أن تكونَ صفةً لـ"ربوة"، قال أبو البقاء: "لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة" كأنه يعني أنه يَلْزَمُ من وصفِ الروبة بالإِصابةِ وصفُ الجنةِ به الثالث: أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه صفةً. الرابع: أن تكونَ حالاً من "جنة"، وجاز ذلك لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ، ولا بُدَّ من تقديرِ "قد" حينئذٍ، أي: وقد أصابها.
(3/126)
---(1/981)
قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: وهو الأصحُّ أنَّ "آتَتْ" تتعدَّى لاثنين، حُذِفَ أولُهما وهو "صاحبها" أو "أهلَها". والذي حَسَّن حَذفَه أنَّ القصدَ الإخبارُ عَمَّا تُثْمِرُ لا عمَّن تُثْمَرُ له، ولأنه مقدرٌ في قولِه: "كمثل جنةٍ" أي غارِس جنةٍ أو صاحبِ جنةٍ، كما تقدَّم. و "أُكُلَها" هو المفعولُ الثاني. و "ضِعْفَيْن" نصبٌ على الحال من "أُكُلَها. والثاني: أنَّ "ضِعْفِين" هو المفعول الثاني، وهذا سهوٌ من قائلِه وغَلَطٌ. والثالث: أنَّ "آتَتْ" هنا بمعنى أَخْرَجَت، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ. قال أبو البقاء: "لأنَّ معنى "آتَتْ": أَخْرَجَتْ، وهو من الإِتاء، وهو الرَّيْع" قال الشيخ: "لاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب". ونسبة الإِيتاء إليها مجازٌ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "أُكْلها" بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر، والباقون بالتثقيل مطلقاً، وسيأتي إيضاح هذا كلِّه. والأَكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ، وبالفتحِ مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنة لأنها محلُّهُ أو سببُه /.
قوله: {فَطَلٌّ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ. واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهَب المبرد إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ، وقوله: "فَطَلٌّ" مبتدأٌ، والتقدير: "فَطَلٌّ يِصيبها". وجاز الابتداء هنا بالنكرةِ لأنها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ، ومن كلامِهم: "إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط". والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، أي: فالذي يُصيبها طَلٌّ. والثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فيُصيبها طلٌّ، وهذا أَبْيَنُها.
(3/127)
---(1/982)
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: - بعد ذِكْرِ الثلاثة الأوجهِ - "والأخير يحتاج فيه إلى حَذْفِ الجملةِ الواقعةِ جواباً وإبقاءِ معمولٍ لبعضها، لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارعِ فإنما هو على إضمارِ مبتدأٍ كقولِه: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي: فهو ينتقمُ، فلذلك يُحتاج غلى هذا التقديرِ هنا، أي: فهي، أي: الجنةُ يُصيبها طَلُّ، وأمَّا في التقديرين السابقين فلا يُحتاج إلاَّ إلى حَذْلإِ أحدِ جُزْئي الجملةِ" وفيما قاله نظرٌ، لأنَّا لا نُسَلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يَحْتَاجُ إلى إضمارِ مبتدأ.
ونظيرُ الآية قوُ امرىء القيس:
1069 - ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى * كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّ
فقوله "فَمِعْزى" فيه التقاديرُ الثلاثةُ.
وادَّاعى بعضُهم أنَّ في هذه الآيةِ تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: "أصابها وإبلٌ، فإنْ لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أكلَها ضِعْفين" حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين من الوابلِ والطلِّ، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونِه، والأصلُ عدمُ التقديرِ والتأخيرِ، حتى يَخُصُّه بعضُهم بالضرورةِ.
والطَّلُّ: المُسْتَدَق مِن القَطْرِ. وقال مجاهد: "هو الندى" وهذا تَجَوُّزٌ منه. ويقال: طَلَّه الندى، وأَطَلَّه أيضاً، قال:
1070 - ولَمَّا نَزَلْنَا منزلاً طَلَّه الندى * ........................
ويُجْمع "طَلّ" على طِلال.
قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قراءةُ الجمهورِ: "تَعْلَمون" خطاباً وهو واضحٌ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجر عن الرياءِ والسُمْعَةِ. والزهري بالياء على الغَيْبَة، ويَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يعودَ على المنفقين، والثاني: ان يكونَ عاماً فلا يَخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أولياً.
(3/128)(1/983)
---
* { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ}: في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة، أي: كائنةٍ من نخيل. و "نخيل" فيه قولان، أحدُهما: أنه اسمُ جمعٍ. والثاني: أنه جمعُ "نخل" الذي هو اسمُ الجنسِ، ونحوه: كَلْب وكَلِيب. قال الراغب: "سُمِّي بذلك لأن منخولُ الأشجار وصَفِيُّها، لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ" وذَكَرَ له منافَع وشَبَهاً من الآدميين. والأعناب: جمع عِنَبَة، ويقال: "عِنَباء" مثل "سِيرَاء" بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيث جاء في القرآن ذِكْرُ هذين فإنما يَنُصُّ على النخلِ دونَ ثمرتِها وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم، لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثمرتُه دونَ باقِيه.
[قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} هذه الجملةُ في محلِّها وجهان، أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة]. والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً وجهان فقيل: على الحالِ من "جَنَّة" لأنها قد وُصِفَت. وقيل: على أنها خبرُ "تكون" نقله مكي.
قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} جملةٌُ من مبتدأٍ وخبرٍ، فالخبرُ قولُه: "له" و {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} هو المبتدأُ، وذلك لا يَسْتَقِيم على الظاهر، إذ المبتدأ لا يكونُ جاراً ومجروراً فلا بدَّ من تأويلِه. واختُلف في ذلك، فقيل: المبتدأ في الحقيقةِ محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامَه، تقديرُه: "له فيها رزقٌ من كلِّ الثمراتِ أو فاكهةٌ من كلِّ الثمرات" فَحُذِف الموصوفُ وبقيت صفتُه: ومثله قولُ النابغة:
(3/129)
---(1/984)
1071 - كأنَّك من جِمالِ بني أُقَيْشٍ * يُقَعْقِعُ خلفَ رِجْلَيه بِشَنِّ
أي: جَمَلٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقلُه تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ]} أي: وما منا أحادٌ إلا له مقامٌ. وقيل: "مِنْ" زائدةٌ تقديرُه: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتها شيئاً. وأمَّا الكوفيون فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرِطُونه وعدَم الإِيجاب، وإذا قلنا بالزيادة فالمرادُ بقوله: "كلّ الثمرات" التكثيرُ لا العمومُ، لأنَّ العمومَ متعذَّرٌ. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ تكونَ "مِنْ" زائدةً لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفش، لأنَّ المعنى يصير: له فيها كلُّ الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلاَّ أَنْ يُراد به هنا الكثرة لا الاستيعاب فيجوزُ عند الأخفش، لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ "مِنْ" في الواجب.
قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنَّ الواوَ للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و "قد" مقدرةٌ أي: وقد أَصابه، وصاحبُ الحال هو "أحدُكم"، والعاملُ فيها "يَودُّ" ونظيرُها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}، وقوله تعالى: {وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا.
والثاني: أن يكونَ قد وَضَع الماضي موضعَ المضارع، والتقديرُ "ويصيبه الكِبَر" كقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ} أي: فيوردهم. قال الفراء: "يجوزُ ذلك في "يودُّ" لأنه يُتَلَقَّى مرةً بـ"أَنْ" ومرةً بـ"لو" فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكانَ الآخر".
(3/130)
---(1/985)
والثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى، لأنَّ المعنى: أيودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجه فيه تأويلُ المضارع بالماضي ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجهِ الذي قبلَه، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بأنه يؤدي إلى تغيير اللفظ مع صحةِ المعنى. والزمخشري نَحَا إلى هذا الوجه أيضاً فإنه قال: "وقيل يقال: وَدِدْتُ لو كان كذا، فَحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أيودُّ أحدُكم لو كَانَتْ له جنةٌ وأصابَه الكِبَرُ.
قال الشيخ: "وظاهرُ كلامِه أَنْ يَكونَ "أصابه" معطوفاً على متعلَّق "أيودُّ" وهو "أَنْ تَكُونَ" لأنه في معنى "لو كانَتْ"، إذ يقال: أيودُّ أحدُكم لو كانَتْ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنه يَمْتَنِع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على "كانت" التي قَبلها "لو" لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا "أصابَه الكبر" فلا يمكنُ أن يكونَ متعلَّق الودِّ، لأنَّ "أصابه الكِبَرُ" لا يودّثه أحدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قولُ الزمخشري على أنه لمّا كان "أيودُّ" استفهاماً معناه جُعِل متعلَّقُ الوَدادة الجَمْعَ بين الشيئين، وهما: كونُ جنة له وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مودوداً على انفرادِهِ، وإنما أنكروا وَدادة الجمع بينهما".
قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في "وأَصابَه". وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقرىء "ضِعاف"، وضُعَفاءُ وضَعاف منقاسان في ضَعيف، نحو: ظَريف وظُرَفاء وظِراف، وشَريف وشُرَفاء وشِراف.
وقوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملةُ عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء، يعني على قولِ: "مِنْ نخيل" وما بعدَه.
(3/131)
---(1/986)
وأتى في هذه الآيات كلِّها نحوُ "فأصَابه وابلٌ - وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعاصرٌ" لأنه أبلغُ وأَدَلُّ على التأثيرِ بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيءِ، من أنه لم يُذْكَرْ بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل: "وَبَل" و "كَبِر" "وأَعْصَرَتْ" لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ /.
والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوْبعة. وقيل: هي الريحُ السَّموم، سُمِّيتِ بذلك لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأنها تَعْصِر السحابَ، وتُجْمع على أعاصير، قال:
1072 - وبَيْنما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ * إذ هُوَ في الرَّمْسِ تَعْفُوه الأعاصِيرُ
والإِعصار من بين سائرِ أسماء الريحِ مذكرٌ، ولهذا رَجَع إليه الضميرُ مذكَّراً في قولهِ: "فيه نارٌ".
و "نار" يجوز فيه الوجهانِ: أعني الفاعليةَ والجارُّ قبلَها صفةٌ لإِعصاراً، والابتدائيةُ والجارُّ قبلَها خبرُها، والجملةُ صفةُ "إعصار"، والأولُ أَوْلى لِما تقدَّم من أنَّ الوصفَ بالمفردِ أَوْلى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
وقوله: {فَاحْتَرَقَتْ} أي: أَحْرَقها فاحتَرَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا "حَرَقَ" من قولِهم: "حَرَق نابُ الرجل" إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، قال:
1073 - أَبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَهُ * عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
رُوي برفع "نابه" ونصبه. وقولُه "كّذلك يُبَيَّن" إلى آخرِه قد تقدَّم نظيرُه.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
(3/132)
---(1/987)
قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}: في مفعولِ "أنفقوا" قولان، أحدُهما: أنه المجرورُ بـ"مِنْ"، و "مِنْ" للتبعيض أي: أنفقوا بعضَ ما رزقناكم. والثاني: أنه محذوفٌ قامَتْ صفتُه مقامَه، أي: شيئاً مِمَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائرُ. و "ما" يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية. والعائد محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: كَسَبتموه، وأن تكونَ مصدريةً أي: من طيباتَ كَسْبكم، وحينئذٍ لا بُدَّ من تأويلِ هذا المصدرِ باسمِ المفعولِ أي: مكسوبِكم، ولهذا كان الوجهُ الأولُ أَوْلى.
و "مِمَّا اَخْرَجْنا" عطفٌ على المجرور بـ"مِنْ" بإعادةِ الجارِ، لأحدِ معنيين: إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ، أي: وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا. و "لكم" متعلِّقٌ بـ"أخرجنا"، واللامُ للتعليلِ. و "مِنْ الأرض" متعلِّقٌ بـ"أخرجنا" أيضاً، و "مِنْ" لابتداءِ الغاية.
قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} الجمهورُ على "تَيَمَّموا"، والأصلُ: تَتَيَمَّمُوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه: {تَظَاهَرُونَ} وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ، على أنه أَدءغم التاءَ الأولى في الثانيةِ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ، وهذا بخلاف قراءتِه {نَاراً تَلَظَّى}{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفُ صحيحٌ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى.
وقرأ ابن عباس والزهري "تُيَمِّمو" بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه: يَمَّم، فوزنُ "تُيَمِّموا" على هذه القراءة :تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ، ورُوي عن عبد الله "تُؤَمِّموا" من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ.
(3/133)
---(1/988)
والتيممُّ: القصدُ، يقال: أَمَّ كردَّ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ، ويَمَّم، وتَيَمَّم بالتاء والياء معاً، وتَأَمَّم بالتاء والهمزةِ، وكلُّها بمعنَى قَصَدَ. وفَرَّق الخليلُ - رحمه الله - بينهما بفروقٍ لطيفة فقال: "أَمَّمْتُه قَصَدْتُ أَمامه، ويَمَّمْتُه: قصدْتُ . . . ويَمَّمْتُه: قصدتُه من أي جهة كان.
والخبيثُ والطيبُ: صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما: قال: {وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ}{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}، قال عليه السلام: "مِنَ الخُبْث والخَبائث
" قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} "منه" متعلذِقٌ بتنفقون، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل {تَيَمَّمُواْ} أي: لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليهن قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حالٌ من الخبيث، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي: لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه. والثالث: أنه مستأنفُ ابتداءِ إخبارٍ بذلك، وتَمَّ الكلامُ عند قولِه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} ثم ابتدأ خبراً آخرَ، فقال: تثنفقون منه وأنتم لا تأخذُونه إلا إذا أَغْمضتم، كأن هذا عتابٌ للناسِ وتقريعٌ، وهذا يَرُدُّه المعنى.
قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} فيها قولان، أحدُهما: أنها مستأنفة لا مَحَلَّ لها، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويَظْهَرُ هذا ظهوراً قوياً عند مَنْ يرى أن الكلامَ قد تَمَّ عند قولِهِ: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} وما بعدَه استئنافٌ، وقد تقدَّم تفسيرُ معناه.
(3/134)
---(1/989)
والهاء في "بآخذِيه" تعودُ على "الخبيث" وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلةِ باسمِ الفاعلِ قولان مشهورانِ، أحدُهما: أنها في محلِّ جر وإن كام محلُّهَا منصوباً لأنها مفعولٌ في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصب، وإنما حُذِفَ التنوينُ والنونُ في نحو: "ضاربيك" لِلَطافة الضمير، ومذهبُ هشام أنه يجوز ثبوتُ التنوينِ مع الضميرِ، فيجيز: "هذا ضارِبُنْك" بثبوتِ التنوين، وقد يَسْتَدِلُّ لمذهبه بقوله:
1074 - همُ الفاعلونُ الخيرَ والآمِرُونه * ........................
وقوله الآخر:
1075 - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه * ..........................
فقد جَمَع بين النونِ النائبةِ عن التنوينِ وبين الضميرِ. ولهذه الأقوالِ أدلةٌ مذكورةٌ في كتبِ القومِ.
قوله: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصلُ: إلاَّ بأَنْ، فَحُذِف حرف الجر مع "أَنْ" فيجيءُ فيها القولان: أهي في محلِّ جر أم نصب؟ وهذه الباءُ تتعلَّقُ "تُيَمِّموا" "بآخذيه". وأجاز أبو البقاء أن تكونَ "أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيها "أخِذيه". والمعنى: لَسْتم بآخذِيه في حالٍ من الأحالِ إلا في حالِ الإِغماضِ، وقد تقدَّم أَنْ سيبويه لا يُجيز أن تقعَ "أَنْ" وما في حيِّزها موقعَ الحالِ. وقال الفراء: "المعنى على الشرطِ والجزاء؛ لأنَّ معناه: إنْ أَغْمضتم أَخَذْتم، ولكن لَمَّا وقعت "إلاَّ" على "أَنْ" فتحها، ومثلُه: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ}. وهذا قولٌ مردودٌ عليه في كتبِ النحو.
والجمهورُ على "تُغْمِضوا" بضمِّ التاء وكسرِ الميمِ مخففةً من "أَغْمَض" وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حُذِفَ مفعولُه، تقديرُه: تُغْمِضُوا أبصارَكم أو بصائرَكم. والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلا أَنْ تُغْضُوا، مِنْ قولهم: "أَغْضَى عنه".
(3/135)
---(1/990)
وقرأ الزهري: "تُغْمِّضوا" بضم التاءِ وفتحِ الغينِ وكسرِ الميمِ مشددةً ومعناها كالأولى. ورُوي عنه أيضاً "تَغْمَضوا" بفتحِ التاءِ وسكونِ الغَيْن وفتحِ الميمِ، مضارعُ "غَمِضَ" بكسر الميم، وهي لغةٌ في "أَغْمض" الرباعي، فيكونُ ممَّا اتفق فيه فَعِل وأَفْعل. ورُوي عن اليزيدي "تَغْمُضوا" بفتحِ التاءِ وسكونِ الغينِ وضمِّ الميمِ. قال أبو البقاء: "وهو من غَمُضَ يَغْمُضُ كظَرُف يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه".
ورُوي عن الحسن: "تُغَمِّضُوا" بضمِّ التاءِ وفتحِ الغَيْنِ وفتحِ الميمِ مشددةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقتادةُ كذلك إلا أنه خَفَّفَ الميم، والمعنى: / إلا أن تُحْمَلوا على التغافل عنه والمسامحِة فيه. وقال أبو البقاء في قراءةِ قتادة: "ويجوزُ أن يكونَ من أَغْمَضَ أي: صُودف على تلك الحالِ كقولِك: أَحْمَدْتُ الرجل أي: وَجَدْتُه محموداً" وبه قال أبو الفتح. وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلاَّ أَنْ تُدْخَلوا فيه وتُجْذَبوا إليه.
* { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ}: مبتدأٌ وخبرٌ، وقد [تقدم] اشتقاقُ الشيطانِ وما فيه. ووزنُ يَعِدُكم: يَعِلُكم بحَذْفِ الفاءِ وهي الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ، وقرأ الجمهور: "الفَقْر" بفتح الفاء وسكونِ القافِ، وروى أبو حيوة عن بعضِهم: "الفُقْر" بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرىء "الفَقَر" بفتحتين. قوله: "منه" فيه وجهن: أحدهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه نعتٌ لمغفرة. والثاني: ان يكونَ مفعولاً متعلقاً بيَعِد أي: يَعِدُكم من تِلْقاءِ نفسِه. و "فَضْلاً" صفتُه محذوفةٌ أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجهِ الأولِ، وأمَّا الثاني فلا حَذْفَ فيه.
(3/136)
---(1/991)
* { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}: الجمهورُ على "يُؤْتِي" "ومَنْ يُؤْتَ" بالياءَ فيهما، وقرأ الربيع بن خيثم بالتاءِ على الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري على الالتفاتِ. وقرأ الجمهور: "ومن يُؤْتَ" مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ "مَنْ" الشرطيةِ، وهو المفعولُ الأولُ، و "الحكمةَ" مفعولٌ ثانٍ. وقرأ يعقوب: "يُؤْتِ" مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و "مَنْ" مفعولٌ مقدمٌ، و "الحكمة" مفعولٌ ثان كقولِك؛ "يَّاً يُعْطِ زيدٌ درهماً أُعْطِه درهماً".
وقال الزمخشري: بمعنى "ومَنْ يُؤتِهِ اللهُ". قال الشيخ: "إن أراد تفسيرَ المعنى فهو صحيحٌ، وإن أرادَ الإِعرابَ فليس كذلك، إذ ليس ثَمَّ ضميرُ نصبٍ محذوفٌ، بل مفعولٌ "يُؤْتِ" مَنْ الشرطيةُ المتقدمةُ. قلت: ويؤيِّدُ تقديرَ الزمشخري قراءةُ الأعمش: {ومَنْ يُؤْتِه الحكمةَ} بإثباتِ هاءِ الضمير، و "مَنْ" في قراءتِه مبتدأٌ لاشتغالِ الفعلِ بمعمولهِ، وعند مَنْ يجوِّزُ الاشتغالَ في أسماء الشرطِ والاستفهامِ يجُّوز في "مَنْ" النصبَ بإضمارِ فعلٍ، ويقدِّرُه متأخراً، والرفعُ على الابتداءِ، وقد تقدَّم تحقيق هذهِ في غضونِ هذا الإِعرابِ.
وقوله: {أُوتِيَ} جوابُ الشرطِ، والماضي المقترنُ بقد الواقعُ جواباً للشرطِ تارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ مستقبلَ المعنى كهذه الآية، فهو الجوابُ حقيقةً، وتارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ والمعنى نحو: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ} فهذا ليسَ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَتَسَلَّ فقد كُذِّبَتْ رسلٌ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ.
(3/137)
---(1/992)
والتنكيرُ في "خيراً" قال الزمخشري: "يفيدُ التعظيمَ كأنه قال: فقد أُوتِي أيَّ خيرٍ كثير". قال الشيخ: "وتقديرُه هكذا يُؤدي إلى حَذْفِ الموصوفِ بـ"أي" وإقامةِ الصفةِ مُقامَه، فإنَّ التقديرَ: فقد أوتي خيراً أيَّ خيرٍ كثيرٍ، وإلى حذفِ "أيَّ" الواقعةِ صفةً، وإقامةِ المُضاف إليها مُقامَها، وإلى وصفِ ما يُضاف إليه "أي" الواقعةُ صفةً نحو: مَرَرْتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ كريمٍ، وكلُّ هذا يَحْتاج إثباتُه إلى دليل، والمحفوظُ عن العربِ أنَّ "أياً" الواقعةَ صفةً تُضاف إلى ما يُماثِلُ الموصوف نحو: "دَعَوْتُ أمرَأً أيَّ امرىءٍ، فأجابني" وقد يُحْذَفُ الموصوفُ بأيّ كقوله:
1076 - إذا حارَب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ * .....................
تقديرُهُ: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدَّم أَنَّ تقديرَ الزمخشري كذلك، أعني كونَه حَذَفَ موصوفَ أيّ. وأصلُ "يَذَّكَّرُ": يَتَذَكَّر فَأَدْغَمَ.
* { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ}: كقولِهِ: {مَا نَنسَخْ}{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيهما. وتقدَّم أيضاً مادة "نذر" في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ}، إلاَّ أنَّ النَّذْرَ له خصوصيةٌ: وهو عقدُ الإِنسانِ ضميره على شيءٍ والتزامُهُ، وفعلُهُ: نَذَرَ - بالفتح - ينذُرُ وينذِرُ: بالكسرِ والضَّمِّ في المضارع، يُقال: نَذَرَ فهو ناذِرٌ، قال عنترة:
1077 - الشاتِمَيْ عِرْضي ولَمْ أَشْتُمهما * والناذِرين إذا لمَ ألقهما دَمي
(3/138)
---(1/993)
وقولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} جوابُ الشرطِ إنْ كانَت "ما" شرطيةً، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ كانَتْ موصولةً. ووحَّد الضميرَ في "يَعْلَمُهُ" وإنْ كان قد تقدَّم شيئان: النَّفقةُ والنَّذْرَ لأنَّ العطفَ هنا بـ"أو"، وهي لأحدِ الشيئين، تقول: "إن جاء زيدٌ أو عمروٌ أكرمته"، ولا يجوز: أكرمتهما، بل يجوز أَنْ تراعيَ الأولَ نحو: "زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثانيَ نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآيةُ من هذا، ولا يجوزُ أَنْ يُقالَ: منطلقان. ولهذا تَأوَّل النحْويون: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} كما سيأتي. ومن مراعاةِ الأولِ قولُهُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوااْ إِلَيْهَا}، وبهذا الذي قررته لا يُحتاجُ إلى تأويلاتٍ ذكرها المفسرون هنا: فرُوي عن النحاس أنه قال: "التقديرُ: وما أنفقتم من نفقةٍ فإن الله يعلَمُها، أو نَذَرْتُم من نَذْرٍ فإنَّ الله يعلَمُهُ، فَحُذِفَن ونظَّره بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا} وقولِهِ:
1078 - نحنُ بما عندَنَا وأنت بما * عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ
وقولِ الآخر:
1079 - رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي * بريئاً ومن أجل الطَوِيِّ رماني
وهذا لا يُحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواوِ المقتضيةِ للجَمْع بين الشيئين، وأمَّا "أو" المقتضيةُ لأحدِ الشيئين فلا. وقال ابن عطية: "وَوَحَّدَ الضمير في "يَعْلَمُهُ" وقد ذَكَرَ شيئين من حيث إنه أراد ما ذَكَرَ أو ما نَصَّ، ولا حاجَةَ إلى هذا أيضاً لِمَا عَرَفَتْ من حكم "أو".
* { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
(3/139)
---(1/994)
قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ}: الفاءُ جوابُ الشرط، و "نِعْمَ" فعلٌ ماضٍ للمدح نقيضُ بئس، وحكمُها في عدمِ التصرفِ والفاعلِ واللغاتِ حكمُ بئس كما تقدَّم فلا حاجَةَ إلى الإِطالة بتكررِهِ.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: "فَنَعِمَا" بفتحِ النونِ وكسرِ العينِ، وهذه على الأصلِ، لأنَّ الأصل على "فَعِل" كعَلِم وقرأ ابن كثير وورش وحفص بكس النونِ والعينِ، وإنما كَسْرُ النونِ إتباعاً لكسرةِ العينِ وهي لغةُ هُذَيْل. قيل: وَتَحْتمل قراءةُ كسرِ العين أن يكونَ أصلُ العينِ السكونَ، فلمَّا وقعتْ بعدَها "ما" وأَدْغَمَ ميم "نِعْم" فيها كُسِرَتْ العينُ لالتقاء الساكنين. وهو محتملٌ. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسرِ النون وإخفاء حركةِ العين. ورُوي عنهم الإِسكانُ أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قولِهِ: "نِعْمَّا المالُ الصالحُ مع الرجلِ الصالحِ
" والجمهورُ على اختيارِ الاختلاسِ على الإِسكانِ، بل بعضُهم يَجْعَلُهُ من وَهْم الرواة عن أبي عمرو، ومِمَّن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حَدِّهما. قال المبرد: "لا يَقْدِرُ أحدٌ أن ينطِقَ به، وإنما يرومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّكُ ولا يَشْعُر" وقال الفارسي: "لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سكوناً".
وقد تقدَّم الكلام على "ما" اللاحقةِ لنِعْم وبِئْس. و "هي" مبتدأ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حَذْف مضاف، أي: فنِعْم إبداؤها، ويجوز أَنْ لا يُقَدَّر مضافٌ، بل يعودُ الضميرُ على "الصدقات" بقيد صفةِ الإِبداء تقديرهُ: فنِعِمَّا هي أي: الصدقاتُ المُبْدَاةُ. وجملةُ المدحِ خبرٌ عن "هي"، والرابطُ العمومُ، وهذا أَوْلى الوجوهِ، وقد تقدَّم تحقيقُها.
(3/140)
---(1/995)
والضميرُ في "وإنْ تخفوها" يعودُ على الصدقاتِ. فقيل: يعودُ عليها لفظاً ومعنىً. وقيل: يعودُ على الصدقاتِ لفظاً لا معنىً، لأنَّ المرادَ بالصدقاتِ المبداةِ الواجبةُ، وبالمُخْفَاةِ: المتطوَّعُ بها، فيكونُ من باب "عندي درهمٌ ونصفُه"، أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، وكقوله:
1080 - كأنَّ ثيابَ راكبِهِ بريحٍ * خَرِيقٌ وهْي ساكنةُ الهُبوبِ
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاءُ في قولِهِ: "فهو" جوبُ الشرط، والضميرُ يعودُ على المصدر المفهومِ من "تُخْفُوها" أي: فالإِخفاءُ، كقولِهِ: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} و "لكم" صفةٌ لخير، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و "خير" يجوزُ أن يكون للتفضيلِ، فالمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوزُ أن يُرَادَ به الوصفُ بالخيريَّة أي: خيرٌ لكم من الخيورِ.
وفي قوله: "إنْ تُبْدوا، وإن تُخْفُوها" نوعٌ من البديع وهوالطباق اللفظي. وفي قوله "وتُؤتوها الفقراء" طباقٌ معنوي، لأنه لا يُؤتي الصدقاتِ إلا الأغنياءُ، فكأنه قيل: إن يُبْدِ الأغنياءُ الصدقاتِ، وإنْ يُخْفِ الأغنياءُ الصدقاتِ، ويُؤْتُوها الفقراء، فقابلَ الإِبداءِ بالإِخفاءِ [لفظاً]، والأغنياءَ بالفقراءِ معنىً.
قوله: {وَيُكَفِّرُ} قرأَ الجمهورُ "ويُكَفِّرُ" بالواو، والأعمش بإسقاطِها والياءِ وجَزْم الراء. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه بدلٌ من موضِعِ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه جوابُ الشرط كأنَّ التقدير: وإنْ تخفوها يكنْ خيراً لكم ويكفِّرْ. والثاني: أنه حَذَفَ حرفَ / العطفِ فتكونُ كالقراءةِ المشهورةِ، والتقديرُ: "ويكفِّرُ" وهذا ضعيف جداً.
(3/141)
---(1/996)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنونِ ورفعِ الراءِ، وقرأ نافع وحمزةُ والكسائي بالنونِ وجزمِ الراء، وابنُ عامر وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسنُ بالياء وجزمِ الراء، ورُوي عن الأعمش أيضاً بالياء ونصب الراء، وابن عباس: "وتُكَفِّرْ" بتاءِ التأنيثِ وجزمِ الراءِ، وعكرمة كذلك إلا أنه فَتَحَ الفاءَ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وابنُ هرمز بالتاءِ ورفعِ الراء، وشهر ابن حوشب - ورُويت عن عكرمة أيضاً - بالتاءِ ونصبِ الراءِ، وعن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراء، وعَن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراءِ، فهذه إحدى عشرةَ قراءةً، والمشهورُ منها ثلاثٌ.
فَمَنْ قرأ بالياء ففيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه أَضْمَرَ في الفعل ضميرَ اللَّهِ تعالى، لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتَعْضُده قراءةُ النونِ فإنها متعيِّنةٌ له. والثاني: أنه يعودُ على الصرفِ المدلولِ عليه بقوةِ الكلامِ، أي: ويكفِّرْ صَرْف الصدقاتِ. والثالث: أنه يعودَ على الإِخفاءِ المفهومِ من قولِهِ: "وإنْ تُخْفُوها"، ونُسِبَ التكفيرُ للصرفِ والإِخفاءِ مجازاً، لأنهما سببٌ للتكفير، وكما يجوزُ إسنادُ الفعلِ إلى فاعِلِهِ يجوزُ إسنادُهُ إلى سببه.
(3/142)
---(1/997)
ومَنْ قرأَ بالتاءِ ففي الفعلِ ضميرُ الصدقاتِ ونُسِبَ التكفيرُ إليها مجازاً كما تَقَدَّم. ومَنْ بناه للمفعولِ فالفاعلُ هو اللَّهِ تعالى أو ما تقدَّم. ومَنْ قرأ بالنون فهي نونُ المتكلمِ المعظِّم نفسَهُ. ومَنْ جَزَمَ الراءَ فللعطف على محلِّ الجملةِ الواقعةِ جواباً للشرطِ، ونظيرُهُ قولُه: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} في قراءةِ مَنْ جَزَمَ {وَيَذَرُهُمْ} ومَنْ رفع فعلى ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له من الإِعرابِ، وتكونُ الواوُ عاطفةً جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ آخرَ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، وذلك المبتدأ: إمَّا ضميرُ اللَّهِ تعالى أو الإِخفاءُ أي: وهو يُكَفِّر فيمَنْ قَرَأَ بالياء أو ونحن نكفِّر فيمن قرأ بالنون أو وهي تُكَفِّر فيمن قرأ بتاءِ التأنيث. والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاءِ، إذْ لو وقع مضارعُ بعدَهَا لكانَ مرفوعاً كقولِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ونظيرُهُ {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} في قراءةِ مَنْ رفع.
ومَنْ نَصَبَ فعلى إضمار "أَنْ" عطفاً على مصدرِ مُتَوَهَّمٍ مأخوذٍ من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، والتقديرُ: وإنْ تُخْفوها يكنْ أو يوجَدْ خيرٌ وتكفيرٌ. ونظيرُها قراءةُ مَنْ نَصَبَ: "فيغفرَ" بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، إلاَّ أنَّ تقديرَ المصدرِ في قوله: "يحاسِبْكم" أسهلُ منه هنا، لأنَّ ثمةَ فعلاً مصرَّحاً به وهو "يحاسبْكم"، والتقديرُ: يَقَعُ محاسبةٌ فغفرانٌ، بخلافِ هنا، إذ لا فعلَ ملفوظٌ به، وإنما تَصَيَّدْنَا المصدرَ من مجموعِ قولِهِ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
(3/143)
---(1/998)
وقال الزمخشري: "ومعناه: وإنْ تُخْفوها يكنْ خيراً لكم وأَنْ يُكَفِّر" قال الشيخ: "وظاهر كلامِهِ هذا أنَّ تقديرَه "وأَنْ يكفِّرَ" يكون مقدَّراً بمصدرٍ، ويكونُ معطوفاً على "خيراً" الذي هو خبر "يَكُنْ" التي قَدَّرَها، كأنه قال: يَكُنِ الإِخفاءُ خيراً لكم وتكفيراً، فيكونُ "أَنْ يكفِّر" في موضِعِ نصبٍ، والذي تقرَّر عند البصريين أنَّ هذا المصدرَ المنسَبِكَ من "أَنْ" المضمرةِ مع الفعلِ المنصوبِ بها هو مرفوعٌ معطوفٌ على مصدرٍ متوهَّمٍ مرفوعٍ، تُقَدِّره من المعنى. فإذا قلت: "ما تأتينا فتحدثَنا" فالتقديرُ: ما يكون منك غتيانٌ فحديثٌ، وكذلك: "إنْ تجيءْ وتُحْسِنَ إليَّ أُحْسِنْ إليك" التقدير: إن يكنْ منك مجيء وإحسان أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقديرُ: وإنْ تُخْفوها وتُؤْتوها الفقراءَ فيكونُ زيادةُ خيرٍ للإِخفاءِ على خيرِ الإِبداء وتكفيرٌ". انتهى ولم أَدْرِ ما حَمَلَ الشيخ على العدولِ عن تقدير أبي القاسم إلى تقديرِهِ وتطويلِ الكلامِ في ذلك مع ظهورِ ما بين التقديرين؟.
(3/144)
---(1/999)
وقال المهدوي: "هو مُشَبَّهٌ بالنصبِ في جوابِ الاستفهامِ، إذ الجزاءُ يَجِبُ به الشيءُ لوجوبِ غيرهِ كالاستفهامِ". وقال ابنُ عطية: "الجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءاتِ لأنها تُؤْذِنُ بدخولِ التكفيرِ في الجزاء وكونِهِ مشروطاً إنْ وقع الإِخفاءُ، وأمَّا رفعُ الراء فليسَ فيه هذا المعنى" قال الشيخ: "ونقولُ إنَّ الرفعَ أبلغُ وأَعَمَُّ، لأنَّ الجزمَ يكونُ على أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ الثاني، والرفعُ يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهةِ المعنى على بَذْلِ لاصدقاتِ أُبْدِيَتْ أو أخْفيت، لأنَّا نعلمُ أنَّ هذا التكفيرَ متعلِّقٌ بما قبلَه، ولا يختصُّ التكفيرُ بالإخفاءِ فقطن والجزمُ يُخَصِّصُهُ به، ولا يمكن أَنْ يقالَ إن الذي يُبدي الصدقات لا يكفِّرْ من سيئاتِهِ، فقد صارَ التكفيرُ شاملاً للنوعَيْنِ من إبداءِ الصدقاتِ وإخفائِها وإنْ كانَ الإِخفاءُ خيراً".
قوله: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في "مِنْ" ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: للتبعيض، أي: بعضَ سيئاتكم، لأن الصدقاتِ لا تكفِّر جميعَ السيئاتِ، على هذا فالمفعولُ في الحقيقةِ محذوفٌ، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قَدَّرَهُ أبو البقاء. والثاني: أنها زائدةٌ وهو جارٍ على مذهبِ الأخفش وحكاه ابنُ عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجَعَلَهُ خطأً، يعني من حيث المعنى. اولثالث: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ذنوبكم، وهذا ضعيفٌ. والسيئاتُ جمعَ سيِّئة، ووزنها فَيْعِلة وعينُها واوٌ، والأصلُ: سَيْوِءَة فَفُعِلَ بها ما فُعِلَ بميِّت، وقد تقدَّمَ.
* { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
(3/145)
---(1/1000)
قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}: "هُداهم": اسم ليس وخبرُها الجارُّ والمجرورُ. و "الهُدَى" مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: ليس عليك أن تهديَهم، ويجوز أن يكونَ مضافاً لفاعلِهِ، أي: ليس عليك أن يَهْتدَوا، يعني: ليسئ عليك أن تُلْجِئَهم إلى الاهتداء.
وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هدى للضالين. وفي قوله: {وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي} مع قوله "هداهم" جناسٌ مغاير لأنَّ غحدى الكلمتين اسمٌ والأخرى فعلٌ. ومفعولُ "يشاءُ" محذوفٌ، أي: هدايَتَه.
وقوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو لأنفسكم. وقوله "إلاَّ ابتغاءَ" فيه وجهان، أحدثهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجل ابتغاءِ وجهِ اللَّهِ، والشروطُ هنا موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل الحالِ، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالَيْنِ استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تُنْفِقُونَ نفقةً معتدّاً بقَبولِهَا إلاَّ ابتغاءَ وجهِ [اللَّهِ]، أو يكونُ الخاطَبُون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابةُ، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاءِ غير وجهِ الله.
وقوله: {يُوَفَّ} جوابُ الشرط /، وقد تقدَّم أنه يقال: "وَفَّى" بالتشديدِ و "وفَى" بالتخفيفِ" و "أَوْفَى" رباعياً.
وقوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في "إليكم"، والعاملُ فيها "يُوَفَّ"، وهي تشبهُ الحالَ المؤكِّدَةَ لأنَّ معناها مفهومٌ من قولِهِ : "يوفَّ إليكم" لأنهم إذا وُفُّوا حقوقَهم لم يُظْلَموا. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، أخبرَهم فيها أنه لا يقعُ عليهم ظلمٌ فيندرجُ فيه توفيةُ أجورِهم بسببِ إنفاقهِم في طاعةِ اللَّهِ تعالى اندراجاً أوَّليَّاً.
(3/146)
---(1/1001)
* { لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ}: في تعلُّقِ هذا الجارِّ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه سياقُ الكلامِ، واختلفت عباراتُ المُعْربين فيه، فقال مكي - ولم يذكُرْ غيرَه -: "أَعْطُوا للفقراءِ" وفي هذا نظرٌ، لأنه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أعطى، ولا تُزادُ اللامُ إلا لضعفِ العامل: "إمَّا بتقدُّمِ معمولِهِ كقولِهِ تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وإمَّا لكونِه فرعاً نحو قولِهِ تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ويَبْعُد أن يُقالَ: لمَّا أُضْمِرَ العالمُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ، على أنَّ بعضَهم يُجيز ذلك وإنْ لم يَضْعُفِ العاملُ، وجَعَلَ منه {رَدِفَ لَكُم}، وسيأتي بيانُهُ في موضعه إن شاء الله تعالى: وقَدَّرَهُ أبو البقاء: "اعجبوا للفقراء" وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياقِ الكلامِ على العَجَبِ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: "اعْمدوا أو اجعَلوا ما تُنْفقون" والأحسنُ من ذلكَ ما قدَّره مكي، لكنْ فيه ما تقدَّم.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قوال: فلمَنْ هي؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ. وهذا اختيراُ ابنِ الأنباري قال: "كما تقول: "عاقل لبيب"، وقد تقدَّم وصفُ رجل، أي: الموصوفُ عاقلٌ، وتكتبون على الأكياس: "ألفان ومئتان"، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد:
(3/147)
---(1/1002)
1081 - تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى خَبٌّ * جَروزٌ وإذا جاعَ بكى
يريد: هو خَبّ.
الثالث: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ} وهو مذهبُ القَفَّال، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيصيرُ نظيرَ قولِك: "مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال: "ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام "تنفقوا" الأخيرتَ في الآيةِ المتقدمةِ، لأنه لا يُفْصَلُ بين العاملِ والمعمولِ بما ليس منه كما لا يجوزُ: "كانت زيداً الحُمَّى تأخُذُ".
الخامس: أَنَّ "للفقراء" بدلٌ من قولِه: "فلأنفسِكم"، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه: "لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من بابِ {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً" قلت: يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَنْفُسَكُمْ} في أحدِ التأويلين.
والفقيرُ: قيل: أصلُه من "فَقَرَتْه الفاقِرة" أي: كَسَرَتْ فَقارَ ظهرِه الداهيةُ. قال الراغب: "وأصلُ الفقيرِ: هو المكسور الفَقار، يقال: فَقَرَتْه القافرةُ" أي: الداهية تكسِر الفَقار، و "أَفْقَرك الصيدُ فارمِه" أي أَمْكَنَكَ من فَقارِه. وقيل: هو من الفُقْرَة أي الحُفْرة، ومنه قيل لكل حفرةٍ يجتمع فيها الماءُ: فقيرٌ. وَفَقَرْتُ للغسيلِ حَفَرْتُ له حُفْرة: غرسْتُه فيها. قال:
(3/148)
---(1/1003)
1082 - ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطانْ * ..................
قيل: هو اسم بئر. وَفَقَرْتُ الخَرَزَ: ثقبتُه. وقال الهروي: يُقال "فَقَره" إذا أصاب فَقَار ظهرِه نحو: رَأَسه أي: أصاب رَأْسَه، وَبَطَنه: أي أصاب بطنه. وقال الأصمعي: "الفَقْر: أَنْ يُحَزَّ أنفُ البعير حتى يَخْلُص الحَزُّ إلى العَظْمِ، ثم يُلْوى عليه جريرٌ يُذَلَّلُ به الصَّعْبُ من الإِبل، ومنه قيل: عَمِل به الفاقرِة". والفِقَرات - بكسر الفاء وفتح القاف -: جمع فِقَرة: الأمورُ العظام، ومنه حديث السعي: "فِقَراتُ ابنِ آدم ثلاثُ: يوم وُلد ويومَ يموتُ، ويوم يُبْعَثُ". الفُفَر: بضمِّ الفاءِ وفتحِ القافِ - جمع فُقْرَة وهي الحَزُّ وخَرْم الخَطْم، ومنه قول أبي زياد: "يُفْتقَرُ الصَعبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خَطْمِه" ومنه حديثُ سعد: "فأشار إلى فُقَرٍ في أنفه" أي شَقٍّ وحَزٍّ / . وقد تقدَّم الكلام في الإِحصارِن والفرقُ بين فَعَل وأَفْعَل منه.
قوله: {فِي سَبِيلِ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه فيكونَ ظرفاً له. والثاني: أن يكونَ متعلِّقَاً بمحذوٍ على أنه حال من مرفوع "أُحْصِروا" أي: مستقرين في سبيلِ اللهِ. وقَدَّره أبو البقاء بمجاهِدين في سبيل الله" فهو تفسيرُ معنىً لا إعراب، لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّقُ إلا بالكونِ المطلقِ.
قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} في هذه الجملةِ احتمالان، أظهرُهما: أنها حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه "الفقراء" وثانيهما: أنه مرفوعُ "أُحْصِروا". والاحتمالُ الثاني: أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ. و "ضرباً" مفعولٌ به، وهو هنا السفرُ للتجارةِ، قال:
1083 - لَحِفْظُ المالِ أيسرُ مِنْ بقاه * وضربٌ في البلادِ بغير زاد
يقال: ضَرَبْتُ في الأرض ضرباً ومَضْرِباً أي: سِرْتُ.
(3/149)
---(1/1004)
قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ما جازَ فيما قبلها من الحاليةِ والاستئنافِ، وكذلك ما بعدَها. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: "يَحْسَبُ" - حيث ورد - بفتح السين والباقونَ بكسرِها. فأمَّا القراءةُ الأولى فجاءَتْ على القياسِ، لأنَّ قياسَ فَعِل بكسر العين يَفْعَل بفتحِها للتخالفَ الحركتان فيخِفَّ اللفظُ، وهي لغةُ تميم والكسرُ لغةُ الحجاز، وبها قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد شَذَّتْ ألفاظٌ أُخَرُ جاءت في الماضي والمضارع بكسرِ العينِ منها نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسُها كلُّها الفتحُ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارىء بلغةِ الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير. والجاهلُ هنا: اسمُ جنسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينه. و "أغنياءَ" هو المفعول الثاني.
قوله: {مِنَ التَّعَفُّفِ} في "مِنْ" هذه ثلاثة أوده، أحدها: أنها سببية، أي: سَبَبُ حُسْبانِهم أغنياءَ تعفُّفُهم فهو مفعولٌ من أجله، وجَرُّه بحرفِ السبب هنا واجبٌ لفَقْدِ شرطٍ من شروطِ النصبِ وهو اتحادُ الفاعلِ، وذلك أنَّ فاعلَ الحُسْبان الجاهلُ، وفاعلَ التعفف هم الفقراءُ، ولو كان هذا المفعولُ له مستكملاً لشروطِ النصبِ لكان الأحسنُ جَرَّه بالحرف لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جَرَّ هذا النوعِ أحسنُ من نصبِه، نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبُه، قال:
1084 - لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ * ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
(3/150)
---(1/1005)
والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ، والمعنى أنَّ مَحْسَبَةَ الجاهلِ غِناهم نَشَأَتْ من تعفُّفهم لأنه لا يَحْسَب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسَبُه غنى مالٍ، فقد نشأَتْ مَحْسَبَتُه مِنْ تعفُّفهِم، وهذا على أنَّ تعفَّفَهم تعففٌ تام. والثالث: أنها لبيانِ الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: "يكونُ التعففُ داخلاً في المَحْسَبة، أي: إنه لايظهرُ لهم سؤالٌ بل هو قليلٌ، فالجاهلُ بهم مع علمِه بقفرِهم يحسَبُهم أغنياءَ عنه، فـ"مِنْ" لبيانِ الجنس على هذا التأويلِ، قال الشيخ: "وليس ما قالَه من أنَّ "مِنْ" هذه في هذا المعنى لبيانِ الجنس المصطلحَ عليه، لأنَّ لها اعتباراً عند القائل بهذا المعنى وهو أن تتقدّرَ "مِنْ" بموصولٍ، وما دَخَلَت عليه يُجْعَلُ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} يَصِحُّ أَنْ يُقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: "يَحْسَبهم الجاهلُ أغنياءَ الذي هو التعفف" لم يَصِحَّ هذا التقديرُ، وكأنه سَمَّى الجهةَ التي هم أغنياءُ بها بيانَ الجنسِ أي: بَيَّنَتْ بأيِّ جنسٍ وَقَع غناهم، أي غناهم بالتعففِ لا غنى بالمالِ، فَسَمَّى "مِنْ" الداخلةَ على ما يبيِّن جهة الغنى ببيانِ الجنس، وليس المصطلحَ عليه كما قَدَّمناه، وهذا المعنى يَؤُول إلى أنَّ "مِنْ" سببية، لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسَبهم. انتهى".
وتتعلَّقُ "مِنْ" على الوجهين الأوَّلَيْنِ بيَحْسَبهم. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمعنى "أغنياء" لأنَّ المعنى يَصيرُ إلى ضد المقصود وذلك أنَّ معنى الآية أنَّ جالَهم يَخْفَى على الجاهلِ بهم فيظنُّهم أغنياءَ، ولو عُلِّقَتْ "مِنْ" بأغنياءَ صار المعنى أنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أنهم أغنياءُ ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ في المال". انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتملُ بحثاً.
(3/151)
---(1/1006)
وأما على الوجه الثالث - وهو كونُها لبيانِ الجنس - فقد صَرَّح الشيخ بتعلُّقها بأغنياء، لأن المعنى يعودُ إليه، ولا يجوزُ تعلُّقها في هذا الوجهِ بالحُسْبان، وعلى الجملةِ فكونُها لبيانِ الجنسِ قَلِقُ المعنى.
والتعفُّفُ: تَفَعُّل من الِفَّة، وهي تَرْكُ الشيء، والإِعراضُ عنه مع القدرةِ على تعاطِيه، قال رؤبة:
1085 - فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ * ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ
وقال عنترة:
1086 - يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقعيةَ أنني * أغشى الوغَى وأعِفُّ عند المَغْنَمِ
ومنه: "عفيفُ الإِزار" كنايةً عن حصانته / وعَرَّف التعفف لأنه سَبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّقٌ التعففِ، محذوفٌ اختصاراً. أي: عن السؤالِ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ.
قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما - العلامةُ ويجوز مَدُّها وإذا مُدَّتْ فالهمزةُ فيها منقلبةٌ عن حرفٍ زائدٍ للإِلحاقِ: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعِلْباء ملحقةً بسِرْداح، فالهمزةُ للإلحاقِ لا للتأنيث وهي منصرفةٌ لذلك.
و "سيما" مقلوبةٌ قٌدِّمَتْ عينُها على فائها لأنها مشتقةٌ من الوَسْم فهي بمعنى السِّمة أي العلامةُ، فلما وقَعَتْ الواوُ بعد كسرةٍ قُلبت ياءً، فوزنُ سيما: عِفْلا، كما يقال اضْمَحَلَّ، وامضَحَلَّ، [و] و و "خِيمة" و "خامة"، وله جاه ووجَهْ، أي: وَجاهة.
وفي الآيةِ طباقٌ في موضعينِ، أحدُهما: "أُحْصِروا" مع قوله: {ضَرْباً فِي الأَرْضِ}، والثاني قوله "أغنياءَ" مع قوله "للفقرراءِ" نحو: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} {وَأَمَاتَ وَأَحْيَا}. ويقال "سِيمِيا" بياء بعد الميم، وتُمَدُّ كالكيمياء. وأشد:
1087 - غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْنِ يافاً * له سِيمِياءٌ لا تَشُقُّ على البصَرْ
والباءُ تتعلَّق بـ"تَعْرِفهم" ومعناها السببية، أي: إنَّ سببَ معرفتِك إياهم هي سِيماهم.
(3/152)
---(1/1007)
قوله: {إِلْحَافاً} في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: نصبُه على المصدرِ بفعلٍ مقدَّر أي: يُلْحِفون إلحافاً، والجملةُ المقدرةُ حالٌ من فاعل "يَسْألون" والثاني: أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، أي: لا يَسْألون لأجلِ الإِلحافِ. والثالث: أن يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ تقديرُه: لا يَسْألون مُلْحِفين.
واعلمْ أنَّ العربَ إذا نَفَتِ الحكمَ عن محكومٍ عليه فالأكثرُ في لسانِهم نَفْيُ ذلك القيدِ، نحو: "ما رأيتُ رجلاً صالحاً"، الأكثرُ على أنك رأيت رجلاً ولكن ليسَ بصالحٍ، ويجوزُ أنَّكَ لم تَرَ رجلاً البتةَ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} المفهومُ أنهم يسألونَ لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكونَ المعنى: أنهم لا يَسْألون ولا يُلْحِفون، والمعنيان منقولان في التفسير. والأرجحُ الأولُ عندهم، ومثلُه في المعنى: "ما تأتينا فتحدثنا" يجوز أنه يأتيهم ولا يحدِّثُهم، ويجوزُ أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثُهم، انتفى السبب وهو الإِتيانُ فانتفى المُسَبَّبُ وهو الحديثُ.
وقد شَبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآيةِ الكريمة بمعنى بيت امرىء القيس وهو قوله:
1088 - على لاحِبٍ لا يُهْدى بمَنارهِ * إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا
(3/153)
---(1/1008)
قال الشيخ: "تشبيهُ الزجاج إنما هو في مُطْلَقِ انتفاءِ الشيئين أي: لا سؤالَ ولا إلحافَ، وكذلك هذا: لا منارَ ولا هدايةَ، لا أنه مثلُه في خصوصية النفي، إذ كان يلزمُ أن يكون المعنى: لا إلحافَ فلا سؤالَ، وليس تركيبُ الآيةِ على هذا المعنى، ولا يَصِحُّ: لا إلحافَ فلا سؤالَ لأنه لا يلزمُ من نفي الخاص نفيُ العام، كما لَزِم من نفيِ المنارِ نفيُ الهداية التي هي من بعض لوازمِهِ، وإنما يُؤدِّي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب: "لا يُلْحِفون الناسَ سؤالاً" لأنه يلزمُ من نفيِ السؤال نفيُ الإِلحافِ، إذ نفيُ العامِّ يَدُلُّ على نفيِ الخاص. فتلخَّص من هذا كلَّه أنَّ نَفْيَ الشيئين: تارةً تُدْخِلُ حرفِ النفي على شيءٍ فتنتفي جميعُ عوارضِه، وتُنَبِّهُ على بعضِها بالذكرِ لغرضٍ ما، وتارةً تُدْخِلُ حرفَ النفي على عارضٍ مِنْ عوارضِه، والمقصودُ نفيهُ فتنتفي لنفيهِ عوارضُه".
(3/154)
---(1/1009)
قلت: قد سَبَقه ابنُ عطية إلى هذا فقال: "تَشْبيهُه ليس مثلَه خصوصيةِ النفي، لأنَّ انتفاءَ المنارِ في البيتِ يَدُلُّ علىنفي الهدايةِ، وليس انتفاءُ الإِلحاحِ يدلُّ على انتفاء السؤالِ." وأطالَ ابنُ عطية في تقريرِ هذا وجاوبُه ما تقدم: من أنَّ المرادَ نفيُ الشيئين لا بالطريقِ المذكورِ في البيتِ، وكان الشيخُ قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفاً: "ونظيرُ هذا: ما تَأْتينا فتحدِّثَنا" فعلى الوجه الأول يعني نفيَ القيدِ وحدَه: ما تأتينا مُحَدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّثُ، وعلى الوجه الثاني يعني نفيَ الحكمِ بقيده بـ"ما يكون منك إتيانٌ فلا يكونُ حديثٌ"، وكذلك هذا: لا يقعُ منهم سؤالٌ البتَّةَ فلا يقعُ إلحاحٌ، ونَبَّه على نفي الإلحاحِ دونَ غيرِ الإِلحاح لقبحِ هذا الوصفِ، ولا يُرَادُ به نفيُ هذا الوصفِ وحدَه ووجودُ غيرِه؛ لأنه كانَ يَصيرُ المعنى الأول، وإنما يُراد بنفي هذا الوصفِ نفيُ المترتباتِ على المنفيِّ الأولِ، لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العمومِ فتنتفي مترتِّباتُه، كما أنك إذا نَفَيْتَ الإِتيانَ فانتفى الحديثُ انتفى جميعُ مترتِّباتُ الإِتيانِ من المجالسةِ والمشاهدةِ والكينونةِ في محلٍّ واحد، ولكنَ نبَّه بذكرِ مترتِّب واحدٍ لغرضٍ ما على ذِكْرِ سائرِ المترتِّبات، قلت: وهو تقريرٌ لِمَا تَقدَّم.
وأمَّا الزمخشري فكأنه لم يَرْتَضِ تشبيهَ الزجاج، فإنه قال: "وقيل: هو نفيٌ للسؤالِ، والإِلحاف جميعاً كقوله:
على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه * .....................................
يريد نفيَ المنارِ والاهتداءِ به".
وطريقُ أبي إسحاق الزجاج هذه قد قَبِلها الناسُ ونَصَروها واستحسنوا تنظيرَها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري، قال أبو علي: "لم يُثْبِتْ في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} مسألةً فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ فيكونَ منهم إلحافٌ، ومِثْلَ ذلك قولُ الشاعر:
(3/155)
---(1/1010)
1089 - لا يَفْزَغُ الأرنبُ أهوالَها * ولا ترى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: ليس فيها أرنبٌ فيفزعَ لهولِها ولا ضَبُّ فينجحرَ، وليس المعنى أنه ينفي الفزعَ عن الأرنبِ والانجحار عن الضب. وقال أبو بكر: "تأويلُ الآية: لا يسألون البتةَ فيخرجهم لاسؤالُ في بعض الأوقات إلى الإِلحافِ؛ فجَرى هذا مَجْرى قولِك: / فلان لا يُرْجى خيرُه أي: لا خيرَ عنده البتة فيُرْجى، وأنشد قول امرىء القيس:
1090 - وصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِين من الوَجَى * كأنَّ مكانَ الرَّدْفِ منه على رَالِ
أي: ليس بهن وَجَى فيشتكينَ من أجله، وقال الأعشى:
1091 - لا يَغْمِزُ الساقَ مِنْ أَيْنٍ ولا وَصَبٍ * ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ
معناه: ليس بساقِه أَيْنٌ ولا وصبٌ فيغمزَها. وقال الفراء قريباً منه فإنه قال: "نفى الإِلحاف عنهم وهو يريدُ جميعَ وجوهِ السؤال كما تقول في الكلام: "قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا الرجل" ولعلك [لم تَرَ قليلاً ولا كثيراً من أشباهه]. جَعَل أبو بكر الآيةَ عند بعضِهم من بابِ حَذْفِ المعطوف، وأن التقدير: لا يسألونَ للناسَ إلحافاً ولا غيرَ إلحاف. كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبردَ.
والإِلحافُ والإِلحاحُ واللَّجاجُ والإِحفاءُ، كلُّه بمعنى، يقال: ألحفَ وألحَّ في المسألةِ: إذا لَجَّ فيها. وفي الحديثِ: "مَنْ سَأَلَ له أربعون فقد أَلْحَفَ"، واشتقاقُه من اللِّحاف، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم. كما يشملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه، ومنه قولُ ابن أحمر يصفُ ذَكَرَ نعامٍ يَحْضُن بيضَه بجناحَيءه ويجعلُ جناحَه لها كاللحاف:
1092 - يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ * ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا
وقال آخرُ في المعنى:
1093 - ثم راحوا عَبَقُ المِسْكِ بهم * يُلْحِفُون الأرضَ هُدَّابَ الأَزُرْ
(3/156)
---(1/1011)
أي: يُلْبِسونها الأرضَ كإلباسِ اللحافِ للشيءِ. وقيل: بل اشتقاقُ اللفظةِ من "لَحْفِ الجبل" وهو المكانُ الخَشِنُ، ومجازُه أنَّ السائلَ لكثرة سؤالِه كأنه استعمل الخشونةَ في مسألتِه، وقيل: بل هي "من لحَفَني فلانٌ" أي أعطاني فَضْلَ ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول.
* { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(3/157)
---(1/1012)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}: مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ من قوله "فلهم أجرُهمْ" ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه الموصولُ من معنى الشرط. وقال ابنُ عطية: "وإنما يوجَدُ الشَّبَهُ - يعني بين الموصولِ واسمِ الشرط - إذا كان الموصولُ موصولاً بفعل، وإذا لم يَدْخُلْ على الموصول عاملٌ يُغَيِّر معناه". قال الشيخ: "فَحَصَر لاشبه فيما إذا كان "الذي" موصولاً بفعل، وهذا كلامُ غير مُحَرَّر، أمَّا قولُه "الذي" فلا يختصُّ بذلك بـ"الذي"، بل كلُّ موصولٍ غيرِ الألفِ واللامِ حكمُه حكمُ "الذي" بلا خلافٍ، وفي اللفِ واللامِ خلاف، ومذهبُ سيبويه المنعُ من دخولِ الفاءِ. الثاني: قولُه "موصولاً بفعلٍ" فأَطْلَقَ الفعلَ واقتصرَ عليه، وليس كذلك، بل شرطُ الفعلِ أن يَصْلُحَ لماشَرةِ أداةِ الشرط فلو قلت: "الذي سأتيني - أو لمَّا يأتيني - أو ما يأتيني أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يَجُزْ شيء من ذلك، لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يَصِحُّ أن تَدْخُلَ على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصارُ على الفعلِ فليس كذلك بل الظرفُ والجارُّ والمجرورُ في الوصلِ كذلك، حتى كان شيءٌ منهما صلةً لموصولٍ والجارُّ والمجرورُ في الوصلِ كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصولٍ جازَ دخولَ الفاءِ. وقوله: "وإذا لم يدخُلْ على "الذي" عاملٌ يغيِّر معناه" عبارةٌ غيرُ ملخَّصة، لأن العاملَ لا يُغَيِّر معنى الموصولِ، إنما يغيِّرُ معنى الابتداءِ، بأَنْ يُصَيِّره تمنياً أو تَرَجِّياً أو ظناً نحو: لعل الذي يأتيني - أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوزُ دخولُ الفاءِ لتغيُّرِ معنى الابتداءِ.
وكان ينبغي له أيضاً أن يقولَ: "ويُشْترط أن يكونَ الخبرُ مستحقاً بالصلةِ كالآية الكريمة، لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنفاق.
(3/158)
---(1/1013)
قلت: وقولُ الشيخِ أيضاً: "بل كلُّ موصولٍ" ليسَ الحكمُ أيضاً مقتصراً على كلِّ موصول، بل كلُّ نكرةٍ موصوفة بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخولِ الفاءِ أو ما أُضيف إلى تلك النكرةِ أو إلى ذلك الموصولِ أو الموصوفِ بالموصولِ حكمُه كذلك. وهذه المسألةُ قد قَدَّمْتُها متقنةً.
* { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوااْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
والرِّبا لامُه واوٌ لقولِهم: رَبا يَرْبو، فلذلك يُثَنَّى بالواوُ ويكتَبُ بالألفِ. وجَوَّز الكوفيون تثنيته بالياءِ وكذلك كتابتُه، قالوا لكسر أولِه ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصاً بمكسور الأولِ، بل الثلاثي من ذواتِ الواوِ المكسورُ الأولِ أو المضمومُه نحو: "رِبا" و "عُلا" حكمُه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوحُ الأولِ نحو: عصا وقَفَا فلم يُخالفوا البصريين، وكُتب في القرآنِ بخطِ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ. والمادةُ تَدُلُّ على الزيادةِ والارتفاعِ ومنه الرَّبْوَةُ. وقال حاتم الطائي يصف رُمْحاً:
1094 - وأسمرَ خطِيَّاً كأن كعوبَه
نَوَى الَسْبِ قد أَرْبَى ذِراعاً على العُشْرِ
(3/159)
---(1/1014)
وقيل: إنما كُتِبَ بالواوِ لأنَّ أهلَ الحجازِ تَعَلَّموا الخطَّ من أهلِ الحِيرة، وأهلُ الحِيرةِ يقولونَ: "الرِّبو" بالواوِ" فكتبوها كذلك ونقلَها أهلُ الحجاز كذلك خَطَّاً لا لفظاً. وقد قرأ العدويُّ: "الرِّبَو" كذلك بواوٍ خالصة بعد فتحةِ الباء. فقيل: هذا القارىءُ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وذلك أنَّ من العربِ مَنْ يقلِبُ ألفَ المقصورِ واواً فيقول: هذه أَفْعَو، وهذا من ذاك، إلا أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
وقد حكى أبو زيد ما هو أغربُ من ذلك فقال: "قرأ بعضُهم بكسرِ الراءِ وضمِ الباء وواوٍ بعدها"، ونَسَبَ هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ لسانَ العرب [لا] يبقي واواً بعد ضمةٍ في الأسماءِ المعربة، بل إذا وُجد ذلك لم يُقَرَّا على حاله، بل تُقْلَبُ الضمةُ كسرةً والواوُ ياءً نحو: دَلْوٍ وأَدْلٍ، وجَرْوٍ وأَجْرٍ وأنشد أبو عليّ:
1095 - ليثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه * بالرَّقْمتينِ له أَجْرٍ وأَعْراسُ
ونهايةُ ما قيلَ فيها أنَّ قارئها قَلَبَ الألفَ واواً كقولِهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أُجْرِي مُجْرى الوقفِ في ذلك، ولم يَضْبِطِ الراوي عنه ما سَمِع فظنَّه بضمِّ الباء لأجلِ الواوِ فنقلها كذلك، وليت الناسَ أَخْلَوا تصانيفهم من مثلِ هذه القراءات التي لو يَمِعها العامةُ لمَجُّوها ومن تعاليلها، ولكن صارَ التاركُ لها يَعُدُّه بعضُهم جاهلاً بالاطلاع عليها.
ويقال: رِبا ورِما، بإبدالِ بائِه ميماً، كما قالوا: كَثَم في كَثَب. والألفُ واللام في "الرِّبا" يجوز أن تكونَ للعهدِ، إذ المرادُ الربا الشرعيُّ، ويجوز أن تكونَ لتعريفِ الجنس / .
قوله: {لاَ يَقُومُونَ} الظاهرُ أنها خبرُ الموصولِ المتقدِّم. وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يُتَكلَّفُ تصحيحُه بأن يُضْمَرَ الخبرُ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقوله:
1096 - . . . لا أنا * باغياً .....................
في أحد الوجهين:
(3/160)
---(1/1015)
قوله: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما: النصبُ على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا يقومون إلا قياماً مثلَ قيامِ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو المشهورُ عند المعربين، أو النصبُ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدرِ المقدَّرِ أي: لا يقومونَهُ أي القيامَ إلا مُشْبِهاً قيامَ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو رأي سيبويه، وقد قَدَّمْتُ تحقيقهما.
و "ما" الظاهرُ أنها مصدريةٌ أي: كقيامِ. وجَوَّزَ بعضُهم أن تكون بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: إلا كالقيامِ الذي يقومه الذي يتخبَّطُه الشيطانُ، وهو بعيد.
و "يتخبَّطه" يَتَفَعَّلُه، وهو بمعنى المجردِ أي يخبِطُ؛ فهو مثل: تَعدَّى الشيءَ وعَدَاه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خَبَط البعيرُ بأخفافِه: إذا ضرب بها الأرضَ. ويقال: فلان يَخْبِط خَبْطَ عَشْواء، قال علقمة:
1079 - وفي كل حَيًّ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ * فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ
وقال زهير:
1098 - رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ * تُمِتْه ومَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّر فَيَهْرَمِ
قوله: {مِنَ الْمَسِّ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهةِ الجنونِ، فيكونُ في موضعِ نصبٍ قاله أبو البقاء. والثاني: أنه يتعلَّقُ بقوله: "يقومُ" أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. الثالث: أنه يتعلَّقُ بقولِه: "يقومُ" أي: كما يقومُ المصروع من جنونِه. ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشري.
(3/161)
---(1/1016)
قال الشيخ: "وكان قَدَّم في شرحِ المَسِّ أنه الجنونُ، وهذا الذي ذهب غليه في تلعُّقِ "من المس" بقوله "لا يقومون" ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما: أنه قد شَرَحَ المسَّ بالجنون، وكان قد شَرَحَ أنَّ قيامَهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنونٌ ولا مَسٌّ، ويَبْعُدُ أن يَكْنى بالمسِّ الذي هو الجنونُ عن أكلِ الربا في الدنيا، فيكونُ المعنى: لا يقومون يومَ القيامة أو من قبورهم من أجلِ أكلِ الرِّبا إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان، إذ لو أُريد هذا المعنى لكان التصريحُ به أَوْلَى من الكنايةِ عنه بلفظِ المَسِّ، إذ التصريحُ به َبْلَغُ في الزجرِ والردعِ. والوجه الثاني: أنَّ ما بَعد. "إلاَّ" لا يتعلَّقُ بما قبلها إلا إنْ كان في حَيِّز الاستثناء، وهذا ليسَ في حَيَّز الاستثناء، ولذلك منعوا أَنْ يتعلَّقَ "بالبيناتِ والزبرِ" بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} وأنَّ التقديرَ: وما أرسلنا بالبيناتِ والزبرِ إلا رجالاً".
قلت: أمَّا تضعيفُه المعنى فليس بجيدٍ، بل الكنايةُ في لسانِهم أَبْلَغُ وهذا مِمَّا لا يُخْتَلَفُ فيه. وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه يُغتْفرُ في الجارِّ والظرفِ ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِه، وشواهدُهُ كثيرةٌ.
والمَسُّ عُبِّر به عن الجنونِ في لسانهم، قالوا: مُسَّ فهو مَمْسُوس، مثل: جُنَّ فهو مَجْنون، وأنشد أبو بكر:
1099 - أُعَلِّلُ نفسي بما لا يكونُ * كذي المَسِّ جُنَّ ولم يُخْنَقِ
وأصلُه أنَّهم يقولون: إنَّ الشيطانَ يَمَسُّ الإِنسانَ بيدِه ويُرْكِضُه برجلِه، ويُعَبَّرُ بالجنونِ عن النشاطِ والسرعةِ وخفةِ الحركةِ، لذلك قال الأعشى يصف ناقته:
1100 - وتُصبحُ عن غِبِّ السُّرى وكأنما * أَلَمَّ بها مِن طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ
وقال آخر:
1101 - بَخِيلٍ عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ * ..................
(3/162)
---(1/1017)
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌ، أي: ذلك التخبُّطُ، أو ذلك القيامُ بسبب افترائِهم هذا القولَ. وقيل: "ذلك" خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: قيامُهم ذلك. قال الشيخ: "إلا أنَّ في هذا الوجهِ فصلاً بين المصدرِ ومتعلَّقِه الذي هو "بأنهم"، على أنه لا يَبْعُدُ جوازُ ذلك لحذفِ المصدرِ، فلم يَظْهَرْ قُبْحٌ بالفصلِ بالخبرِ".
وقد جَعَلوا الربا أصلاً والبيعَ فرعاً حتى شَبَّهوه به، قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هلاَّ قيل: إنما الربا مثلُ البيع، لأنَّ الكلامَ في الربا لا في البيعِ. قلت: جِيء به على طريقةِ المبالغةِ، وهو أنهم قد بَلَغ من اعتقادهم في حِلّ الربا أنهم جَعَلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ، حتى شَبَّهوا به البيع". قلت: وهو بابٌ في البلاغةِ مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه، ومنه قوله:
1102 - ورَمْلٍ كأوراكِ العَذارى قَطَعْتُه * ....................
قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الظاهرُ أنه من كلامِ اللهِ تعالى، أَخْبر بأنه أَحَلَّ هذا وحَرَّم ذاك، وعلى هذا فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. وقال بعضُهم: "هذه الجملةُ من تَتِمَّةِ قولِ الذين يأكلون الربا، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقول عطفاً على المقول" وهو بعيدٌ جداً، نَقَلْتُه عن قاضي [قالقضاء عز الدين في درسه].
قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يُحتمل أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً وعلى كِلا التقديرَيْنِ فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.
(3/163)
---(1/1018)
وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبرُ، فإنْ كانَتْ شرطيةًَ فالفاءُ واجبةٌ، وإن كانَتْ موصولةً فهي جائزةٌ، وسببُ زيادتِها ما تقدَّم مِنْ شَبَهِ الموصولِ لاسمِ الشرطِ. ويجوزُ حالَ كونها شرطيةً وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعدَه، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، ويُقَدَّر الفعلُ بعدَها لأنَّ لها صدرَ الكلامِ، والتقديرُ: فأيُّ شخصٍ جاءَتِ الموعظةُ جاءته، ولا يجوزُ ذلك فيها موصولةً لأنَّ الصلةَ لا تُفَسِّر عاملاً، إذ لا يَصِحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرطُ التفسيرِ صحةُ التسُّطِ. وسَقَطَتِ التاءُ من الفعلِ لشيئين: الفصلُ بين الفعلِ وفاعلِه بالمفعولِ، وكونُ التأنيثِ مجازياً، وقرأ الحسن، "جاءَتْه" على الأصل.
فقوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوزُ أن تكونَ متعلقةً بجاءَتْه، وتكونُ لابتداءِ الغاية مجازاً، وأن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظة، أي: موعظةٌ من موعظاتِ ربه، أي بعضُ مواعِظه.
وقوله: {فَانْتَهَى} نَسَقٌ على "جاءَتْه" عَطَفَه بفاءِ التعقيبِ أي: لم يتراخَ انتهاؤُه عن مجيء الموعظهِ. /
وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلامُ على "مَنْ" هذه في احتمالِ الشرطِ والموصولِ كالكلامِ على التي قبلها. والضميرُ في قولِه "فَأَمْرُه" يعودُ على "ما سَلَف"، أي: وأمرُ ما سلَفَ إلى الله، أي: في العفوِ عنه وإسقاطِ التِّبِعَةِ منه. وقيل: يعودُ على المنتهي المدلولِ عليه بانتهى أي: فأمرُ المنتهي عن الربا إلى الله في العفوِ والعقوبةِ. وقيل: يعودُ على ذي الربا في أَنْ ينتبهَ على الانتهاءِ أو يعيدَه إلى المعصيةِ. وقيل: يعودُ على الرِبا أي: في عفو الله عمَّا شاء منه أو في استمرارِ تحريمِه.
* { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }
(3/164)
---(1/1019)
قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي}: الجمهورُ على التخفيفِ في الفعلين من مَحَقَ وأَرْبى. وقرأ ابن الزبير: ورُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يُمْحِّق ويُرَبِّي" بالتشديدِ فيهما من "مَحَّق ورَبَّى" بالتشديدِ فيهما.
وقوله: {سَلَفَ} سَلَفَ بمعنى مَضَى وانقضى، ومنه: سالفُ الدهرِ، وله سَلَفٌ صالح: آباءٌ متقدِّمون. ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي: أمةً متقدمةً يَعتبر بهم مَنْ بعدهم. ويُجمع السَّلَفُ على: أَسْلاف وسُلوف. والسالِفَةُ والسُّلاف: المتقدِّمون في حربٍ أو سفرٍ. والسالفةُ من الوجه لتقدُّمها. قال:
1103 - ومَيَّةُ أحسنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً * وسالفةً وأَحْسَنْه قَذالا
وسُلافة الخمر قيل لها ذلك لتقدُّمها على العَصْرِ. والسُّلْفَةُ ما يُقَدَّم من الطعامِ للضيفِ. يُقال: "سَلِّفوا ضيفكم ولَهِّنوه" أي: بادِروه بشيء ما. ومنه: السَّلَفُ في الدَّيْن لأنه تقدَّمه مالٌ.
وقوله: {عَادَ} أي: رَجَعَ، يُقال: عادَ يعود عَوْداً ومَعاداً، وعن بعضهم أنها تكونَ بمعنى صار، وعليه:
1104 - وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطَا * إذا قام ساوى غاربَ الفَحْلِ غاربُه
وأنشدوا
1105 - تُعِدُّ لكم جَزْرُ الجَزُورِ رماحُنا * ويَرْجِعْنَ بالأسيافِ مُنْكَسِرَاتِ
والمَحْقُ: النقصُ، يُقال: مَحَقْتُهُ فانمَحَقَ، وامتَحَقَ، ومنه المُحاف في القمر، قال:
1106 - يَزْداد حتى إذا ما تَمَّ أَعقَبهُ * كَرُّ الجديدَيْنِ نَقْصاً ثم يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السكيت:
1107 - وَأَمْصَلْتُ مالي كلَّه بحياتِهِ * وماسُسْتَ من شيءٍ فَرَبُّكَ ماحِقُهْ
ويقال: هَجِيرٌ ماحِقٌ: إذا نَقَصَ كلُّ شىءٍ بِحَرِّه.
(3/165)
---(1/1020)
وقد اشتملَتْ هذه الآيةُ على نوعين من البديع، أحدُهما: الطباقُ في قولِه: "يَمْحَقُ ويُرْبي" فإنهما ضِدَّان، نحو: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، والثاني: تجنيسُ التغايرِ في قولِهِ: "الرِّبا ويُرْبى" إذ أحدُهما اسمٌ والآخرُ فِعْلٌ.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَذَرُواْ}: فُتِحَتِ العينُ من "ذَرْ" حَمْلاً على "دَعْ" إذ هو بمعناه، وفُتِحَتْ في "دَعْ" لأنه أمْرٌ من "يَدَعُ" وفُتِحَتْ من "يَدَعُ" وإنْ كان قياسُها الكسرَ لكونِ الفاءِ واواً كيَعِدُ لكونِ لامِهِ حرفَ حلقٍ.
ووزنُ "ذروا": عَلوا لأنَّ المحذوفَ الفاءُ لا يُستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لُغَيَّة، وكذلك "دَعْ".
وقرأ الحسن: "ما بَقَا" بقلبِ الكسرةِ فتحةً والياءِ الفاً، وهي لغةٌ لطيء ولغيرِهِم، ومنه قولُ علقمة التميمي:
1108 - زَهَا الشوقُ حتى ظَلَّ إنسانُ عينِهِ * يَفِيضُ بمغمورٍ من الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال الآخر:
1109 - وما الدُّنيا بباقاةٍ علينا * وما حَيٌّ على الدنيا بباقِ
ويَقُولون في الناصيةِ: ناصاةٌ. وقرأ الحسنُ أيضاً: "بَقِيْ" بتسكين الياءن قال المبرد: "تسكينُ ياءِ المنقوصِ في النصب مِنْ أحسنِ الضرورةِ، هذا مع أنه مُعربٌ فهو في الفعلِ الماضي أحسنُ" قلت: وإذا كانوا قد حَذَفوها من الماضي صحيحَ الآخرَ فَأَوْلى من حرفِ العلةِ، قال:
1110 - إنما شِعْرِيَ قَيْدٌ * قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
وقال جرير في تسكينِ الياء:
1111 - هو الخليفةُ فارضُوا ما رَضِيْ لكمُ * ماضي العزيمةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر:
1112 - لَعَمْرُكَ لا أخشى التَّصَعْلكَ ما بقِي * على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعرا
(3/166)
---(1/1021)
قوله: {مِنَ الرِّبَا} متعلِّقٌ ببقيَ كقوله: "بَقِيَتْ منه بقيةٌ"، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ "بقَى"، أي: الذي بقي حالَ كونِهِ بعضَ الربا، فهي تبعيضيةٌ.
ونَقَل ابنُ عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ "من الرِّبُوا" بتشديدِ الراء مكسورةً، وضمِّ الباءِ بعدَها واوٌ. قلت: قد قَدَّمْتُ أن أبا السَّمَّال إنما قرأ "الربا" في أولِ الآيةِ بواوٍ بعد فتحةِ الباءِ، وأنَّ أبا زيدٍ حضكَى عن بعضِهم أنه ضَمَّ الباءَ، وقدّضمْتُ تخريجَهما على ضعفه.
(3/167)
---(1/1022)
وقال ابن جني: "شَذَّ هذا الحرفُ في أَمْرين، أحدُهما: الخروجُ من الكسرِ إلى الضم بناءً لازماً، والآخر: وقوعُ الواوِ بعدَ الضمةِ في آخرِ الاسمِ، وهذا شيءٌ لم يأتِ إلا في الفعلِ نحو: / يَغْزُو وَيَدْعُو، وأَمَّا "ذو" الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم مَنْ يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرفعَ، فيقولُ: "رأيتُ ذا قام"، ووجهُ القراءةِ أنه لمَّا فضخَّم الألفَ انتحى بها الواوَ التي الألفُ بدلٌ منها، على حَدِّ قولهم: الصلاةُ والزكاةُ، وهي بالجملةِ قراءةٌ شاذةٌ". قلت: غيرُهُ يقيِّدُ العبارَةَ فيقولُ: "ليسَ في الأسماء المُعْرَبَةِ واوٌ قَبْلَهَا ضمةٌ" حتى يُخرجُ عنه "ذو" بمعنى الذي و "هو" من الضمائر، وابنُ جني لم يَذْكِر القيدَ استثنى "ذو الطائية" ويَرِدُ عليه نحو "هو"، ويَرِدُ على العبارةِ "ذو" بمعنى صاحب فإنَّها معربةٌ آخرِها واوٌ بعدَ ضمةٍ. وقد أُجيبَ عنه بأنها تتغيَّر إلى الألفِ والياءِ فلم يُبالَ بها، وأيضاً فإنَّ ضمةَ الدالِ عراضةٌ، إذ أصلُها الفتحُ، وإنما ضُمَّت إتابعاً على ما قَرَّرتُهُ في إعرابِ الأسماءِ الستةِ في كتبِ النحوِ: وقوله: "بناءً لازماً" تحرُّزٌ من وجودِ الخروجِ من كسرٍ إلى ضم بطريقِ العَرَض نحو: الحِبُك فإنه من التداخُل، ونحوُ: "الرِّدُءْ" موقوفاً عليه، فالخروجُ من كسرٍ إلى ضَمٍّ في هايت الكلمتينِ ليس بلازمٍ. وقوله: "مِنْهُم مَنْ يغيِّرُ واوَها" المشهورُ بناؤُهاعلى الواوِ مطلقاً، وقد تُعْرَب كالتي بمعنى صاحب وأنشدوا:
1113 - فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون لَقِيتُهمُ * فَحَسْبي من ذي عندَهم ما كَفانيا
ويُروى: "مِنْ ذو" على الأصلِ.
قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ وجوابُه محذوفٌ عند الجمهورِ أي: فاتَّقُوا وذَروا، ومتقدِّمٌ عند جماعةٍ. وقيل: "إنْ" هنا بمعنى إذ، وهذا مردودٌ مرغوبٌ عنه. وقيل: يُراد بهذا الشرطِ هنا الاستدامةُ.
(3/168)
---(1/1023)
* { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ}: قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصمٍ: "فآذِنوا" بألف بعد الهمزةِ، والباقون بدونِ ألف، ساكنَ الهمزةِ.
فالأُولى من آذَنَه بكذا أي: أَعْلمه كقولِهِ: {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} والمعنى: أَعْلِمُوا غيرَكم. أُمِرَ المخاطبون بتركِ الربا أَنْ يُعْلِمُوا غيرَهم مِمَّنْ هو على حالهم في المَقامِ بالرِّبا بمحاربةِ اللِّهِ ورسولِهِ، فالمفعولُ هنا محذوفٌ، وقد صَرَّحَ به الشاعرُ في قولِهِ:
1114 - آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ * رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
وفي قولِهِ تعالى: {آذَنتُكُمْ}. وقيل: الهمزةُ في "فَأْذَنُوا" للصيرورةِ لا للتعديةِ، والمعنى: صِيروا عالِمين بالحربِ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ كبير.
وقراءةُ الباقين أَمْرٌ من: أَذِنَ يَأْذَنُ أي عَلِمَ يَعْلَمُ أي: فاعلَموا يُقال: أَذِن به فهو أَذِين، أي: عَلِمَ به فهو عليم.
ورجَّح جماعةٌ قراءةَ حمزةَ. قال مكيّ: "لولا أَنَّ الجماعَةَ على القصرِ لكان الاختيارُ المدَّ. ووجَّه ذلك أن آذَنَ بالمدِّ أَعَمُّ من أَذِنَ بالقصر، لأنهم إذا أَعلمُوا غيرَهم فقد عَلِموا هم ضرورةً، من غيرِ عكسٍ، أو يَعْلَمُون هم بأنفسِهم ولا يَعْلَمُ غيرُهُم". قال: "وبالقصرِ قرأ علي بن أبي طالب وجماعةٌ".
(3/169)
---(1/1024)
وعَكَسَ أبو حاتمٍ فرجَّح قراءةَ القصرِ، واستبعدَ قراءةَ المَدِّ قال: "إذا الأمرُ فيه بالحربِ لغيرِهم والمرادُ هم؛ لأنهم المخاطَبون بتركِ الربا" وهذا الذي قالَه غيرُ لازمٍ؛ لأنك إذا كنتَ على حالةٍ فقلتُ لك يا فلان: "أعلِمْ فلاناً أنه مرتكبُ قبيحاً" وهو شيءٌ مماثِلٌ لِما أنت عليه عِلِمْتَ قطعاً أنك مأمورٌ به أيضاً، بل هو أَبْلَغُ من أمري لك مواجهةً. وكذلك قال ثعب، قال: "الاختيارُ قراءةُ العامة من الإِذن لأنه يُفَسِّر كونوا على إذْنٍ وعِلْمٍ، ولأنَّ الكلامَ يَجْرى به على وجهٍ واحدٍ وهو أَدَلُّ على المرادِ، وأقربُ في الأفهام". وقال أبو عبيدة: "يقال: أَذِنْتُه بالشيء فَأَذِنَ به"، أي: عَلِمَ، مثل: أَنْذَرْتُهُ بالشيء فَنَذِرَ به، فجعله مطاوعاً لأفْعَلَ.
وقال أبو عليّ: "وإذا أُمرِوا بإعلامِ غيرِهم عَلِموا هم لا محالَةَ، ففي إعلامِهِم علمُهم، ليس في علمِهم إعلامُهم غيرَهم، فقراءةُ المدِّ أرجحُ لأنها أبلغُ وأكدُ.
وقال الطبري: "قراءةُ القصرِ أَرْجَحُ لأنها تختصُّ بهم، وإنما أُمِرُوا على قراءةِ المدِّ بإعلام غيرِهم".
وقال الزمخشري: "وقُرِىء فآذِنُوا: فَأَعْلِموا بها غيرَكم، وهو من الإِذْن وهو الإِسماع، لأنه من طرق العلمِ. وقرأ الحسنُ: "فَأَيْقِنُوا" وهو دليلٌ لقراءةِ العامةِ" يعني بالقصرِ، لأنها نصٌّ في العلمِ لا في الإِعلام.
وقال ابنُ عطية: "والقراءتان عند يسواءٌ، لأنَّ المخاطَبَ محصورٌ، لأنه كلُّ مَنْ لا يَذَرُ ما بقي من الربا. فإنْ قيل: "فَأْذَنوا" فقد عَمَّهم الأمرُ، وإنْ قيلَ "فآذِنُوا" بالمدِّ فالمعنى: أعلِمثوا أنفسَكم أو بعضكم بعضاً، وكأنَّ هذه القراءةَ تقتضي فَسْحاً لهم في الارتياءِ والتثبُّتِ أي: فَأْعِلموا نفوسَكم هذا، ثم انظُروا في الأرجحِ لكم: تَركِ الربا أو الحربِ".
(3/170)
---(1/1025)
قوله: {بِحَرْبٍ} الباءُ في قراءةِ القصر قال الشيخ: "للإِلصاقِ، تقول أَذِنَ بكذا أي: عَلِمَ كذا، ولذلك قال ابنُ عباس وغيرُه: المعنى: فاستيقنوا بحربٍ من الله" قلت: قد قَرَّرْتُ أنَّ فعلَ العلمِ وإنْ كانَ في الأصلِ / متعدياً بنفسِهِ فإنَّما يُعَدَّى بالباءِ لِما تَضَمَّنَ من معنى الإِحاطة فكذلك هذا، ويَظْهَرُ من كلامِ ابن عطية أنَّ هذه الباءَ ظرفيةٌ فإنه قال: "هي عندي من الإِذن، وإذا أَذِنَ المرءُ في شيءٍ فقد قَرَّره وبنى مع نفسِه عليه، فكأنه قيل لهم: قَرِّروا الحربَ بينكم وبين اللَّهِ ورسولهِ" فقوله: "وإذا أَذِنَ المرءُ في شيء" يقتضي تقديرَه: "فَأْذنوا في حربٍ، ولا يتأتَّى هذا إلا على قراءةِ القصرِ، وأمَّا الباءُ مع قراءةِ المَدِّ فهي مُعَدِّيةٌ للإِعلام بالطريقِ الذي قَدَّرْتُه.
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ للنكرةِ قبلَه. و "مِنْ" فيها وجان، أظهرهما: أنها لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وفيه تهويلٌ وتعظيمٌ للحربِ حيث هو واردٌ من جهةِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنها تبعيضيةٌ أي: من حروبِ الله فهو على حَذْفِ مضاف. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هلاَّ قيل بحربِ اللَّهِ ورسولهِ قلت: هذا أَبْلَغُ؛ لأنَّ المعنى فَأْذَنوا بنوعٍ من الحربِ عظيمٍ من عندِ الله ورسولِهِ. انتهى. وإنما كان أبلغَ لأنَّه لو أُضِيفَ لاحتملَ إضافةَ المصدرِ إلى فاعلِهِ وهو المقصودُ، ولاحتملَ الإِضافةَ إلى مفعوله بمعنى أنكم تُحاربون اللَّهَ ورسولَه، والمعنى الأولُ أبلغُ، فلذلك تَرَكَ ما هو محتملٌ إلى ما هو نَصٌّ في المرادِ.
(3/171)
---(1/1026)
قولُهُ: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، أخبرُهم تعالى بذلك أي: لا تَظْلِمُون غيرَكم بأَخْذِكُمْ الزيادةَ منه، ولا تُظْلمون أنتم أيضاً بضياع رؤوسِ أموالِكم. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في "لكم" والعاملُ ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرارِ لوقوعِهِ خبراً في رأي الأخفش.
وقرأ الجمهورُ الأولَ مبنياً للفاعلِ والثاني مبنياً للمفعولِ. ورَوَى أبان والمفضَّلُ عن عاصم بالعكسِ. ورجَّح الفارسي قراءةَ العامةِ بأنها تناسِبُ قولَه: {وَإِنْ تُبْتُمْ} في إسنادِ الفعلين إلى الفاعلِ، فَتَظْلِمُون مبنياً للفاعل أَشْكَلُ بما قبله. وقال أبو البقاء: "يُقْرَأُ بتسمية الفاعل في الأول وتَرْكِ التسميةِ في الثاني. ووجهُه أنَّ مَنْعَهم من الظلمِ أهمُّ فبُدِىءَ به، ويُقرأ بالعكسِ، والوجهُ فيه أنه قَدَّمَ ما تطمئِنُّ به نفوسُهم من نفيِ الظلمِ عنهم، ثم مَنَعَهم من الظلمِ، ويجوزُ أن تكونَ القراءتان بمعنى واحدٍ لأأنَّ الواوَ لا تُرَتِّبُ.
* { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}: في "كان" هذه وجهان، أحدُهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حَدَثَ ووُجِدَ أي: وإن حَدَثَ ذو عسرةٍ فتكتفي بفاعلِها كسائرِ الأفعال، قيل: وأكثرُ ما تكونُ كذلك إذا كانَ مروفوعُها نكرةً نحو: "قد كان مِنْ مَطَرٍ". والثاني: أنها الناقصةُ والخبرُ محذوفٌ. قال أبو البقاء: "تقديره: وإنْ كان ذو عسرة لكم عليه حَقٌّ أو نحوُ ذلك" وهذا مذهبُ بعضِ الكوفيين في الآية، وقَدَّر الخبر: وإنْ كان من غُرمائِكُمْ ذو عُسْرَةٍ. وقَدَّرَهُ بعضُهم: وإنْ كان ذو عسرةٍ غريماً.
(3/172)
---(1/1027)
قال الشيخ: "وَحَذْفُ خبرٍ كان" لا يُجيزه أصحابُنا لا اختصاراً ولا اقتصاراً، لعلةٍ ذكروها في النحو. فإنْ قيل: أليسَ أن البصريين لَمَّا استدَلَّ عليهم الكوفيون في أَنْ "ليس" تكونُ عاطفةً بقولِهِ:
1115 - ..................... * إنما يَجْزِي الفتى ليسَ الجَمَلْ
تأوَّلوها على حَذْفِ الخبر. وأنشدوا شاهداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه:
1116 - ................... * يبغى جِوارَك حين ليسَ مُجِيرُ
وإذا ثبَتَ هذا ثَبَتَ في سائِرِ البابِ. فالجوابُ أن هذا مختصٌّ بليس، لأنها تُشْبِهُ لا النافيةَ، و "لا" يجوز حذفُ خبرها فكذا ما أَشْبهها، والعلةُ التي أشار إليها الشيخُ هي أنَّ الخبرَ تأَكَّد طلبُهُ من وجهين: أحدُهما: كونُ خبراً عن مُخْبَرٍ عنه، والثاني: كونُه معمولاً للفعلِ قبله، فلمَّا تَأَكَّدَتْ مطلوبيتُهُ امتنَعَ حَذْفُهُ.
وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان: "وإن كان ذا عُسْرةٍ" أي: وإنْ كان الغريمُ ذا عسرةٍ. قال أبو عليّ: "في "كان" اسمُها ضميراً تقديرُه: هو، أي الغريمُ، يَدُلُّ على إضمارِهِ ما تقدَّم من الكلامِ، لأنَّ المُرابي لا بُدَّ له مِمَّنْ يُرابيه".
وقرأ الأعمشُ: "وإنْ كان مُعْسِراً" قال الداني عن أحمد بن موسى: "إنها في مصحف عبد الله كذلك.
(3/173)
---(1/1028)
ولكنَّ الجمهورَ على ترجيحِ قراءةِ العامةِ وتخريجِهم القراءةَ المشهورة. قال مكي: "وإنْ وقع ذو عسرةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نَصَبْتَ "ذا" على خبرِ "كان" لصار مخوصاً في ناسٍ بأعيانِهم، فلهذه العلةِ أَجْمَعَ القُرَّاءُ المشهورون على رفع "ذو". وقد أَوْضَحَ الواحدي هذا فقال: "أي: وإن وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يَصِحُّ، وذلك أنه لو نُصِبَ فقيل: وإنْ كان ذا عسرةٍ لكان المعنى: وإنْ كان المشتري ذا عسرةٍ فنظرةٌ، فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمرُ كذلك، لأن المشريَ وغيرَه إذا كان ذا عسرةٍ فله النظرةُ إلى الميسرةِ". وقال الشيخ: "مَنْ نصب "ذا عسرة" أو قرأ "مُعْسِراً" فقيل": يختصُّ بأهلِ الربا، ومَنْ رفع فهو عامٌّ في جميعِ مَنْ عليه دَيْنٌن قال: "وليس بالازمٍ، لأنَّ الآية إنما سيقت في أهلِ الربا وفيهم نَزَلَتْ" قلت: هذا الجوابُ لا يُجْدِي، لأنه وإن كان السياقُ كذا فالحكمُ ليس خاصاً بهم. والعُسْرَةُ بمعنى العُسْر.
قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاءُ جوابُ الشرط و "نَظِرةٌ" خبرٌ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالأمرُ أو فالواجِبُ، أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ، أو فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: فتجِبُ نظرةٌ.
(3/174)
---(1/1029)
وقرأ العامة: "نَظِرة" بزنة "نَبِقَة". وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: "فَنَظْرة" بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمية يقولون: "كَبْد" في "كَبِد" و "كَتْف" في "كَتِف". وقرأ عطاء "فناظِرَة" على فاعِلَة، وقد خَرَّجَهَا أبو إسحاق على أنها مصدرٌ نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةً}{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ}{أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}. وقال الزمخشري "فناظِرُهُ أي فصاحبُ الحقِ ناظرُه أي: منتظره، أو صاحبُ نظرته على طريقةِ النسب، كقولِهِم: "مكان عاشِب وباقل" بمعنى ذو عشبٍ وذو بَقْلٍ، وعنه: "فناظِرْهُ" على الأمرِ بمعنى: فسامِحْهُ بالنظرةِ وباشِره بها" فنقلُه عنه القراءةَ الأولى يقتضي أن تكونَ قراءتُهُ "ناظِر" اسمَ فاعل مضافاً لضميرِ ذي العُسْرَةِ بخلافِ القراءةِ التي قَدَّمْتُها عن عطاء، فإنها "ناظرةٌ" بتاء التأنيث، ولذلك خَرَّجها الزجاج على المصدرِ. وقرأ عبد الله، "فناظِرُوه" أمراً للجماعةِ بالنظرةِ، فهذه ستُ قراءاتٍ مشهورُها واحدٌ.
وهذه الجملةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأمرُ، كقولِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} وقد تقدَّم. والنظرةُ من الانتصارِ وهو الصبرُ والإِمهالُ.
قوله: {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: "مَيْسُرَة" بضم السين، والباقون بفتحِها. والفتحُ هو المشهورُ إذ مَفْعَل ومَفْعَلَه بالفتحِ كثيرٌ، ومَفْعُلٌ بالضم معدومٌ إلا عند الكسائي، وسأُورد منه ألفاظاً، وأَما مَفْعُلة فقالوا: قليلٌ جداً وهي لغةُ الحجاز، وقد جاءَتْ منها ألفاظٌ نحو: المَسْرُوقَة والمَقْبُرَةِ والمَشْرُبة، والمَسْرُبة والمَقْدُرَة والمَأْدُبَة والمَفْخُرَة والمَزْرُعة ومَعْوُلَة ومَكْرُمَة ومَأْلُكة.
(3/175)
---(1/1030)
وقد رَدَّ النحاسُّ الضمَّ تجرُّؤاً منه، وقال: "لم تَأْتِ مَفْعُلة إلا في حروفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يأتِ في كلامِهِ مَفْعُل البتةَ" انتهى. وقال سيبويه: "ليس في الكلامِ مَفْعُل" قال أَبو علي: "يعني في الآحادِ". وقد حَكَى عن سيبويه "مَهْلَك" مثلثَ اللام. وقال الكسائي: "مَفْعُل" في الآحادِ، وأوردَ منه: مَكْرُماً في قولِ الشاعر:
1117 - ليومِ رَوْعٍ أو فَعالِ مَكْرُمِ * .....................
ومَعْوُن في قولِ الآخر - وهو جميل -:
1118 - بُثَيْنُ الزمي "لا" إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ * على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْونِ
ومَأْلُكاً في قول عديّ:
1119 - أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكاً * أنه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
وهذا لا يَرِدُ على سيبويهِ لوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا جمعٌ لمَكْرُمَة ومَعُونَةَ وَمَأْلُكَة، وإليه ذهب البصريون والكوفيون خلا الكسائي، ونُقِلَ عن الفراء أيضاً. والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل فيقول: "لم يَرِدْ كذا" وإن كان قد ورَدَ منه الحرفُ والحرفان، لعدمِ اعتدادِهِ بالنادر القليلِ.
وإذا تقرَّر هذا فقد خَطَّأ النحويون مجاهداً وعطاءً في قراءتهما: "إلى مَيْسُرِهِ" بإضافة "مَيْسُر" مضمومَ السينِ إلى ضميرِ الغريم، لأنهم بَنَوْهُ على أنه ليسَ في الآحادَ مَفْعُل، ولا ينبغي أن يكونَ هذا خطأ، لأنه على تقديرِ تسليمِ أنَّ مَفْعُلاً ليس في الآحادِ، فَمَيْسُر هنا ليس واحداً، إنما هو جَمْعُ مَيْسُرَة كما قلتم أنتم: إن مَكْرُماً جمع مَكْرُمَة ونحوه، أو يكونُ قد حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقوله:
1120 - إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا * وأَخْلَفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوا
(3/176)
---(1/1031)
أي: عِدة الأمر، ويَدُلُّ على ذلك أنهم نَقَلوا عنهما أنهما قرآ أيضاً: "إلى مَيْسَرِهِ" بفتح السينِ مضافاً لضميرِ الغريمِ، وهذه القراءةُ نَصُّ فيما ذكرْتُهُ لك من حذفِ تاءِ التأنيثِ للإِضافةِ لتوافق قراءةَ العامةِ: "إلى مَيْسَرَة" بتاءِ التأنيث.
وقد خَرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخرَ، وهو أَنْ يكونَ الأصلُ: "ميسورِه" فَخُفِّفَ بحذفِ الواوِ اكتفاءً بدلالةِ الضمةِ عليها، وقد يتأيَّدُ ما ذَكَرَهُ على ضَعْفَهِ بقراءةِ عبد الله، فإنه قرأ: إلى مَيْسُوره" بإضافةِ "ميْسور" للضمير، وهو مصدرٌ على مفَعْول كالمَجْلود والمَعْقُول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ أَثْبَتَ من المصادرِ زنة مَفْعُول، ولم يُثْبِتْ سيبويه.
قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} قرأ عاصم بتخفيفِ الصاد، والباقون بتثقيلها. وأصلُ القراءتين واحدٌ، إذ الأصلُ: تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ عاصم إحدى التاءين: إمَّا الأولى وإما الثانيةِ، وتَقَدَّمَ تحقيقُ الخلافِ فيه، وغيرُهُ أدغم التاء ي الصادِ، وبهذا الأصلِ قرأ عبد الله: "تَتَصَدَّقوا". وحُذِفَ مفعولُ التصدُّقِ للعلمِ به، أي: بالإِنظار. وقيل: برأس المال على الغريم. و {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُهُ محذوفٌ. و "أَنْ تَصَدَّقُوا" بتأويل مصدرٍ مبتدأٌ، و "خيرٌ لكم" خبرُهُ.
* { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
(3/177)
---(1/1032)
قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ}: هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً للظرفِ. وقرأ أبو عمرو: "تَرْجِعُون" بفتح التاء مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن: "يَرْجِعُون" بياء الغيبة على الالتفاتِ. قال ابن جني: "كأنَّ اللَّهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنين عن أَنْ يواجِهَهُم بذكرِ الرَّجْعَةِ إذ هي مِمَّا تتفطَّر لها القلوب فقال لهم: "واتقوا" ثم رَجَعَ في ذكرِ الرجعة إلى الغَيْبَةِ فقال: "يَرْجِعُون".
قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ من "كلِّ نفس" وجُمِعَ اعتباراً بالمعنى، وأعادَ الضميرَ عليها أولاً مفرداً في "كَسَبَتْ" اعتباراً باللفظِ، وقُدِّمَ اعتبارُ اللفظ، لأنه الأصلُ، ولأنَّ اعتبارَ المعنى وَقَعَ رأسَ فاصلة فكان تأخيرُهُ أحْسَنَ.
قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في: "يُرْجَعُون" على القراءةِ بالياء، ويجوزُ أن يكوننَ حالاً منه أيضاً على القراءة بالتاء، على أنه خروجٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}، ولا ضرورةَ تَدْعُوا إلى ما ذكر.
(3/178)
---(1/1033)
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوااْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوااْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوااْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ}: متعلِّقٌ بتدايَنْتُمْ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لدَيْن. و "مُسَمَّى" صةٌ لدَيْن، فيكونُ قد قَدَّم الصفةَ المؤولةَ على الصريحةِ وهو ضعيفٌ، فكان الوجهُ الأولُ أوجَهَ.
و "تَدَايَنَ" تفاعَلَ من الدَّيْن كتبايَعَ من البَيْع، يقال: داينْتُ الرجل أي: عاملْتُه بدَيْنٍ، وسواءٌ كنت معطياً أم آخذاً، قال رؤبة:
1121 - دايَنْتُ أَرْوى والديونُ تُقْضى * فَمَطَّلَتْ بعضاً وأَدَّتْ بَعْضَا
(3/179)
---(1/1034)
ويقال: دِنْتُ الرجلَ: إذا بِعْتُهُ بدَيْنٍ، وأَدِنْتُه أنا: أَخَذْتُ منه بدَيْن، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَلَ.
قوله: {فَاكْتُبُوهُ} الضميرُ يعودُ على "بدَيْن" وإنما ذَكَرَ قولَه "بدَيْن" ليعيدَ عليه هذا الضميرَ، وإنْ كان الدَّيْن مفهوماً / من قولِهِ: "تدايَنْتُم"، أو لأنه قد يقال: تَداينوا أي: جازى بعضُهم بعضاً فقال: "بَدْينٍ" ليُزِيلَ هذا الاشتراكَ، أو ليدُل به على العمومِ، أي: أيِّ دين كان من قليلٍ وكثيرٍ.
وقوله: {إِلَى أَجَلٍ} على سبيلِ التأكيدِ، إذ لا يكونُ الدَّيْن إلاَّ مؤجَّلاً، وألفُ "مُسَمَّى" منقبلةٌ عن ياءٍ، تلك الياءُ منقلبةٌ عن واو، لأنه من التسميةِ، وقد تقدَّم أنَّ المادةَ مِنْ سما يسمو.
قوله: {بِالْعَدْلِ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ الجارُّ متعلقاً بالفعلِ قبلَه. قال أبو البقاء: "بالعدلِ" متعلِّقٌ بقولِهِ: فَلْيَكْتُبْ، أي: ليكتبْ بالحقِّ، فيجوزُ أَنْ يكونَ حالا أي: ليكتبْ عادِلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ العَدْلِ". قولُه أولاً: "بالعدلِ متعلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب" يريدُ التعلقَ المعنويَّ؛ لأنه قد جَوَّزَ فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ المعنويَّ؛ لأنه قد جَوَّز فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ بمحذوفٍ لا بنفسِ الفعلِ. وقوله: "ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً" يعني فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بنفسِ الفعلِ.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بـ"كاتب". قال الزمخشري: "متعلَّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتب" وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابنُ عطية: "والباءُ متعلقةٌ بقولِهِ: "وَلْيَكْتُب"، وليْسَتْ متعلقةً بقولِهِ "كاتبٌ" لأنه كان يَلْزَمُ ألاَّ يكتبَ وثيقةً إلا العدلُ في نفسِهِ، وقد يكتُبها الصبيُّ والعبدُ".
الثالث: أن تكونَ الباءُ زائدةً، تقديرُهُ: فَلْيكتب بينكم كاتبُ العدلِ.
(3/180)
---(1/1035)
قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به أي: لا يأبَ الكتابَةَ.
و "كما عَلَّمه الله" يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقولِهِ: "أَنْ يَكْتُبَ" على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميِرِ المصدرِ على رأيِ سيبويه، والتقدير: أَنْ يكتبَ كتابةً مثلَ ما عَلَّمه الله، أو أَنْ يكتبَهُ أي: الكَتْبَ مثلَ ما عَلَّمه الله. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقوله "فَلْيَكْتُبْ" بعدَه.
قال الشيخ: "والظاهرُ تعلُّ الكافِ بقولِهِ: "فَلْيَكْتُب" وهو قَلِقٌ لأجلِ الفاءِ، ولأجلِ أنه لو كانَ متعلِّقاً بقولِهِ: "فَلْيكتب" لكان النظمُ فَلْيكتب كما عَلَّمه الله، ولا يُحتاج إلى تقديمِ ما هو متأخرٌ في المعنى".
وقال الزمخشري: - بعد أَنْ ذكرَ تعلُّقَهُ بِأَنْ يكتُبَ، و بـ"فليكتب" - "فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إنْ عَلَّقْتَه بأَنْ يكتب فقد نَهَى عن الامتناعِ من الكتابةِ المقيَّدةِ، ثم قيل له: فَلْيَكْتُب تلك الكتابةَ لا يَعْدِلُ عنها، وإنْ عَلَّقْته بقوله: "فَلْيكتب" فقد نَهَى عن الامتناعِ بالكتابة على سبيلِ الإِطلاق، ثم أَمَرَ بها مقيدةً" ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بقولِهِ: لا يَأْبَ، وتكونُ الكافُ حينئذٍ للتعليلِ. قالَ ابنُ عطية: "ويُحْتَمل أن يكونَ "كما" متعلقاً بما في قولِه "ولا يأْبَ" من المعنى أي: كما أَنْعَمَ الله عليه بعلمِ الكتابةِ فلا يَأْبَ هو، وَلْيُفْضِل كما أُفْضِلَ عليه". قال الشيخ: "وهو خلافُ الظاهِرِ، وتكونُ الكافُ في هذا القولِ للتعليلِ" قلت: وعلى القولِ بكونِها متعلقةً بقوله: "فَلْيكتب" يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليلِ أيضاً، أي: فلأجلِ ما عَلَّمه اللَّهُ فليكتبْ.
وقرأ العامةُ: "فَلْيكتب" بتسكينِ اللام كقولهم: "كَتْف" في كَتِف، إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصلِ. وقد قرأَ الحسن بكسرِها وهو الأصلُ.
(3/181)
---(1/1036)
قوله: {وَلْيُمْلِلِ} أمرٌ من أَمَلَّ يُمِلُّ، فلمَّا سَكَنَ الثاني جزماً جَرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغةُ الحجازِ، والإِدْغامُ وهو لغةُ تميم، وكذا إذا سَكَنَ وقفاً نحو: أملِلْ عليه وأَمِلَّ، وهذا مطَّرِدٌ في كلِّ مضاعفٍ وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: "مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ" في المائدةِ وعلَّة كلِّ لغةٍ.
وقُرىء هنا شاذاً: "وَلْيُمِلَّ" بالإِدغامِ، ويقال: أَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً، وأَمْلَى يُملي إملاءً. ومِنْ الأولى قولُه:
1122 - ألا يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعان * أَمَلَّ عليها بالبِلَى المَلَوانِ
ومن الثانيةِ قولُه تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}، ويقال: أَمْلَلْتُ وَأَمْلَيْتُ، فقيل: هما لغتانِ، وقيل: الياءُ بدلٌ من أحدِ المِثْلَيْنِ، وأصلُ المادتين: الإِعادةُ مرةً بعد أخرى.
و "الحقُّ" يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، و "عليه" خبرٌ مقدمٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتمادِهِ على الموصولِ، والموصولُ هو فاعِلُ "يملل" ومفعولُه محذوفٌ أي: وَلْيُمْلِلُ الديَّانُ الكتابَ ما عليه من الحقِّ، فَحَذَفَ المفعولين للعلمِ بهما. ويتعدَّى بـ"على" إلى أحدِاهما: فيُقال: أَمْلَلْتُ عليه كذا، ومنه الآيةُ الكريمة.
قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ} يجوزُ في "منه" أن يكونَ متعلقاً بيبخَسْ، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ في "منه" للحقِّ. والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ لأنها في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّمَتْ على النكرةِ نُصِبَتْ حالاً.
و "شيئاً": إمَّا مفعولٌ به وإمَّا مصدرٌ.
(3/182)
---(1/1037)
والبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقال منه: بَخَس زيدٌ عمراً حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسَاً، وأصلُهُ من: بَخَسْتُ عينه، فاستعيرَ منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: "عَوَرْتُ حَقَّه" استعارةً مِنْ عَوَرِ العَيْنِ. ويقال: بَخَصْتُه بالصادِ. والتباخُسُ في البَيْعِ: التناقُصُ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايِعَيْنِ يُنْقِصُ الآخرَ حَقَّه.
قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أَن وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: لا يستطيعُ الإِملالَ، و "هو" تأكيدٌ للضميرِ المستتر. وفائدةُ التوكيِدِ به رَفْعُ المجازِ الذي كان يحتمِلُه إسنادُ الفعلِ إلى الضميرِ، والتنصيصُ على أنه غيرُ مستطيعٍ بنفسِه، قاله الشيخ.
وقُرىء بإسكان هاء "هو" وهي قراءةٌ ضعيفة لأنَّ هذا الضميرَ كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلَها. ومَنْ سَكَّنَهَا أجرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أول / هذه السورة. قال الشيخ: "وهذا أشذُّ مِنْ قراءةِ مَنْ قَرَأَ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قلت: فَجَعَلَ هذه القراءةَ شاذةً وهذه أشدَّ منها، وليسَ بجيدٍ، فإنَّها قراءةٌ متواترةٌ قرأ بها نافع بن أبي نُعَيم قارىءُ أهلِ المدينة فيما رواه عنه قالُون، وهو أضبطُ رواتِهِ لحرفِهِ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.
والهاء في "وَليُّه" للذي عليه الحقُّ إذا كان متَّصفاً بإحدى الصفاتِ الثلاثِ. وقولُه "بالعَدْل" كما تقدَّم في نظيرِهِ فلا حاجةَ إلى إعادتِهِ.
وقوله: {وَاسْتَشْهِدُواْ} يجوزُ أن تكونَ السينُ على بابِها من الطلب أي: اطلُبوا شهيدَيْن، ويجوزُ أن يكونَ استفعلَ بمعنى أَفْعَلَ، نحو: اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعْجَل، واسْتيقن بمعنى أَيْقَنَ وفي قوله: "شهيدين" تنبيهٌ على أنه ينبغي أن يكونَ الشاهدُ ممَّن تتكرَّرُ منه الشهادةُ حيث أتى بصيغةِ المبالغة.
(3/183)
---(1/1038)
قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} يجوزُ أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، وتكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشهيدَيْن و "مِنْ" تبعيضيةٌ.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} جَوَّزُوا في "كان" هذه أَنْ تكونَ الناقصةَ وأَنْ تكونَ التامَةَ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانَتْ ناقصةً فالألفُ اسمُها، وهي عائدةٌ على الشهيدَيْن أي: فإن لم يكنِ الشاهدان رَجُلَيْن، والمعنى على هذا: إن أغْفَلَ ذلك صاحبُ الحق أو قصد أَنْ لا يُشْهِدَ رجلين لغرضٍ له، وإنْ كانَتْ تامةً فيكون "رجلين" نصباً على الحال المؤكِّدة كقولِهِ: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}، ويكونُ المعنى على هذا أنه لا يُعْدَل إلى ما ذَكَرَ إلا عند عدمِ الرجال. والألفُ في "يكونا" عائدةٌ على "شهيدين"، تفيدُ الرجوليةَ، والتقديرُ: فإنْ لم يُوجَدِ الشهديان رَجُلَيْن.
قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يجوزُ أَنْ يرتفعَ ما بعدَ الفاءِ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ تقديرُهُ: فرجلٌ وامرأتان يَكْفُون في الشهادةِ، أو مُجْزِئون ونحوُه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأٌ محذوفٌ تقديرُهُ: فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان وقيل: بل هو مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُهُ: فيكفي رجلٌ أي: شهادةُ رجلٍ، فَحُذِفَ المضافُ للعلمِ به، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وقيل: تقديرُه الفعلِ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحْوِج إلى حذفِ مضافٍ، وهو تقديرُ أبي القاسم الزمخشري. وقيل: هو مرفوعٌ بكان الناقصةِ، والتقديرُ: فليكن مِمَّنْ يشهدون رجلٌ وامرأتان. وقيل: بل بالتامةِ وهو أَوْلى، لأنَّ فيه حذفَ فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير الناقصة حذفُها مع خبرِها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: "ولو كان قد قُرىء بالنصبِ لكانَ التقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا" قلت: وهو كلامٌ حسنٌ.
(3/184)
---(1/1039)
وقرىء: "وامرأْتان" بسكون الهمزةِ التي هي لامُ الكلمة، وفيهما تخريجان، أحدُهما: أنه أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً، وليس قياسُ تخفيفِها ذلك، بل بَيْنَ بينَ، ولمَّا أبدلَهَا ألفاً هَمَزَهَا كمَا هَمزتِ العربُ نحو: العَأْلَم والخَأْتم وقوله:
1123 - وخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَأْلَمِ * .........................
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ ببيانٍ إن شاء الله تعالى في قراءة ابنِ ذكوان: {مِنسَأَتَهُ} في سبأ.
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجِهِ، ونَحا إلى القياسِ فقال: "ووجهُهُ أنه خَفَّفَ الهمزةَ - يعني بينَ بينَ - فَقَرُبَتْ من الألفِ، والمُقَرَّبَةُ من الألفِ في حكمِها؛ ولذلك لا يُبْتَدَأُ بها، فلمَّا صارَتْ كالألفِ قَلَبَها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم.
والثاني: أن يكونَ قد استثقلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشْبِهُ حرفَ العلةِ فَتُسْتثقل عليها الحركةُ فَسُكِّنَتْ لذلك. قال الشيخ: "ويمكن أَنْ سَكَّنها تخفيفاً لتولاي كثرةِ الحركاتِ، وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزة في قول الشاعر:
1124 - يَقُولون جَهْلاً ليس للشيخِ عَيِّلٌ * لَعَمْرِي لقد أَعْيَلْتُ وأْنَ رَقُوبُ
يريدُ: وأنا رَقوب، فَسَكَّنَ همزة "أنا" بعد الواوِ، وحَذَفَ ألف "أنا" وصلاً على القاعدةِ. قلت: قد نَصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: "ولا يجوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزةَ لأنَّ المفتوحَ لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفتحةِ" وهذا من أبي الفتح محمولٌ على الغلِبِ، وإلا فقد تقدَّمَ لنا آنفاً في قراءة الحسن "ما بَقِي من الربا" وقبلَ ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتى في الحروف الصحيحةِ السهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفْلَةَ؟
(3/185)
---(1/1040)
قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجل وامرأتين / . والثاني: انه في محلِّ نصبٍ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف الشيخُ الوجهَ الأولَ قال: "لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن "شهيدين"، واستضعفَ الثاني أبو البقاء قال: "للفصلِ الواقعِ بينهما". الوجهُ الثالث: أنه بَدَلٌ مِنْ قولِه "من رجالكم" بتكريرِ العاملِ، والتقديرُ: "واستشهِدوا شهيدَيْن مِمَّنْ تَرْضَوْن"، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفَه. وكان ينبغي أن يُضَعِّفَه بما ضَعَّفَ وجهَ الصفة، وهو للفصلِ بينهما، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان. وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا من بدلِ البعضِ إنْ أخذنا "رجالكم" على العمومِ، أو الكلِّ من الكِّ أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كِلا التقديرين فلا ينفي ذلك عَمَّا عداه، وأمّا في الوصفِ فمسلَّمٌ، لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ، الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهدوا، أي: استشهدوا مِمَّن تَرْضَوْن. قال الشيخ: "ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء متأخراً بعد الجميعِ".
قوله: {مِنَ الشُّهَدَآءِ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتقدير: مِمَّنْ تَرْضَوْنَه حالَ كونِه بعضَ الشهداء. ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ "مِنْ" بإعادةِ العاملِ، كما تقدَّم في نفسِ "مِمَّنْ تَرْضَوْن"، فيكوننُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القولين في كلٍّ منهما.
(3/186)
---(1/1041)
قوله: {أَن تَضِلَّ} قرأ حمزةُ بكسر "إنْ" على أنَّها شرطيةٌ، والباقون بفتحِها، على أنَّها المصدريةُ الناصبةٌ، فأمَّا القراءةُ الأولى فجوابُ الشرطِ فيها قولُه "فتذكِّرُ"، وذلك أنَّ حمزةَ رحمه الله يقرأ: "فَتُذَكِّرُ" بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ فَصَحَّ أن تكونَ الفاءُ وما فيه حَيِّزها جواباً للشرطِ، ورَفَعَ الفعلَ لأنه على إضمارِ مبتدأ أي: فهي تُذِكِّر، وعلى هذه القراءةِ فجملةُ الشرطِ والجزاءِ هل لها محلُّ من الإِعراب أم لا؟ فقال ابن عطيةَ: "إنَّ محلَّها لارفعُ صفةً لامرأتين"، وكان قد تقدَّم أنَّ قولَه: "مِمَّنْ تَرْضَوْن" صفةٌ لقولِه "فرجلٌ وامرأتان" قال الشيخ: "فصار نظيرَ "جاءني رجلٌ وامرأتان عقلاءُ حُبْلَيَان" وفي جوازِ مثلِ هذا التركيبِ نظرٌ، بل الذي تقتضيه الأقيسةُ تقديمُ "حُبْلَيَان" على "عقلاء"؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ "ممَّنْ تَرْضَوْن" بدلٌ من رجالكم، أو متعلِّقٌ باستشهدوا فيتعذَّرُ جَعْلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصلِ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي". قلت: وابن عطية لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سَبَقَه إليه الواحدي فإنه قال: "وموضعُ الشرطِ وجوابُه رفعٌ بكونِهما وصفاً للمذكورين وهما "امرأتان" في قوله: "فرجلٌ وامرأتان" لأنَّ الشرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَلُ بهما في قولِه {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ} والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأن قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ.
(3/187)
---(1/1042)
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فـ"أَنْ" فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافِها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فَحرَّكْنا الثانيةَ بالفتحةِ هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةً، لأنها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حَيَّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعدَ حذفٍ حرفِ الجر، وهي لامُ العلة، والتقديرُ: لأنْ تَضِلَّ، أو إرادةَ أَنْ تَضِلَّ.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق، إذ التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قالَه الواحدي، ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك: "فرجلٌ وامرأتان" إذ تقديرُ الأولِ: فَلْيَشْهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ.
(3/188)
---(1/1043)
وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو: كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك أبن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ. فكأنه قيل: إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: "أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدغمَه، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه" فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ / وللدفع إذا جاء العدوُ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ.
وقد ذهب الجرجاني في هذه الآيةِ إل أنَّ التقديرَ: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ، وأنشد قول عمروٍ:
1125 - .................. * فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا
أي: مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا" وهذا صحيحٌ لو اقتُصِر عليه مِنْ غيرِ أَنْ يُعْطَفَ عليه قولُه "فَتُذَكِّرَ" لأنه كان التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين مخافةَ أَنْ تضِلأَّ إحداهما، ولكنَّ عَطْفَ قوله: "فتذكِّر" يُفْسِده، إذ يَصِيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تذكر إحداهما الأخرى، وإذكارُ إحداهما الأخرى ليس مخوفاً منه، بل هو المقصودُ، قال أبو جعفر: "سمعتُ عليَّ بن سليمان يَحْكي عن أبي العباس أن التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ" قال أبو جعفر: "وهو غلطٌ إذ يصيرُ المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهُما الأخرى" انتهى.
(3/189)
---(1/1044)
وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة: "كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت" فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ "أَنْ"، قال: "ومثلُه من الكلامِ: "إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى" معناه: إنه ليعجبني أَن يُعْطَى لاسائلُ إن سَأَلَ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قَدَّموا السؤالَ على العَطِيَّة أصحبوه أَنْ المفتوحة لينكشِفَ المعنى"، فعنده "أنْ" في "أَنْ تَضِلَّ" للجزاءِ، إلاَّ أنه قُدِّم وفُتِح وأصلُ التأخيرُ.
وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ. قال الزجاج: "لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن". وقال الفارسي: "ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك "إنْ" الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألاَّ يتغيَّر عملها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ، ألا ترى لقولِك: "مررتُ بزيدٍ" ثم تقول: "بزيد مررت" فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ".
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "فَتُذِكِرَ" بتخفيفِ الكافِ ونصبِ الراءِ من أَذْكَرْتُه أي: جَعَلْتُه ذاكراً للشيءِ بعدَ نِسْيانِه، فإنَّ المرادَ بالضلالِ هنا النسيانُ كقولِه تعالى: {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ} وأنشدوا الفرزدق:
1126 - ولقد ضَلَلْتَ أباكَ يَدْعُو دارمِاً * كضلالِ ملتمسٍ طريقَ وِبارِ
(3/190)
---(1/1045)
فالهمزةُ في "أَذْكَرْتُه" للنقلِ والتعديةِ، والفعلُ قبلَها متعدٍّ لواحدٍ، فلا بُدَّ من آخرَ، وليسَ في الآية إلا مفعولٌ واحدٌ فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثاني، والتقديرُ فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى الشهادةَ بعد نِسْيانِها إن نَسِيَتْهَا، وهذا التفسيرُ والمشهورُ.
وقد شَذَّ بعضُهم فقال: "معنى فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى أي: فتجعلَها ذَكَراً، أي: تُصَيِّرُ حكمَها حكمَ الذَّكَرِ في قَبولِ الشهادةِ. وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: "فَتُذَكِّر إحداهما الأخرى بالتشديدِ فهو من طريقِ التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تَذْكُرين إذ شَهِدْنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ أو فلانة، ومَنْ قرأ "فَتُذْكِرَ" بالتخفيف فقال: إذا شَهِدَتِ المرأةُ ثم جاءَتِ الأخرى فَشَهِدَتْ معها فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر" ولم يَرْتَضِ هذا من أبي عمرو المفسرون وأهلُ اللسان، بل لم يُصَحِّحوا روايةَ ذلك عنه لمعرفتِهم بمكانتِه من العلمِ، ورَدُّوه على قائله من وجوهٍ منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلةَ الضلالِ المرادِ به النسيانُ بالإِذكار والتذكيرِ، ولا تناسُبَ في المقابلةِ بالمعنى المنقولِ عنه. ومنها: أنَّ النساءَ لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العَدَدِ لا بد معهنَّ مِنْ رجلٍ يَشْهَدُ معهم، فلو كان ذلك المعنى صحيحاً لذكَّرَتْها بنفسِها من غيرِ انضمامِ رجلٍ، هكذا ذَكَروا، وينبغي أَنْ يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأتينِ، وإلاَّ فقد نَجِدُ النساءَ يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انضمامِ رجلٍ إليهنَّ، ومنها: أنها لو صَيَّرَتْها ذَكَراً لكان ينبغي أَنْ يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقْتَصرُ به على ما فيه . . . وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركٌ الإِلزامِ / لأنه يُقال: وكذا إذا فَسَّرْتموه بالتذكير بعد النسيانِ لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيب به فهو جوابُهم أيضاً.
(3/191)
---(1/1046)
وقال الزمخشري: "ومِنْ بِدَع التفاسيرِ: "فَتُذَكِّرَ" فتجعلَ إحداهما الأخرى ذَكَرَاً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر" انتهى. ولم يَجْعَلْ هذا القولَ مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخْرى.
وأمَّا نصبُ الراءِ فنسقٌ على "أَنْ تَضِلَّ" لأنَّهما يَقْرآن: "أَنْ تَضِلَّ" بأَنْ الناصبةِ، وقرأ الباقون بتشديدِ الكافِ من "ذَكَّرْتُه" بمعنى جَعَلْتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أنَّ حمزةَ وحدَه هو الذي يَرْفع الراء.
وخَرَجَ من مجموعِ الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزة وحدَه: "إنْ تَضِلَّ فتذكَّرُ" بكسر "إنْ" وتشديدِ الكافِ ورفعِ الراء، وأبو عمرو وابنُ كثير بفتح "أنْ" وتخفيفِ الكافِ الراء، والباقون كذلك، غلا أنهم يُشَدِّدون الكافَ.
والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى، [نحو]: أَكْرَمْتُه وَكَرَّمته، وفَرَّحته وأَفْرحته. قالوا: والتشديدُ في هذا اللفظ أكثرُ استعمالاً من التخفيفِ، وعليه قولُه:
1127 - على أنني بعدَ ما قد مضى * ثلاثونَ للهَجْرِ حَوْلاً كميلا
يُذَكِّرُنِيك حنينُ العَجولِ * ونَوْحُ الحكامةِ تَدعُو هَدِيلا
وقرأ عيسى بن عمرو والجحدري: "تُضَلَّ" مبنياً للمفعول، وعن الجحدري أيضاً: "تُضِلَّ" بضمِ التاء وكسر الضاد من أَضَلَّ كذا أي: أضاعه، والمفعولُ محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد: "فَتَذْكُرُ" برفع الراء وتخفيف الكاف، وزيد بن أسلم: "فتُذاكِرُ" من المذاكرة.
(3/192)
---(1/1047)
وقوله: {إِحْدَاهُمَا} فاعل "والأخرى" مفعول، وهذا مِمَّا يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعرابِ والمعنى نحو: ضَرَب موسى عيسى. قال أبو البقاء: فـ"إحداهما" فاعلٌ، و "الأخرى" مفعول، ويَصِحُّ العكس، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النحويين في الإِعراب، لأنه إذا لم يظهر الإِعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ وَجَبَ تقديمُ الفاعل [فيما] يُخاف فيه اللَّبْسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ تقديمُ المفعولِ كقولك: "كسر العصا موسى"، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ لأنَّ النِّسْيَانِ والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله "فَتُذَكِّرَ" أنَّ التي تُذَكِّر هي الذاكرة والتي تُذَكَّرُ هي الناسية، كما علم من لفظ "كَسَر" مَنْ يَصِحُّ منه الكسرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل "إحداهما" فاعلاً، و "الأخرى" مفعولاً وأن تعكس" انتهى. ولَمَّا أَبْهَمَ الفاعلَ في قولِه: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أَبْهَمَ أيضاً في قوله: "فَتُذَكِّر إحداهما" لأنَّ كلاً من المرأتين يجوزُ عليها ما يجوزُ على صاحبتِها من الإِضلالِ والإِذكارِ، والمعنى: إنْ ضَلَّتْ هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنَى العموم
(3/193)
---(1/1048)
قال أبو البقاء: "فإنْ قيل: لِمَ لَمْ يَقُلْ: "فتذكِّرها الأخرى"؟ قيل فيه وجهان، احدُهما: أنه أعاد الظاهرَ لِيَدُّلَّ على الإبهامِ في الذِّكْر والنسيان، ولو أَضْمَرَ لَتَعَيَّن عودُه على المذكور. والثاني: أني وَضَع الظاهرَ مَوْضِع المضمرِ، تقديرُه: "فتذكِّرها" وهذا يَدُلَّ على أن "إحداهما" الثانية مفعولٌ مقدم ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجهِ، لأنَّ المضمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل" تضِلَّ" فلو جعل الضمير لذلك المظهَرِ لكانت الناسيةُ هي المُذَكِّرَة، وذا مُحَالٌ" قلت: وقد يتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ الوجهينِ راجعانِ لوجهٍ واحدٍ قبلَ التأمُّلِ، لأنَّ قولَه: "أعدَ الظاهرَ" قريبٌ من قوله: "وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمرِ".
و "إحدى" تأنيثُ "الواحد" قال الفارسيّ: "أَنَّثُوه على غير بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل هو تأنيثُ "أَحَد" ولذلك يقابُلونها فيه في: أحد عشرَ وإحدى عَشَرَة [و] واحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين. وتُجْمَعُ "إحدى" على "إحَد" نحو: كِسْرَة وكِسَر. قال أبو العباس: "جَعَلَوا الألفَ في الإِحدى بمنزلةِ التاء في "الكِسْرة" فاقوال في جَمْعِها: إحَد كما قالوا: كَسْرة وكِسَر، كما جَعَلُوه مثلَها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلى، فكما جَعَلوا هذه كظُلْمة وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر" قال: "وكما جعلوا الألفَ المقصورةَ بمنزلةِ التاءِ فيما ذُكِر جعلوا الممدودة أيضاً بمنزلتِها في قولِهم "قاصِعَاء وقواصِع" ودامّا ودوامّ" يعني أن فاعِلَة نحو: ضاربِبَة تُجمع على ضوارب، كذا فاعِلاء نحو: قاصِعاء وراهِطاء تُجْمَع على فَواعِل، وأنشد ابنُ الأعرابي على إحدى وإحَد قولَ الشاعر:
1128 - حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحَدِ * ليثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدي
قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مِثْلَ له، وأنشد البيت.(1/1049)
(3/194)
---
واعلَمْ أنَّ "إحدى" لا تُسْتعمل إلا مضافةً إلى غيرِها، فيقال: إحدى الإِحَدِ وإحداهما، ولا يقال: جاءَتْني إحدى، ولا رأيت إحدى، وهذا بخلافِ مذكَّره.
و "الأُخْرى" تأنيث "آخَر" الذي هو أَفْعَلُ التفضيلِ، وتكونُ بمعنى آخِرة، كقولِه تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ}، يُجْمَعُ كلُّ منهما على "أُخَر"، ولكنَّ جمعَ الأولى ممتنعٌ من الصرفِ، وفي علتِه خلافٌ، وجَمْعُ الثانيةِ منصرفٌ، وبينهما فرقٌ في المعنى، وهذا كلُّه سأوضِّحه إن شاء الله تعالى في الأعرافِ فإنه أَلْيَقُ به.
قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ} مفعولُه محذوفٌ لفهمِ المعنى، أي: لا يَأْبَوْن إقامةَ الشهادةِ، وقيل: المحذوفُ مجرورٌ لأنَّ "أبى" بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديتَه أي مِنْ إقامةِ الشهادة.
و {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ لـ"يَأْبَ" أي: لا يَمْتنعون في وقتِ دَعْوَتهم لأدائِها، أو لإِقامتها، ويجوزُ أن تكونَ متمحضةً للظرف، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً والجوابُ محذوفٌ أي: إذا دُعوا فلا يَأْبُوا.
قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به والناصبُ له "تَسْأَموا" لأنه يتعدَّى بنفسِه قال:
1129 - سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ * ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل: بل يتعدَّى بحرفِ الجر، والأصلُ: مِنْ أَنْ تكتبُوه، فَحَذَفَ حرفَ الجرِّ للعلمِ به فَيَجْرى الخلافُ المشهور في "أَنْ" بعدَ حذفِه، ويَدُلُّ على تعدِّيه بـ"مِنْ" قوله:
1130 - ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها * وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيدُ
والسَّأَم والسَّآمَةُ: المَلَلُ من الشيءَ والضَّجَرُ منه.
والهاءُ في "تَكْتبوه" يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية، وأن تكونَ للحقّ في قولِه: "فإنْ كان الذي عليه الحقُّ" وهو أقربُ مذكورٍ، والمرادُ به "الدَّيْن" وقيل: يعودُ على الكتابِ المفهومِ من "يَكْتبوه" قاله الزمخشري.
(3/195)
---(1/1050)
و "صيراً أو كبيراً" حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ "كان" مضمرةً، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه، وليس من مواضعِ إضماره.
وقرأ السلمي: {ولايَسْأَموا أَنْ يَكْتبوه} بالياءِ من تحتُ فيهما. والفاعلُ على هذه القراءةِ ضميرُ الشهداءِ، ويجوزُ أن يكونَ من بابِ الالتفاتِ، فيعودُ: إمَّا على المتعامِلِين وإمَّا على الكُتَّاب.
قوله: {إِلَى أَجَلِهِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: أَنْ تكتبوه مستقراً في الذمَّةِ إلى أجلِ حُلولِه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبُوه، قاله أبو البقاء. وهذا قد ردَّه الشيخ فقال: "هو متعلقٌ بمحذوفٍ لا بـ"تكتبوه" لعدمِ استمرارِ الكتابةِ إلى أجلِ الدَّيْن إذ ينقضي في زمنٍ يسير، فليس نظيرَ: "سرت إلى الكوفةِ. والثالث: أن يتعلَّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاءِ، قاله أبو البقاء.
قوله: {ذَلِكُمْ} مُشَارٌ به لأقربِ مذكورٍ وهو الكَتْب. وقيل إليه وإلى الإِشهاد، وقيل: إلى جميع ما ذُكِر وهو أحسنُ. و "أَقْسَطُ" قيل: هو من أَقْسَطَ إذا عَدَلَ، ولا يكونُ من قسَطَ، لأنَّ قَسَط بمعنى جار، وأَقْسَط بمعنى عَدَل، فتكونُ الهمزةُ للسَّلْبِ، إلا أنه يَلْزَمُ بناءُ أَفْعَل من الرباعي، وهو شاذٌّ.
(3/196)
---(1/1051)
قال الزمخشري: "إنْ قلتَ مِمَّ أَفْعلا التفضيلِ - أعني أَقْسَط وأَقْوم؟ - قلت: يجوزُ على مذهبِ سيبويه أَنْ يكونا مَبْنِيَّين مِنْ "أقسط" و "أقام" وأَنْ يكونَ "أَقْسَط" من قاسِط على طريقةِ النسبِ بمعنى: ذي قِسْطٍ؛ و "أقوم" من قويم". قال الشيخ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعلَ التفضيلِ يُبْنَى من "أَفْعل"، إنما يُؤْخَذُ ذلك بالاستدلالِ، فإنه نصَّ في أوائلِ كتابِه على أنَّ "أَفْعَل" للتعجبِ يكونُ من فَعَل وفِعِل وأَفْعَل، وظاهرُ هذا أن "أَفْعَل" للتعجب يُبنى منه أَفْعل للتفضيل، فما اقتاسَ في التعجب اقتاسَ في التفضيلِ، وما شَذَّ فيه شَذَّ فيه شَذَّ فيه. وقد اختلف النحويون في بناءِ التعجبِ وأَفْعَل التفضيل من أَفْعَل على ثلاثةِ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنعُ مطلقاً، والتفضيلُ بين أَنْ تكونَ الهمزةُ للنقلِ فيمتنِعَ، أو لا فيجوزَ، وعليه يُؤَوَّل كلامُ سيببويه، حيث قال: "إنه يبنى من أَفْعَل" أي الذي همزتُه لغيرِ التعدية. ومَنْ مَنَعَ مطلقاً قال: "لم يَقُلْ سيبويه وأَفْعَلَ بصيغة الماضي" إنما قالها أَفْعِل بصيغةِ الأمر، فالتبس على السامعِ، ويعني أنه يكونُ فعلُ التعجب على أَفْعِلْ، بناؤُه من فَعَل وفَعِل وفعُل، وعلى أفعِل. ولهذه المذاهبِ موضوعٌ هو أليقُ بالكلامِ عليها.
ونَقَل ابن عطية أنه مأخوذٌ من "قَسُط" بضمِّ السينِ نحو: "أَكْرَمَ" من "كَرُم". وقيل: هو من القِسْط بالكسر وهو العَدْلُ، وهو مصدرٌ لم يُشْتَقَّ منه فِعْلٌ، وليس من الإِقساط؛ لأنَّ أفعَل لا يُبنى من "الإِفعال". وهذا الذي قلته كلَّه بناءً منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجَوْر والرباعيَّ بمعنى العَدْل.
(3/197)
---(1/1052)
ويُحكى أن سعيد بن جبير لَمَّا سأله الظالمُ [الحجَّاجُ] بن يوسف: ما تقول فِيَّ؟ فقال: "أقولُ إنك قاسِطٌ عادِلٌ"، فلم يَفْطِن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وأمَّا إذا جَعَللْناه مشتركاً بين عَدَلَ وبين جارَ فالأمرُ واضحٌ قال ابن القطاع: "قَسَط قُسوطاً وقِسْطاً: جارَ وعَدَل ضِدٌّ". وحكى ابن السِّيد في كتابِ "الاقتضاب" له عن ابن السكيت في كتاب "الأضداد" عن أبي عبيدة: "قَسَط: جارَ، وقَسَط: عَدَل، وأَقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير. وقال أبو القاسم الراغب الأصبهاني: "القِسْطُ أن يأخذَ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساطُ أن يُعْطِي قسطَ غيرِه، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: قَسَط إذا جار، وأَقْسَط إذا عَدَل" وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ في سورة النساءِ إن شاء الله تعالى.
و "عند الله" / ظرفٌ منصوبٌ بـ"أَقْسَط" أي: في حكمِه. وقوله "وَأَقْوَمُ" إنما صَحَّت الواوُ فيه لأنه أفعلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيلِ يَصِحُّ حملاً على فِعْل التعجب، وصَحَّ فعلُ التعجبِ لجريانه مَجْرى الأسماء لجمودِه وعدمِ تصرُّفِه.
و "أَقْوَمُ" يجوزُ أن يكونَ من "أقام" الراعي المتعدِّي؛ لكنه حَذَف الهمزةَ الزائدة، ثم أتى بهمزةِ أَفْعل كقولِه تعالى: {أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى} فيكونُ المعنى: أَثْبَتُ لإِقامتِكم الشهادةَ، ويجوزُ أن يكونَ من "قام" اللام ويكونُ المعنى: ذلك أثبتُ لقيامِ الشهادةِ، وقامَتِ الشهادةُ: ثَبَتَتْ، قاله أبو البقاء.
قوله: "للشهادةِ متعلِّق بـ"أَقْوَم"، وهو مفعولٌ في المعنى، واللامُ زائدةٌ ولا يجوزُ حَذْفَها ونصبُ مجرورِها بعد أفعلِ التفضيلِ إلا ضرورةً كقوله:
1131 - ....................... * وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
(3/198)
---(1/1053)
وقد قيلَ: إن "القوانسَ" منصوبُ بمضمرٍ يَدُلُّ عليه أفعلُ التفضيلِ، هذا معنى كلام الشيخ، وهو ماشٍ على أنَّ "أَقْوَم" من أقام المتعدي، وأما إذا جعلته من "قَام" بمعنى ثَبَت فاللامُ غير زائدة.
قوله: {لِلشَّهَادَةِ} أي: أقربُ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، فقيل: هو اللامُ أي: أَدْنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو "إلى" وقيل: هو "من" أي: أَدْنى إلى أن لا ترتابوا وأدنوى مِنْ أن لا ترتابوا. وفي تقديرهم "مِنْ" نظرٌ، إذ المعنى لا يساعِدُ عليه. و "ترْتابوا": تَفْتَعِلُوا من الرِّيبة، والصل: "تَرْتَيِبوا"، فَقُلِبَتِ الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها. والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أَقْسطُ وأقومُ وأدنى لكذا مِنْ عدمِ الكَتْب، وحَسَّن الحذفَ كونُ افعلَ خبراً للمبتدأ بخلافِ كونِه صفةً أو حالاً. وقرأ السلمين: {أَنْ لا يرتابوا] بياء الغيبة كقراءةِ: {ولا يَسْأموا أَنْ يكتبوه} وتقدَّم توجيهُ ذلك.
قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصلٌ قال أبو البقاء: "والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ لأنه استثناءٌ من الجنس لأنه أمرٌ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ، واستثنى منها التجارة الحاضرةَ، والتقديرُ: إلا في حالِ حضورِ التجارةِ". والثاني: انه منقطعٌ، قال مكي ابن أبي طالب: "و "أَنْ" في موضعِ نصبٍ على الاستثناءِ المنقطعِ" قلت: وهذا هو الظاهرُ، كأنه قيل: لكنّ التجارةَ الحاضرةَ فإنه يجوزُ عدمُ الاستشهادِ والكَتْبِ فيها.
(3/199)
---(1/1054)
وقرأ عاصم هنا "تجارةً" بالنصب، وكذلك "حاضرةً" لأنها صفتُها، وفي النساء وافقه الأخوان، والباقون قرؤوا بالرفعِ فيهما. فالرفعُ فيه وجهان، أحدُهما: أنها التامةُ أي: إلا أَنْ تَحْدُثَ أو تقعَ تجارةً، وغلى هذا فتكونُ "تُديرونها" في محلِّ رفعٍ صفةً لتجارةً أيضاً، وجاء هنا على الفصيحِ، حيث قَدَّم الوصفَ الصريحَ على المؤول. والثاني: ان تكونَ الناقصةَ، واسمُها "تجارةٌ" والخبرُ هو الجملةُ من قوله: "تُديرونها" كأنه قيل: إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مدارةً، وسَوَّغ مجيءَ اسمِ كان نكرةً وصفُه، وهذا مذهبُ الفراء وتابعه آخرون.
وأمَّا قراءةُ عاصم فاسمُها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديرُه: إلا أَنْ تكونَ المعاملةُ أو المبايَعَةُ أو التجارةُ. وقَدَّره الزجاج إلاَّ أَنْ تكونَ المداينةُ، وهو أحسنُ. وقال الفارسي: "ولا يجوزُ أن يكونَ التداينُ اسمَ كان لأنَّ التداينَ معنىً، والتجارةُ الحاضرةُ يُراد بها العينُ، وحكمُ الاسمِ أن يكونَ الخبرَ في المعنى، والتدايُن حَقٌّ في ذمةِ المستدينِ، للمدين المطالبةُ به، وإذا كان كذلك لم يَجُزْ أن يكونَ اسمَ كان لاختلافِ التداينِ والتجارةِ الحاضرةِ" وهذا الذي قاله الافرسي لا يَظْهَرُ رداً على أبي إسحاق، لأن التجارةَ أيضاً مصدرٌ، فهي معنىً من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وبين الفارسي والزجاج محاورةٌ لأمرٍ ما.
وقال الفارسيّ أيضاً: "ولا يجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ اسمَها "الحقُّ" الذي في قوله: "فإن كان الذي عليه الحق" للمعنى الذي ذكرنا في التداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دَيْنٌ، وإذا لم يَجُزْ هذا لم يَخْلُ اسمُ كان من أحدِ شيئين، أحدُهما: أنَّ هذه الأشياءَ التي اقتضَتْ من الإِهادِ والارتهانِ قد عُلِم من فحواها التَبايعُ، فأضمرَ التبايعَ لدلالةِ الحالِ عليه كما أضمرَ لدلالةِ الحال فيما حكى سيبويه: "إذا كان غداً فأتني" ويُنْشَدُ على هذا":
(3/200)
---(1/1055)
1132 - أعينيَّ هَلاَّ تبكِيان عِفاقا * إذا كان طَعْناً بينهم وعِناقا
أي: إذا كان الأمر. والثاني: أن يكوَ أضمرَ التجارة كأنه قيل: إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً، ومثلُه ما أنشدَه الفراء:
1133 - فَدىً لبني ذُهْلِ بن شيبانَ ناقتي * إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشري:
1134 - بني أسدٍ هل تَعْلَمُوا بلاءنا * إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنَعا
أي: إذا كان اليومُ يوماً. و "بينكم" ظرفٌ لتُديرونها.
قوله: {فَلَيْسَ} قال أبو البقاء: "دَخَلَتِ الفاءُ في "فليس" إيذاناً بتعلُّق ما بعدَها بما قبلَها" قلت: هي عاطفةٌ هذه الجملةَ من قولِه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسببيةُ فيها واضحةُ أي: بسببٍ عن ذلك رُفِع الجناحُ في عَدَمِ الكتابة.
وقوله: {أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} أي: "في أن لا"، فَحُذفَ حرفُ الجر فبقي في موضعِ "أَنْ" الوجهان:
قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُم} يجوزُ أن / تكونَ شرطيةً، وجوابُها: إمَّا متقدم عند قومٍ، وإمَّا محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه تقديرُه: إذا تبايَعْتُم فَأَشْهِدوا، ويجوزُ أن تكونَ ظرفاً محضاً أي: افعلوا الشهادةَ وقتَ التبايعِ.
(3/201)
---(1/1056)
قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ} العامة على فتح الراء جزماً، و "لا" ناهيةٌ، وفُتِح الفعلُ لما تقدم في قراءةِ حممزةَ: "إن تَضِلَّ". ثم هذا الفعلُ يحتملُ أن يكونَ مبنياً للفاعلِ، والأًلُ: "يضارِرْ" بكسر الراءِ الأولى فيكونُ "كاتب" و "شهيد" فاعلَيْن نُهِيا عن مُضَارَّةِ المكتوبِ له والمشهودِ له، نُهِيَ الكاتبُ عن زيادةِ حرفٍ يُبْطل به حقاً أو نقصانِه، ونُهِيَ الشاهدُ [عن] كتمِ الشهادةِ، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، ولا شك أنَّ هذا من الكاتبِ والشاهدِ فِسْقٌ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ إبرامُ الكاتبِ والشهيدِ والإِلحاحُ عليهما فسقاً. ونُقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس هذا المعنى. ونَقَل الداني عن عمر وابن عباس ومجاهد وابن أبي إسحاق أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالكسرِ حين فَكُّوا.
ويُحْتمل أن يكونَ افعلُ فيها مبنياً للمفعول، والمعنى: أَنَّ أحداً لا يُضارِرُ الكاتبَ ولا الشاهدِ، ورُجِّح هذا بأنه لو كان النهيُّ متوجِّهاً نحو الكاتبِ والشهيدِ لقال: وإنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما، ولأنَّ السياقَ من أولِ الآيات إنما هو للمكتوبِ له والمشهودِ له. ونُقِل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومَنْ ذُكِر معه. وذكر الداني أيضاً عنهم أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالفتح. قلت: ولا غَرْوَ في هذا إذ الآيةُ عندهم مُحْتَمِلةٌ للوجهين فَسَّروا وقرؤوا بهذه المعنى تارةً وبالآخرِ أخرى.
وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد: "ولا يُضارّ" بتشديد الراءِ ساكنةً وَصْلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمعُ بين ثلاثِ سواكن، لكنه لمَّا كانت الألفُ حرفَ مدٍّ قام مَدُّها مقامَ حركةٍ، والتقاءُ الساكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف في ذلك.
(3/202)
---(1/1057)
وقرأ عكرمة /: "ولا يُضارِرْ كاتباً ولا شهيداً" بالفكِّ وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْبِ "كاتباً" و "شهيداً" على المفعولِ به أي: لا يضارِرْ صاحبُ حقٍ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجْبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكتابة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.
وقرأ ابن محيصن: "ولا يُضارُّ" برفع الراء، وهو نفيٌ فيكونُ الخبر بمعنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقْ} وقرأ عكرمة في رواية مُقْسِم: "ولا يُضارِّ" بكسر الراءِ مشددةً على اصلِ التقاءِ الساكنين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه الأشياءِ عند قولِه {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} أي: تفعلوا شيئاً مِمَّا نَهَى اللهُ عنه، فَحُذِف المفعولُ به للعلمِ به. والضميرُ في "فإنه" يعودُ على الامتناع أو الإِضرار. و "بكم" متعلقٌ بمحذوفٍن فقدَّرَه أبو البقاء: "لاحِقٌ بكم" وينبغي أن يُقَدَّر كوناً مطلقاً، لأنه صفةٌ لـ"فسوق" أي: فسوقٌ مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاصقٌ بكم.
قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} يجوزُ في هذهِ الجملةِ الاستئنافُ - وهو الظاهرُ - ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الفاعلِ في "اتَّقوا" قال أبو البقاء: "تقديره: واتقوا اللهَ مضموناً لكم التعليمُ أَو الهدايةُ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مقدَّرَة". قلت: وفي هذينِ الوجهينِ نظرٌ لأنَّ المضارعَ المثبتَ لا تباشِرُه واوُ الحال، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذَلك يُؤَوَّلُ، لكنْ لا ضرورةَ تَدْعو إليه ههنا.
* { وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
(3/203)
---(1/1058)
قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً}: العامةُ على "كاتباً" اسمَ فاعل. وقرأ أُبَيّ ومجاهد وأبو العالية: "كِتاباً"، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أي ذا كتابة. والثاني: أنه جَمْع كاتبٍ، كصاحب وصِحاب. ونقل الزمخشري هذه القراءة عن أُبَيّ وابن عباس فقط، وقال: "وقال ابن عباس: أرأيتَ إن وجدتَ الكاتبَ ولم تَجِدْ الصحيفةَ والدَّواة". وقرأ ابن عباس والضحاك: "كُتَّاباً" على الجمع، اعتباراً بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: "كُتُباً" جمع كتاب، اعتباراً بالنوازلِ، قلت: قولُ ابن عباس: "أرأيتَ إنْ وجدت الكاتب الخ" ترجِيحٌ للقراءةِ المرويَّةِ عنه واستبعادٌ لقراءةِ غيرِه / "كاتباً"، يعني أن المرادَ الكتبُ لا الكاتبُ.
قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي [عن] ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: فرُهُن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالوثيقةُ أيو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "فَرُهُنٌّ" بضم الراء والهاء، والباقون "فَرِهَانٌ" بكسر الراء وألأف بعد الهاء، رُوي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكينُ الهاءِ في رواية.
فأمَّا قراءةُ ابن كثير فجمع رَهْن، وفَعل يُجْمع على فُعل نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: "وسَقْف وسُقُف، وأَسَد وأُسُد، وهو [وهم]" ولكنهم قالوا: إن فُعُلاً جَمعُ فَعْل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن، ولَحْد القبر ولُحُد، وقَلْب النخلة وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ قومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ وخيلٌ وُرُدٌ، وسهم حَشْر وسهام حُشُر. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءتهِ قولَ قعنب:
1135 - بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ * وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ
(3/204)
---(1/1059)
وقال أبو عمرو: "وإنما قَرَأت فَرُهُن للفصلِ بين الرهانِ في الخيلِ وبين جمع "رَهْن" في غيرها" ومعنى هذا الكلام أنما اخترتُ هذه القراءةَ على قراءة "رهان"، لأنه لا يجوزُ له أَنْ يفعلَ ذلك كما ذَكَر دونَ اتِّباع روايةٍ.
واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال: "وهذه القراءة وافَقَت المصحفَ، وما وافقَ المصحفَ وصَحَّ معناه، وقَرَأت به القُرَّاء فهو المختارُ". قلت: إن الرسم الكريم "فرهن" دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزجاج يقول: "إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ"، وحُكي عن أبي عمرو أنه قال: "لا أعرفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غير". وقال يونس: "الرَّهْنُ والرِّهان عربيان، والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ" وأنشدوا أيضاً على رَهْن ورُهُن قوله - البيت -:
1136 - آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا * رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا
وقيل: إنَّ رُهُنا جمعُ رِهان، ورِهان جمعُ رَهْن، فهو جَمْعُ الجمع، كما قالوا في ثِمار جمعَ ثَمَر، وثُمُر جَمعُ ثِمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جَمْعَ الجمعِ غيرُ مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهيرِ أتباعه.
وأمّضا قراءةُ الباقين "رِهانِ فرِهان جمعُ "رَهْن" وفَعْل وفِعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب / وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، ومَنْ سَكَّن ضمةَ الهاءِ في "رُهُن" فللتخفيفِ وهي لغةٌ، يقولون: سُقْف في سُقُف جمعَ سَقْف.
والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ، يقال: رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي: دفعتُه إليه رَهْناً عنده، قال:
1137 - يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي بَنِيه * وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ
وأرهنْتُ زيداً ثوباً أي: دفعتُه إليه ليرهنَه، فَفرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَل. وعند الفراء رَهَنْتُه وأَرْهَنْتُه بمعنى، واحتجَّ بقولِ همام السلولي:
1138 - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ * نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا
(3/205)
---(1/1060)
وأنكر الأصمعيُّ هذه الروايةَ وقال: "إنما الروايةُ: وأَرْهنُهُم مالكا"، والواوُللحالِ كقولِهِم: "قَمْتُ وأصُكُّ عينَه" وهو على إضمارِ مبتدأ.
وقيل: أرْهْنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتى أَخَذَها بكثيرِ الثمنِ ومنه قولُه:
1139 - يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً * عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ
ويقال: رَهَنْتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه "أَرْهَنْتُ" وأنشدوا
.................. * .........................
ثم أُطْلق الرَّهْنُ على المرهونِ من بابِ إطلاقِ المصدرِ على اسمِ المفعول نحو قولِه تعالى: {هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ}، و "ردهَمٌ ضَرْبُ الأمير"، فإذا قلت: "رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً" فرَهْناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت "رهنْتُ زيداً رَهْناً" فهو هنا مفعولٌ به لأنَّ المرادَ به المرهونُ، ويُحتمل أن يكونَ هنا "رَهْناً" مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يَذْكرِ المفعولَ الثانيَ اقتصاراً كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} و "رَهْن" مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن جمعِ قلَّته، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس، فاستُغْنِيَ برَهْن ورِهان عن أَرْهُن.
وأصلُ الرَّهْنِ: الثبوتُ والاستقرارُ، يقال: رَهَنَ الشيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونِعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:
1140 - لا يَسْتَفيقون منها وَهْي راهِنةٌ * إلا بهاتِ وإنْ عَلُّو وإنْ نَهِلوا
ويقال: "طعام راهن" أي: مقيم دائم، قال:
1141 - الخبزُ واللحمُ لهم راهِن * ......................
أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ "رَهْناً" لدوامهِ واستقرارهِ عند المُرْتَهِنِ.
(3/206)
---(1/1061)
وقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي: "وإنْ كنتم ولم تَجِدوا" فتكونُ في محلِّ جزمِ لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً. والثاني: ان تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان، أي: وإنْ كنتم لم تَجِدُوا [كاتباً} والثالث: أَنْ تكونَ الواوُ للحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلِّ نصب.
قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبَيّ فيما نَقَلَهعنه الزمخشري "أُومِنَ" مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: "أي أَمِنَه الناس ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء" ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء". قلت: وعلامَ تنتصبُ" بعضاً؟ والظاهرُ نصبُه / بإسقاط الخافض على حذفِ مضافٍ أي: فإن أومِنَ بعضُكم على متاعِ بعضٍ أو على دَيْنِ بعض.
قوله: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} إذا وُقِفَ على "الذي" وابتُديء بما بعدها قيل: "اوتُمِنَ" بهمزةٍ مضمومة بعدَها واو ساكنة، وذلك لأنَّ أصلَه أُأْتُمِنَ، مثل اقْتُدِرَ بهمزتين: الأولى للوصلِ والثانيةُ فاءُ الكلمة، ووقعَتِ الثانيةُ ساكنةً بعد أخرى مثلِها مضمومةً وجب قَلْبُ الثانيةُ لمجانِسِ حركةِ الأولى فقلت: أُوْتُمِنَ. فأمَّا في الدَّرْج فتذهبُ همزةُ الوصلِ فتعود الهمزةُ إلى حالِها لزوالِ موجبِ قلبِها واواً بل تُقْلَبُ ياءً صريحةً في الوصلِ في رواية ورش والسوسي.
(3/207)
---(1/1062)
ورُوي عن عاصم: "الذي اوتُمِن" برفعِ الألفِ ويُشيرِ بالضمة إلى الهمزة، قال ابن مجاهد: "وهذه الترجمةُ غلط". ورَوى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضمَّ، وفي الإِشارة والإِشمامِ المذكورَيْن نظرٌ. وقرأ عاصم أيضاً في شاذِّة: "الَّذِتُّمِنَ" بإدغامِ الياء المبدلةِ من الهمةِ في تاء الافتعال، قال الزمخشري: "قياساً على "اتَّسر" في في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيحٍ لأنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ فهي في حكمِ الهمزةِ، واتَّزر عاميُّ، وكذلك "رُيَّا" في "رُؤْيا" قال الشيخ: "وما ذكر الزمخشري فيه نه ليس بصحيح وأن "اتَّزر" عامِّي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصلَ له في رديئة، وكذلك "رُيَّا" في رُؤْيا، فهذا التشبيهُ: إمَّا أن يعودَ على قولِه: "واتَّزر عاميٌّ" فيكونُ إدغام "رُيَّا" عامياً، وإمَّا أَنْ يعودَ إلى قولِه "فليس بصحيحٍ" أي: وكذلك إدْغَامُ "رُيَّا" ليس بصحيحٍ، وقد حكَى الكسائي الإِدغمَ في "رُيَّا".
وقولُه: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشيء المُؤْتَمَنِ عليه فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقولِه: "فليؤدِّ"، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلِها، وتكونُ على حَذْفِ مضاف، أي: فليؤدِّ دَينَ أمانتهِ. ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبةٌ على مصدرِ ائتُمِنَ. والضميرُ في "أمانتَه" يُحْتَمل أَنْ يعودَ على صاحبِ الحقِّ، وأَنْ يعودَ على الذي ائتُمِن.
(3/208)
---(1/1063)
قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشأنِ والجملةُ بعدَه، مفسِّرٌ له. والثانيك أنه ضميرُ "مَنْ" في قولِه: "ومَنْ يَكتُمْها" وهذا هو الظاهرُ. وأمَّا "آثمٌ قلبُه" ففيه أوجهٌ: أظهرُها: أنَّ الضميرَ في "إنه" ضميرُ "مَنْ" و "آثمٌ" خبرُ إنَّ، و "قلبُه" فاعلٌ بآثم، نحو قولِك: زيدٌ إنه قائمٌ أبوه، وعَمَلُ اسمِ الفاعلِ هنا واضحٌ لوجودِ شروطِ الإِعمال. ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأن، لأنَّ ضميرَ الشأنَ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعلِه عند البصريين مفردٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكونَ "آثمٌ" خبراً مقدماً، و "قلبُه" مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبرَ "إنَّ" ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُه، وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيين؛ لأنه لا يعودُ عندَهم الضميرُ المرفوعُ على متأخرٍ لفظاً، و "آثمٌ" قد تَحَمَّل ضميراً لأنه وَقَع خبراً، وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن وأَنْ تكونَ ضميرَ "مَنْ".
والثالث: أن يكونَ "آثم" خبرَ إنَّ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في "إنه"، و "قلبُه" بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كل.
الرابع: أن يكونَ "آثم" مبتدأً، و "قلبُه" فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ إنَّ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريين، لأنه لا يعملُ عندَهم اسمُ الفاعل إلا إذا اعمد على نفيٍ أو استفهام نحو: ما قائمٌ أبواك، وهل قائمٌ أخواك، وما قائمٌ قومك، وهل ضاربٌ إخوتك. وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين والأخفشِ من البصريين، إذ يجيزان: قائمٌ الزيدان وقائمٌ الزيدون، فكذلك في الآية الكريمة.
(3/209)
---(1/1064)
وقرأ ابنُ أبي عبلة: "قلبَه" بالنصب، نسبَها إليه ابن عطية. وفي نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من اسم "إنَّ" بدلُ بعض من كل، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر - وهو آثمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ نحو: زيد منطلق العاقل، مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ، بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه / فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبْدَل منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيهِ بالمفعولِ به، كقولك: "مررت برجلٍ حسن وجهُه" وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ، وهو ثلاثةُ مذاهبَ: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقاً، أعني نظماً ونثراً. الثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ المبرد. الثالث: مَنْعُه من النثر وجوازُه في الشعرِ، وهو مذهبُ سيبويه، وأنشدَ الكسائي على ذلك:
1142 - أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِها * مُدارةَ الأخفْافِ مُجْمَرَّاتِها
غُلْبَ الرِّقابِ وعَفَرْ نِياتِها كُومَ الذُّرى وادِقَةً سُرَّاتِها
ووجه ضعفِه عند سيبويه في النثر تكرُّر الضمير.
والثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكي وغيرُه، وضَعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} وأنشدوا:
1143 - إلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ * لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ
وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشري - "أَثِم قلبَه" جعل "أثم" فعلاً ماضياً مشدد العين، وفاعلُه مستترٌ فيه، "قلبه" مفعول به أي: جعل قلبَه آثماً أي: أثم هو، لأنه عَبَّر بالقلب عن ذاتِه كلها لأنه أشرفُ عضوٍ فيها.
(3/210)
---(1/1065)
وقرأ أبو عبد الرحمن: "ولا يَكْتُموا" بياء الغَيْبَةِ، لأنَّ قبلَه غيباً وهم من ذَكَر في قولِه: {كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}، وهو وإنْ كان بلفظِ الإِفراد فالمرادُ به الجَمْعُ، ولذلك اعتبَرَ معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجَمَعَ في قوله: "ولا يكتموا".
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديعِ منها: التجنيسُ المغايرُ في "تدايَنْتُم بدَيْن" نظائره، والمماثلُ في قولِه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا} والطباقُ في "تَضِلَّ" و "تذكِّر" و "صغيراً وكبيراً"، وهي كثيرةٌ، وتؤخذ مِمَّا تقدَّم فلا حاجةَ إلى التكثير بذكرِها. وقرأ السلمي أيضاً: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} بالغيبة جرياً على قراءته بالغَيْبَة.
* { للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} قرأ ابن عامر وعاصم برفع "يغفرُ" و "يعذبُ"، والباقون من السبعةِ بالجزم. وقرأ ابنُ عباس والأعرج وأبو حيوة: "فيغفرَ" بالنصب.
فأمَّا الرفعُ فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو يغفرُ. والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ عُطِفَتْ على ما قبلها. وأمّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ فبإضمارِ "أَنْ" وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبلَ ذلك تقديره: تكنْ محاسبةٌ فغفرانٌ وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجهِ الثلاثة وهو:
1144 - فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ * ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ * أجَبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
(3/211)
---(1/1066)
بجزمِ "نأخذ" عطفاً على "يَهْلك ربيع" ونصبهِ ورفعِه، على ما ذكرتُه لكفي "فَيغفر" وهذه قاعدةٌ مطردةٌ: وهي أنه إذا وقع بعدَ جزاءِ الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جازَ فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ جاز جزمُه ونصبُه وامتنع رفعُه نحو: إن تأتني فَتَزُرْني أو فتزورَني، أو وتزرْني أو وتزورَني.
وقرأ الجعفيّ وطلحة بن مصرف وخلاد: "يَغْفِرْ" بإسقاطِ الفاء، وهي كذلك في مصحفِ عبد الله، وهي بدلٌ من الجوابِ كقوله تعالى: وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ}. وقال أبو الفتح: "وهي على البدلِ من "يُحاسِبْكم" فهي فتسيرٌ للمحاسبة" قال الشيخ: "وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المحاسَبَةِ". قال الزمخشري: "ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة الحساب لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّلِ، فهو جارٍ مجرى بَدَلِ البعضِ من الكلِ أو بدلِ الاشتمال، كقولك: "ضربتُ زيداً رأسه" و "أحببتُ زيداً عقله"، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه / في الأسماءِ لحاجةِ القبيلين إلى البيان".
(3/212)
---(1/1067)
قال الشيخ: "وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ فقولُه: "ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ" وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ، لأنَّ الحسابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئآتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً فلقوله بعد أَنْ ذَكَر بدلَ البعض من الكل وبدلَ الاشتمال: "وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماء لحاجةِ القبيلين إلى البيان" أمَّا بدلُ الاشتمال فهو يمكن، وقد جاءَ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على الجنسِ وتحتَه أنواعٌ يشتمِلُ عليها، ولذلك إذا وَقَع عليه النفيُ انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤ، فلا يُقال في الفعلِ له كل وبعض إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يَسْتَحِيل وجود بدل البعض من الكل في حق الله تعالى، إذ الباري تعالى لا يتقسم ولا يتبعض.
قلت: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرةِ والعذابِ تفسيراً أو تفصيلاً للحاسب، والحاسبُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني. وأمَّا قولُه: "إنَّ بدلَ البعضِ من الكل في الفعلِ متعذرٌ، إذ لا يتحقق فيه تجزُّؤٌ" فليس بظاهرٍ، لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعِه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ والنوعَ بعضٌ. وأمَّا قياسُه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلامِ الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عيه. فإنه قال: "وقرأ الأعمش: "يَغْفر" بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من "يحاسِبْكم" كقوله:
1145 - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا * تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
(3/213)
---(1/1068)
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعدَ ذلك كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبْدِل فيه من فعلِ الشرط لا من جوابِه، والآية قد أُبْدل فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها. وأظهر الباءَ قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ عنه، وورش عن نافع، والباقون بالإِدغم. وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرو لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: "كيف يَقْرأ الجازم"؟ قلت: يُظْهِر الراءَ ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللامِ لا حنٌ مخطىء خطأً فاحشاً، وراويه عن أب عمروٍ مخطىءٌ مرتين، لأنه يَلْحَنُ ويَنْسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يؤُذن بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايت قلةُ ضبطِ الرواة، وسببُ قلةِ الضبطِ قلةُ الدارية، ولا يَضْبِط نحوَ هذا إلا أهلُ النحو" قلت: وهذا من أبي القاسم غير مَرْضِيٍّ، إذ القُرَّاء مَعْنِيُّون بهذا الشأن، لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحرفِ، فكيف يَقِلُّ ضبطُهم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعي، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللامِ والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مَذهبُ البصريين: الخليل وسبيوه ومَنْ تَبِعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأسُ البصريين أبو عمرو، وليس قولُه: "إن هذه الروايةَ غَلَطٌ عليه" بمُسَلَّم. ثم ذكر الشيخ نقولاً عن القراء كثيرةً هي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً، فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، وكيف يُقال إن الراوي ذلك عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواته اليزيديُّ إمامُ واللغةِ، وكان ينازع الكسائي رئاسته، ومحلُّ مشهور بين أهلِ هذا الشأن.
(3/214)
---(1/1069)
* { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ}: يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مروفوعٌ بالفاعليةِ عطفاً على "الرسول" فيكونُ الوقفُ هنا، ويَدُّلُّ على صحةِ هذا ما قرأ به أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب: "وآمن المؤمنون"، فَأَظْهَر الفعلَ، ويكون قولُه: "كلُّ آمَن" جملةً من مبتدأٍ وخبر يَدُلُّ على أنَّ جميعَ مَنْ تقدَّم ذكرُه آمَنَ بما ذكر. والثاني: أن يكون "المؤمنون" مبتدأً، و "كلٌّ" مبتدأٌ ثانٍ، و "آمن" خبرٌ عَنْ "كل" وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأولِ، وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ تقديرُه: "كلُّ منهم" وهو كقولهم: "السَّمْنُ منوانِ بدرهم" تقديرُه: منواوِ منه. قال الزمخشري: "والمؤمنون إْن عُطِفَ على الرسول كان الضميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في "كل" راجعاً إلى "الرسول" و "المؤمنون" أي: كلهم آمن بالله وملائكتِه وكتبهِ ورسلِه من المذكورين ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأ كان الضميرُ للمؤمنين".
فإن قيل: هي يجوزُ أَنْ يكون "المؤمنون" مبتدأ، و "كلٌ" تأكيدٌ له، و "آمن" خبرُ هذا المبتدأ، فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنهم نَصُّوا على أنَّ "كُلاَّ" وأخواتِها لا تَقَعُ تأكيداً للمعارف إلا مضافةً لفظاً لضميرِ الأول، ولذلك رَدُّوا قولَ مَنْ قال: "إنَّ كُلاَّ في قراءة من قرأ: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} تأكيدٌ لاسم إنَّ.
(3/215)
---(1/1070)
وقرأ الأخَوَان هنا "وكتابِه" بالإِفراد والباقون بالجمعِ. وفي سورة التحريم قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمعِ والباقون بالإِفراد. فتلخَّص من ذلك أنَّ الأخوين يقرآن بالإِفراد في الموضعين، وأنَّ أبا عمرووحفصاً يقرآن بالجمعِ في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرؤوا بالجمعِ / هنا وبالإِفرادِ في التحريم.
فأمَّا الإِفرادُ فإنه يُراد به الجنسُ لا كتابٌ واحدٌ بعينِه، وعن ابن عباس: "الكتاب أكثر من الكتب" قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحدات الجنس كلِّها لم يَخْرُجْ منه شيء، وأمَّا الجمعُ فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع". قال الشيخ: "وليس كما ذكر لأنَّ الجمعَ متى أُضِيف أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] صارَ عامَّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال: "أَعْتَقْتُ عبيدي" لشمل ذلك كلَّ عبدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم في الواحدِ إلاَّ بقرينةٍ لفظيةٍ كَأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمعِ نحو: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ} "أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفر والدرهم البيض" أو قرينةٍ معنويةٍ نحو: "نيَّةُ المؤمنِ أبلغُ مِنْ عملِه" وأقصى حالِهِ أن يكونَ مثلَ الجمعِ العامِّ إذا أريد به العمومُ" قلت: للناس خلافٌ في الجمعِ المحلَّى بأَلْ أو المضافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأصول.
(3/216)
---(1/1071)
قال الفارسي: "هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر وإنْ أريدَ بها الكثيرُ كقوله تعالى: {وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ نحو: كَثُرَ الدينارُ والدرهمُ، ومجيئها بالألف واللامِ أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} وفي الحديث: "مَنَعَتِ العراقُ درهمَها وقَفِيزها" يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريفُ". قال الشيخ: "انتهى ملخصاً، ومعناه أنَّ المفردَ المحلَّى بالألفِ واللامِ يَعُمُّ أكثرَ من المفردِ المضافِ".
قلت: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك البتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ مُعَرَّفةً بأل أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.
وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن فيكونُ المرادُ الإِفرادَ الحقيقي. وأمَّا الجمعُ فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ، إذ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً فإنَّ فيه منسبةً لِما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.
ومَنْ قَرَأ بالتوحيدِ في التحريم فإنما أراد به الإِنجيلَ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجنسُ. وقد حَمَل على لفظ "كُل" في قوله: "آمن" فَأَفْرَدَ الضميرَ وعلى معناه فجمع في قوله: "وقالوا سَمِعْنَا". قال الزمخشري: "ووحَّد ضمير "كل" في "آمَنَ" على معنى : كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ كقولِه تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وقرأ يَحْيى بن يَعْمر - ورُويت عن نافع - "وكُتْبِهِ ورُسْلِهِ" بإسكانِ العينِ فيهما. ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكينُ سين "رُسْله".
(3/217)
---(1/1072)
قوله: {لاَ نُفَرِّقُ} هذه الجملةُ منصوبةٌ بقولٍ محذوف تقديرُه: يقولون لا نُفرِّق، ويجوز أن يكونَ التقديرُ: يقول، يعني يجوزُ أَنْ يراعى لفظُ "كل" تارةً ومعناها أخرى في ذلك القولِ المقدرِ، فَمَنْ قَدَّر "يقولون" راعى معناها، وَمَنْ قدَّر "يقول" راعى لفظَها، وهذا القَولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه خبرٌ بعد خبرٌ، قاله الحوفي.
والعامَّةُ على "لا نفرِّقُ" بنون الجمعِ. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب، ورُويت عن أبي عمرو أيضاً: "لا يُفَرِّقُ" بياء الغيبة حملاً على لفظ "كل". وروى هارون أن في مصحف عبد الله "لا يُفَرِّقون" بالجمعَ حَمْلا على معنى "كل"، وعلى هايت القراءتين فلا حاجةَ إلى إضمارِ قولٍ، بل الجملةُ المنفيةُ بنفسِها: إمَّا في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وإمَّا في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً كما تقدَّم في ذلك القولِ المضمرِ.
(3/218)
---(1/1073)
قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِقٌ بالتفريقِ، وأُضيف "بين" إلى أحد وهو مفرد، وإنْ كان يقتضي إضافَتَه إلى متعدد نحو: "بين الزيدين" أو "بين زيد وعمرو"، ولا يجوزُ "بين زيد" ويَسْكُت: إمَّا لأنَّ "أحداً" في معنى العموم وهو "أحد" الذي لا يُسْتعمل إلا في الجَحْد ويُراد به العمومُ، فكأنه قيل: لا نفرِّقُ بين الجميعِ من الرسل. قال الزمخشري: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، ولذلكَ دَخَل عليه "بين" وقال الواحدي: "وبين" تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع "أحد" وهو واحدٌ في اللفظِ، لأنَّ "أحداً" يجوزُ أَنْ يُؤَدَّى عن الجميعِ، قال الله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وفي الحديث: "ما أُحِلَّتْ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيرِكم" يعني فوصَفَه بالجمع، لأنَّ المرادَ به جمعٌ. قال: "وإنَّما جازَ ذلكَ لأن "أحداً" ليس كرجل يجوز أن يُثَنَّى ويُجْمع، وقولُك: "ما يفعل هذا أحدٌ" تريد ما يفعلُه الناسُ كلُّهم، فلمٌا كان "أحد" يؤدَّى عن الجميع جاز أَنْ يُسْتعمل معه لفظُ "بَيْن" وإنْ كان لا يجوز أَنْ تقولَ: "لا نفرِّقُ بين رجلٍ منهم".
قلت: وقد رَدَّ بعضُهم هذا التأويلَ فقال: "وقيل إنَّ "أحداً" بمعنى جميع، والتقديرُ: بين جميعِ رسلهِ" ويَبْعُدُ عندي هذا التقديرُ، لأنه لا ينافي كونَهم مفرِّقين بين بعضِ الرسلِ، والمقصودُ بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يُفَرِّقون بين كلَّ الرسلِ بل البعضُ. وهو محمد صلى الله عليه وسلم فَثَبَت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نفرِّق بين أحدٍ من رسلهِ وبين غيرهِ في النبوة، وهذا وإنْ كان في نفسه صحيحاً إلا أنَّ القائلين بكونِ "أحد" بمعنى جميع، وإنما يريدون في العمومِ المُصَحِّح لإِضافة "بين" إليه /، ولذلك يُنَظِّرونه بقولِه تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} وبقوله:
(3/219)
---(1/1074)
1146 - إذا أمورُ الناسِ دِيكَتْ دُوْكاً * لا يَرْهَبُون أحداً رَأَوْكا
فقال: "رَأَوْكَ" اعتباراً بمعنى الجميعِ المفهومِ من "أحد".
وأمَّا لأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ: "لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رسلهِ وبين أحدٍ، وعلى هذا فأحد هنا ليس الملازمَ للجحدِ ولا همزتُه أصليةٌ بل هو "أحد" الذي بمعنى واحد وهمزتُه بدلٌ من الواو، وحَذْفُ المعطوفِ كثيرٌ جداً [نحو]: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد، [وقوله]:
1147 - فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالماً * أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ
أي: بينَ الخيرِ وبيني.
و "مِنْ رسله" في محلِّ جرٍ لأنه صفةٌ لـ"أحد"، و "قالوا" عطفٌ على "آمَنَ"، وقد تقدَّم أنه حَمَل على معنى "كُل".
قوله: {غُفْرَانَكَ} منصوبٌ: إمَّا على المصدريةِ. قال الزمخشري: "منصوبٌ بإضمارِ فعلِه، يقال: "غفرانَك لا كُفْرانَك" أي: نَسْتغفرك ولا نَكْفرك" فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهبَ سيبويه، إنما مذهبُه تقديرُ ذلك بجملةٍ طلبية كأنه قيل: "اغفْر غفرانَك". ونَقَلَ ابنُ عطيَة هذا قولاً عن الزجاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادرِ اللازمِ إضمارُ عاملِها لنيابتِها عنه، وقد اضطربَ فيها كلامُ ابن عصفور، فَعَدَّها تارةً مع ما يلزمُ فيه إضمارُ الناصبِ نحو: "سبحانَ الله ورَيْحَانَه"، و "غفرانَك لا كفرانكَ"، وتارةً مع ما يجوزُ إظهارُ عاملهِ. والطلبُ في هذا البابِ أثكرُ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ الفتحة.
(3/220)
---(1/1075)
والمصير: اسمُ مصدرٍ مِنْ صارَ يصير أي: رَجَعَ، وقد تقدَّم لك في قوله: {الْمَحِيضِ} أنَّ في المَفْعِل من الفعلِ المعتلِّ العينِ بالياءِ ثلاثةَ مذاهبَ وهي: جريانُه مَجْرَى الصحيح، فيُبْنى اسمُ المصدرِ منه على مَفْعَل بالفتح، والزمانُ والمكانُ بالكسرِ نحو: ضَرَبَ يَضْرِبَ مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماعِ فلا يَتَعَدَّى وهو أعدلُهَا، ويُطلَق المصيرُ على المعنى، ويُجْمَعُ على مُصْران كرغيفَ ورُغْفان، ويُجْمَع مُصْران على مَصارين.
* { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}: "وُسْعَها" مفعولٌ ثانٍ. وقال ابنُ عطية: "يُكَلِّفُ" يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ، أحدُهما محذوفٌ، تقديرُه: عبادةً أو شيئاً". قال الشيخ: "إن عَنى أنَّ أصلَه كذا فهو صحيحٌ، لأنَّ قولَه: "إلاَّ وُسْعَها" استثناءٌ مفرغٌ من المفعولِ الثاني، وإنْ عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو "وُسْعَها" نحو: وما أعطَيْتُ زيداً إلا درهماً" و "ما ضربْتُ إلا زيداً" هذا في الصناعة هو المفعولُ وإن كان أصلُه: ما أعطيت زيداً شيئاً إلاّ درهماً". والوُسْعُ: ما يَسَعُ الإِنسانَ، ولا يَضِيقُ عليه، ولا يَخْرج منه.
(3/221)
---(1/1076)
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة: "إلا وَسِعَها" جَعَلَه فعلاً ماضياً، وخَرَّجُوا هذه القراءةَ على أنَّ الفعلَ فيها صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ تقديرُه: "إلاَّ ما وَسِعَها" وهذا الموصولُ هو المفعولُ الثاني كما كان "وُسْعَها كذلك في قراءةِ العامةِ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أنَّ إضمارَ مثلِ هذا الموصولِ ضعيفٌ جداً إذ لا دلالةَ عليه، وهذا بخلافِ قولِ الآخر:
1148 - ما الذي دَأْبُه احتياطٌ وحَزْمٌ * وهواهُ أَطاعَ يَسْتَوِيان
وقول حسان أيضاً:
1149 - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله منكم * ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءٌ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ الظاهرُ الثاني لأنها سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ عطفاً على "سَمِعْنا" و "أَطَعْنَا" أي: وقالوا أيضاً: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجهٍ آخرَ: وهو أَنْ تَجْعَلَ المفعولَ الثاني محذوفاً لفَهْمِ المعنى، وتَجْعَلَ هذه الجملة الفعلية في محلِّ نصبٍ صفةً لهذا المفعولِ، والتقديرُ: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً شيئاً إلاَّ وَسِعَها. قال ابن عطية: وفي قراءةِ ابن أبي عبلة تَجَوُّزٌ لأنه مقلوبٌ، وكان وجهُ اللفظِ: إلا وَسِعَتْه كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}، ويكن يجيءُ هذا من باب: "أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي".
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لاستئنافِها وهي كالتفسيرِ لِما قبلها؛ لأنَّ عَدَم مؤاخذتِها بكسْبِ غيرِها واحتمالَها ما حَصَّلَتْهُ هي فقط من جملةِ عدمِ تكليفِها بما لا تَسَعُه. وهل يظهرُ بين اختلافِ لفظَيْ فعلِ الكسبِ معنىً أم لا؟ فقال بعضُهم: نعم، وفَرَّقَ بأنَّ الكسبَ أَعَمُّ، إذ يقال: "كَسَب" لنفسِه ولغيرِه"، و "أكتسب" أخصُّ؛ إذ لا يقال: "اكتسب لغيرِه" وأنشدَ قولَ الحطيئة:
(3/222)
---(1/1077)
1150 - أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ * .........................
وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ خَصَّ الخيرَ بالكَسْب والشرَّ بالاكتسابِ؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ مِمَّا تَشْتهيه النفسُ وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به كانَتْ في تحصيلهِ أَعْمَلَ وآجَدَ فَجُعِلَتْ لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكنْ كذلكَ في بابِ الخيرِ وُصِفَتْ بما لا دلالةَ فيه على الاعتمالِ".
وقال ابنُ عطية: "وكَرَّر فعلَ الكسبِ فَخَالَفَ بين التصريف حُسْناً لنمطِ الكلامِ، كما قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ} هذا وجهٌ، والذي يَظْهَرُ لي في هذا أنَّ الحسناتِ هيَ مما يُكْسَبُ دونَ تكلُّفٍ، إذ كاسبُها على جادّضةِ أمرِ الله ورَسْمِ شَرْعِهِ، والسيئاتُ تكتسب ببناء المبالَغَة، إذ كاسبُها يَتَكَّلفُ في أَمرِها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ الله تعالى، ويَتجاوَزُ إليها / فَحَسُنَ في الآية مجيءُ التصريفَيْنِ إحرازاً لهذا المعنى". وقال بعضُهم: "لا فَرْقَ، وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}. وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} وقال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}، وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} فقد استعمل الكَسْب والاكتسابَ في الشرِّ".
وقال أبو البقاء: "وقال قومٌ: "لا فَرْقَ بينهما، وذكر نحواً مِمَّا تقدَّم. وقال آخرون: "افتْعَلَ يَدُلُّ على شدَّة الكَلَفِة. وفعلُ السيئة شديدٌ لِما يَؤُول إليه". وقال الواحدي: "الصحيحُ عند أهلِ اللغة أن الكسبَ والاكتسابَ واحدٌ لا فرقَ بينهما، قال ذو الرمة:
1151 - .................. * ألفَى أباه بذاك الكسبِ يَكْتَسِبُ
(3/223)
---(1/1078)
قلت: وإنما أَتى في الكسبِ باللامِ وفي الاكتسابِ بـ"على"؛ لأنَّ اللامَ تقتضي المِلْكَ والخيرَ يُحَبُّ ويُسَرُّ به، فجيء معه بما يَقْتَضِي المِلْكُ، ولَمَّا كان الشرُّ يُحْذَرُ وهو ثِقَلٌ ووِزْرٌ على صاحبهِ جِيءَ معه بـ"على" المقتضيةِ لاستعلائِهِ عليه.
وقال بعضَهم: "فيه إيذانٌ أَنَّ أَدْنى فعلٍ من أفعالِ الخير يكونُ للإنسان تكرُّماً من اللهِ على عبدهِ حتى يصلَ إليه ما يفعلُهُ معه ابنُ من غيرِ علمِه به، لأنه من كسبهِ في الجملةِ، بخلافِ العقوبةِ فإنه فا يُؤَاخَذُ بها إلا مَنْ جَدَّ فيها واجتهَدَ". وهذا مبنيٌّ على القولِ بالفرق بين البنائين وهو الأظهرُ.
قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} يُقْرأ بالهمزةِ وهو من الأخْذ بالذَّنْبِ، ويُقْرَأُ بالواوِ، ويَحْتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ مِن الأخْذِ أيضاً، وإنما أُبْدِلَتِ الهمزةُ واواً لفتحِها وانضمامِ ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسي، ويَحْتمل أَنْ يكونَ من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء: وجاء هنا بلفظِ المفاعلةِ وهو فعلُ واحدٍ، لأنَّ المسيءَ قد أَمْكَنَ من نفسِه وطَرَقَ السبيلَ إليها بفعله، فكأنه أعانَ مَنْ يعاقِبُه بذَنْبِه، ويأخذُ به على نفسِه فَحَسُنَتْ المفاعَلَةُ. ويجوزُ أَنْ كونَ من بابِ: سافرت وعاقبت وطارقت.
وقرأ أُبَيّ: "ربَّنا ولا تُحَمِّلْ علينا إصْراً" بتشديد الميم. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: أَيُّ فرق بين هذه الشديدةِ والتي في "ولا تُحَمِّلْنا؟ قلت: هذه للمبالغةِ في حَمَّل عليه، وتلك لنقل "حَمَلَه" من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولَيْن". انتهى يعني أنَّ التضعيفَ في الأولِ للمبالغةِ ولذلك لم يتعدَّ إلا لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانيةِ للتعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين أولُهما "نا" والثاني {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
والإِصْرُ: في الأصل الثِّقَلُ والشِّدَّة. وقال النابغة:
(3/224)
---(1/1079)
1152 - يا مانعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ * والحاملَ الإِصرِ عنهم بعد ما عَرِقُوا
وأُطْلِقَ على العهدِ والميثاقِ لِثِقَلِهما، كقولِه تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي}أي: عَهْدِي. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} أي: التكاليف الشاقة ثم يُطْلَقُ على كل ما يَثْقُل، حتى يُرْوى عن بعضِهم أنه فسَّر الإِصرَ هنا بشماتةِ الأعداءِ وأنشد:
1153 - أَشْمَتَّ بيَ الأعداءَ حينَ هَجَرْتَني * والموتُ دونَ شماتةِ الأَعْدَاءِ
ويقال: الإِصْرُ أيضاً: العَطْفُ والقَرابةُ، يُقال: "ما يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ" أي: ما يَعْطِفُني عليه قرابةٌ ولا رَحِمٌ، وأنشد للحطيئة:
1154 - عَطَفُوا عليَّ بغير آ * صِرَةٍ فقد عَظُمَ الأواصِرْ
وقيل: الإِصرُ: الأمرُ الذي تُرْبَطُ به الأشياءُ، ومنه "الإِصارُ" للحبلِ الذي تُشَدُّ به الأحْمَال، يقال: أَصَرَ يأصِرُ أَصْراً بفتحِ الهمزةِ، فأما بكسرها فهو اسمٌ. ويُقال بضمِّها أيضاً، وقد قُرىء به شاذاً:
وقرأ أُبَيّ: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ} بالتشديدِ مبالغةً في الفِعْلِ.
والطاقَةُ: القُدْرَةُ على الشيءِ وهي في الأصلِ، مصدرٌ، جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ، وكان مِنْ حقِّها "إطاقة" لأنها من أَطَاق، ولكن شَذَّتْ كما شَذَّتْ أُلَيفْاظٌ نحو: أَغار غارةً، وأَجابَ جابةً، قالوا: "ساء سمعاً فساءَ جابة"؛ ولا ينقاسُ فلا يُقال: طال طالة. ونظيرُ أجابَ جابةً: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} وأعطى عَطاءً في قوله:
1155 - .................. * وبعدَ عطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقولُه تعالى: {مَوْلاَنَا} والمَوْلَى: مَفْعَل من وَلِي يَلِي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: صاحِبُ تولِّينا أي: نُصْرتِنا ولذلك قال: "فانصُرْنا"، والمَوْلَى يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ ايضاً واسمَ زمانٍ.
(3/225)
وقوله تعالى: {فَانْصُرْنَا} أتى هنا بالفاء إعلاماً بالسببيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كانَ مولاهم ومالكَ أمورِهم وهو مُدَبِّرُهم تَسَبَّب عنهم أَنْ دَعَوْه بأن يَنصُرَهم على أعدائِِهم كقولِك "أنت الجوادُ فتكرَّمْ عليَّ وأنت البطلُ فاحْمِ حَرَمَك".
وقد اشتملَتْ هذه السورةُ على أنواع كثيرةٍ من العلومِ، تقدَّم التبيهُ على غالبِها، والذكيُّ مستغنٍ عن التصريحِ بالتلويحِ.(1/1080)
سورة آل عمران
* { الم }
قد تقدَّم الكلامُ على هذا مشعباً، ولكنْ نَقَل الجرجانيُّ هنا أن "ألم" شارةُ إلى حروفِ المعجمِ كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابُك أو نحوُ هذا، ويدلُّ: {اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} على ما تَرَكَ ذِكْرَه من خبرِ هذه الحروفِ، وذلك في نظْمِه مثلُ قولِه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} وتركَ الجوابَ لدلالةِ قولِه: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} عليه تقديرُه: كَمَنْ قسا قلبُه، ومه قَولُ الشاعر:
1156ـ فلا تَدْفِنوني إنَّ دَفْني مُحَرَّمٌ * عليكم ولكنْ خامِري أمُّ عامرِ
أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها "خامري أم عامر". انتهى.
يكون "نَزَّل" خبرَ قولِه "الله" حتى يتربطبَ الكلامُ إلى هذا المعنى". قال الشيخ "وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظرٌ" لأنَّ مُثُلَه ليست صحيحية الشبهِ بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتملٌ، ولكنَّ الأبرعَ في الآية أن "ألم" لا تَضُمُّ ما بعدها إلى نفسا في المعنى، وأن يكونَ قولُه: {اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأً جزماً جلمةً رادَّاةً على نصارى نَجْران". قلت: هذا الذي ردَّه الشيخ على القاضي الجرجاني هو الذي اختاره الجرجاني وتبجَّج به، وجَعَله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه "نظم القرآن".
(3/226)
---(1/1081)
* { اللَّهُ لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
قوله تعالى: {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ}: يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ خبَر الجلالة و"نَزَّل عليك" خبرٌ آخرُ، ويجوزُ أن تكونَ {لاا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} معترضةً بين المبتدأ وخبرِه، ويجوزُ أن تكونَ حالاً. وفي صاحبها الاحتمالان، أحدهما: أن يكونَ الجلالةَ، والثاني: أن يكونَ الضميرَ في "نَزَّل: تقديره نَّزل عليكم الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مكي. وأولُ الأقوال أَوْلاها.
وقرأ جمهورُ الناس: "ألم الله" بفتح الميم وإسقاطِ همزةِ الجلالةِ، واختلفوا في فتحةِ هذه الميم [علىأقوالٍ] أحُدها: أنها حركةُ التقاء سكانين، وهو مذهُب سيبويه وجمهورِ الناسِ. فإنْ قيلَ: أصلُ التقاءِ الساكنين الكسرُ فلِمَ عَدَلَ عنه؟ فالجوابُ أنهم لو كسروا لكانَ ذلك مُفْضِياً إلى ترقيقِ لامِ الجلالةِ والمقصودُ تفخيمُهاه للتعظيمِ فأُوثر الفتحُ لذلك. وأيضاً فقبلَ الميمِ ياءٌ وهي أختُ الكسرةِ، وأيضاً فقبل الياءِ كسرةٌ فلو كَسَرْنا الميمَ الأخيرةَ لالتقاءِ الساكنينِ لتوالَى ثلاثةُ متجانساتٍ فحرَّكوها بالفتحِ كما حَرّضكوا في نحو "مِنَ الله"، وأمَّا سقوطُ الهمزةِ فواضحٌ وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني: أنَّ الفتحةَ لالتقاءِ الساكنين أيضاً، ولكنْ السكنان هما الياء التي قبلَ الميمِ والميمُ الأخيرةُ، فحُرِّكت بالفتحِ لئلا يلتقي ساكنان، ومثلُه: أين وكيف وكَيْتَ وذَيْتَ وما أشبهه، وهذا على قولِنا إنه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروفِ المقطَّعة، وهذا بخلاِف القولِ الأولِ فإنّه مَنْوِيٌّ فيه الوقفُ على الحروفِ المقطَّعةِ فَسَكَنَتْ أواخُرها بوعدها ساكنٌ آخرُ وهو لامُ الجلالةِ، وعلى هذا القولِ الثاني ليس لإِسقاط الهمزةِ تأثيرٌ في التقاءِ الساكنين بخلافِ الأولِ فإنَّ التقاءَ السكانينِ إنما نَشَأَ مِنْ حَذْفِها دَرْجاً.
(3/227)
---(1/1082)
الثالث: أنَّ هذه الفتحةَ ليسَتْ لالتقاء الساكنين، بل هي حركةُ نقل أي: نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ التي قبلَ لامِ التعريفِ على الميمِ الساكنةِ نحو: "قَدَ أفلح" وهي قراءةُ ورشٍ وحمزةَ في بعض طُرُقه في الوَقْفِ وهو مذهبُ الفراء، واحتجَّ على ذلك بأن هذه الحروفَ النيةُ بها الوقفُ، وإذاغ كان النيةُ بها الوقفَ فَتَسْكُنُ أواخُرها، والنيةُ بما بعدها الابتداءُ والاستئنافُ، فكأنَّ همزةَ الوصلِ جَرَتْ مجرىهمزةِ القطعِ إذ النيةُ بها الابتداءُ وهي تَثْبُتُ ابتداءً ليس إلاَّ، فلمَّا كانت الهمزةُ في حكمِ الثابتةِ وما قبلها ساكنٌ صحيحٌ قابلٌ لحركتها خَفَّفوها بأَنْ ألقَوةا حركتها على الساكنِ قبلها.
وقد رَدَّ بضُهم قولَ الفراء بأنَّ وَضْع هذه الحروفِ على الوَقْف لا يُوجِبُ قَطْعَ ألفِ الوصلِ وإثباتها في المواضعِ التي تسقُط فيها، وأنتَ إذا أَلْقَيْتَ حركتها على الساكنِ قبلَها فقد وَصَلْتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلَها وإنْ كان ما قبلها موضوعاً على الوقفِ، فقولُك: "ألقيتُ حركته عليه" بمنزلة قولِك "وصلتُه" ألا ترى أنك إذا خَفَّفْتَ "مَنْ أَبوك" قلت: "مَنَ بُوك" فوصَلْتَ، ولو وقفْتَ لم تُلْقِ الحركةَ عليها، وإذا وصلْتَهاه بما قبلها لَزِم إسقاطِها، وكان إثباتُها مخالفاً لأحكامِها في سائِر متصرَّفاتها.
قلت: هذه الردُّ مردودٌ بأنَّ ذلك مُعَامَلٌ معالمة الموقوفِ عليه والابتداءُ بما بعده، لا أنه موقوفٌ عليه ومبتدأٌ بما بَعده حقيقةً حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره. وقد قَوَّى جماعةٌ قولَ الفراءِ بما حكاه سيبويه مِنْ قولهم: "ثَلَثَهَربَعَة" والأصلُ: ثلاثة أربعة، فلمَّا وُقِف على "ثلاثة" أُبْدِلَتِ التاءُ هاءً كما هو اللغةُ المشهورةُ، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقفِ، فَتَرَك الهاءَ على حالِها في الوصل، ثم نَقَل حركةَ/ الهمزةِ إلى الهاءِ فكذلك هذا.
(3/228)
---(1/1083)
وقد رَدَّ بعضُهم هذا الدليلَ، وقال: الهمزةُ في "اربعة" همزةُ قطعس، فهي ثابتٌ ابتداءً ودَرْجاً، فلذلك نُقِلَتْ حركتُها بخلافِ همزةِ الجلالة فإنها واجبةٌ السقوطِ فلا تستحقُّ نَقْلَ حركتها إلى ما قبلها، فليس وِزان ما نَحْن فيه.
قلتُ: وهذا من هذه الحيثيةِ صحيحٌ، والفرقُ لائحٌ؛ إلا أَنَّ حظَّ الفراء منه أنه أَجْرى فيه الوصلَ مُجْى الوقفِ من حيث بقيت الهاءُ المنقلبةُ عن التاءِ وَصْلً لا وقفاً واعتدَّ بذلك، ونَقَلَ إليه حركةَ الهمزةِ وإنْ كانَتْ همزةَ قطعٍ.
وقند اختار الزمخشري مذهبَ الفراء، وسَأَلَ وأجاباَ فقال: "ميم حقُّها أن يُوقَفَ عليها كما يُوقَفُ على ألف ولام، وأَنْ يُبتدأ ما بعدها كما تقولك واحدْ إثنان، وهي قراءةُ عاصم، وأمَّا فتحُها فهي حركةُ الهمزةِ أُلْقِيَتْ عليها حين أُسْقِطَتْ للتخفيفِ. فإنْ قلت: كيف جازَ إلقاءُ حركتِها عليها وهي همزةُ وصلٍ، لا تَثْبُتُ في دَرْندِ الكلام فلا تَثْبُتُ حركتُها لأنَّ ثباتَ حركتِها كثباتِها؟ قلت: هذا ليسَ بدَرْجٍ، لأنَّ ميم في حكمِ الوَقْف والسكونِ، والهمزةُ في حكمِ الثابتِن وإنما حُذفت تخفيفاً، وأُلْقِتَتْ حركتُها على الساكنٍ قبلَها لتدلَّ عليها، ونظيره" واحدِ اثنان" بإلقائهم حركةَ الهمزةِ على الدالِ".
(3/229)
---(1/1084)
قال الشيخ: "وجوابُه ليس بشيءٍ لأنه ادَّعى أنَّ الميمَ حين حُرِّكتْ موقوفٌ عليها، وأن ذلك ليس بدَرْجٍ؛ بل هو وقفٌ، وهذا خلافُ اما أَجْمعت عليه العربُ والنحاةُ من أنه لا يُوقف على متحركٍ البتةَ سواءً كانت حركتُه إعرابيةً أم بنائيةً أم نقليةً أم لالتقاءِ الساكنين أم للإِتباع أم للحكايةِ، فلا يجوزُ في "قد أفلح" إذا حَذَفْتَ الهمزة ونَقَلْتَ حركتها إلى دالِ "قد" أَنْ تَقِفَ على دال "قد" بالفتحةِ، بل تُسَكنها قولاً واحداً. وأمَّا قوله: "ونظيرُ ذلك "واحدِ اثنان" بإلقاءِ حركة الهمزة على الدالِ، فإنَّ سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّونَ آخر "واحدٍ" لتمكُّنِه، ولم يَحِكْ الكسرَ لغةً، فإنْ صَحَّ الكسرُ فليس "واحد" موقوفاً عليه كما زعم الزمخشري، ولا حركتُه حركةُ نقلٍ من همزة الوصلِ، ولكنه موصولٌ بقولِهم: اثنان، فالتقى ساكنان: داُ واحد وثاءُ اثنين فكُسِرتِ الدالُ لالتقاءِ الساكنين، وحُذِفتْ همزةُ الوصل لأنها لا تَثْبُتُ في الوصل.
قلت: ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يُقف على ميم مِنْ: ألف ـ لام ـ ميم ـ وهي متحركةٌ، حتى يُلْزِمَه بمخالفةِ إجماعِ العربِ والنحاةِ، وإنما ادَّعى الرجلُ أن هذا في نيةِ الموقوفِ عليه قبلَ تحريكِه بحركة النقلِ، لا أنه نُقِل إليه، ثم وُقِف عليه، وهذا لم يَقُلْه البتةَ ولم يَخْطُرْ له، ثم قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هَلاَّ زعمتَ أنها حركةٌ لالتقاء الساكنين. قلت: لأنَّ التقاءَ السااكنين لا يُبالي به في بابِ الوقف، وذلك قولك: هذا إبرايهمُ وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حالِ الوقفِ بوجِبُ التحريكَ لحُرِّكَ الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ولَما انتُظر ساكنٌ آخرُ".
(3/230)
---(1/1085)
قال الشيخ: "وهو سؤالٌ صحيحٌ وجوابٌ صحيحٌ، لكن الذي قال: "إنَّ الحركةَ هي لالتقاءِ الساكنين" لا يَتَوَهَّم أنه أرادَ التقاء الياء والميم من "ألم" في الوقفِ، وإنّما عَنَى التقاءَ الساكنين اللذيْن هما ميم ميم الأخيرة ولامُ التعريف كالتقاءِ نون "مِنْ" ولامِ الرجل إذا قلت: من الرجل". قلت: هذا الوجهُ هو الذي قَدَّمُتْه عن بعضهم وهو مكيٌّ وغيرُه,
ثم قال الزمخشرين: "فإنْ قلت: إنما لم يُحَرِّكوا لالتقاء الساكنين في ميم؛ لأنهم أرادوا الوقفَ وأَمْكنهم النطقُ بساكنين، فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ لم يكن إلا التحريكُ فحرَّكوا. قلت: الدليلُ على أنَّ الحركةَ ليست لملاقاة الساكنِ أنه كان يمكِنُهم أَنْ يقولوا: واحدْ اثنان بسكونِ الدالِ مع طَرْحِ الهمزةِ فجمعوا بين سكانين كما قالوا: "أُصَيْمٌّ" وم"مُدَيْقٌّ" فلمّا حَرَّكوةا الدالَ عُلِم أّنَّ حَرَكَتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطة لا غيرُ، وأنها ليسَتْ لالتقاءِ ساكنين".
(3/231)
---(1/1086)
قال الشيخ: "وفي سؤاله تعميةٌ في قوله: "فإنْ قلتَ: لم يُحَرِّكوا لالتقاءِ الساكنين" ويَعْني بالساكنين: الياء والميم، وحنيئذٍ يجيءُ التعليلُ بقولِه: "لانهم أردوا الوقفَ وأمكَنهم النطقُ بساكنين" يعني الياء والميم. ثم قال: "فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ ـ يعني لامَ التعريف ـ لم يكُنْ إلا التحريكُ ـ يعني في الميم ـ، فحرَّكوا ـ يعني الميم ـ لالتقائِها ساكنةً مع لامِ التعريفِ، إذ لو لم يحرِّكوا لاجتمعَ ثلاثةُ سواكنَ وهو لايمكنُ. هذا شرحُ السؤال، وأمَّا جوابُ الزمخشري عن سؤالِه فلا يُطابق، لأنه استدلَّ على أنَّ الحركةَ ليسَتْ لملاقاةِ ساكنٍ بإمكانيةِ الجَمْعِ بين سكانين في قولهم: واحدْ اثنان بأَنْ سكَّنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ وتسقطُ الهمزةُ، فعدَلوا عن هذا الإمكان إلى نقلِ حرةِ الهمزةِ على الدال، وهذه مكابرةٌ في المحسوسِ لا يمكنُ ذلك أَصْلاً، ولا هو في قدرةِ البشر أن يَجْمعوا في النطقِ بين سكونِ الدالِ وسكونِ الثاء وطرحِ الهمزة.
وأمّا قوله: "فجَمعوا بين ساكنين" فلا يُمكن الجَمْعُ كما قلناه. وأمّا قوله كما قالوا: "أُصَيْمُّ ومُدَيْقٌّ" فهذا ممكنٌ، كما هو في: رادٌّ وضالٌّ؛ لأنَّ في ذلك التقاءَ الساكنين: على حدِّهما المشروطِ في النحوِ فَأَمْكَنَ ذلك، وليس مثلَ "واحدْ اثنان"؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ ليسَ حرفَ مد ولا الثاني مدغمٌ فلا يمكنُ الجمعُ بينهما. وأمَّا قولُه "فلمَّا حركوا الدالَ عُلِمَ أَّنَّ حركتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ لا غيرُ وليسَتْ لالتقاءِ الساكنين" لَمَّا بَنى على أنَّ الجمعَ بين الساكنين في "واحدْ اثنان" ممكنٌ، وحركةُ التقاءِ السكانين إنما هي فيما لا يمكِنُ أن يجتمعا فيه في اللفظ، ادَّعى أنَّ حركةَ الدالِ هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ.
(3/232)
---(1/1087)
قلت: هذا الذي رَدَّ به عليه صحيحٌ، وهو معلومٌ بالضرورة إذ لا يمكن النطقُ بما ذَكَر. وقد انتصر بعضُهم لرأي الفرَّاء اختيارِ الزمخشري بأنَّ هذه الحروفَ جيء بها لمعنًى في غيرها كما تقدّضم في أولِ البقرة عند بعضهم فأواخِرها موقوفةٌ، والنيةُ بما بعدها الاستئنافُ، فالهمزةُ في حكمِ الثَّباتِ كما في أنصاف الأبيات كقول حسان:
1157ـ لَتَسْمَعَُنَّ وشيكاً في ديارِهُمُ * اللهُ اكبرُ يا ثاراتِ عثمانا
ورجَّحَهُ بعضُهم أيضاً بما حُكي عم المبردِ أنه يجيز: "الله أكبرَ الله أكبر" بفتحِ الراء الأولى قال: "لأنهم في نيةِ الوقف على "أكبر" والابتداءِ بما بعده، فلمَّا وصلوا مع قَصْدِهم التنبيهَ على الوقفِ على آخرِ كلِّ كلمةِ من كلماتِ التكبير نقلوا حركةَ الهمزةِ الداخلةِ على لام التعريف إلى الساكنِ قبلها التفاتاً لما ذَكَر من قصدهم، وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في حركاتِ الإعرابِ وأتوا بغيرها مع احتاجهم إلى الحركةِ مِنْ حيثُ هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ الأخيرِ من بابٍ أَوْلى وأَحْرى.
الرابع: أن تكونَ الفتحةُ فتحةَ إعرابِ على أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدر أي: اقرؤوا ألم، وإنما منعه من الصرفِ للعلَمِيَّةِ والتأنيثِ المعنوي إذا أُريد به اسمُ السورة نحو: قرأت هود، وقد قالوا هذا الوجهَ بعيِنِه في قراءةِ مَنْ قرأ: "صادَ والقرآن" بفتحِ الدال، فهذا يجوزُ أن يكونَ مثلَه.
الخامس: أنَّ الفتحةَ علامةُ الجر, والمرادُ بألف لام ميم أيضاً السورةُ، وأنها مُقسَمٌ بها، فَحُذِفَ حرفُ القسم وبقي عملُه امتنعَ من الصرفِ لِمَا تقدَّم، وهذا الوجهُ أيضاً مقولٌ في قراءةِ مَنْ قرأ: صادَ بفتح الدال، إلا أنَّ القراءةَ هناك شاذةٌ وها متواترةٌ، والظاهرُ أنها حركةُ التقاءِ الساكنين؛ كماهو مذهبُ سيبويه وأتباعِه.
(3/233)
---(1/1088)
السادس: قال ابن كيسان: "ألفُ الله، وكلُّ ألفِ مع لامِ التعريف ألفُ قطْعٍ بنزلة "قد"، وإنما وُصِلَتْ لكثرة الاستعمالِ، فَمَنْ حَرَّك الميمَ ألقىعليها حركةَ الهمزةِ التي بمنزلةِ القاف من "قد" من "الله" ففتحها بفتحةِ الهمزةِ، نقله عنه مكي. فعلى هذا هذه حركةُ نقلٍ من همزةِ قطع، وهنذا المذهبُ هو مشهورٌ عن الخليلِ بن أحمد، حيث يَعْتقد أنَّ التعريف حَصَلَ بمجموعِ "أل" كالاستفهامِ يَحْصُل بمجموع هل، وأنَّ الهمزةَ ليست مزيدةً، لكنه مع اعتقادِه ذلك يوافِقُ على سقوطها في الدَّرْج إجراءًُ لها مُجْرى همزة الوصل لكثرة الاستعمالِ، ولذلك قد ثبتَتْ ضرورةَ، لأنَّ الضرورةَ تَرُدُّ الأشيءاَ إلى أصولها. وللبحثِ في ذلك مكانٌ هو أليقُ بيه منه منا.
ولَمَّا نَقَل أبو البقاء هذا القولَ ولم يَعْزُه قال: "وهذا يَصِحُّ على قولِ مَنْ جَعَل أداةَ التعريف "أل" يعني الخليل لأنه هو المشهورُ بهذه المقالةِ. وقد تقدَّم النقلُ عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على ميم، وبتدىء بالله لا إله إلا هو، كماهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري عنه، وغيرُه يَحْكي عنه أنه يُسَكِّنُ الميمَ ويقَطْعُ الهمزةَ من غير وقفٍ منه على الميم، كأنه يُجْري الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وهذا هو الموافقُ لغالبِ نقلِ القُرَّاء عنه.
وقرأ عمرو بن عبيد فيما نَقَل الزمخشري، والرؤاسي فيما نَقَ ابن عطية، وأبو حيوة: "المِ الله" بكسرِ الميم. قال الزمخشري: "وما هي بمقبولةٍ" والعجبُ منه كيف تَجرَّأَ على عمرو بن عبيد وهو عندَهع معروفُ المنزلة، وكأنه يريد وما ي مقبولةً عنه أي: لم تَصِحَّ عنه؟، وكأن الأخفش لم يَطَّلِعَ على أنها قراءةً فقال: "لو كُسِرَتْ الميمُ لالتقاءِ الساكنين فقيل: "المِ الله" لجاز".
(3/234)
---(1/1089)
قال الزجاج: "وهذا غلظٌ من أبي الحسن، لأنَّ قبلَ الميمِ ياءً مكسوراً ما قبلها فحقُّها الفتحُ لالتقاءِ الساكنين لِثقَل الكسرِ مع الياء، وهذا وإنْ كان كما قاله، إلاَّ أنَّ الفارسيّ انتصر لأبي الحسن، وردَّ على أبي إسحاق رَدذَه فقال: "كسرُ الميمِ لو وَرَدَ بذلك سماعُ لم يَدْفَعْه قياسٌ، بل كان يُثْبته ويُقَوِّه لأنَّ الأَصلَ في التحريكِ لالتقاءِ الساكنين الكسرُ، وإنما يُبْدَلُ إلى غير ذلك لما يَعْرِضُ من علةٍ وكراهةٍ، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وجه لردِّه ولا مساغَ لدَفْعِه، وقولُ أبي إسحاق "إنَّ ما قبلَ الميم ياءٌ مكسورٌ ما قبلها فَحقُّها الفتحُ" منقوضٌ بقولِهمه "جَيْرِ" و "كان من الأمر ذَيثْتِ وذِنْتِ وكَيْتِ وكِيْتِ" فَحُرِّك الساكنُ بعد الياءِ بالكسرِ، كما حُرِّكَ بعدَها بالفتحِ في "أَيْنَ"، وكما جاز الفتحُ بد الياء في قولهم: "أَيْنَ" كذلك يجوز الكسرُ بعدها كقولهم جَيْر، ويدلُّ على جوازِ التحريكِ لالتقاءِ الساكنين بالكسرِ فيما كان قبله ياءٌ جوازٌ تحريكه بالضم نحو قولِهم: حيثُ، وإذا جازَ الضمُّ كان الكسرُ أجوزَ وأسهلَ.
* { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }
قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}: العامَّةُ على التشديدِ في "نَزَّل" ونصبِ "الكتاب". قرأ الأعمش والنخعيّ وابن أبي عبلة: نَزَلَ بتخفيف الزاي ورفعِ الكتاب، فأمّا القراءة الأولى فقد تقدَّم أن هذه الجملةَ/ يُحتمل أن تكونَ خبراً وأن تكونَ مستأنفةً. وأمّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنَّ الجملة فيها مستأنفةٌ، ويجوزُ أن تكونَ خبراً، والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ، تقديرُه: نَزَل الكتابُ من عنده.
(3/235)
---(1/1090)
قوله: {بِالْحَقِّ} فيه وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّق الباءُ بالفعل قبلها والباءُ حينئذٍ للسببية، أي: نَزَّله بسبب الحق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أي: نَزّله مُحِقّاً، أو من المفعولِ أي: نَزَّله ملتبساً بالحقِّ نحو: جاء بكرٌ بثيابه أي: ملتبساً بها.
وقال مكيّ: "ولا تتعلَّقُ الباءُ بنَزَّلَ لأنه قد تَعَدَّى إلى مفعولين، أحدُهما بحرفٍ فلا يتعدى إلى ثالثٍ" وهذا الذي ذَكَرَه مكيٌّ غيرُ ظاهر، فإنَّ الفعلَ يتعدَّى إلى متعلِّقاته بحروفٍ مختلفة على حَسَب ما يكونُ، وقد تقدم أنَّ معنى الباء السببيةُ، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟.
قوله: {مُصَدِّقاً} فيه أوجه، أحدُهما: أَنْ يَنْتَصِبَ على الحالِ من "الكتاب"، فإنْ قيل إنَّ "بالحق" حالٌ كانَتْ هذه حالاً ثانية عند مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ، وإنْ لم يُقَلْ ذلك كانت حالاً أولى. والثاني: أن ينتصِب على الحالِ على سبيلِ البديلة من محلِّ "بالحق" وذلك عند مَنْ يمنعُ تعدُّد الحالِ في غير عطفٍ ولا بديلة. الثالث: أن ينتصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في "بالحق" إذا جعلناه حالاً، لأنه حينئذٍ يتحمَّلُ ضميراً لقيامِه مقامَ الحالِ التي تتحمَّلُه، وتكونُ حالاً متداخلةً أي: إنها حالٌ من حال، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنه لا يكون إلا كذلك، فالانتقال غيرُ متصوَّرٍ فيه، وهو نظير قوله:
1158ـ أنا ابنُ دارةَ معروفاً بها نسبي * وهَلْ بدارَةَ يا لَلْناسِ مِنْ عارِ
قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفولٌ لمصدِّقا، وزيدت اللمُ في المفعول تقويةً للعامل لأنه فرعٌ، إذا هو أسمُ فاعل كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وإنما ادَّعْينا ذلك لأنَّ هذه المادةَ متعدِّية بنفسِهاه.
(3/236)
---(1/1091)
قوله: {التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} اختلفَ الناسُ في هاتين اللفظتين: هل يَدْخُلُهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانِهما لكونِهما؟ أعجميين؟ فذهب جماعةٌ كالزمخشري وغيرُه إلى الثاني. قالوا: لأنَّ هذين اللفظين اسمان عِبرانيَّان لهذينِ الكتابَيْنِ الشريفين. قال الزمخشري: "وتَكَلُّفُ اشتقاقِهِما من الوَرَىْ والنَّجْل، ووزنُهما بتَفْعِلة وإفْعِيل إما يَثْبُتُ بعد كونهما عربيي". [قال الشيخ: "وكلامُه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً وهوقوله: تَفْعِلَة، ولم يذكُرْ مذهب البصريين] وهو أنَّ وزنَها فَوْعَلة، ولم ينبِّه على تَفْعِلَة: هل هي بكسر العين أو فتحها" قلت: لم يَحْتج إلى التنبيه لشهرتِهما، وإنما ذكر المستغربَ. ويؤيدُ ما قاله الزمشخري من كونها أعجميةً ما نقله الواحدي، وهو أنَّ التوراة والإِنجيل والزبور سريانيةُ فَعَرَّبوها قال: "ولذلك يقولون فيها بالسريانية: تُوري ايكليونُ زَفوتا" فعرَّبوها إلى ما ترى.
ثم القائلون باشقاقهما اختلفوا: فلقال بعضُهم: التَوْرَاة مشتقة من قولهم: ورِي الزَّنْدُ إذا قَدَح فظهرَ منه نارٌ. يقال "وَرِيَ الزَّنْدُ" و"أَوْرَيْتُه أنا".
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فثلاثيُّهُ قاصرٌ ورباعيةُ متعدٍّ. وقال تعالى: {فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً}، ويقال أيضا: "وَرَيْتُ بكل زِنادي" فاستُعْمِلَ الثلاثيُّ متعدياً، إلا أن المازني يزعم أنه لا يُتجاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: "وَرَيْتُ النارَ" مثلاً. إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياءٌ ونورٌ يُخْرَجُ به من الضلال [إلى] الهدى، كما يُخْرَج بالنور من الظلام إلى النور سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، وهذا هو قولُ الفراء، وهو مذهبُ جمهور الناس.
(3/237)
---(1/1092)
وقال آخرون: بل هي مشتقةٌ من "وَرَّيْتُ في كلامي" من التورية وهي التعريض. وفي الحديث: "كان إذا أراد سفراً وَرَّى بغيره" وسُمِّيَت التوراة بذلك لأنَّ أكثَرها تلوحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهبَ المؤرج السدوسي وجماعة.
وفي وزنها ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: ـ وهو قولُ الخليل وسيبويه ـ أن وزنَها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو: الدَّوْخَلة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعَة، والأصل: وَوْرَيَة بواوين، لانها إمَّا من وَرِي الزَّنْد
ُ، وإمَّا من وَرَيْتُ في كلامي، فأُبدلت الواو الأولى تاءً وتحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبلَه فقُلب ألفاً فصار اللفظُ: تَوْرَاة كما ترى، وكُتبت بالياءِ مُنْبَهَةً على الأصل، كما أُمليت لذلك، وقد أَبْدَلتْ العربُ التاءَ من الواو في ألفاظ نحو: تَوْلَج وتَيْقور وتُخَمَة وتُكَأَة وتُراث وتُجاه وتُكْلان من: الوُلوج والوَقار والوَخَامة والوِكاء والوِراثة والوَجْه والوَكالة. ونظيرُ إبدال الواو تاءً في التوراة إبدالُها أيضاً في قولهم لِما تَراه المرأة في الطهر بعد الحيض: "التَّرِيَّة" هي فَعِيْلَة من لفظ الوراء لأنها تُرى بعد الصُّفْرَة والكُدْرَة.
الثاني: ـ وهو قولُ الفراء ـ أن وزنَها تَفْعِلَة بكسر العين، فأُبْدِلَت الكسرةُ فتحةً، وهي لغةٌ طائية، يقولون في الناصية: ناصَاة، وفي بَقِي: بَقَى قال الشاعر:
1159ـ .................... * بحِرْبٍ كناصاة الأغَرِّ المُشَهَّرِ
وقال آخر:
1160ـ .................... * ... نفوساً بُنَتْ على الكَرَمِ
وأنشد الفراء:
1161ـ وما الدنيا بباقاةٍ علينا * وما حيٌّ على الدنيا بباقٍ
(3/238)
---(1/1093)
وقد ردَّ البصريون ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا البناءَ قليلٌ جداً ـ أعني بناءَ تَفْعِلة ـ بخلاف فَوْعَلة فإنه كثير، فالحَمْلُ على الأكثؤ أولى. والثاني: أنه يلزمُ منه زيادةٌ التاءِ أولاً والتاء لم تُزَدْ أولاً إلا في مواضِعَ ليس هذاغ منها بخلافِ قَلْبِها في أولِ الكلمة فإنه ثابت، وذلك أنَّ الواو إذا وَقَعَتْ أولاً قُلِبَتْ: إمَّا همزةً نحو: أُجوه وأُقِّتَتْ وأَحَدَ وأَناة وإشاح وإعاء في: وجوه ووُقِّتَتْ ووَحَدَ ووَنَاة ووِشضاح ووِعاء، وإمَّا تاء نحو: تُجاه وتُخَمة... الخ، فاتِّباع ما عَهِدَ أَوْلى من اتِّباع مالم يُعْهَدُ.
الثالث: أنَّ وزنَها تَفْعَلَة بفتحِ العين وهو مذهبُ الكوفيين، كما يقولون في: تَتْفُلة بالضمِّ/ تَتْفَلَة بالفتح، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأمال التوراةَ حيث وردَتْ في القرآن إمالة مَحْضَة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وأمالها بينَ بينَ حمزةُ وورش عن نافع، واختُلف عن قالون: فرُوِيَ عنه بينَ بينَ والفتحُ ، وقرأها الباقون بالفتح فقط. وَوَجْهُ الإِمالة إن قلنا بأنَّ ألفَها منقلبةٌ عن ياء ظاهرٌ، وإنْ قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجهُ الإِمالة شبهُ ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعُها رابعةً فسببُ إمالتها: إمَّا الانقلابُ وإما شبهُ ألفِ التأنيثِ.
والإِنجيل: قيل: إفعيل كإجْفيل. وفي وزنه أقوال، أحدها: أنه مشتقٌّ من النَّجْل وهو الماء الذي يَنُزُّ من الأرض ويَخْرُج منها، ومنه: النَّجْلُ للولد، وسُمِّي الإِنجيل لأنه مستخردُ من اللوح المحفوظ. وقيل: من النَّجْل وهو الأصلُ، ومنه "النَّجْلُ" للوالدِ فهو من الأضداد، إاذ يُطْلق على الولد والوالد، قال الأعشى:
1162ـ أَنْجَبَ أيَّامُ والِداهُ به * إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
(3/239)
---(1/1094)
وقيل: من النَّجَل وهو التوسِعَة، ومنه: العَيْنُ النجلاءُ لسَعَتها، وسُمِّي الإنجيلُ بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تَكن في التوراة، إذ حُلِّل فيه أشياءُ كانت مُحَرَّمةً.
وقيل: هو مشتقٌّ من التَناجل وهو التنازُع، يقال: تَنَاجل الناسُ أي: تنازعوا، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك لاختلاف الناسِ فيه قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ من "إنجيل". وقرأ الحسنُ بفتحِها. قال الزمخشري: "وهذا يَدُلُّ على أنه أعجمي لأنَّ "أفعيلا" بفتح الهمزة عديمٌ في أوزان العرب". قلت: بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو: إِجْليل وإخْريط وإصْليت.
وفَرَّق الزمخشري بين "نَزَّل" و"أنزل" على عادتِه فقال: "فإنْ قلت: لِمَ قيل: نَزَّل الكتابَ، وأنزل التوراة والإِنجيل؟ قلت: لأن القرآن نَزَل منجَّماً ونَزَل الكتابان جملةً". قال الشيخ: "قد تقدَّم الردُّ عل هذا القول في البقرة، وأنَّ التعديةَ بالتضعيف لا تَدُلُّ على التكثير ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن: أَنْزَل ونَزَّل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} و{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ويدلُّ على أنهما بمعنى واحد قراءةُ مَنْ قرأ ما كان من "يُنَزِّلُ" مشدداً بالتخفيف إلا ما استُثْنِيَ، ولو كان أحدُهما يدلُّ على التنجيم والآخر على النزولِ دفعةً واحدةً لتناقض الإِخبار وهو مُحالٌ". قلت: وقد سَبَقَ الزمخشري إلى هذا الفرقِ بعينِه الواحديُّ.
* { مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
(3/240)
---(1/1095)
قوله تعالى: {مِن قَبْلُ}: متعلِّقٌ بأَنْزَل، والمضافُ إليه الظرفُ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرهُ: مِنْ قبلِك ِأو من قبلِ الكتاب. والكتابُ غَلَب على القرآن كالثريا. وهو في الأصْلِ مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: المكتوبَ، وذكَر المنزَّلَ في قوله "نَزَّل عليك" ولم يذكره في قوله: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم".
قوله: {هُدًى} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ من أجله، والعاملُ فيه أنْزَل أي: أَنْزَلَ هذين الكتابين لأجلِ هداية. ويجوز أن يكونَ متعلقاً من حيث المعنى بنَزَّلَ وأنزل معاً، وتكونُ المسألةُ من بابِ التنازع على إعمال الثاني، والحذفُ من الأولِ تقديرُه: نَزَّلَ عليكم له أي: للهدى، فَحَذَفَه، ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بالفعلين معاً تعلُّقاً صناعياً لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علةً للفعلين معاً، كما تقول: "أكرمْتُ زيداً وضربْتُ عمراً إكراماً لك" يعني أن الإكرام علةٌ للإِكرامِ وللضرب.
والثاني: ان ينتصِبَ على الحالِ من التوراةِ والانجيلِ، ولم يُثنَّ لأنهن مصدرٌ وفيه الأوجُه المشهورةُ من حَذْف المضافِ أي: ذوي هدىً أو على المبالغةِ بأَن جُعِلا نفسَ الهُدَى أو على جَعْلِهما بمعنى هاديين. وقيل: إنه حال من الكتاب والتوارة والإِنجيل، وقيل: حالٌ من الإِنجيل فقط وحُذِف مِمَّا قبله لدلالة هذا عليه. وقال بعضُهم: تَمَّ الكلامُ عند قولِه تعالى: {مِن قَبْلُ} فَيُوقَفُ عليه ويُبْتَدَأُ قولِه {هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} أي: وأَنْزَل الفرقانَ هدىً للناس. وهذا التقديرُ غيرُ صحيحٍ لأنه يُؤدِّي إلى تقديم المعمولِ على حرفِ النسقِ وهو ممتنعٌ، لو قلت: "قام زيد مكتوفةً وضُرِبَتْ هندٌ" تعني: "وضُرِبَت هند مكتوفةً" لم يَصِحَّ البتة فكذلك هذا.
(3/241)
---(1/1096)
قوله: {لِّلنَّاسِ} يُحْتمل أن يتعلَّقَ بنفسِ "هُدَى" لأنَّ هذه المادة تتعدَّى باللامِ كقولِه تعالى: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لهدىً.
قوله: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} يُحْتَمل أن يرادَ به جميعُ الكتاب السماوية، ولم يُجمع لأنه مصدرٌ بمعنى الفَرْق كالغفران والكفران، وهو يَحْتملُ أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع الفاعلِ أو المفعول والأولُ أظهرُ. وقال الزمخشري: "أو كَرَّر/ ذِكْرَ القران بما هو نعتٌ له ومُدِحَ مِنْ كونِه فارقاً بين الحقِّ والباطل بعد ما ذكَره باسم الجنس تعظيماً لشأنِه وإظهاراً لفضلِه". قلت: قد يعتقد معتقدٌ أنّ في كلامِه هذا رَدَّاً لقولِه الأول حيث قال: "إن "نَزَّل" يقتضي التنجيم و"أنزل" يقتضي الإنزال الدَّفْعيَّ، لأنه جَوَّز أن يُراد بالفرقان القرآنُ، وقد جاء معه "أنزل"، ولكن لا ينبغي أَنْ يُعْتَقد ذلك لأنه لم يَقُل: إنَّ "أَنْزل" للإِنزال الدفعيَّ فقط، بل يقول إن "نَزَّل" بالتشديد يقتضي التفريق و"أَنْزل" يحتمل ذلك ويَحْتمل الإنزالَ الدفعيَّ.
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} يَحْتمل أنْ يرتفع "عذابٌ" بالفاعليةِ بالجارِّ قبلَه لوقوعه خيراً عن "إنَّ"، ويُحْتمل أن يرفتع على الابتداء، والجملةُ خبرٌ "إنَّ" والأولُ أَوْلَى، لأنه من قبيلِ الإِخبار بما يَقْرُبُ من المفردات. وانتقام: افتعال من النِّقْمة وهي السَّطْوَةُ والتسلطُ، ولذلك عَبَّر بعضُهم عنها بالمعاقبة يقال: نَقَم ونَقِمَ، بالفتح ـ وهو الأفصحُ ـ وبالكسرِ، وقد قُرىء بهما، وسيأتي مزيدٌ بيانٍ في المائدة.
* { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ }
قوله تعالى: {فِي الأَرْضِ}: يجوز أنْ يتعلَّقَ بـ"يَخْفَى" وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشيء.
(3/242)
---(1/1097)
* { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: {فِي الأَرْحَامِ}: يجوزُ أن يتعلَّق بَيُصَوِّرُكم وهو الظاهُر، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من مفعولٍ "يُصَوِّركم" أي: يُصَوِّركم وأنتم في الأرحامِ مُضَغُ.
وقرأ طاووس: "تَصَوَّركم" فعلاً ماضياً ومعناه صَوَّركم لنفسِه ولتعبُّدِه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل كقولهم: "تأثَّلْثُ مالاً وأثَّلته" أي جعلتُه أَثْلَةً أي أصلاً، ونحُوه: وَلَّى وتَوَلَّى. والتصويرُ: تَفْعِيل من صارَه أي: أماله وثَنَاه، ومعنى صَوَّره أي: جعل له صورةً. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيءُ من تأليفٍ خاصٍ وتركيبٍ منضبطٍ.
قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الآية أجهٌ، أظهُرها: أن "كيف" للجزاءِ، وقد جُوزي بها في لسانهم في قولِهم: "كيفَ تَصْنَعُ أصنعُ، وكيف تكونَ أكونُ" إلا أنه لا يجزم بها، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما قبلَها، وكذلك مفعولٌ "يشاء" لِما تقدَّم أنه لا يُذْكَرُ إلا لغرابةٍ، والتقديرُ: كيف يشاء تصويرَكم يصوِّرَكم، فَحُذِف "تصوريكم" لأ،ه مفعولُ يشاء، و"يصوركم" لدلالة "يصوركم" الأول عليه، ونظيره قولُهم: "أنت ظالم إنْ فعلْتَ" تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يَجْعَلُ "يصوِّركم" المتقدم هو الجزاء.
(3/243)
---(1/1098)
و"كيف" منصوبٌ على الحال بالفعلِ بعدَه، والمعنى: على أيِّ حال شاءَ أنْ يُصَوِّركم صوَّركم، وتقدَّم الكلام على ذلك في قولِه: "كيف تكفرون". ولا جائزٌ أن تكون "كيف" معمولةً ليُصَوِّركم لأنَّ لها صدرَ الكلام، وما له صدُر الكلام لا يعملُ فيه إلا أحدُ شيئين: إمَّا حرفُ الجر نحو: بمَنْ تمر؟ وإمَّا المضافُ نحو: "غلامُ مَ،ْ عندك؟ الثاني: أن تكون "كيف" ظرفاً ليشاء، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اسم الله تعالى تقديرُه: يصوِّركم على مشيئة أي مريداً., الثالث: كذلك إلا أنه حالٌ من مفعول "يصوِّركم" تقديرُه: يصوركم متقلبين على مشيئة. ذَكَر الوجيهن أبو البقاء، ولَمَّا ذَكَرَ غيُره كونَها حالاً من ضمير اسمِ الله قَدَّرها بقولِه: يُصَوِّركم في الأرحامِ قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك. الرَابعُ: أَنْ تكونَ الجملةُ في موضعِ المصدرِ، المعنى: يُصَوِّركم في الأرحام تصويرَ المشيئة وكما يشاء، هكذا قال الحوفي. وفي قوله "الجلمةُ في موضعِ المصدر" تسامحُ لأنَّ الجملَ لا تقوم مقام المصادر، ومرادُه أنَّ "كيف" دالَّةٌ على ذلك، ولكن لَمَّا كانَتْ في ضمن الجملةِ نَسَبَ ذلكَ إلى الجملة. وقوله "هو الذي يصورِّكم": تحتملُ هذه الجملةُ أن تكونَ مستأنفةً سيقت لمجرد الإِخبار بذلك، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لإنَّ.
* { هُوَ الَّذِيا أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
(3/244)
---(1/1099)
قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ}: يجوزُ أن تكونَ "آيات" رفعاً بالابتداء والجارُّ خبُره. وفي الجملةِ على هذا وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من "الكتاب" أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال أي: منقسماً إلى مُحْكَم ومتشابه، ويجوز أن يكونَ "منه" هو الحالَ وحدَه، و"آياتٌ" رفع به على الفاعلية.
و{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً للنكرة قبلها، ويجوز أن تكمونَ مستأنفةً، وأخْبرة بلفظ الواحد وهو "أمُّ" عن جمع، وهو "هُنَّ": إمَّا لأن المراد كلُّ واحدةٍ منه أمُّ، وإمَّا لأنْ المجموعَ بمنزلةِ آيةٍ واحدة كقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}، وإما لأنه مفردٌ واقعٌ موقعَ الجمعِ كقوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} و:
1163ـ كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا * ...................
[وقوله]:
1164ـ .......................... * وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيب
[وقال الأخفشْ: "وَحَّد "أمَّ الكتاب" بالحكاية على تقديرِ الجواب كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟"] فقال: هُنَّ أمُّ الكتاب، كما يقال: مَنْ نظير زيد؟ فيقول قوم: "نحنُ نظيرُه" كأنهم حَكَوا ذلك اللفظَ، وهذا على قولهم: "دعني من تمرتان" أي: مِمَّا يقال له تمرتان". قال ابن الأنباري: "وهذا بعيدٌ من الصواب في الآية، لأن الإضمارَ لم يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ" وقيل: لأنه بمعنى أصلِ الكتابِ والأصلُ يُوَحَّدُ.
(3/245)
---(1/1100)
قوله: "وأُخَرُ" نسقٌ على "آيات"، و"متشابهاتٌ" نعتُ لأُخَر، وفي الحقيقة "أُخَرُ: نعتٌ لمحذوف تقديره: وآياتٌ أُخَرٌ متشابهاتُ. قال أبو البقاء: "فإنْ قيل: واحدةُ "متشابهات" متشابهة، وواحدة "أُخَر" أُخْرى، والواحدةُ هنا لا يَصِحُّ أن توصف بهذا الواحد فلا يُقال، أخرى متشابهة إلا أن يكونَ بعضُ الواحدةُ يُشبْه بعضاً، وليس المعنى على ذلك/ وإنما المعنى أنَّ كل آيةٍ تشبه آيةً أخرى، فكيف صَحَّ وصفُ هذا الجمعِ بهذا الجمعِ، ولم يَصِحَّ وصفُ مفردهِ بمفرده؟ قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنينِ فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياءُ المشابهةُ كانت كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلمَّا لم يَصِحَّ التشابُه إلا في حالةِ الاجتماع وَصَفَ الجمعَ بالجمع لأنَّ كلَّ واحدٍ منها يشابه باقيها، فأمَّا الواحدُ فلا يَصِحُّ فيه هذا المعنى، ونظيرُه قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} فثنَّى الضميرَ وإن كان الواحدُ لا يَقْتَتِلُ. قلت: يعني أنه ليس من شرطِ صحةِ الوصفِ في التثنية أو الجمعِ صحةُ انبساطِ مفرداتِ الأوصاف على مفرداتِ الموصوفاتِ، وإنْ كان الأصلُ ذلك، كام أنه لا يُشْتَرك في إسناد العفلِ إلى المثنَّى والمجموعِ صحةُ إسنادِه لى كلِّ واحدٍ على حِدَتِه.
وقريب من ذلك قوله: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} قيل: ليس لحافِّين مفردٌ لأنه لو قيل: "حافّ" لم يَصِحَّ، إذ لا يتحقق الحُفوفُ في واحد فقط، وإنما يتحقق بجمعِ يُحيطون بذلك الشيء المحفوفِ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعِهِ.
قوله: {زَيْغٌ} يجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية لأنَّ الجارَّ قبله صلةٌ لموصول ويجوز أن يكونَ مبتدأ وخبُره الجارُّ قبله.
(3/246)
---(1/1101)
والزَّيْغُ: قيل: المَيْلُ، وقال بعضُهم: هو أخصُّ مِنْ مُطْلق الميل، فإنَّ الزيغَ لا يُقال إلاَّ لِما كان من حقٍ إلى باطل. قال الراغب: "الزَّيْغُ: الميلُ على الاستقامةِ إلى أحدِ الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَ تتقارب، لكن "زاغ" لا يُقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل" انتهى. يقال: زاغَ يزيغُ زَيْغاً وزيغوغَةً وزَيَغاناً وزُيوغاً. قال الفراء: "والعربُ تقول في عامةِ ذواتِ الياء مِمَّا يشبه زِغْتُ مثل: سِرْتُ وصِرْتُ وطِرْتُ: سَيْرورةً وصَيْرورةً وطَيْرورةً، وحِدْتُ حَيْدودة، ومِلْتُ مَيْلولة، لا أُحصي ذلك كثرةً، فأما ذوات الواو مثل: قُلت ورضِيت فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ: الكَيْنونة والدَّيْمومة من دام، والهَيْعُوعة من الهُواع، والسَّيدودة من سُدْت". ثم ذكر كلاماً كثيراً غيرَ متعلقِ بما نحن فيه، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المصدر، وما ذكر الناس فيه، وأنه قد سُمِع فيه الأصل وهو "كَيَّنونة" في قول الشاعر:
1165ـ ................. * حَتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنونَهْ
قوله: {مَا تَشَابَهَ} مفعولُ الاتباع، وهي موصولةٌ أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً لعَوْدِ الضمير مِنْ "تَشَابَه" عليها إلاَّ على رأي ضعيفٍ. و"منه" حالٌ من فاعل "تشابه" أي: تشابه حالَ كونِه بعضَه.
قوله: "ابتغاءً" منصوبٌ على المفعولِ له أي: لأجلِ الابتغء، وهو مصدرٌ مضافٌ لمفعوله. والتأويلُ: مصدرُ أَوَّل يُؤَوِّل. وفي اشتقاقِه قولان أحدهما: أنه من آل يَؤُول أَوْلاً ومَالاً. أي: عادَ ورجَع، و"آلُ الرجل" من هذا عند بعضِهم، لأنهم يَرْجِعون إليه في مُهِمَّاتهم، ويقولون: أَوَّلْتُ الشيءَ فآلَ، أي: صَرَفْتُه لوجهٍ لائقٍ به فانصرفَ، قال الشاعر:
1166ـ أُؤَوِّلُ الحمَ على وجهه * ليس قضائي بالهَوى الجائر
وقال بعضُهم: أَوَّلْتُ الشيءَ فتأوَّل، فجعل مطاوِعَه تَفَعَّل، وعلى الأول مطاوعه فَعَل، وأنشد للأعشى:
(3/247)
---(1/1102)
1167ـ على أنها كانَتْ تَأَوَّلُ حُبِّها * تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابَ فَأَصْحَبَا
يعني أنَّ حبَّها كان صغيراً قليلاً فآل إلى العِظَم، كما يَؤُول السَّقْبُ إلى الكِبَر. ثم قد يُطْلق على العاقبةِ والمَرَدِّ، لأنَّ الأمرَ يَصِير إليهما.
والثاني: أنه مشتقٌ من: الإِيالة وهي السياسة. تقول العرب: "قد إلْنا وإيل علينا" أيك سُنْا وساسَنا غيُرنا، وكأنَّ المؤوِّلَ للكلامِ سائِسُه والقادرُ عليه وواضعُه موضعَه، نُقل ذلك عن النضر بن شميل. وفَرَّق النَاس بين التأويل والتفسير في الاصطلاح: بأن التفسيرَ مقتصَرٌ به على ما لا يُعْلم إلا بالتوقيف كأسباب النزول ومدلولاتِ الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَلٌ، والتأويل يجوز لمَنْ حَصَلَتْ عنده صفاتُ أهلِ العلم وأدواتٌ يَقْدِرُ أن يتكلَّم بها إذا رَجَع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.
وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأ والوقفُ على الجلالة المعظمة، وعلى هذا فالجملةُ من قوله: "يقولون" خبرُ المبتدأ. والثاني: أنهم منسوقونٌ على الجلالةِ المعظمة، فيكونون داخلين في علم التأويل. وعلى هذا فيجوز في الجملةِ القولية وجهان، أحُهما: أنها حالٌ أي: يعلمون تأويلَه حالَ كوِنهم قائلين ذلك، والثاني: أن تكون خبرَ مبتدأٍ مضمرٍ أي: هم يقولون.
والرُّسوخ: الثُبوتُ والاستقرار ثبوتاً ممكِّناً فهو أخصُّ من مطلقِ الثبات قال الشاعر:
1168ـ لقد رَسَخَتْ في القلبِ مني مودَّةٌ * لِلَيْلَى أَبَتْ آياتُها أَنْ تُغَيَّرا
و{آمَنَّا بِهِ} في محلِّ نصب باقول، و"كل" مبتدأٌ، أي كله أو كلٌّ منه، والجارُّ بعده خبرهُ، والجملةُ نصبٌ بالقول أيضاً.
* { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
(3/248)
---(1/1103)
قوله تعالى: {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}: العامَّةُ على ضَمَّ حرفِ المضارعة من : أزاغ يُزيغ. "قلوبَنا" مفعول به. وقرأ أبو بكر وابن فايد والجراح "لا تَزِغ قلوبُنا" بفتح التاء ورفع "قلوبنا"، وقرأه بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القرائتين فالقلوب فاعلٌ بالفعل المنهيِّ عنه، والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمعِ وتذكيرِه، والنهيُ في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاءُ الله تعالى، أي: لا تُزِغْ قلوبَنا فَتَزيغَ، فهو من باب "لا أُرَيَنَّك هَهنا: وقولِ النابغة:
1169ـ لا أَعْرِفَنْ رَبْرَباً حوُراً مَدامِعُها * ....................
قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} "بعد" مصوبٌ بـ"لا تُزِغْ" و"إذ: هنا خَرَجَتْ عن الظرفيةِ للإِضافةِ إليها، وقد تقدَّم أنَّ تصرُّفَها قليلَ، وإذا خرجت عن الظرفية فلا يتغَّيرُ حكمُها من لزومِ إضافتها إلى الجملة بعدها كما لم يتغير غيرُها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله: {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} و{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} في قراءة من رفع "يوم" في الموضعين، وقول الآخر:
1170ـ ............... * على حينِ الكرامُ قليلُ
[وقوله]:
1171ـ على حينِ مَنْ تَلْبَثْ عليه ذَنُوبُه * .................
[وقوله]:
1172ـ على حينِ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا * .................
[وقوله]:
1173ـ ألا ليت أيامَ الصفاءِ جديدُ * ..................
كيف خرجَتْ هذه الظروفُ من النَّصبِ إلى الرفعِ والجرِّ والنصبِ بـ"ليت" ومع ذلك هي مضافةٌ للجملِ التي بعدها.
(3/249)
---(1/1104)
قوله: {وَهَبْ} الهِبَةُ: العَطِيَّةُ، حُذِفَتْ فاؤها لِما تقدَّم في "عِدة" ونحوِها، كان حقُّ عينِ المضارع فيها كسرَ العين منه، إلا أنذَ ذلك مَنَعه كونُ العينِ حرفَ حلق، فالكسرةُ مقدرةٌ. فلذلك اعتُبِرت تلك الكسرةُ المقدرة، فحُذِفَت لها الواو، وهذا نحو: يَضَع ويَسَع لكونِ اللامِ حرفَ حلق. ويكون "هَبْ" فعلَ أمرِ بمعنى ظُنَّ، فيتعدَّى لمفعولين كقوله:
1174ـ ................. * وإلاَّ فَهَبْنِي أمرَأً هالِكاً
وحينئذ لا تتصرَّفُ. ويقال أيضاً: "وَهَبَني اللهُ فداكَ" أي: جَعَلَني، ولا تتصرَّفُ أيضاً عن الماضي بهذا المعهنى.
قوله: {مِن لَّدُنْكَ} متعلق بـ"هَبْ"، ولَدُنْ: ظرف وهي لأولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو: مِنْ لَدُن زيد، فليست مرادفةً لـ"عند" بل قد تكون بمعناها، وبعضُهم يقيِّدها بظرف المكان، وتُضاف لصريح الزمان، قال:
1175ــ تَنْتَهِضُ الرِّعْدة في ظُهَيْري * من لَدُنِ الظُّهْرِ إلى العُصَيْرِ
ولا تُقْطَعُ عن الإضافةَ بحالٍ، وأكثرُ ما تضافُ إلى المفرداتِ، وقد تُضَافُ إلى "أن" وصلتها لأنهما بتأويلِ مفردٍ قال:
1176ـ وُلِيْتَ فلم تَقْطَعْ لدُنْ أَنْ وَليْتَنَا * قرابةَ ذي قُرْبى ولا حَقَّ مُسْلِمِ
أي: لدنْ ولايتك إيانا، وقد تُضَاف إلى الجملةِ الاسمية كقوله:
1177ـ تَذَكَّرُ نُعْماه لَدُنْ أنتَ يافعٌ * إلى أنتَ ذو فَوْدَيْنِ أبيضَ كالنسرِ
وقد تُضاف للفعلية كقوله:
1178ـ لَزِمْنا لَدُنْ سالَمْتُمونا وفاقَكم * فلأيكُ منكمْ للخِلافِ جُنوحُ
وقال آخر:
1179ـ صريعُ غوانٍ رَاقَهُنَّ ورُقْنَه * لدُنْ شَبَّ حتى شابَ سودَ الذوائبِ
وفيها لغتان: الإعراب وهي لغةُ قيس. وبها قرأ أبو بكر عن عاصم: "مِنْ لَدُنهِ" بجر النون، وقوله:
1180ـ من لَدْنِ الظهرِ إلى العُصَيْرِ * .........................
(3/250)
---(1/1105)
ولا تخلوامِنْ "مِنْ" غالبا، قاله ابن جني. ومِنْ غير الغالب ما تقدَّم من قوله "لَدُنْ أَنت يافع" "لَدُنْ سالمتمونا". وإنْ وقع بعدها لفظُ "غدوة" خاصةً جاز نصبُها ورفعُها، فالنصبُ على خبرِ كان أو التمييزِ، والرفعُ على إضمار "كان" التامةِ، ولولا هذا التقديرُ لَزم إفرادِ "لَدُنْ" عن الإِضافة، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ، فَمِنْ نَصْبِ "غدوة" قولُه:
1181ـ وما زال مُهْرِي مَزْجَرَ الكلبِ منهم * لَدُنْ غدوةً حتى دَنَتْ الغروبِ
واللغة المشهورةةُ بناؤُها، وسببُه شَبَهُها بالحَرْف في لزومِ استعمالٍ واحد، وامتناعَ الإخبار بها بخفلاِ عند ولدي، فإنهما لا يَلْزَمنا استعمالاً واحداً، إذ يكونانت فَضْلةً وعُمْدةً وغايةً وغيرَ غاية بخلاف "لَدُن"., وقال بعضهم: "عِلَّةُ بنائِها كونُها دالةً على الملاصَقَةِ صفةً ومختصةً بها بخلافِ "عند" فإنها لا تدلُّ على الملاصقةِ، فصارَ فيها مَعنًى لا يَدُلُّ عليه الظرفُ، بل هو من قبيلِ ما يَدُلُّ عليه الحرفُ، فكأنها مُضَمَّنةٌ معنى حرفٍ، كانَ مِنْ حقِّه أن يُوضَعَ لذلك فَلم يُوْضَعْ، كما قالوا في اسم الإشارة.
واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان بـ "لدن" المفتوحةِ اللامِ المضمومةِ الدالِ، الواقعِ آخرَها نونٌ، وأمَّا بقيةُ لغاتها على ما سنذكره فإنها مبنيةٌ عند جميع العرب. وفيها عشرُ لغات: الأولى ـ وهي المشهورة ــ، ولدَن ولدِن بفتح الدال وكسرِها، ولَدْن ولُدْن بفتح اللم، وضمها مع سكونِ الدل وكسر النون، ولُدْنَ بالضم والسكون وفتح النون، ولَدْ ولُدْ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال ولَتْ بإبدال الدالِ تاء ساكنة، ومتى أُضيفت المحذوفةُ النونِ إلى ضميرٍ وَجَبَ ردُّ النونِ.
قوله: {أَنْتَ الْوَهَّابُ} يُحْتمل أن تكونَ مبتدأً وأَنْ تكونَ ضميرَ الفصلِ وأن تكون تأكيداً لاسمِ "إنَّ".
(3/251)
---(1/1106)
* { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
قوله تعالى: {جَامِعُ النَّاسِ}: قرأ أبو حاتم: "جامعٌ الناسَ" بالتنونِ و النصبِ.
و{لِيَوْمٍ} اللامُ للعلة أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى في، ولم يُذْكَرْ المجموعُ لأجلهِ. و{لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صفةٌ ليوم، فالضميرُ في "فيه" عائدٌ عليه. وأبعد مَنْ جَعَلَه عائداً على الجمعِ المدلولِ عليه بجامعٍ، أو على الجزاءِ المدلولِ عليه بالمعنى أو على العَرْض.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} يجوزُ أن يكونَ من تمامِ حكاية قولِ الراسخين فيكونَ التفاتاً من خطابهِم للباري تعالى بغير الخطاب إلى الإتيانِ بالاسمِ الظاهرِ دلالةً على تَعْظِيمه، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً من كلام اللهِ فلا التفاتَ حينئذٍ، والميعادُ: مصدرٌ، وياؤُه عن واو الانسكار ما قبلَها كميِقات.
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ }
قوله تعالى: {لَن تُغْنِيَ}: العامَّةُ على "تُغْني" بالتاء من فوق مراعاةً لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن وأبو عبدالرحمن بالياء مِنْ تحتِ بالتذكيرِ على الأصل، وسَكَّن الحسن ياء "تُغْني" استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلة. وذهاباً به مذهبَ الألف، وبعضُهم يَخُصُّ هذا بالضرورةِ.
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} في "من" هذه أربعة أوجه: أحدها: أنها لابتداءِ الغاية مجازاً أي: مِنْ عذاب الله وجزائه. الثاني: أنها بمعنى عند، قال أبو عبيدة: هي بمعنى عند كقوله: {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: عندَ جوع وعند خوف، وهذا ضعيفٌ عند/ النحويين.
(3/252)
---(1/1107)
الثالث: أنها بمعنى بدل. قال الزمخشري: "قوله" من الله مثلُ قوله: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي: بدلَ رحمتشه وطاعته وبدلَ الحق، ومنه "ولا يَنْفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" أي: لا ينفعَهُ جَدَّهُ وحَظُّه من الدنيا بدلك، أي: بدلَ طاعتِك وما عندك، وفي معناه قولُه تعالى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى}، وهذا الذي ذَكَره من كونِها بمعنى "بدل" جمهورُ النحاة يَأْباه، فإنَّ عامَّة ما أورده مجيزُ ذلك بتأولُه الجمهور، فمنه قولُه:
1182ـ جاريةً لم تأْكِلِ المُرَقَّقا * ولم تَذُقْ من البقولِ الفُسْتقا
وقول الآخر:
1183ـ أخذوا المَخَاضَ من الفصيلِ غُلُبَّةً * ظُلْماً ويُكتبُ للأميرِ أَفِيلا
وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
(3/253)
---(1/1108)
}. الرابع: أنها تبعيضيةٌ، ألاَّ أنَّ هذا الوجهَ لَمَّا أجازهن الشيخ جعله مبنياً على إعرابِ "شيئاً" مفعولاً به، بمعنى: لا يَدْفع ولا يمنع. قالَ: فعلى هذا يجوزُ أن تكنَ "مِنْ" في موضع الحال من شيئاً، لأ،ه لو تأخَّر لكان في موضع النعتِ له، فلمَّا تقدَّم انتصب على الحال، وتكن "مِنْ" إذ ذاك للتعبيض. وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ البتة، لأنَّ "مِنْ" التبعيضيَّةَ تُؤوَّلُ بلفظ "بعض" مضافةً لِما جَرَّته مِنْ، ألا ترى أنك إذا قلت: "رأيت رجلاً من بني تميم" معناه بعضَ بني تميم، و"أخذت من الدارهم": بعضَ الدراهم، وها لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصلاً، وإنما يَصِحُّ جَعْلُه صفةً لشيئاً إذا جعلنا "مِنْ" لابتداء الغايةى كقولك: "عندي درهم من زيد" أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيضُ، والحالُ كالصفةِ في المعنى، فامتنعَ أن تكونَ "منْ" للتعبيض مع جَعْلِه "من الله" حالاً من "شيئاً"، والشيخُ تَبعَ في ذلك أبا البقاء، إلاَّ أنَّ أبا البقاء حين قال ذلك قَدَّرَ مضافاً صَحَّ به قَولُه، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يَتْبَعَه [في هذا الوجه مُصَرِّحاً بما يَدْفَعُ] هذا الردَّ الذي ذكرتُه.
و"شيئاً": إمَّا منصوبٌ على المفعولِ به، وقد تقدَّم تأويله، وإمَّا على المصدرية أي: شيئاً من الإغناء. قوله: {وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ} هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفقةً. والثاني: أن تكونَ منسوقةً على خبر إنَّ، و"هم" يحتملُ الابتداءَ والفصلَ. وقرأ العامة: "وَقود" بفتح الواو، والحسن بضمِّها، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة، وأنَّ المصدريةَ مُحْتَمَلةٌ في المفتوحِ الواوِ أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويلِه فلا حاجةً إلى إعادتِه هنا.
* { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
(3/254)
---(1/1109)
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}: في هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: دَأْبُهم في ذلك كدأبِ آلِ فرعون، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ وفي الناصب لها تسعةُ أقوال: أحدها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والعاملُ فيه "كفروا" تقديره: "إنَّ الذين كفروا كفراً كدأبِ آل فرعون، أي: كعادَتِهم في الفكر، وهو رأيُ الفراء. وهذا القولُ مردودٌ بأ،ه قد أَخْبَرَ عن الموصول قبل تمام صلتِه، فَلَزِمَ الفصلَ بين أبعاضِ الصلةِ بالأجنبي، وهو لا يجوزُ. والثاني: أنه منصوبٌ بكفروا، لكنْ مقدَّراً لدلالةِ هذا المفلوظِ به عليه. الثالث: أن الناصبَ مقدرٌ مدلولٌ عليه بقوله: "لَنْ تُغني" أي بَطَلَ انتفاعُهم بالأموال والأولادِ كعادةِ آل فرعون، في ذلك. الرابع: أنه منصوبٌ بلفظ "وقود" أي: تُوقد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: "إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك" تريد: كظلمِ أبيك، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ لأن الوَقودَ على القراءةِ المشهورةِ الأظهرُ فيه أنه اسمٌ لما يُوْقَدُ به، وإذا كان اسماً فلا عملَ له. فإنْ قيل: إنه مصدرٌ أو على قراءةِ الحسن صَحَّ.
(3/255)
---(1/1110)
الخامس: أنه منصوبٌ بنفس "لن تُغْني" أي: لن تُغْنِي عنهم مثلَ ما لم تَغْنِ عن أولئك، ذَكَره الزمخشري، وضَعَّفه الشيخ بلزوم الفصلِ بين العامل ومعمولِه بالجملةِ التي هي قوله: {وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، قال: "على أيّ التقديرين اللذين قَدَّرْناهما فيها من أن تكونَ معطوفةً على خبر "إنَّ" أو على الجملةِ المؤكَّدةِ بإنَّ,. قال: "فإنْ جَعَلْتهَا اعتراضيةً ـ وهو بعيدٌ ـ جاز ما قاله الزمخشري, السادس: أن يكونَ العاملُ فيها فعلاً مقدراً مدلولاً عليه بفلظِ الوقودِ تقديرُه: يُوقد بهم كعادةِ آل فِرعون، ويكون التشبيهُ في نفسِ الاحتراق، قاله ابن عطية. السابع: أَنَّ العاملَ "يُعَذَّبون" كعادة آل فرعون، يَدُلُّ عليه سياقُ اكلام. الثامن: أنه منصوبٌ بـ:"كَذَّبوا بآياتنا"، والضميرُ في "كَذَّبوا" على هذا لكفار مكة وغيرِهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: كَذَّبوا تكذيباً كعادةِ آل فِرعون في ذلك التكذيبِ. التاسع: أنَّ العاملَ فيه قوله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي: فأخذهم الله أَخْذاً كأخذِه آلَ فرعون، وهذا مردودٌ، فإنَّ ما بعد الفاءِ العاطفةِ لا يَعْمل فيها قبلها، لا يجوزُ: "قُمْتُ زيداً فضربْتُ" وأما "زيداً فاضربْ" فقد تقَّم الكلامُ عليه في البقرة. وقد حكى بعض النحويين عن الكوفيين أنهم يُجيزون تقديمَ المعمولِ على حرف العطف فعلى هذا يجوز هذا القول.
وفي كلام الزمخشري سهوٌ فإنه قال: "ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مَحَلُّ الكاف بـ"لن تُغْني" أو "بخالدون" أي: لن تُغْنيَ عنهم مثلَ ما لم تُغْنِ عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يَخْلُدون"، وليس في لفظ الآية الكريمة "خالدون" إنما نظْمُ القرآن: {وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} ويَبْعُدُ أَنْ يُقال أراد "خالدون" مقدَّراً يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام.
(3/256)
---(1/1111)
قوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يجوزُ أن يكونَ مجروراً نَسَقَاً على آل فرعون وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبرُ قولُه بعدَ ذلك: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً. وخَصَّ أبو البقاء جوازَ الرفعِ بكونِ الكافِ في محلِّ الرفعِ فقال: "فعلى هذا ـ أي على كونِها مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ ـ يجوزُ في {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وجهان أحدُهما: هو جرُّ بالعطفِ/ أيضاً، و"كَذَّبوا" في موضعِ الحالِ، و"قد" معه مضمرةٌ، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له، ذُكِر لشَرْحِ حالِهم، والوجهُ الآخرُ أن يكونَ الكلامُ تَمَّ على فرعون و"الذين مِنْ قبلِهم مبتدأُ، وكَذَبوا خبرُه".
والدَّأْبُ: العادَةُ، يقال: دَأَبَ يَدْأَبُ أي: واظبَ ولازَم، ومنه: "دَأَبا" أي: مداومةً. وقال امرؤ القيس:
1184ـ كدَأْبِك من أمِّّ الحُوَيْرث قبلها * وجارتِها أمِّ الرَّبابِ بمَأْسَلِ
ويقال: دَأَبَ يدأَبُ دُؤوبا، قال زهير:
1185ـ لأرتَحِلَنْ بالفجر ثم لأدْأَبَنْ * إلى الليلِ إلاَّ أن يُعَرِّجَني طِفْلُ
وقال الواحدي: الدأَبُ: الإِجهاد والتعبُ، يقال: سار فلان يومه كلَّه يدأَبُ فيه فهو دائِبٌ، أي: أُجْهِدَ في سيره، هذا أصلُه في اللغة، ثم يصير الدأبُ عبارةً عن الحالِ والشأن والعادةِ، لاشتمالِ العمل والجُهْدِ على هذا كله، ولذا قال الزمخشري قال: [الدأب]: مصدرُ دَأَب في العملِ إذا كَدَحَ فيه، فَوُضِعَ مََوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنِه وحاله" ويقال: دَأْب ودَأَب، بسكون الهمزة وفتحها، وهما لغتان في المصدر كالضَّأْن والضَّأَن، والمَعْز والمَعَز. وقرأ حفص "سَبْعَ سنينَ دَأَبا"، بالفتح، قال الفراء: "والعربُ تُثَقِّل ما كان ثانيه من حروفِ الحلق كالنَّعْل والنَّعَل والنَّهْر والنهَر والشَّأْم والشَّأَم" وأشد:
1186ـ قد سار شرقيُّهم حتى أَتعوا سَبَأً * وانساح غربيُّهم حتى هوى الشَّأَما
(3/257)(1/1112)
---
قوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً عن "الذين" إنْ قيل: إنه مبتدأ، وإنْ لم يكن مبتدأ فقد تقدَّم أيضاً أنه يكون بياناً للدأب وتفسيراً له كأنه قيل: ما فَعَلوا وما فُعِل بهم؟ فقيل: كَذَّبوا بآياتنا، فهو جوابُ سؤالٍ مقدر، وأن يكونَ حالاً. وفي قوله "بآياتنا" التفاتٌ؛ لأنَّ قبله "من الله" وهو اسمٌ ظاهر. والباءُ في "بذنوبهم" يجوز أن تكونَ للسببيةِ أي: أَخَذَهم بسبب ما اجترموا، وأن تكونَ للحال أي: أخذهم ملتبسين بالذنوبِ غيرَ تائبين منها.
[والذَّنْبُ في الأصل: التِلْوُ والتابعُ، وسُمِّيَتِ الجريمة ذنباً] لأنها يتلو ـ أي يتبع ـ عقابُها فاعلَها؛ والذَّنُوب: الدَّلْو لأنها تتلو الحبلَ في الجَذْب، وأصلُ ذلك من ذَنَبِ الحيوان لأنه يَذْنُبُه أي يَتْلو يقال: ذَنَبه يَذْنُبُه ذَنْباً أي: تَبِعه.
قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} كقوله: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: شديدٌ عقابُ،ـ وقد تقدَّم تحقيقه. وقد اشتملت هذه الآيات من اولِ السورةِ إلى ههنا أنواعاً من علمِ المعاني والبيان والبديع لا تَخْفى على متأمِّلها.
* { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
(3/258)
---(1/1113)
قوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} قرأ الأخَوان هذين الفعلين بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، والغيبة والخطاب في مثل هذا التركيب واضحانِ كقولِك: "قل لزيد: قم" على الحكاية، وقل لزيد: يقوم، وقد تقدم نحوٌ من هذا في قولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}. وقال الشيخ في قراءةِ الغَيْبة: "الظاهرُ أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكونُ الجملةُ إذ ذاك ليست محكيةً بقل، بل محكيةٌ بقول آخر، التقديرُ: قُلْ لهم قَوْلي سَيُغْلَبُون وإخباري أنه ستقعُ عليم الغَلَبَةُ، كما قال: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} فالبتاءِ أخبرهم بمعنى ما أُخْبر به من أنهم سَيُغْلبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أُخبر به أنهم سَيُغْلبون".
وهذا الذي قاله سبقَه إليه الزمخشري فأخَذَه منه، ولكنَّ عبارةَ أبي القاسم أوضحُ فَلْنوردها، قال رحمه الله: "فإنْ قلت: أيُّ فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء ـ أي من فوق ـ الأمرُ بأَنْ يُخْبرهم بما سَيَجْري عليهم من الغَلَبة والحَشْر إلى جهنم، فهو أخبار بمعنى سَتُغْلبون وتُحْشَرون فهو كائن من نفسِ المتوعَّدِ به، وهو الذي يدل عليه اللفظُ، ومعنى القراءةِ بالياء الأمرُ بأَنْ يحكي لهم ما أَخْبره به من وعيدشهم بفلظه كأنَّه قال: أدِّ إليهم هذا القولَ الي هو قَوْلي لك سَيُغْلبون ويُحْشَرُون".
(3/259)
---(1/1114)
وجَوَّز الفراء وثعلب أن يكونَ الضميرُ في "سَيُغْلبون ويُحْشرون" لكفار قريش، ويرادُ بالذين كفروا اليهودُ، والمعنى: قُلْ لليهود: سَتُغْلَبُ قريش"، هذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط. قال مكمي: "ويُقَوِّي القراءة بالياء ـ أي: من تحت ـ إجماعُهم على الباء في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَنتَهُواْ}، قال: "والتاء ـ يعني من فوق ـ أحَبُّ إليَّ لإِجمع الحرميين وعاصم وغيرهم على ذلك" قلت: ومثلُ إجماعهم على قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَنتَهُواْ} أجماعُهم على قولِه: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
}؟ وقال الفراء: "مَنْ قرأ بالتاء جَعَل اليهود والمشركين داخلين في الخطاب، ثم يجوزُ في هذا المعنى الياءُ والتاءُ، كما تقول في الكلام: "قل لعبد الله: إنه قائم وإنك قائم"، وفي حرفِ عبدالله: "{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوااْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، ومَنْ قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبةِ اليهود، وأنّ الغلبةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سَيُغْلَبُ المشركون ويُحْشرون، فليس يجوزُ في هذا المعنى إلا الياءُ لأنَّ المشركين غَيْبٌ.
قوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: بئس المهاد جهنمُ. والحذفُ للمخصوصُ يدلُّ على صحةِ مذهبِ سيبويه من أنه مبتدأ والجملةُ قبلَه خبرُه، ولو كان كما قالَ غيرُه متبدأً منحذوفَ الخبرِ أو بالعكسِ لما حُذِف/ ثانياً للإجحافِ بحَذْفِ سائِر الجملة.
* { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ }
(3/260)
---(1/1115)
قوله تعالى: {قَدْ كَانَ}: جوابُ قسمٍ محذوفٍ، و"آيةٌ" اسمُ كان، ولم يؤنِّث الفعلَ لأنَّ تأنيثَ الآيةِ مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان، لوجودِ الفصلِ بـ"لكم"، فإنَّ الفصلَ مُسَوِّغٌ لذلك مع كونِ التأنيث حقيقاً كقوله:
1187ـ إنَّ امرَأً غَرَّه منكنَّ واحدةٌ * بَعْدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ
وفي خبر "كان" وجهان أحدُهما: أنه "لكم" و"في فئتين" في محل رفع نعتاً لآية. والثاني: أنه "في فئتين". وفي "لكم" حينئذ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "أية" لأنه في الأصل صفةٌ لآية، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. الثاني: أنه متعلِّقٌ بكان، ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرف وحرف الجر، ولكنْ في جَعْلِ "في فئتين" الخبرَ إشكالٌ، وهو أن حكمَ اسمِ "كان" حُكْمُ المبتدأِ فلا يجوزُ أن يكونَ اسماً لها إلاَّ ما جاز الاتبداءُ به، وهنا لو جُعِلَتْ "آية" مبتدأً وما بعدها خبراً لم يَجُزْ، إذ لا سوِّغَ للابتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعلْتَ "لكم" الخبرَ فإنه جائزٌ لوجودِ المسوِّغِ وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جر.
قوله: {الْتَقَتَا} في محلِّ جرٍ صفةً لفتئين أي: فئتين ملتقيتين.
قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} العامة على رفع "فئة" وفيها أوجهٌ، أحدها: أن يرتفعَ على البدلِ من فاعل "التقتا"، وعلى هذا فلا بدَّ من ضمير محذوفٍ يعودُ على "فئتين" المتقدمتين في الذكر، ليسوغَ الوصفُ بالجملة، إذ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لما صَحَّ، لخلوِّ الجملةِ الوصفيةِ من ضميرٍ، والتقديرُ: في فئتين التقَتْ فئةٌ منهما وفئةٌ أخرى كافرة. والثاني: أن يرتفعَ علىخبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: إحداهما فئةٌ تقاتِلُ، فقطع الكلامَ عن أولِه، واستأنفه. ومثلُه ما انشده الفراء على ذلك:
1188ـ إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَيْنِ شامتٌ * وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ
(3/261)
---(1/1116)
أي: أحدُهما شامتٌ وآخرٌ مُثْنٍ، أي: وصنفٌ آخرُ مُثْنٍ، ومثلُه في القطع أيضاً قولُ الآخر:
1189ـ حتى إذا ما استقلَّ النجمُ في غَلَسٍ * وغُودر البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ
أي: بعضُه مَلْوِيٌّ وبعضُه مَحْصود. وقال أبو البقاء: "فإنْ قلت: فإذا قَدَّرْتَ في الأولى "إحداهما" مبتدأً كان القياسُ أن يكون والأخرى، أي: والفئةُ الأخرى كافرةٌ. قيل: لَمَّا عُلِم أنَّ التفريقَ هنا لنفس الشيءِ المقدَّمِ ذكرُه كان التعريفُ والتنكير واحداً. قلت: ومثلُ الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيتُ المقتدم: "شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ" فجاء به نكرةً دون "أل".
الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: منهما فئة تقاتل، وكذا في البيت اي: منهم شامتٌ ومنهم مُثْنٍ، ومثلُه قولُ النابغة:
1190ـ تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها * لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
رمادٌ ككحل العينِ لأْياً أُبينُه * ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خاشع
تقديره: منهنَّ أي: ومن الآيات رمادٌ، ومنهن نؤيٌ، ويَحْتَمل البيتُ أن يكونَ كما تقدم من تقديره مبتدأً، و"رمادٌ" خبرُه كما تقدَّم في نظيره.
وقرِأ الحسن ومجاهد وحميد: "فئةٍ تقاتل" بالجر على البدل من "فئتين"، ويسمَّى هذا البدلُ بدلاً تفصيلاً كقولِ كثِّير عزة:
1191ـ وكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ * ورجلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
وهو بدلُ بعضٍ من كل، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على المبدل منه تقديره: فئةٍ منهما.
(3/262)
---(1/1117)
وقرأ ابن السَّمَيْفَع وابن أبي عَبْلة "فئةً" نصباً. وفيه أربعة أوجه، أحدها: النصبُ بإضمارِ أعني. والثاني: النصبُ على المدح. وتحريرُ هذا القول أن يُقال على المدح في الأول، وعلى الذم في الثاني، وكأنه قيل: أَمْدَحُ فئةً تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً. الثالث: أن ينتصبَ على الاختصاص جَوَّزه الزمخشري. قال الشيخ: "وليس بجيد؛ لأنَّ المنصوبَ [على الاختصاص] لا يكونُ نكرةً ولا مبهماً" قلت: لا يعني الزمخشري الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو "نحن معاشرَ الأنبياء لا نُوْرَثُ" إنما عني النصبَ بإضمارِ فعلٍ لائقٍ، وأهلُ البيانِ يُسَمُّون هذا النحو اختصاصاً.
الرابعُ: أن تنتصِبَ "فئةً" على الحالِ من فاعل "التقتا" كمأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون "فئةً" و"أخرى" توطئةً للحال، لأن المقصود ذِكْرُ وصفها، وهذا كقولهم: جاءني زيدٌ رجلاً صالحاً، ومثلُه في باب الإِخبار: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} ونحوُه.
قوله: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} "أُخْرى": صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ تقديره: "وفئةٌ أخرى كافرةٌ". وقُرِئَتْ "كافرة" بالرفعِ والجَرِّ على حَسَبِ القراءتين المذكورتين في "فئة تقاتل"، وهذه منسوقَةٌ عليها، وكان من حق/ من قرأ "فِئَةً تقاتل" نصباً أن يقرأ: "وأخرى كافرةً" نصباً عطفاً على الأولى، ولكني لم أحفظ فيها ذلك. وفي عبارة الزمخشري ما يُوْهم القراءةَ به فإنه قال: "وقُرىء فئة تقاتل وأخرى كافرة بالجرِّ على البدلِ من فئتين، وبالنصبِ على الاختصاص أو الحال"، فظاهرُ قولِه: "وبالنصب" [أي: في جميعِ ما تقدم وهو: فئة تقاتل وأخرى كافرة]. وقد تقدَّم سؤال أبي البقاء وهو: لم يَقُلْ "والأخرى" بالتعريفِ، أعني حالَ رفعِ "فئةُ تقاتل" على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: "إحداهما"، والجوابُ عنه.
(3/263)
---(1/1118)
والعامَّةُ على "تقاتل" بالتأنيثِ لإِسنادِ الفعلِ إلى ضميرِ المؤنث، ومتى أُسْنِدَ إلى ضميرِ المؤنث وَجَبَ تأنيثُه، سواءً كان التأنيثُ حقيقةً ِأم مجازاً نحو: "الشمس طَلَعَت" هذا جمهورُ الناسِ عليه، وخالَفَ ابن كيسان فأجاز: "الشمس طَلَع" مستشهداً بقوله الشاعر:
1192ـ فلآ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها
فقال: "أبقل" وهو مسندٌ لضميرِ الأرض ولم يَقُلْ: أبقلَتْ، وغيرُه يَخُصُّهُ بالضرورةِ. وقال هو: "لا ضرورةَ إذ كان يمكنُ أن يَنْقُلَ حركةَ الهمزةِ على تاءِ التأنيثِ الساكنة فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ بْقالَها. وقد ردُّوا عليه بأن الضرورةَ ليس معناها ذلك، ولئن سَلَّمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان من لغتِه النقلُ، لأنَّ النقلَ ليس لغةً لكلِّ العرب.
وقرأ مجاهد ومقاتل: "يقاتل" بالياء من تحت، وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابن كيسان ومقويةٌ له. قالوا: والذي حَسَّن ذلك كونُ "فئة" في معنى القومِ والناس؛ فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً.
(3/264)
---(1/1119)
قوله: {يَرَوْنَهُمْ} قرأ نافع وحده من السبعةِ ويعقوب وسهل:: "تَرَوْنهمه" بالخطابِ، والباقون من السعبة بالغَيْبة. فأمَّا قراءةُ نافع ففيها ثمانية أوجه، أحدُها: أن الضميرَ في "لكم" والمرفوعَ في "تَرَوْنهم" للمؤمنين، والضميرَ المنصوب في "تَرَوْنهم" والمجرورَ في "مِثْلَيْهم" للكافرين. والمعنى: قد كان لكم أيها المؤمنون آيةٌ في فئتين بأَنْ رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغُ في القدرةِ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عددِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغَلَبوهم وأَوْقَعوا بهم الأفاعيلَ. ونحُوه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} واستبَعَدَ بعضُهم هذا التأويلَ لقوله تعالى في الأنفالِ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيا أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً}، فالقصةُ واحدةٌ، وهناك تَدُلُّ الآية على أن الله تعالى قَلَّل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يَجْبُنوا عنه، وعلى هذا التأويلِ المذكور هنا يكون قد كَثَّرهم في أعينهم.
ويمكنُ أن يُجابَ عنه باختلافِ حالَيْنِ، وذلك أنه في وقتٍ أراهم إيَّاهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قَلَّلهم في أعنيهم ليقدُموا عليهم، فالإِتيانُ باعتبارين ومثلُه: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} مع: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} مع: {هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ}. وقال الفراء: "المرادُ بالتقليل التهوينُ كقولِك: "رأيتُ كثيرَهم قليلاً" لهوانِهِم عندَ، وليس من تقليلِ العدد في شيء".
(3/265)
---(1/1120)
الثاني: أن يكونَ الخطاب في "تَرَوْنهم" للمؤمنين أيضاً، والضميرُ المنصوبُ في "ترونهم" للكافرين أيضاً، والضميرُ المجرورِ في "مِثْلَيْهم" للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الكافرين مثلي عددِ أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأيِ العين، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا ألفاً ونَيِّفاً والمسلمونُ على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قَرَّر عليم من مقاومةِ الواحدِ للاثنين في قوله تعالى: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} بعد ما كُلِّفوا أن يقاومَ واحدٌ العشرةَ في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}. قال الزمخشري: "وقراءةُ نافع لا تساعد عليه" عين على هذا التأويلِ المذكور، ولم يُبَيِّنْ وجه عدمِ المساعدةِ، وكأنَّ الوجَه ي ذلك ـ والله أعلم ـ أنه كان ينبغي أن يكونَ التركيب: "تَرَوْنهم مثليكم" بالخطاب في "مثليكم" لا بالغَيْبة. وقال أبو عنبدالله الفاسي ـ بعد ما ذكرته عن الزمخشري : "قلت: بل يساعِدُ عليه إن كان الخطابُ في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك" انتهى، فلم يأتِ أبو عبدالله بجوابٍ، إذ الإشكالُ باقٍ.
وقد أجابَ بعضُهم عن ذلك بجوابين، أحدُهما: أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة وأن حقَّ الكلام: "مِثْلَيْكم" بالخطاب، إلا أنه التفتَ إلى الغَيْبة، ونظَّره بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}. والثاني: أن الضميرَ في "مِثْلَيْهم" وإن كان المرادُ به المؤمنين إلا أنه عادَ على قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، والفئة المقاتِلة هي عبارةٌ عن المؤمنين المخاطبينَ، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الفئةَ الكافرة مِثْلَيْ الفئةِ المقاتلةِ في سبيل الله، فكأنه قيل: تَرَوْنَهم أيَها المؤمنون مِثْلَيْكُم. وهوَ جوابٌ حسنٌ ومعنى واضحٌ.
(3/266)
---(1/1121)
الثالث: أن يكونَ الخطاب في "لكم" وفي "تَرَوْنَهم" للكفار، وهم قريش، والضميرُ المنصوبُ والمجرور للمؤمنين، اي: قد كان لكم أيها المشركون/ آيةٌ حيث تَرَوْن المؤمنين مِثْلَي أنفسِهم في العدَدِ، فيكون قد كَثَّرهم في أعينِ الكفار ليجبنُوا عنهم، فيعودُ السؤالُ المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال، وهي قوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِيا أَعْيُنِهِمْ}، فكيف يقال هنا إنه كَثَّرهم فيعودُ الجواب بما تقدَّم من اختلافِ حالتين، وهو أنه قَلَّلهم أولاً ليجترىءَ عليهم الكفارُ، فلمَّات التقى الجمعان كَثَّرهم في أعيِنِهم ليحصُل لهم الخَورُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلاَّ أنَّ الضميرَ في "مِثْلَيْهم" يعودُ على المشركين فيعودُ ذلك السؤال، وهو أنه كان ينبغي أن يُقال "مِثْليكم" ليتطابق الكلامُ فيعودَ الجوابان وهما: إمَّا الالتفاتُ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا عودُه على لفظِ الفئة الكافرة، لأنها عبارةٌ عن المشركين، كما كان ذلك الضميرُ عبارةً عن الفئةِ المقاتلَةِ، ويكونُ التقديرُ: تَرَوْنَ أيه المشركون المؤمنين مِثْلَيْ فئتِكم الكافرة، وعلى هذا فيكونون قد رَأَوا المؤمنين مِثْلَي أنفسِ المشركين ألفين ونيفاً، وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيث أرى الكفارَ المؤنينَ مِثْلَي عددِ المشركين حتى فَشِلوا وجَبُنوا، فَطَمِعَ المسلمون فيهم فانتصورا عليهم، ويؤيّشده: {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} فالإراءة هنا بمنزلة المَدَدِ بالملائكةِ في النصرةِ بكليهما، ويعودُ السؤالُ حينئذٍ بطريق الأَوْلى: وهو كيف كثَّرهم إلى هذه الغايةِ مع قولِهِ في الأنفال: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِيا أَعْيُنِهِمْ}؟ ويعود الجواب.
(3/267)
---(1/1122)
الخامس: أنَّ الخطابَ في "لكم" و"تَرَوْنهم" لليهود، والضميران المنصوبُ والمجرورُ على هذا عائدان على المسلمين على معنى: تَرَوْنَهم لو رأيتموهم مِثْلَيْهم، وفي هذا التقدير تكلُّفٌ لا حاجةً إليه، وكأنت هذا القائلَ اختار أن يكونَ الخطابُ في الآية المنقضية وهي قولُه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} للهيود، فَجَعَلهُ في "تَرَوْنَهم" لهم أيضاً، ولكنَّ الخروجَ من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أَوْلى من هذا التقدير المتكلَّفِ، لأنَّ اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ حتى يُخاطَبوا برؤتِهم لهم كذلكَ. ويجوز على هذا القولِ أن يكونَ الضميرانِ المنصوبُ والمجرورُ عائِدَيْنِ على الكفار، أي: إنهم كَثَّر في أعينِهم الكفارَ حتى صاروا مِثْلي عددِ الكفارِ، ومع ذلك غلبَهم المؤمنون وانتصروا عليهم، فهو أَبْلَغُ في القدرةِ. ويجوزُ أنْ يعودَ المنصوبُ على المسلمين والمجرورُ على المشركين، أي: تَرَوْنَ أيها اليهودُ المسلمينَ مِثْلَي عددِ المشركين مهابةً لهم وتهويلاً لأمرِ المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدَّم من الأقوال. ويجوز أن يعودَ المنصوبَ على المشركين والمجرورُ على المسلمين، والمعنى: تَرَوْنَ أيها اليهودُ لو رايتم المشركينَ مِثْلَي عددِ المسلمين، وذلك أنهم قُلِّلُوا في أعينهم ليحصُل لهم الفزعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يَغُمُّهُم قلةُ الكفارِ ويعجبُهم كثرتُهُم ونصرتُهم على المسلمين حسداً وَبَغْياً فهذه ثلاثة أوجهٍ مترتبةٌ على الوجه الخامسِ، فتصيرُ ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع.
(3/268)
---(1/1123)
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أنها كقراءةِ الخطاب، فكلُّ ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على بابِ الالتفاتِ أي: التفاتٌ من خطاب إلى غيبة. الثاني: أن الخطاب في "لكم" للمؤمنين، والضميرُ المرفوعُ في "يَرَوْنَهم" للكفار، والمنصوبُ والمجرورُ للمسلمين، والمعنى: يَرَى المشركون المؤمنين مِثْلَي عدد المؤمنين ستمئة ونيفاً وعشرين، أراهم الله ـ مع قِلَّتهم ـ إياهم ضِعْفَيْهم ليَهَابُوهنم ويَجْبُنوا عنهم. الثالث: أنَّ الخطاب في "لكم" للمؤمنين أيضاً، والمرفوعُ في "يَرَوْنَهم" للكفار، والمنصوبُ للمسلمين والمجرورُ للمشركين، أي: يرى المشركونَ المؤمنين مِثْلَي عددِ المشركين، أراهم الله المؤمنينَ أضعافَهم لِما تَقدَّم في الوجه قبله.
الرابع: أن يعودَ الضميرُ المرفوع في "يَرَونهم" على الفئةِ الكافرة؛ لانها جَمْعٌ في المعنى، والضميرُ المنصوب والمجرورُ على ما تقدم من احتمالِ عودِهما على الكافرينَ أو المسلمين أو أحدِهما لأحدِهم.
(3/269)
---(1/1124)
والذي تَقَوَّى في هذه الآيةِ من جميعِ ما قَدَّمْتُهُ من حيِث المعنى أَنْ يكونَ مَدارُ الآيةِ على تقليلِ المسلمينَ وتكثيرِ الكافرين، لأنَّ مقصودَ الآية ومساقَها الدلالةُ على قُدْرَةِ الله الباهرةِ وتأييدِهِ لعبادِه:ِ المؤمنين مع قلةِ عددِهم وخذلانِ الكافرين مع كثرةِ عددهِم، بل سببُه ما فعلَه تبارك وتعالى من القاءِ الرعبِ في قلوبِ أعدائِكم، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك/: {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} وقال في موضع آخر: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً}. قال الشيخ أبو شامة ـ بعد ذِكْره هذا المعنى وَجَعَلَهُ قوياً ـ: "فالهاءُ في تَرَوْنَهم للكفارِ سواءً قُرىء بالغَيْبَةِ أم بالخطاب والهاءُ في "مثليهم" للمسلمين. فإنْ قلت: إن كان المرادُ هذا فلاه قيل: يَرَونْهَم ثلاثةَ أمثالهم. فكان أبلغَ في الآية، وهي نصرُ القليلِ على هذا الكثيرِ، والعُدَّةُ كانت كذلك أو أكثرَ. قلت: أخبرَ عن الواقعِ، وكان آيةً أخرى مضمومةً إلى آية البصر، وهي تقليلُ الكفارِ في أعينِ المسلمين وقُلِّلُوا إلى حدٍّ وُعِدَ المسلمونَ النصرَ عليهم فيه، وهو أن الواحدَ من المسلمين يَغْلِبُ الاثنين، فلم تكن حاجةٌ إلى التقليلِ بأكثرَ من هذا، وفيه فائدةٌ: وقوعُ ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه" انتهى.
(3/270)
---(1/1125)
قلت: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أغني أهم يَرَوْنَهم ثلاثةَ أمثالهم، فإنه قال: "مِثْليهم: ثلاثةَ أمثالهم، كقول القائل: "عندي ألف وأنا محتاجٌ إلى مثليها" وغَلَّجه أبو إسحاق في هذا، قوال: "مثلُ الشيء ما سواه، ومِثْلاه ما ساواه مرتين". قال ابن كيسان: "الذي أَوْقَع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يومَ بدر ثلاثةَ أمثالِهم، فتوهَّمَ أنه لا يجوزُ أن يَرَوْهم إلا على عُدَّتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غيرِ عُدَّتهم لجهتين، إحداهما: أنه رأى الصلاحَ في ذلك؛ لأن المؤمين [تُقَوَّى قلوبُهم بذلك، والأخرى] أنه آيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجملةُ على قراءةِ نافع تَحْتَمِلُ أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويُحتُمل أن يكونَ لها محلٌّ، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: النصبُ على الحال من "كم" في "لكم" أي: قد كان لكم حالَ كونِكم تَرَوْنهم. والثاني: الجرُّ نعتاً لفئتين، لأنَّ فيها ضميراً يَرْجع عليهما، قاله أبو البقاء.
وأمَّا على قراءةِ الغَيْبةِ فتحتملُ الاستئنافُ، وتحمتلُ الرفعَ صفةً لإِحدى الفئتين، وتحتمل الجرَّ صفةً لفئتين أيضاً، على أَنْ تكونَ الواوُ في "يَرَوْنَهم" تَرْجِعُ إلى اليهود، لأنَّ في الجملة ضميراً يعودُ على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة "تُرَوْنَهم" مبنياً للفعول على الخطاب. والسلمي كذلك، إلا أنه بالغيبة. وهما واضحتان مما تقدَّم تقريره، والفاعل المحذوفُ هو الله تعالى.
وللناسِ في الرؤية هنا رأيان، أحدُهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيدُهُ بالمصدرِ الذي هو نصٌّ في ذلك. فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ. قال الزمخشري: "رؤيةٌ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لا لَبْس فيها" وعلى هذا فتتعدَّى لواحد، و"مثلَيْهم" نصبٌ على الحال. والثاني: أنها من رؤةِ القلب، فعلى هذا يكون "مِثْليهم" مفعولاً ثانياً.
(3/271)
---(1/1126)
وقد رَدَّ أبو البقاء هذا فقال: "ولا يجوز أَنْ تكونَ الرؤيةُ من رؤيةِ القلب على كلِّ الأقوال لوجهين، أحدُهما: قولُه "رَأْيَ العين"، والثاني: أن رؤيَةَ القلب عِلْم، ومُحالٌ أن يُعْلَمَ الشيءُ شيئين". وقد أُحيب عن الوجه الأول بأنَّ انتصابَه انتصابُ المصدر التشبيهي أي: رأيا مثلَ رأي العين، أي: يُشْبِهُ رأيَ العين، فليس إياه على التحقيقِ. وعن الثاني بأنَّ الرؤيةَ هنا يُرادُ بها الاعتقادُ، فلا يَلْزَمُ المُحالُ المذكور، قال: "وإذا كانوا قد أَطْلقوا العلمَ في اللغةِ على الاعتقادِ دونَ اليقينِ فلأَنْ يُطْلقوا عليه الر أي أَوْلَى".
ومن إطلاقِ العلمِ على الاعتقادِ قولُه تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}؛ إذ لا سبيلَ إلى العلمِ اليقيني في ذلك، إذ لا يَعْلَمُهُ كذلك إلا اللهُ تعالى، فالمعنى: فإنْ اعتقدتموهن، والاعتقادُ قد يكونُ صحيحاً، وقد يكون فساداً، ويَدُلُّ على هذا التأويلِ قراءةُ مَنْ قرأ: "تُرَوْنَهم" أو "يُرَوْنَهم" بالتاء أو الياء مبنياً للمفعول؛ لأنَّ قولَهم "أُرِيَ كذا" بضمِّ الهمزة يكون فيما عند المتكلمُ فيه شكٌّ وتخمينٌ لا يقينٌ وعلم، ولمَّا كان اعتقادُ التضعيف في جمع الكفار أو في جمع المؤمين تخميناً وظناً لا يقيناً دَخَلَ الكلاَم ضربٌ من الشك، وأيضاً كما يستحيل حَمْلُ الرؤيةِ هنا على العلِْمِ يستحيل أيضاً حَمْلُها على رؤيةِ البصر بعينِ ما ذَكَرْتُم من المُحالِ، وذلك ما أنه لا يقع العلمُ غيرَ مطابقٍ للمعلوم كذلك لا يَقَعُ النظرُ البصريُّ غيرَ مطابقٍ لذلك الشيءِ المُبْصَرِ المنظورِ إليه، فكان المرادُ التخمينَ والظَّنَّ لا اليقينَ والعلمَ. كذا قيل، وفيه نظرٌ لأنا لا نُسَلِّم أنَّ البصر لا يخالِفُ المُبْصَرَ، لجوازِ أَنْ يَحْصُلَ خَلَلٌ فيه وسوءٌ في النظرِ فيتخيلُ الباصرُ الشيءَ شيئين فأكثرَ وبالعكس.
(3/272)
---(1/1127)
وفي انتصابِ "رأيَ العين" ثلاثةُ أوجهٍ تقدَّم منها اثنان: النصبُ على المصدر التوكيدي أو النصبُ على المصدر التشبيهي كما عَرَفْتَ تحقيقَه.
والثالث: أنه منصوبٌ على ظرفِ المكان، قال الواحدي: "كما تقول: تَرَوْنَهُم أمامَكم" ومثلُه: "هو مني مَزْجَرَ الكلب ومناطَ العَيُّوق"، وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعشهِ مع عدمِ المساعدِ معنًى وصناعةً.
و"رأى" مشتركٌ بين "رأى" بمعنى أَبْصَرَ، ومصدرُهُ الرَّأْي والرؤيةُ، وبمعنى اعتقد وله الرأي، وبمعنى الحُلْم وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرقُ بالمصدر، فالرؤيةُ للبصرِ خاصة، والرؤيا للحُلْم فقط، والرأيُ مشترك بين البصريةِ والاعتقاديةِ يقال: هذا رأيُ فلان أي: اعتقادُهُ، قال:
1193ـ رَأَى الناسَ إلا مَنْ رَأَى مثلَ رأيِهِ خوارجَ تَرَّاكِين قَصْدَ المَخَارِجِ قلت: وهذه الآية قد أكثرَ الناسُ فيها القولَ فتتبَّعْته وقَرَنْتُ كُلَّ شيء بما يُلاَئِمُهُ.
قوله: {مَن يَشَآءُ} مفعولُ "يشاء" محذوفٌ أي: مَنْ يشاء تأييدَهُ، والباء/ سببية، أي: بسببِ تأييدِه وهو تفعيلٌ من الأََيْدِ وهو القوة.
وقرأه ورش "يُوَيِّدُ" بإبدالِ الهمزةِ واواً محضة وهو تسهيلٌ قياسي قال أبو البقاء وغيره "ولا يدوز أن تُجْعَلَ بينَ بينَ لقربها من الألف، والألفُ لا يكمون ماقبلَها إلا مفتوحاً، وذلك لم يُجْعَلِ الهمزةُ المبدوءُ بها بينَ بينَ لا ستحالةِ الابتداءِ بالإلِفِ". قلت: مذهبُِ سيبويه و غيره في الهمزةِ المفتوحةِ بعد كسرةٍ قَلْبُها ياءً محضةً وبعد الضمةُ قلبُها واواً محضةً للعلة المذكورة، وهي قُرْبُ الهمزةِ التي بينَ بينَ من الألِفِ، والألفُ لا تكونُ ضمةً ولا كسرةً.
(3/273)
---(1/1128)
و{لأُوْلِي الأَبْصَارِ} صفةً لـ "عبرةً" أي: عبرةً كائنةً لأولي ا لأبصار. والعِبْرة: فِعْلة من العُبور كالرِّكبة والجِلْسة، والعُبور: التجاوزُ، ومنه: عَبَرْتُ النهر، والمَعْبَرُ: السفينة لأنَّ بها يُعْبَرُ إلى الجانبِ الآخر، وعَبْرَة العين: دمْعُها لأنها تجاوِزُهَا، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتِّعهاض والاستيقاظ لأن المُتَّعِظَّ يَعْبُر من الجهلِ إلى العلمِ ومن الهلاكِ إلى النجاة. والاعتبارُ افتعالٌ منه، والعبارة: الكلامُ الموصِلُ إلى الغرضِ لأنَ فيه مجاوزةً، وعَبَرْت الرؤيا وعَبَّرتها مخففاً ومثقلاً، لأنك نَقَلْتَ ما عندكَ من تأويلِها إلى رائيها.
* { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ}: العامُ على بنائِهِ للمفعول، والفاعلُ لمحذوفُ هو اللهُ تعالى؛ لِمَا رَكَّب في طباع البشر من حُبِّ هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطانُ، عن الحسن: "مَنْ زَيَّنَها؟ إنما زيَّنها الشيطان لأنه لا أحدَ أبغضُ لها مِنْ خالقها".
وقرأ مجاهد: "زَيَّن" مبنياً للفاعل، "حُبَّ" مفعول به نصاً، والفاعلُ: إمَّا ضمير الله تعالى لتقدُّم ذكرِهِ الشريفِ في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ}، وإمَّا ضميرُ الشيطان، أُضْمِرَ وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنه أصلُ ذلك، فَذِكْرُ هذه الأشياءِ مؤذنٌ بِذِكْرِهِ. وأضافَ المصدرَ لمفعولِهِ في "حُبّ الشهوات".
والشَّهوات: جمعُ "شَهْوة" بسكمون العين، فَحُرِّكَت في الجمع، ولا يجوزُ التسكينُ إلا في ضرورةٍ كقولهِ:
1194ـ وَحُمِّلْتُ زَفْرَاتِ الضحى فَأَطَقْتُها * ومالي بزَفْرَات العَشِيِّ يَدَانِ
(3/274)
---(1/1129)
بتسكين الفاء. والشهوةُ: مصدرٌ يُراد به اسمُ المفعولِ أي: المُشْتَهَيَات فهو من باب: رجلٌ عَدْلٍ، حيث جُعِلَتْ نفسَ المصدر مبالغةً، والشهوة: مَيْلُ النفس، ويُجْمَعُ على "شَهَوات"، كالآية الكريمة، وعلى "شُهَى" كغُرَف، قالت امرأة من بني نَضْر بن معاوية:
1195ـ فلولا الشُّهَى واللهِ كنتُ جديرةً * بأَنْ أتركَ اللَّذاتِ في كلِّ مَشْهَدِ
وقال النحويون: لا تُجْمَعُ فَعْله المعتلة اللامِ ـ يَعْنُون بفتحِ الفاء وسكون العين ـ [على فًُعَل] إلا ثلاثةَ ألفاظ: كَوَّة وكُوَى ـ فيمن فَتَحَ كاف "كَوَّة" وقَرْيَة وقُرَى ونَزْوَة ونُزَى، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضاً فيَكُنَّ أربعة وأنشد البيت. وقال الراغب: "وقد يُسَمَّى المُشْتَهَى شهوةً، وقد يُقال للقوةِ التي بها تَشْتَهي الشيءَ شهوةً، وقولُه تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} يحتمل الشهوتين.
قوله: {مِنَ النِّسَاءِ} في محلِّ نصبٍ على الحال من "الشهوات" والتقدير: حالَ كونِ الشهواتِ من كذا وكذا فهي مفسرةٌ لها في المعنى، ويجوز أَنْ تكونَ "مِنْ" لبيان الجنس، ويَدُلُّ عليه قولُ الزمخشري: "ثم يُفَسِّره بهذه الأجناس".
قوله: {وَالْقَنَاطِيرِ} جمع قِنْطار. وفي نونِهِ قولان أحدُهما: ـ وهو قولُ جماعهمة ـ أنها أصليةُ، وأنَّ وزنَها فِعْلال كحِمْلاَق وقِرْطاس. والثاني أنها زائدةٌ ووزنه فِنعال كقِنْعَاس ـ وهو الجَمَل الشديد ـ، قيل: واشتقاقه من: قَطَرَ يَقْطُر إذا سال، لأنَّ الذهب والفضةُ يُشَبَّهان بالماء في سرعة الانقلابِ وكثرةِ التقلبِ., وقال الزجاج: "هو مأخوذٌ من قَنْطَرْتُ الشيءَ إذا عَقَدْتَه وأَحْكمته، ومنه: القَنْطَرَةُ لإِحكامِ عَقْدِها".
(3/275)
---(1/1130)
قوله: {مِنَ الذَّهَبِ} كقولِهِ: "مِنْ النساء" وقد تقدَّم. والذهب مؤمَّثٌ، ولذلك يُصَغَّر على "ذُهَيْبة"، ويُجمع على ذَهاب وذُهوب. وقيل: "الذهب" جمعٌ في المعنى لـ"ذَهَبة"، واشتقاقُه من الذَّهاب. الفضة يُجْمع على فِضَض. واشتقاقُها من انفضَّ الشيء إذا تفرَّق، ويقال: "رجل ذَهِب" بكسر الهاء، أي: رأى مَعْدِن الذهب فَدُهِش.
قوله: {وَالْخَيْلِ} عطفٌ على "النساء" قال أبو البقاء: "لا على الذهب والفضة لأنها لا تُسَمَّى قنطاراً"، وتَوَهُّمُ مثلِ ذلك بعيدٌ جداً فلا حاجةً إلى التنبيهِ عليه.
والخيلُ فيه قولان، أحدُهما أنه جمعٌ ولا واحدَ له من لفظه بل مفردُهُ "فرس" فهو نظيرُ: قوم ورهط ونساء. والثاني: أنَّ واحدَه "خايل" فهو نظير راكب ورَكْب، وتاجِر وتَجْر، وطائِر وطَيْر، وفي هذا خلافٌ بين سيبويه والأخفش، فسيبويهِ يَجْعَلُهُ: من الاختيال وهو العُجْبُ، سُمِّيت بذلك لاختيالِها في مِشْيتها وطولِ أذْنابِها. قال امرؤء القيس:
1196ـ لها ذَنَبٌ مثلُ ذَيْلِ العروسِ * تَسُدَّ به فرجَها مِنْ دُبُرْ
والثاني: من التخيُّل، قيل: لأنَّها تتخيَّلَ في صورة مَنْ هو أعظمُ منها. وقيل:؟ أصلُ الاختيالِ من التخيُّل، وهو التشبُّه بالشيء؛ لأنَّ المختالَ يتخيَّل في صورة مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كِبْراً، والأخيلُ: الشِّقْراقُ لأنه يَتَغَيَّر لونُهُ بحسَبِ [المَقام] مرةً أحمرَ، ومرة أخضَرَ، ومرة أصفرَ، وعليه قولُهُ:
1197ـ كأبي براقِشَ كلَّ لَوْنٍ * لونُهُ يَتَخَيَّلُ
وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكون مخففاً من "خَيَّل" بتشديد الياء نحو: "مَيْت" في مَيِّت، و"هَيْن" في هَيِّن. وفيه نظرٌ لأنَّ كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع [التثقيلُ، وهذا لم يُسْمع إلا مخففاً، وقد تقدَّم نظير] هذا البحثِ في لفظ "الغَيْب".
(3/276)
---(1/1131)
وقال الراغب: "الخَيْلُ في الأصلِ للأفراسِ والفُرْسَان جميعاً، قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}، ويُستَعْمَل في كل واحدٍ منهما منفرداً
، نحو ما رُوي: "يا خَيلَ اللهِ اركبي" فهذا للفُرْسان، وقوله عليه السلام: "عَفَوْتُ لكم عن صَدَقَة الخيل" يعني الأفراس وفيه نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ اللغةِ نَصُّوا على أنَّ قوله عليه السلام: "يا خيل الله اركبي": إمَّا مجازُ إضمار، وإمّا مجازُ علاقةٍ، ولو كان للفُرْسان بطريقِ الحقيقةِ لَمَا ساغَ قولُهم ذلك.
قوله: {الْمُسَوَّمَةِ} أصل التسويم: التعليمُ، و معنى مُسَوَّمة: مُعْلَمَة إمَّا بالكَيّ وإمَّا بالبُلْقِ كما جاءَ ذلك في التفسير. وقيل: بل هو من سَوَّم ما شِيَته أي: رعَاهَا، فمعنى مُسَوَّمة أي: مَرْعِيَّة، يقال: "أَسَمْتُ ما شيتي فسامَتْ"، قال تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ}، وسَوَّمْتها فاستامت، فيكونُ الفعل عُدِّي تارةً بالهمزة وتارةً بالتضعيف. وقيل: بل هو من السيمِياء وهي الحُسْن، فمعنى مُسَوَّمة أي: ذاتُ حسن، قاله عكرمة واختاره النحاس، قال: "لأنه من الوسم". وقد رَدَّ عليه بعضُهم باختلافِ المادتين. قد أجابَ بعضُهم عنه بأنَّه من بابِ المقلوبِ فيصحُّ ما قاله. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله {يَسُومُونَكُمْ} وقوله تعالى: {بِسِيمَاهُمْ
(3/277)
---(1/1132)
}. قله: {وَالأَنْعَامِ} هي جمع نَعَم، والنَّعَمُ مختصةٌ بثلاثة أنواع: الإِبلِ والبقرِ والغنمِ وقال الهروي: النَّعضمُ تذكَّر وتؤنَّث، وإذا جُمع انطلق على الإِبل والبقر والغنم". وظاهرُ هذا أنه قبلَ جمعِه على "أنعام" لا يُطْلق على الثلاثةِ الأنواع، بل يختصُّ بواحدٍ منها، وهذا الظاهر الذي أَشَرْتُ إليه قد صَرَّح به الفراء فقال: "النَّعَمُ الإِبلُ فقط، وهو مذكَّرٌ ولا يؤنَّثُ تقول: "هذا نَعَمٌ وراد، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظه" وقال ابن قتيبة: "الأنعام: الإِبلُ والبقر والغنم، واحدة نَعَم، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه، سُمِّت بذلك لنعومة مَشْيِها ولِينها"، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماءِ الأجناس قليلٌ جداً.
قوله: {وَالْحَرْثِ} قد تقدَّم تفسيرُه، وهو هنا مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، فلذلك وُحِّد ولم يُجْمَع كما جُمِعَت أخواتُه. ويجوزُ إدغام الثاءِ في الذال وإن كان بعضُ الناسِ ضَعَّفَه بأنه يَلْزَمُ الجمعُ بين ساكنين والأولُ ليسَ حرفَ لين، قال: "بخلاف "يَلْهَثُ ذلك" حيث أُدْغِم الثاءُ في الذالِ لانتفاءِ التقاءِ الساكنين، إذ الهاءُ قبلَ الثاءِ متحركةٌ".
(3/278)
---(1/1133)
وقد تَضَمَّنَتْ هذه الآية الكريمةُ أنواعاً من الفصاحةِ والبلاغةِ فمنها: الإتيانُ بها مُجْمَلَةً، ومنها: جَعْلُه لها نفس الشهوات مبالغةً في التنفير عنها، ومنها: البَدَاءةُ بالأهمِّ فالأهمِّ، فَقَدَّم أولاً النساءَ لأنهن أكثرُ امتزاجاً ومخالطةً بالإنسانِ، وهُنَّ حبائِلُ الشيطان، قال عليه السلام: "ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ مِنَ النساءِ" "ما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلِ ودينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرجلِ منكُنَّ" ويُرْوى: "الحازمِ منكن". وقيل: "فيهن فتنتانت، وفي البنين فتنةٌ واحدةٌ؛ وذلك أنهنَّ يَقْطَعْنَ الأرحامَ والصلات بين الأهلِ غالباً وهُنَّ سببٌ في جمع المال من حلالٍ وحرام غالباً، والأولاد يُجْمَع لأجلِهم المالُ، فلذلك ثَنَّى بالبنين، وفي الحديث: "الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ"، وللأنهم فروع منهم وثمرات نشأن عنهن، وفي كلامهم: "المرءُ مفتونٌ بولدِه". وقُدِّمَتْ على الأموال لأنها أحبُّ إلى المرءِ مِنْ ماله، وأمَّا تقديمُ المالِ على الولد في بعضِ المواضع فإنما ذلك في سياقِ امتنانٍ وإنعامٍ أو نصرةٍ ومعاونة وغلبة، لأنَّ الرجال تُستمال بالأموال، ثم أتى بذكرِ تمام اللذة وهو المركوبُ البهيُّ من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بِذِكْر ما يَحْصُل به جَمالٌ حين تُريحون وحين تَسْرحون، كما تشهد به الآية الأخرى، ثم ذَكَرَ ما به قِوامُهم وحياةُ بنيهم وهو الزروع والثمار، ويشمل الفواكَة أيضاً، ومنها: الإِتيانُ بفلظٍ يُشْعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال: "زُيِّن"، والزينةُ محبوبةٌ في الطباع.
(3/279)
---(1/1134)
ومنها: بناءُ الفعلِ للمفعول؛ لأنَّ الغرضَ الإِعلامُ بحصول ذلك. ومنها: إضافةُ الحُبِّ للشهوات، والشهواتُ هي الميلُ والنزوع إلى الشيء. ومنها التجنيس: "القناطير المقنطرةِ". ومنها: الجمعُ بين ما يشبه المطابقة في قوله: "والذهب والفضة" لأنهما صارا متقابلين في غالِب العُرف. ومنها: وصفُ القناطيرِ بالمقنطرة الدالةِ على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها. منها: ذِكْرُ هذا الجنس بمادة الخيل لِما في / اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله: "والأنعام" ولم يَقُل الإبل والبقر والغنم، ولأنه أَخْضَرُ.
قوله: {ذالِكَ مَتَاعُ} الإشارةُ بـ"ذلك" للمذكور المتقدِّم، فلذلك وَحَّد اسمَ الإِشارة، والمشارُ إليه متعددٌ كقوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ}، وقد تقدَّم شيئان.
قوله: {الْمَآبِ} هو مَفْعَل من: آب يؤوب أي رَجَع، والأصل: مَأْوَب فَنُقِلت حركةُ الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها، فَقُلِبت الواوُ ألفاً، وهو هنا اسمُ مصدرٍ أي: حَسَنُ الرجوعِ، وقد يقع اسم مكان أو زمان، تقول: آبَ يَؤُوب أَوْباً وإياباً ومآباً، فالأْوب والإِياب مصدران والمآبُ اسمٌ لهما.
* { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيقِ الأولى وتسهيل الثانية بينَ بينَ، على ما عُرِفَ من قواعدهم في أول البقرة، والباقون بالتخفيف فيهما. ومَدَّ بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن بان عامر بخلاف عنهما، والباقون بغير مد، وهنم على أصولِهم من تحقيقٍ وتسهيل، وورش على أصلِه من نَقْلِ حركة الهمزة إلى لام "قل".
(3/280)
---(1/1135)
واعلم أنه لا بُدَّ مِنْ ذِكْر اختلاف القراء في هذه اللفظةِ وشِبْهها وتحريرِ مذاهبهم فإنه موضعٌ عَسِرُ الضبط فأقول بعوِ الله تعالى: الواردُ من ذلك القرآن الكريم ثلاثةُ مواضعَ: أعني همزتين أولاهما مفتوحةٌ والثانيةُ مضمومة من كلمةٍ واحدة، الأولُ هذا الموضعُ، والثاني في ص: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا}، الثالث في القمر: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ}. والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتبَ، إحداها: مرتبة قالون، وهي تسهيلُ الثانيةِ بينَ بينَ، وإدخالُ الفٍ بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا رواه عن نافع. الثاني: مرتبة ورش وابن كثير، وهي تسهيلُ الثانية أيضاً بينَ بينَ من غيرِ إدخال ألف بين الهزتين بلا خلافٍ كذا روى ورش عن نافع. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غيرِ إدخال ألف بلا خلاف، كذا روى ابن ذكوان عن بان عام. الرابعمة: مرتبةُ هشام، وهي أنه رُوي عن ثلاثة أوجه: ألأولُ التحقيقُ وعدمُ إدخالِ ألف الهمزتين في ثلاث السور. الوجه الثاني: التحقيق وإدخال ألف بيهما في ثلاث السور. والوجه الثالث: التفرقةُ بين السور الثلا ث، وهو أنه يُحَقِّق ويَقْصُر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويَمُدُّ في السورتين الأُخْرَيَين. الخامسة: مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع أدخالِ الألف وعدمه. واجترأْتُ عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزاً كلَّ واحد منها إلى لغةِ مَنْ تكلم به بما قدمته في أول البقرة، ولله الحمد.
ونقل أبو البقاء أنه قُرىْ: "أَوُنَبِّئكم" بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها، وليس ذلك بالوجهِ. وفي قوله "أُؤنبئكم" التفاتٌ من الغَيْبَةِ ف يقوله: "للناس" إلى الخطاب تشريفاً لهم.
قوله: {بِخَيْرٍ} متعلقٌ بالفعل، وهذا الفعلُ لَمَّا لم يُضَمَّنْ معنى "أَعْلم" تعدَّى لاثنين، الأولُ تعدَّى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّن معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
(3/281)
---(1/1136)
و{مِّن ذالِكُمْ} متعلِّقٌ بخير؛ لأنه على بابِه من كونِه أَفْعَلَ تفضيلٍ، والإِشارةُ بذلكم إلى ما تقدَّم من ذكرِ الشهوات، وتقدّضم تسويغُ الإِشارة بالمفرد إلى الجمع. ولا يجوزُ أن تكونَ "خير" ليست للتفضيل، ويكونُ المرادُ به خيراً من الخيور، وتكن "مِنْ" صفةً لقولِه: "خير". قال أبو البقاء: "مِنْ" في موضِع نصبٍ بخير تقديرهُ: بما يَفْضُل ذلك، ولا يجوز أَنْ تكونَ صفةً لخير؛ لأن ذلك يوجبُ أن تكونَ الجنةُ وما فيها مِمَّا رَغِبوا فيه بعضاً لِما زهدوا فيه م الأموال ونحوها" وتابعه على ذلك الشيخ".
قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يجوز فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلق بخير، ويكونُ الكلامُ قد تَمَّ هنا] ويرتفعُ "جنات" على خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هو جنات، أي: ذلك الذي هوخيرٌ مِمَّا تقدم جناتٌ، و الجملةُ بيانٌ وتفسيرٌ للخيريَّة، ومثلُه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ} ثم قال: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، ويؤيد ذلك قراءة "جنات" بكسر التاء على أنها بدل من "بخير" فهي بيانٌ للخير. والثاني": أن الجارَّ خبرٌ مقدم، و"جنات" مبتدأ مؤخرٌ، أو يكونُ "جناتٌ" فاعلاً بالجار قبله، ونْ لم يعتمد عند مَنْ يرى ذلك. وعلى هذين التقديرين فالكلامُ تَمَّ عند قولِه: "من ذلك"، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضاً مبيِّنةٌ ومفسرةٌ للخيرية.
وأمَّا الوجهان الآخران فذكرهما مكمي مع جر "جنات"، يعني أنه لم يُجِز الوجهين، إلا إذا جَرَرْتَ "جنات" بدلاً مِنْ "بخير". الوجه الأول: أنه متعلقٌ بأؤنبئكم. الوجه الثاني: أنه صفةٌ لخير. ولا بُدَّ من إيرادِ نصه فإنَّ فيه إشكالاً.
(3/282)
---(1/1137)
قال رحمه الله: ـ بعد أن ذَكَرَ أنَّ "للذين" خبرٌ مقدم و"جناتٌ" مبتدأ ـ "ويجوزُ الخفضُ في "جنات" على البدلِ من "بخير" على أن تَجْعَلَ اللام في "للذين" متعلقةً بأؤنبئكم، أو تجعلَها صفةً لخير، ولو جَعَلْتَ اللامَ متعلقةً بمحذوفٍ قامَتْ مقامَه لم يَجُزْ خَفْضُ "جنات"؛ لأن حروفَ الجرِّ والظروفَ إذا تعلَّقت بمحذوفٍ، وقامَتْ مقامَه صار فيها ضميرٌ مقدرٌ مرفوعٌ، واحتاجت إلى ابتداءٍ يعودُ إليه ذلك الضميرُ كقولك: "لزيدٍ مالٌ، وفي الدار رجلٌ وخلفَك عمروٌ" فلا بُدَّ من رفع "جنات" إذا تعلَّقت اللامُ بمحذوف، ولو تعلَّقت بمحذوف على أَنْ لا ضميرَ فيها لرفَعْتَ "جنات" بفعِلها، وهو مذهبُ الأخفشِ في رفعهِ ما بعدَ الظروفِ وحروفِ الخفض بالاستقرار، وإنما يَحْسُن ذلك عند حُذّاق النحويين إذا كانت الظروفُ أو حروفُ الخفضِ صفةً لما قبلها، فحينئذٍ يتمكَّن ويَحْسُن رَفْعُ الاسمِ بالاستقرار، وقد شرحنا لك وبَيَّنَّاه في أمثلة، وكذلك إذا كانت أحوالاً [مِمّا قبلها]". انتهى فقد جَوَّز تعلُّق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفةٌ لخير بشرط أن تُجَرَّ "جنات"، على البدلِ من "بخير"، وظاهُره أنه لا يجوزُ ذلك مع رفعِ "جنات" وعَلَّل ذلك بأنَّ حروفَ الجر تُعَلَّقُ بمحذوفٍ وتُحَمَّلُ الضميرَ، فوجَب أن يؤتى له بمتدأ وهو "جنات"، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزَمُ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: أُجُوِّزُ تعليقَ اللام بما ذكرْتُ من الوجهين مع رفع "جنات" على أنَّها خبرٌ مبتدأٍ محذوفٍ، لا على الابتداءِ حتى يلزَم ما ذكرْتُ. ولكنْ الوجهانِ ضعيفان من جهةٍ أخرى: وهو أنَّ المعنى ليس واضحاً على ما ذكر، مع أنَّ جَعْلَه أنَّ اللامَ صفةٌ لخير أقوى مِنْ جَعْلها متعلقةً بأؤنبئكم إذ لا معنى له. وقوله: "في الظروف وحروفِ الجر أنها عند الحُذَّاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفاتٍ" وقوله: "وكذلك إذ كُنَّ أحوالاً" فيه قصورٌ؛ لأنَّ هذا الحكمَ(1/1138)
(3/283)
---
مستقرٌ لها في مواضعَ، منها الموضعان اللذان ذكرهما. ثالثهما: أن يقَعا صلةً. ورابعها: أن بقعا خبراً لمبتدأ. خامسها: أن يعتمدا على نفي. سادسها: أن يعتمدا على استفهامٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وإنَّما أَعدْتُه لبُعْدِ عَهْدِهِ.
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه في محل نصبٍ على الحال من "جنات" لأنه في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً. الثاني: أنه متعلِّقٌ بما تَعَلَّق به "للذين" من الاستقرار إذا جعلناه خبراً أو رافعاً لجنات بالفاعلية، أمَّا إذا علَّقْتَه بـ"خيرٍ" أو بـ"أؤنبئكم" فلا، لعدمِ تضمُّنه الاستقرارَ.
الثالث: أن يكونَ معمولاً لتجري، وهذا لا يساعِدُ عليه المعنى. الرابع: أنه متعلِّق بخير، كما تعلَّق به "للذين على قولِ تقدمَّم. ويَضْعُفُ أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه "للذين اتقوا" ثم يُبْتدأ بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} على الابتداء والخبرِ، وتكون الجملة مبينةً ومفسرةً للخيرية كما تقدَّم في غيرها.
وقرأ يعقوب "جنات" بكسر التاء، وفيها ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنها بدلٌ من لفظ "خير" فتكونُ مجرورةً، وهي بيانٌ له كما تقدم. والثاني أنها بدلٌ من محل "بخير" ومحلُّه النصب، وهو في المعنى كالأول/. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني، وهو نظيرُ الوجهِ الصائرِ إلى رفعه على خبر ابتداءٍ مضمرٍ.
وقوله: {تَجْرِي} صفةٌ لجنات، فهو في محلِّ رفعٍ أو نصب أو جر على حَسَب القراءتين والتخاريج فيهما. و{مِن تَحْتِهَا} متعلِّقٌ بتجري، وجَوَّز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الأنهار قال: "أي: تَجْرِي الأنهارُ كائنةً تحتها"، وهذا يُشْبِهُ تهيئة العاملِ للعمل في شيء وقَطْعَه عه.
(3/284)
---(1/1139)
قوله: {خَالِدِينَ} حالٌ مقدَّرة، وصاحبُها الضميرُ المستكِنُّ في "للذين" والعاملُ فيها حينئذٍ الاستقرارُ المقدَّرُ. وقال أبو البقاء: "إنْ شِئْتَ من الهاء في "تحتها". وهذا الذي ذكره إنما يتمشَّى على مذهبِ الكوفيين، وذلك أنَّ جَعْلَها حالاً من "ها" في "تحتها" يؤدِّي إلى جريان الصفةِ على غيرَ مَنْ هي له في المعنى، لأن الخلودَ من أوصافِ الداخلين في الجنةِ لا مِنْ أوصافِ الجنة، ولذلك جَمَعَ هذه الحال جَمْعَ العقلاء، فكان ينبغي أن يُؤتى بضميرٍ مرفوعٍ بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفةِ، نحو: "زيدُ الضميرِ، وإلاَّ يجبْ، والبصريون لا يُفَرِّقون، وتقدَّم البحثُ في ذلك.
قوله: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ} مَنْ رفع "جنات" كما هو المشهورُ كان عَطْفُ "أزواج" و"رضوان" سهلاً. ومَنْ كسر التاء فيجب حنيئذٍ على قراءته أن يكونَ مرفوعاً على أنه مبتدأٌ خبرُه مضمرٌ، تقديرُه: ولهم أزواجٌ ولهم رضوان، وتقدَّمَ الكلامُ على {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} في البقرة.
وفي "رضوان" لغتان: ضَمُّ الراءِ وهي لغةُ تميم، والكسرُ وهي لغةُ الحجاز، وبها قَرَأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن، إلا في الثانية مِنْ سورة المائدة، وهي: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} فبعضُهم نَقَل عنه الجزَم بكسرها، وبعضُهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
وهل هما بمعنًى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ قولان، أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحدٍ لرَضي يَرْضَى. والثاني: أنَّ المكسور اسم ومنه: رِضْوان خازنُ الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته، والمضمومُ هو المصدر. و"مِن الله" صفةٌ لرضوان.
* { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
(3/285)
---(1/1140)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ}: يَحْتَمِلُ مَحَلُّه الرفعَ والنصَب والجَّر، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأ محذوفٌ الخبرِ، تقديرُه: الذين يقولون كذا مستجابٌ لهم، أو لهم ذلك الخيرُ المذكورُ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، كأنه قيل: مَنْ هم هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذينَ يقولون كَيْتَ وكيتَ.
والنصبُ من وجهٍ واحد، وهو النصبُ بإضمار أَعْني أو أمدحُ، وهو نظيرُ الرفعِ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، ويُسَمَّيان الرفعَ على القطعِ والنصبَ على القطعِ. والجَرُّ مِنْ وجهين، أحدهما: النعتُ والثاني البدلُ، ثم لك في جَعْلِه نعتاً أو بدلاً وجهان، أحدهما: جَعْلُه نعتاً للذين اتقوا أو بدلاً منه,. والثاني: جَعْلُه نعتاً للعباد أو بدلاً منهم. واستضعف أبو البقاء جَعْلَه نعتاً للعباد. قال: "لأنَّ فيه تخصيصاً لعلمِ الله تعالى، وهو جائزٌ على ضَعْفِهِ، ويكون الوجهُ فيه إعلامَهم بأنه عالمٌ بمقدار مشقتهم في العبادة فهو يُجازِيهم عليها كما قال: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ
}. والجملةُ من قوله: "واللهُ بصيرٌ" يجوز أن تكونَ معترضةً لا محلَّ لها إذا جَعَلْتَ {الَّذِينَ يَقُولُونَ} تابعاً للذين اتقوا نعتاً أو بدلاً، وإنْ جَعَلْتَه مرفوعاً أو منصوباً فلا.
* { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }
قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ}: إنْ قَدَّرْتَ "الذين يقولون" منصوبَ المحل أو مجرورَه على ما تقدَّم كان "الصابرين" نعتاً له على كلا التقديرين، فيجوزُ أن يكونَ في محلَّ نصب وأن يكون في محل جر، وإنْ قَدَّرْته مرفوع المحل تعيَّن نصب "الصابرين" بإضمار أعني.
(3/286)
---(1/1141)
والأسْحار جمع "سَحَر" بفتح العين وسكونها. واختلف أهل اللغة في السَّحَر: أيُّ وقتٍ هو؟ فقال جماعةٌ منهم الزجاج: "إنه الوقت قبل طلوع الفجر"، ومنه "تَسَحَّر" أي أكل في ذلك الوقت، وأسْحَرَ إذا سار فيه، قال زهير:
1198ـ بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ * فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ للفَم
قال الراغب: "السَّحَرُ: اختلاطُ ظلامِ آخر الليل بضياءِ النهار، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: "لَقيته بأعلى سَحَرَيْن"، والمُسْحِرُ: الخارجُ سَحَراً، والسَّحورُ: اسمُ للطعامِ المأكولِ سَحَراً، والتسَحُّرُ أكْلُه". والمُسْتَحِرُ: الطائر الصَّيَّاحُ في السَّحَر، قال:/
1199ـ يَعَلُّ به يَرْدُ أنيابِها * إذا غَرَّدَ الطائرُ المُسْتَحِرْ
وقال بعضُهم: "أَسْحَرَ الطَائر أي: صاحَ وتحرَّك في صياحه" وأنشد البيت. وهذا وإنْ كان مطلقاً، وإنما يريد ما ذكرْتُه بالصِّياح في السحر، ويقال: أَسْحَر الرجل: أي دخل في وقتِ السَّحَر كأَظْهَرَ/ أي: دخل في وقت الظُّهر، قال:
1200ـ وأَدْلَحَ مِنْ طِيْبَةٍ مسرعاً * فجاءَ إلينا وقد أَسْحَرَا
ومثلُه: "اسْتَحَرَ" أيضاً. وقال بعضُهم: "السَّحَرُ من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر" وقال بعضهم أيضاً: "السَّحَرُ عند العرب من آخر الليل، ثمَ يَسْتمر حكمُه إلى الإسفار، كلُّه يقال له: سَحَر". قيل: وسُمِّي السَّحَرُ سَحَراً لخائِه، ومنه قيل: للسِّحْر: سِحْرِ لِلُطْفِه وخَفَائه.
والسَّحْر بسكون الحاء مُنْتهى قَصَبةِ الرئة، ومنه قولُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ماتَ بين سَحْري ونَحْري" سُمِّي بذلك لخفائِه، و"سَحَر" فيه كلام كثير، بالنسبةِ إلى الصرف وعدمه، والتصرفِ وعدمهِ، والإعرابِ وعدمِه، يأتي تفصيلُها إن شاء الله تعالى عند ذِكْرِهِ إذ هو الأليقُ به.
(3/287)
---(1/1142)
وقوله: {وَالصَّادِقِينَ} وما عُطِف عليه. إن قيل: كيف دَخَلَتِ الواوُ على هذه الصفاتِ وكلُّها لقبيلٍ واحدٍ. ففيه جوابان، أحدُهما أنَّ الصفاتِ إذا تكرَّرت جازَ أن يُعْطَفَ بعضُها على بعضٍ بالووِ، وإنُ كانَ الموصوفُ بها واحداً، دخولُ الواوِ في مثل هذا تفخيمٌ، لأنه يُؤْذِنُ بأن كلَّ صفةٍ مستقلةٌ بالمدحِ. والجوابُ الثاني: أن هذه الصفاتِ متفرقةٌ فيهم، فبعضُهم صابرٌ، وبعضُهم صادِقٌ، فالموصوفُ بها م متعدِّدُ، هذا كلامُ أبي البقاء.
وقال الزمخشري: "الواوُ المتوسطةُ بين الصفاتِ للدلالةِ على كمالهم في كلِّ واحدة منها". قال الشيخ: "ولا نعلمُ العطفَ في الصفة بالواو يَدُّلُّ على الكمالِ" قلت: قد عَلِمَه علماءُ البيان، وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه المسألةِ في أوائلِ سورة البقرة، وما أنشدْتُه على ذلك من لسانِ العرب. والباء في "بالإسحارِ" بمعنى في.
* { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(3/288)
---(1/1143)
قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: العامةُ على "شَهِدَ" فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ، والجلالةُ الكريمةُ رفعٌ بهِ. وقرأ أبو الشعشاء: "شُهِدَ" مبيناً للمفعول، والجلالةُ المعظمةُ قائمةٌ مقامَ الفاعلِ، وعلى هذه القراءةِ، فيكونُ {أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} في محلِّ رفع بدلاً من إسمِ اللهِ تعالى بدلَ اشتمالٍ، تقديرهُ: شَهِدَ وحدانيةَ اللهِ وألوهيتَه، ولمَّا كان المعنى على هذه القراءةِ كذا أَشْكَل عَطْفُ {وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} على الجلالةِ الكريمة، فَخُرِّج ذلك على عَدَمِ العطف، بل: إمَّا على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليه تقديرُه: والملائكةُ وأولو العلمِ يَشهدون بذلك، يَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ}، وإمَّا على الفعليةِ بإضمارِ محذوفٍ، تقديرُه: وشَهِدَ الملائكةُ وأولو العلم بذلك، وهو قريبٌ من قولهِ تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول، وقوله:
1201ـ لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ * .....................
في أحد الوجهين:
وقرأ أبو المهلب عمُّ محارب بن دثار: "شهداءَ الله" جمعاً على فُعَلاء كظُرَفاء منصوباً، ورُوي عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك، إلا أنه مرفوع، وفي كِلتا القراءتين مضافٌ لجلالة. فأمَّا النصبُ فعلى الحال، وصاحُبها هو الضميرُ المستتر في "المستغفرين" قاله ابن جني، وتَبِعَه غيرُه كالزمخشري وأب البقاء. وأمَّا الرفعُ فعلى إضمارِ مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله. و"شهداء" يَحْتمل أن يكونَ جمع شاهر كشاعِر وشُعَراء، وأَنْ يكونَ جمعَ شهيد كظريف وظُرَفاء.
(3/289)
---(1/1144)
وقرأ أبو المهلب أيضاً في رواية: "شُهُداً اللهَ" بضم الشين والهاء والتنوين ونصبِ الجلالةِ المعظمةِ، وهو منصوبٌ على الحالِ، جمع شهيد نحو: نَذِير ونُذُر، واسمُ اللهِ منصوبٌ على التعظيم أي: يَشْهدون اللهَ أي: وحدانيتَه.
ورَوى النقاش أنه قُرىء كذلك، إلا أنه قال: "برفعِ الدال ونصبها" والإِضافةُ للجلالةِ المعظمة. فالنصبُ والرفعُ على ما تقدَّم في "شهداء"، وأما الإِضافةُ فتحتملُ أنْ تكونَ محضةً، بمعنى أنك عَرَّفْتهم بإضافتِهم إليه من غير تَعَرُّضٍ لحدوثِ فِعْلٍ، كقولك: عباد الله، وأَنْ تكونَ مِنْ نصبٍ كالقراءةِ قبلَها فتكونَ غيرَ محضةٍ. وقد نقل الزمخشري أنه قُرىء: "شُهَداء لله" جَمْعاً على فُعَلاء وزيادةِ لامِ جر داخلةً على اسمِ اللهِ، وفي الهمزةِ الرفعُ والنصبُ وخَرَّجهما على ما تقدَّم من الحالِ والخبر.
وعلى هذه القراءاتِ كلِّها ففي رفعِ "الملائكة" وما بعدَها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها الابتداءُ/ والخبرَ محذوفٌ. والثاني: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ وقد تَقدَّم تحريرُها. الثالث ـ ذَكَره الزمخشري ـ: وهو النسقُ على الضمير المستكنِّ في "شهداء الله" قال: "وجاز ذلك لوقوعِ الفاصلِ بينهما".
قوله: "أنه" العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ، وإنما فُتِحَتْ لأنها على حَذْفِ حرفِ، الجر، أي: شَهِدَ الله بأنه لا إله إلا هو، فَلَّما حُذِفَ الحرفُ جازَ أن يكونَ محلُّها نصباً وأن يكونَ محلُّها جَرًّاً كما تقدَّم تقديره.
(3/290)
---(1/1145)
وقرأ ابن عباس: "إنه" بكسرِ الهمزةِ، وفيها تخريجان، أحدُهما: إجراءُ "شَهِدَ" مُجْرى القولِ لأنه بمعناه، وكذَا وقَعَ في التفسير: شَهِد الله أي: قال الله، ويؤيِّده ما نَقَله المؤرِّج أن "شَهِد" بمعنى "قال" لغةُ قيس بن عيلان. والثاني: أنها جملةُ اعتراضٍ بين العامل ـ وهو شهد ـ وبين معمولهِ ـ وهو قولُه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}، وجازَ ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيدِ وتقويةِ المعنى، وهذا إنما يتجه على قراءةِ فَتْحِ "أَنَّ" من "أنَّ الدينَ"، وأمَّا على قراءةِ الكسرِ فلا يجوزُ، فيتعيَّنُ الوجهُ الأولُ.
والضميرُ في "أنه" يَحْتمل العَوْدَ على الباري لتقدُّمِ ذكرهِ، ويَحْتمل أن يكونَ ضميرَ الأمر، ويؤِّدُ ذلك قراءةُ عبدالله : "شَهِدَ الله أَنْ لا إلهَ إلا هو" فأَنْ مخففةٌ في هذه القراءةِ، والمخففةُ لا تعملُ إلاَّ في ضميرِ الشأنِ ويُحْذَفُ حينئذٍ، ولا تَعْمَلُ في غيرِه إلا ضرورةً.
وأَدْغم أبو عمرو ـ بخلافٍ عنه ـ واو "هو" في واوِ النسق بعدها وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألةِ في البقرة عند قوله: {هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ
(3/291)
---(1/1146)
}. قوله: {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} في نصبِه أربعةُ أوجه أحدُها: أنه منصوبٌ على الحالِ، واختلف القائلُ بذلك: فبعضُهم جَعَلَه حالاً من أسمِ الله، فالعاملُ فيها "شَهِدَ". قال الزمخشري: "وانتصابهُ على أنَه حالٌ مؤكِّدةٌ منه كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}. قال الشيخ: "وليس من بابِ الحالِ المؤكدةِ لأنه ليس من باب: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} ولا باب "أنا عبدُ الله شجاعاً" فليس "قائماً بالقسط" بمعنى شَهِد، وليس مؤكداً لمضمونِ الجملةِ السابقةِ في نحو: أنا عبدُ الله شجاعاً وهو زيدٌ شجاعاً، لكنْ في هذا التخريجَ قَلَقٌ في التركيبِ، إذ يصير كقولك: "أَكلَ زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً" فَيَفْصِل بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ بالمفعول، وبين الحالِ وذي الحال بالمفعولِ والمعطوفِ، لكنْ بمشيئةِ كونِها كلِّها معمولةً لعاملٍ واحدٍ". انتهى.
قلت: مؤاخَذَتُهُ له في قولِهِ: "مؤكدةُ" غيرُ ظاهرٍ، وذلك أنَّ الحالَ على قسمين: إمَّا مؤكدةٌ وإمَّا مُبَيِّنة، وهي الأصلُ، فالمُبَيِّنَةُ لا جائزٌ أن تكونَ ههنا، لأنَّ المبيِّنة تكونُ متنقلةً، والانتقالُ هنا مُحالٌ، إذ عَدْلُ اللهِ تعالى لا يتغيَّرُ، فإنْ قيل لنا قسمٌ ثالثٌ، وهي الحالُ اللازمةُ فكانَ للزمخشري مندوحةٌ عن قوله "مؤكدة" ألى قوله "لازمةٌ" فالجوابُ أنَّ كلَّ مؤكدةٍ لازمةٌ وكلَّ لازمةٍ مؤكدةٌ فلا فرقَ بين العبارتين، وإنْ كان الشيخُ زَعَم أنَّ إصلاحَ العبارةِ يَحْصُل بقولِه: "لازمة"، ويَدُلُّ على ما ذكرتْهُ من ملازَمَةٍِ التأكيدِ للحالِ اللازمةِ وبالعكس الاستقراءُ. وقولُه: " ليس معنى قائماً بالقسط معنى شهد" ممنوعٌ بل معنى "شَهِد" مع متعلَّقهِ ـ وهو أنه لا إله إلا هو ـ مساوٍ لقولِه "قائماً بالقسط" لانَّ التوحيدَ ملازمٌ للعدلِ.
(3/292)
---(1/1147)
ثم قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِمَ جاز إفرادهُ بنصبِ الحالِ دون المعطوفَيْنِ عليه، ولو قتل: "جاءني زيدٌ وعمرو راكباً" لم يَجُزْ؟ قلت: إنما جازَ هذا لعدمِ الإِلباسِ كما جاز في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} إن انتصب "نافلةً" حالاً عن "يعقوب" ولو قُلْتَ: "جاءني زيدٌ وهند راكباً" جاز لتميُّزِه بالذُّكورة.
قال الشيخ: "وما ذَكَرَره مِنْ قوله: "جاءني زيدٌ وعمروٌ راكباً" أنه لا يجوزُ ليس كما ذَكَر، بل هذا جائزٌ لأنَّ الحالَ قَيْدٌ فيمن وَقَعَ منه أو به الفعلُ أو ما أشبهَ ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكورٍ، ويكون "راكباً" حالاً مِمَّا يَليه، ولا فرقَ في ذلك بين الحالِ والصفِة، لو قتل: "جاءني زيدٌ وعمروٌ الطويلُ" كان "الطويلُ" صفةً لعمرو، ولا تقولُ: لا تجوزُ هذه المسألةُ لِلَّبْس، إذ لا لَبْسَ في هذا وهو جائزٌ، وكذلك الحالِ. وإمَّا قولُه: "إنَّ نافلةً" انتصَب حالاً عن يعقوب" فلا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ حالاً عن يقعوب؛ إذ يُحتمل أَنْ يكونَ "نافلةً" مصدراً كالعاقبة والعافِية، ومعناه: زيادة، فيكونُ ذلك شاملاً/ لإسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإِبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره" قلت: مرادُ الزمخشري بمعن "جاءني زيد وعمرو راكبا" إذ أُريد أَنَّ الحالََ منهما معاً، أمَّا إذا أريد أنها حالٌ من واحدٍ منهما فإنَّما تُجْعَلُ لِما تليه، لعودِ الضميرِ على أَقْربِ مذكور، وبعضُهم جَعَلَه حالاً من "هو" قال الزمخشري: "فإنْ قلت: قد جَعَلْتَه حالاً من فاعل "شَهِدَ" فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ حالاً عن "هو" في "لا إله إلا هو"؟ قلت: نَعَمْ لأنها حالٌ مؤكدةٌ، والحالُ المؤكدةُ لا تَسْتَدْعي أن يكونَ في الجملةِ ـ التي هي زيادةٌ في فائدتِها ـ عاملٌ فيها كقولك: أنا عبدُ الله شجاعاً". انتهى. يعني أنَّ الحالَ المؤكِّدَة لا يَكونُ العاملُ فيها النصبَ شيئاً من الجملةِ السابقةِ(1/1148)
(3/293)
---
قبلَها، إنما ينتصبُ بعاملٍ مضمرٍ، فإنْ كان المتكلمُ مُخْبِراً عن نفسه نحو: "أنا عبدُ الله شجاعاً" قَدَّرْتَه: أُحقُّ شجاعاً، مبنياً للمفعول، وإنْ كان مُخْبِراً عن غيره قَدَّرْتَه مبنياً للفاعل نحو: "هذا عبدُ الله شجاعاً" أي: أَحُقُّه، هذا هو المذهبُ المشهورُ في نصبِ مثلِ هذه الحالِ.
وفي المسألةِ قولُ ثانٍ لأبي إسحاق أنَّ العاملَ فيها هو خبرُ المبتدأ لِما ضُمِّنَ من معنى المشتقِ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى. وقولٌ ثالثٌ: أنَّ العاملَ فيها المبتدأ لِما ضُمِّن مِنْ معنى التنبيه، وهي مسألةٌ طويلةٌ. وبعضُهم جَعَلَه حالاً من الجميع على اعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقضٌ لِما قاله الزمخشري من أنَّ الحالَ مختصةٌ باللهِ تعالى دونَ ما عُطِف عليه. وهذا المذهبُ مردودٌ بأنه لو جازَ ذلك لجازَ "جاء القومُ راكباً" أي: كلُّ واحدٍ منهم راكباً، والعربُ لا تقولُ ذلك البتَة، فَفَسَدَ هذا، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في صاحبِ الحال.
الوجهُ الثاني من أوجهِ نصبِ "قائماً" نصبُه على النعتِ للمنفيِّ بلا، كأنه قيل: لا إلَه قائماً بالقسطِ إلا هو. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هَلْي يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسطِ إلا هو؟ قلت: لا يَبْعُدُ، فقد رَأَيْناهم يَتَّسِعون في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ "ثم قال: "وهو أَوْجَهُ مِن انتصابهِ عن فاعلِ "شَهِد"، وكذلك انتصابُه على المَدْح".
(3/294)
---(1/1149)
قال الشيخ: ـ وكان الزمخشري قد مَثَّل في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بقولِه: "لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً ـ قال: "وهذا الذي ذَكَره لا يجوزُ لأنه فَصَلَ بين الصفةِ والموصوفِ بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما "والملائكةُ وأولوا العلم" وليسا معمولَيْنِ لشيءٍ من جملةِ "لا إله إلا هو" بل هما معمولان لشَهِدَ، وهو نظيرُ: "عَرَفَ زيدٌ أنَّ هنداً خارجةٌ وعمروٌ وجعفرٌ التميمية" فَيُفْصَلُ بين "هند والتميمية" بأجنبي ليس داخلاً في حَيِّز ما عمل فيها، وذل الأجنبيُّ هو "وعمرو وجعفر" المرفوعان المعطوفان على "زيد".
وأمَّا المثالُ الذي مَثَّل به وهو "لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً" فليس نظيرَ تخريجِهِ في الآية، لأنَّ قولَك "إلا عبدُ الله" بدلُ على الموضعِ من "لا رجلَ" فهو تابعٌ على الموضعِ، فليس بأجنبي، على أَنَّ في جوازِ هذه التركيبِ نظراً، لأنه بدلٌ و"شجاعاً" وصفٌ، والقاعدةُ أنه إذا اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ؛ وسَببُ ذلك أنه على نية تكرارِ العامل على الصحيح، فصار من جملة أخرى على هذا المذهب".
الوجهُ الثالثُ: نصبُه على المدحِ. قال الزمخشري: "فإن قلت: أليس من حقِّ المنتصبِ على المدح أن يكونَ معرفةً، كقولك: "الحمدُ لله الحميدَ" "إنَّا معاشرَ الأنبياء لا نُورَث
". [وقوله]:
1202ـ إنا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعي لأبٍ * ......................
قلت قد جاء نكرة كما جاء معرفة، وأنشد سيبويه ممَّا جاءَ منه نكرةً قول الهذلي:
1203ـ ويَأْوِي إلى نَسْوةٍ عُطَّّلٍ * وشُعْثَاً مَراضيعَ مثلَ السَّعالِي
انتهى.
(3/295)
---(1/1150)
قال الشيخ: "انتهى هذا السؤال وجوابُه، وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يُفَرِّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوبِ على الاختصاص، وجَعَل حكمَهما واحداً، وأوردَ مثالاً من المنصوب على المدح وهو: "الحمدُ لله الحميدَ" ومثالين من المنصوبِ على الاختصاص وهما: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" "إنا بني نهشل لا نَدَّعي لأب". والذي ذَكَره النحويون أنَّ المنصوبَ على المدحِ أو الذم أو الترحم قد يكونُ معرفةً، وقبله معرفةٌ تَصْلُح أن يكونَ تابعاً لها وقد لا تَصْلَحُ، وقد يكونُ نكرةً كذلك، وقد يكونُ نكرة وقبلها معرفةٌ فلا يصلُحُ أن يكونَ نعتاً لها، نحو قوله النابغة:
1204ـ أََقارعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها * وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تجادِعُ
فنصب "وجوه قرود" على الذَّمِّ وقبْلَه معرفةٌ وهي "أقارع عوفٍ"، وأمَّا المنصوبُ على الاختصاص/ فنصُّوا على أنه لا يكون نكرةً و لا مُبْهماً، ولا يكونُ إلا معرفاً بالألف واللامِ أو بالإِضافةِ أو بالعلميةِ أو لفظِ "أي"، ولا يكونُ إلا بعد ضمير مختص به أو مشاركٍ فيه، وربما أتى بعد ضميرِ مخاطبٍ". قلت: إنما أراد الزمخشري بالمنصوبِ على الاختصاصِ المصوبَ على إضمارِ فعلٍ لائقٍ، سواءً كان من الاختصاصِ المبوَّبِ له في النحو أم لا، وهذا اصطلاحُ أهْلِ المعاني والبيان، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك غيرَ مرة.
الوجه الرابع: نَصْبُه على القطع أي: إنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يَرْتفع نعتاً لله تعالى بعد تعريفِهِ بأل، والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعُهُ فَقُطِعَ إلى النصب. وهذا مذهبُ الكوفيين، ونَقَلَهُ بعضُهم عن الفراء وحدَه، ومنه عندَهم قولُ امرىء القيس:
1205ـ .................... * وعالَيْن قِنْوَاناً من البُسْر أحمرا
(3/296)
---(1/1151)
الأصل: من البسر الأحمر، وقد تقدَّم ذلك محققاً. ويؤيد هذا الذاهبَ قراءةُ عبدالله "القائم بالقسط" برفع "القائم" تابعاً للجلالة. وخَرَّجه الزمخشري وغيرُهُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوف تقديره: هو القائمُ، [أو بدلاً من هو]". قال الشيخ: "ولا يجوزُ ذلك لأنَّ فيه فصلاً بين البدلِ والمبدلِ منه بأجنبي، وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغيرِ العاملِ في المبدلِ منه، ولو كان العاملُ في المعطوفِ هو العاملَ في المبدلَ منه لم يَجْزُ ذلك أيضاً؛ لأنه إذا اجتمع العطفُ والبدلُ قُدِّم البدلُ على العطف، لو قلت: "جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك" لم يَجُزْ، إنما الكلامُ جاء زيدٌ أخوكَ وعائشةُ".
فتحصَّل في رفع "القائم" على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه: النعتُ والبدلُ وخبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. ونُقِلَ عن عبدالله أيضاً أنه قرأ: "قائمٌ بالقسط" بالتنكير، ورفعُه من وجهي البدل وخبر المبتدأ. وقرأ أو حنيفة: "قَيِّماً" بالنصبِ على ما تقدَّم. فهذه أربعةُ أوجه حَرَّرَتْها من كلام القوم.
(3/297)
---(1/1152)
والظاهر أن رفع "الملائكةُ" وما بعدَهُ عطفٌ على الجلالة المعظمة. وقال بعضُهم: "الكلامُ تَمَّ عند قولِهِ: {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} وارتفَعَ "الملائكة" بفعل مضمرٍ تقديرُهُ: وشَهِدَ الملائكة وألولو العلم بذلك" وكأنَّ هذا الذاهبَ يرى أنَّ شهادة اللهِ مغايرةٌ لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يُجِيزُ إعمال المشترك في معنييه فاحتاجَ من أجلِ ذلك إلى إضمارِ فعلٍ يُوافِقُ هذا المنطوقَ لفظاً ويخالِفُهُ معنى، وهذا يَجِيءُ نظيرُهُ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: هل دَخَلَ قيامُه بالقسط في حكمِ شهادةِ الله والملائكة وأولي العلم كما دَخَلَتْ الوحدانيةُ؟ قلت: نعم إذا جعلتَهُ حالاً من "هو" أو نصباً على المدحِ منه، أو صفةً للمنفي، كأنه قيل: شَهِدَ الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط".
قوله: {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مكررةٌ للتوكيد. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: لِمَ كَرَّر قولَه {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ}؟ قلت: ذَكَرَه أولاً للدلاةِ على اختصاصِهِ بالوحدانيةِ، وأنه لا إله إلا تلك الذاتُ المتميِّزَة، ثم ذَكَرَهُ ثانياً بعد ما قَرَن بإثباتِ الوحدانية إثبات العدل للدلالةِ على اختصاصِهِ بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هو الموصوفُ بالصفتين، ولذلك قَرَنَ به قولَه: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لتضمُّنِها معنى الوحدانية والعدل".
(3/298)
---(1/1153)
وقال بعضُهم: "ليس بتكريرٍ؛ لأنَّ الأولَ شهادةُ الله تعالى وحدَه، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم"، وهذا كما تقدَّم عند مَنْ يرفع "الملائكة" بفعلٍ آخرَ مضمرٍ لِمَا ذكرتُهُ من أنه لا يرى إعمالَ المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهبُ مرجوح. وقال الراغب: "إنما كرَّر لا إله إلا هو لأنَّ صفات التنزيهِ أشرفُ مِنْ صفاتِ التمجيد، لأنَّ أكثرَها مشاركٌ في ألفاظِها العبيدُ فيصِحُّ وَصْفُهم بها، ولذلك وَرَدَتْ ألفاظُ التنزيهِ في حَقِّه أكثرَ وأَبْلَغَ".
قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه بدلٌ من "هو"، الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ. الثالث: أنه نعتٌ لـ"هو"، وهذا إنَّما يتمَشَّى على مذهبِ الكسائي، فإنه يرى وصفَ الضمير الغائب، ويتقدَّم نحو هذا في قوله: {لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ
}.
* { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ}: قرأ الكسائي بفتحِ الهمزةِ والباقون بكسرِها. فأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فعلى الاستئئنافِ، وهي مؤكدةٌ للجملة الأولى: قال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما فائدةُ هذال التوكيدِ؟ قلتْ: فائدتُهُ أنَّ قولَه: "لا إله إلا الله" توحيدٌ، وقولَه: "قائما بالقِسْطِ" تعديلٌ، فإذا أَردْفه قولَه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} فقد آذن أن الإسلام هو العدلُ والتوحيد، وهو الدينُ عند الله، وماعداه فليس في شيء من الدين عنده".
(3/299)
---(1/1154)
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من "أنه لا إله إلا هو" على قراءةِ الجمهور في "أنه لا إله إلا هو" وفيه وجهان، أحدهما: أنه من بدلِ الشيءِ من الشيء، وذلك أنَّ الدين الذي هو الإسلام يتضمَّنُ العدْلَ والتوحيدَ وهو في المعنى. والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الإسلامَ يشتمِلُ على التوحيد والعَدْلِ.
الثاني من الأوجه السابقة أن يكونَ "أنَّ الدين" بدلاً من قوله "قائم بالقسط" ثم لك اعتباران، أحدُهما: أَنْ تَجْعَله بدلاً من لفظِهِ فيكونُ محلُّ "أنَّ الدين" الجرَّ. والثاني: أن تجعلَه بدلاً مِنْ مَوْضِعِه فيكونُ محلُّها نصباً. وهذا الثاني لا حاجةَ إليه إن كان أبو البقاء ذكره، وإنما صَحَّ البدلُ في المعنى؛ لأنَّ الدينَ الذي هو الإسلامُ قِسْطٌ وعَدْلٌ، فيكونُ أيضاً من بدلِ الشيءِ من الشيء، وهما لعينٍ واحدةٍ/. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمال لأنَّ الدينَ مشتملٌ على القسطِ وهو العدلُ. وهذه التخاريجُ لأبي علي الفارسي، وتَبِعَهُ الزمخشري في بَعْضِها. قال الشيخ: "وأبو علي معتزلي فلذلِكَ يشتمل كلامُه على لفظِ المعتزلةِ من العدلِ والتوحيد" قلت: ومَنْ يرغَبُ عن التوحيدِ والعدلِ من أهلِ السنةِ حتى يَخُصَّ به المعتزلَة؟ وإنما رأى في كلامِ الزمخشري هذه الألفاظَ كثيراً، وهو عنده معتزليٌّ، فَمَن تَكَلَّم بالتوحيدِ والعَدْلِ كان عندضه معتزلياً.
(3/300)
---(1/1155)
ثم قال: "وعلى البدل من "أنه" خَرَّجه هو وغيرُه، وليس بجيد لأنه يُؤَدِّي إلى تركيبٍ بعيدٍ أَنْ يأتيَ مثلُه في كلامِ العربِ وهو: "عَرَف زيدٌ أنه لا شجاعَ إلا هو بوبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أنَّ الخَصْلَةَ الحميدةَ هي البسالةُ" وتقريبُ هذا المثال: "ضرب زيدٌ عائشةً والعُمَران حَنِقاً أختَك" فَحَنِقاً حالٌ من زيد، وأختَك بدلٌ من عائشةً، ففصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالعطفِ، وهو لا يجوزُ، وبالحالِ لغيرِ المُبْدَلِ منه، وهو لا يجوزُ، لأنه فُصِلَ بأجنبي بين المُبْدَلِ منه والبدل" انتهى.
قوله: "عرف زيد" هو نظيرُ: "شهد الله" وقوله: "أنه لا شجاع إلا هو "نظير" أنه لا إله إلا هو". وقوله: "بنو دارم" نظير قوله: "والملائكة". وقوله: "ملاقياً للحروب" نظيرُ قوله: قائما بالقسط، وقوله "لا شجاع إلا هو" نظير قوله: "لا إله إلا هو" فجاء به مكرراً كما في الآية، وقوله: البطل الحامي" نظيرُ قولهِ: "العزيز الحكيم" وقوله "أن الخصلة الحميدة هي البسالة" نظيرُ قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} ولا يَظْهَرُ لي مَنْعُ ذلك ولا عَدَمُ صحةِ تركيبه حتى يقول "ليس بجيد" وبعيد أن يأتي عن العرب مثله". وما ادَّعاه بقولِهِ في المثال الثاني أنَّ فيه الفصلَ بأجنبي فيه نظرٌ، إذ هذه الجملُ صارَتْ كلُّها كالجملة الواحدة لِمَا اشتملت عليه من تقويةِ كلماتٍ بعضِها ببعضٍ، وأبو عليّ وأبو القاسم وغيرُهُما لم يكونوا في محلِّ مَنْ يَجْهَلُ صحةَ تركيبِ بعضِ الكلامِ وفسادِهِ.
ثم قال الشيخ: "قال الزمخشري: وقُرئا مفتوحين على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول كأنه قيل: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ عند الله الإِسلامُ، والبدلُ هو المبدلُ منه في المعنى، فكانَ بياناً صريحاً لأنَّ دينَ الإسلام هو التوحيدُ والعدلُ". قال: "فهذا نَقْلُ كلامِ أبي عليّ دونَ استيفاءٍ".
(3/301)
---(1/1156)
الثالث من الأوجه: أَنْ يكونَ "أنَّ الدينَ" معطوفاً على "أنه لا إلاه إلا هو"، حُذِفَ منه حرفُ العطفِ، قاله ابن جرير، وضَعَّفَهُ ابنُ عطيَّة، ولم يبيِّن وجهَ ضَعْفِهِ.
قال الشيخ: "وَجْهُ ضَعفِهِ أنه متنافِرُ التركيب مع إضمارِ حرفِ العطفِ، فَيُفْصَلُ بين المتعاطِفَيْنِ المرفوعَيْن بالمنصوبِ المفعولِ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوعِ وبجملتي الاعتراضِ، وصار في التركيبِ نظيرَ قولِك: "أكل زيدٌ خبزاً وعمروُ سمكاً" يعني فَفَصْلتَ بين "زيد" وبين "عمر" بـ"خبزاً"، وفصلْتَ بين "خبزاً" وبين "سمكاً" بعمرٍو، إذ الأصلُ قبل الفصل: "أكل زيدٌ وعمر خبزاً وسمكاً".
(3/302)
---(1/1157)
الرابعُ: أَنْ يكونَ معمولاً لقولِهِ: "شهِدَ الله" أي: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جازَ أَنْ يَحْكُمَ على موضِعِه بالنصب أو بالجرِّ. فإنْ قلت: إنما يتجهُ هذا التخريجُ على قراءةِ ابن عباس، وهي كسرُ إنَّ الأولى، وتكون حينئذٍ الجملةُ اعتراضاً بين "شَهِدَ" وبين معمولِهِ كما قَدَّمْتُهُ، وأمَّا على قراءةِ فَتْحِ "أنَّ" الأولى، وهي قراءةُ العامة فلا يَتَجِهُ ما ذكرْتُهُ من التخريج، لأن الأولى معمولةٌ له استَغْنَى بها. فالجوابُ: أنَّ ذلك متجهٌ أيضاً مع فتحِ الأولى وهو أَنْ تَجْعَلَ الأولى على حَذْفِ لامِ العلة، تقديرُهُ: شهد الله أنَّ الدين عندَ اللهِ الإِسلامُ لأنه لا إله إلا هو، وكان يَحِيك في نفسي هذا التخريجُ مدةً، ولم أَرَهم ذكروه حتى رأيتُ الواحديَّ ذَكَرَه، وقال: "وهذا معنى قول الفراء حيث يقولُ في الاحتجاجِ للكسائي: "إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "أنه" على الشرطِ، وجَعَلْتَ الشهادةَ واقعةً على قولِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} وتكونُ "أنَّ" الأولى يصلُح فيه الخَفْضُ كقولِك: "شهد اللهُ لوحدانيتِهِ أنَّ الدينَ عن اللهِ الإسلامُ". وهو كلامٌ مُشْكِلق في نفسِهِ، ومعنى قولِهِ: "على الشرط" أي: العلة، سَمَّى العلةَ شرطاً لأنَّ المشروطَ متوففٌ عليه كتوقُّفِ المعلولِ على علتِهِ، فهو علَّةٌ، إلا أنه خلافُ اصطلاحِ النحويين.
ثم اعترَضَ الواحديُّ على هذا التخريجِ بأنه لو كانَ كذلك لم يَحْسُنْ إعادةُ اسمِ الله ولكانَ التركيبُ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}، لان الاسمَ قد سَبَقَ فالوجهُ الكنايةُ، ثم أجاب بأنَّ العربَ ربما أعادت الاسمَ موضعَ الكناية وأنشد:
1206ـ لا أَرَى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
يعني أنه من بابِ إيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمرِ، ويزيدُهُ هنا حُسْناً أه في موضِعِ تعظيمٍ وتفخيمٍ.
(3/303)
---(1/1158)
الخامس: أَنْ تكونَ على حَذْفِ حرفِ الجر معمولةً لِلَفْظِ "الحكيم" كأنه قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن، فحكيم مثالُ مبالغةُ مُحَوَّلٌ من فاعِل، فهو كالعليم والبصير، أي: المبالِغُ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَلَ عن لفظ "حاكم" إلى "حكيم" مع زايادةِ المبالغة لموافقةِ العزيز. ومعنى المبالغةِ تكرارُ حكمهِ بالنسبة إلى الشرائع أنَّ الدين عند الله هو الإسلام، أو حَكَمَ في كلِّ شريعة بذلك. وهذا الوجهُ ذكره الشيخ وكأنه من تخريجه ثم قال: "فإن قلت: لِمَ حَمَلْتَ الحكيم على أنه مُحَوَّلٌ من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلاَّ جَعَلْتَه فعيلاً بمعنى مُفْعِل، فيكون بمعنى مُحْكِم، كما قالوا: أليم بمعنى مُؤْلِم وسميع بمعنى مُسْمِع من قولِ الشاعر:
1207ـ أَمِنْ ريحانَةَ الداعي السميعُ * .......................
(3/304)
---(1/1159)
فالجوابُ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ فعيلاً بمعنى مُفْعِل، وقد يُؤَوَّل أليمِ وسميع علىغير مُفْعِل، ولئن سَلَّمْنَا ذلك فهو من النُّدورِ والشذوذ بحيث لا يَنْقَاسُ، بخلاف فَعيل مُحَوَّلٌ من فاعِل فإنه كثيرٌ جداً خارجٌ عن الحصرِ كعليم فإنَّ العربيَّ القُحَّ الباقي على سَجِيَّتِهِ لم يَفْهَمْ عن "حكيم" إلا أنه مُحَوَّلٌ من فاعل للمبالغةِ، ألا ترى أنه لَمَّا سَمِعَ قارئاً يقرأ: {والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدَيهما جزاءً بما كَسَبَا نكالاً من الله والله غفور رحيم} أنكر أن تكونَ فاصلةُ هذا التركيبِ السابقِ: "والله غفور رحيم" فقيل له: التلاوةُ: "والله عزيز حكيم"، فقال: هكذا يكون: عَزَّ فحكم فقطع" فَفَهِمَ من حكيم أنه محولٌ للمبالغة السالفة من "حاكم"، وفَهْمُ هذا العربي حجةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريجٌ سهل سائغُ جداً، يُزيل تلك التكلفاتِ والتركيباتِ العَقِدَةَ التي يُنَزَّه كتابُ الله عنها. وأمَّا على قراءة ابنِ عباس فكذلك نقول، ولا نجعل "أنَّ الدين" معمولاً لـ "شهد" كما زَعَمُوا وأن "إنه لا إله إلا هو" اعتراضٌ ـ يعني بين الحال وصاحبها وبين "شهد" ومعمولِهِ، وسيأتي إيضاحُ ذلك ـ بل نقولُ: معمولُ "شَهِدَ" هو "إنه" بالكسرِ على تخريجِ مَنْ خَرَّجَ أنَّ "شهد" لَمَّا كان بمعنى القولِ كُسِرَ ما بعدَه إجراءً له مُجْرَى القولِ، أو نقول "إنه" معموله وعُلِّقَتْ، ولم تَدْخُلِ اللامُ في الخبر لأنه منفيٌّ، بخلافِ أَنْ لو كان مثبتاً فإنك تقول: "شهدت إنَّ زيداً لمنطلقٌ" فَتُعَلَّقُ بإنَّ مع وجودِ اللام لأنه لو لم تكن اللامُ لفَتَحْتَ "أنَّ" فقلت: شهدت أنَّ زيداً منطلق، فَمَنْ قرأ بفتح "أنه" فإنه لم يَنْوِ التعليق، ومَنْ كَسَرَ فإنَّه نوى التعليقَ ولم تدْخُل اللامُ في الخبرِ لأنه منفيٌّ كما ذكرنا" انتهى.
(3/305)
---(1/1160)
وكان الشيخ ـ لَمَّا ذَكَرَ الفصلَ والاعتراضَ بين كلماتِ هذه الآيةِ ـ قا لما نصه: "وأما قراءةُ ابنِ عباس فَخُرِّجَ على {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} هو معمولُ شهد، ويكونُ في الكلامِ اعتراضان أحدُهما: بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ، وهو "إنه لا إله إلا هو"، والثاني: بين المعطوفِ والحالِ وبين المفعولِ لشَهِدَ وهو: "لا إله إلا هو العزيز الحكيم" وإذا أعْرَبنا "العزيز الحكيم" خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ كان ذلك ثلاثةَ اعتراضات. فانظر إلى هذه التوجيهاتِ البعيدةِ التي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِهِنَّ من كلامِ العرب، وإنما حَمَل على ذلك العجمةُ وعدمُ الإِمعانِ في تراكيب كلام العرب وحفظِ أشعارها، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب أنه لن يكفيَ النحوُ وحدَه في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بُدَّ من الاطلاع على كلامِ العرب والتطبُّع بطبَاعها والاستكثارِ من ذلك".
قلت: ونسبتُه كلامَ أعلامِ الأمة إلى العُجْمَةِ وعَدَمِ معرفتِهِم بكلام العرب وحَمْلُهم كلامَ الله على ما لا يجوز، وأنَّ هذا الوجه الذي ذكره هو تخريجُ سهل واضح غير مقبولةٍ ولا مُسَلَّمةٍ، بل المتبادرُ إلى الذهن ما نقله الناس، وتلك الاعتراضاتُ بين أثناء كلماتِ الآية الكريمة موجودٌ نظيرُها في كلامِ العرب، وكيف يَجْهل الفارسي والزمخشري والفراء وأضرابُهم ذلك، وكيف يتبَجَّح باطِّلاعه على ما لم يَطَّلِعْ عليه مثلُ هؤلاء، وكيف يَظُّنُّ بالزمخشري أنه لا يعرِفُ مواقعَ النَّظْم وهو المُسَلَّمُ له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يشك أحد أنه لا بد لمَنْ يتعرَّض إلى علم التفسير أن يعرف جملةً صالحةً/ من هذه العلوم، وانظر إلى ما حكى صاحب "الكشاف" في خطبته عن الجاحظ وما ذَكَرَهُ في حقِّ الجاهل بهذه العلومِ، ولكن الشيخَ يُنْكِرُ ذلك ويَدَّعِي أنه لا يُحْتَاجُ إلى هذه العلومِ البتة، فَمِنْ ثَمَّ صدر ما ذكرته عنه.
(3/306)
---(1/1161)
قوله: {عِندَ اللَّهِ} ظرفٌ، والعالُ فيه لفظ "الدين" لِمَاك تَضمَّنه من معنى الفعل. قال أبو البقاء: "ولا يكونُ حالاً، لأن "إنَّ" لا تعمل في الحال" قلت: قد جَوَّزُوا في "ليت" وفي "كأنَّ" وفي "ها" أن تعملَ في الحالِ. قالوا: لِما تَضَمَّنَتْه هذه الأحرفُ من معنى التمني والتشبيه والتنبيه، فإنَّ للتأكيدِ فَلْتعمل في الحالِ أيضاً، فليسَتْ تتباعَدُ عن "ها" التي للتنبيه، بل هي أَوْلَى منها، وذلك أنها عاملةٌ و"ها" لَيْسَتْ بعاملةٍ فهي أقربُ لشِبْهِ الفعلِ من "ها".
قوله: {بَغْياً} في أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلِهِ، العامل فيه "اختلف" والاستثناءُ مفرغٌ. والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيرِهِ. الثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "الذين" كأنه قيل: "ما اختلفوا إلاَّ في هذه الحالِ، وليس بقوي، والاستثناءُ مفرَّغٌ أيضاً. [الثلث: أنه منصوبٌ على المصدرِ والعامِلُ فيه مقدَّرٌ] كأنه لَمَّا قيل: "وما اختلف" دَلَّ على معنَى: "وما بَغَى" فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ، وهذا قولُ الزجاج، والأولُ قولُ الأخفش، ورجَّحه أبو علي. ووقع بعد "إلا" مستثنيان وهما: "مِنْ بعدِ" و"بَغْياً" وقد تقدَّم تخريجُ ذلك وما ذَكَرَ الناسُ فيه.
قوله: {وَمَن يَكْفُرْ} "مَنْ" مبتدأٌ، وفي خبره الأقوالُ الثلاثةُ، أعني فعلَ الشرطِ وَحْدَهُ، أو الجوابَ وحدَه، أو كلاهما,. وعلى القولِ بكونِهِ الجوابَ وحده لا بدَّ من ضمير مقدَّرٍ أي: سريعُ الحسابِ له، وقد تقدمَّم تحقيقُ ذلك.
* { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
وفَتَح الياءَ مِنْ "وجهي" هنا وفي الأنعام نافع وابن عامر وحفص، وسَكَّنها الباقون.
(3/307)(1/1162)
---
قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} في محلِّ "مَنْ" أوجهٌ، أحدُهما: الرفع عطفاً على التاءِ في "أَسْلَمَتْتُ"، وجاز ذلك لوجودِ بالمفعولِ، قاله الزمخشري وبه بَدَأَ، وكذلك أبنُ عطية. قال الشيخُ: "ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ؛ لأنه إذا عُطِفَ على الضميرِ في نحو: "أُكلتُ رغيفاً وزيدٌ" لَزِمَ مِنْ ذلك أَنْ يَكونا شريكَيْنِ في أكلِ الرغيف، وها لا يَسُوغُ [فيه] ذلك لأنَّ المعنى ليس على: أَسْلَمُوا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجَهه الله، بل المعنى على أنَّه صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ وجهَهُ لله، وهم أَسْلموا وجهَهم لله، فالذي يَقوَى في الإعرارب أنه معطوفٌ على الضمير محذوفٌ منه المفعولُ، لا مشاركٌ في مفعولِ "أَسْلَمْتُ" والتقديرُ: "وَمَنِ اتَّبَعَنِي وجهَه أو أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ: ومَنِ اتَّبعني كذلك أي: أَسْلَموا وجوهَهم لله، كما تقول: "قَضَى زيدٌ نَحْبَهُ وعَمروٌ" أي: وعمروٌ كذلك، أي: قَضَى نَحْبَه".
قلت: إنَّما صَحَّ في نحوِ: "أكلُ رغيفاً وزيدٌ" المشاركةُ لإِمكانِ ذلك، وأمَّا نحوُ الآيةِ الكريمةِ فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ فيه المشاركةَ.
(3/308)
---(1/1163)
الثاني: أنه مرفوعٌ بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُهُ. الثالث: أنه منصوبٌ على المعيَّة، والواوُ بمعنى مع، أي: أَسْلَمْتُ وجهيَ لله مع مَنِ أتَّبعني، قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخُ: "ومِن الجهة التي امتَنَعَ عَطْفُ "ومَنْ" على الضمير إذا حَمَلَ الكلامَ على ظاهِرِهِ دونَ تأويلٍ يمتنعُ كونُ "مَنْ" منصوباً على أنه مفعولٌ معه، لأنَّك إذا قلت: "أكلتُ رغيفاً وعمراً" أي: مع عمرٍو دَلَّ ذلك على أنه مشارِكٌ لك في أَكْلِ الرغيف، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه، وهو لا يجوزُ لِما ذكرنا على كلِّ حال؛ لأنه لا يجوزُ حَذْفُ المفعولِ مع كونِ الواو واوَ "مع" البتة". قلت: فَهْمُ المعنى وعَدَمُ الإِلباسُ يُسَوِّغُ ما ذكرَهُ الزمخشري، وأيُّ مانِعٍ من أنَّ المعنى: فقل: أسلمتُ وجهيَ لله مصاحباً لِمَنْ أسلمَ وجهَهُ لله أيضاً، وهذا معنًى صحيح مع القولِ بالمعية.
الرابع: أنَّ محلَّ "مَنْ" الخفضُ نَسَقاً على اسمِ الله تبارك وتعالى، وهذا الإعرابُ وإنْ كان ظاهرُهُ مُشْكلاً، فقد يُؤَوَّلَ على معنى: جَعَلْتُ مَقْصَدِي لله بالإِيمانِ به والطاعةِ له ولِمَنْ اتَّبعني بالحفظِ له، والتحفِّي بعلمه وبرأيه وبصبحته.
وقد أثبت الياءَ في "اتَّبعني" نافع وأبو عمرو وصلاً وَحَذفاها وقفاً، والباقون حَذَفُوها فيهما موافقةً للرسم، وحَسَّن ذلك أيضاً كونُها فاصلةً ورأسَ آية نحو: "أَكْرَمَن وأهانَن" وعليه قولُ الأعشى:
1208ـ وهل يَمْنَعُني ارتيادِي البلادَ * مِنْ حَذَرِ الموتِ أَنْ يَأْتِيَنْ
وقال الأعشى أيضاً:
1209ـ ومِنْ شانِىءٍ كاسِفٍ وجُهه * إذا ما انْتَسَبْتُ له أَنْكَرَنْ
قال بعضُهم: "يكثُرَ حذفُ هذه الياءِ مع نونِ الوقاية خاصة، فإنْ لم تكن نونٌ فالكثيرُ إثباتها".
(3/309)
---(1/1164)
قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ، أي: أَسْلَموا، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي: انتهوا، قال الزمخشري: "يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجِبُ الإِسلامَ ويقتضي حصولَه لا محالَة، فهل أسلمتم بعدُ، أم أنتم على كفركِم؟ وهذا كقولِك لِمَنْ لَخَّصْتَ له المسألةَ ولم تُبْقِ من طرق البيان والكشفِ طريقاً إلاَّ سَلَكْتَه: هل فهمتها أم لا، لا أُمَّ لك؟ ومنه قولُه عز وجل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} بعدَ ما ذَكَرَ الصَّوارِفَ عن الخمرِ والميسرِ، وفي هذها الاستفهامِ استقصاءٌ وتعبيرٌ بالمعانَدَةِ وقِلَّةِ الإِنصافِ، لأنَّ المنصفَ إذا تجَلَّتْ لَه الحُجَّةُ لم يتوقَّف إذعانُه للحق" وهو كلامٌ حسنٌ جداً/ وقوله: {فَقَدِ اهْتَدَواْ} دَخَلَت "قد على الماضِي مبالغةً في تحقُّق وقوعِ الفعلِ وكأنَّه قد قَرُبَ من الوقوعِ.
* { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ}: لَمَّا ضُمِّن هذا الموصولُ معنى الشرطِ دَخَلَتِ الفاءُ في خبره، وهو قولُه: فبشِّرْهُم، وهذا هو الصحيحُ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأُ بـ "إنَّ" فجوازُ دخولِ الفاءِ باقٍ، لأن المعنى لم يتغيَّرْ، بل ازدادَ تأكيداً، وخَالَف الأخفشُ فمنعَ دخولَها من نَسْخِة بـ"إنَّ"، والسماعُ حُجَّةٌ عليه كهذِه الآية، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، وكذلك إذا نُسِخَ ب"لكنَّ" كقوله:
1210ـ فوالله ما فَارَقْتُكُمْ عن مَلالةٍ * ولكنَّ ما يُقْضَى فسوف يكون
(3/310)
---(1/1165)
وكذلك إذا نُسِخَ بـ"أنَّ" المفتحة كقوله تعالى: {وَاعْلَمُواا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ [خُمُسَهُ]}، أمَّا إذا نُسِخَ بليت ولعل وكان امتنعتِ الفاءُ عند الجميعِ لتغيُّرِ المعنى.
قوله: {وَيَقْتُلُونَ} قرأ حمزة "ويُقاتلِون" من المقاتلة، والباقون: "ويَقْتُلون" كالأولِ، فأمَّا قراءةُ حمزةَ فإنه غايَرَ فيها بين الفعلين وهي موافقةٌ لقراءةِ عبدالله: "وقاتِلوا" من المقاتلة، إلاَّ أنَّه أتى بصيغةِ الماضي، وحمزةُ يُحْتمل أن يكونَ المضارعُ في قراءتِه لحكاية الحالِ ومعناه المضيُّ. أمَّا الباقون فقيل في قراءتهم: إنما كَرَّر الفعلَ لاختلافِ متعلَّقه، أو كُرِّر تأكيداً، وقيل: المرادُ بأحدِ القَتْلتين تفويتُ الروحِ وبالآخرِ الإِهانةُ، فلذلك ذَكَر كلَّ واحدٍ على حِدَتِه، ولولا ذلك لكان التركيبُ "ويقتلون" النبيين والذي يَأْمُرون".
وقرأ الحسن: "ويُقَتِّلون" بالتشديد ومعناه التكثيرُ، وجاء هنا "بغير حق" مُنَكَّراً، وفي البقرة {بِغَيْرِ الْحَقِّ} مُعَرَّفاً قيل: لأنَّ الجملةَ هنا أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشرطِ، وهو عامٌ لا يتخصَّصُ فلذلك ناسَبَ أن تُنَكَّر في سياقِ النفي ليعُمَّ، وأمَّا في البقرةِ فجاءَتْ الآيةُ في ناسٍ مَعْودين مُشَخَّصِين بأعيانِهم، وكانُ الحقُّ الذي يُقْتَلُ به الإنسانُ معروفاً عندهم فلم يُقْصَدْ هذا العمومُ الذي هنا، فَجِيءَ في كلَّ مكان بما يناسِبُه. قوله: "من الناس": إمَّا بيانٌ وإمَّا للتبعيض، وكلاهما معلومٌ من الناسِ، فهو جارٍ مَجْرى التأكيدِ.
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
وقرأ ابنُ عباس وأبو عبدالرحمن بفتحِ الباء: "حَبَطَتْ" وهي لغةٌ معروفةٌ.
(3/311)
---(1/1166)
* { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ }
قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ}: في محلِّ نصب على الحالِ من "الذين أُوتوا". وقولُه "ليحكُمَ" متعلقٌ بيُدْعَوْن. وقوله: "ثم يَتَوَّلى" عطفٌ على "يُدْعَوْن" و"منهم" صفةٌ لفريق.
وقوله: {وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} يجوزُ أن تكونَ صفةً معطوفةً على الصفةِ قبلها فتكونُ الواوُ عاطفةً، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في "منهم" لوقوعِهِ صفةً فتكمونُ الواوُ للحالِ، [ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من "فريق" وجاز ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصيصه بالوصفِ قبلَه] وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ مؤكدةً، لأَنَّ التولَّيَ والإِعراضَ بمعنى، ويجوزُ أن تكونَ مبيِِّنةً لا ختلافِ متعلَّقِهما، قالوا: لأنَّ التولِّيَ عن الداعي، والإِعراضَ عَمَّا دُعِي إليه. وُيحْتمل أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها أَخبْر عنهم بذلك.
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري، "لِيُحْكَمَ" مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الظرفُ، أي: ليَقَعَ الحكمُ بينهم.
* { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
(3/312)
---(1/1167)
قوله تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ}: يجوزُ في "ذلك" وجهان، أًصحُّهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ بعده خبرهُ، أي: ذلك التولِّيث بسببِ هذه الأقوالِ الباطلةِ التي لا حقيقةَ لها. والثاني: أن "ذلك" خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك، وهو قولُ الزجاج. وعلى هذا فقولُه: "بأنهم" متعلق بذلك المقدَّر، وهو الأمر ونحوه. وقال أبو البقاء: "فعلى هذا يكون قوله: "بأنهم" في موضعِ نصبٍ على الحال مِمَّا في "ذا" من معنى الإِشارة أي: ذلك الأمرُ مستحقاً بقولِهم"، ثم قال: "وهذا ضعيفٌ". قلت: بل لا يجوزُ البتة.
وجاء هنا "معدودات" بصيغة الجمع، وفي البقرة: {مَّعْدُودَةً} تفنُّناً في اللاغة، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى، فيقال: "هذه جبالٌ راسيةٌ" وإن شئت: "راسيات"، و"جِمال ماشية" وإن شئت: "ما شيات". وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم.
قوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} الغُرور: الخِداع، يقال منه: غَرَّه يَغِرُّه غُرورا فهو غارٌّ ومغرور، والغَرور ـ بالفتح ـ مثالُ مبالغة، كالضَّروب، والغِرُّ: الصغير، والغَريرة: الصغيرة لأنهما يَنْخَدِعَان والغِرَّةُ مأخوذة من هذا. يقال: "أخَذَه على غِرَّة" أي: تَغَفُّل وخداع، والغُرَّةُ: بياضُ في الوجهِ، يقال منه: وجْهُ أَغرُّ ورجل [أغرُّ] وامرأة "غَرَّاء"، والجمعُ القياسي: غُرٌّ، وغيرُ القياسي: غُرَّان. قال:
1211ـ ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ * وأوجُهُهم عند المَشاهِدِ غُرَّانُ
(3/313)
---(1/1168)
والغُرَّةُ من كلِّ شيء: أَنْفَسُه، وفي الحديث: "وجَعَلَ في الجنين غُرَّةً عبداً أو أَمَة" وقيل: "الغُرَّةُ" الخِيارُ. وقال أبو عمرو بن العلاء في تفسير هذا الحديث: إنه لا يكون إلا الأبيضُ من القريقِ" كأنَّه أَخَذَه من الغُرَّة وهي البياضُ في الوجه.
قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: الذي كانوا يَفْتَرُونه.
* { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا}: "كيف" منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: كيف يكونُ حالُهم؟ قدَّره الحوفي، وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ الكونُ تاماً، فيجيء في "كيف" الوجهان المتقدِّمان في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} من التشبيه بالحال أو الظرف، وأن تكونَ الناقصةَ فتكونَ "كيف" خبرَها، وقَدَّر بعضُهم الفعلَ فقال: "كيف يَصْنعون" فـ"كيف" على ما تقدَّم من الوجهين، ويجوز أَنْ تكونَ "كيف" خبراً مقدَّماً، والمبتدأُ محذوفٌ، تقديرُه: فكيف حالُهم؟.
قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} ظرفُ مَحْضٌ من غيرِ تضمينِ شرطٍ، والعاملُ فيه العاملُ في "كيف" إنْ قنلنا إنَّها منصوبةً بفعلٍ مقدَّرٍ كما تقدَّم تقريرُه، وإنْ قلنا: إنَّها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وهي منصوبَةٌ انتصابَ الظروفِ كانَ العاملُ في "إذا" الاستقرارَ العاملَ في "كيف" لأنها كالظرفِ. وإنْ قلنا: إنها اسمٌ غيرُ ظرفٍ، بل لمجردِ السؤالِ كان العاملُ فيها نفسَ المبتدأ الذي قَدَّرناه، أي: كيف حالُهم في وقت/ جَمْعِهم.
قوله: {لِيَوْمٍ} متعلِّقٌ بجمعناهم "أي: لقضاء يومٍ أو لجزاء يوم و{لاَّ رَيْبَ فِيهِ} في صفةٌ للظرف.
(3/314)
---(1/1169)
* { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {اللَّهُمَّ}: اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة. فقا البصريون: الأصلُ يا الله، فحُذِفَ حرفُ النداء، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة. وهذا خاصٌّ بهذا الاسمِ الشريف فلا يجوزُ تعويضُ الميمِ من حرفِ النداء في غيره، واستدلُّوا على أنَّها عوضٌ من "يا" أنهم لم يَجْمَعوا بينهما فلا يُقال: يا اللهمَّ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
1212ـ وما عليكِ أَنْ تقولي كلما * سَبَّحْتِ أو هَلَّلْتِ يا اللهم ما
أدرْدُدُ علينا شَيْخَنا مُسَلَّما
وقال الكوفيون: الميمُ المشددةُ بقية فعلٍ محذوفٍ تقديرُه: "أُمَّنا بخير" أي: اقصُدْنا به، مِنْ قولك: "اَمَّمْتُ زيداً" أي قصدتُه، ومنه: {وَلاا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي: قاصِديه، وعلى هذا فالجمعُ بينَ "يا" والميمِ ليس بضرورةِ عندهم، إذ ليسَتْ عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سُمع "اللهم أُمَّنَا بخير" وقال تعالى: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ} فقد صَرَّح بالمدعوِّ به، فلو كانَتِ الميمُ بقيةَ "أمَّنا" لفسد المعنى فبان بطلانهُ. وهذا من الأسماء التي لَزِمَت النداءَ فلا يجوزُ أَنْ يقعَ في غيرِه، وقد وَقَع في ضرورةِ الشعرِ كونُه فاعِلاً. أنشد الفراء:
1213ـ كحَلْفَةٍ من أبي دِثار * يَسْمَعُها اللهُمَ الكُبارُ
(3/315)
---(1/1170)
فاستعملَه هنا فاعلاً بقوله: "يَسْمَعُها" ولا يجوزُ تخفيفُ ميمِه، وجَوَّزه الفراء وأنشد البيت: "يَسْمَعُها اللَهُمَ/ الكُبار" بتخفيفِ الميم؛ إذ لا يمكنُه استقامةُ الوزن إلاَّ بذلك. قال بعضُهم: "هذا خطأٌ فاحِشٌ، وذلك لأنَّ الميمَ بقيةُ "أُمَّنا" وهو رأيُ الفراء، فكيف يُجَوِّزُ الفراء؟ وأجاب عن البيت بأنَّ الروايةَ ليسَتْ كذلك، بل الروايةُ: يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. قلت: وهذا [لا يُعارِضُ الروايةً الأخرى، فإنه كما صَحَّتْ هذه صَحَّتْ] تَيْكَ. وردَّ الزجاج مذهبَ الفراء بأه لو كان الأصل: "يا لله أُمَّنا" لَلُفِظَ به مَنْبَهَةً على الأصل كما قالوا في: وَيْلُمِّه: ويلٌ لأُمِه.
ومن أحكام هذه اللفظةِ أيضاً أنها كَثُرَ دَوْرُها حتى حُذِفَتْ منها الألف واللامُ في قولِهم: "لا هُمَّ" أي: اللهم، وقال الشاعر:
1214ـ لا هُمَّ إنَّ عامرَ بنَ جَهْمِ * أَحْرَم حَجَّاً في ثيابٍ دُسْمِ
وقال آخر:
1215ـ لا هُمَّ إنَّ حُرْهُما عِبادُكما * الناسُ طَرْفٌ وهمُ بِدلادُكا
وفي هذه الكلمةِ أبحاثُ كثيرةٌ موضِعُها غيرُ هذا.
قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من "اللهم". الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ، حُذِفت منه حرفُ النداء، أي: يا مالكَ المُلك، وهذا هو البدلُ في الحقيقةِ، إذ البدلُ على نيةِ تكرارِ العاملِ، إلاَّ أنَّ الفرقَ هذا ليسَ بتابعٍ. الرابع: أنه نعتٌ لـ"اللهم" على الموضعِ فلذلك نُصِب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنَّ سيبويه لا يُجِيزُ نَعْتَ هذه اللفظةِ لوجودِ الميم في آخِرها، لأنها أَخْرَجَتْها عن نظائرها من الأسماءِ، وأجازَ المبرد ذلك، واختارَه الزجاج قالا: لأنَّ الميمَ بدَلٌّ من "يا" والمنادى مع "يا" لا يتمنعُ وَصْفُه فكذا مع ماهو عوضٌ منها، وأيضاً فإنَّ الاسمَ لم يتغيَّرْ عن حكمِه، ألا تَرَى إلى بقائه مبنياً على الضم كما كانَ مبنياً مع "يا".
(3/316)
---(1/1171)
وانتصرَ الفارسي [لسيبويه] بأنه ليسَ في الأسماءِ الموصوفةِ شيءٌ على حَدِّ "اللهم" فإذا خالَفَ ما عليه الأسماءَ الموصوفَةَ ودخل في حَيِّزِ ما لا يُوصَفُ من الأصواتِ وَجَبَ ألاَّ يوصَفَ، والأسماءُ المناداةُ المفردةُ المعرفةُ القياسُ ألاَّ توصفَ كما ذهب إليه بعضُ الناسِ لأنها واقعةٌ موقعَ ما لا يوصف. وكا أنه لمَّا وَقَع موقعَ ما لا يُعْرَبُ لم يُعْرَبْ، كذلك لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ ما لا يُوْصَفُ لم يُوْصَفْ. فأما قوله:
1216ـ يا حكمُ الوارثُ عن عبدالملكْ * .......................
وقوله:
1217ـ يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بنَ الجارودْ * سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدُودْ
و[قوله]:
1218ـ ......................... * ..................... يا عُمَرُ الجَوادا
فإنَّ الأولَ على "أنت" والثاني على نداءٍ ثانٍ، والثالثُ على إضمارِ "أعني"، فلمَّا كان هذا الاسمُ الأصلُ فيه ألاَّ يوصَفَ لِمَا ذَكَرْنا كان "اللهم" أَوْلى ألاَّ يوصفَ، لأنه قبل ضمِّ الميمِ إليه واقعٌ موقعَ ما لا يوصفُ، فلَّما ضُمَّتْ إليه الميمُ صيغَ معَهَا صياغةً مخصوصةً، وصارَ حكمُه حكمَ الأصوات، وحكُم الأصواتِ ألاَّ توصَفَ نحو: "غاق" وهذا مع ما ضُمَّ إليه من الميمِ بمنزلةِ صوتٍ مضمومٍ إلى صوتٍ نحو: "حَيَّهَلَ" فحقُّه ألاَّ يوصفَ كما لا يُوصف "حيهل". انتهى ما انتصر به أبو علي السيبويه وإن كان لا ينتهضُ مانعاً.
قوله: {تُؤْتِي} هذه الجملةُ وما عُطِفَ عليها يجوزُ أنْ تكونَ مستأنفةً مُبَيِّنَةً لقوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} ويجوزُ أن تكونَ حالاً من المنادى، وفي انتصابِ الحالِ عن المنادى خلافٌ، الصحيحُ جوازُه، لأنه مفعولٌ به، والحالُ كما تكونُ لبيانِ هيئةِ الفاعل تكونُ لبيان هيئةِ المفعولِ، ولذلك أَعْرب الحُذَّاقُ قولَ النابغةَ:
1219ـ يا دارمَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ * أَقْوَت وطالَ عليها سالِفُ الأبدِ
(3/317)
---(1/1172)
إن "بالعلياء" حالٌ من "دارمَيَّة"، وكذلك "أَقْوت".
والثالث من وجوه "تُؤتي" أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أي: أنت تُؤتي، فتكونُ الجلمةُ اسميةً، وحينئذ يجوز أن تكونَ مستأنفة وأن تكون حالية.
قوله: {تَشَآءُ} أي: تشاء إيتاءه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة للعمل به/
قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [قيل: في الكلام حذفُ معطوف تقديره: والشر، فحذف كقوله]: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبردَ، وكقوله:
1220ـ كأنَّ الحَصَا مِنْ خلفِها وأمامِها * إذا نَجَلْتهُ رِجْلُها خَذْفَ أَعْسَرا
أي: ويدُها.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف قال: "بيدِك الخيرُ" فذكرَ الخيرَ دونَ الشر؟ قلت: لأن الكلامِ إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرَتْه الكفرةُ، فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءَك على رغمٍ مِنْ أعدائك" انتهى. وهذا جوابٌ حسنٌ جداً، ثم ذكر هو كلاماً آخرَ يُوافق مذهبَه لا حاجةَ لنا به، وقيل: هذا من آداب القرآن حيث لم يصرِّحْ إلا بما هو محبوبٌ لخَلْقِه، ونحوٌ منه قولُه: "والشرُّ ليس إليك" وقولُه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
}. والنَّزْعُ: الجَذْبُ، يقال: نَزَعَهُ يَنْزِعُه نَزْعاً إذا جَذَبَه عه، ويُعَبَّر به عن المَيْلِ، ومنه: "نَزَعَتْ نفسُه" إلى كذا" كأنَّ جاذباً جَذَبَها، ويُعَبَّر به عن الإِزالَةِ، "نَزَعَ الله عنك الشَّر" أي: أَزاله، {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أي: أَزاله، وكهذه الآيةِ فإنَّ المعنى: ويُزِيلُ المُلْكَ.
* { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
(3/318)
---(1/1173)
قوله تعالى: {تُولِجُ}: كقولِهِ: "تُؤْتِي" وقد تقدَّم ما فيه، ويقال: وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ، واتَّلَحَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلاَجاً، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو: اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر:
1221ـ فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً * تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ
والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآية على ذلك. وقولن مَنْ قال معناه: النقص فإنما أراد أنه من باب اللامز، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزعم بعضُهم أن "تُولِج" بمعنى ترفع، وأن "في" بمعنى "على" وليس بشيء.
(3/319)
---(1/1174)
قوله: {مِنَ الْمَيِّتِ} اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ "المَيْت" من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو: {تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أو الجمادُ نحو قوله تعالى: {إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ}، وقولَه: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ "الميتة" في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد، وقد تقدَّم ذكرُها في البقرة، وكذلك قولُهُ: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} و{بَلْدَةً مَّيْتاً} و{إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} فإنها مخففات عند الجميع. وثَقَّل نافع جميعَ ذلك، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}، و{الأَرْضُ الْمَيْتَةُ}، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، وفجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال: هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين:
1222ـ ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ * إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً * كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ
(3/320)
---(1/1175)
وزعم بعضهم أن "مَيْتاً" بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص، وحيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً} إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً.
هذا بالنسبة إلى القُرَّاء، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ "الميت" فقلت: هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام: قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو {وما هو بميت} و{إنَّك ميتٌ وإنَّهم ميتون}، وقسمٌ لا خلافَ في تخفقيفه وهو ما تقدم في قوله: {المَيْتةَ والدمَ} و{إلاَّ أن يكنَ مَيْتَةً} وقوله: "{وإنْ يكنُ مَيْتَةً} وقوله {فَأَنْشَرْنا به بلدةً ميتا} وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ. وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت: مَيْوِت فأدغم، وأن في وزنِهِ خلافاً: هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين، وأصله: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألاَّ يوجَد فيه. وأجاب البصريون عند قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قَضاة في جمع "قاض" لا نظير له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح، ويدل على عدمِ التلازم: "قُضاة" جمع قاضٍ، وفي "قضاة" خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراض البصريون عليهم بأه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أو يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو: طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ.
(3/321)
---(1/1176)
قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه/. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فَأَغْنَى عن إعادته.
واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنس المماثل في قوله: {مالكَ المُلْك} تُؤتي المُلَكْ،ـ وتَنْزِعُ الملك} ومنها: الطباقُ وهو الجمعُ بن متضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا، وذلك في قوله: {تُؤْتي الملك وتَنْزِع} وفي {تُعِزُّ وتُذِلٌّ}، وفي قوله: {بيدك الخيرُ} أي: والشرُّ عند بعضهم، وفي قوله: {الليل والنهار} وفي قوله: {الحي والميت}. ومنها ردُّ الأعجازِ على الصدور، والصدور على الأعجاز في قوله: {وَتُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} وفي قولِهِ: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ونحوُهُ: عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ". وتضمَّنَتِ من المعاني التوكيدَ: بإقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمر في قوله: "تؤتى الملك إلخ" وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحرفِ مَكانَ ما هو بمعناه، والحذفُ لفهمِ المعنى.
* { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
(3/322)
---(1/1177)
قولُهُ تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ}: العامَّة على قراءتِهِ نهياً، وقرأ الضبي: "لا يتَّخِذُ" برفع الدال نفياً بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} و {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} فيمن رفع الراء. قال أبو البقاء وغيرُه: "وأجاز الكسائي رفعَ الراء على الخبر، والمعنى: لا ينبغي" وهذا موافِقٌ لِما قاله الفراء، فإنه قال: "ولو رُفع على الخبرِ كقراءةِ مَنْ قرأ: "لا تضارُّ والدة" جاز". قال أبو إسحاق: "ويكون المعنى على الرفعِ أنه مَنْ كان مؤمناً فلا ينبغي أن يَتَّخَِّّ الكافرُ ولياً" كأنهما لم يَطَّلِعا على قراءةِ الضبّي، أو لم تَثْبُتْ عندهما. و"يَتَّخِذُ" يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد فيكونُ "أولياء" حالاً، وأن تكونَ المتعدية لا ثنين، و"أولياء" هو الثاني.
قوله: {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان، أظهرهُما: أنَّ "مِنْ" لابتداء الغاية، وهي متعلقةٌ بفعلِ الاِّتخاذ. قال علي بن عيسى: "أي: لا تَجْعَلُوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دونَ ما كانِ المؤمنين" وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} في البقرة. الثاني أجازه أبو البقاء أن يكونَ في موضِعِ نصبٍ صفةً لأولياء، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ} أدغم الكسائي في رواية الليث عنه اللام في الذال هنا، وفي مواضعَ أُخَرَ تقدَّم التنبيه عليها وعلى علتِها في سورةِ البقرة.
قوله: {مِنَ اللَّهِ} الظاهِرُ أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال من "شيء" لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له. و"في شيء" هو خبرُ ليس، لأن به تستقبلُّ فائدةُ الإِسناد، والتقدير: فليس في شيء كائنٍ من الله، ولا بد من حذف مضاف أي: فليس من ولاية الله، وقيل: مِنْ دِينِ الله. ونَظَّر بعضُهم الآية الكريمة ببيت النابغة:
1223ـ إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجُوراً * فإنِّي لَسْتُ منك ولَسْتَ مِنِّي
(3/323)(1/1178)
---
قال الشيخ: "والتنظير ليس بجيدٍ، لأنَّ "منك" و"مني" خبر "ليس"، تستقل به الفائدة، وفي الآية: الخبرُ قولُه "في شيء" فليس البيت كالآية".
وقد نحا ابنُ عطيةَ هذا المَنْحَنى الذي ذكرته عن بعضهم فقال: "فلس من الله في شيء مَرْضِيٍّ على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّنا فليس منا" وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُهُ: فليس من التقرُّب إلى الله والثوابِ ونحو هذا، وقولُه: "في شيء" هو في موضِعِ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ الذي في قولِهِ:"ليس مِنَ الله".
قال الشيخ: "وهو كلامٌ مضطربٌ، لأنَّ تقديرَه: فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألاَّ يكونَ "من الله" خبراً لليس، إذ لا يستقلُّ، وقوله: "في شيء" هو في موضعِ نصبٍ على الحال يقتضي ألاَّ يكونَ خبراً، فتبقى "ليس" على قوله ليس لها خبرٌ، وذلك لا يجوز، وتشبيهُهُ الآية الكريمة بقوله عليه السلام: "مَنْ غَشَّنَا فليس منا" ليس بجيدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا من الفرق بين بيت النابغة وبين الآية الكريمة".
قتل: قد يُجاب عن قوله: "إنَّ "من الله" لا يكونُ خبراً لعدم الاستقلال" بأنَّ في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ، تقديرُه: فليسَ من أولياء الله، أو ليس، لأنَّ اتخاذَ الكفارَ أولياءَ ينافي ولايةَ الله تعالى، وكذا قولُ ابن عطية: فلي من التقرب أي: من أهل التقرب، وحينئذ يكون التنظيرُ بين الآية الحديثِ وبيتِ النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذَكَر، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: ما أشياعي وأتباعي، وكذا قولُه تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيا}، وقول العرب: "أنت مني فرسخين" أي: من أشياعي، ما سِرْنا فرسخين. ويجوز أن يكون "من الله" هو خبرَ ليس، و"في شيء" يكون حالاً من الضمير في "ليس" كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيرُه إيماءً، وقد تقدَّم اعتراضُ الشيخ عليهما وجوابُه.
(3/324)
---(1/1179)
قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} هذا استثناءٌ مفرغٌ من المفعول [من أجله، والعامل فيه: لا يَتَّخِذُ أي]: لا يَتَّخِذُ المؤمنُ الكافر وليّاً لشيءٍ من الأشياء إلا للتَقِيَّة ظاهراً، أي يكونُ مُواليَه في الظاهر ومعادِيَه في الباطن، وعلتى هذا فقولُه: {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ} وجوابُهُ معترضٌ بين العلة ومعلولِها.
وفي قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، ولو جرى على سَنَنِ الكلام الأولِ لجاء بالكلامِ غيبة، وأَبْدَوا للالتفاتِ هنا معنًى حسناً: وذلك أن موالاة الكفار لَمَّا كانت مستقبحةً لم يواجِه اللهُ عبادَه بخطابِ النهي، بل جاء به في كلام أُسْنِدَ الفعل المنهيُّ عنه لغيب، ولَمَّا كانَتِ المجامَلَةُ في الظاهر والمحاسنةُ جائزةً لمعذرٍ وهو اتِّقاءُ شرِّهم حَسُنَ الإقبالُ إليهم وخاطبُهم بِرَفْع الحرج عنهم في ذلك.
قوله: {تُقَاةً} في نصبِها ثلاثة أوجه وذلك مبنيٌّ على تفسير "تقاة" ما هي؟ أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر والتقدير: تَتَّقوا منهم اتقاء، فتقاة واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بضعها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً، نحو: تقتدروا اقتداراً، ولكنه أَتَوْا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} والأصلُ إنبات ومثله:
1224ـ .................. * وبعدَ عطائِك المئةَ الرَّتاعا
أي: إعطائك، ومن ذلك أيضاً قوله:
1225ـ .................. * وليس بأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعا
قول الآخر:
1226ـ ولاحَ بجانب الجبلين منه * رُكامٌ يَحْفِرُ الأرضَ احتفارا
وهكذا عكس الآية، إذا جاء بالمصدر مزاداً يه، والفعل الناصب له مجرَّد من تلك الزوائد. ومن مجيء المصدرِ على غيرِ المصدر قولُه تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}، والأصل تََبَتُّلاً، ومثله:
1227ـ وقد تَطَوَّيْتُ انطواءَ الحِضْبِ * .................
(3/325)
---(1/1180)
والأصلُ: تَطَوِّياً، وأصلُ تُقاة: "وُقَيَة" مصدرٌ على فُعَل من الوقاية، وقد تقدَّم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع، ثم أُبْدلت الواوُ تاءً، ومثلُها تُخَمة وتُكَاة وتُجاه، وتَحَرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً، فصارَ اللفظُ "تُقاة"، كما ترى، ووزنُها فُعَلة، ومجيءُ المصدرِ على فُعَل وفُعَلة قليل نحو: التُّخَمة والتُّهَمة و التُّؤَدة والتكَأضة، وانضمَّ إلى ذلك كونُها جاءت على غيرِ الصدر، والكثيرُ مجيءُ المصدرِ جاريةً على أفعالها قيل: وحَسَّن مجيءَ هذا المصدرِ ثلاثياً كونُ "فُعَلة" قد حُذِفت زوائدُه في كثيرٍ من كلامهم نحو: تَقَى يَتْقِي ومنه:
1228ـ ................... * تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو
وقد قَدَّمُتْ تحقيق ذلك في أول البقرة.
الثاني: أنها منصوبةٌ على المفعولِ به، وذلك أن يكونَ "تَتَّقوا" بمعنى تخافوا، ويكون "تقاة" مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: "إلا أَنْ تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، وقُرىء "تَقِيَّة"، وقيل للمتَّقَى: تُقاة وتَقِيَّة كقولهم "ضَرْب الأمير" لمضروبه". انتهى فصار تقديرُ الكلام: إلا أن تخافوا منهم أمراً مُتَّقَىً.
(3/326)
---(1/1181)
الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال وصاحبُ الحال فاعل "تتقوا" وعلى هذا تكونُ حالاً مؤكدة، لأنَّ معناه مفهوم من عاملها كقوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وهو على هذا جمعُ "فاعِل" وإن لم يُلْفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلاً وفُعَلَة نحو: رام ورُماة وغاز وغُزاة، لأنَّ فعلَه يَطَّرد جمعاً لفاعِل الوصفِ المعتلِّ اللامِ، وقيل: بل فُعَلَة جمعٌ لفعيل، أجازَ ذلك كلَّه أبو علي الفارسي. قلت: جمعُ فَعِيل على فُعَلة لا يجوزُ، فإن فَعِيلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ يُجْمع على أَفْعِلاء نحو: غَنِيّ وأغنيءا، وتقيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأَصْفِياء، فإن قيل: قد جاء فَعِيل الوصفُ مجموعاً على فُعَلة قالوا: كَمِيّ وكُمَامة، فالجواب: أنه من الندور بحيث لا يُقاس عليه.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم في رواية المفضل عنه: "تَتَّقوا منهم تَقِيَّة" بوزن "مَطِيًّة" وهي مصدرٌ أيضاً بمعنى "تُقَاة"، يقال: اتّقى يتَّقي اتقاءً وتَقْوَى وتُقاة وتَقِيَّة وتُقَىً، فيجىء مصدر افْتَعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان، ويقال أيضاً: تَقَيْتُ أَتْقي ثلاثياً تَقِيَّة وتَقْوى وتُقاة وتُقَىً، والياء في جميعِ هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
(3/327)
---(1/1182)
وأمال الأخوان "تُقاة" هنا، لأنَّ ألفَها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في مَنْع الإمالة لأنَّ السبب غير ظاهر، ألا ترى أن سببَ الإمالة الياءُ المقدرة بخلافِ "غالب" و"طالب" و"قادم" فإنَّ حرف الاستعلاء عنا مؤثِّرٌ لكونِ سبب الإمالة ظاهراً وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يُوَثِّرُ مع السببِ الظاهر ولم يؤثِّرْ مع المقدر وكان العكسُ أَوْلى؟ والجوابُ أنَّ الكسرةَ سببٌ منفصل عن الحرف الممال ليس موجوداً فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باءٍ فإنها نفسَها مقتضيةٌ للإمالة، فلذلك لم يُقاومها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي وحده {حَقَّ تُقَاتِهِ}، فخرج حمزة عن أصله، وكان الفرق أَنَّ "تُقاة" هذه رُسِمت بالياء فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قرأ بعضهم "تَقِيَّة" بوزن مطيَّة كما تقدم/ لظاهر الرسم، بخلافِ "حَقَّ تقاته"، وإنما أمعنتُ في سبب الإمالة هنا لأنَّ بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرفِ الاستعلاء، وأنَّ سيبويه حكى عن قوم أنهم يُميلون شيئاً لا يجوز إمالتُه نحو: "رأيت عِرْقَى" بالإِمالة، وليس هذا من ذاك لِما تقدَّم لك من أن سبب الإِمالة في "عِرْقى" كسرةٌ ظاهرة.
وقوله: {مِنْهُمْ} متعلِّقٌ بـ"تتقوا"، أو بمحذوف على أنه حال من "تقاة" لأنه في الأصل يجوزُ أن يكونَ صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. هذا إذا لم تجعل "تُقاة" حالاً، فأمّا إذا جَعَلْناها حالاً تعيَّن أن يتعلق "منهم" بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من "تقاة" لفساد المعنى لأنَّ المخاطبين ليسُوا من الكافرين.
(3/328)
---(1/1183)
قوله: {نَفْسَهُ} مفعولٌ ثان لحَذَّر؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه لواحد فازدادَ بالتضعيفَ آخرَ، وقدَّر بعضُهم حَذْفَ مضافٍ أي: عقاب نفسه. وصَرَّح بعضُهم بعدم الاحتاج إليه، كذا نقله أبو البقاء عن بعضهم، وليس بشيء، إذ لا بدَّ من تقديرِ هذا المضافِ لصحة المعنى، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك: "حَذَّرتك نفس زيد" أنه لا بد من شيء تُحَذِّر منه كالعقاب والسَّطْوة، لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّر الحذرُ منها نفسها، إنما يُتَصَوَّر من أفعالِها وما يَصْدُر عنها. وعَبَّر هنا بالنفسِ عن الذات جرياً على عادة العرب، كما قال الأعشى:
1229ـ يَوْماً بأجودَ نائلاً منه إذا * نفسُ الجَبانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَّالها
وقال بعضهم: الهاء في "نفسه" تعود على المصدر المفهوم من قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ} أي: ويحذِّرُكم الله نفسَ الاتخاذ، والنفسُ عبارة عن وجود الشيء وذاته.
* { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ} مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرط، وذلك أنَّ عِلْمَه بما في السموات وما في الأرض غيرُ متوقفٍ على شرط فلذلك جِيء به مستأنفاً، وفي قوله {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} من باب ذِكْرِ العام بعد الخاص وهو {مَا فِي صُدُورِكُمْ}.
وقَدَّم هنا الإِخفاء على الإِبداء وجَعَلَ محلَّهما الصدورَ وجعل جواب الشرطِ العلمَ بخلافِ ما في البقرة، فإنه قَدَّم فيها الإِبداءَ على الإخفاء، وجَعَل محملهما النفسَ، وجَعَل جوابَ الشرط المحاسبةً، وكلُّ ذلك تفنُّنٌ في البلاغة وتنوع في الفصاحة.
(3/329)
---(1/1184)
* { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }
قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ}: في ناصِبة أوجهٌ، أحدُهما: أنه منصوب بقدير، أي قديرٌ في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يَلْزَمُ من ذلك تقييدُ قدرتِه بزمانٍ، لأنَّه إذا قَدَر في ذلك اليومِ الذي يَسْلُب كلَّ أحد قدرته فلأَنْ يَقْدِرَ في غيرِه بطريقٍ أولى وأَحْرى، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري.
الثاني: أنه منصوبٌ بيُحَذِّركم أي: يُخَوِّفكم عقابَه في ذلك اليوم، وإلى [هذا] نحا أبو إسحاق، ورجَّحه. ولا يجوز أن ينتصبَ بيحذِّركم المتأخرةِ. قال ابن الأنباري: "لأنه لا يجوزُ أن يكونَ" اليوم منصوباً بيحذِّركم المذكورِ في هذه الآية، لأنَّ واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبِه معترضاً، وهو كلامٌ طويل، والفصلُ بمثله مستبعدٌ، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى فلا يَصِحُّ، لأن التخويف موجودٌ، واليومَ موعودٌ فيكف يتلاقيان".
الثالث: أن يكونَ بالمصير، وإليه نحا الزجاج أيضاً وابن الأنباري ومكي وغيرُهم، وهذا ضعيفٌ على قواعد البصريين، للزومِ الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بكلامٍ طويل، وقد يقال: إنَّ جُمَل الاعتراض لا نبالي بها فاصلةً، وهذا من ذاك.
الرابع: أن ينتصبَ بـ"اذكر" مقدراً مفعولاً به لا ظرفاً. وقَدَّر الطبري الناصبَ له "اتقوا"، وفي التقدير ما فيه من كونِه على خلافِ الأصل مع الاستغناء عنه.
الخامس: أنَّ العامل فيه ذلك المضافُ المقدَّر قبل "نفسَه" أي: يحذركم الله عقابَ نفسِه يومَ تجد، فالعاملُ فيه "عقاب" لا "يحذركم"، قاله أبو البقاء. وفي قوله {لا يحذِّركم} فرارٌ مِمَّا أَوْردته على أبي إسحاق كما تقدّم تحقيقه.
(3/330)
---(1/1185)
السادس: أنه منصوبٌ بتودُّ، قال الزمخشري: "يومَ تجد منصوب بتود، والضمير في "بينه" لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرَها وشرَّها [حاضرين]، تتمنَّى لو أنَّ بينها وبين ذلك اليوم وَهوْلِهِ أمداً بعيداً". وهذا الذي ذكره الزمخشري وجهٌ ظاهرٌ لا خفاء بحسنه، ولكنْ في هذه المسألة خلافٌ ضيعف: جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفش والفراء إلى مَنْعها، وضابطُ هذه المسألة: أنه إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء متصلٍ بمعمول الفعل نحو: ثوبي أخويك يلبَسان" فالفاعلُ هو الألف، وهو ضمير عائد على "أخويك" المتصلين بمفعول يلبسان، ومثله: "غلامَ هند ضربَتْ" ففاعل "ضربَتْ" ضمير عائدٌ على "هند" المتصلةِ بغلام المنصوب بضرَبتْ، والآيةُ من هذا القبيل: فإن فاعل "تودُّ" ضميرٌ عائد على "نفس" المتصلةِ بيوم لأنها في جملة، أُضيف الظرفُ إلى تلك الجملة، والظرفُ منصوبٌ بتودُّ، والتقدير: يوم وجدانِ كلِّ نفسٍ خيرَها وشَرَّها مُحْضَرين تَوَدُّ كذا. احتج الجمهور على الجواز بالسماع وهو قول الشاعر:
1230ـ أَجَلُ المرءِ يستحِثُّ ولا يَدْري * إذا يبتغي حصولَ الأماني
ففاعل "يستحثُّ" ضمير عائد على "المرء" المتصل بـ"أجَل" المنصوب بـ"يستحثُّ" واحتج المانعون بأنَّ المعمول فَضْلة يجوز الاستغناء عنه، وعودُ الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لوزمَ ذِكْره فيتنامى هذان السببان، ولذلك أُجْمع على منع: "زيداً ضرب" و"زيداً ظَنَّ قائماً" أي: ضرب نفسه وظنها، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يردُّه من السماع كما أنشدتك البيت آنفاً. وفي الفرق بين "غلام زيدٍ ضَرَبَ" وبين "زيداً ضرب" حيث جاوز الأول وامتنع الثاني بمقتضى العلةِ المذكورة غموضٌ وعُسْرٌ ليس هذا محلَّ ذِكْرِه.
(3/331)
---(1/1186)
قوله: {تَجِدُ} يجوزُ أَنْ تكون المتعديةَ لواحد بمعنى تصيب، ويكون "مُحْضراً" على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكونَ عِلْميةً، فتتعدَّى لاثنين أولهما "ما عَمِلَتْ" والثاني: "مُحْضَراً" وليس بالقويِّ في المعنى.
و"ما" يجوز فيها وجهان، أظهرُهما: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ على هذا مقدَّرٌ أي: ما عملته، فَحُذِف لاستكمال الشروط، و"من خير" حالٌ: إمّا من الموصول وإمَّا من عائده، ويجوز أن تكون "من" لبيان الجنس. ويجوزُ أن تكونَ "ما" مصدريةً، ويكونُ المصدر حينئذ واقعاً موقعَ المفعول تقديرُه: يوم تجد كلُّ نفس عَمَلها أي: معمولها، فلا عائد حيئنذ عند الجمهور.
قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ}: يجوزُ في "ما" هذه أن تكونَ منسوقةً على "ما" التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها أي: وتَجشدُ الذي عملته أو: وتجدُ عملَها أي: معمولَها من سوء، فإنْ جَعَلْنا "تجد: متعدية لاثنين فالثاني محذوفٌ، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو تجد عملها محضراً نحو: "علمت زيداً ذاهباً وبكراً" أي: وبكراً ذهاباً، فَحَذَفْتَ مفعوله الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول، وإنْ جعلناها متعديةً لواحدٍ فالحالُ من الموصول أيضاً محذوفةٌ أي: تجدُه مُحْضراً؛ أي: في هذه الحال، وهذا نظيرُ قولِك: "أكرمْتُ زيداً ضاحكاً وعمراً" أي: وعمراً ضاحكاً، حَذَفْتَ حالَ الثاني لدلالةِ حالِ الأول عليه، وعلى هذا فيكون في الجملةِ من قوله "تودُّ" وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محل نصب على الحال من فاعل "عَمِلَتْ" أي: وما عَمِلَتْه حالَ كونها وادَّةً أي: متمنية البُعْدَ من السوء. الثاني: أن تكونَ مستأنفة، أَخْبر الله عنها بذلك، ويجوز أن تكونَ "ما" مرفوعةً بالابتداء، والخبرُ الجملةُ من قوله: "تود" أي: والذي عملته ـ أو وعملُها ـ تودَّ لو أن بينها وبينه أَمَداً بعيداً.
(3/332)
---(1/1187)
والضمير في "بينه" فيه وجهان، أحدُهما ـ وهو الظاهر ـ عَوْدُه على "ما عَمِلَتْ"، وأعادَه الزمخشري على "اليوم" قال الشيخ: "وأَبْعَدَ الزمخشري في عودِه على "اليوم" لأنَّ أحدَ القِسْمين اللذين أُحْضِروا في ذلك له هو الخيرُ الذي عمله، ولا يُطلب تباعُدُ وقتِ إحضارِ الخير إلا بتجوُّز، إذ كان يشتمل على إحضار الخير والشر فتودُّ تباعدَه لتسلم من الشر، ودَعْه لا يحصُل له الخيرُ، والأَوْلى عَوْدُه إلى ما عملت من السوء لأنه أقرب مذكور. ولأن المعنى: أن السوء يُتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدُ منه".
فإن قيل: هل يجوز أن تكونَ "ما" هذه شرطيةً؟ فالجواب أن الزمخشري وابن عطية منعا من ذلك، وجَعَلا علة المنع عدم [جزم] الفعل الواقع جواباً وهو "تودُّ"، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الناس نَصُّوا علىأنه إذا وقع فعلُ الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان: الجزمُ والرفع، وقد سُمعا من لسان العرب، ومنه بيت زهير:
1231ـ وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ * يقولُ لا غائِبٌ مالي ولا حَرمُ
(3/333)
---(1/1188)
ومن الجزم قولُه تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ}، {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} فدَّل ذلك على أن المانعَ من شرطيتها ليس هو رفع "تود"، وأجاب الشيخ بانها ليست شرطيةً لا لما ذكره الزمخشري وابن عطية بل لعلةٍ أخرى. ولنذكر هنا ما ذكره قال: "كنت سُئِلْتُ عن قول الزمخشري" فذكره ثم قال: "ولنذكر ههنا ما تمسُّ إليه الحاجةُ بعد أن نُقَدِّم ما ينبغي تقديمُه في هذه المسألة فنقول: إذا كان فعلُ الشرط ماضياً وبعده مضارعٌ تَتِمُّ به جملة الشرط والجزاء جازَ في ذلك المضارعِ الجزمُ وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك: "إن قام زيد يقمْ ويقومُ وعمرو" فأما الجزم فعلى جواب الشرط، ولا نعلم في ذلك خلافاً وأنه فصحيٌ إلا ما ذكره صاحب كتاب "الإِعراب" عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلامِ الفصيح، وإنما يجيء من "كان" كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} لأنها أصل الأفعالِ ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه وكلامِ الجماعة أنه لا يختصُّ ذلك بـ"كان" بل سائرُ الأفعال في ذلك مثلُ "كان"، وأنشد سيبويه للفرزدق:
1232ـ دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدَروا * عليك يَشْفُوا صدرواً ذاتَ توْغيرِ
وقال أيضاً:
1233ـ تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني * نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموعٌ من لسان العرب كثيراً، وقال بعضُ أصحابنا: هو أحسنُ من الجزم،ومنه بيتُ زهير السابق إنشادُه، ومثله أيضاً قولُه:
1234ـ وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً * نَقُولُ جِهارا وَيْلَكم لا تُنَفِّروا
وقولُ أبي صخر:
1235ـ ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه * يقولُ ويُخْفي الصبرَ إني لجازعُ
وقال آخر:
1236ـ وإن بَعُدُوا لا يأمَنُون اقترابَه * تَشَوُّفَ أهلِ الغائبِ المُتَنَظَّرِ(1/1189)
(3/334)
---
وقال آخر:
1237ـ فإنْ كان لا يُرضيك حتى تَردَّني * إلى قطريٍّ لا إخالُك راضياً
وقال آخر:
1238ـ إنْ يَسْألوا الخيرَ يُعْطُوه وإنْ خَبِروا * في الجَهْد أُدْرِكُ منهم طيبُ أَخْبارِ
قلت: هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالةِ على رفع المضارع، ويدل على قصده ذلك أنه قال بعد إنشاده هذه الأبياتَ كلَّها: "فهذا الرفع كما رأيتُ كثيرٌ" انتهى، وهذا البيت ليس/ من ذلك في وِرْدٍ ولا صَدْر لأن [المضارع فيه مجزومٌ وهو "يُعْطُوه" وعلامة جزمِه سقوط النون فكان ينبغي] أن ينشده حين أنشد: "دَسَّت رسولاً" وقوله: "تَعالَ فإن عاهَدْتني" البيتين.
ثم قال: "فهذا الرفعُ كثير كما رأيتَ، ونصوص الأئمة على جوازِهِ في الكلامِ وإن اختلفتْ تأويلاتُهم كما سنذكره، وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد ابن عبدالنور بن رشيد المالَقي ـ وهو مصنف كتاب "رصف المباني" رحمه الله: "لا أعلم منه شيئاً" جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسُهُ الجَزْمُ، لأنه أصلُ العملِ في المضارعِ، تقدَّم الماضي أو تأَخَّر"، وتأوَّل هذا المسموعَ على إضمارِ الفاء وَجَعَلَهُ مثلَ قول الشاعر:
1239ـ ..................... * إنَّك إِنْ يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ
(3/335)
---(1/1190)
على مذهب مَنْ جعل أن الفاء منه محذوفةٌ. وأمَّا المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع: فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم وأن جواب الشرط ليس مذكوراً عنده. وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب. وإنما حُذِفَتْ منه الفاء، والفاءُ ما بعدها كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، فأُعْطِيَتْ في الإِضمار حكمَها في الإظهار. وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجواب بنفسه أيضاً كالقولِ قبله، إلا أنه ليس معه فاءٌ استضعفوا أداةَ الشرط فلم يُعْملوها في الجواب لضعفها، فالمضارعُ المرفوعُ عند هذا القائلِ جوابٌ بنفسه من غير نيَّة تقديم ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لِما ذُكِرَ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه أنَّ رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً لكن امتنع أن يكونَ "وما عملت" شرطاً لعلة أخرى، لا لكون "تود" مرفوعاً، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النيةَ بالمرفوعِ التقديمُ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجوابِ لا نفسَ الجواب فنقول: إذا كان "تود" منويًاً به التقديمُ أدَّى إلى تقدُّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله "وبينه" عائدٌ على اسمِ الشرط الذي هو "ما" فيصيرُ التقدير: "تود كلُّ نفسٍِ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عَمِلت من سوء" فَلَزِمَ من هذا التقديرِ تقديمُ المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز.
(3/336)
---(1/1191)
فإن قلت: لِمَ لا يجوز ذلك والضميرُ قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت النيةُ به التقديمَ، فقد حَصَلَ عَوْدُ الضميرِ على الاسم الظاهرِ قبله، وذلك نظيرُ: "ضربَ زيداً غلامهُ" فالفاعلُ رتبته التقديم ووجب تأخُّره لصحةِ عَوْدِ الضمير؟ فالجواب أن اشتمالَ الدليل على ضميرِ اسم الشرط يوجب تأخيرَه عنه لعَوْدِ الضمير فيلزَمُ من ذلك اقتضاءُ جملة الشرط لجملة الدليل، وجملةُ الشرط إنما تقتضي جملةَ الجزاء لا دليلَه، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملةُ الدليل لا موضعَ لها من الإعراب، وإذا كان كذلك تدافعَ الأمرُ، لأنها من حيثُ هي جملةُ دليلٍ لا يقتضيها فعلُ الشرط، ومن يحث عَوْدُ الضميرِ على اسم الشرط اقتضاها فتدافَعا، وهذا بخلافِ "ضرب زيداً غلامهُ" فإنها جملةٌ واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكلَّ واحدٍ منهما يقتضي صاحبَه، ولذلك جاز عند بعضِهم "ضرب غلامُها هنداً" لاشتراكِ الفاعل المضاف إلى الضميرِ والمفعولِ الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع "ضربَ غلامُها جارَ هِندٍ" لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرقُ ما بين المسألتين، ولا يُحْفظ من لسان العرب: "أودُّ لو أَنْ أكرمَه أياً ضربَتْ هندٌ" لأنه يلزم منه تقديمُ المضمرِِ على مفسَّره في غير والمواضِعِ التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره. انتهى".
وقد جَوَّز أبو البقاء كونَها شرطيةً، ولم يَلْتَفِتْ لِما مَنعوا به ذلك فقال: "والثاني: أنها شرط، وارتفع "تودُّ" على إرادة الفاء. أي: فهي تودُّ، ويجوز أن يرتفعَ من غير تقديرِ حرف لأن الشرطَ هنا ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرطِ الفظُ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزمُ والرفع". انتهى وقد تقدَّم تحقيق القول في ذلك، والظاهرُ موافقتُهُ اللقول الثالث في تخريج الرفع في المضارع كما تقدَّم تحقيقه.
(3/337)
---(1/1192)
وقرأ عبدالله وابنُ أبي عبلة "وَدَّت" بلفظ الماضي، وعلى هذه القراءةِ يجوزُ في "ما" وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطية، وفي محلِّها حينئذٍ احتمالان: الأولُ النصبُ بالفعلِ بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عَمِلَتْ من سوء وَدَّتْ، فودَّتْ جوابُ الشرط. والاحتمالُ الثاني: الرفعُ على الابتداء، والعائدُ على المبتدأ محذوفٌ تقديرُهُ: وما عملته، وهذا جائزٌ في اسم الشرط خاصةً عند الفراء في فصيحِ الكلام، أعني حَذْفَ عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعلٍ نحو: "أيُّهم تَضْرِبْ أُكْرمه" برفع أيهم، وإذا كان المبتدأ غيرَ ذلك ضَعُفَ نحو: "زيدٌ ضربْتُ". وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في موضعين من القرآن، أحدُهما قراءةُ مَنْ قرأ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. والثاني: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} في الحديد، واختلافُ الناس في ذلك.
الوجه الثاني من وجهي "ما" أن تكون موصولةً بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ومَحَلُّها على هذا رفع بالابتِداء، و"وَدَّتْ" الخبرُ، واختاره الزمخشري فإنه قال: "لكنَّ الحملَ على الابتداءِ والخبرِ أوقعُ في المعنى لأنه حكايةُ الكائن في ذلك اليوم، وأَثْبَتُ لموافقةِ قراءة العامة". انتهى.
فإن قلت لِمَ لَمْ يمتنع أن تكونَ "ما" شرطيةً على هذه القراءة كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟ فالجوابُ أنَّ العلة إنْ كانت رفعَ الفعل وعَدَمَ جزمِهِ كما قال به الزمخشري وابن عطية فيهي مفقودةٌ في هذه القراءة لأن الماضي مبنيٌّ اللفظ/ لا يظهر فيه لأداةِ الشرط عملٌ، وإن كانت العلةُ أنَّ النيةَ به التقديمُ فليزمُ عودُ الضميرِ على متأخرٍ لفظاً ورتبة، فهي أيضاً مفقودةٌ فيها؛ إذ لا داعي يدعو لذلك.
(3/338)
---(1/1193)
و"لو" هنا على بابِها من كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، وعلى هذا ففي الكلام حَذْفان، أَحدهما: حذفُ مفعولِ "يود"، والثاني: حَذْفُ حواب "لو"، والتقدير فيهما: تود تباعدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّتْ بذلك، أو لفرِحَتْ ونحوُهُ. والخلافُ في "لو" بعد فعل الوَدادة وما بمعناه أنها تكونَ مصدريةً ـ كما تقدم تحريره في البقرة ـ يَبْعُدُ مجيئُهُ هنا، لأنَّ بعدها حرفاً مصدرياً وهو أَنْ. قال الشيخ: "ولا يباشِر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قلت: قوله "إلا قليلاً" يُشْعر بجوازه وهو لا يجوزُ البتة، فَأمَّا ما أَوْرَدَهُ من الآية الكريمة فقد نصَّ النحامة على أن "ما" زائدةٌ. وقد تقدَّم الكلام في "أَنَّ" الواقعة بعد "لو" هذه: هل محلُّها الرفع على الابتداء والخبرُ محذوف كما ذهب إليه سبيويه، أو أنها في محل رفعٍ بالفاعلية بفعلٍ مقدر أي: لو ثَبَتَ أَنَّ بينها؟ وما قالَ الناس في ذلك.
وقد زعم بعضُهم أَنَّ "لو" هنا مصدريةٌ، هي وما حَيِّزها في موضع المفعول لـ"تود"، أي: تود تباعُدَ ما بينها وبينه، وفيه ذلك الإِشكالُ، وهو دُخول حرف مصدري على مثله، ولكنَّ المعنى على تسلُّطِ الوَدادة على "لو" وما في حيِّزها لولا المانعُ الصناعي.
(3/339)
---(1/1194)
والأَمَدُ: غايةُ الشيء ومنتهاه وجمعه آماد نحو: جَبَل وأَجْبال فَأُبْدِلَتْ الهمزة ألفاً لوقوعِها ساكنةً بعد همزة "أَفْعال". وقال الراغب: "والأمدُ والأَبَدُ يتقاربان، لكنَّ الأَبَدَ عبارةٌ عن مدة الزمان الي ليس لها حَدٌّ محدودٌ، ولا يتقيَّد فلا يقال: أبدَ كذا، والأمدُ مدةٌ لها حَدٌّ مجهولٌ إذا أُطْلِقَ، وينحصِرُ إذا قيل: أمدَ كذا، كما يقال: زمانَ كذا، والفرق بين الأمد والزمان: أنَّ الأمدَ يُقال باعتبارِ الغاية، والزمانُ عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضُهم: المَدَى والأمد يتقاربان".
* { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {تُحِبُّونَ اللَّهَ}: قرأ العامة: "تُحِبون" بضم حرف المضارعة مِنْ أَحَبَّ، وكذلك "يُحْبِبْكُم الله". وقرأ أبو رجاء العطاردي: تَحُبُّون، يَحْببكم بفتح حرف المضارعة وهما لغتان: يقال حَبَّه يَحِبُّه بضم الحاء وكسرها في المضارع، وأَحَبَّه يُحِبُّه، وقد تقدم القول في ذلك في البقرة. ونقل الزمخشري أنه قرىء "يَحِبَّكم" بفتح الباء والإِدغام وهو ظاهرٌ، لأنه متى سَكَّن المِثْلَيْنِ جزماً أو وفقاً جاز فيه لغتان: الفكُّ والإِدغام، وسيأتي تحقيق ذلك في المائدة.
وقرأ الجمهور: "فاتِّبعوني" بتخفيف النون وهي للوقاية، وقرأ الزهري بتشديدها، وخُرِّجَت على أنه أَلْحَقَ الفعلَ نونَ التوكيد وأدغمها في نونِ الوقاية، وكان ينبغي له أن يَحْذِفَ واو الضمير لا لتقاء الساكنين، إلا أنه شَبَّه ذلك بقوله: {أَتُحَاجُّوانِّي} وهو توجيهُ ضعيف، ولكنْ هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
(3/340)
---(1/1195)
وقد طعن الزجاج على مَنْ روى عن ابي عمرو إدغامَ الراء من "يغفر" في لام "لكم" وقال: "هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو" وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنهن لا خطأٌ ولا غلطٌ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس، وإن كان البصريون ـ كما يقول الزجاج ـ لا يُجيزون ذلك.
* { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {فإِن تَوَلَّوْاْ}: هذه يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصلُ: "تتولَّوا" فَحَذَفَ إحدى التاءين، وقد تقدم الكلامُ على ذلك، وعلى هذا فالكلامُ جارٍ على نسقٍ واحد وهو الخطاب. والثاني: أن يكون فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ غيب، فيجوزُ أن يكونَ من باب الالتفات، ويكونُ المرادُ بالغيب المخاطَبين في المعنى، وهو نظيرُ قولِهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم
}.
* { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله: {وَنُوحاً}: "نوح" اسم أعجمي لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضُهم أنه مشتقق من النُّواح، وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرفٌ وإن كان فيه علتان فرعيتان: العملية والعجمة الشخصية لخفةِ بنائه بكون ثلاثياً ساكنَ الوسط، وقد جَوَّزَ بعضهم منعَه قياساً على "هند" وبابِها لاسماعاً إذ لم يُسْمع إلا مصروفاً.
(3/341)
---(1/1196)
وادَّعى الفراء أن في الكلام حذفَ مضاف تقديرُهُ: "إن الله اصطفى دين آدم". قال التبريزي: "وهذا ليسَ بشيء، لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل: "ونوحٍ" إذ الأصل: دين آدمَ ودين نوحٍ، وهذه سَقْطَةٌ فاحشة من يَرُدَّ على الفراء بذلك، بل المشهورُ الذي لا تَعْرِفُ الفصحاء غيرَه إعرابُ المضاف إليه بإعرابِ المضاف حين حَذْفِه، ولا يجوز بقاؤُهُ على جَرِّه إلا في قليل من الكلام بشرطٍ ذُكِرَ في النحو، وسيأتي لك في الأنفال، وكان ينبغي على رأي التبريزي أن يكون قولُه تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} بجر "القرية" لأنَّ الكل ـ هو وغيرُه ـ يقولون: هذا على حَذْفٍ تقديرُه: "أهلَ القرية".
و"عِمْران" اسم أعجمي؟. وقيل: عربي مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوعُ الصرف: إمَّا للعلَميَّة والعجمة الشخصية، وإمَّا للعلَمية وزيادة الألف والنون.
قوله تعالى: {عَلَى الْعَالَمِينَ} متعلقٌ بااصطفى، فإن قيل: اصطفى يتعدَّى بمن نحو: "اصطفيتك مِنَ الناس" فالجواب أنه ضُمِّنَ معنى "فَضَّل" أي: فَضَّلهم بالاصطفاء.
* { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(3/342)
---(1/1197)
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً}: في نصبها وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على البدل مِمَّا قبلها، وفي المبدلِ منه على هذا ثلاثة أوجه، أحدهما: أنها بدل من "آدم" ومَنْ عُطِفَ عليه، وهذا إنما يتأتى على قولِ مَنْ يطلق "الذرية" الآباء وعلى الأبناء، وإليه ذهب جماعة. قال الجرجاني: "الآية تُوجِبُ أن يكونَ الآباء ذريةً للأبناء والأبناء ذريةً للآباء، وجاز ذلك لأنه من "ذَرَأَ الخَلْقَ" فالأبُ ذُرٍِيَ منه الولد، والولد ذُرِيَ من الأب" وقال. الراغب: "الذرية تقال للواحد والجمع والأصلِ والنسل، كقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: آباءهم، ويقال النساء: الذَّراري، فعلى هذين الوجهين يَصِحُّ جَعْلُ "ذرية" بدلاً من آدم ومن عُطِف عليه. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية" وهذا الذي قاله ظاهرٌ إنْ آدمَ وحدَه دونَ مَنْ عُطِفَ عليه، وإن أراد آدمَ ومَنْ ذُكِرَ معه فيكونُ المانع عنده عدمَ جوازَ إطلاق الذرية على الآباء.
الثاني: من أوجه البدل: أنها بدلٌ من "نوح" ومَنْ عُطِفَ عليه، وإليه نحا أبو البقاء. الثالث: أنها بدلٌ من الآلَيْن: أعني آل إبراهيم وآل عمران، وإليه نحا الزمخشري، يريد أن الآلَيْن ذريةٌ واجدة.
الوجه الثاني من وجهي نصب "ذرية": النَصْبُ على الحال، تقديره: اصطفاهم حالَ كونِهِم بعضَهم من بعض، والعاملُ فيها: اصفطى. وقد تقدَّم القول في اشتقاق هذه اللفظة ووزنِها ومدلولِها مشبعاً فأغنى عن إعادته.
قوله: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملةُ في موضِع النصب نعتاً لذرية.
* { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(3/343)
---(1/1198)
قولُه تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}: في الناصبِ له أوجهٌ، أحدُها: أنه "اذكر" مقدراً، فيكونُ مفعولاً به لا ظرفاً أي: اذكر لهم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس. الثاني: أن الناصبَ له معهنى الاصطفاء أي بـ"اصطفى" مقدراً مدلولاً عليه باصطفى الأول، والتقدير: واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران، وعلى هذا يكون قوله: "وآلَ عمران" من باب عطفِ الجمل لا من باب عطف المفردات، إذا لو جُعِلَ من عَطْف المفردات لَزِمَ أن يكمون وقتُ اصطفاء آدم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وليس كذلك لتغايُرِ الزمانين، فلذلك اضطُررنا إلى تقديرِ عاملٍ غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذهبَ الزجاج وغيره.
الثالث: أنه منصوبٌ بـ"سميع" وبه صَرَّح ابن جرير الطبري. وإليه نحا الزمخشري ظاهراً فإنه قال: "أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيِتها، و"إذ" منصوبٌ به". قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ ذلك لأن قوله "عليم": إمَّا أن يكونَ خبراً بعد خبر أو وصفاً لوقله: "سميع"، فإن كان خبراً فلا يجوزُ الفصلُ بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوزُ أن يعملَ "سميع" في الظرف لأنه قد وصف، واسمُ الفاعلِ وما جَرى مجراه إذا وُصف قبل أَخْذِ معمولِهِ لا يجوزُ له إذ ذاك أن يعملَ، على خلافٍ لبعض الكوفيين في ذلك، ولأنَّ اتصافَه تعالى بسميع عليم لا يتقيَّد بذلك الوقت" قلت: وهذا العُذْرُ غيرُ مانع لأنه يُتَّسع في الظرفِ وعديله مالا يُتَّسع في غيره، ولذلك يُقَدَّم على ما في حيز "أل" الموصولة وما في حيز "أَنْ" المصدرية.
الرابع: أن تكونَ "إذ" زائدةً وهو قول أبي عبيدة، والتقدير: قالت امرأة، وهذا عند النحويين غلطٌ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّف في النحو.
(3/344)
---(1/1199)
قوله: {مُحَرَّراً} في نصبه أوجه، أحدُها: أنه حالٌ من الموصول وهو "ما في بطني"، فالعاملُ فيها "نَذَرْتُ". الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار لوقوعِهِ صلةً لـ"ما"، وهو قريبٌ من الأول، فالعامل في هذه الحال الاستقرارُ الذي تضمَّنه الجارُّ والمجرور. الثالث: أن ينتصِبَ على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعولِ من الفعل الزائدِ على ثلاثةِ أحرفٍ، وعلى هذا فيجوز أن يكونَ في الكلامِ حَذْفُ مضاف تقديرُهُ: نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويحوز أن يكون ممَّا انتصب على المعنى؛ معنى "نَذَرْتُ لك" حَرَّرْت ما في بطني تحريراً. ومن مجيىء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قولُه تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}، وقوله: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} في قراءة من فتح الراء، أي: كلَّ تمزيق، وفما له من إكرام، ومثله قول الشاعر:
1240ـ ألم تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافي * فلاعِيًّاً بهنَّ ولا اجْتِلاَبا
أي: تسريحي القوافي. الرابع: أن يكونَ نعتَ مفعولٍ محذوفٍ تقديره: غلاماً محرراً، قاله مكي بن أبي طالب. وجَعَلَ ابنُ عطية في هذا القولِ نظراً. قلت:/ وجهُ النظر فيهن أن "نَذَرَ" قد أخذ مفعوله وهو قوله {مَا فِي بَطْنِي} فلم يتعدَّ إلى مفعولٍ آخر؟ وهو نظرٌ صحيح. وعلى القولِ بأنها حالٌ يجوز أن تكونَ حالاً مقارنةً إن أريد بالتحرير معنى العِتْقِ، و مقدَّرةً إنْ أُريد به معنى خدمة الكنيسة كما جاء في التفسير.
ووقف أبو عمرو والكسائي على "امرأة" بالهاء دون التاء، وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسُها الهاء هنا وفي يوسف: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [في] موضعين، و{امْرَأَةَ نُوحٍ} و {امْرَأَةَ لُوطٍ} و{امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ}، ,أهلُ المدينة يقفون بالتاء اتِّباعاً لرسم المصحف، وهي لغةٌ للعرب يقولون في حمزة: حَمْزَتْ، وأنشدوا:
(3/345)
---(1/1200)
1241ـ اللهُ نَجَّاكَ بكَفَّيْ مَسْلَمَتْ * مِنْ بعدِما وبعدِما وبعدِمَتْ
وقوله: {مَا فِي بَطْنِي} أتى بـ"ما" التي لغير العاقِل لأن ما فيه بطنِها مُبْهَمٌ أمرُهُ، والمبهمُ أمرهُ يجوز أن يُعَبَّر عنه بـ"ما"، ومثاله إذا رأيت شيخاً من بعيد لا تدري أأنسانٌ هو أم غيرُه: ما هذا؟ ولو عرفت أنه إنسان وجَهِلْتَ كونَه ذَكراً أم أنثى قلت: ما هو. أيضاً، والآيةُ من هذا القبيل هذا عند مَنْ يرى أن "ما" مخصوصةٌ بغير العاقل، وأمَّا مَنْ يرى وقوعَها على العقلاء فلا يتأوَّل شيئاً. وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييزَ له ولا عقلَ عَبَّر بـ"ما" التي لغير العقلاء.
* { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}: الضمير في "وضعَتْها" يعود على "ما" من حيث المعنى، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى، فعاد الضميرُ على معناها، دونَ لفظها. وقيل: إنما أنَّثه حَمْلاً على معنى النَّسَمَةِ أو الحَبْلة أو النفسِ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية: "حَمْلاً على الموجودة [ورفعاً لِلَفْظِ "ما" في قوله: {ما في بطني] محرّراً}.
(3/346)
---(1/1201)
قوله: {أُنْثَى} فيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيثَ مفهومٌ من تأنيث الضمير، فجاءت "أنثى" مؤكدة، قال الزمخشري "فإنْ قلت: كيف جاز انتصاب "أنثى" حالاً من الضمير في "وضَعَتْها" وهو كقولك: "وضَعَتِ الأنثى أنثى"؟ قلت: الأصل وضَعَتْه أنثى، وإنما أُنِّث لتأنيث الحال، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أَنَّث الاسمَ في "مَنْ كانت أمَّك" لتأنيث الخبر. ونظيرُه قولُه تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}، وأمَّا على تأويل النَّسَمَة والجَبْلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وضَعْتُ الحَبْلَةَ والنَّسَمة أنثى" يعني أنَّ الحال على الجوابِ الثاني تكون مبيَّنةً لا مؤكدةً، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدُق على الذَّكر وعلى الأنثى، فلمَّا حَصَل فيها الاشتراكُ جاءت الحالُ مبينة لها.
ألاَّ أنَّ الشيخَ ناقشه في الجواب الأول فقال: "وآل قَوْلُه ـ يعني الزمخشري ـ إلى أنها حال مؤكدة، ولا يُخْرِجُه تأنيثُه لتأنيث الحال عن أن تكون حالاً مؤكِّد. وأمَّا تشبهُه ذلك بقوله: "مَنْ كانت أمَّك" حيث
عادَ الضميرُ على معنى "مَنْ" فليس ذلك نظيرَ "وضَعَتْها أنثى" لأن ذلك حُمِل على معنى "مَنْ" إذ المعنى: أيةُ امرأة كانَتْ أمَّك، أي: كانت هي أي أمَّك، فالتأنيثُ ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحَمْل على معنى مَنْ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظيرَ "وضَعَتْها أنثى" لأنَّ الخبرَ تخصَص بالإِضافة إلى الضميرِ، فاستُفيد من الخبرِ مالا يُسْتفاد من الاسم، بخلافِ "انثى" فإنه لمجردِ التوكيدِ. وأمَّا تنظيرُه بقولِهِ: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فيعني أنه ثَنَّى الاسم لتثنيةِ الخبرِ، والكلامُ عليه يأتي في مكانه، فإنه من المُشْكلات، فالأحسن أن يُجْعَلَ الضميرُ في "وضعَتْها أنثى" عائداً على النَّسَمَة أو النفس، فتكون الحالُ مبينةً لا مؤكدةً".
(3/347)
---(1/1202)
قلت: قوله "ليس نظيرَه، لأنَّ "مَنْ كانت أمَّك" حُمِل فيه على معنى [مَنْ]، وهذا أُنِّث لتأنيث الخبر" ليس كما قال، بل هو نظيرهُ، وذلك أنه في الآية الكريمةُ حُمِل على معنى "ما" كما حُمِل هناك على معنى "مَنْ"، وقول الزمخشري: "لتأنيث الخبرِ" أي: لأنَّ المراد بـ"مَنْ" التأنيثُ بدليل تأنيثِ الخبرِ، وفتأنيثُ الخبرَ بيَّن لنا أن المراد بـ"مَنْ" المؤنث، كذلك تأنيثُ الحال ـ وهي أنثى ـ بَيَّن لنا أن المراد بـ"ما" في قوله: {ما في بطني} أنه شيء مؤنث، وهذا واضح لا يَحتاج إلى فكر. وأما قوله: "فقد استُفيد من الخير ما لايُسْتفاد من الاسم بخلاف "وضَعَتْها أنثى" فإنه لمجردِ التوكيد" فليس بظاهرٍ أيضاً؛ وذلك لأنَّ الزمخشري إنما أراد بكونه نظيرَه من حيث إنَّ التأنيث في كلٍّ من المثالَيْنِ مفهومٌ قبلَ مجيءِ الحال في الآية، وقبلَ مجيءِ الخبرِ في النظير المذكور. أمَّا كونُه يفارقه في شيء آخرَ لعارضٍ فلا يَضُرُّ ذلك في التنظيرِ، ولا يُخْرِجُه عن كونه يُشْبِهُه من هذه الجهة.
وقد تحصَّل لك في هذه الحال وجهان، أحُدهما: أنها مؤكدةٌ إنْ قلنا إنَّ الضمير في وضعَتهْا" عائدٌ على معنى "ما". والثاني: أنها مبيِّنة إنْ قلنا: إنَّ الضميرَ عائدٌ على معنى الحَبْلى أو النَّسَمة أو النفس، لصِدْقِ كلٍّ من هذه الألفاظش الثلاثةِ على الذكرِ والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي "أنثى": أنها بدلٌ من "ها" في "وضَعَتْها" بدلُ كلٍ من كلٍ، قاله أبو البقاء، ويكونُ في هذا البدلِ بيانُ ما المرادُ بهذا الضمير، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بعدَه لفظاً ورتبةً. فإنْ كان الضمير مرفوعاً نحو: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} على أحدِ الأوجه، فالكلُّ يجيزون فيه البدلَ. وإنْ كان غيرَ مرفوعٍ نحو/: "ضربْتُه زيداً" ومَرَرْتُ به زيدس، فاخْتُلِف فيه، والصحيح جوازُه كقول الشاعر:
(3/348)
---(1/1203)
1242ـ على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً * على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ "حاتم" الأخيرِ، بدلاً من الهاء في "جودِه".
قوله: {بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر وأبو بكر: "وَضَعْتُ" بتاء المتكلم، وهو من كلام أم مريم عليها لسلام خاطَبَتْ بذلك نفسها تَسَلِّياً لها، واعتذاراً لله تعالى حيث أتَتْ بمولود لا يَصْلُح لمِا نَذَرَتْه من سِدانة بيتِ المقدس. قال الزمخشري ـ وقد ذكر هذه القراءة: "تعني ولَعلَّ لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلَّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر تسليةً لنفسها". وفي قولهِا {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، إذ لو جَرَتْ على مقضتى قولِها: "ربِّ" لقالت: "وأنت أعلم".
وقرأ الباقون: "وضَعَتْ" بتاءُ التأنثي الساكنة على إسناد الفعل لضميرِ مريم عليها السلام، وهو من كلامِ الباري تبارك وتعالى، وفيه تنبيهٌ على عِظَمِ قَدْر هذا المولولِ، وأنَّ له شأْناً لم تعرفيه، ولم تَعْرف يإلا كونه أنثى لا غير، دونَ ما يَؤُول إليه من أمورٍ عظامٍ وآياتٍ واضحةٍ، قال الزمخشري: "ولتكلُّمِها بذلك على وجه التَحزُّنِ والتحسُّرِ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضِعها وتجهيلاً لها بقدْر ما وَهَبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعَتْ وما عَلِق من عظائم الأمور، وأَنْ يجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تَحَسَّرت". وقد رجَّع بعضُهم القراءةَ الثانية على الأولى بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ} قال: "لو كان من كلامِ أم مريم لكانَ التركيبُ: وأنت أعلمُ" وقد تقدَّم جوابُ هذا وأنه الفتات.
وقرأ ابنُ عباس: "وضَعْتِ" بكسر التاء على أنها تاءُ المخاطبة، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى: أنك لا تعلمين قَدْر هذه المولودة، ولا قَدْر ما عَلِمه الله فيها من عظائم الأمور.
(3/349)
---(1/1204)
قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} هذه الجملةُ تحتمل أن تكونَ معترضة، وأن يكونَ لها محلٌّ، وذلك بحسَبِ القراءات المذكورة في "وضعت"، كما سيمرُّ بك تفصيله. والألفُ واللام في "الذَّكَر" يُحْتمل أن تكونَ للعهد، والمعنى: ليس الذكرُ الذي طلبَتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ لها. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: فما معنى قولِها: "وليس الذكر كالأثنى"؟ قلت: هو بيانٌ لـ"ما" ف يقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوعِ والرفعِ منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طَلَبَتْ كالأنثى التي وُهِبت لها، والألفُ واللام فيهما للعهد" وأن تكون للجنس على أن مرادها أنَّ الذكر ليس كالأنثى في الفَضْلِ والمزيَّة؛ إذ هو صالح لخدمةِ المُتَعبِّدات وللتحرير ولمخالطةِ الأجانب بخلاف الأنثى، وكان سياقُ الكلام على هذا يَقْتضي أن يَدْخُلَ النفي على ما استقرَّ وحَصَلَ عندها وانتفَتْ عنه صفاتُ الكمالِ للغرضِ المقصودِ منه، فكان التركيب: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عَدَلَ عن ذلك لأنها بَدَأَتء بالأهمِّ بما كانت تريده. وهو المتلَجْلجُ في صدرِها والحائكُ في نفسها فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكر مثلَ جنس الأنثى لِما بينهما من التفاوتِ فيما ذكَر. ولولا هذه المعاني التي استنبَطَها العلماءُ وفهموها عن الله تعالى لم يكنْ لمجردِ الإِخبارِ بالجملةِ الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلم أنَّ الذكرَ ليس كالأنثى.
(3/350)
---(1/1205)
وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} هذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِه: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} على قراءةِ مَنْ ضَمَّ التاء في قوله "وضَعْتُ" فتكونُ هي وما قبلها من محلِّ نصب بالقول، والتقدير: قالت إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وضعتُ، وقالَتْ: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إني سميتها مريم. وأما على قراءة مَنْ سكن التاء أو كسرها فيكون "إني سَمَّيْتُها" أيضاً معطوفاً على "إني وضعتُها"، ويكون قد فَصَل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} قاله الزمخشري.
(3/351)
---(1/1206)
قال الشيخ: "ولا يتعيَّن ما ذَكَر من كونِهما جملتين معترضتين، لأنه يُحْتمل أن يكون وليسَ الذكرُ كالأنثى" في هذه القراءةِ مِنْ كلامِها، ويكون المعترضُ جملةً واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: "وضعْتُ" بضم التاء، بل ينبغي أن يكونَ هذا المتعيِّن لثبوتِ كونه من كلامها في هذه القراءةِ، ولأنَّ في اعتراضِ جملتين خلافاً، مذهبُ أبي علي أن لا تعْتَرِضُ جملتان، وأيضاً تشبهُه هاتين الجملتين اللتين اعترَض بهما على زَعْمِه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: "وإنه لقسمٌ/ لو تعملون عظيم" ليس تشبيهاً مطابقاً للآية لأنه لم تَعْتَرضْ جملتان بين طالب ومطلوب، بل أعتُرِض بين القسمِ الذي هو: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبين جوابه الذي هو: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} بجملةٍ واحدةٍ،ـ وهي قولُه: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لكنه جاء في جملة الاعتراضِ بين بعرضِ أجزائهِ وبعضٍ اعهتراضُ بجلمة وهو قوله: "ولو تعلمون" اعترضَ به بين المنعوتِ الذي هو "لقسمٌ" وبين نعتهِ الذي هو "عظيم"، فهذا اعتراضٌ في اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} قلت: والمُشَاحَّةُ بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقولُه: "ليس فصلاً بجملتي اعتراض" ممنوعٌ، بل هو فصلٌ بمجملتي اعتراض، وكونُه جاء اعتراضٌ في اعتراض لا يَضُرُّ ذلك ولا يَقْدَّحُ في قوله: "فَصَل بجملتين".
و"سَمَّى" يتعدَّى لاثنين. أحدُهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوزُ حَذْفُه، تقول: سمَّيت ابني زيداً والأصل: يزيد، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع:
1243ـ وسُمِّيْتَ كَعَباً بشَرِّ العِظَامِ * وكان أبوكَ يُسَمَّى الجُعَلْ
أي: يُسَمَّى بالجُعَلْ. وقد تقدَّم الكلامُ في "مريم" واشتقاقِها ومعناها وكونِها من الشاذ عن نظائره.
(3/352)
---(1/1207)
قوله: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا} عطفٌ على "إني سَمَّيْتُها"، وأتى هنا بخبرِ "إنَّ" فعلاً مضارعاً دلالةً على طلبِها استمرارَ الاستعاذة دونَ انقطاعِها، بخفلاِ قولِه: "وضَعْتُها وسَمَّيْتُها" حيث أتى بالخبرين ماضِيَيْن لا نقطاعِهما، وقَدَّم المعاذَ به على المعطوف اهتماماً به.
وفَتَح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزةِ المضمومةِ، وكذلك كلُّ ياء وقعَ بعدَها همزةٌ مضمومةً إلا موضعين، فإنَّ الكلَّ اتفقوا على سكونها فيهما: {بِعَهْدِيا أُوفِ} {آتُونِيا أُفْرِغْ}، والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.
* { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا}: الجمهور على "تَقَبَّلها" فعلاً ماضياً على تَفَعَّل بتشديدِ العين، و"ربُّها" فاعل بِهِ. وتفعَّل يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى المجرد أي: فَقَبِلها، بمعنى رَضِيها مكانَ الذَّكَر المنذور، ولم يَقْبَلْ أنثى منذورةً مثلَ مريم، كذا جاء في التفسير، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعِل مجرداً نحو: تَعَجَّب وعَجِب من كذا، وتبرَّأ وبَرِىء منه. والثاني: أن تفعَّل بمعنى استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها يقال: استقبلْتُ الشيء أي: أخذْتُه أولَ مرة، والمعنى: أنَّ الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتِها ومنه قوله ـ هو القطامي ـ:
1244ـ وخيرُ الأمرِ ما استقبَلْتَ منه * وليس بأَنْ تَتَبَّعَه اتِّباعاً
ومنه المَثَلُ: "خُذِ الإمر بقَوابله". وتفعَّل بمعنى استفعل كثير نحو: تَعَظَّم واستعظم، وتكبَّر واستكبر، وتَقَصَّيْت الشيء، واستقصَيْتُه وتَعَجَّلَته واستَعْجَلْتُه.
(3/353)
---(1/1208)
والباءُ في قولِه: {بِقَبُولٍ} فيها وجهان، أحدُهما. أنها زائدة أي : قَبولاً، وعلى هذا فينتصب، "قبلاً" على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذ لو جاء على تقبُّل لقيل: تَقَبُّلا نحو: تكبَّر تكبُّرا. قَبول من المصادر التي جَاءَتْ على فَعُول فتح الفاء، وقد تقدَّم ذكرُها أول القرة، يقال: قَبِلْتُ الشيء قَبولاً. وأجاز الفراء والزجاج ضمَّ القاف من "قبول"، وهو القياسُ كالدُّخول والخُروج، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب: قبلته قَبولاً وقُبولاً فتح القاف وضمِّها سماعاً عن العرب، و"على وجهه قُبول" لا غيرُ، يعني لم يُقَلْ هنا إلا بالضم، وأنشدوا:
1245ـ .................. * ............ والوجه عليه القُبول
بضم القاف كذا حكاهُ بعضُهم.
وقال الزجاج: "إن" قبولاً هذا ليس منصوباً بهذا الفعل حتىيكون مصدراً على غير الصدر، بل هو منصوبٌ بفعل موافقٍ له أي: مجردٍ قال: "والتقدير: فتقبَّلَها يتقبُّل حسن وقَبِلها قَبولاً حسناً أي: رضيها وفيه بُعْدٌ.
والوجه الثاني: أن الباءَ ليست زائدةً، بل هي على جالها، ويكون المرادُ بالقَبول هنا اسماً لِما يُقْبل به الشيءُ نحو: "اللَّدود" لِما يُلَدُّ به، والسَّعوطِ: لما يُسْعَطُ به، والمعنى بذلك اختصاصُ لها بإقامتها مقامَ الذكَرِ في النَّذْر.
وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً} نبات أيضاً مصدرٌ على غير الصدر؛ إذ القياسُ: إنبات. وقيل: بل هو منصوبٌ بمضمرٍ موافقٍ له أيضاً تقديرُه: فنبتَتْ نباتاً حسناً.
وقوله: {وَكَفَّلَهَا} قرأ الكوفيون: "وكَفَّلَها" بتشديد العين، "زكريا" بالقصر، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمدِّ كالباقين، ولكنه يَنْصِبُه، والباقون يرفعونه كما سيأتي.
(3/354)
---(1/1209)
وقرأ مجاهد: "فتقبَّلْها" بسكون اللام، "ربَّها" منصوباً، و"أنبِتها" بكسر الباء وسكون التاء، و"كَفِّلْها" بكسر الفاء وسكون اللام، وقرأ أُبَيٌّ: "وأَكْفَلَها" كـ"أَكْرَمَها" فعلاً ماضياً. وقرأ عبدالله المزني "وكَفِلَها" بكسر الفاء والتخفيف.
فأمَّا قراءةُ الكوفيين فإنهم عَدَّوا الفعلَ بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما "زكريا" فَمَنْ قَصَره كالأخوين وحفص عنده مقدَّر النصبِ، ومن مدَّه كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة، وهكذا قَرَأْتُه.
وأمَّا قراءة بقية السبعة فَكَفَلَ مخففٌ عندهم متعدٍّ لواحد وهو ضمير مريم، وفاعله "زكريا"، ولا مخالفةَ بين القرائتين؛ لأنَّ الله لَمَّا كَفَّلها إياه كَفَلها، وهو في قراءتهم ممدودٌ مرفوعٌ بالفاعلية.
وأمَّا قراءةُ "أَكْفَلَها" فإنه عَدَّاه بالهمزة كما عَدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو: خَرَّجْته/ وأَخْرجته، وكَرَّمته وأَكْرمته، وهذه كقراءة الكوفيين في المعنى والإِعراب، فإنَّ الفاعل هو الله تعالى، والمفعولُ الأول هو ضمير مريم والثاني هو "زكريا".
وأمَّا قراءة: "وكَفِلها" بكسر الفاء فإنها لغةٌ في كَفَلَ، يقال: كَفَلَ يَكْفُل، كَقَتَل يقتُل، وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلَ كَعلِمَ يَعْلَم، وعليها هذه القراءة، وإعرابُها كإعرابِ قراءةِ الجماعة في كون "زكريا" فاعلاً.
وأَمَّا قراءةُ مجاهد فإنها كلَّها على لفظِ الدعاءِ مِنْ أُمِّ مريم لله تعالى بأَنْ يفعلَ لها ما سألته. و"ربَّها" منصوب على النداء أي: فتقبَّلْها يا ربَّها وأَنْبِتْها وكَفِّلْها يا ربَّبها. و"زكريا" في هذه القراءة مفعولٌ ثانٍ أيضاً كقراءةِ الكوفيين.
(3/355)
---(1/1210)
وقرأ حفص والأخوان: "زكريا" بالقَصْرِ حيث وَرَدَ في القرآن، وباقي السبعة بالمدِّ، والمدُّ والقصرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهلِ الحجاز. وهو اسمٌ أعجمي فكانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقولوا فيه: مُنِعَ من الصرفِ للعلَميَّة والعُجْمة كنظائره، وإنما قالوا: مُنع من الصرف لوجود ألف التأنيث فيه. إمَّا الممدودةِ كحَمْراء أو المقصورةِ كَحُبْلى، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأَوْهُ ممنوعاً معرفةً ونكرةً، قالوا: فلو كان منعُه للعلمية والعجمة لا نصرفَ نكرةً لزوالِ أحدِ سَبَبَيْ المنع، لكن العرب منَعَتْهُ نكرةً، فَعَلِمْنَا أنَّ المانعَ غيرُ ذلك، وليس معنا هنا ما يصلُح مانعاً من صرفه إلا ألفُ التأنيث، يَعْنُون التشبيهَ بألف التأنيث، وإلاَّ فهذا اسم أعجمي لا يُعْرف له اشتقاقٌ حتى يُدَّعى فيه أن الألفَ فيه للتأنيث. على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرةً، وكأنه لَحَظَ فيه ما قَدَّمتْهُ من العجمة والعلمية لكنهم غَلَّطوه وخَطَّؤوه في ذلك.
وقال الفارسي فأَشْبع فيه القول: "لا يخلو من أن يكونَ الهمزة فيه: للتأنيث أو للإلحاق أو منقلبةً، ولا يجوز أن تكونَ منقلبةً؛ لأنَّ الانقلاب لا يخلو من أن يكونَ من حرفٍ أصلي أو من حرفِ الإلحاق، ولا يجوزُ أَنْ يكون من حرف أصلي لأنَّ الياء والواو لا يكونان أصلاً فيما كان على أربعة أحرف، ولا أَنْ يكونَ من حرف الإلحاق لأنه ليس في الأصولِ شيءٌ يكونُ هذا ملحقاً به وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أنها للتأنيث، وكذلك القولُ في الألف المقصورة".
وهذا الذي قاله أبو علي صحيحٌ لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاقٌ ويَدْخله تصريفٌ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجمية مُجْرى العربية بمعنى أن هذا لو وَرَدَ في لسانِ العرب كيف يكون حكمُهُ؟
(3/356)
---(1/1211)
وفيه بعد ذلك لغتان أُخْرَيان، إحداهما: زَكَرِيٌّ بياء مشددة في آخره فقد دونَ ألف، وهو في هذه اللغة منصرف. ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: "القولُ فيه أنه حُذِفَ منه الياءان اللتانِ كانتا فيه ممدوداً ومقصوراً وما بعدهما وأَلْحَقَ ياءي النسب" قال: يَدُلُّ على ذلك صَرْفُ الاسم، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ للعجمة والتعريف"، وهذه اللغةُ التي ذركتُها لغةُ أهلِ نجد ومَنْ والاهم. والثانية: "زَكْرٍ" بزنة عَمْرٍو، حكاها الأخفش".
والكَفالَةُ: الضمان في الأصلِ،ـ ثم يستعار للضم والأخذ، يقال منه: كَفَل يكفُل، وكَفِلَ يكفَل ـ كعَلِمَ يعلَم ـ كَفالة وكَفْلاً فهو كافِلٌ وكفيل.
قوله: {الْمِحْرَابَ} فيه وجهان مشهوران، أحدهما وهو مذهب سيبويه أنه منصوبٌ على الظرف، وشذَّ عن سائر أخوانه بعد "دخل" خاصة، يعني أن كلَّ ظرفِ مكان مختص لا يصل إليه الفعلُ إلا بواسطة "في" نحو: صَلَّيْت في المحراب" ولا تقول: المحرابَ، ونمت في السوق، ولا تقول: السوقَ، إلا مع "دخل: خاصة، نحو: دَخَلْتُ السوقَ والبيت، وإلا ألفاظاً أُخَرَ ذكرْتُها في كتب النحو. والثاني: مذهب الأخفش، هو نصبُ ما بعد "دخل" على المفعول به لا على الظرف، فقولك: "دخلت البيت" كقولك: "هَدَمْتُ البيت" في نصب كلٍّ منهما على المفعول به. وهو قولٌ مرجوحٌ بدليل أنَّ "دخل" لو سُلِّط على غير الظرف المختص وجب وصولُه بواسطةِ "في" تقول: "دخلْتُ في الأمر" ولا تقول: دخلت الأمر، فدلَّ ذلك على عدم تعدِّيه للمفعول به بنفسه.
والمحراب: قال أبو عبيدة: "هو أشرف المجالس ومقدَّمُها، وهو كذلك من المسجدِ". وقال ابو عمرو بن العلاء: "هو القَصْرُ لعلوِّه وشَرَفِه". وقال الأصمعي: "هو الغرفةُ" وأنشد لامرىء القيس:
1246ـ وماذا عليه أَنْ ذكرتُ أوانساً * كغِزْلانِ رملٍ في محاريبِ أَقْيالِ
قالوا: م عناه في غُرَفِ أقيال. وأنشد غيرُه لعمر بن أبي ربعية:
(3/357)
---(1/1212)
1247ـ رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جئتُها * لم أدْنُ حتى أَرْتَقِي سُلَّما
وقيل: هو المحرابُ من المسجدِ المعهودِ وهو الأليقُ بالآية. وأمَّا ما ذكرْتُه عمَّن تقدَّم فإنما يَعْنُون به المحرابَ مِنْ حيث هو، وأمَّا في هذه الآية فلا يَظْهَرُ بينهم خلافٌ [في] أنه المحرابُ المتعارَفُ، قيل: واشتقاقه من الحَرْب لتحارُبِ الناس عليه.
وأمال ابن ذكوان عن ابن عامر "المحراب" في هذه السورة موضعين بلا خلافٍ، لكونه قَوِيَ فيه سببُ الإِمالة، وذلك أن الألف تقدَّمَها كسرةٌ وتأخَّرت عنها كسرةٌ أخرى فقَوِيَ داعي الإِمالة، وهذا بخلاف/ "المحراب" غيرِ المجرور فإنه نُقِلَ عن ابن ذكوان فيه الوجهان: الإِمالةُ وعدمُها نحو قوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ}، فوجهُ الإِمالة تقدُّمُ الكسرة، ووجهُ التفخيمِ أنه الأصلُ، وقد تقدَّم لك الفرقُ بين كونِهِ مجروراً فلم يُخْبَرْ عنه فيه خلاف وبين كونِهِ غيرَ مجرورٍ فجرى فيه الخلافُ، وكذلك جرى عنه الخلاف أيضاً في "عمران" لِما ذكرْتُ لكل من تقدُّم الكسر.
قوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} هذه "وَجَدَ" بمعنى أصاب ولقي وصادف فتتعدَّى لواحدٍ وهو "رزقاً"، و"عندَها" الظاهرُ أه ظرفٌ للوِجْدَان. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من "رزقاً" لأنه يصلُح أن يكونَ صفةً له في الأصل، وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوف، و"وَجَدَ" هو الناصبُ لكلما، لأنها ظرفيةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُه. وأبو البقاء سَمَّاه جوابها؛ لأنها عنده تشبه الشرطَ كما سيأتي.
قوله: "قال: يا مريم" فيه و جهان، أحدُهما: أنه مستأنف، قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من "وَجَدَ" لأنه ليس بمعناه". والثاني: أنه معطوفٌ بالفاء، فَحُذِفَ العاطِفُ، قال أبو البقاء: "كما حُذِفَتْ في جواب الشرط كقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، وكذلك قولُ الشاعر:
1248ـ مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها * ...................(1/1213)
(3/358)
---
وهذا الموضِعُ يشبِهُ جوابَ الشرط؛ لأنَّ "كلما" تُشْبه الشرط في اقتضائِها الجواب" انتهى. قلت: وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنه تخيَّل أنَّ قوله تعالى {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أنَّ جوابَ الشرط هو نفس "إنكم لمشركون" حُذفت منه الفاء، ولس كذلك، بل جوابُ الشرط محذوفٌ، و"إنكم لمشركون" جوابُ قسمٍ مقدر قبل الشرط، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة، فليس هذا مِمَّا حُذِفَتْ منه فاءُ الجزاء البتَةَ، وكيف يَدَّعي ذلك ويُسَوِّيه بالبيت المذكور وهو لا يجوز إلا في ضرورة، ثم الذي يَظْهَرُ أنَّ الجملةَ من قوله: "وَجَدَ" في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "دخل"، ويكون جوابُ "كلما" هو نفسَ "قال" والتقدير: كلما دخل عليها زكريا واجداً عندها الرزقَ قال، وهذا بيِّنٌ جداً. ونَكَّر "رزقاً" تعظيماً له أو ليدلَّ به على نوعِ ما منه.
قوله: {أَنَّى لَكِ هَاذَا} أنَّى خبر مقدم، و"هذا" مبتدأ مؤخر، ومعنى "أنى" هنا: مِنْ أين، كذا فَسَّرها أبو عبيدة، وقيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية أي: كيف تهيَّأ لك هذا، قال الكميت:
1249ـ أنَّى ومِنْ أين آبَكَ الطربُ * مِنْ حيثُ لا صبوةٌ ولا رِيَبُ
وجَوَّزَ أبو البقاء في "أَنَّى" أن ينتصِبَ على الظرف بالاستقرار الذي في "لك"، و"لك" رافع لـ"هذا" يعني بالفاعلية ولا حاجة إلى ذلك. وقد تقدّم الكلام على "أنَّى" في البقرة.
{إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} تقدَّم نظيرُه، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ مستأنفاً [مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، وأن يكونَ من كلامِ مريم فيكونَ منصوباً].
* { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ }
(3/359)
---(1/1214)
قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا}: "هنا" هو الاسمُ واللامُ للبعد والكافُ حرفُ، وهو وِزانُ "ذلك"، وهو منصوبٌ على الظرفِ المكاني بـ"دعا"، أي: في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى مِنْ أَمْرِ مريم، وهو ظرفُ لا يتصرَّفُ بل يلزم النصبَ على الظرفية،وقد يُجَرُّ بـ"مِنْ" و"إلى" قال الشاعر:
1250ـ قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ * مِنْ ههنا ومِنْ هُنَهْ
وحكمُه حكمُ "ذا" مِنْ كونِهِ يُجَرَّد من حرف التنبيه ومن الكاف واللام نحو: هنا، وقد تصحبه "ها" التنبيه نحو: ههنا، ومع الكافِ قليلاً نحو: "ها هناك"، ويتمنعُ الجمعُ بين ها واللام. وأخواتُهُ: هَنَّا بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها، وثَمَّ بفتح الثاء، وقد يقال هَنَّتْ، ولا يُشار بهذه إلا للبعيد خاصة، ولا يشار بهنالك وما ذُكِرَ معه إلا للأمكنة.
وقد زعم بعضُهم أنَّ "هناك" و"هنالك" و"هَنَّا" للزمان، فمِنْ ورودِ "هنالك" بمعنى الزمان عند بعضِهم هذه الآية أي: في ذلك الزمان، ومثلُه: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} ومنه قولُ زهير:
1251ـ هنالك إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا * ..................
والظاهر أنه علىمكانِيَّتِه. ومن ورود "هناك" قوله:
1252ـ وإذا الامورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ * فهناك يعترفون أين المفزَعُ
ومن ورود هَنَّا قوله:
1253ـ حَنَّتْ نَوارِ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ * وبدا الذي كانت نوارِ أَجَنَّتِ
لأن "لات" لاتعمل إلا في الأحيان، وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا. وفي عبارة السجاوندي أن "هناك" في المكان و"هنالك" في الزمان، وهو سهوٌ، لأنها للمكان سواءً تجردت أم اتصلت بالكاف واللام معاً أم بالكاف دون اللام.
(3/360)
---(1/1215)
قوله: {مِن لَّدُنْكَ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ"هَبْ" وتكونُ "مِنْ: لابتداء الغاية مجازاً أي: هَبْ لي من عندِك، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه في الأصل صفةٌ لذرية، فلما قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ على لدن وأحكامِها ولغاتِها. وقوله: {سَمِيعُ الدُّعَآءِ} مثالُ مبالغة مُحَوَّل من "سامِع" وليس بمعنى "مُسْمِع" لفسادِ المعنى.
وقوله: {طَيِّبَةً} نْ أرادَ بـ"ذرية" الجنسَ فيكونُ التأنيثُ في "طيبة" باعتبارِ تأنيثِ الجماعة، وإنْ أرادَ به ذَكَراً واحداً فالتأنيث باعتبار اللفظ. قال: الفراء: "وأَنَّث "طيبة" لتأنيثِ لفظِ "الذرية" كما قال الشاعر:
1254ـ أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى * وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ
وهذا فيما لم يُقْصَدُ به واحدٌ معيَّنٌ، أمَّا لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّنٌ امتَنَعَ اعتبارُ اللفظِ نحو: طلحة وحمزة، وقد جَمَعَ الشاعرُ بين التذكيرِ والتأنيث في قوله:
1255ـ فما تَزْدَري من حَيَّةٍ جَبَلِيَّة * سُكاتٍ إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدَا
لأنَّ المرادَ بحيَّة اسمُ الجنسِ لا واحدٌ بعينه.
* { فَنَادَتْهُ الْمَلاائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }
(3/361)
---(1/1216)
قولُه تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلاائِكَةُ}: قرأ الأخَوان: "فناداه" من غيرِ تاء تأنيث، والباقون: "فنادَتْه" بتاء التأنيث. والتذكيرُ والتأنيث باعتبار الجمع المكسر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكيرُ باعتبار الجمع، والتأنيثُ باعتبار الجماعة، ومثل هذا: {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاائِكَةُ} يُقرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ}. قال الزجاج: "يَلْحقها التأنيثُ للفظ الجماعة، ويجوزُ أَنْ يُعَبِّر عنها بلفظ التذكير لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} أنتهى وإنما حَِسَّنَ الحذفَ هنا الفصلُ بين الفعلِ وفاعِله.
وقد تَجَرَّأ بعضُهم على قراءة العامة فقال: "أكرهُ التأنيث لِمَا فيه من موافقة دعوى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث. وتجرَّأ/ أبو البقاء على قراءة الأخوين فقال: "وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، فلذلك قرأ مَنْ قرأ: "فناداه" بغير تاءٍ، والقراءةُ به غيرُ جيدة لأنَّ الملائكةَ جمعٌ، وما اعتلُّوا به ليس بشيء، لأنَّ الإجماع على إثبات التاء في قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ}. وهذان القولان الصادران من أبي البقاء وغيرِه ليسا بجيدين، لأنها قراءاتان متوارتان، فلا ينبغي أن تُرَدَّ إحداهما البتة.
والأخَوان على إصلِهما مِنْ إمالةِ "فناداه"، والرسمُ يَحتمل القراءتين معاً أعني التذكيرَ والتأنيثَ.
(3/362)
---(1/1217)
والجمهورُ على أنَّ الملائكةَ المرادُ بهم واحدٌ وهو جبريلُ. قال الزجاج: "أتاه النداء من هذا الجِنس الذين هم الملائكةُ كقولِك: "فلان يركب السفنَ" أي: هذا الجنسَ" ومثلُه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهم نعيم بن مسعود. وقوله "إنَّ الناس" يعني أبا سفيان، ولَمَّا كان جبريل رئيسَ الملائكة أَخْبَرَ عنه إخبارَ الجماعة تعظيماً له. وقيل: "الرئيس لا بُدَّ له من أتباع، فلذلك أَخْبَر عنه وعنهم، وإنْ كان النداءُ إما صدر منه"، ويؤيِّدُ كونَ المنادى جبريلَ وحدَه قراءةُ عبدِ الله، وكذا في مصحفه: "فناداه جبريل"، والعطفُ بالفاء في قوله: {فَنَادَتْهُ} مُؤْذِنٌ بأنَّ الدعاء مُعْتَقِبٌ بالتبشير.
قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملةٌ حالية من مفعولِ النداء، "يصلي" يحتمل أوجهاً، أحدهما: أن يكونَ خبراً ثانياً عند مَنْ يرى تعدُّدَهُ مطلقاً نحوك "زيدٌ شاعرٌ فقيه". الثاني: أنه حالٌ ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضاً عند مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في "قائم" فيكونُ حالاً من حال. الرابع: أن يكونَ صفةً لقائم.
قوله: {فِي الْمِحْرَابِ} متعلقٌ بيُصَلِّي، ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بقائم إذا جَعَلْنا "يُصَلِّي" حالاً من الضمير في "قائم"؛ لأنَّ العامِلَ فيه حينئذٍ وفي الحالِ شيءٌ واحدٌ فلا يلزَمُ منه فصلٌ، أمَّا إذا جَعَلْناهُ خبراً ثانياً أو صفةً لقائم أو حالاً من المفعولِ لَزِمَ الفصلُ بين العامِلِ ومعمولِه بأجنبي، هذا معنى كلامِ الشيخ، والذي يظهر أنه يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب التنازع، فإنَّ كلاً من قائم ويصلِّي يَصِحُّ أَنْ يتسَلَّطَ على "في المحراب"، وذلك جائِزٌ على أيِّ وجهٍ تَقَدَّم من وجوهِ الإعرابِ.
(3/363)
---(1/1218)
قوله: {أَنَّ اللَّهَ} قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر "إنَّ"، والباقون بفتحها. فالكسرُ عند الكوفيين لإجراء النداء مُجْرى القول فلْيُكْسَرْ معه، وعند البصريين على إضمارِ القول، أي: فنادَتْهُ فقالت. والفتح على حَذْفِ حرف الجر تقديرُهُ: فنادَتْهُ بأن الله، فلمَّا حُذِفَ الخافض جرى الوجهان المشهوران في محلها.
وفي قراءة عبدالله "فنادَتْه الملائكة: يا زكريا" فقوله "يا زكريا" هو مفعولُ النداء، وعلى هذه القراءةِ يتعيَّنُ كسرُ "إنَّ" ولا يجوز فتحُها لاستيفقاءِ الفعل معموليه، وهما: الضميرُ وما نُودِي به زكريا.
قوله: "نُبَشِّرُك" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعصام ـ الخمسة ـ في هذه السورة: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} موضعان، وفي سورة الإسراء: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}، وفي سورة الكهف: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أيضاً بضم الياء وفتح الباء كسر الشين مشددةً من: بَشَّره يُبَشِّره. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ـ ثلاثتهم ـ كذلك في سورة الشورى وهو {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ}، وقرأ الجميع دون حمزة كذلك في سورة براءة: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} وفي أول الحجر في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}، ولا خلاف في الثاني وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أنه بالتثقيل، وكذلك قرأ الجميع دون حمزة في سورة مريم موضعين: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ}، وكلُّ مَنْ لم يُذْكَرْ مع هؤلاء ـ مَنْ قرأ بالتقييد المذكور ـ فإنه يَقْرأ بفتح حرف المضارعة وسكونِ الباء وضَمِّّ الشين.
(3/364)
---(1/1219)
وإذا أردت معرفة ضبطِ هذا الفصل فاعلَمْ أنَّ المواضعَ التي وقع فيها الخلافُ المذكور تسعُ كلمات، والقرَّاءُ فيها على مراتبَ: فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلوا الجميع وحمزة خَفَّف الجميع، وابن كثير وأبو عمرو ثَقَّلا الجميع إلا التي في سورة الشورى فإنهما وافقا فيها حمزة، والكسائي خَفَّف خمساً منها وثقَّل أربعاً، فخفَّف كلمتَيْ هذه السورة وكلماتِ الإِسراء والكهف والشورى.
وقد تقدَّم أن في هذا الفعل ثلاثَ لغات: "بَشَّر" بالتشديد، وبَشَر بالتخفيف، وعليه ما أنشده الفراء:
1256ـ بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً * أَتَتْكَ من الحَجَّاجِ يُتْلَى كتابُها
والثالثة: "أَبْشَرْتُ" رباعياً، وعليه قراءةُ بعضهم "يُبْشِرُك" بضم الياء، ومن التبشير قول الآخر:
1257ـ يا بِشْرُ حٌقَّ لوجهِك التَّبْشِيرُ * هَلاَّ غَضِبْت لنا وأنتَ أَميرُ
وقد أُجْمِعَ على مواضعَ من هذه اللغات نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ}. {وَأَبْشِرُواْ}، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، فلم يَرِدِ الخلافُ إلا في المضاعرِ دونَ الماضي والأمرِ، وقد تقدَّمَ معنى البِشارَة واشتقاقُها في سورة البقرة.
قوله تعالى: {بِيَحْيَى} متعلق بـ يُبَشِّرُكَ، ولا بد من محذف مضاف أي: بولادة يحيى، لأن الذواتِ ليست متعلقةً للبشارة ولا بد في الكلامِ من [شيء] عادَ إليه السياقُ تقديرهُ: بولادةِ يحيى منك و من امرأتِك، دَلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلام.
(3/365)
---(1/1220)
و"يحيى فيه قولان أحدُهما: ـ وهو المشهورُ عند أهل التفسير ـ أنه منقولٌ من الفعلِ المضارع، وقد سَمُّوا بالأفعال كثيراً نحو: يعيش ويعمر ويَمُوت، قال قتادة: "سُمِّي يَحْيى لأنَّ الله أَحياه بالإِيمان" وقال الزجاج: "حَيِيَ بالعلم" وعلى هذا فهو ممنوعُ الصرف للعملية ووزن الفعل نحو: "يزيد ويشكر وتغلب". والثاني: أنه أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ فامتناعُه للعمليةِ والعجمةِ الشخصية. وعلى كلا القولين فيُجْم على يَحْيَوْن بحذف الألف نحو: "مُوسَوْن" بحذف الألف وبقاء الفتحة تدلُّ عليها. وقال الكوفيون: "إن كان عربياً منقولاً من الفعلِ فالأمرُ كذلك، وإنْ كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء إجراء له مُجْرى المنقوص نحو: جاء القاضون، ورأيت القاضين" هذا نَقْلُ الشيخ عنهم. ونقل ابن مالك عنهم أن الاسم إنْ كانت ألفُه زائدةً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء نحو: جاء حُبْلُون ورأيت حُبْلِين، وإن كانت اصليةً نحو: "رَجَوْن" وجب فتح ما قبل الحرفين، قالوا: "فإن كان أعجمياً جاز الوجهان، لاحتمالِ أن تكون ألفُه أصليةً أو زائدة، إذ لا يُعْرَفُ له اشتقاق" ويُصَغَّر يَحْيى على "يُحَيَّى" وأنشدت للشيخ أبي عمرو ابن الحاجب في ذلك:
1258ـ أيُّها العالم بالتصريفِ لا زلت تُحَيَّا
وأبي قومٌ وقالوا ليسَ هذا الرأيُ حَيّا
إما كان صواباً أَنْ يُجيبوا بيُحَيَّا
كيف قد رَدُّوا يُحَيَّا
والذي اختارُوا يُحَيَّا
أتراهم في ضلالٍ أم ترى وجهاً يُحَيًّا
قلت: هذا جارٍ مَجْى الألغاز في تصغيرِ هذه اللفظةِ، وذلك يختلف بالتصريفِ والعمل، وهو أنه إذا اجتَمَع في آخر الاسم المصغَّر ثلاثُ ياءات جَرَى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات وأصلُ المسألة تصغير "أَحْوى" وقد أتقنت هذه الأبيات وحرَّرْتُ مذاهب التصريفين فيها حين سُئِلت عنها في غير هذا الموضوع إذ لا يَحْتمله.
(3/366)
---(1/1221)
ويُنْسَبُ إلى يَحْيى: يَحْيِيُّ بحذف الألف تشبهاً لها بالزائد نحو: حُبْلِيّ في: حُبْلى، ويَحْيَوىّ بالقلب لأنها أصلٌ كألف مَلْهَويٌّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً، ويَحْياوي بزيادة ألف قبل قلب ألفه واواً؟
والنداء: رفعُ الصوت، يقال: نادى نُداءً ونداء بضم النون وكسرها، والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم نحو: البُكاء والصُّراخ والدُّعاء والرُّغاء. وقيل: المكسورُ مصدر والمضموم اسم، ولوعُكِسَ هذا لكان أَبْيَنَ لموافقتِه نظائرَه من المصادر. وقال يعقوب بن السكيت: إذا ضَمَمْتَ نونَه قَصَرْتَه وإن كسرتها مددَته" وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على الرفع. ومنه المُنْتدى والنادي لا جتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاعِ أصواتِهم عند المشارورة والمحاورةِ فيها، وفلان أَنْدى صوتاً من فلان أي: أَرْفَع، هذا أصلُه في اللغةِ، وفي العُرْف صار ذلك لأحسنِهمنا نغماً وصوتاً، والنَّدى: المطرُ، ومنه: نَدِيَ يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطرِ والغيثِ وأخواتهِما عنه استعارةً.
قوله: {مُصَدِّقاً} حالٌ من "يحيى" وهذه حالٌ مقدَّرة، وقال ابن عطية: "هي حالٌ مؤكدة بحَسَب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام". و"بكلمة" متعلِّقٌ بـ"مصدقاً". وقرأ أبو السَّمَّال: "بكِلْمَةٍ" بكسر الكاف وسكون اللام، وهي لغة فصيحة، وذلك أنه أَتْبَع الفاءَ للعين في حركتها فالتقى بذلك كسرتان، فَحَذف الثانيةَ لأجل الاستثقال. والكلمة قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصودُ التوراةُ والإِنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة، فَعَبَّر عن الجمعِ ببعضه، ومثلُ هذا قوله عليه السلام: "أصدقُ كلمةٍ قالها الشاعر كلمةُ لبيد" يريدُ قولَه:
1259ـ ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله بطِلٌ * وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالَةَ زائِلُ
(3/367)
---(1/1222)
وذُكِر لحسان رضي الله عنه الحُوَيْدِرة الشاعر فقال: "لعن الله كلمته" يعني قصيدته، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان عند قوله تعالى: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ}.
قوله: {مِّنَ اللَّهِ} في محلِّ جر صفة لكملة فيتعلَّقٌ بمحذوف أي: بكلمة كائنة من الله. و"سيِّداً وحصوراً ونبياً" أحوالٌ أيضاً كمصدِّقاً. السيِّد فَيْعِل. والأصلُ: سَيْوِد فَفُعِل [به] ما فُعِل بميت، وقد تقدَّم ك يفية ذلك، واشتِقاقُه من سادَ يسود سِيادة وسُؤْدُدَاً أي: فاقَ نُظَراءَه في الشرف والسؤُدد، ومنه قولهم:
1260ـ نفسُ عصامٍ سَودَّدَتْ عِصَاما * وعَلَّمَتْه الكَرَّ والإِقداما
وصَيَّرتَهُ بَطَلاً هُمَاما وقال بعضهم: سُمِّي سيِّداً لأنه يَسُود سَوادَ الناس أي: عظيمهم وجُلَّهم، وجمعُه على فَعَلة شاذ قياساً فيصح استعمالاً، قال تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} والأصل: سَوَدَة، و"فَعَلة" إنما يكثر لفاعِل نحو: كافِر وكَفَرة وفاجِر وفَجَرة وبار وبَرَرة.
والحَصور فَعُول للمبالغة مُحَوَّلٌ من "حاصِر" كضَرُوب في قوله:
1261ـ ضَروبٌ بنصْلِ السيفِ سُوقَ سِمانِها * إذا عَدِمموا زاداً فإنَّك عاقِرُ
وقيل: بل هو فَعُول بمعنى مَفْعول أي: محصور، ومثله رَكوب بمعنى مركوب وحَلوب بمعنى مَحْلوب. والحَصُور: الذي يكتُم سِرَّه. قال جرير:
1262ـ ولقد تَسَقَّطَني الوشاةُ فصادَفوا * حَصِراً بسِرِّك يا أُمَيْمُ ضَنِيناً
[وهو البخيل أيضاً] قال:
1263ـ ........................ * لا بالحَصورِ ولا فيها بِسَآرِ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة، وأصلُه مأخوذٌ من المَنْع، وذلك أن الحَصُور هو الذي لا يأتي النساءَ: إمَّا لطَبْعِه على ذلك إمَّا لمغالبتِه نفسَه. و"من الصالحين" صفةٌ لقوله "نبياً" فهو في محل نصب.
* { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
(3/368)
---(1/1223)
قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}: يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها حينئذ وجهان، أحدهما: "أنَّى" لأنهما بمعنى كيف، أو بمعنى مِنْ أين: و"لي" على هذا تبيينٌ. والثاني: أنَّ الخبرَ الجار و"وكيف" منصوبٌ على الظرف. ويجوزُ أَنْ تكونَ التامَّة فيكونُ الظرفُ والجار كلاهما متعلِّقَيْنِ بـ"يكون" لأنه تام، أي: كيف يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلَّقَ/ بمحذوفٍ على أنه حال من "غلام" لأنه تأخَّر لكان صفةًله,
وقوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ} جملةُ حاليةٌ، وفي موضع آخرَ {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ} لأنَّ ما بَلَغَكَ فقد بَلَغْتَه. وقيل: لأنَّ الحوادثَ تَطْلُب الإِنسانَ. وقيل: هو من المَقْلوب كقوله:
1264ـ مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بَلَغَتْ * نجرانُ أو بُلِّغَتْ سَوْءاتِهِمْ هَجَرُ
ولا حاجةَ إليه.
وقدَّم في هذه السورة حالَ نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي مريم عَكَس، فقيل: صدرُ الآيات في مريم مطابِقٌ لهذا التركيبِ لأنه قَدَّمَ وَهْنَ عظمِه واشتعالهَ شَيْبِه وخِيفَةَ مواليهِ من ورائه، وقال: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} فلمَّا أعَاد ذِكْرهما في استفهامٍ آخر ذَكَر الكِبَر ليوافِق "عِتيَّاً" رؤوسَ الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة، والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانياً، فلذلك لم يُبالَ بتقديم ولا تأخير.
والغلامُ: الفتيُّ السنِّ من الناسِ وهو الذي... شاربُه، وإطلاقُه على الطفلِ وعلى الكهلِ مجاز، أمَّا الطفلُ فللتفاؤل بما يَؤُول إليه، وأمَّا الكهلُ فباعتبارِ ما كانَ عليه. قالت ليلى الأخيلية:
1265ـ شَفاها من الداءِ العُضالِ الذي بها * غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
(3/369)
---(1/1224)
وقال بعضُهم: ما دام الولدُ في بطن أمه سُمِّي "جنيناً". قال تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ}، سُمِّي بذلك لاجتنانِه في الرَّحمِ، فإذا وُلِد سُمِّي "صبياً" فإذا فُطِمَ سُمِّي"غُلاماً" إلى سبع سنين، ثم سُمِّي يافعاً إلى أن يَبْلُغَ عشر سنين، ثم يُطْلق عليه "حزَوَّر" إلى خمس عشرة، ثم يصير "قُمُدَّاً" إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثم، "عَنَطْنَطَا" إلى ثلاثين قال:
1266ـ وبالجَعْدِ حتى صارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً * إذا قامَ ساوى غاربَ الفحلِ غارِبُهْ
ثم "حُمُلا" إلى أربيعين ثم "كَْهلاً" إلى خمسين، ثم "شيخاً" إلى ثمانين ثم "هَمٌّ" بعد ذلك.
واشتقاق الغُلام من الغُلْمة والاغتِلام، وهو طَلَبُ النكاح، لَمَّا كان مسبَّباً عنه أُخِذَ منه لفظُه، ويقال: "اغتَلَم الفحلُ" أي: اشتدَّتْ شهوتُه إلى طَلَبِ النكاح، واغتلَم البحر أي: هاجَ وتلاطَمَتْ أمواجه مستعار منه، وقياسُه في القلةِ أَغْلِمة، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جُمع على غِلْمَة شذوذاً، وهل هذه الصيغةُ جمعُ تسكير أم اسم جمع؟ قال الفراء: "يقال غلامٌ بيِّنٌ الغُلومَة والغُلومِيَّة والغُلامِيَّة" قال: "والعربُ تجعلُ مصدرَ كلِّ اسمٍ ليسَ له فعلٌ معروفٌ على هذا المثالِ، فيقولون: عَبْدٌ بَيِّنُ العُبودة والعُبودِيَّة والعُبادِيَّة" يعني لم تتكلم العرب من هذا بِفِعْلٍ.
والكِبَرُ: مصدرُ كَبِرَ يكبَر كِبَراً أي: طَعَن في السن، قال:
1267ـ صغيرَيْنِ نَْعَى البَهْمَ يا ليتَ أَنَّنا * إلى اليومِ لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَر البَهْمُ
(3/370)
---(1/1225)
قوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} جملةٌ حاليةٌ: إمَّا من الياء في "لي" فتعدَّدُ الحالُ عند مَنْ يراه، وإمَّا من الياءِ في "بلغَنَي". والعاقر: مَنْ لا يُولد له رجلاً كان أو امرأةً، مشتقاً من العَقْر وهو القتل، كأنهم تخيَّلوا فيه قَتْل أولادِه, والفعل بهذا المعنى لازمٌ، وأمَّا عَقَرْتُ بمعنى نَحَرْتُ فمتعدٍّ، قال تعالى: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ}، وقال:
1268ـ ....................... * عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ فأنْزِلِ
وقيل: "عاقِر" على النسب أي: ذاتُ عُقْر، وهي بمعنى مَفْعول أي: معقورة، ولذلك لم تُلْحَقْ تاءَ التأنيث.
والعُقر العَقْر بضم العين وفتحها: أصلُ الشيء، ومنه: عُقْر الدار وعُقْر الحوض، وفي الحديث: "ما غُزِي قومٌ قط في عُقر دارِهم إلا ذُلَّوا" وعَقَرْتُه: أَصَبْتُ عُقْره أي: أصلَه نحو: رَأَسْته أي: أصبتُ رأسَه، والعُقْر أيضاً: آخر الولد، وكذلك بيضةُ العُقْر، والعُقار: الخمرُ لأنها تَعْقِر العقلَ مجازاً وفي كلامهم: "رَفَعَ فلانٌ عقيرَتَه" أي: صوته، وذلك أنَّ رجلا عَقَر رجله فرفعَ صوتَه فاستُعير ذلك لكلِّ من رفَع صوَته. وقال بعضُهم: "يُقال: عَقُرَتْ المرأةَ تَعْقُر عَقْراً وعقارةً أنشد الفراء:
1269ـ أرزامُ بابٍ عَقُرَتْ أَعْواما * فَعَلَّقَتْ بُنَيَّها تَسْمما
ويقال: عَقَر الرجل وعَقُر وعَقِر إذا لم تَحْبَلْ زوجته فَجَعلوا الفعلَ المسندَ إلى الرجل أوسعَ من المسندِ إلى المرأة، قال الزجاج: "عاقِر: بمعنى ذات عُقْر، قال: "لأنَّ فَعُلْتُ أسماءُ الفاعلين منه على فَعيلة نحو: طريفة وكريمة، وإنما "عاقر" على ذات عُقْر" قلت: وهذا نصٌّ في أن الفعلَ المسند للمرأةِ لا يُقال فيه إلا عَقُرت بضم القاف إذا لو جازَ فتحُها أو كسرُها لجاز منها "فاعِل" من غير تأويلٍ على النسب. ومن ورودِ "عاقر" وصفاً للرجل قولُ عامر بن الطفيل:
(3/371)
---(1/1226)
1270ـ لَبِئْسَ الفتى إنْ كنُت أعوَر عاقِراً * جَباناً فما عُذْري لدى كلِّ مَحْضَرِ
قوله: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} في الكافِ وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ نصب وفيه التخريجان المشهوران، أحدُهما ـ وعليه أكثرُ المعربين ـ أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يفعلُ الله ما يشاء من الأفعالِ العجيبة مثلَ ذلك الفعلِ، وهو خَلْقُ الولدِ بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقِرٍ.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر أي: يفعلُ الفعلَ حالَ كونه مِثلَ ذلك، وهو مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم إيضاحُه.
والثاني: من وجهي الكاف أنَّها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مقدم، والجلالةُ مبتدأٌ مؤخرٌ، فقدَّره الزمخشري "على نحوِ هذه الصفة اللهُ"، ويفعل ما يشاء بيانٌ له، وقدَّره ابن عطية: كهذه القدرة المستغرَبة هي قدرة الله، وقدَّره الشيخ فقال: "وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: صُنْعُ اللهِ الغريبُ مثلُ ذلك الصنعِ، فيكون "يفعل ما يشاء" شرحاً للإبهامِ الذي في اسم الإشارة" فالكلامُ على الأول جملةٌ واحدةٌ وعلى الثاني جملتان. وقال ابن عطية: "ويُحتمل أن تكونَ الإشارةُ بذلك إلى حال زكريا وحالِ امرأته، كأنه قال: ربِّ على أيّ وجه يكونُ لنا غلامٌ ونحن بحالِ كذا؟ فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلامُ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويلِ في قوله: "كذلك" وقولُه: {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} جملةٌ مبينة مقرِّرةٌ في النفس وقوعَ هذ الأمر المستغرب" انتهى. وعلى هذا الذي ذكرَه يكون "كذلك" متعلقاً بمحذوفَ، و"الله يفعل" جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبرٍ.
* { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّيا آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }
(3/372)
---(1/1227)
قوله تعالى: {اجْعَلْ لِّيا آيَةً} يجوزْ أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنينِ أوَّلهما "آية" والثاني: الجارُّ قبلَه. والتقديمُ هنا واجبٌ، لأنه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرة وهي "آية"/ لو انحلَّتْ إلى مبتدأ وخبر إلا تقدُّمُ هذا الجارِّ، وحكمُهما بعد دخول الناسخِ حكمُهما قبلَه، والتقديرُ: صَيِّرْ آيةً من الآياتِ لي. ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى الخَلَقْ والاتِّخاذ أي: اخلُقْ لي آيةً فتعدَّى لواحدٍ، وفي "لي" على هذا وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالجَعْلِ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "آية" لأنه لو تأخر لجازَ أن يقعَ صفةً لها، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ. وحَرَّك الياءَ بالفتح نافع وأبو عمرو، وأسكانها الباقون.
قوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لقوله: "آيتُك" أي: آيتُك عدمُ كلامِك للناس. والجمهور على نصبِ "تُكَلِّم" بأَنْ المصدريةِ.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ "أَنْ" مخففةً من الثقيلةِ، واسمُها حنيئذٍ ضميرُ شأنٍ محذوفٍ، الجملةُ المنفيَّةُ بعدَها في محلِّ رفع خبراً لـ"أَنْ"، ومثلُه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} {وَحَسِبُوااْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، ووقعَ الفاصلُ بين أَنْ والفعلِ الواقعِ خبَرَها بحرف نفي، ولكنْ يُضْعِفُ كونَها مخففةً عدمُ وقوعِها بعد فعلِ يقين. الثاني: أَنْ تكونَ الناصبَةُ حُمِلَتْ على "ما: أختِها، ومثلُه: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، وأَنْ وما في حَيِّزها أيضاً في محلِّ رفعٍ خبراً لـ"آيتُك".
(3/373)
---(1/1228)
قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} الصحيحُ أنَّ هذا النحوَ ـ وهو ما كان من الأزمنة يستغرقُ جميعُه الحدثَ الواقعَ فيه ـ منصوبٌ على الظرفِ خلافاً للكوفيين فإنَّهم يَنْصِبونه نصبَ المفعولِ به، وقيل: "وثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ تقديرُه: ثلاثةَ أيام وليالِيها، فحُذِفَ كقولِه تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ونظائِره،يَدُلُّ على ذلك قولُه في سورة مريم: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}، وقد يُقَال: إنَّه يُؤْخَذُ المجموعُ من المجموعِ فلا حاجةَ إلى ادَّعاءِ حَذفٍ، فإنَّا على هذا التقديرِ الذي ذكرتموه نَحْتاجَ إلى تقديرِ معطوفٍ في. الآية الأخرى تقديرُه: ثلاثَ ليالٍ وأيامَها.
قوله: {إِلاَّ رَمْزاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطع لأنَّ الرمزَ ليس من جنسِ الكلام، إذ الرمز: الإشارةُ بعينٍ أو حاجبٍ، أو نحوهما، ولم يَذْكُر أبو البقاء غيرَه، واختارَه ابنُ عطية بادِئاً به فإنه قال: "والكلامُ المرادُ الاستثناءِ أنهه استثناءٌ منقطعٌ" ثم قال: "وذهب الفقهاءُ إلى أنَّ الإِشارةَ ونحوَها في حكمِ الكلامِ في الأَيْمان ونحوِها، فعلى هذا يَجِيءُ الاستثناءُ متصلاً".
والوجه الثاني: أنه متصلٌ؛ لأنَّ الكلامَ لغةً يُطلقُ بإزاء معانٍ، الرمزمُ والإِشارةُ من جملتها، وأنشدوا على ذلك:
1271ـ إذا كَلَّمَتْني بالعيونِ الفواترِ * رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وقال آخر:
1272ـ أرادَتْ كلاماً فاتَّقَتْ من رقيبها * فلم يَكُ إلا وَمْؤُها بالحواجبِ
وقد استعمل الناسُ ذلك فقال حبيب:
1273ـ كَلَّمْتُه بجفونٍ غير ناطقة * فكانَ مِنْ رَدِّهِ ما قالَ حاجِبُهْ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختاراً له قال: "لمَّا أُدِّي مُؤَدَّى الكلام وفُهِم منه ما يُفْهَمُ منه سُمِّي كلاماً، ويجوز أَنْ يكونَ استثناء منقطعاً".
(3/374)
---(1/1229)
والرَّمْزُ: الإِشارةُ والإِيماءُ بعينٍ أو حاجبٍ أو يَدٍ، ومنه قيلَ للفاجِرَةِ: الرامِزَة والرَّمَّازة، وفي الحديث: "نَهَى عن كَسْبٍ الرَّمَّازة" يقال فيه: رَمَزَت تَرْمُزُ وتَرْمِزِ بضم العين وكسرها في المضارع، وأصل الرَّمْز: التحرك يقال: رَمَزَ وارتَمَزَ أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز لتحرُّكه واضطرابه. وقال الراغب: "الرَّمْز: إشارةُ بالشفة، والصوتُ الخفي والغمزُ بالحاجبِ، وما ارمازَّ أي: لم يتكلَّم رمزاً، وكتيبةَ رمَّازة: أي لم يُسْمَعْ منه إلا رمْزٌ لكثرتِها" قلت: ويؤيِّدُ كونَه الصوتَ الخفي ـ كما قال الراغب ـ ما جاء في التفسيرِ أنه كان ممنوعاً من رفعِ الصوتِ.
والعامَّةُ قرؤوا: رَمْزاً بفتحِ الراءِ وسكونِ الميم. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس: "رُمُزاً" بضمِّهما وفيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدر على فُعْل بتسكينِ العينِ في الأصلِ، ثم ضُمَّتِ العينُ إتباعاً كقولهم: اليُسْر والعُسْر في: اليُسُر والعُسُر، وقد تقدَّم في هذا كلامٌ لأهلِ التصريف. والثاني: أنه جمعُ رَمُوز كرُسُل في جمع رسول، ولم يَذْكر الزمخشري غيره. وقال أبو البقاء: "وقُرِىء بضمِّها ـ أي الراء ـ وهو جمع رُمُزَة بضمتين، وأُقِرَّ ذلك في الجمعِ، ويجوز أَن يكونَ سَكَّن الميمَ في الأصل، وإنما أَتْبَعَ الضَّمَّ الضَّمَّ، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً غيرَ جمعٍ وضُمَّ إتباعاً كاليُسْر واليُسُر" قلت: قوله: "جمعُ رُمُزة" إلى قوله "في الأصل" كلام مُثْبَجٌ لا يُفْهَمُ منه معنًى صحيحٌ. وقرأ الأعمش: "رَمَزاً" بفتحِهِما. وخرَّجها الزمخشري على أنه جمعُ رامِزِ كخادِمِ وخَدَم.
وانتصابُهُ على هذا على الحالِ من الفاعِلِ وهو ضميرُ زكريا، والمفعولِ معاً وهو الناس كأنه: إلا مترامزين كقوله:
1274ـ متى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ * رَوانِفُ إليَتَيْكَ وتُسْتَطارا
/وكقوله:
(3/375)
---(1/1230)
1275، فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ * أيِّي وأيُّك فارسُ الأَحْزَابِ
قوله تعالى: {كَثِيراً} نعتٌ لمصدر محذوفٍ أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ وقد عُرِفَ. أو نَعْتٌ لزمانٍ محذوفٍ تقديرُهُ: ذِكْراً كثيراً أو زماناً كثيراً.
والباءُ في قوله: {بِالْعَشِيِّ} بمعنى "في" أي: في العشي والإِبكار. والعَشِيُّ يُقال من وقت زوال الشمس إلى مَغِيبِها، كذا قال الزمخشري. وقال الراغب: "العَشِيُّ: من زوال الشمس إلى الصباح" والأولُ هو المعروفُ. وقال الواحدي: "العَشِيُّ: جمع عَشِيَّة وهي آخر النهار".
والعامة قرؤوا: "والإِبكار" بكسر الهمزة، وهو مصدرُ بَكَّر يُبَكِّر إبكاراً أي: خرج بُكْرة، ومثله بَكَر بالتخفيف وابْتَكَر. قال عمر بن أبي ربيعة:
1276ـ أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ * ...................
فهذا من أَبْكر. وقال أيضاً:
1277ـ أيها الرائحُ المُجِدُّ ابتكاراً * ..................
وقال الآخر:
1278ـ بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ * فهنَّ ووادي الرَّسٍّ كاليدِ في الفم
وقُرىء شاذاً: "والأَبْكار" بفتح الهمزةِ، وهو جمعُ "بَكَر" بفتح الفاء والعين. ومتى أُريد به هذا الوقتُ من يومِ بعينِهِ امتنع من الصرف والتصرُّف فلا يُستعمل غيرَ ظرف. تقول: "أتيتُك يومَ الجمعة بَكَر"، وسببُ منع صرفه التعريفُ والعدلُ من "أل"، فلو أُريد به وقتُ مبهمٌ انصرفَ نحو: "أتيتكَ بَكَراً من الأبكار"، ونظيره: سَحَرَ وأَسْحار في جميعِ ما تقدَّم، وهذه القراءةُ تناسِبُ قولَه "العشيّ" عند مَنْ يَجْعَلُهَا جمعَ "عَشِيََّة" ليتقابَلَ الجمعان.
(3/376)
---(1/1231)
ووقتُ الإِبكارِ من طلوعِ الفجرِ إلى وقتِ الضُّحى وقال الراغب: "أصِلُ الكملةِ هي البُكْرَةُ أولَ النهارِ، فاشْتُقَّ من لفظِهِ لفظُ الفعل فقيل: بَكَر فلانٌ بُكوراً إذا خَرَجَ بُكْرة، والبَكُور: المبالغُ في البُكور، وبَكَّر في حاجته وابتَكَر وباكَرَ، وتُصُوِّر فيها معنى التعجيل لتقدُّمِها على سائِر أوقاتِ النهار، فقيل لكل متعجِّلٍ: بَكِر" قلت: ظاهرُ هذه العبارة ـ وكذا عبارةُ غيره ـ أنَّ البَكَرَ مختصٌّ بطلوعِ الشمسِ إلى الضحى، فإنْ أريد به من أول طلوعِ الفجر إلى الضحى، فإنه على خلاف الأصلِ. وقد صَرَّح الواحدي بذلك فقال: هذا معنى الإِبكار، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجرِ إلى الضحى إبكاراً كما يُسَمَّى إصْباحاً.
* { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ}: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ هذا الظرفَ نَسَقاً على الضرفِ قبلَه وهو قولُهُ: "إذا قالتِ امرأةُ عمران" وإنْ شِئْتَ جَعَلْته منصوباً بمقدَّر قاله أبو البقاء.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود وابن عمر: "وإذ قال الملائكة" دونَ تاءِ تأنيث، وتوجيهُ ذلك تقدَّم في {فَنَادَتْهُ الْمَلاائِكَةُ}. ومعمولُ القولِ الجلمةُ المؤكَّدَةُ بإنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ}، وكَرَّر الاصطفاءَ رفعاً مِنْ شأنِهِا.
قال الزمخشري: "اصطفاكِ أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أُمِّك ورَبَّاك واخْتَصَّكِ بالكرامَةِ السَّنِيَّة، واصطفاكِ آخِراً على نساءِ العالمين بأَنْ وَهَبَ لكِ عيسى من غَيْرِ أَبٍ ولم يكنْ ذلك لأحدٍ من النساء"
(3/377)
---(1/1232)
واصْطَفَى: افْتَعَلَ من الصَّفْوَة، أُبْدِلَتْ التاءُ طاء لأجلِ حرفِ الإِطْبَاقِ وقد تقدَّم تقريرُه في البقرة، وتقدَّم سببُ تعدِّية بـ"على"، وإن كان أصلُ تعديتِهِ بـ"مِنْ". وقال أبو البقاء: "وكَرَّ اصطفى: [إمَّا] توكيداً، وإمَّا ليبيِّن مَنِ اصطفاها عليهنَّ"، وقال الواحدي: "وكَرَّر الاصطفاءَ لأنَّ كِلا الاصطفائين يختلفُ معناهما، فالاصطفاء الأول عمومٌ يدخُل فيه صوالحُ النساءِ، والثاني اصطفاء بما اختصَّتْ به من خصائِصِها.
* { ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
قوله: {ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ}: يجوزُ فيه أوجه، أحدُهما: أَنْ يكونَ "ذلك" خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: الأمر ذلك. و"مِنْ أنباءِ الغيب" على هذا يجوزُ أن يكونَ مِنْ تتمةِ هذا الكلامِ حالاً من أسمِ الإِشارةِ، ويجوز ُ أنْ يكنَ الوقفُ على "ذلك"، ويكونُ "مِنْ أنباء الغيبِ" متعلِّقاً بما بعَده وتكونُ الجملةُ من "نوحيه" إذ ذاك: إمَّا مبينةً وشارحةً للجملةِ قبلَها وإمَّا حالاً.
الثاني: أن يكونَ "ذلك" مبتدأً، و"من أنباء الغيب" خبرَه والجملةُ من "نوحيه" مستأنفةً، والضميرُ في "نوحيه" عائدٌ على الغيب، أي: الأمرُ والشأنُ أنَّا نوحي إليك الغيبَ ونُعْلِمُك به ونُظْهِرُكَ على قصصِ مَنْ تقدَّمك مع عدمِ مدارستكِ لأهلِ العلمِ والإخبار، ولذلك أتى بالمضارع في "نُوحيه"، وهذا أحسنُ مِنْ عَوْدِهِ على"ذلك"؛ لأنَّ عَوْدَهُ على الغيبِ يَشْمَلُ ما تقدَّم من القصص وما لَم يتقدَّمْ منها، ولو أَعَدْتَه على "ذلك" اختصَّ بما مضى وتقدَّم.
(3/378)
---(1/1233)
الثالث: أن يكونَ "نوحيه" هو الخبرَ، و"من أنباء الغيب" على وجهيه المتقدِّمين مِنْ كَوْنِهِ حالاً من "ذلك" أو متعلِّقاً بنوحيه، ويجوز في وجهُ ثالثٌ على هذا/ وهو أَنْ يُجْعَلَ حالاً من مفعول "نوحيه" أي: نوحيه حالَ كونِهِ بعضَ أنباءِ الغيبِ.
قوله: {إِذْ يُلْقُون} فيه وجهان أحدُهما: وهو الظاهر أنه منصوب بالاستقرار العاملِ في الظرفِ الواقِعِ خبراً. والثاني ـ وإليه ذهب الفارسي ـ أنه منصوبٌ بكنت، وهو عجيبٌ منه لأنه يزعمُ أنّضها مسلوبةُ الدلالة على الحَدَثِ فكيف تعملُ في الظرفِ والظرفُ وِعاءٌ للأحداثِ؟ والذي يظهر أن الفارسي إنما جَوَّز ذلك بناءً منه على ما يَجُوزُ أَنْ يكونَ مراداً في الآية، وهو أَنْ تكونَ "كان" تامةً بمعنى: وما وُجِد في ذلك الوقتِ.
والضميرُ في "لديهم" عائدٌ على المتنازِعَيْنِ في مريم وإنْ لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ، لأنَّ السياقَ قَد دَلَّ عليهم، وهذا الكلامُ ونحوُه كقولِهِ تعالا: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوااْ أَمْرَهُمْ} وإن كانَ معلوماً انتفاؤه بالضرورةِ جارٍ مَجْرى التهكم بمنكري الوَحْي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تعاصِرْ أولئك ولم تُدَارِس أحداً في العلمِ فلم يَبْقَ اطلاعُك علهي إلا مِنْ جِهَةِ الوحي.
والأقلام جمع "قَلَم" وهو فَعَل بمعنى مفعول أي: مَقْلوم، والقَلْم القَطْع، ومثلُه القبض والنقص بمعنى المقروض والمنقوص، وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَمُ، ومنه "قَلَّمْتُ ظُفْرِي" أي: قَطَعْتُهُ وَسَوَّيْتُهُ، قال زهير:
1279ـ لدى أَسَدٍ شاكي السلاحِ مُقَذَّفٍ * له لِبَدٌ أضفارُهُ لمْ تُقَلَّمِ
وقيل: سُمِّي القلمُ قَلَماً تشبيهاً له بالقُلامَةِ وهي نبتُ ضعيف؛ وذلك أنه يُرَقَّق فيضْعُفُ. وفي المرادِ بالأقلام هنا خلافٌ: هل هي التي يُكْتَبُ بها أو قِداحُ يُسْتَهَمُ بها كالأزلام؟
(3/379)
---(1/1234)
قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} هذه الجملةُ منصوبةُ المَحَلِّ؛ لأنها متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعل في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُهُ: يُلْقونَ أقلامَهم يَنظُرون: أيُّهم يَكْفُل مريم أو يَعْلَمُون، وجَوَّز الزمخشري أن يُقَدَّر "يقولون"، فيكونَ محكياً به، ودَلَّ على ذلك قولُه: {يُلْقُون}. وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} كقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون}.
* { إِذْ قَالَتِ الْمَلاائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاائِكَةُ}: في هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدُهما: أن يكونَ منصوباً بيختصمون. الثاني: أنه بدلٌ من "إذ يختصمون" وهو قولُ الزجاج. وفي هذين الوجهين بُعْدٌ، من حيثُ إنه يلزمُ اتحادُ زمانِ الاختصامِ وزمانِ قولِ الكلام، ولم يَكنْ ذلك لأنَّ وقتَ الاختصامِ كان صغيراً جداً ووقتَ قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحيانٍ. وقد استْتَشْعَرَ الزمخشري هذا السؤالَ فأجابَ بأنَّ الاختصامَ والبِشَارةَ وقعا في زمان واسعٍ كما تقول: لَقِتُهُ سنةَ كذا: يعني أنَّ اللقاء إنما يقع في بعض السنةِ فكذا هذا. الثالث: أن يكونَ بدلاً من "إذ قالت الملائكة" أولاً، وبه بدأَ الزمخشري كالمختارِ له، وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفاصلِ بين البدلِ والمُبْدَلش منه. الرابع: نصبُه بإضمارِ فعلٍ.
والوَحْيُ: الإِشارةُ السريعةُ، ولتضمُّنِ السرعةِ قيل: "أمرٌ وَحْيٌ" وقيل: إلقاءُ معنى الكلام إلى مَنْ إعلامَهُ، والوحيُ يكونُ بالرمز والإِشارة قال:
1280ـ لأوْحَتْ إلينا والأنامِلُ رُسْلُها * .....................
وقولُه تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} أي: أشارَ إليهم، ويكن بالكتابَةِ، قال زهير:
(3/380)
---(1/1235)
1281ـ أتى العُجْمَ والآفاقَ منه قصائدٌ * بَقَيْنَ بقاءَ الوَحْي في الحَجَر الأَصَمَّ
ويُطْلَقُ الوَحْيُ على الشيءِ المكتوبِ، قال:
1282ـ فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّي رَسْمُها * خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
قيل: الوُحِيُّ جمعُ: وَحْي كَفَلْس وفُلُوس، وكُسِرَت الحاءُ إتباعاً. والوَحْيُ: الإِلهامُ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، والوَحي للرسل يكون بأنواع مذكورةٍ في التفسير.
قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} في محلِّ جرٍ صفةً لكلمة، والمرادُ بالكلمة هنا عيسى، وسُمِّيَ كلمةً لوجودهِ بها وهو قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبَّب. و"اسمه" مبتدأ، و"المسيح" خبرُهُ. و"عيسى" بدلٌ منه أو عطفُ بيان. قال أبو البقاء: "ولا يكونُ خبراً ثانياً لأنَّ تَعَدُّدُ الأخبارِ يُوجِبُ تعَدُّدَ المبدأ، والمبتدأُ هنا مفردٌ، وهو قولُه: "اسمهُ" ولو كان عيسى خبراً أخر لكان أسماه أو أسماه على تأنيث الكلمة" قلت: هذا على رأي، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب عيسى خبراً ثانياً، وأعرَبه بعضُهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عيسى، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في "عيسى"، ويجوز على الوجهِ الثالث وجهٌ رابعٌ وهو النصبُ بإضمار "أَعْني" لأنَّ كلَّ ما جازَ قَطْعُهُ رَفْعاً جازَ قطعُهُ نصباً.
والألفُ واللامُ في "المسيح" للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوَّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ، قال:
1283ـ باتَ يُقاسيها غلامٌ كالزَلَمْ * خَدَلَّجُ الساقَيْنِ ممسوحُ القَدَمْ
أو لِمَسْحِ وجهِهِ بالمَلاحة، قال:
1284ـ على وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ من مَلاحة * .......................
(3/381)
---(1/1236)
والثاني: أنَّ وَزْنَهُ مَفْعِل من السياحةِ وعلى هذا كله فهو منقولٌ من الصفة. وقال أبو عبيد: أصلُه بالعبرانية: "مسيخاً" فَغُيِّر، قال الشيخ:
"فعلى هذا يكونُ/ اسماً مرتجلاً ليس مشتقاً من المَسْح ولا من السِّياحة" قلت: قولُه "ليس مشتقاً" صحيحٌ، ولكنْ لا يَلْزَمُ من ذلك أن يكونَ مرتجلاً ولا بُدَّ، لاحتمالِ أن يكونَ في لغتِهِم منقولاً من شيء عندهم.
وأتى بالضمير في قوله: "اسمُه" مذكَّراً وإنْ كان عائداً على الكلمة مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بها مذكر.
و"ابنُ مريم" يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لعيسى، قال ابن عطية: "وعيسى خبرُ مبتدأٍ محذوف، ويَدْعُوا إلى هذا كونُ قولِهِ "ابنُ مريم" صفةً لعيسى، إذ قد أَجْمَعَ الناسُ على كَتْبِه دونَ ألفٍ، وأمَّا على البدل أو عطفِ البيان فلا يجوزُ أن يكونَ "ابنُ مريم" صفةً لعيسى، لأنَّ الاسمَ هنا لم يُرَدْ به الشخصُ. هذه النزعةُ لأبي عليّ، وفي صدرِ الكلام نظَرٌ" انتهى. قلتُ: فقد حَتَّمَ كونَه صفةً لأجلِ كَتْبِهِ بدونِ ألف، ثم قال: "وأمَّا على البدلِ أو عطفِ البيان فلا يكونُ ابنُ مريم صفةً لعيسى" بعني بدلَ عيسى من المسيح، فَجَعَلَهُ غيرَ صفةٍ له مع وجودِ الدليلِ الذي ذكره وهو كتَتْبُه بغير ألف.
وقد مَنَعَ أبو البقاء أن يكونَ "ابنُ مريم" بدلاً أو صفة لعيسى قال: "لأنَّ ابنَ مريم ليس باسمٍ، ألا ترى أنَّك لا تقولُ: "هذا الرجلُ ابنُ عمرو" إلا إذا كان قد عَلِقَ عليه علماً" قلت: وهذا التعليلُ الذي ذكره إنما ينهَضُ في عَدَمِ كَوْنِهِ بدلاً، وأمَّا كونُه صفةً فلا يمنعُ ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونُه صفةً، إذ يصيرُ في حكمِ الأعلامِ، والأعلامُ لا تُوصَفُ به، ألا ترى أنك إذا سَمَّيْتَ رجلاً بابن عمرو امتنعَ أن يقَع "ابن عمرو" صفةً والحالُة هذه.
(3/382)
---(1/1237)
وقال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ قيل: اسمُ المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثةُ أشياءَ: الاسمُ منها عيسى، وأمَّا المسيحُ والابنُ فَلَقَبٌ وصفةً. قلت: الاسمُ للمُسَمَّى علامةٌ يُعْرَفُ بها ويتميَّز مِنْ غيرِه، فكأنه قيل: الذي يُعْرف ويتميَّز مِمَّن سواه بمجموعِ هذه الثلاثةِ" انتهى فَظَهَرَ من كلامِهِ أَنَّ مجموعَ الألفاظ الثلاثةِ إخبار عن اسمِهِ، بمعنى أنَّ كلاً منها ليس مستقلاً بالخبرية بل هو من باب: هذا حلوٌ حامِض، وهذا أَعْسَرُ يَسَرٌ ونظيرُهُ قولُ الشاعر:
1285ـ كيف أصبحْتَ كيف أمسَيْتَ مِمَّا * يزرعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريمِ
أي: مجموعُ كيف أصبحْتَ، وكيف أمسيْتَ، فكما جاز تعدُّدُ المبتدأ لفظاً مِنْ غيرِ عاطف والمعنى على المجموعِ فكلذلك في الخبرِ، وقد أَنْشَدْتُ عليه أبياتاً كقوله:
1286ـ .................. فهذا بَتِّي * مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي
وقد زعم بعضُهم أنَّ "المسيح" ليس باسمِ لقبٍ له بل هو صفةٌ كالضارب والظريف، قال: "وعلى هذا ففي الكلام تقديمُ وتأخيرٌ، إذا المسيح صفة لعيسى والتقدير: اسمُه عيسى المسيحُ:. وهذا لا يجوزُ، أعني تقديمَ الصفةِ على الموصوفِ، لكنه يعني هو صفةٌ له في الأصل، والعربُ إذا قَدَّمَتْ ماهو صفةٌ في الأصل جَعَلوه مبنيَّاً على العاملِ قبلَه وجعلوا الموصوفَ بدلاً مِنْ صفتِهِ في الأصلِ نحو قولِه:
1287ـ وبالطوِيلِ العمْر * عُمْراً حَيْدَرا
الأصل: وبالعمرِ الطويلِ، هذا في المعارف، وأمَّا في النكراتِ فينصِبون الصفةَ حالاً.
(3/383)
---(1/1238)
وقال الشيخ: "ولا يَصِحُّ أَنْ يكون "المسيح" في هذا التركيب صفةً لأن المُخْبَرَ به على هذا لُفِظَ، والمسيحُ من صفةِ المدلولِ لا من صفةِ الدالِّ، إذ لفظُ عيسى ليس المسيح، ومَنْ قال: إنهما اسمان قال: فَقُدِّمَ المسيحُ على عيسى لشهرتِهِ. قال ابن الأنباري: "وإِنَّما قُدِّمَ ـ بُدِىء بلقبه ـ لأن المسيحَ أشهرُ من عيسى لأنه قَلَّ أن يقعَ على سُمَىً يَشْتَبِهُ به، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدَّمه لشهرتِهِ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهرُ من أسمائِهِم"، فهذا يَدُلُّ على أنَّ المسيحَ عند ابن الأنباري [لقبٌ] لا اسمٌ. وقال أبو إسحاق: "وعيسى مُعَرَّبٌ من أَيْسوع وإنْ جَعَلْتَه عربياً لم تَصْرِفْهُ في معرفةٍ ولا نكرةٍ، لأنَّ فيه ألفَ التأنيث، ويكون مشتقاً مِنْ عاسَه يَعُوسه إذا سَاسَه، وقام عليه"، وقال الزمخشري: "ومُشْتَقُّهُما ـ يعني المسيح وعيسى ـ من المَسْح والعَيْس كالراقمِ على الماء". وقد تقدَّم الكلامُ على عيسى ومريم واشتقاقِهما وما ذَكَرَ الناسُ في ذلك في سورة البقرة فَأَعْنى عن إعادته.
قوله: {وَجِيهاً} حالٌ وكذلك قولُه: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
* { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }
(3/384)
---(1/1239)
قولُه: {وَيُكَلِّمُ} وقوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذه أربعةُ أحوالٍ انتصبَتْ عن قوله "بكلمة"، وإنما ذَكَّره الحالَ حَمْلاً على المعنى، إذ المرادُ بها الولَدُ والمُكَوَّن، كما ذكَّر الضميرَ في "اسمهُ"، فالحالُ الأولى جِيء بها على الأصلِ اسماً صريحاً، والباقيةُ في تأويِلِه: فالثانيةُ جار ومجورو، وأُتِيَ بها هكذا لِوُقوعِها فاصلةً في الكلامِ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً لفاتَ مناسبةٌ الفواصلِ، والثالثة/ جملةٌ فعليةٌ، وعطفُ الفعلِ على الاسمِ لتأويله به وهو كقولِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أي: وقابضاتٍ، ومثلُه في عَطْفِ الاسمِ على الفعلِ لأنه في تأويلِهِ قولُ النابغة:
1288ـ فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّه * وبَحْرَ عطاءٍ يَسْتَخِفُّ المعابِرا
ويقرب منه:
1289ـ باتَ يُغَشِّها بعَضْبٍ باتِرٍ * يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ
(3/385)
---(1/1240)
إذ المعنى: مبيراً عدوَّو، وقاصدٍ، وجاءَ بالثالثةِ فعليةً لأنَّها في رتبتِها، إذ الحالُ وصفٌ في المعنى، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع صفاتُ مختلفة في الصراحةِ والتأويلِ قُدِّم الاسمُ ثم الظرفُ أو عديلُه ثم الجملةُ، فكذا فَعَل هنا، قَدَّم الاسمَ وهو "وجيهاً" ثم الجارَّ والمجرورَ ثم الفعلَ، وأتى به مضارِعاً لدلالتِهِ على التجدُّد وقتاً فوقتاً، بخلافِ الوجاهةِ فإنَّ المرادَ ثبوتُها واسقرارُها والاسمُ مكتفِّلٌ بذلك، والجارُّ قريبٌ من المفردِ فلذلك ثَنَّى به إذا المقصودُ ثبوتُ تقريبه. والتضعيفُ في "المقرَّبين" للتعديةِ لا للمبالغةِ لِمَا تقدَّم من أنَّ التضعيفَ للمبالغةِ لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أَكْسَبَهُ مفعولاً كما ترى بخلافِ: "قَطَّعْتُ الأثوابَ" فإنَّ التعدِّيَ حاصلٌ قبلَ ذلك، وجيء بالرابعةِ بقوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} مراعاةً للفاصلةِ كما تقدَّم في "المقرَّبين" والمعنى: أنَّ الله يُبَشِّركِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.
وَمَنَع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من المسيح أو من عيسى أو من ابن مريم، قال: "لأنها أخبارٌ والعاملُ فيها الابتدأُ أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يَعْمَلُ في الحال" وَمَنَع أيضاً كونَها حالاً من الهاء في "اسمُه" قال: "للفصلِ الواقِعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال" قلت: ومذهبُهُ أيضاً أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المضافِ إليه وهو مرادُهُ بقولِهِ: "ولعدمِ العاملِ" وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالصفةِ بعدَها. وظاهرُ كلامِ الواحدي فيما نقلَهُ عن الفراء، أنه يجوزُ أن تكونَ أحوالاً من عيسى بإنَّه قال: "والفراء يُسَمِّي هذا قطعاً كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيهَ، قَطَعَ منه التعريفَ" فظاهِرُ هذا يُؤْذِنُ بأنَّ "وجيهاً" من صفة عيسى في الأصل فَقُطِعَ عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى.
(3/386)
---(1/1241)
قوله: {فِي الدُّنْيَا} متعلق بوجيهاً، لِما فيه من معنى الفعل. والوجيه: ذو الجاه وهو القوة والمَنَعَةُ والشرف، يقال: وَجُه الرجلُ يَوْجُه وَجَاهَةً، واشتقاقُهُ من الوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ، والجاه مقلوبٌ منه فوزنُه عَفَل.
وقوله تعالى: {فِي الْمَهْدِ}: يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: ـ وهو الظاهرُ ـ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الضميرِ في "يُكَلِّم" ِأي: يكلِّمُهم صغيراً وكهلاً، فَكَهْلاً على هذا نَسَقٌ على هذه الحالِ المؤولةِ.
والثاني: أنه ظرفٌ للتكليم كسائرِ الفَضَلات، فَكَهْلاً على هذا نسق على وجيهاً فعلى هذا يكون خمسةُ أَحوالٍ.
والكَهْلُ: مَنْ بَلَغَ سنَّ الكهولةِ وأولُها ثلاثون، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثُ وثلاثون. وقيل: أربعون، وآخرُها ستون، ثم يدخُلُ في سن الشيخوخة واشتقاقه مِنْ اكْتَهَلَ النبات: إذا علا وَأَرْبَعَ، ومنه: الكاهلُ، وقال صاحب المُجْمل: "اكتهل الرجلُ: وخَطه الشيب من قولهم: اكْتَهلت الروضةُ إذا عَمَّها النُّوْر، والمرأةُ: كَهْلَة". وقال الراغب: "والكَهْلُ مَنْ وَخَطَه الشيبُ، واكتهلَ النبات: إذا شارف اليَبُوسة مشارَفَةَ الكَهْلِ الشيبَ، وأنشد قولَ الأعشى في وصفِ روضة:
1290ـ يُضاحِكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ * مُؤَزَّرٌ بعميمِ النبتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدَّم الكلامُ في تنقُّلِ أحوالِ الوَلَد من لَدُنْ كونِهِ في البطن إلى شيخوختِهِ عند ذِكْرِ "غُلام" فلا نُعِيدُه.
(3/387)
---(1/1242)
وقال بعضُهم: "ما دَامَ في بَطْنِ أمه فهو جنينٌ، فإذا وُلِدَ فَوليد، فإذا لم يَسْتَتِمَّ الأسبوع فصديعٌ، وما دام يَرْضَعُ فَهُوَ رضيع، ثم هو فطيم عند الفِطام، وإذا لم يَرْضَع فَمَحوش، فإذا دَبَّ فدارج، فإذا سقطت رواضعُه فَثَغُور، فإذا نَبَتَتْ بعد إسقاطِهِ فَمَثْغور ومَتْغور، فإذا جاوَزَ العشرَ فمترعرعٌ وناشِىء، فإذا لم يبلُغ الحُلُمَ فيافعٌ ومراهق، فإذا احتلَمَ فَحَزُوُّزٌ، والغلامُ يُطْلَقُ عليه في جميعِ أحوالِهِ بعد الولادة، فإذا اخضرَّ شاربُهُ وسالَ عِذارُهُ فباقِلٌ، فإذا صارَ ذا لحيةٍ ففَتِيٌّ وشارِخٌ، فإذا مَا كَمَلَتْ لحيته فمتَجَمِّع،ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب، ومن الأربعين إلى ستين كهل" ولأهلِ اللغةِ عباراتٌ مختلفة/ في ذلك، هذا أشهرُها.
فإنْ قيل: [المُسْتَغرَبُ إنما هو كلامُ الطفلِ في] المهدِ، وأمَّا كلامُ الكهولِ فغيرُ مُسْتَغرَبٍ، فالجوابُ أنهم قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المَهْدِ وعاش، أو لم يتكلَّمْ أصلاً بل يبقى أخرسَ أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأنَّ هذا يتكلم طفلاً ويعيشُ ويتكلم في حالِ كهولته، ففيه تطمينٌ لخاطِرها بما يخالِفُ العادةَ. وقال الزمخشَري: "بمعنى يُكلِّمُ الناسَ طفلاً وكهلاً، ومعناهُ يُكَلِّمُ الناسَ في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ من غير تفاوتٍ بين الحالتين: حالةِ الطفولة وحالةِ الكُهولة".
والمَهْدُ: ما يُهَيَّأُ للصبي أَنْ يُرَبَّى فيه، مِنْ مَهَّدْتُ له المكانَ أي: وَطَّأْته وَلَيَّنْتُه له، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ أصلُه المصدرَ، فَسُمِّيَ به المكانُ، وأن يكونَ بنفسِه اسمَ مكانٍ غيرَ مصدرٍ، وقد قُرِيءَ مَهْداً ومِهاداً في طه كما سيأتي.
* { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
(3/388)
---(1/1243)
وقوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}: قد تقدَّم إعرابُ هذه الجملِ في قصةِ زكريا فلا معنى لإعادتِهِ إلاَّ أنَّ هناك "يَفْعل ما يشاء" وهنا "يَخْلُق" قيل: لأنَّ قصتَّها أغربُ من قصتِهِ، وذلك أنه لم يُعْهَدْ ولدٌ مِنْ عذراءَ لم يَمَسَّها بشرٌ البَتَة، بخلافِ الولدِ بينَ الشيخِ والعجوزِ فإنه مستبعدٌ، وقد يُعْهَدُ مثلُه وإنْ كان قليلاً، فلذلك أتى بيخلُق المقتضي الإِيجادَ والاختراعَ من غيرِ إحالةٍ على سببٍ ظاهر، وإن كانتِ الأشياءُ كلُّها بخَلْقِهِ وإيجادِهِ وإنْ كان لها أسبابٌ ظاهرةٌ.
والجملةُ من قولِهِ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} حاليةٌ. [والبَشَرُ في الأصلِ مصدرٌ كالخَلْق، ولذلك يَسْتوي فيه] المذكرُ والمؤنثُ والمفَردُ والمثنى والجموعُ، تقولُ: هذه بَشَرٌ، وهذان بَشَرٌ، وهؤلاء بشر، كقولك: هؤلاء خَلْق. قيل: [واشتقاقُهُ من البَشَرة وهو ظاهرُ الجِلْد، لأنه الذي من شأنِهِ أَنْ يَظْهَرَ الفرحُ] والغَمُّ في بَشَرَتِهِ. "ويكون" يَحْتَمِلُ التمامَ والنقصَانَ، وقد تقدَّم تحريرُه، وتقدَّم أيضاً اختلاف القراء في "فيكون" وما ذُكِرَ في توجيهِه.
* { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }
(3/389)
---(1/1244)
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ}: قرأ نافع وعاصم: "ويُعَلِّمُه" بياء الغَيْبَة، والباقون بنونِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه، وعلى كلتا القراءتين ففي محلِّ هذه الجملة أوجهٌ، أَحَدُها: أنها معطوفةٌ على "يُبَشِّرُكِ" أي: إن الله يبشرك بكلمُة ويُعَلِّمُ ذلك المولودَ المعبَّرَ عنه بالكملةِ. الثاني: أنها معطوفةٌ على "يَخْلُق" أي: كذلك اللهُ يَخْلُ ما يشاء ويعلمه، وإلى هذين الوجهين ذهب جماعةٌ منهم الزمخشري وأبو عليّ الفارسي. وهذا الوجهان ظاهران على قراءة الياء. وأمَّا قراءةُ النون فلا يظهرُ هذان الوجهان عليها إلا بتأويلِ الالتفاتِ من ضمير الغَيْبة إلى ضميرِ المتكلم إيذاناً بالفخامةِ والتعظيم. فأمَّا عطفُهُ على "يُبَشِّرُكِ" فقد استبعَدَه الشيخ جداً قال: "لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه" وأمَّا عطفُه على "يَخْلُق" فقال الشيخ: "وهو معطوفٌ عليه سواءً كانت ـ يعني يخلق ـ خبراً عن اللهِ تعالى أم تفسيراً لما قبلها، إذا أَعْرَبْتَ لفظ "الله" مبتدأً، وما قبلَه الخبرُ" يعني أنه قد تقدَّم في إعرابِ "كذلك اللهُ" في قصة زكريا أوجهٌ أحدُها: ما ذَكر، فـ"يُعَلِّمُه معطوفٌ على "يَخْلُق" بالاعتبارينِ المذكورينِ، إذ لا مانعَ من ذلك. وعلى هذا الذي ذكرَه الشيخُ وغيرُه تكون الجملةُ الشرطيةُ معترضةً بين المعطوفِ والمعطوف عليه، والجملةُ من "يُعَلِّمُهُ" في الوجهينِ المتقدِّمين مرفوعةُ المحلِّ لرفعِ محلِّ ما عَطَفَتْ عليه.
الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على "يُكَلِّمُ" فيكون منصوباً على الحالِ، والتقديرُ: يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ مُكَلِّماً ومُعَلِّماً الكتابَ، وهذا الوجهُ جَوَّزه ابنُ عطية وغيره.
(3/390)
---(1/1245)
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على "وجيهاً" لأنه في تأويلِ اسمٍ منصوب على الحالِ، كما تقدَّم تقريرُهُ في قوله: "ويكلِّم". وهذا الوجهُ جَوزَّه الزمخشري واستبعدَ الشيخُ هذين الوجهين الأخيرين ـ أعني الثالث والرابع ـ قال: لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ومثلُه لا يُوجَدُ في لسانِ العرب".
الخامس: أَنْ يَكُون معطوفاً على الجملةِ المحكية بالقولِ، وهي: "كذلك الله يخلق" قال الشيخ: "وعلى كلتا القراءتين هي معطوفةٌ على الجملةِ المَقُولَةِ، وذلك أنَّ الضميرَ في قوله: "قال كذلك" الله تعالى، والجملةُ بعدَه هي المقولةُ، وسواءً كانَ لفظُ "الله" مبتأً خبرُهُ ما قبلَه أم مبتدأً وخبرُه "يَخلق" على ما مَرَّ إعرابُهُ في "قال: كذلك اللهُ يفعل ما يشاء" فيكونُ هذا من المقولِ لمريم على سبيلِ الاغتباطِ والتبشيرِ بهذا الولدِ الذي يُوجِدُهُ اللهُ منها.
(3/391)
---(1/1246)
السادس: أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له من الإِعراب، قال الزمخشري بعد أَنْ ذَكَرَ فيه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "نبشِّرك" أو "يَخْلُق" أو "وجيهاً": "أو هو كلامٌ مبتدأٌ" يعني مستأنفاً. قال الشيخ: "فإنْ عنى أنه استنئافُ إخبار من الله أوعن الله على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوتُ الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون اتبداء كلام، إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في "ويُعَلِّمه" فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكونَ ابتداءَ كلام، وإنْ عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر فكان ينبغي أن يبيِّن ما عُطِفَ عليه، وأن يكونَ الذي عُطِفَ عليه ابتداءَ كلامٍ حتى يكونَ المعطوفُ كذلك" قلت: وهذا الاعتراضُ غيرُ لازمٍ لأنه يلزم مِنْ جَعْلِهِ كلاماً مستأنفاً أَنْ يُدَّعَى زيادةُ الواو، ولا انه لا بد من معطوف عليه، لأنَّ النحْويين وأهلَ البيان نَصُّوا على أن الواو تكون للاستئناف، بدليلِ أنَّ الشعراءَ يأتونَ بها في أوائلِ أشعارهم من غير تقدُّم شيء يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعارُ مشحونةٌ/ بذلك، ويُسَمُّونَها واوَ الاستئنافِ، ومَنْ مَنَع ذلكَ قَدَّر أنَّ الشاعِرَ عَطَفَ كلامه على شيء مَنْوِيٍّ في نفسهِ، ولكنَّ الأولَ أشهرُ القولين.
(3/392)
---(1/1247)
وقال الطبري: "قراءةُ الياءِ عَطْفٌ على قولِهِ "يَخْلُقُ ما يشاء"، وقراءةُ النونِ عطفٌ على قولِهِ "نُوحِيه إليك". قال ابن عطية: "وهذا القولُ الذي قاله في الوجهين مُفْسِدٌ للمعنى" ولم يبيِّن أو محمد جهةَ إفسادِ المعنى: قال الشيخ: "أمَّا قراءة النونِ فظاهِرٌ فسادٌ عطفِهِ على"نُوحيه" من حيثُ اللفظُ ومن حيثُ المعنى: أمَّا من حيث اللفظُ فمثلُه لا يَقْعُ في لسانِ العرب لبُعْدِ الفصلِ المُفْرِطِ وتعقيدِ التركيبِ وتنافرِ الكلامِ، وأمَّا من حيث المعنى فإنَّ المعطوفَ بالواوِ شريكُ المعطوف عليه فيصيرُ المعنى بقوله: {ذلك من أنباء الغيب} أي: إخبارُك يا محمد بقصةِ امرأةِ عمران وودلاتِها لمريم وكفالتِها زكريا، وقصتُه في ولادةِ يَحْيى له وتبشيرُ الملائكةِ لمريمَ بالاصطفاءِ والتطهيرِ، كلُّ ذلك مِنْ أخبارِ الغيب نُعَلِّمه، أي: نُعَلِّم عيسى الكتابَ، فهذا كلامٌ لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله. وأمَّا قراءةُ الياءِ وعطفُ "ويعلِّمه" على "يَخْلُق" فليست مُفسِدَةً للمعنى، بل هو أَوْلَى وأَسَحُّ ما يُحْمل عليه عَطْفُ "ويُعَلِّمه" لقرب لفظِهِ وصحةِ معناه، وقد ذَكَرْنَا جوازَهُ قبلُ، ويكونُ الله أَخْبَرَ مريمَ بأنه تعالى يَخْلُقُ الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادةُ بمثلِها مثلَ ما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه تعالى يُعَلِّم هَذا الولدَ الذي يَخْلُقه ما لم يُعَلِّمه مَنْ قَبْلَه مِن الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل، فيكونُ في هذا الإِخبار أعظمُ تبشيرٍ لها بهذا الولدِ وإظهارٌ لبركته، وأنه ليس مُشْبِهاً أولادَ الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالِفٌ لهم في أصلِ النشأةِ، وفيما يُعَلِّمه تعالى من العلمِ، وهذا يَظْهَرُ لي أنه أحسنُ ما يُحْمَلُ عَطْفُ "ويُعَلِّمه". انتهى.
(3/393)
---(1/1248)
وقال أبو البقاء: "ويُقْرَأُ بالنونِ حَمْلاً على قولِهِ: {ذلك من إنباءِ الغيب نُوحيه إليك}، ويُقْرَأُ بالياءِ حَمْلاً على "يُبَشِّرك" وموضعُهُ حالٌ معطوفَةٌ على "وجيهاً". قال الشيخ: "وقالَ بعضُهم: ونُعَلِّمُه بالنون حَمْلاً على "نُوحيه". إنْ عنى بالحَمْلِ العطفَ فلا شيءَ أبعدُ من هذا التقديرِ، وإنْ عنى بالحَمْل أنه من بابِ الالتفاتِ فهو صحيح". قلت: يتعيَّن أَنْ يَعني بقولِهِ "حَمْلاً" الالتفاتَ ليس إلا، ولا يجوز أنْ يَعْني به العطفَ لقوله: "وموضعُهُ حالٌ معطوفةٌ على "وجيهاً" كيف يَسْتقيم أن يريدَ عطفَهُ على "نبشرك" أو "نوحيه" مع حُكْمِه. عليه بأنه معطوفٌ على "وجيهاً"؟ هذا ما لا يَسْتقيم أبداً.
* { وَرَسُولاً إِلَى بَنِيا إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيا أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَرَسُولاً }: في "رسول" وجهان، أحدُهما: أنه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبور والشكور. والثاني: أنه في الأصلِ مصدرٌ، ومن مجيءِ "رسول" مصدراً قولُه:
1291ـ لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم * بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
أي: برسالة، وقال آخر:
1292ـ أُبَلِّغْ أبا سلمى رسولاً تَرُوعه * ......................
أي: أُبَلِّغُه رسالةً، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على أحدِ التأولين، أي: إنَّا ذوا رسالةِ رب العالمين، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب "رسول":
(3/394)
---(1/1249)
فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على "يُعَلِّمه" إذا أعربناه حالاً معطوفاً على "وجيهاً" إذ التقديرُ: وجيها ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً، قاله الزمخشري وابن عطية. قال الشيخ: "وهو مَبْنِيٌّ على إعراب "ويُعَلِّمه"، وقد بَيَّنَّا ضعفَ إعرابِ مَنْ يقولُ إنَّ "ويُعَلِّمه" معطوفلإ على "وجيهاً" للفصلِ المُفْرِطِ بين المتعاطِفَيْن".
الثاني: أن يكونَ نسقاً على "كَهْلاً" الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في "ويُكَلِّم" أي: يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل، جَوَّز ذلك ابنُ عطية. واستبعده الشيخُ لطولِ الفصلِ بين المعطوف والمعطوف عليه. قلت: ويظهرُ أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم، وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ، فإن قيل: هي حالٌ مقدَّرة كقولهم: "مررت برجل معه صقرٌ صائداً به غداً" وقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، قيل: الأصلُ في الحالِ أن تكونَ مقارنةً،ولا تكونُ مقدرةً إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بعفلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديرُه: ونجعلُه رسولاً، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} وقوله:
1293ـ يا ليتَ زوجَك قد غدا * متقلِّداً سيفاً ورمحا
وقول الآخر:
1294ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً باردا * ....................
وقوله:
1295ـ .................... * وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومتعقلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً بارداً، وكَحَّلْنَ العيونَ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ "رسول"، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى.
(3/395)
---(1/1250)
الخامس: أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم. ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري، قاله رحمه الله: "فإن قلت: علامَ تَحْمِلُ "ورسولاً ومصدقاً" من المنصوبات المتقدمة، وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و{لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} يأبى حَمْلَه عليها. قلت: هو من المُضايِق، وفيه وجهان، أحدهما: أن تُضْمِرَ له "وأُرْسِلْتُ" على إرادة القول، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول: أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ. والثاني: أن الرسول والمُصَدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يديّ" انتهى.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أنَّ ما قبله / من المنصوبات لا يَصِحُّ عطفُه عليه في الظاهر؛ لأنَّ الضمائر المقتدمة غيبٌ، والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم، فاحتاج إلى ذلك التقدير للتناسَبَ الضمائرُ. قال الشيخ: "وهذا الوجهُ ضعيفٌ؛ إذ فيه إضمارُ شيئين: القولِ ومعمولهِ الذي هو "أُرْسِلْتُ"، والاستغناءُ عنهما باسم منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذ يُفْهَمُ من قوله "وأُرْسِلْتُ" أنه رسولٌ فهي حال مؤكِّدة". واختار الشيخُ الوجَه الثالث قال: "إذ ليس فيه إلا إضمارُ فعلٍ يَدُلُّ عليه المعنى، ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولاً لرسول أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة ِ الجمهور.
السادس: أن يكونَ حالاً من مفعولِ "ويُعَلِّمه" وذلك على زيادة الواو، كأنه قيل: ويُعَلِّمه الكتابَ حالَ كونِه رسولاً، قاله الأخفش، وهذا على أصلِ مذهبهِ من تجويزِه زيادةَ الواوِ، وهو مذهبُ مرجوحٌ.
(3/396)
---(1/1251)
وعلى الثاني في نصبِه وجهان، أنه مفعولٌ به عطفاً على المفعولِ الثاني ليُعَلِّمه أي: ويُعَلِّمه الكتابَ ورسالةً أي: يعلمه الرسالة أيضاً، والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، وفيه التأويلاتُ المشهورةُ في : رجلٌ عَدْلٌ.
وقرأ اليزيدي: "ورسولٍ" بالجر، وخَرَّجها الزمخشري على أنها منسوقةٌ على قوله: "بكلمة" أي: نبشِّرك بكلمة وبرسولٍ. وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفصلِ بين المتعاطِفَيْنِ، ولكن لا يَظْهَر لهذه القراءةِ الشاذة غيرُ هذا التخريجِ.
وقوله: {إِلَى بَنِيا إِسْرَائِيلَ} فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّقَ بنفس "رسولاً" إذ فعلُه يتعدَّى بإلى، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لرسولاً، فيكونَ منصوبَ المحلِّ في قراءةِ الجمهور، مجروره في قراءة اليزيدي.
فقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} قرأ العامة: "أني" بفتح الهمزة وفيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُهما: أنَّ موضعَها جر بعد إسقاطِ الخافض، إذ الأصل: بأني، فـ"بأني" متعلِّقٌ برسولاً، وهذا مذهبُ الشيخين: الخليلِ والكسائي.
والثاني: أن موضعَها نصبٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، الأول: أنه نصبٌ بعد إسقاط الخافض، وهو الباء، وهذا مذهب التلميذين: سيبويه والفراء. والثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر أي: يذكر أني، فيذكرُ صفةٌ لرسولاً، حُذِفَتِ الصفةُ وبقي معمولُها. الثالث: أنه منصوب على البدل من "رسولاً" أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ ويعلِّمه أني قد جئتكم، جَوَّزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى.
الثالث: من الأوجِهِ الأُوَلِ: أنَّ موضعَه رفعٌ على خبرِ متبدأٍ محذوفٍ أي: هو أني قد جِئْتُكم.
(3/397)
---(1/1252)
وقرأ بعضُ القرَّاء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان، أحدهما: أنها على إضمارِ القول أي: قائِلاً إني قد جئتكم، فَحَذَفَ القولَ الذي هو حالٌ في المعنى وأَبْقَى معمولَه. والثاني: أن "رسولاً" بمعنى ناطِق، فهو مُضَمَّنٌ معنى القول، وما كان مُضَمَّناً معنى [القول] أُعْطِي حكمَ القولِ، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وقوله: {بِآيَةٍ} يُحتمل أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حالٌ من فاعل "جئتكم" أي: جِئْتُكم ملتبساً بآية. والثاني: أنها متعلقةُ بنفسِ المجيءِ ِأي: إجاءَتَكم الآية. وقوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفةٌ لآية فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بآيةٍ من عند ربكم، فـ"مِنْ" للابتداءِ مجازاً، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ "من ربكم" بنفسِ المجيء أيضاً. وقَدَّر أبو البقاء الحال في قولِه {بِآيَةٍ} بقوله: محتجَّاً بآية، إنْ عَنَى من جهةِ المعنى صَحَّ، وإن عَنَى من جهة الصناعةِ لم يَصِحَّ، إذ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكنِ إلا الأكوان المطلقةُ.
وقرأ الجمهور: "بآيةٍ" بالإِفرادِ في الموضِعَيْن، وابن مسعود: "بآياتٍ" جمعاً في الموضعين.
(3/398)
---(1/1253)
قوله: {أَنِيا أَخْلُقُ} قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها. فالكسرُ من ثلاثة أوجه، الأول: على إضمارِ القولِ أي: فقلت: إني أخلق. الثاني: أنه على الاستئناف. الثالث: على التفسير، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه: "بآية" كأنَّ قائِلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال هذا الكلامَ، ونظيرُه ما سيأتي: "إنَّ مثل عيسى عند اللهِ كمثلِ آدمَ" ثم قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} فخلقه مفسرةٌ للمثل، ونظيرُه أيضاً قولُه تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ثم فَسَّر الوعدَ بقولِه: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ}، وهذا الوجهُ هو الوجه الصائرُ إلى الاستئنافِ، فإنَّ المستأنَفَ يُؤْتى به تفسيراً لما قبله، إلا أنَّ الفرقَ بينه وبين ما قبله أنّ الوجهَ الذي قبلَه لا تَجْعَلُ له تعلُّقاً بما تقدَّم التبةَ، بل جيء به لمجردِ الإِخبارِ بما تضمَّنه، والوجه الثالث تقول: إنه متعلِّقٌ بما تقدَّمه، مُفَسِّر له.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها: أنها بدلٌ من "أني قد جئتكم" فيجيءُ فيها ما تقدَّم في تلك لأنَّ حكمَها حكمُها. الثاني: أنها بدلٌ من "آية" فتكونُ محلِّها، أي: وجئتكم بأني أخلقُ لكم، وهذا نفسُه آيةٌ من الآيات، وهذا البدلُ يَحْتمل أن يكونَ كلاً مِنْ كل إنْ أُريد بالآية شيءٌ خاص، وأَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ من كل إنْ أُريد بالآيةِ الجنس. الثالث: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: هي أني أخلق أي: الآيةُ التي جئت بها أني أخلُقُ، وهذه الجملةُ في الحقيقةِ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأن قائلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال: ذلك. الرابعُ: أن تكونَ منصوبةً بإضمارِ فعلٍ، وهو أيضاً جوابٌ لذلك السؤالِ كأنه قال: أعني أنِّي أخلق، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءةَ نافع على بعضِ الوجوهِ فإنهما استئناف.
(3/399)
---(1/1254)
و"لكم" متعلِّقٌ بأخلُقُ، واللامُ للعلة، أي: لأجلكم بمعنى: لتحصيل إيمانِكم ودَفْعِ تكذيبِكم إياي، وإلاَّ فالذواتُ لا تكونُ عِلَلاً بل أحداثُها. و"من الطين" متعلقٌ به أيضاً، و"مِنْ" لابتداءِ الغاية، وقولُ مَنْ قال: إنها للبيان" تساهلٌ، إذ لم يَسْبِقْ منهم تبيُّنه.
قوله: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} في موضع هذه الكافِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها نعتٌ لمفعول محذوف تقديره: أني أخلُق لكم هيئةً مثلَ هيئةِ الطير، والهيئةُ: إمَّا مصدرٌ في الأصل/ ثم أُطْلِقَتْ على المفعولِ أي المُهَيّأ كالخَلْق بمعنى المخلوق، وإمَّا اسمٌ لحال الشيء، وليست مصدراً، والمصدرُ: التهَيُّؤُ والتَّهْيِيءُ والتَّهْيِئَةُ، ويُقال: [هاءَ الشيءُ يَهِيْءُ هَيْئَاً وهَيْئَِةً إذا تَرَتَّب واستقرّ على حالة مخصوصة]، ويتعدَّى بالتضعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً}. والطينُ: معروف، طانَه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميماً أي: جَبَله عليه، النفخُ معروفٌ.
الثاني: أنَّ الكافَ هي المعفولُ به لأنَّها اسمٌ كسائرِ الأسماءِ وهذا رأيُ الأخفشِ، يجعلُ الكافَ اسماً حيث وَقَعَتْ، وغيرُه من النحاة لا يقولُ بذلك إلا إذا اضْطَرَّ إليه كوقوعِها مجرورةً بحرفٍ أو بإضافةٍ أو تقع فاعلةً أو مبتدأ، وقد تقدَّمَ جميعُ أمثلةِ ذلك مسبوقاً فأغنى عن إعادتِه هنا.
والثالث: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، قاله الواحدي نَقْلاً عن أبي علي بعد كلامٍ طويلٍ،وقال" وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المُرَادِ، تقديرُه: أني أخلُق لكم من الطين خلقاً مثلَ هيئة الطير". وفيما قالَه نظرٌ من حيث المعنى؛ لأنَّ التحدَّي إنَما يقعُ في أثرِ الخَلْق، وهو ما يَنْشأ عنه من المخلوقاتِ لا في نفس الخَلْق، اللهم إلا أن تقولَ: المرادُ بهذا المصدرِ المعفولُ به فَيَؤُول إلى ما تقدَّم.
(3/400)
---(1/1255)
وقال الزمخشري: "إني أُقَدِّر لكم شيئاً مثلَ هيئةِ الطير" فهذا تصريحٌ منه بأنها صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ، وقولُه "أُقَدِّر" تفسيرٌ للخلق، لأن الخَلْق هنا التقدير، كقول الشاعر:
1296ـ وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبعْضُ * القوم يَخْلُق ثم لا يَفري
إذ المرادُ الاختراعُ فإنه مختص بالباري تعالى. وقرأ الزهري: "كَهَيَةِ" بنقلِ حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحةٌ. وقرأ أبو حعفر: كهيئة الطائرِ.
قوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ} في هذا الضميرِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على الكافِ، لأنها اسمٌ عند مَنْ يَرى ذلك أي: أَنفُخ في مثلِ هيئةِ الطيرِ. الثاني: أنه عائدٌ على"هيئةِ" لأنها ف معنى الشيءِ المُهَيَّأ، فلذلك عادَ الضميرُ عليها مذكَّراً، وإنْ كانَتْ مؤنثةً، اعتباراً بمعناها دونَ لفظِها، ونظيرُه قولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ثم قال: {فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ} فأعادَ الضمير في:"منه" على القسمةِ لمَّا كانَتْ بمعنى المقسومِ. الثالث: أنه عائدٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ أي: فَأَنْفُخُ في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطير. الرابع: أنه عائدٌ على ما وَقَعَتِ الدلالةُ عليه في اللفظ وهو "أني أخلقُ" ويكونُ الخَلْقُ بمنزلةِ المخلوق. الخامس: أنه عائدٌ على ما دَلَّت عليه الكافُ مِنْ معنى المِثْل، لأنَّ المعنى: أخلُق من الطين مثلَ هيئةِ الطير، وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المرادِ تقديرُه: أني أخلُق لكم خلقاً مثلَ هيئةِ الطير، قاله الفارسي وقد تقَدَّم الكلامُ معه في ذلك. السادس: أنه عائدٌ على الطينِ قاله أبو البقاء. وهذا الوجهُ قد أفسده الواحدي فإنه قال: "ولا يجوزُ أَنْ تعودَ الكناية على الطينِ لأنَّ النفخَ إنما يكونُ في طينٍ مخصوص، وهو ما كانَ مُهَيَّاً منه، والطينُ المتقدِّم ذكرُه عام فلا تعودُ إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ جميعَ الطين، وفي هذا الردِّ نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا(1/1256)
(3/401)
---
نُسَلِّم عمومَ الطينِ المتقدِّم، بل المرادُ بعضُه، ولذلك أدخلَ عليه "مِنْ" التي بتقتضي التبعيضَ، وإذا صارَ المعنى: "أني أخلقُ بعض الطين" عاد الضميرُ عليه من غير إشكال، ولكن الواحدي جَعَلَ "مِنْ" في "من الطين" لاتبداءِ الغاية وهو الظاهرُ. قال الشيخ: "وقد قرأ بعضُ القراء: "فأنفخُها" أعادَ الضميرَ على الهيئة المحذوفة، إذ يكونُ التقدير: هيئةً كهيئةِ الطيرِ، أو على الكافٍ على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلةً هيئةَ الطيرِ، فيكونُ التأنيثُ هنا كما هو في آية المائدة في قوله: {فَتَنفُخُ فِيهَا} فتكونُ هذه القراءةُ قد حُذِفَ حرفُ الجرِّ منها كقولِه:
1297ـ ما شُقَّ جيبٌ ولا قامَتْكَ نائحةٌ * ولا بَكَتْكَ جيادٌ عند إسْلابِ
وقول النابغة:
1298ـ ....................... * كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحْما
يريد: ولا قامَتْ عليك، وينفخُ في الفحم، وقال: "وهي قراءةُ شاذة نقلها الفراء"، وعجبت منه كيف لم يَعْزُهال، وقد عَزاها صاحبُ "الكشاف" إلى عبدالله قال: وقرأ عبدالله: "فأنفخُها" وأنشد:
"كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى"
قوله: "فيكون" في "يكون" وجهان أحدُهما: أنها تامة أي: فيوجدُ ويكونُ "طيراً" على هذا حالاً، والثاني: أنها الناقصةُ و"طيراً" خبرُها، وهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ، لأنَّ في وقوعِ اسمِ الجنس حالاً بُعْداً مُحْوجاً إلى تأويلٍ، وإنما يظهرُ ذلك على قراءةِ نافع: "طائراً" لأنه حينئذ اسمٌ مشتقٌّ، وإذا قيل بنقصانِها فيجوزُ أن تكونَ على بابها ويجوزُ أن تكونَ بمعنى صار الناقصة كقولِهِ:
1299ـ بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيذٌ كأنَّها * قَطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بيوضُها
(3/402)
---(1/1257)
أي: صارَتْ، وقال أبو البقاء: "فيكون" أي: يصيرُ، فيجوزُ أَنْ تكونَ "كان" هنا التامة لأنَّ معناها "صار"، وصار بمعنى انتقل، ويجوز أن تكونَ الناقصة، و"طائراً" على الأول حالٌ وعلى الثاني خبرٌ". قلت: لا حاجةَ إلى جَعْلِه إياها في حالِ تمامِها بمعنى "صار" التامة التي معناها معنى انتقل، بل النحويون إنما يُقَدِّرون التامةَ بمعنى حَدَثَ ووَجَدَ وحَصَل وشبهِها، وإذا جَعَلُوها بمعنى "صار" فإنما يَعْنُون صارَ الناقصةَ.
وقرأ نافع ويعقوب: "فيكون طائراً" هنا وفي المائدة، والباقون: "طَيْراً" في الموضعين. فأمَّا قراءةُ نافع فوجَّهَها بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحِيد، والتقديرُ: فكيونُ ما أنفخ فيه طائراً، ولا يُعْتَرض عليه بأنَّ الرسمَ الكريمَ إنما هو "طير" دون ألفٍ، لأنَّ الرسمَ يُجَوِّزُ حَذْفَ مثلِ هذه الألفِ تخفيفاً، ويَدُلُّ على ذلك أنه رُِسِمَ قولُه تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}: "ولا طيرٍ" دونَ ألف، ولم يقرَأْه أحدٌ إلا "طائر" بالألف، فالرسمُ محتملٌ لا منافٍ.
وقال بعضُهم كالشارح لِما قَدَّمْتُه: "ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يَخْلُق غيرَ الخفاش". وزعم آخرون أنَّ معنى قراءتِهِ: يكونُ كلُّ واحدٍ مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقولِهِ تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي: اجلِدوا كلَّ واحدٍ منهم، وهو كثيرٌ في كلامهم.
وأما قراءةُ الباقين فمعناها يُحتمل أَنْ يُراد به اسمُ الجنس، أي: جنسِ الطير، فيُحتْمل أَنْ يُرادَ به الواحدُ فما فوقَه، ويُحتمل أن يُرادَ به الجمعُ، ولا سيما عند مَنْ يرى أنَّ "طيراً" صيغتُه جمعٌ نحو:/ رَكْب وصَحْب وتَجْر جمعَ راكب وصاحب وتاجر وهو الأخفش، وأمَّا سيبويه فهي عنده أسماءُ جموعٍ لا جموعٌ صريحةٌ، وقد تقدَّم لنا الكلامُ على ذلك في البقرة. وحَسَّنَ قراءةَ الجماعةِ موافقتُه لِما قبله في قوله: "من الطيرِ" ولموافقةِ الرسم لفظاً ومعنى.(1/1258)
(3/403)
---
قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} يجوزُ أَنُ يتعلَّقَ بـ"طائراً" وهذا على قراءةِ نافع، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به، لأِنَّ طيراً اسمُ جنسٍ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ علىأنه صفةٌ لطير، أي: طيراً ملتبساً بإذن اللهِ ِأي: بتمكينهِ وإقرارِهِ. وقال أبو البقاء: "متعلِّقٌ بيكون"، وهذا إنَّما يَظْهَرُ إذا جَعَلَ "كان" تامةً، وأما إذا جَعَلها ناقصةً ففي تعلُّقِ الظرفِ بها الخلافُ المشهور.
قوله: {وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ} وأُبْرىء عطفٌ على "اَخْلُق" فهو داخلٌ في حَيِّز "أني"، ويقال: أَبْرَأْتُ زيداً من العاهةِ ومِن الدَّيْنِ، وبَرَّاتُكَ من الدَّين بالتضعيف، وبَرِئْتُ من المرض أَبْرَأُ، وَبَرَأْتُ أيضاً، وأما بَرِئْتُ من الدَّين ومِن الذنب فبرِئْتُ لا غير. وقال الأصمعي: "بَرِئْتُ من المرض لغةُ تميم وَبَرَأْتُ لغة الحجاز". وقال الراغب: "بَرَأْتُ من المرضِ وبَرِئْتُ، وبَرَأْتُ من فلان" فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان: أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه، وأمَّا الدَّيْنُ والذنب ونحوهما فالفتحُ ليس إلاَّ. والبراءَةُ: التغَصِّي من الشيء المكروهِ مجاوَزَتُه وكذلك: التبرِّي والبُرْء.
والأكمهُ: مَنْ وُلِدَ أَعْمَى يقال: كَمِه يَكْمَهُ كَمَهَاً فهو أكمه قال رؤبة:
1300ـ فارتدَّ عنها كارتدادِ الأكمهِ
ويُقال كَمِهْتُها أنا أي: أعميتها. وقال الزمخشري والراغب وغيرهما: "الأكمهُ مَنْ وُلِدَ مطموسَ العَيْن". قال الزمخشري: "ولم يُوجَدْ في هذه الأمةِ أكمَهُ غيرُ قتادةَ صاحبِ التفسير". وقال الراغب: "وقد يُقال لمَنْ ذَهَبَتْ عينُه: أكمهُ، قال سويد:
1301ـ كَمِهَتْ عيناه حتى ابْيَضَّتا * ...................
(3/404)
---(1/1259)
والبَرَصُ داءٌ معروفٌ وهو بياضٌ يَعْتَرِي الإِنسانَ، ولم تكن العرب تَنْفِرُ مِنْ شيءٍ نَفْرَتَها منه، يُقال: بَرِصَ يَبْرَصُ بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويُقال لَه: الوَضَح، وفي الحديث: "وكان بها وضَح" والوضَّاح مِنْ ملوك العرب هابُوا أَنْ يقولوا له الأبرصَ، ويقال للقمر: أبرصُ لشدةِ بياضِه. وقال الراغب: "للنكتةِ التي عليه" وليس بظاهرٍ، فإنَّ النكتةَ لتي عليه سوداءُ، والوَزَغُ: سامٌّ أبرصَ لبياضِهِ، والتبريص: الذي يلمع لَمَعان البرصِ ويُقارِبُ البصيصَ.
قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ} يجوزُ في "ما" أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أن نكرةً موصوفةً، فعلى الأولى والثالثِ يَحْتاج إلىعائدٍ بخلافِ الثاني عند الجمهورِ، وكذلك "ما" في قولِهِ: "وما تَدَّخِرُون" محتملةٌ لِما ذُكِرَ.
وأَتَى بهذه الخوارِق الأربعِ بلفظِ المضارعِ دلالةً على تجدُّدِ ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه، وقَيَّد قولَهُ: "إني أخلُق" إلى آخرِهِ "بإذن الله" لأنه خارقٌ عظيمٌ، فأتى به دَفْعاً لتوهُّمِ الإِلهيةِ، ولم يأتِ به فيما عُطِفَ عليه في قوله: "وأُبْرِىء"، ثم قَيَّدَ الخارِقَ الثالثَ أيضاً "بإذنِ الله" لأنه خارقٌ عظيمٌ أيضاً، وعَطَفَ عليه قولَهُ: "وأنبِّئكم" من غيرِ تقييدٍ له مَنْبَهَةً على عِظَمِ ما قبلَه ودَفْعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوهَّم فيه الإِلهية، أو يكون قد حَذَفَ القَيْدَ من المعطوفَيْنِ اكتفاءً به في الأولِ، وما قَدَّمْتُه أحسنُ.
وتَدَّخِرون: قراءةُ العامة بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ، وأصلُه تَذْتَخِرُون تَفْتَعِلُون من الذُّخْر وهو التخبِئَةُ، يقال: ذَخَر الشيءَ يَذْخَرُه ذُخْراً فهو ذاخِر مَذْخُور أي: خَبَّاه، قال الشاعر:
1302ـ لها أَشَارِيرُ مِنْ لحمٍ تُتَمِّرُه * من الثَّعالِي وذُخْرٌ من أَرانيها
(3/405)
---(1/1260)
الذُّخْر: فُعْل بمعنى المَذْخور نحو: الأَكْل بمعنى المأكول، وبعضُ الثَّعالي وأَرانيها" يريدُ: من الثعالب وأرانبها، فَأَّبْدَلَ الباءً الموحدةَ ياءً بثِنْتَيْنِ من تحت، وَلمَّا كان أصلُهُ "تّذْخِرون" اجتمعت الذالُ المعجمةُ مع التاءِ ـ أي تاءِ الافتعال ـ أُبدِلَتْ تاءُ الافتعال دالاً مهملةً فالتقى بذلك متقاربانِ: الذالُ والدالُ، فَأَدْغَم الذالَ المعجمةَ في المهملةِ فصارَ اللفظُ: تَدَّخِرون كما ترى.
وقد قرأ السوسي في رواية عن أبي عمرو: تَذْدَخِرون بقَلْبِ تاءِ الافتعالِ دالاً مهملةً من غيرِ إدغامٍ، وهو وإِنْ كانَ جائزاً إلاَّ أنَّ الإِدغامَ هو الفصيحُ. وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السَّمَّال وأيوب السختياني "تَذْخَرون" بسكونِ الذالِ المعجمةِ وفتحِ الخاءِ، جاؤوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرْتُه أي: خَبَّأْتُه، ومن العرب من يَقْلِبُ تاء الافتعال في هذا النحو ذالاً معجمة فيقول: اذَّخَر، يَذَّخِر بذالٍ معجمة مشددة، ومثلُه اذَّكر فهو مُذَّكِر، وسيأتي إنْ شاء الله.
وقال أبو البقاء: "والأصلُ في تَدَّخِرون: تَذْتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مهجورةٌ والتاءَ مهموسةٌ فلم يجتمعا، فأُبدلت التاءُ دالاً لأنها من مَخْرَجها لتقربَ من الذالِ، ثم أُبدلت الذالُ وأُدْغِمَتْ". و"في بيوتِكم" متعلِّقٌ بتدَّخرون.
قوله: {إِنَّ فِي ذالِكَ} "ذلك" إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من الخوارق، وأُشير إليها بفلظِ الأفراد وإنْ كانت جمعاً في المعنَى، بتأويل "ما ذُكِرَ ما تَقَدَّم". وقد تقدَّم أن في مصحف عبدالله وقراءته: "لآياتٍ" بالجمع مراعامةً لِما ذكرته من معنى/ الجمع. وهذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون من كلامِ عيسى وأَنْ تَكُونَ من كلام الله تعالى.
(3/406)
---(1/1261)
و{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جوابُهُ محذوفٌ أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيةِ وتدبَّرتموها. وقَدَّر بعضُهم صفةً محذوفة لآية، أي لآيةً نافعةً، قال الشيخ: "حتى يتَّجِه التعلُّقُ بهذا الشرط" وفيه نظرٌ، إذ يَصِحُّ التعلُّقُ بالشرطِ دونَ تقديرِ هذه الصفةِ.
* { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }
قوله تعالى: {وَمُصَدِّقاً}: نَسَقٌ على محلِّ "بآية"؛ لأنَّ "بآية" في محلِّ نصبٍ على الحال إذ التقديرُ: وجئتكم ملتبساً بآية ومصدقاً. وقال الفراء والزجاج: "نصب مصدقاً على الحال، المعنى: وحئتُكم مصدقاً لما بين يديَّ، وجاز إضمار "جئتُكم" لدلالةِ أولِ الكلامِ عليه، وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، ومثلُه في الكلام: "جئته بما يحب ومكرماً له". قال الفراء: "ولا يجوزُ أَنْ يكون "ومصدقاً" معطوفاً على "وجيهاً" لأ،ه لو كان ذلك لقال: "ومُصَدِّقاً" لِما بين يديه" يعني أنه لو كان معطوفاً عليه لأتى معه بضميرِ الغيبةِ لا بضمير التكلم، وكذلك ذَكَرَ غيرُ الفراء، ومَنَع أيضاً أن يكونَ منسوقاً على "رسولاً" قال: "لأنه لو كان مردوداً عليه لقال: "وَمُصَدِّقاً لِما بين يديك" لأنه خَاطَبَ بذلك مريم، أو قال: بين يديه" يعني أنه لو كان معطوفاً على "رسولاً" لكان ينبغي أن يُؤْتى بضميرِ الخطاب مراعاةً لمريم أو بضميرِ الغَيْبة مراعاةً للاسم الظاهر. قال الشيخ: "وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ في "ورسولاً" أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ أي: وأُرْسِلْتُ رسولاً" فعلى هذا التقديرِ يكون "مصدقاً" معطوفاً على "رسولاً".
(3/407)
---(1/1262)
قوله: {مِنَ التَّوْرَاةِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من "ما" الموصولةِ أي: الذين بين يديَّ حالَ كونِهِ من التوراةِ، فالعامِلُ فيه "مصدقاً" لأنه عاملٌ في صاحبِ الحال، والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في الظرفِ الواقِعِ صلةً، والعامِلُ فيه الاستقرارُ المضمرُ في الظرفِ أو نفسُ الظرفِ لقيامِهِ مقامَ الفعلِ.
قوله: {وَلأُحِلَّ} فيه أوجحه أحدها: أنه معطوفٌ على معنى "مصدقاً" إذ المعنى: جئتكم لأصدِّقَ مابين يديّ ولأُحِلَّ لكم، ومثلُه من الكلام: "جئتُه معتذراً إليه ولأجتلِبَ رضاه، أي: جئتُ لأعتذرَ ولأجتلبَ، كذا قال الواحدي وفيه نظرٌ، لأن المعطوفَ عليه حال، وهذا تعليلشٌ. قال الشيخ بعد أَنْ ذَكَرَ هذا الوجهَ: "وهذا هو العطلُ على التوهُّمِ وليس هذا منه، لأن معقوليةَ الحالِ مخالفةٌ لمعقوليةِ التعليلِ، والعطفُ على التوهم لا بد أَنْ يكونَ المعنى مُتَّحِداً في المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ألا ترى إلى قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} كيف اتَّحد المعنى من حيث الصلاحيةُ لجوابِ التخضيض، وكذلك قولُه:
1303ـ تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً * بنَهْكَةٍ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ
كيف اتَّحد معنى النفي في قولِه: "لم يُكَثِّرْ" وفي قوله: "ولا بحقلَّد" أي: ليس بمكثرٍ ولا بحلقدٍ، وكذلك ما جاء منه". قلت: ويمكن أَنْ يُريدَ هذا القائلُ أنه معطوفٌ على معنى "مصدقاً" أي: بسببِ دلالتِهِ على علةٍ محذوفةٍ هي موافقةٌ له في اللفظِ فَنَسَبَ العطفَ على معناه باعتبارِ دلالته على العلةِ المحذوفةِ لأنها تشاركه في أصلِ معناه، مأعني مدلولَ المادةِ وإنْ كانت دلالةُ الحالِ غيرَ دلالةِ العلةِ.
الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ مقدرةٍ أي: جئتُكم بآيةٍ لأوسِّعَ عليكم ولأُِحِلَّ، أو لأِخَفِّفَ عنكم ولأُِحِلَّ ونحوُ ذلك.
الثالث: أنه معمولٌ لفعلٍ مضمرٍ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: وجئتُكم لأُِحِلَّ ، فحُذِفَ العاملُ بعد الواوِ.(1/1263)
(3/408)
---
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِهِ: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى: أتِّبعوني لأُِحِل لكم، وهذا بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ.
الخامس: أن يكنَ "ولأِحِلَّ" ردَّاً على قولِهِ: "بآية"، قال الزمخشري: "ولأِحِلَّ" ردٌّ على قولِه: {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي جئتكم بآيةٍ من ربكم ولأِحلَّ". قال الشيخ: "ولا يَسْتَقِيم أني كونَ "ولإِحلَّ لكم" ردَّاً على "بآيةٍ"؛ لأنَّ "بآية" في موضِعِ حالٍ، و"لأِحِلَّ" تعليلٌ ولا يَصِحُّ عطفُ التعليلِ على الحالِ؛ لأنَّ العطفَ بالحرفِ المُشَرِّك في الحكم يُوجِبُ التشريكَ في جنسِ المعطوفِ عليه، فإنْ عَطَفْتَ على مصدرٍ أو مفعولٍ به أو ظرفٍ أو حالٍ أو تعَليلٍ أو غيرِ ذلك شارَكَهُ في ذلك المعطوفِ" قلت: ويُحتمل أن يكونَ جوابُه ما تقدَّم من أنه أرادَ رَدًّاً على "بآية" من حيث دلالتُها على عاملٍ مقدَّرٍ.
قوله: {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ} المرادُ ببعض مدلولُهُ الأصلي، وقال أبو عبيدة "إنها هنا بمنعى "كل" مستدلاً بقولِ لبيد:
1304ـ تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها * أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وقد رَدَّ الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت مُحَرَّمةً عليه، فلو كان المعنى: ولأِحِلَّ لكم كلَّ الذي حُرِّم عليكم لأَحَلَّ لهم ذلك كله. واستَدَلَّ بعضُهم على أنَّ "بعضاً" بمعنى "كل" بقولِ الآخر:
1305ـ أبا منذرٍ أَفْنَيْتَ فاستَبِقْ بعضَنَا * حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ
أي: أهونُ من كل الشرِّ، واستدلَّ آخرون بقولِ الآخر:
1306ـ إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها * دونَ الشيوخِ تَرى في بعضِها خَلَلا
(3/409)
---(1/1264)
أي: في كلِّها خَلَلاً، ولا حاجةً إلى إخراجِ اللفظِ عن مدلولِهِ مع إمكان صحة معناه، إذ مرادُ لبيد ببعضٍ النفوس نفسُه هو، والتبعيضُ في البيتين الآخرين واضحٌ فإنَّ الشرَّ بعضُه أهونُ من بعضٍ آخرَ لا مِنْ كله، وكذلك ليس كلُّ أمرٍ دَبَّره الأحداثُ كان فيه خَلَلٌ، بل قد يأتي تدبيرُهُ أحسنَ من تدبيرِ الشيخ.
وقرأ العامةُ: "حُرِّمَ" مبنياً للمفعول والفاعلُ هو الله تعالى. وقرأ عكرمة: "حَرَّم" مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو الموصولُ في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لأنه كتابٌ مُنَزَّلٌ، أو موسى لأنه هو صاحبُ التوراةِ، فَأَضْمَر للدلالةِ عليه بِذِكْرِ كتابِهِ. وقرأ إبراهيم النخعي: "حَرُمَ" بوزن شَرُف وظَرُف، نَسَبَ الفعل إليه/ مجازاً للعلمِ أنَّ المُحَرِّم هو الله تعالى.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملةُ يُحْتمل أن تكونَ تأكيداً للأولى لتقدُّم معناها ولفظِها قبلَ ذلك. قال أبو البقاء: "هذا تكريرٌ للتوكيد لأنه سَبَقَ هذا ملعنى في الآيةِ التي قبلَها" ويُحْتَمل أَنْ تكونَ للتأسيس لاختلافِ متعلِّقِها ومتعلَّقِ ما قبلَها. قال الشيخ: "وجِئْتُكم بآيةٍ من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله: "قد جِئْتكم"، وتكون هذه الآيةُ قولَهُ: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} لأنَّ هذا القولَ شاهِدٌ على صحةِ رسالتِهِ؛ إذ جميعُ الرسلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجَعَلَ هذا القولَ آيةً وعلامةً لأنه رسولٌ كسائِرِ الرسلِ حيث هَداه للنظرِ في أدلةِ العقلِ والاستدلالِ، قاله الزمخشري.
* { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }
(3/410)
---(1/1265)
وقرأ العامة: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ}: بكسرِ الهمزةِ على الإِخبار المستأنفِ، وهذا ظاهِرٌ على قولِنا إنَّ "جئتكم" تأكيدٌ، أمَّا إذا جَعَلْتَه تأسيساً وَجَعَلْتَ الآيةَ هي قولَه: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} بالمعنى الذي ذَكَرْتُه أولاً فلا يَصِحُّ الاستئنافُ، بل يكونُ الكسرُ على إضمارِ القولِ وذلك القولُ بدلٌ من الآية، كأنَّ التقدير: وجئتُكم بآيةٍ من ربِّكم قَوْلي إنَّ الله، فقولي بدلٌ من "آية"، و"إنَّ" وما في حَيِّزها معمولةٌ لقولي، ويكون قوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} اعتراضاً بين البدلِ والمبدلِ منه.
وقُرىء بفتحِ الهمزة وفيه أوجهُ، أحدُها: أنه بدلٌ من "آية" كأنَّ التقديرَ: وجِئْتُكم بأنَّ الله ربي وربكم، أي: جِئْتُكم بالتوحيدِ، وقوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} اعتراضٌ أيضاً. الثاني: أنَّ ذلك على إضمار لامِ العلة، ولامُ العلة متعلقةٌ بما بعدَها من قوله: فاعبدوه" والتقديرُ: فاعبدوه لأنَّ الله ربي وربُّكم كقولِه تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} إلى أن قال "فَلْيعبدوا" إذ التقديرُ: فليعبدوا لإِيلافِ قريش، وهذا عند سيبويه وأَتْباعِه ممنوعٌ؛ لأنه متى كان المعمولُ أَنَّ وما في صلتِها امتنَع تقديمُها على عاملِها، لا يُجيزونَ: "أنَّ زيداً منطلٌ عَرَفْتُ" تريد: "عَرَفْتُ أنَّ زيداً منطلقٌ" للقبحِ اللفظي، إذ تَصَدُّرُها لفظاً يقتضي كسرَها. الثالث: أن يكونَ "أن الله" على إسقاطِ الخافض وهو "على" و"على" يتعلِّق بآية نفسِها، والتقديرُ: وجِئْتُكم بآيةٍ على أن الله، كأنه قيل: بعلامةٍ ودلالةٍ على توحيدِ الله تعالى، قاله ابن عطية، وعلى هذا فالجملتان الأمريِتَّان اعتراضٌ إيضاً وفيه بُعْدٌ.
(3/411)
---(1/1266)
وقوله: {هَاذَا صِرَاطٌ} هذا إشارةُ إلى التوحيدِ المَدْلُولِ عليه بقولِهِ: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أو إلى نفسِ ":إنَّ الله" باعتبار هذا اللفظِ هو الصراطَ المستقيمَ.
* { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيا إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {مِنْهُمُ}: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بأحسَ، و"مِنْ" لابتداءِ الغاية، أي: ابتداءُ الإحساسِ مِنْ جهتهم. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكفر أي: الكفرُ حالَ كونِه صادراً منهم.
والإِحساسُ: الإِدراكُ ببعضِ الحواسِّ الخمسِ وهي: الذوقُ والشمُّ واللمسُ والسمعُ والبصرُ، يقال: أَحْسَسْتُ الشيءَ وبالشَيءِ، وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْتُ بإبدال سينه الثانيةِ ياءً، وأحَسْت بحذف أولِ سينه، قال:
1307ـ سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا * أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ
قال سيبويه: "وَمِمَّا شَذَّ من المضاعَفِ ـ يعني في الحذفِ ـ شبيهُ بباب أقمت وليس بمتلئِبٍّ، وذلك قولهم: أَحَسْتُ واَحَسْنَ، يريدون: أَحْسَسْتُ وأَحْسَسْنَ، وكذلك يُفْعَل بكل بناءٍ بُنِي الفعلُ فيه ولا تَصِلُ إليه الحركةُ، فإذا قلت: لم أُحِسَّ لم تَحذِفْ". وقيل: الإِحساسُ: الوجودُ والرؤيةُ يقال: هل أَحْسَسْتَ صاحبكَ أي: وَجَدْتَه أو رأيته.
(3/412)
---(1/1267)
قوله: {مَنْ أَنصَارِيا} أنصار جمع نصير نحو: شَريف وأَشْراف. وقال قوم: هو جمع "نَصْر" المرادُ به المصدر، ويَحتاج إلى حَذْف مضاف أي: مَنْ أصحابُ نُصْرَتي. و"إلى" على بابها، وتتعلَّق بمحذوف، لأنها حالٌ تقديرُه: مَنْ أنصاري مضافِين إلى الله، كذا قَدَّره أبو البقاء. قال قوم: إنَّ "إلى" بمعنى مع أي: مع الله، قال الفراء: "وهو وجْهٌ حسن". وإنما يجوز أَنْ تَجْعَل "إلى" في موضع مع إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء ما لم يكن معه كقولِ العرب: "الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبل" أي: الذود، بخلافِ قولك: "قَدِمَ فلانٌ ومعه مال كثير" فإنه لا يصلح أَنْ تقولَ: وإليه مال، وكذا تقول: "قدم فلان مع أهله" ولو قلت: "إلى أهله" لم يصح، وجَعَلوا من ذلك أيضاً قولَه: {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ}. وقد ردَّ أبو البقاء كونَها بمعنىم "مع" فقال: "وليس بشيء فإنَّ "إلى" لا تصلُح أَنْ تكونَ بمعنى "مع" ولا قياسَ يَعْضُده".
وقيل: "إلى" بمعنى اللام أي: مَنْ أنصاري لله، كقوله: {يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ} أي: للحقِّ، كذا قَدَّره الفارسي. وقيل: بل ضَمَّن "أنصاري" معنى الإِضافةِ أي: مَنْ يُضيف نفسَه إلى الله في نصرتي، فيكون "إلى الله" متعلقاً بنفسِ أنصاري، وقيل: متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الياء في "أنصاري" أي: مَنْ أنصاري ذاهباً إلى الله متلجِئاً إليه، قاله الزمخشري.
قوله: {الْحَوَارِيُّونَ} جمع حوارِيّ وهو الناصرُ، وهو مصروفٌ وإنْ ماثل مَفَاعل، لأنَّ ياءَ النسب فيه عارضةٌ، ومثله حَوالِيٌّ وهو المحتال، وهذان بخلافِ : قَمَارِيّ وبَخاتِيّ، فإنهما ممنوعانِ من الصرفِ، والفرق أن الياءَ في حوارِيّ وحواليّ عارضةٌ بخلافِها في: "قَماريّ وبَخاتِيّ" فإنها موجودَةٌ قبل جَمْعِها في قولك: قُمْرِيّ وبُخْتِيّ.
(3/413)
---(1/1268)
والحوارِيُّ: الناصِرُ كما تقدّم، وذلك أنَّ عيسى عليه السلام مَرَّ بقومٍ فاستنصَرَهم ودَعاهم إلى الإيمان فتبعوه وكانوا قَصَّارين للثيابِ، فَسُمِّيَ كلُّ مَنْ تَبعَ نبياً ونَصَرَهُ: حواريَّاً تسميةً له/ باسمِ أولئك تشبيهاً بهم وإن لم يكن قَصَّاراً، وفي الحديث عنه عليه السلام في الزبير: "ابنُ عمتي وحواريّ من أمتي" ومنه أيضاً : "إنَّ لكل نبي حوارياً وحوارِيّ الزبير" هذا معنى كلام أبي عبدية وغيرِه من أهل اللغة. وقيل: الحوارِيُّ هو صفوةُ الرجل وخالصتُه، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوابَ أي: أَخْلَصْتُ بياضه بالغَسْل منه سُمِّيََ القَصَّارُ حواريَّاً لتنظيفه الثبابَ، وفي التفسير: أنَّ اتباعَ عيسى عليه السلام كانوا قصَّارين، قال أبو عبيدة: "سُمِّيَ أصحاب عيسى حواريين للبياض وكانوا قصَّارين، قال الفرزدق:
1308ـ فقلتُ: إنَّ الحواريَّاتِ مَعْطَبَةٌ * إذا تَفَتَّلْنَ من تحتِ الجلابيبِ
يعني النساء". قلت: يَعني أنَّ النساءَ لبياضِهِنَّ وصفاءِ لونهنَّ لا سيما المترفِّهاتُ يقال لهنَّ الحواريات، ولذلك قال الزمخشري: "والحوارِيُّ صفوَةُ الرجل وخالصتُه، ومنه قبل للنساء الحضريات: الحواريَّات لخلوصِ ألوانهن ونظافتهن، وأنشد لأبي جلدة اليشكري:
1309ـ فَقُلْ للحوارِيَّاتِ يبكِينَ غيرَنا * ولا يَبْكِنا إلا الكلابُ النوابِحُ
انتهى. ومنه سُمِّيَت الحُور حُوراً لبياضِهِنَّ ونظافَتِهِنَّ. والاشتقاقُ من الحَوَر وهو تبييضُ الأثواب وغيرِها. وقال الضحاك: "هم الغَسَّالون، وهم بلغةِ النَّبَط: هَواري بالهاء مكان الحاء"، قال ابن الأنباري: "فمن قال بهذا القول قال: هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط، وهو قول مقاتل بن سليمان: إن الحواريين هم القصارون". وقيل: هم المجاهدون كذا نقله ابن الأنباري وأنشد:
1310ـ ونحنُ أناسٌ تملأ البيضَ هامُنَا * ونحن الحوارِيُّونَ يومَ نُزاحِفُ
(3/414)
---(1/1269)
جماجِمُنَا يومَ اللقاء تَراسُنا * إلى الموت نَمْشي ليس فينا تَجانُفُ
قال الواحدي: "والمختارُ من هذه الأقوالِ عند أهل اللغة أن هذا الاسمَ لَزِمهم للبياض"، ثم ذكر ما ذكرْتُه عن أبي عبيد.
وقال الراغب: "حَوَّرْتُ الشيءَ بَيَّضْتُه ودَوَّرْتُه، ومنه: الخبز الحُوَّاري، والحواريون: أنصار عيسى، وقيل: اشتقاقُهم من حار يَحُور أي: رَجَع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي: لن يرجِعَ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى، يقال: حار يَحُور حَوْراً أي: رَجَعَ، وحار يحور حَوْراً إذا تَرَدَّد في مكانٍ، ومنه : حارَ الماءُ في الغَدير، وحار في أمره وتحيَّر فيه وأصلُه: تَحَيْوَر، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً فوزنه تَفَيْعَل لا تَفَعَّل، إذ لو كان تَفَعَّل لقيل: تَحَوَّر نحو: تَجَوَّز، ومنه قيل للعُود الذي عليه البَكَرة: مِحْوَر لتردُّده، ومَحارة الأذنِ لظاهرِهِ المنقعر تشبيهاً بمَحَارة الماء لِتردُّد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء في المَحارة، والقومُ في حَوْر أي: في تردد إلى نقصان، ومنه: "نَعُوذُ باللهِ من الحَوْر بعد الكَوْر" وفيه تفسيران، أحدُهما: نعوذ بالله من التردد في الأمر بعد المُضَيَّ فيه، والثاني: نعوذُ بالله من نقصانِ وترددٍ في الحال بعد الزيادة فيها. ويقال: حارَ بعد ما كارَ، والمُحاورة: المُرادَّة في القول، وكذلك التحاورُ والحِوار، ومنه: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي: ترادَّكما القولَ، ومنه أيضاً: كلَّمته فما رَجَع إلى حَوارٍ أو حَوِير أو مَحْوَرة وما يعيش بحَوْر أي: بعقل يرجع إليه، والحَوَرُ": ظهورُ قليلِ بياضٍ في العينِ من السواد، وذلك نهايةُ الحسنِ في العَيْنِ يقال منه: أَحْوَرَتْ عينُه، والمذكرُ أحورُ، والمؤنثة حَوْراء، والجمعُ فيها حُور، نحو: حُمْر في جمع أحمر وحمراء، وقيل: سُمِّيت الحُور حُوراص لذلك وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخُلوصه وصِدْقه،(1/1270)
(3/415)
---
قاله أبو البقاء، وهو راجع للمعنى الأول من خُلوصِ البياضِ، فهو مجازٌ عن التنظيفِ من الآثامِ وما يَشوب الدين.
والياء في حَواريَّ وحَواليّ ليست للنسب بل زائدةٌ كزيادتها في كرسيّ.
وقراء العامة" الحواريُّون" بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثقفي والنخعي بتخفيفِها في جمعي القرآن، قالوا: لأن التشديدَ ثقيلٌ، وكان قياس هذه القراءةِ أَنْ يقالَ فيها: الحوارُون، وذلك أنه تستثقل الضمة على الياء المكسورة ما قبلها فَتُنْقَل ضمة الياء إلى ما قبلها فتسكُنُ الياءُ، فيلتقي ساكنان فتحذفُ الياء لالتقاء الساكنين، وهذا نحوُ: جاء القاضُون، الأصل: القاضِيُون، ففُعِل به ما ذُكِرَ. قالوا: وإنما أُقِرَّتْ ضمةُ الياءِ عليها تنبيهاً على أن التشديد مرادُ لأن التشديدَ يَحْتمل الضمة كما ذهب الأخفش في "يستهزيون" إذ أَبْدَل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بَقِيَتِ الضمةُ تنبيهاً على الهمزةِ.
* { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }
وقولُه تعتالى: {مَعَ الشَّاهِدِينَ}: حالٌ من مفعولِ "اكتبنا" وفي الكلامِ حذفٌ أي: مع الشاهدين لك بالحدانية.
* { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ}: من بابِ المقابلةِ، أي: لا يجوزُ أَنْ يُوصفَ اللهُ بالمكر إلا لأجلِ ما ذُكر معه من لفظٍ آخرَ مسندٍ لِمَنْ يليقُ به، وهذا كما تقدَّم في الخِداع، هكذا قيل، وقد جاء ذلك من غيرِ مقابلة في قولِهِ: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
(3/416)
---(1/1271)
}. والمَكْرُ في اللغةِ أصلُه السَّتْرُ. يُقال: مَكَر اللَّيلُ: أي أَظْلَمَ وسَتَر بظلمته ما فيه، وقالوا: واشتقاقُه من المَكْر وهو شجر ملتفٌّ، تخيَّلوا فيه أنَّ المكرَ يلتفُّ بالممكورِ به ويشتمل عليه، وامرأةُ ممكورةٌ الخَلْقِ أي: ملتفَّةُ الجسم، وكذا مَمْكُورة البطن، ثم أُطْلِقَ المَكْرُ على الخُبْث والخِداع، ولذلك عَبَّر عنه بعضُ أهلِ اللغةِ بأنه السعيُ بالفساد/. قال الزجاج:"هو مِنْ مَكَر الليلُ وَأَمْكَرَ أي أظلم". وقد عَبَّر بعضُهم عنه فقال: هو صَرْفُ الغَيْرِ عَمَّا يَقْصِده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمودٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فِعْلٌ جميلَ، وعلى ذلك قولُه: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، ومذمومٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فعلٌ قبيحٌ نحو: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ
}.
* { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ}: في ناصبهِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: قوله: "وَمَكَرَ الله" أي وَمَكَر اللهُ بهم في هذا الوَقتِ. الثاني: أنه "خير الماكرين". الثالث: اذكر مقدراً، فيكون مفعولاً به كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ.
قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الكلامَ على حالهِ من غيرِ ادِّعاءِ تقديمٍ وتأخيرٍ فيه، بمعنى: إني مستوفي أجلِك ومؤخِّرُك وعاصِمُك مِنْ أَنْ يقتُلَكَ الكفار إلى أن تموتَ حَتْفَ إنفِكَ من غيرِ أَنْ تُقْتَلَ بأيدي الكفارِ ورافعُكَ إلى سمائي.
(3/417)
---(1/1272)
والثاني: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافُعك إليّ ومتوفيك لأنه رُفِع إلى السماء ثم يُتَوَفَّى بعد ذلك، والواوُ للجمعِ فلا بين التقديم والتأخيرِ، قاله أبو البقاء وبدأ به، ولا حاجةَ إلى ذلك مع إمكانِ إقرارِ كلِّ واحدٍ في مكانِهِ بما تقدَّم من المعنى، إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ حَمَلَ التوفِّيَ على الموتِ، وذلك إنما هو بعدَ رَفْعِهِ ونزولِهِ إلى الأرض وحكمِه بشريعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} إيقاعُ الظاهِر موقعَ المضمربِ، إذ الأصلُ: ومكرُوا ومكرَ اللهُ وهو خير الماكرين.
قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} فيه قولان، أظهرُهُما: أنه خطابٌ لعيسى عليه السلام، والثاني: أنه خطابٌ لنبينا صلى الله عليه وسلم، فيكونُ الوقفُ على قوله: {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} تاماً، والابتداءُ بما بعده، وجاز هذا لدلالةِ الحالِ عليه. و{فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ثاني مفعولَيْ جاعل لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
(3/418)
---(1/1273)
و{إِلَى يَوْمِ} متعلِّقٌ بالجَعْل، يعني أنَّ هذا الجَعْلَ مستمرٌّ إلى ذلك اليوم، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاستقرار المقدَّرِ في "فوق" أي: جاعِلُهُم قاهرين لهم إلى يوم القيامة، يعني أنهم ظاهرون على اليهودِ وغيرِهم من الكفارِ بالغَلَبَةِ في الدنيا، فأمَّا يوْمُ القيامةِ فيحكُمُ اللهُ بينهم فيُدخِل الطائعَ الجنةَ والعاصيَ النارَ، وليس المعنى على انقطاعِ ارتفاعِ المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائِها، لأنَّ لهم استعلاءً آخرَ غيرَ هذا الإستعلاء. وقال الشيخ: "والظاهرُ أنَّ "إلى" تتعلقُ بمحذوفٍ، وهو العاملُ في "فوق"، وهو المفعولُ الثاني لجاعل، إذ "جاعل" هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقَهم إلى يوم القيامة، وهذا على أنَّ الفوقيةَ مجازٌ، وأمَّا إن كانت الفوقيةُ حقيقةً وهي الفوقيةُ في الجنة فلا تتعلَّق "إلى" بذلك المحذوفِ بل بما تقدَّم من "متوفِّيك" أو من "رافعك" أو من "مُطَهِّرك" إذ يَصِحُّ تعلُّقه بكلِّ واحدٍ منها، أمَّا تعلُّقُه برافِعُك، أو بمُطَهِّرُك فظاهرٌ، وأمَّا بمتوَفِّيْك فعلى بعضِ الأقوال" يعني ببعض الأقوال أنَّ التوفِّي يُراد به قابِضُكَ من الأرضِ من غيرِ موتٍ، وهو قولُ جماعةٍ كالحسن وابنِ زيد وابن جريج وغيرِهم، او يرادُ به ماذَكَرَهُ الزمخشري، وهو مستوفي أجلك، ومعناه: إين عاصمُك من أن يقتلَك الكفارُ ومؤخِّرُك إلى أَجَلٍ كتبتُه لك، ومميتُك حَتْفَ أنفِكَ لا قتلاً بأيدي الكفار، وأمَّا على قولِ مَنْ يقول: إنه تُوُفِّي حقيقةً فلا يُتَصَوَّرُ تَعلُّقُه به لأن القائل بذلك لم يقل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة بل قائم يقول: إنه تُوُفِّي ثلاث ساعات، وآخرُ يقول: توفي سَبع ساعات بقدر ما رُفع إلى سمائه حتى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْر في اليقظة، وعلى هذا الذي ذكره الشيخ يجوز أن تكون المسألة من الإِعمال، ويكون قد تنازعه في هذا الجارِّ ثلاثةُ عوامل، وإذا ضَمَمْنا إليها كونَ الفوقية(1/1274)
(3/419)
---
مجازاً تنازع فيه أربعةُ عواملَ، والظاهرُ أنه متعلِّقٌ بجاعل. وقد تقدَّم أن أبا عمرو يُسَكِّنُ ميم "أَحْكُمُ" وحوِه قبلَ الباء.
* { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
قوله تعالى: {0فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ}: في محلِّ هذا الموصولِ قولان، أظهرُهما: أنه مرفوعٌ على الابتداءِ، والخبرُ الفاءُ وما في حَيِّزها، والثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعلُ بعدَه قد عَمِلَ في ضميره، وهذا وجهٌ ضعيف، لأنَّ "أمَّا" لا يليها إلا المبتدأُ، وإذا لم يَلِها إلا المبتدأُ امتنعَ حَمْلُ الاسم بعدها على إضمارِ فعلٍ. ومَنْ جَوَّزَ ذلك تَمَحَّل بأنه يُضْمِرُ الفعلُ متأخراً عن الاسم، ولا يُضْمِرُه قبلَه، قال: لئلا يَلِيَ "أمَّا" فعلٌ وهي لا يَليها الأفعالُ البتة فيقدِّرُ في قولك: "أمَّا زيداً فضَربتُه": أمَّا زيداً ضربْتُ فضربتُه، وكذا هنا يُقَدِّرُ: فأمَّا الذين كفروا أعذَّب فأعذِّبهم، فيقدِّرُ العاملَ بعد الصلة، ولا يقدِّرُه قبل الموصولِ لِما ذكرت، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لعدمِ الحاجةِ إليه مع ارتكاب وجهٍ ضعيفٍ جداً في أفصحِ كلام، وقد قرأ بعض قراء الشواذ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} بنصبِ "ثمود" واستضعافها الناس.
(3/420)
---(1/1275)
وفي قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} إلى {كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، وذلك أنه قدَّم تعالى ذِكْرَ مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه وهم اليهود ـ لُعنوا ـ، وقَدَّم أيضاً ذِكْرَ مَنْ آمَنَ به وهم/ الحواريون ـ رضي الله عنهم ـ وقَضَى بعد ذلك بالإِخبار بأنه يجعلُ مُتَّبعي عيسى فوق مخالِفيه، فلو جاءَ النظمُ على السياقِ من غيرِ التفاتٍ لكانَ: ثم إليَّ مَرْجِعُهم فأَحْكُمُ بينهم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب لأنه أبلغُ في البِشارة وَأَزْجَرُ في النِّذارة.
وفي ترتيبِ هذه الأخبار الأربعة ـ أعني مُتَوَفِّيك ورافعُك ومُطَهِّرك وجاعلُ ـ هذا الترتيبَ معنًى حسنٌ جداً، وذلك أنه تعالى بَشَّره أولاً بأنه متوفِّه ومتولِّي أمره فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّره ثانياً بأنه رافعُه إليه أي: سمائهِ محلِّ أنبيائِهِ وملائكتِهِ ومحلِّ عبادتِهِ ليسكنَ فيها ويعبُدَ ربَّه مع عابِدِيه، ثم ثالثاً بتطهيرِهِ من أَوْضارِ الكفرةِ وأذاهم وما رَموه به، ثم رابعاً برفعهِ تابعيه على مَنْ خالفهم ليتِمَّ بذلك سرورُه، ويكملَ فرحُهُ، وقَدَّم البِشارَةَ بما يتعلَّقُ بنفسِهِ على البِشارة بما يتعلَّق بغيره؛ لأنَّ الإِنسانَ بنفسِهِ أَهَمُّ وبشأنها أَعْنى، {قُوااْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} "ابدَأْ بِنَفْسِكَ ثم بِمَنْ تَعول
".
* { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
(3/421)
---(1/1276)
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: الكلامُ فيه كالكلامِ في الموصول قبلَه، وقرأ حفص عن عصام "فيوفِّيهم" بياء الغَيْبة، والباقون بالنون، فقراءهُ حَفْص على الالتفاتِ من التَّكلمِ إلى الغيبة تفنُّناً في الفصحاة. وقرءةُ الباقين جاريةٌ على ما تقدَّم من اتِّساقِ النظم، ولكنْ جاءَ هناك بالمتكلِّم وحدَه وهنا بالتكلِّم وحده المعظّمِ نفسَه اعتناءً بالمؤمنين ورفعاً مِنْ شأنهِمْ لَمَّا كانوا معظَّمين عنده.
* { ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ }
(3/422)
---(1/1277)
قوله تعالى: {ذالِكَ نَتْلُوهُ}: يجوز أّنْ يكونَ "ذلك" مبتدأً و"نتلوه" الخبرَ، و:"من الآيات" حالٌ أو خبرٌ بعدَ خبرٍ، ويجوزُ أن يكونَ "ذلك" منصوباً بفعل مقدر يفسِّره ما بعدَه، فالمسألةُ من الاشتغال و"من الآيات" حالٌ أو خبرٌ متبدأ مضمر أي: هُو من الآيات، ولكنَّ الأحسنَ الرفعُ بالابتداءِ، لأنه لا يُحْوج إلى إضمارٍ، وعندَهم: "زيدٌ ضربتُه" أحسنُ مِنْ "زيداً ضربته"، ويجوزُ أَنْ يكونَ "ذلكَ" خبرَ مبتدأ مضمر، يعني: الامر ذلك، و"نَتْلوه" على هذا حالٌ من اسم الإِشارة، و"من الآيات" حالٌ من مفعولٍ "نَتْلوه" ويجوزُ أَنْ يكونَ "ذلك" موصولاً بمعنى الذي، و"نَتْلوه" صلةٌ وعائدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده، أي: الذي نتلوه عليك كائنٌ من الآيات أي: المعجزاتُ الدالَّةُ على نُبُوَّتِك، جَوَّز ذلك الزجاج وتَبِعه الزمخشري، وهذا مذهبُ الكوفيين، وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أن يكونَ اسمٌ من أسماء الإِشارة موصولاً إلا "ذا" خاصةً بشروط تقدَّم ذكْرُها، ويجوز أن يكونَ "ذلك" مبتدأً، و"من الآيات" خبره، و"نتلوه" جملةً في موضعِ نصب على الحال، والعاملُ معنى اسمِ الإِشارة. و"مِنْ" فيها وجهان، أظهرهما: أنه تبعيضية؛ لأن المتلوَّ عليه عليه السلام من قصة عيسى بعضُ معجزاتِه وبعضُ القرآن، وهذا وجهٌ واضح. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عطية وبه بَدَأ، قال الشيخ: "ولا يتأتَّى ذلك هنا من جهةِ المعنى إلا بمجازٍ، لأنَّ تقديرَ "مِنْ" البيانية بالموصول ليس بظاهر، إذ لو قلت: {ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} لا حتجْتَ إلى تأويلٍ، وهو أَنْ يُجْعَلَ بعضُ الآيات والذكرِ آياتٍ وذكراً وهو مجازٌ.
(3/423)
---(1/1278)
والحكيمُ صيغةُ مبالغَةٍ مُحَوَّلٌ من فاعل كضريب من ضارب، ووُصِف الكتاب بذلك مجازاً، لأن هذه الصفة في الحقيقة لمُنْزِلِهِ والمتكلم به فَوُصِفَ بصفةِ مَنْ هو من سبِبه وهو الباري تبارك وتعالى، أو لأنه ناطقٌ بالحكمةِ أو لأنه أَحْكَمُ في نظمه، وجَوَّزوا أن يكونَ بمعنى مُفْعِل أي: مُحْكِم لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} إلاَّ أنَّ فَعِيلاً بمعنى مُفْعِل قليلٌ قد جاءَتْ منه أُلَيْفاظٌ قالوا: عَقَدْتُ العَسَلَ فهو عَقِيد ومُعْقَد، واحتسْتُ الفرسَ في سبيلِ الله فهو حَبِيس ومُحْبَس.
وفي قوله: {نَتْلُوهُ} التفاتٌ من غَيْبَة إلى تكلُّم، لأنه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ، وهو قولُه: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ يُحْتمل أن يكونَ {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} جِيء بها اعتراضاً بين أبعاضِ هذه القصةِ.
وقوله: {نَتْلُوهُ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه وإنْ كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى أي: ذلكَ الذي قَدَّمْناه من قصةِ عيسى وما جَرَى له تَلَوْناه عليك كقولِه: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ}، والثاني: على بابِه لأنَّ الكلامَ بعدُ لم يَتِمَّ، ولم يفرغ من قصة عيسى عليه السلام إذ بقي منها بقية.
* { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى}: جملةٌ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها تعلُّقاً صناعياً بل معنوياً، وزعم بعضُهم أنَّها جوابٌ لقسم، وذلك القسمُ هو قولُه: {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} كأنه قيل: أٌقْسم بالذكرِ الحكيم إِنَّ مثلَ عيسى، فيكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه: "من الآيات" ثم استأنف قسماً، فالواوُ حرفُ جر لا حرفُ عطف، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ، إذ فيه تفكيكٌ لنظمِ القرآن وإذهابٌ لرونقه وفصاحته.
(3/424)
---(1/1279)
قوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و"قد" معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في "خَلَقه" عائدةٌ على آدم، ولا تعودُ علىعيسى لفسادِ المعنى، وقال ابن عطية: "ولا يجوزُ أن يكون "خلقه" صلةً لآدم ولا حالاً منه،/ قال الزجاج: "إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن" قال الشيخ: "وفيه نظرٌ"، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه: "لا يكون حالاً أنت فيها" غيرُ لازم، إذ تقديرُ "قد" معه يقرِّبُه من الحال، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري: "إنَّ المعنى: قَدَّره جسداً من طين ثم قال له: كن، أي أَنْشَأه بشراً". قال الشيخ: "ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه "كن" لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له: كُنْ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى "ثم قال له كن" عبارةً عن نَفْخِ الورح فيه. "قلت: قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال: "هذا ـ يعنتي قوله خلقه من تراب ـ ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفةً للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام" قال: "قال الزجاج "وهذا كما تقولُ في الكلام: "مَثَلُك كمثلِ زيد" تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد، فتقول: فعلى كذا وكذا".
(3/425)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
( 4 )
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية(1/1280)
الكتاب مرجع رئيسي في بابه، وموسوعة علمية حوت الكثير من آراء السابقين، اهتم فيه مصنفه بالجانب اللغوي بشكل كبير أو غالب، فذكر الآراء المختلفة في الإعراب، إضافة إلى شرح المفردات اللغوية، كذلك أوجه القراءات القرآنية، كما أنه ألمح إلى الكثير من الإشارات البلاغية، وذكر الكثير من الشواهد العربية فقلما نجد صفحة إلا وفيها. شاهد أو أكثر
وقوله: {كُن فَيَكُونُ} اختلفوا في المقولِ له: كن، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية، لأنه إنما يقول له: "كن" قبل أن يخلقَه لا بعده، وههنا يقولُ: "خَلَقه" ثم قال له: كن، والجواب: أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له: "كن" فكان، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه "كن"، وهذا كما تقول: "أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قلبَه ألفاً" فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم، ومثله قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقد خَلَقها بعد خ َلْق زوجها، ولكن هذا على الخبر دون الخَلْق، لأنَّ التأويلَ: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حواء قد خُلقت من ضلعه، ثم أُخبركم إني خَلَقت زوجها منها، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعر قوله:
1311ـ إنَّ مَنْ ساد ثم ساد أبوه * ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهُ
(4/1)
---(1/1281)
ومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ له والجَدذَ متقدمٌ للأب، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبر لا إلى الوجودِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ أنه خلقه قالباً من ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَراً فيصِحُّ النَّظْمُ. وقال بعضُهم: المقولُ له كن: عيسى، ولا إشكالَ على هذا.
وقوله: {فَيَكُونُ} يجوز أَنْ يكونَ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلاً، والمعنى: فيكونُ كما يأمرُ الله فيكونُ حكايةً للحال التي يكونُ عليها آدم، ويجوز أن يكون "فيكونُ" بمعنى "فكان"، وعلى هذا أكثرُ المفسرين و النحويين، وبهذا فَسَّره ابنُ عباس رضي الله عنه.
(4/2)
---(1/1282)
والمَثَلُ هنا: منهم مَنْ فَسَّره بمعنى الحال والشأن، قال الزمخشري: "أي: إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدم"، وعلى هذا التفسير فالكافُ على بابها من كونِها حرفَ تشبيه، وفَسَّر بعضُهم المَثَلَ بمعنى الصفة، قال ابن عطية: "وهذا عندي خطأ وضعفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثلَ الذي تتصوَّرُه النفوسُ والعقولُ مِنْ عيسى هو كالمُتَصَوَّرِ من آدم، إذ الناسُ كلُّهم مُجْمِعُون [على] أنَّ الهَ خَلَقَه مِنْ تراب من غيرِ فحلٍ، وكذلك قولُه: {مَّثَلُ الْجَنَّة} عبارةٌ عن المتصَّور منها، والكافُ في "كمثل" اسمٌ على ما ذكرناه من المعنى". قال الشيخ: "ولا يَظْهَرُ لي فَرْقٌ بين كلامِه هذا وبين مَنْ جَعَلَ المَثَلَ بمعنى الشأن والحال وبمعنى الصفة". قلت: قد تقدَّم في أولِ البقرة أنَّ المَثَل قد يُعَبَّر به عن الصفة وقد لا يُعَبَّر به عنها، فدلَّ ذلك على تغايُرهما، وقد مَرَّ تفسيرُه وعبارةُ الناسِ فيه، ويَدًُلُّ على ذلك ما قاله صاحب "ريّ الضمآن" عن الفارسي قال: "قيل: المَثَلُ بمعنى الصفة، وقولك: صفةُ عيسى كصفة آدم كلامٌ مُطَّرد، على هذا جُلُّ اللغويين والمفسرين، وخالف أبو علي الفارِسي الجميعَ، وقال: المَثَلُ بمعنى الصفة لايُمْكِنُ تصحيحُه في اللغة، إنما المَثَلُ التشبيهُ، على هذا تدورُ تصاريفُ الكلمة، ولا معنى للوصفيةِ في التشابهِ، ومعنى المثل في كلامِهم أنها كلمةٌ يرسلُها قائلُها لحكمةٍ يُشَبِّه بها الأمورَ ويقابِلُ بها الأحوالَ" قلت: فقد فَرَّق بين لفظِ المثل في الاصطلاحِ وبين الصفة.
(4/3)
---(1/1283)
وقال بعضُهم: إنَّ الكافَ زائدةٌ، وبعضُهم قال: إنَّ "مَثَلاً" زائد. فقد تحصَّل في الكاف ثلاثة أقوال، أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدمِ الزيادة، وقد تقدَّم تحقيقه. وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب، ووُجِد آدمُ بغيرِ أب ولا أم؟ قلت: هو مثلُه في أحدٍ الطرفين، فلا يَمْنَعُ اختصاصُه دونَه بالطرفِ الآخرِ مِنْ تشبيهِه به، لأنَّ المماثلَة مشاركةٌ في بعضِ الأوصافِ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ وهما في ذلك نظيران، ولأنَّ الوجود من غير أب وأم أغربُ وأخرقُ للعادةِ من الوجود بغير أب، فَشَبَّه الغريبَ بالأغرب ليكون أقطعَ للخصمِ وأَحْسَمَ لمادة شُبْهته. وعن بعضِ العلماء أنه أُسِر بالروم فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يحيي الموتى، قال: فحزقيل أَوْلى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرىء الأكمة والأبرص. قال: فجرجيس أولى لأنه طُبخ وأُحْرِقَ ثم خَرَج سالماً".
قوله: {مِن تُرَابٍ} في وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"خلقه" أي: ابتداءُ خلقه من هذا الجنس، والثاني: أنه حالٌ من مفعول "خلقه" تقديره: خَلَقه كائناً مِنْ تراب، وهذا لا يساعِدُه المعنى.
* { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ }
(4/4)
---(1/1284)
قولُه تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}: يجوز أَنْ تكونَ هذه جلمةً مستقلةً برأسِها، والمعنى: أنَّ الحقَّ الثابتَ الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربك قصةُ عيسى وأمِّه فيه حَقٌ ثابتٌ، ويجوزُ أَنْ "الحق" خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو، أي: ما قَصَصْنَا عليك من خبر عيسى وأمه. و"من ربك" على هذا فيه وجهان، أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف. والثاني: أنه خبرٌ ثاني عندَ مَنْ يُجَوِّزُ ذلك، وتقدَّم نظيرُ هذه الجملة في البقرة والنهيُّ له عليه السلام عن الامتراءِ، ولم يكن ممترياً، [وهذا] من الإِلهاب والتهييج على الثبات على ماهو عليه من الحق، أو لأنَّ المرادَ به غيره.
* { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }
قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ}: يجوز في "مَنْ" وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهر أي: إنْ حاجَّك أحدٌ فقلْ له: كيتَ وكيتَ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لتضمُّنه معنى الشرط. والمُحاجَّة مُفاعلة وهي من اثنين، وكان الأمر كذلك.
قوله: "فيه" متعلق بحاجَّك أي: جادَلك في شأنه، والهاء فيه وجهان، أظهرهما: عَوْدُها على عيسى عليه السلام. والثاني عَوْدُها على الحق، و قد بتأيَّد هذا بأنه أقربُ مذكورٍ، إلاَّ أنَّ الأول أظهرُ لأن عيسى هو المُحَدَّث عنه وهو صاحب القصة.
(4/5)
---(1/1285)
قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} متعلِّقٌ بحاجِّك أيضاً، و"ما" يجوز أن تكون موصولة اسميةً، ففاعلُ "جاءك" ضميرٌ يعودُ عليها أي: من بعد الذي جاءك هو، و"من العلم" حالٌ/ من فاعل "جاءك"، ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفية، وحينئذُ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعل، أو عَوْدُ الضمير على الحرف، لأن "جاءك" لا بُدَّ له من فاعل، وليس معنا شيءٌ يَصْلُحُ عَودُه عليه إلا "ما" وهي حرفيةٌ. والجوابُ: أنه يجوزُ أن يكون الفاعلُ قولَه "من العلم" و"من" مزيدةٌ، أي بعد ما جاءك العلم أي: بعد مجيء العلم، وهذا إنما يتخرَّج على قول الأخفش لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً. و"مِنْ" في "من العلم" يُحْتمل أن تكونَ تبعيضيَّةً وهو الظاهرُ وأَنْ تكونَ لبيان الجنس.
قوله: {تَعَالَوْاْ} العامةُ على فتح اللام لأنه أمرق من تعالَى يَتَعالى، كترامى يترامى، وأصلُ ألفِه ياءٌ، وأصلُ هذه الياء واو، وذلك أنه مشتقٌ من العلوِّ وهو الارتقاعِ كما سيأتي بيانُه في الاشتقاق، والواوُ متى وقَعَتْ رابعةً فصاعداً قُلِبَتْ ياءً قصار تعالَوَ: تعالَيَ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلِب ألفاً فصار: تعالَى كَترامى وتغازَى، فإذا أَمَرْتَ منه الواحدَ قلت: تعالَ يا زيدُ، بحَذْفِ الألف، وكذا إذا أَمَرْتَ الجمعَ المذكَّر قلت: تعالَوا؛ لأنك لمَّا حَذَفْتَ الألف لأجلِ الأمرِ أبقَيْتَ الفتحَة مُشْعرةً بها. وإن شئت قلت: الأصل: تعالَيُوا، وأصلُ هذه الياءِ واوٌ كما تقدَّم، ثم استُثْقِلت الضَّمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ضمتُها فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الياء لالتقاء السكانين وتُرِكت الفتحةُ على حالِها. وإنْ شئت قلت: لَمَّا كان الأصلُ: تعالَيُوا تحرَّك حرف العلة وانفتح ما قبله وهو الياء فَقُلِب ألفاً فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الألف وبقيت الفتحة دالة عليه.
(4/6)
---(1/1286)
والفرقُ بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف في الوجه الأول حُذِفَت لأجل الأمر وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفت لالتقائها مع واو الضمير. وكذلك إذا أَمَرْتَ الواحدة تقول لها "تعالَيْ"، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريفُ كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياءَ بَدَلٌ الضمة هناك، وأمَّا إذا أَمَرْتَ المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالياَ، ويا هندان تعالياَ أيضاً، يَسْتوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمرُ جماعة الإِناث تَثْبُت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْن، وقال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} إذ لا مقتضى للحذف ولا للقلبِ، وهو ظاهرٌ بما تمهَّد من القواعد.
وقرأ الحسن وأبو السمَّال وأبو واقد: "تعالُوا" بضم اللام، ووجَّهوها على أن الأصل: تعالَيُوا كما تقدم، فاستثقلت الضمة على الياء فنُقِلت إلى اللام بعد سَلْب حركتِها فبقي: تعالُوا بضم اللام. وقال الزمخشري في سورة النساء: "وعلى هذه القراءة قال الحمداني:
1312ـ ........................ * تعالِي أقاسمْك الهمومَ تعالِي
بكسرِ اللام"، وقد عابَ بعضُ الناسِ عليه في استشهاده بشعر هذا المُولَّدِ المتأخر، وليس بعيبٍ فإنه ذَكَرَه استئناساً وهذا كما تقدَّم في أولِ البقرة عندما أَنْشَدَ لحبيب:
1313ـ هما أَظْلَمَا حالَيَّ ثَمَّتَ أَجْلَيا * .......................
واعتذر هو عن ذلك بما قَدَّمْتُه عنه فكيف يُعابُ عليه شيءٌ عَرَفَه ونَبَّه عليه واعتَذَر عنه؟
(4/7)
---(1/1287)
والذي يَظْهَرُ في توجيهِ هذه القراءةُ أنهم تناسَوا الحرفَ المحذوف حتى كأنهم تَوَهَّمُوا أنَّ الكلمة بُنِيَتْ على ذلك، وأنَّ اللامَ هي الآخِرُ في الحقيقة فلذلكَ عُومِلَتْ معامَلَة الآخِر حقيقةً فَضُمَّت قبلَ واو الضميرِ وكُسِرَتْ قبل يائه كما ترى، ويَدُلُّ على ما قلتُه أنهم قالوا في "لَمْ أُبَلَهْ": إنََّ الأصلَ: "أبالي" لأنه مضارع بالَى، فلمَّا دخل الجازمُ حَذَفوا له حرفَ العلةِ على القاعدة ثم تناسَوا ذلك الحرفَ فَسَكَّنُوا للجازمِ اللامَ لأنها كلأخيرِ حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان: هي والألف قبلَها فَحُذِفَت الألف لالتقاء السكانين، وهذا التعليلُ أَوْلَى لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو يقال: الأصل: تعالَيِي، فاستُثْقِلَت الكسرةُ على الياء، فَنُقِلَت إلى اللام بعد سَلْبِهَا حرَكَتَها، ثم حُذِفَتِ الياءُ لالتقاء السكانين.
وتعالَ: فعلٌ صريحٌ وليس باسمِ فعلٍ لا تصال الضمائر المرفوعة البارزة به. قيل: وأصلُهُ طَلَبُ الإِقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك، وإدناءً للمدعوّ، لأنه من العلو والرفعة، ثم تُوُسِّع فيه فاستُعْمِلَ في مجرد طلب المجيء، حتى يُقالُ ذلك لمن يريدُ إهانَته كقولِك للعدوّ: تعالَ، ولمَنْ لا يَعْقِل كالبهائِمِ ونحوِها، وقيل: هو الدعاءُ لمكانٍ مرتفعٍ، ثم تُوُسِّع فيه حتى استُعْمِلَ في طَلَبِ الإِقبالِ إلى كل مكانٍ حتى المنخفضِ.
و{نَدْعُ} جزمُعلى جوابِ الأمرِ إذ يَصِحُّ أَنْ يقالَ: إنْ تتعالَوا نَدْعُ.
قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أتى بثم هنا تنبيهاً لهم على خطابِهم في مباهلته، كأنه يقولُ لهم: لا تعجلوا وَتَأنَّوا لعله أَنْ يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف/ التراخي.
(4/8)
---(1/1288)
والابتهال: افتعالٌ من البُهْلَة، والبهلة بفتح الباء وضمها، وهي اللعنة، قال الزمخشري: "ثم نتباهل بأن نقول: لعنةُ الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم: اللعنة، وبَهَله الله: لعنه الله وأبعده من رحمته، من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقةً باهل: لا صِرار عليها، وأصل الابتهال هذا ثم استُعمل في كل دعاء يُجْتهد فيه وإن لم يكن التعاناً" قلت: ما أحسنَ ما جُعِلَ الافتعال هنا بمعنى التفاعل، لأن المعنى لا يَجيء إلا على ذلك، وتفاعَلَ وافْتَعَلَ أخَوان في مواضع نحو: اجتَوَروا وتجاوروا، واشْتَوروا وتشاوروا، ولذلك صَحَّت واو اجتَوَر واشْتَوَر، وقوله: "وإن لم يكن التعاناً" يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يَبْتَهِل إلى الله في قضاءِ حاجته، ويبتهل في كشف كربته.
وقال الراغب: "أصل البَهْل: كونُ الشيءِ غيرَ مراعَ. والباهل: البعيرُ المُخَلَّى عن قَيْدِه أو عن سمةِ، أو المُخَلَّى ضَرْعُها عن صِرار"، وأنشد لأمراة:
"آتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار"
وأَبْهَلْتُ فلاناً: خَلَّيْتُه وإرادتَه، تشبيهاً بالبعير الباهل، و البَهْل والابتِهال في الدعاء: الاسترسالُ فيه والتضرع نحو: "ثم نبتهلْ فنجعلْ"، ومنْ فَسَّر الابتهالَ باللَّعْن فلأجلِ أنَّ الاسترسالَ في هذا المكانِ لأجل اللعنِ، قال الشاعر:
1314ـ ......................... * نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ
قلت: هذا الشطرُ للبيد، وأول البيت:
1315ـ مِنْ قُرومٍ سادةٍ في قومِهم * نَظَرَ الدهرُ إليهمْ فابْتَهَلْ
وظاهِرُ هذا أنَّ الابتهالَ عامٌّ في كلِّ دعاءٍ لَعناً كانَ أو غيرَه، ثم خُصَّ في هذه الآيةِ بِاللَّعْنِ.
وظاهِرُ عبارةِ الزمخشري أنَّ اصلَهُ خصوصيتُه باللَّعْنِ، ثم تُجُوِّزَ فيه فاستُعْمِلَ في اجتهادٍ في دعاءٍ لَعْناً كانَ أو غيرَه، والظاهِرُ من أقوالِ اللغويين ما ذكرَهُ الراغِبُ. وقال أبو بكر بن دريد في مصورِته:
(4/9)
---(1/1289)
1316ـ لم أَرَ كالمُزْنِ سَواماً بُهَّلا * تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهِي سُدى
بُهَّلاً: ج باهِلة أي: مهملة، وفاعِلة يُجْمع على فُعَّل نحو: ضُرَّب، والسُّدى: المهمل أيضاً.
وقوله: {فَنَجْعَل} هي المتعديةُ لاثنين بمعنى: نُصَيِّر، و"على الكاذبين" هو المفعول الثاني.
* { إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: {إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ "هو" فصلاً، والقصصُ خبر "إنَّ"، و"الحقُّ" صفتُهُ، ويجوزُ أنْ يكون "هو" متبدأ و"القَصَصُ" خبرَه، والجملةُ خبرَ "إنَّ"، والإِشارةُ بهذا إلى ما تقدَّم ذكرُه من أخبارِ عيسىعليه السلام، وقيل: بل هو إشارةٌ لِما بعدَه وهو قولُه: {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ}. وضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا ليس بقصص، والثاني: أنه مقترنٌ بحرفِ العطفِ، وقد اعتذر بعضهم عن الأول فقال: إنْ أراد بالقصص الخبرَ فَيَصِحُّ على هذا، ويكون التقدير: إنَّ الخبر الحق أنه ما من إلا إلا الله، ولكن الاعتراض الثاني باقٍ لم يُجَبْ عنه.
والقَصَصُ: مصدرُ قولهم: قَصَّ فلان الحديثَ يَقُصَّه قَصَّاً وقَصَصَاً. وأصلُه: تتبُّعُ الأثرِ، يقال: "فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان" أي: يَتْبعه ليعرفَ أين ذَهَبَ؟ ومنه قولُه تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتِّبعي أثره وكذلك القاصُّ في الكلام لأنه يتتَّبع خبراً بعد خبر. وقد تقدَّم التنبيه على قراءتَيْ: "لَهْو" بسكون الهاء وضمِّها، إجراءً له مُجْرَى عَضُد.
قال الزمخشري: "فإنْ قلت لِمَ دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر فدخولُها على الفصلِ أجوزُ، لأنها أقربُ إلى المبتدأ منه، وأصلُها أَنْ تدخُلَ على المبتدأ".
(4/10)
---(1/1290)
قوله: {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ} يجوز فيه و جهان، أحدهما: أن "من إله" مبتدأ، و"مِنْ" مزيدةٌ فيه، و"إلا اللهُ" خبره تقديره: ما إله إلا اللهُ، وزيدت "مِنْ" للاستغراق والعموم. قال الزمخشري: "ومِنْ في قوله {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ} بمنزلةِ البناءِ على الفتح في "لا إله إلا اللهَ" في إفادةِ معنى الاستغراقِ" قلت: الاستغراقُ في "لا إله إلا اللهُ" لم نَسْتفِدْه من البناء على الفتحِ بل استفدناه من "مِنْ" المقدرة الدالة على الاستغراق، نصَّ النَّحْويون على ذلك، واستدلَّوا عليه بظهورها في قو الشاعر:
1317ـ فقام يذودُ الناسَ عنها بسيفِه * فقال ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
والثاني: أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديرُه: وما من إلهٍ لنا إلا الله، و"إلا اللهُ" بدلٌ من مضع "من إله" لأن موضعَه رفعٌ بالابتداء، ولا يجوزُ في مثله الإِبدالُ من اللفظِ، لئلا يَلْزَمَ زيادةُ مِنْ في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور، ويجوز في مثل هذا التركيب نصبُ ما بعد "إلا" على الاستثناء، ولكنه لم يُقرأ به، إلا أنه جائز لغةً، تقول "لا إله إلا اللهُ" برفع الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبِها على الاستثناء من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المقدَّر، إذ التقديرُ: لا إله استقر لنا إلا الله.
قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كقوله: {إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ}.
* { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }
(4/11)
---(1/1291)
قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}:/ يجوزُ أَنْ يكونَ مضارعاً وحُذفت منه إحدى التاءين [ تخفيفاً على حدّ] قراءة {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ} "تَذَكَّرون" ويؤيِّد هذا نَسَقُ الكلامِ ونظمُه في خطاب مَنْ تقدم في قوله تعالى "تعالوا" ثم جرى معهم في الخطاب إلى أَنْ قال لهم: فإنْ تَوَلَّوا. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ مستقبلاً تقديرُه: فإنْ تتولَّوا، ذكره النحاس وهو ضعيف؛ لأنَّ حرفَ المضارعة لا يُحْذَفُ" قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَفُ في هذا النحو من غير خلاف، وسيأتي من ذلك طائفةٌ كثيرة، وقد أجمعوا على الحذف في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} ويجوز أن يكونَ ماضياً أي: فإن تَوَلَّى وفدُ نجران المطلوبُ مباهلتُهم، ويكون على ذلك في الكلام التفاتٌ، إذ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبة.
وقوله {بِالْمُفْسِدِينَ} مِنْ وقوعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ تنبيهاً على العلة المقتضيةِ للجزاء، وكانَ الأصل: فإنَّ الله عليمٌ بكم، على الأول، وبهم، على الثاني.
* { قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {إِلَى كَلِمَةٍ}: متعلِّقٌ بتعالَوا فَذَكَرَ مفعول "تعالوا" بخلاف "تعالَوا" قبلَها فإنه لم يَذكُرْ مفعولَه، لأنَّ المقصودَ مجردُ الإِقبال، ويجوز أن يكونَ حَذْفُه للدلالةِ عليه تقديرُه: تعالوا إلى المباهلة.
(4/12)
---(1/1292)
وقرأ العامة "كَلِمة" بفتح الكاف وكسر اللام، وهو الأصل. وأبو السمَّال "كِلْمة" بزنة سِدْرة، وكَلْمة كضَرْبة، وتقدم هذا قريباً. و"كلمةٍ" مفسَّرةٌ بما بعدها من قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فالمرادُ بها كلامٌ كثير، وهذا مِنْ بابِ إطلاق الجزء، والمرادُ به الكل، ومنه تسميتُهم القصيدةَ جمعاً: قافية، والقافية جزءٌ منها، قال:
1318ـ أُعَلِّمه الرمايةَ كلَّ يومٍ * فلمَّا اسْتَدَّ ساعِدُه رماني
وكم عَلَّمْتُه نظمَ القوافي * فلمَّا قال قافيةً هجاني
ويقولون: "كلمةُ الشهادة" يَعْنُون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمةُ لبيد": يريد قوله:
1319ـ ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ * وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
وهذا كما يُسَمُّونَ الشيءَ بجزأيه في الأعيان لأنه المقصودُ منه، قالوا لربيبة القوم ـ وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه ـ عَيْن، فأطلقوا عليه عيناً. وقال بعضهم: وَضِعَ المفرد موضعَ الجمع، كما قال:
1320ـ بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها * فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
وقيل: أُطلقت الكلمة على الكلمات لارتباطِ بعضِها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمةِ والواحدةِ، إذا اختلَّ جزءٌ منها اختلَّت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي كلماتٌ لا تتِمُّ النسبةُ المقصودةُ فيها مِنْ حَصْرِ الإِلهية في الله إلا بمجموعها.
وقرأ العامة: "سواءٍ" بالجر نعتاً لكلمة بمعنى عدل، ويَدُلُّ عليه قراءةُ عبد الله: "ِإلى كلمة عدل" وهذا تفسيرٌ لا قراءة. و"سواء" في الأصل مصدر، ففي الوصف التأويلاتُ الثلاثة المعروفةَ، ولذلك لم يُؤَنَّث كما لم يُؤَنَّث بـ"امرأة عدل".
وقرأ الحسن: "سواء" بالنصبِ وفيها وجهان، أحدهما: نصبُها على المصدر، قال الزمخشري: "بمعنى استوت استواءً"، وكذا الحوفي.
(4/13)
---(1/1293)
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال، وجاءت الحالُ من النكرة، وقد نَصَّ سيبويه عليه واقتاسه، وكذا قال الشيخ، ولكنَّ المشهورَ غيرُه، والذي حَسَّن مجيئَها من النكرةِ هنا كونُ الوصفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى، وكأن الشيخ غَضَّ من تخريج الزمخشري والحوفي فقال: "والحالُ والصفة متلاقيان من حيث المعنى، والمصدرُ يحتاج إلى إضمار عامل وإلى تأويل "سواء" بمعنى استواء، والأشهرُ استعمال "سواء" بمعنى اسم الفاعل أي: "مُسْتَوٍ" قلت: وبذلك فَسَّرها ابن عباس فقال: "إلى كلمةٍ مستوية".
قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فيه ستةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من "كلمة" بدلُ كلٍ من كل، الثاني: أنه بدلٌ من "سواء"، جَوَّزه أبو البقاء، وليس بواضح، لأنَّ المقصودَ إنما هو الموصوفُ لا صفتُه، فنسبةُ البدلية إلى الموصوف أولى. وعلى الوجهين فإنَّ وما حيزمها في محل جر. الثالث: أنه في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر، والجملة استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر، لأنه لما قيل: تعالَوا إلى كلمة" قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أَنْ لا نعبد، وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة فـ"بين" منصوبٌ بسواء ظرفٌ له أي: يقع الاستواء في هذه الجهةِ، وقد صرَّح بذلك زهير حيث قال:
1321ـ أرُونا خطةً لا غيبَ فيها * يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
والوقفُ التام حينئذٍ عند قوله {مِّن دُونِ اللَّهِ} لارتباطِ الكلام معنى وإعراباً. الرابع: أن تكونَ "أن" وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ الظرفُ قبله.
(4/14)
---(1/1294)
الخامس: جَوَّز أبو البقاء أن يكونَ فاعلاً بالظرفِ قبلَه، وهذا إنما يتأتى على رأي الأخفش، إذ لم يعتمدِ الظرفُ، وحينئذٍ يكون الوقفُ على "سواء" ثم يُبتدأ بقوله: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ} وهذا فيه بُعْدٌ من حيث المعنى ثم إنهم جَعَلوا هذه الجملةَ صفةً لكملة، وهذا غلطٌ لعدم رابِطٍ بين الصفة والموصوفِ وتقديرُ العائد ليس بالسهل، وعلى هذا فقولُ أبي البقاء: "وقيل: تَمَّ الكلام على "سواء" ثم استأنف فقال: {بيننا وبينكم أنْ لا نعبد} أي بيننا وبينكم التوحيدُ، فعلى هذا يكون "أن لا نعبد" مبتدأ، والظرف خبرَه، والجملةُ صفةً للكملة"/ غيرُ واضح، لأنه من حيث جَعَلَها صفةً كيف يحسن أن يقولَ: تَمَّ الكلام على "سواء" ثم استأنف، بل كان الصواب على هذا الإِعراب أن تكون الجملةُ استئنافيةً كما تقدم.
السادس: أن يكونَ "أن لا نعبد" مرفوعاً بالفاعلية بسواء، وإلى هذا ذهب الزماني فإنَّ التقدير عنده: إلى كلمةُ مُسْتَوفيها بيننا وبينكم عدمُ عبادة غير الله تعالى، قال الشيخ: "إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ الرابط وهو "فيها" وهو ضعيف".
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ} قال أبو البقاء: "هو ماض ولا يجوز أن يكن التقدير: "فإن تتولوا" لفسادِ المعنى لأن قوله: {فَقُولُواْ اشْهَدُواْ} خطابٌ للمؤمنين وتتولَّوا" للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط, والتقديرُ: فقولوا: لهم. وهذا الذي قاله ظاهرٌ جداً.
* { ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيا إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقوله تعالى: {لِمَ تُحَآجُّونَ}: هي "ما" الاستفهامية دخل عليها حرفُ الجر فَحُذِفَت ألفها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة، واللامُ متعلقةٌ بما بعدَه، وتقديمُها على عامِلها واجبٌ لجَرَّها مال ه صدرُ الكلامِ.
(4/15)
---(1/1295)
وقوله: {فِيا إِبْرَاهِيمَ} لا بدُّ من مضافٍ محذوف أي: في دينِ إبراهيم وشريعته، لأنَّ الذواتِ لا مجادَلَةَ فيها.
وقوله: {وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ} الظاهرُ أنَّ الواوَ كهي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي : كيف تُحاجُّون في شريعته والحالُ أن التوراةَ والإنجيل متأخران عنه؟ وجَوَّزوا أن تكون عاطفةَ وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهامُ للإنكارِ والتعجب. وقولُه: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلِّقٌ بأُنزلت، وهو استثناء مفرغ.
* { هاأَنْتُمْ هَؤُلااءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {هاأَنْتُمْ هَؤُلااءِ}: الكلامُ على هذه الآيةِ فيه صعوبةٌ وإشكالٌ فيُحتاج من أجلِ ذلك إلى بَسْطِ في العبارة، ولنبدأ أولاً بضبط قراءاتِها وتفسيرِ معناها، فإنَّ الإِعراب متوقف على ذلك، فأقولُ: القُرَّاء في ذلك على أربع مراتب، المرتبة الأولى للكوفيين، وابن عامر والبزي عن ابن كثير: "ها أنتم" بألف بعد الهاء وهمزةٍ مخففة بعدها. المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء وهمزةٍ مسهلة بينَ بينَ بعدها. المرتبة الثالثة لورش وله وجهان، أحدهما: بهمزة مسلهة بينَ بينَ بعد الهاء دونَ ألفٍ بينهما، الثاني: بألف صريحة بعد الهاء من غير همز بالكلية. المرتبة الرابعة: لقنبل بهمزةٍ محققة بعد الهاء دون ألف.
(4/16)
---(1/1296)
وأمَّا المعنى: فقال قتادة والسدي والربيع وجماعة كثيرة: إن الذي لهم به علم هو دينُهم الذي وجدوه في كتبهم وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علمٌ هو شريعةُ إبراهيم وما كان عليه مِمَّا ليس في كتبهم، ولا جاءَتْ به إليهم رسلُهم، ولا كانوا معاصِريه فَيَعْلَمُون دينه، فجدالُهم فيه مجردُ عنادٍ ومكابرة. وقيل: الذي لهم به علم أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه موجودٌ عندهم في كتبِهم بنَعْتِه، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم عليه السلام. وقال الزمخشري: "يعني ها أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلم فيما لكم به علمٌ مِمَّا نطق به التوراة والإنجيل، فلِمَ تُحاجُّونَ فيما ليس لكم به علمٌ ولا نَطَق به كتابكم مِنْ دينِ إبراهيم؟".
واختلف الناسُ في هذه الهاءِ فمنهم مَنْ قال: إنها ها التي للتنبيه الداخلةِ على أسماء الإِشارة، وقد كَثُرَ الفصلُ بينها وبين أسماء الإِشارة بالضمائر المرفوعةِ المنفصلة نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن وها هم هؤلاء قائمون، وقد تُعاد مع الإِشارة بعد دخولها على الضمائر توكيداً كهذه الآية، ويَقِلُّ الفصلُ بغير ذلك كقوله:
1322ـ تَعَلَّمَنْ هالعمرُ الله ذا قَسَماً * قاقدِرْ بذَرْعِك وانظرْ أينَ تنْسَلِكُ
وقال النابغة:
1323ـ ها إنَّ تا عِذْرَةٌ إن لا تكن نَفَعَتْ * فإنَّ صاحبَها قد تاهَ في البلد
(4/17)
---(1/1297)
ومنهِم مَنْ قال: إنها مبدلةٌ من همزةِ استفهام، والأصلُ: أأنتم، وهو استفهامُ إنكار، وقد كَثُر إبدال الهمزةِ هاءً وإن لم ينقس، قالوا: هَرَقْت وهَرَحْت وهَبَرْت، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وجماعة، واستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ من حيث إنه لم يثبت ذلك في همزة الاستهفام، لم يُسْمع منهم: هَتَضْرِبُ زيداً بمعنى: أتضرب زيداً. وإذا لم ثبت ذلك فكيف يُحمل هذا عليه. هذا معنى ما اعترض به الشيخ على هؤلاء الأئمة، وإذا ثَبَتَ إبدال الهمزة هاءً هانَ الأمر، ولا نظرَ إلى كونِها همزةَ استفهام ولا غَيرها.
وهذا ـ أعنتي كونَها همزةَ استفهام أُبدلت هاءَ ـ ظاهرٌ على قراءة قنبل وورش لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة "أنتم" لأنَّ :إِدخالَ الألف إنما كان لاستثقال توالي همزتين، فلمَّا أُبْدِلت الهمزةُ هاءً زال الثقل لفظاً، فلم يُحْتج إلى ألفٍ فاصلة، وقد جاءَ إبدالُ همزة الاستفهام هاءً قال:
1324ـ وأتَى صواحِبُها يَقُلْنَ: هذا الذي * مَنَحَ المودَة غيرَنا وجَفانا
يريد: أذا الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها على قراءتهما ها التي للتنبيه لأنه لم يُحْفظ حَذْفُ ألفها، لا يقال: "هذا زيد" بحذفِ ألف "ها" كذا قيل، قلت: وقد حَذَفَها ابن عامر في ثلاثة مواضع، إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف، فقرأ في الوصل: {ياأَيُّهَا السَّاحِرُ} و{أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} في النور و{أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ} في الرحمن، لكن إما فَعَل ذلك إتباعاً للرسم لأنَّ الألف حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثَبَت حَذْفُ ألف "ها" التي للتنبيه.
(4/18)
---(1/1298)
وأَمَّا مَنْ أثبت الألف بين الهاء وبين همزة "أنتم" فالظاهر أن "ها" للتنبيه، ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهامِ لِما تقدَّم من أَنَّ الألف إنما تدخلُ لأجلِ الثقل، والثقل قد زال بإبدالِ الهمزة هاء. وقال بعضُهم: "الذي يقتضيه النظرُ أَنْ تكونَ "ها" في قراءة الكوفيين والبزي وابن ذكوان للتنبيه، لأنَّ الألفَ في قراءتِهم ثابتةٌ، وليس من مذهبهم أن يَفْصِلوا بين الهمزتين بألفٍ، وأن تكونَ في قراءة قنبل وورش مبدلةً من همزة، لأن قبنلاً يَقْرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت "ها" للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسَهِّل الهمزة كما سَهَّلها في "أأنذرتهم" ونحوِه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فَعَل فيه ما فعل في "أأنذرتهم" ونحوه من تسهيلِ الهمزة وتَرْكِ إدخال الألف، وكأن الوجهَ في قراءتِه بالألف الحَمْلُ على البدلِ كالوجهِ الثاني في "أأنذرتهم" ونحوه.
ومَنْ عدا هؤلاء المذكورين ـ وهم أبو عمرو وقالون وهشام ـ يُحْتمل أَنْ تكونَ "ها" للتنبيه، وأَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهام، أمَّا الوجهُ الأول فلأن "ها" التنبيه دَخَلَتْ على "أنتم"، فحقق هشام الهمزمَ كما حَقَّقها في "هؤلاء" ونحوهن، وخفَّفها قالون وأبو عمرو لتوسُّطها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيفُ الهمزة المتوسطة قوي. وأمّا الوجهُ الثاني فأَنْ تكونَ الهاءُ بدلاً من همزةِ الاستفهام لأنهم يَفْصِلون بين الهمزتين بألف، فيكونُ أبو عمرو وقالون على أصلهما في إدخال الألف والتسهيل، وهشام على أصله في إجخال الألف والتحقيق، ولم يُقرأْ بالوجه الثاني وهو التسهيل، لأن إبدالَ الهمزة الأولى هاء مُغْنٍ عن ذلك.
(4/19)
---(1/1299)
وقال آخرون: "إنه يجوز أن تكون "ها" في قراءة الجميع مبدلةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على "انتم"، ذَكَرَ ذلك أبو علي الفارسي والمهدي ومكي في آخرين. فأمَّا احتمال هذين الوجهين في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر فقد تقدَّم توجيهه وبيانه، وأمَّا احتمالُهما في قراءة غيرهم فأقول: أمَّا الكوفيون والبزي وابن ذكوان فقد تقدَّم توجيهُ كونِ "ها" عندهم للتنبيه، وأمَّا توجيهُ كونها بدلاً من الهمزة عندهم فأَنْ يكون الأصل: أأتم فَفَصلوا بالألف على لغة من قال:
1325ـ ................... * ........ أاأنت أَمْ أُمُّ سالمِ
ولم يَعْبَؤوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً، لكون البدل فيها عارضاً، وهؤلاء وإنْ لم يكن من مذهبهم الفصلُ، ولكنهم جمعوا بين اللغتين. وأما توجيهُ كون "ها" بدلاً من الهمزة في قراءة قنبل وورش فقد تقدم. وأما توجيه كونِها للتنبيه في قراءتهما ـ وإنْ لم يكن فيها ألفٌ ـ فأن تكون الألفُ حُذفت لكثرة الاستعمال. وعلى قولِ مَنْ أبْدل كورش حُذِفَت إحدى الألفين لالتقاء السكانين.
(4/20)
---(1/1300)
وقال أبو شامة: "قلت: "الأَوْلى في هذه الكلمة على جميع القراءات فيها أن تكونَ "ها" للتنبيه، لأنَّا إنْ جعلناها بدلاً من همزة كانت تلك الهمزةُ همزةَ استفهام، و"ها أنتم" أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل وحَذْفُ من حذف، أمَّا التسهيل، فقد سبق تشبيه بقوله: {لأَعْنَتَكُمْ} وشبهِه، أمَّا الحذفُ فيقول: "ها" مثل: "أَما" كلاهما حرفُ تنبيه، وقد ثَبَتَ جوازُ حذفِ ألف "أما" فكذا حَذْفُ ألف "ها" وعلى ذلك قولُهم: "أمَ واللهِ لأفعلن"، وقد حمل البصريون قولَهم: "هَلُمَّ" على أنَّ الأصلَ: "هالمَّ" ثم حُذِفت ألفُ "ها" فكذا: ها أنتم". قلت: وهو كلامٌ حسن، إلا أنَّ قولَه: "إنَّ ها أنتم حيث جاءت كانت خبراً لا استفهاماً" ممنوعٌ، بل يجوزُ ذلك ويجوزُ الاستفهام. انتهى.
وذكر الفراء أيضاً هنا بحثاً بالنسبة إلى القصر ولمد فقال: "مَنْ أثبتَ الألف في "ها" واعقدها للتنبيه، وكانَ مِنْ مذهبه أن يَقْصُر في المنفصل فقياسُه هنا قَصْرُ الألف، حقق الهمزة أو سَهَّلها، وأمَّا مَنْ جعلها للتنبيه ومذهبهُ المدُّ في المنفصل أو جَعَلَ الهاءَ مبدلةً من همزة استفهام فقياسه أن يَمُدَّ، سواءً حقق الهمزة أو سَهََّلها". وأمَّا ورش فقد تقدَّم عنه وجهان: إبدالُ الهمزةِ من "أنتم" ألفاً وتسهيلُها بينَ بينَ، فإذا أَبْدل مدَّ، وإذا سَهَّل قَصَر. وهذا كافٍ فيما يتعلق بالقراءاتِ وتفريعاتِ مذاهب القرَّاء عليها، وقد تكلَّموا بأكثرَ من ذلك، ولكن ليس هذا موضعَه.
إذا عرفت جميع ما تقدم ففي إعراب هذه الآية أوجه، أحدها: أن "أنتم" مبتدأ و"هؤلاء" خبرُه، والجملةُ من قوله "حاججتم" جملةٌ مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟ ذكر ذلك الزمخشري.(1/1301)
(4/21)
---
الثاني: أن يكونَ "أنتم هؤلاء" مبتدأً وخبراً. والجملةُ من "حاجَجْتم" في محلِّ نصبٍ على الحال. يَدُلُّ على ذلك تصريحُ العرب بإبقاء الحالِ موقعها في قولِهم: "ها أنا ذا قائماً"، ثم هذه الحالُ عندهم من الأحوالِ اللازمةِ التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عنها/. الثالث: أَنْ يكونَ "أنتم هؤلارء على ما تقدم أيضاً، ولكن "هؤلاء" هنا موصولٌ لا يَتمُّ إلا بصفةٍ وعائدٍ، وهما الجملةُ مِنْ قوله: "حاجَجْتُم" ذَكَره الزمخشري، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديرُه: ها أنتم الذين حاجَجْتُم. الرابع: أن يكونَ "أنتم" مبتدأ، و"حاججتم" خبرَه، و"هؤلاء" منادى، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين أيضاً، لأنَّ حرف النداء لا يُحْذَفُ من أسماء الإِشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا:
1326ـ إنَّ الأُولى وُصِفوا قومي لهم فبِهِمْ * هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداكَ مَخذولا
يريد : يا هذا اعتصم، وقول الآخر:
1327ـ لا يَغُرَّنْكُمُ أولاءِ من القومِ * جُنوحٌ للسِّلْمِ فَهْو خِداعُ
يريد: يا أولاء. الخامس: أَنْ يكونَ "هؤلاء" منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل، و"أنتم" مبتدأً و"حاجَجْتم" خبرَه، وجملةُ الاختصاصِ معترضةٌ. السادس: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكونُ الجملةُ بعدَها مُبَيِّنَةً لوجهِ التشبيه أَوْ حالاً، السابع: أن يكون "أنتم" خبراً مقدماً، و"هؤلاء" مبتدأ مؤخراص. وهذه الأوجه السبعة قد تقدم ذِكرُها وذِكْرُ مَنْ نُسِبت إليه والردُّ على بعضِ القائلين ببعضِها بما يُغْني عن إعادتِه في سورة البقرة عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ تَقْتُلُونَ}، وإنما أعدْتُه تَذْكِرَةً به فعليل بالالتفات إليه.
(4/22)
---(1/1302)
قوله: {فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}: "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوزُ أَنْ تكنَ مصدرية لعَوْدِ الضمير عليها، وهي حرفٌ عند الجمهور، "ولكم" يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و"علم" مبتدأ مؤخر، والجملة صلة لـ"ما" أو صفة، ويجوز أن يكون "لكم" وحده صلةً أو صفة، و"علم" فاعلٌ به، لأنه قد اعتمد، و"به" متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من "علم"، إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أَنْ يتعلق بعِلْم لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدَّم معمولُه عليه، فإنْ جَعَلْته متعلِّقاً بمحذوفٍ يفسِّره المصدر جاز ذلك وسُمِّي بياناً.
* { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً}: بدأ باليهود لأن شريعتهم أقدمُ، وكَرَّر "لا" في قوله {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} توكيداً وبياناً أنه كان مُنْتَفِياً عن كل واحد من الدينين على حدته.
وقوله: {وَلَكِن} استدراك لِما كان عليه، ووقعت هنا أحسنَ موقع، إذ هي بين نقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل، ولَمَّا ك ان الخطابُ مع اليهود والنصارى أتى بجلمةِ نفي أخرى ليدُلَّ على أنه لم يكن على دينِ أحدٍ من المشركين كالعربِ عبدةِ الأوثان والمجوس عبدة الأوثان، والصابئة عبدةِ الكواكب، وبهذا يُطْرَحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدة في قوله: "وما كان من المشركين" بعد قولِه "ما كان يهودياً ولا نصرانياً"؟ وأتى بخبر "كان" مجموعاً فقال: "وما كان من المشركين" لكونِه فاصلة، ولولا مراعاةُ ذلك لكانت المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قولِه: {يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فيتناسبُ النفيان.
(4/23)
---(1/1303)
* { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {بِإِبْرَاهِيمَ}: متعلِّقٌ بـ"أَوْلى"، وأولى: أفعلُ تفضيل من الوَلْي وهو القُرْب، والمعنى: أن أقربَ الناس به وأخصَّهم، فألفُه منقلبةٌ من ياء، لكونِ فائه واواً. قال أبو البقاء: "إذ ليس في الكلامِ ما لامُه وفاؤه واوان، إلا "واو" يعني اسم حرف التهجي، كالوسط من "قول"، أو اسم حرف المعنى كواو النسق، والأهلِ التصريفِ خلافٌ من عينِه: هل هي واو أيضاً أو ياءٌ؟ وقد تَعَرَّضْتُ لها بدلائِلها في "شرح التسهيل".
و"لَلَّذين اتَّبعوه" خبرُ "إنَّ"، و"هذا النبي" نَسَقٌ على الموصول، وكذلك والذين آمنوا"، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون رضي الله عنهم وإنْ كانوا داخلين فيمَنْ اتَّبع إبراهيم، إلا أَنَّهم خُصُّوا بالذكر تشريفاً وتكريماً، فهو من باب {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
}. وحكى الزمخشري أنه قرىء: "وهذا النبيِّ" بالنصب والجر، فالنصبُ نسق على مفعول "اتبعوه" فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبعه غيرُه كما اتبع إبراهيم، والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيم وهذا النبيُّ: ويكون قوله: "والذين آمنوا" نسقاً على قوله: "للَّذين اتبعوه". والجر نسقٌ على "إبراهيم"، أي: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين ابتعوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُثَنَّى الضمير في "ابتعوه" فيقال: اتبعوهما، اللهم إلا أن يقال: هو من باب {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ
}.
* { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
(4/24)
---(1/1304)
قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فيه وجهان: أحدهما: أنها تبعيضية وهو الظاهر. والثاني: أنها لبيان الجنس، قاله ابن عطية، ويعني أن المرادَ بطائفة جميعُ أهل الكتاب. قال الشيخ: "وهو بعيدٌ من دلالة اللفظ". وهذا الجارُّ على القول/ بكونها تبعيضيةً في محلِّ رفع صفةً لطائفة، وعلى القول بكونها بيانية يتعلَّق بمحذوف، و"لو" تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكونَ على بابِها من كونها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: "وَدَّ بمعنى تمنى، فيستعمل معها"لو" و"أن" وربما جُمِع بينهما، فيقال: وَدِجْت أن لو فعلت، ومصدره الوَدادة، والاسم منه وُدٌّ، وبمعنى أحَبَّ فيتعدى تعدِّيَ أَحَب، والمصدر: المَوَدَّة، والاسم منه وَدَّ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم". وقال الراغب: "إذا كان بمعنى "أَحَبَّ" لا يجوزُ إدخال "لو" فيه أبداً". وقال الرماني: "إذا كان وَدَّ بمعنى تمنى صَلَح للحال والاستقبال، وتجوز "لو"، وإذا كان بمعنى الماضي لم تجز "أَنْ" لأنْ "أَنْ" للاستقبال" وفيه نظر، لأنَّ "أنَّ" توصل بالماضي.
* { ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ}: قرأ العامة بكسر الباء من لَبَس عليه يَلْبِسُه أي خلطه. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لَبِسْت الثواب أَلْبَسُه على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز: "تُلبِّسُون" بضم التاءِ وكسر الباء وتشديدها من لَبَّس بالتشديد ومعناه التكثير. والباء في "بالباطل" للحال أي: ملتسباً بالباطل.
(4/25)
---(1/1305)
قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} جملةٌ مستأنفة، ولذلك لم يَنْتَصِبْ بإضمار أَنْ في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاج من البصريين، وقد مَنَع ذلك أبو علي الفارسي وأَنْكره، وقال: "الاستفهامُ واقعٌ على اللَّبْسِ فَحَسْب، وأما "تكتمُون" فخبرٌ حتم لا يجوز فيه إلا الرفعُ"، يعني أنه ليس معطوفاً على "تَلْبِسون" بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. ونقل ابو محمد بن عطية عن أبي عليّ أنه قال أيضاً: "الصرف ههنا يَقْبُح، وكذلك إضمارُ "أَنْ"، لأن "يكتمون" معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه، وإنما استَفْهم عن السبب في اللبس، واللَّبْس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: "لا تأكلِ السمكَ وتَشْرَب اللبن" وبمنزلةِ قولك: "أتقومُ فأقومَ" والعطفُ على الموجب المقرَّر قبيح متى نُصِب، إلا في ضرورةِ شعر كما رُوِي:
1328ـ .................. * وأَلْحَقُ بالحجازِ فاستريحا
وقد قال سيبويه في قولك: "أَسِرْتَ حتى تَدخُلَها؟" لا يجوز إالا النصبُ في "تدخل" لأن السير مُسْتَفْهَمٌ عنه غيرُ موجَبٍ"، وإذا قلنا: "أيُّهم سار حتى يدخُلها؟ رَفَعْتَ لأن السيرَ موجب والاستفهامُ إنما وقع عن غيره"
(4/26)
---(1/1306)
قال الشيخ: وظاهرُ هذا النقلِ عنه معارضتُه لِما نُقل عنه قبله، لأنَّ ما قبلَه فيه أنَّ الاستفهامَ وَقَعَ عن اللَّبْسِ فحسب، وأمَّا "يكتُمون" فخبر حتم لا يجوزُ فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ "يكتمون" معطوفٌ على موجبٍ مقدَّرٍ وليس بمستفهم عنه، فيدُلُّ العطف على اشتراكهما في الاستفهامِ عن سبب اللَّبْس وسبب الكتم الموجبين، وفَرْقٌ بين هذا المعنى وبين أن يكون "يكتمون" إخباراً مَحْضاً لم يشترك مع اللَّبْس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو عليّ من أنَّ الاستفهامَ إذا تَضَمَّن وقوعَ الفعلِ لا ينتصب الفعلُ بإضمار "أَنْ" في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك، فقال في "تسهيلِه":"أو لاستفهامٍ لا يتضمَّنُ وقوعَ الفعل" فإنْ تضمَّن وقوعَ الفعل امتنع النصبُ عندَه نحو: "لِمَ ضربْتَ زيداً فيجاريك" لأنَّ الضربَ قد وقع. ولم يَشْتَرط غيرُهما من النحويين ذلك، بل إذا تعذَّر سَبْكُ المصدرِ مما قبله: إمَّا لعدم تقدُّمِ فعلٍ، وإمَّا لاستحالةِ سَبْكِ المصدرِ المرادِ به الاستقبالُ لأجلِ مُضِيٍِّ الفعل فإنما يُقَدَّر مصدرٌ مُقَدذَرٌ استقبالُه يما يَدُلُّ عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربْتَ زدياً [فأضربك] فالتقديرُ: ليكنْ منك إعلامٌ بضرب زيد فمجازاةٌ منا. وأمَّا ما رَدَّ به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم، لأنه قد منع أن يُراد بالفعل المضيُّ، إذ ليس نصاً في ذلك، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقُّق صدورهِ لا سيِّما على الشخصِ الذي صَدَرَ منه أمثالُ ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِيّ فلا يَلْزَمُ الزجاجَ أيضاً، لأنه كما تقدَّم: إذا لم يمكن سبك مصدرٌ مستقبلٌ من الجملةِ الاستفهاميةِ سَبَكْناه مِنْ لازِمها، ويَدُلُّ على إلغاء هذا الشرطِ والتأويلِ بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان مِنْ نصب المضارع بعد فعلٍ ماض محققِ الوقوعِ مستفهم عنه نحون: أين ذهب زيد فنتبعَه؟ ومن أبوك فنكرمَه؟ وكم مالُك(1/1307)
(4/27)
---
فنعرفَه؟ كلُّ ذلك متأوَّلٌ بما ذكرت من انسباك المصدرِ المستقبلِ من لازمِ الجملِ المتقدمة فإنَّ التقدير: ليكنْ منك إعلامٌ بذهابِ زيد فاتِّباعٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامُ له منا، وليكن منك تعريفٌ بقَدْرِ مالك فمعرفةُ منا" وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع، فإنه لم يُقرأ لا في الشاذ ولا في غيرِه إلا ثابت النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث تنقيحاً للذهب.
ووراءَ هذا قراءةٌ مُشْكلةَ رَوَوها عن عبيد بن عمير وهي "لِمَ تَلْبِسوا وتكتُموا" بحذف النون من الفعلين، وهي قراءةٌ لا تبعد عن الغلط البَحْت، كأنه تَوَهَّمَ أنَّ "لِمَ" هي "لم" الجازمة فَجَزَمَ بها/ وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يَجْزِمنون بـ"لِمَ" حملاً على لَمْ، نقل ذلك السجاوندي وغيرُه عنهم، ولا أظنُّ نحوياً يقول ذلك البتة، كيف يقول في جارٍ ومجرورٍ إنه يجزم!! هذا ما لا يتَفَوَّه به البتة ولا يَطيق سماعَه، فإن يَثْبُتْ هذا قراءةً ولا بد فليكُنْ مِمَّا حُذِفَ فيه نون الرفع تخفيفاً حيث لا مقتضى لحَذْفِها، ومن ذلك قِراءةُ بعضهم: {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} تشديدِ الظاءِ، والأصلُ: تتظاهران، فَأَدْغَمَ التاءَ في الظاء وحَذَفَ النون تخفيفاً، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تُؤمِنوا حتى تَحابُّوا" يريد عليه السلام: لاتخلون ولا تؤمنون، لا ستحالة النهي معنى، وقال الشاعر:
1329ـ أَبِيتُ أَسْرِي وتبيتي تَدْلُكِي * وجَهكِ بالعنبرِ والمِسْكِ الذَّكي
يريد: تبيتين وتدلكين، ومثلُه قولُ أبي طالب:
1330ـ فإن يَكُ قومٌ سَرَّهُمْ ما صَنَعْتُمُ * سَتَحْتَلِبُوها لاقِحاً غيرَ باهِلِ
يريد: فستحتلبونها، ولا يجوزُ أن يُتَوَهَّم في هذا البيت أن يكونَ حَذَفَ النونَ لأجلِ جواب الشرط، لأنَّ الفاءَ مرادةٌ وجوباً، لعدمِ صلاحية "ستحتلبوهَا" جواباً لاقترانِهِ بحرف التنفيس.
(4/28)
---(1/1308)
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية، ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٍ: إمَّا اقتصاراً وإما اختصاراً، أي: وأنتم تعلمونَ الحقَّ من الباطل أو نبوَّة محمدٍ ونحوُ ذلك.
* { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيا أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوااْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
قوله تعالى: {وَجْهَ النَّهَارِ} منصوبٌ على الظرفِ لأنه بمعنى أول النهار، قال الربيع بن زياد العبسي:
1331ـ مَنْ كان مسروراً بمقتلِ مالكٍ * فَلْيَأْتِ نسوتَنا بوجهِ نهارِ
أي بأوله. وفي ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: ـ وهو الظاهرُ ـ أنهُ فعلُ الأمرِ مِنْ قولِهِ: "آمِنوا" ِأي: أَوْقِعوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره. الثاني: أنه "أُنْزل" أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهرٍ بدليلِ المقابةِ في قولِهِ: {وَاكْفُرُوااْ آخِرَهُ} فإنَّ الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومَنْ جَوَّزَ الوجهَ الثاني جَعَلَ الضميرَ يعودُ على الذي أُنْزِلَ، أي: واكفروا آخر المُنَزَّل، وأسبابُ النزولِ تخالف هذا التأويل.
وفي هذا البيت الذي أنشدته فائدةُ رأيت ذِكْرَها، وذلك أنه من قصيدةٍ يرثي بها مالك بن زهير بن حريمة العبسي وبعده:
يَجِدَ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ * يَلْطِمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوجوهَ تَسَتُّراً * فاليومَ حين بَدَوْنَ للنُّظَّارِ
ومعنى الأبياتِ يَحْتاجُ إلى معرفةِ اصطلاحِ العربِ في ذلك، وهو أَنَّهُمْ كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائِحَةٌ ولا تَنْدُبُهُ نادبةٌ حتى يُؤْخَذَ بثأره، فقال هذا: مَنْ سَرَّة قَتْلُ مالكٍ فَلْيَأْتِ في أولِ النهار يَجِدْنَا قد أَخَذْنَا بثأرِهِ، فَذَكَر اللازم للشيء، فهو من بابِ الكناية.
(4/29)
---(1/1309)
ويُحْكَى أنَّ الشيباني سأل الأصمعيَّ: كيف تُنْشِدُ قولَ الربيع: حين بَدَأْنَ أو بَدَيْن؟ فردَّدَهُ بين الهمزة والياء. فقال الأصمعي: بَدَأْنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأت فغضِبَ لها الأصمعي، وكان الصوابُ أن يقولَ: بَدَوْنَ بالواو، لأنه من بدا يبدو، أي: ظهر. فأتى الأصمعي يوماً للشيباني فقال له: كيف تُصَغِّرُ مختاراً؟ فقال: أقول مُخَيْتير، فضحك منه وصَفَّق بيديه وشَنَّع عليه في حَلَقته، وكان الصوابُ أن يقول: مُخَيِّر بتشديد الياء، وذلك أنه اجتمع زائدان: الميم والتاء، والميمُ أَوْلى بالبقاء لعلة ذكرها التصريفيون، فَأَبْقاها، وحَذَفَ التاءَ، وأتى بياءِ التصغير فَقَلَبَ لأجلها الألفَ ياءً، وأَدْغَمها فيها، فصارَ "مُخَيِّراً" كما تَرَى، وهو يحتمل أن يكونَ اسمَ فاعل أو اسمَ مفعولٍ كما كان يحتملها مُكَبَّرُه، وهذا أيضاً يُلْبَسً باسمِ فاعل خَيَّر يُخَيِّر فهو مُخيِّر، والقرائِنُ تُبيِّنُهُ.
ومفعول "يَرْجِعُون" محذوفٌ أيضاً اقتصاراً أي: لعلهم يكونون مِنْ أهلِ الرجوع، أو اختصاراً أي: يَرْجِعُونَ إلى دينكم وما أنتم عليه.
* { وَلاَ تُؤْمِنُوااْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ}: في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ مؤكدةٌ، كهي في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} أي: رَدِفَكم، وقول الآخر:
1332ـ فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً * أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَا
قول الآخر:
1333ـ ما كنتُ أخدَعُ للخيلِ بخُلَّةٍ * حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعا
أي: أَنَخْنَا الكلاكل، وأَخْدَعُ الخليلَ، ومثلُه:
(4/30)
---(1/1310)
1334ـ يَذُمُّونَ للدنيا هوم يَرْضِعُونَها * أَفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثَعْلُ
يريد: يَذُمُّون الدنيا، ويروي "بالدنيا" بالباء، وأظن البيت: "يَذُمُّونَ لي الدنيا" فاشتَبَه اللفظُ على السامعِ، وكذا رأيتُه في بعضِ التفاسيرِ، وهذا ليس بقويٍ.
والثاني: أنَّ "أَمِنَ" ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ، فَعُدِّي باللام أي: ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، ونحوُه: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى} {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}. وقال أبو علي: "وقد تعدَّى "آمَن" باللام في قولِهِ: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى} {آمَنتُمْ لَهُ} {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فذَكَرَ أنه يتعدَّى بها من غيرِ تضمين./ والصوابُ ما قَدَّمْتُه من التضمينِ، وقد حَقَقْتُ هذا أولَ البقرة.
وهذا اسثناءٌ مفرغ، وقال أبو البقاء: "إلاَّ لِمَنْ تَبع" فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ مِمَّا قبلَه، والتدقيرُ: لا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع" فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً، ويكون محمولاً على المعنى أي: اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ مَنْ تَبعَ، والثاني: أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُتيتم إلا مَنْ تَبع دينَكم، فاللمُ على هذا زائدَةٌ، و"مَنْ" في موضِعِ نصبٍ على الاستنثاء من "أحد".
(4/31)
---(1/1311)
وقال الفارسي: "الإِيمانُ لا يتعدَّى إلى مفعولين فلا يتعلَّقُ أيضاً بجارَّيْن، وقد تُعَلَّق بالجارّ المحذوفِ مِنْ قولِهِ: {أَن يُؤْتَى} فلا يتعلَّقُ باللامِ في قوله: {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إلا أَنْ يُحمل الإِيمانُ على معناه، فيتعدَّى إلى مفعولين، ويكونُ المعنى: "ولا تُقِرُّوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُتيتم إلا لمَنْ تَبعَ دينكم كما تقولُ: أَقْرَرَتُ لزيدٍ بألف، فتكونُ اللامُ متعلقةً بالمعنى، ولا تكونُ زائدةً على حدِّ {رَدِفَ لَكُم} {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. قلت: فهذا تصريحٌ من أبي علي بأنه ضُمِّنَ آمَنَ معنى أَقَرَّ.
(4/32)
---(1/1312)
قوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ} اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهش عن قائليهِ ليتضحَ ذلك، فأقولُ وباللهِ العون: اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [وجوهٍ:] أحدُها: أنْ يكونَ {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ} متعلِّقاً بقوله: {وَلاَ تُؤْمِنُوااْ} على حذف حرفِ الجر، والأصلُ: "ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم" فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل "أَنْ"، ويكونُ قولُهُ: "قل: إنَّ الهدى هُدَى الله" جلمةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ: "ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقوِهِ: "أَنْ يُؤْتَى أحد"، وما بينهما اعتراضٌ أي: "ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دومنَ غيرِهم، أرادوا: أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لئلا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على "أَنْ يُؤْتَى". والضميرُ في "يُحاجُّوكم" لأحد لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، فإن المسلمين يُحاجُّوكم عند ربكم بالحق، ويغالِبونُكم عند الله. فإنْ قلت: ما معنى الاعتراض؟ قتل: معناه أن الهدى هدى الله، مَنْ شاءَ أَنْ يلطف به حتى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم وزيُّكُم تصديقكم عن المسلمين والكافرين، وكذلك قوله: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} يريد الهدايةَ والتوفيٌ". قلت: هذا كلامٌ حسن لولا ما يريد بباطنه، وعلى هذا يكونُ قولُه {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} مستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديره: ولا تُؤمِنُوا بأَنْ يُؤْتَى أحد مثلَ ما أوتيتم لأحدٍ من الناسِ إلا لأشياعكم دومنَ غيرهم، وتكونَ هذه الجملةُ ـ أعني قولَه: ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها، من(1/1313)
(4/33)
---
كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة، أي: وقالَتْ طائفةٌ كذا، وقالَتْ أيضاً: ولا تُؤمِنُوا، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} مِنْ كلام اللهِ لا غير.
الثاني: أنَّ اللامَ زائدةٌ في "لِمَنْ تَبعَ" وهو مستثنى من أحد المتأخر، والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من "أحد"، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء ف يمحل "أن يؤتى" ثلاثة أوجهٍ: الأول والثاني مذهبُ الخليل وسيبويه وقد تقدَّما. الثال: النصبُ على المفعولِ مِنْ أجله تقديرُهُ: مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى.
وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ من جهةِ المعنى ولا مِنْ جهةِ الصناعة: أمَّا المعنى فواضحٌ، وأَمَّا الصناعةُ فلأن فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ "أَنْ" عليها، وهو غيرُ جائز.
(4/34)
---(1/1314)
الثالث: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتَى" مجروراً بحرفِ العلة وهو اللام، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، ولنوضَّحْ هذا الوجه بما قاله الزمخشري. قال رحمه الله: "أو تمَّ الكلامُ عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، على معنى: ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ وهو إيمانهم وجهَ النهار إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، إلا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أسلموا منكم، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم، وقوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ} معناه : لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لشيء آخر، يَعْني أن ما بكم من الحسد والبغي أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليلُ عليه قراءة ابن كثير: "أَأَن يُؤْتَى أحد" بزيادةِ همزةِ الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى: ألأنْ يُؤْتَى أحدٌ؟ فإن قلت: فمامعنى قوله "أو يُحاجُّوكم" على هذا؟ قلت: معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم".
(4/35)
---(1/1315)
الرابع: أن ينتصِبَ "أَنْ يُؤْتَى بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه {وَلاَ تُؤْمِنُوااْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه قِيل: قل إنَّ الهدى هُدى الله فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثملَ ما أُتيتم، ف لاتُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما حَيِّزها، لأنَّ قولَه {وَلاَ تُؤْمِنُوااْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يُؤْتَى أحد مثلَ ما أُوتوا. قال الشيخ: "وهذا بعيدٌ لأنَّ فيه حذفَ حرفِ النهي وحَذْفَ معمولِهِ، ولم يُحْلفَظْ ذلك من لسانهم" قلت: متى دَلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أيِّ حالةٍ كان.
الخامس: أَنْ يكونَ "هدى الله" بدلاً من "الهدى" الذي هو اسمُ إنَّ، ويكون خبرُ إنَّ: "أَنْ يُؤْتَى أحدٌ"، والتقديرُ: قل إنَّ هدى الله أَنْ يُؤْتى أحدٌ، أي: إنَّ هدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم، وتكونَ "أو" بمعنى"حتى"، والمعنى: حتى يُحاجُّوكم عند ربكم فيغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتكم عند الله، ولا يكون "أَوْ يُحاجُّوكم" معطوفاً على أَنْ يُؤتى وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ.
السادس: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتَى" بَدَلاً مِنْ هدى الله، ويكون المعنى: قل إنَّ الهدى هدى الله وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ ك الذي جاءنا نحن، ويكونُ قولُه: "
أو/ يُحاجُّكم" بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يَغْلبونكم، وقاله ابن عطية، وفيه نظرٌ، لأنه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ.
السابع: أَنْ تكونَ "لا" النافيةُ مقدرةً قبل "أَنْ يؤتى" فَحُذِفَتْ لدلالةِ الكلام عليها وتكونُ "أو" بمعنى إلاَّ أَنْ، والتقديرُ: ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيء إلاَّ لمِنَ تَبع دينكم بانتفاءِ أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، وجاء بمثله وعاضداً له، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلاَّ أنْ يُحاجُّوكم كوقلِك: لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقي، وفيه ضعفلإ من حيث حَذْفُ "لا" النافية، وما ذكروه من دلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ.
(4/36)
---(1/1316)
الثامن: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتى" مفعولاً من أجله، وتحريرُ هذا القولِ أَنْ تجعلَ قولَه: "أَنْ يُؤْتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يُحاجُّوكم" ليس داخلاً تحتَ قولِه "قل" بل هو من تمامِ قول الطائفةِ متصلٌ بقولِه: ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرمة مثلَ ما أوتيتم، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه. وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكفرهم مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف: كراهَة أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أي: مِمَّن خالَفَ دينَ الإسلام، لأن الله لا يَهْدِي مَنْ هو كاذب وكَفَّار، فهُدى الله بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين، والخطابُ في "أوتيتم" و"يُحاجُّوكم" لأمةِ النبي صلى الله عليه وسلم.
واستضعف بعضُهم هذا وقال: كونُ مفعولاً من أجله على تقدير: "كراهةَ" يَحْتاج إلى تقديرِ عاملٍ فيه ويَصْعُبُ بتقديرُهُ، إذ قبلَه جملةٌ لا يظهرُ تعليلُ النسبةِ فيها بكراهةِ الإيتاء المذكور.
التاسع: أنَّ "أَنْ: المفتوحَةَ تأتي للنفي كما تأتي "لا" نَقَل ذلك بعضُهم نصاً عن الفراء، وجَعَل "أو" بمعنى إلا، والتقدير: لا يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكُم، فإنَّ إيتاءَه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو مُحاجَّتِكُم عند ربكم، لأنَّ مَنْ آتاه اللهُ الوحيَ لا بد أن يُحاجَّهم عند ربهم في كونِهم لا يتَّبعونه، فقولهن: "أو يُحاجُّوكم" حالٌ لازمةٌ مِنْ جهةِ المعنى، إذ لا يُوحى الله لرسولٍ إلا وهو مُحاجٌّ مخالفِيه. وهذا قولٌ ساقط إذ لم يثبت ذلك من لسانِ العرب.
(4/37)
---(1/1317)
واختلفوا في الجملةِ مِنْ قولِهِ: "ولا تُؤْمِنُوا" هل هي مِنْ مقولِ الطائفة أم من مقول الله تعالى، على معنى أن الله تعالى خاطب به المؤمنين تثبيتاً لقلوبِهم وتسكيناً لجَأشهم؛ لئلا يَشُكُّوا عند تَلَبُّس اليهود عليهم وتزويرهم؟ وقد نَقَلَ ابنُ عطية الإِجماعَ من أهلِ التأويل على أنه من مقول الطائفة، وليس بسديدٍ لما نَقَلَهُ الناسُ من الخلاف.
و"أحد" يجوزُ أَنْ يكونَ في الِآية الكريمة من الأسماء الملازمة للنفي وألاَّ يكون، بل يكون بمعنى واحد. وقد تقدَّم الفرق بينهما بأن الملازم للنفي همزتُهُ أصلية، والذي لا يلازم النفي همزته بدل من واو، فعلى جَعْلِهِ ملازماً للنفي يظهر عَوْدُ الضمير عليه جمعاً اعتباراً بمعناه، لأنَّ المراد به العموم، وعليه قوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} جَمَعَ الخَبَرَ لمَّا كان "أحد" في معنى الجميع، وعلى جَعْلِهِ غيرَ الملازم للنفي يكونُ جَمْعُ الضمير في "يُحاجُّوكُم" باعتبارِ الرسول عليه السلام وأتباعِهِ. وبعضُ الأوجهِ المتقدمة يَصِحُّ أَنْ يُجعل فيها "أحد" المذكورُ الملازمُ للنفي، وذلك إذا كان الكلامُ على معنى الجَحْدِ، وإذا كان الكلام على معنىلثبوت كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنعُ جَعْلُه الملازمَ للنفي، والأمر واضحٌ مِمَّا تقدَّم.
وقرأ ابن كثير: "أأن يؤتى" بهمزة استفهام وهو على قاعدتِهِ في كونه يُسَهِّل الثانية بينَ بينَ من غير مدٍّ بينهما. وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أوجه، أحدها: أن يكون "أن يُؤتى" على حَذْفِ حرف الجر وهو لام العلة والمُعَلَّلُ محذوف، تقديره: أَلأنْ يؤتى أحدُ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه. وقد قَدَّمَتْ تحقيقَ هذا فحينذٍ يَسُوغُ في محلِّ "أَنْ" الوجهان: أعني النصبَ مذهبَ سيبويه، والجَرَّ مذهبَ الخليل.
(4/38)
---(1/1318)
الثاني: أَنَّ "أَنْ يُؤتَى" في محلِّ رفعب بالابتداءِ والخبر محذوف تقديره: أأن يؤتى أحد يا معشر اليهود مثلَ ما أوتيتم من الكتاب والعلم تُصَدِّقون به أو تعترفون به أو تَذْكُرونه لغيركم أو تُشيعونه في الناس ونحوُ ذلك مِمَّا يَحْسُن تقديرُه، وهذا على قولِ مَنْ يقول: "أزيد ضربته" وهو وجه مرجوح، كذا قَدَّرَهُ الواحدي تَبَعاً للفارسي، وأحسنُ من هذا التقدير لأنه الأصل: أإتيان أحدٍ مثلَ ما أُوتيتم ممكنٌ أو مُصَدَّقٌ به.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الفعلُ المضمرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ والتقدير: أَتَذْكُرون أَنْ يُؤْتَى أحد تذكرونه، فتذكرونه مفسِّرٌ لتذكرون الأول على حَدِّ: "أزيداً ضربته" ثم حُذِفَ الفعلُ الأخير المفسِّر لدلالةِ الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونِهِ في قوة المنطوق به صَحَّ له أن يفسِّر مضمراً، وهذه المسألةُ منصوص عليها. وهذا أرجحٌ من الوجه قبله، لأنه مثلُ: أزيداً ضربته، وهو راجحٌ لأجلِ الطالب للفعل، ومثلُ حَذْفِ هذا الفعلِ المقدَّرِ لدلالة ما قبلَ الاستفهامِ عليه حَذْفُ الفعل في قوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} قيل: تقديره: الآن آمنت ورَجَعْتَ وتُبْتَ ونحو ذلك.
قال الواحدي: "فإنْ قيل: كيف وُجِدَ دخولَ "أحد" في هذه القراءةِ وقد انقطَع من النفي والاستفهام، وإذا انقطع الكلامُ إيجاباً وتقريراً فلا يجوز دُخولُ "أحد"؟ قيل: يجوزُ أَنْ يكونَ "أحد" في هذا الموضع "أحداً" الذي في نحو: أحد وعشرين وهذا يقع في الإِيجاب، ألا ترى أنه بمعنى واحد. وقال أبو العباس: "إن أحداً ووحَدَاً وواحداً بمعنى".
وقوله: "أو يُحاجُّوكم" "أو" في هذه القراءةِ بمعنى حتى، ومعنى الكلام: أَأن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يحاجُّكم عند ربكم. قال الفراء: "ومثلُه في الكلام/: تَعَلَّقْ به أو يُعْطِيَكَ حقلك، ومثلُه قولُ امرىء القيس:
(4/39)
---(1/1319)
1335ـ فَقُلْتُ له: لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنما * نحاوِلُ مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرَا
أي: حتى، ومِنْ هذا قولُه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قال: "فهذا وجه، وأجودُ منه أن تجعلَه عطفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يُحاجَّكم أحدٌ عند الله تُصَدِّقونه وهذا كله معنى قول الفارسي، ويجوز أن يكون "أن يؤتى أحد: منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية تقديرُه: أتذكرون أو أَتَشِيعونَ أَنْ يُؤْتَى أحدٌ، ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجهُ الرابع.
الخامس: أَنْ يكونَ "أَنْ يؤتى" في قراءته مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قولِ الطائفة. وهو أظهرُ مِنْ جَعْلِهِ من قول الطائفة.
وقد ضَعَّف الفارسي قراءةَ ابن كثير فقال: "وهذا موضِعٌ ينبغي أن تُرَجَّح فيه قراءةُ غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأنَّ الأسماءَ المفردة ليس بمستمرٍ فيها أن تَدُلَّ على الكثرة". وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة: "إنْ يؤتى" بكسر الهمزة، وخَرَّجها الزمخشري على أنها: "إنْ" النافيةم فقال: "على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم حتى يُحاجُّوكم عند ربكم، يعني لا يُؤْتَوْن مثلَه فلا يُحاجُّونكم".
(4/40)
---(1/1320)
وقال ابن عطية: "وهذه القراءةُ تحتمل أن يكونَ الكلامُ خطاباً من الطائفةِ القائلة، ويكونُ قولُها "أو يحاجُّوكم" بمعنى: أو فليحاجُّوكم وهذا على التصميمِ على أنه لا يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتي، أو تكون بمعنى: إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكم، وهذا على تجويز أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتي، أحدٌ ذلك إذا قامت الحجة له" فقد ظَهَرَ على ما ذَكَرَ ابن عطية أنه يجوزُ في "أو" في هذه القراءةِ أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها للتخيير والتنويع، وأَنْ تكونَ بمعنى "إلاَّ"، إلاَّ أنَّ فيه حَذْفَ حرفِ الجزم وإبقاءَ عمله، وهو لا يجوز، وعلى قولِ غيره تكونُ بمعنى حتى.
وقرأ الحسن: "أَنْ يُؤْتى أحدٌ" على بناءِ الفعل للفاعل. ولَمَّا نقل هذه القراءةَ بعضُهم لم يتعرَّض لـ"ان" بفتحٍ ولا كسرٍ كأبي البقاء، وتعرَّض لها بعضُهم فقيَّدها بكسرِ "إنْ" وفسَّرها بـ"إنْ" النافية، والظاهر في معناه أن إنهام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطابٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، والمفعولُ محذوف تقديره: نْ يؤتي أحدٌ أحداً مثلَ ما أوتيتم، فحُذِفَ المفعولُ الأولُ وهو "أحداً" لدلالة المعنى عليه، وأُبْقِيَ الثاني. وهذا الواحدي: "وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبهِ تفسيراً، ولقد تدبَّرْتُ أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أَجِدْ قولاً يَطَّرِدُ في هذه الآية من أولِها إلى آخِرها مع بيان المعنى وصحة النظم.
* { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
(4/41)
---(1/1321)
قوله تعالى: {مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ}: مَنْ مبتدأٌ، و"من أهل" خبره، قُدِّمَ عليه، و"مَنْ": إما موصولة وإما نكرة، و"إِنْ تَأْمَنْهُ يُؤدِّه" هذه الجملة الشرطية: إمّضا صلةٌ فلا محلَّ لها، وإمَّا صفةٌ فمحلُّها الرفع.
وقرأَ أُبَيّ: "تِئْمَنْهُ" في الحرفين، و{مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} بكسر حرف المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي، إلا أنهما أَبْدلا الهمزة ياء، وجَعَلَ ابن عطية ذلك لغةَ قريش، وغَلَّطه الشيخ. وقد تقدَّم لنا الكلامُ في كسرِ حرفِ المضارعة وشرطِ ذلك فيو سورة الفاتحة بكلامٍ مشبع فليُراجع ثمة.
والدينار أصله "دِنَّار" بنونين، فاسْتُقْلِلَ توالي مِثْلِين فأبدلوا أولهما حرفَ علة تخفيفاً لكثرة دَوْره في لسانهم، ويَدُلُّ على ذلك رَدُّه إلى النونين تكسيراً وتصغيراً في قولهِم: دَنانير ودُنَيْنِير، مثله: قيراط: أصله قِرَّاط بدليل قراريط وقُرَيْرِيط كما قالوا: تَظَنَّيْت وقَصَّيْت أظفاري، يريدون تَظَنَّنْت وقَصَّصت بثلاث نونات وثلاث صادات. والدينار مُعَرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، ك قيراط ثلاث شُعيرات متعدلة، فالمجموعُ اثنان وسبعون شُعَيْرة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم: "يُؤَدِّهُ" بسكون الهاء في الحرفين، وقرأ قالون: يُؤَدذشه بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان، أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.
فأما قراءة أبي عمرو ومن ذُكِر معه فقد خَرَّجوها على أوجه أحسنها أنه سُكِّنت هاء الضمير إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو: {يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ} {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله:
1336ـ وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عطشٌ * إلا لأنَّ عيونَه سيلُ وادِيها
وأنشد الأخفش على ذلك أيضاً:
(4/42)
---(1/1322)
1337ـ فَظَلْتُ لدى البيتِ العتيقِ أُخيلُه * ومِطْواي مُشتاقان لَهُ أَرِقانِ
إلاَّ أنَّ هذا يَخُصُّه بعضُهم بضرورة الشعر، وليس كما قال لما سيأتي.
وقد طعن بضعهم على هذه القراءة فقال الزجاج: "هذا الإِسكان الذي رُوِي عن هؤلاء غلطٌ بَيِّنٌ، لأن الهاء لا ينبغي أن تُجْزم، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فَغُلِط عليه كما غُلِطَ عليه في {بَارِئِكُمْ}، وقد حَكَى عنه سيبويه ـ وهو ضابطٌ لمثل هذا ـ أنه كان يكسِر كسراً خفياً، يعني يكسر في "بارئكم" كسراً خفياً فظنُّه
الراوي سكوناً". قلت: وهذا الردُّ من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس/، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نَصَّ على أن الاختلاس أيضاً لا يجوز، بل جَعَلَ الإِسكان في الضرورة أحسنَ منه في الاختلاس قال: "ليَجري الوصل مُجرى الوقف إجراءً كاملاً"، وَجَعَلَ قولَه "عيونَهْ سيلُ واديها" أحسنَ من قوله:
1338ـ ....................... * ما حَجَّ ربَّه في الدنيا ولا اعتمرا
حيث سَكَّن الأول اختلس الثاني.
ومنها: أنَّ هذه لغةٌ ثابتٌ عن العرب حَفِظَها الأئمة الأعلام كالسكائي والفرءا، وحكى الكسائي عن بني عُقيل وبني كلاب: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} سكون الهاء وكسرها من غير إشباع، ويقولون: "لَهْ مال ولَهُ مال" بالإِسكان والاختلاس. وقال الفراء: "مِن العرب مَنْ يجزم الهاءَ إذا تحرَّك ما قبلها فيقولون: ضربتهْ ضرباَ شديداً، فيسكنون الهاء كما يُسكنون ميم "أنتم" و"فمنهم" وأصلُها الرفع، وأنشد:
1339ـ لمَّا رأى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ * مالَ إلى أرطاةِ حِقْفٍ فالطَجَعْ
(4/43)
---(1/1323)
قلت: وهذا عجيبٌ من الفراء كيف يُنْشد هذا البيتَ في هذه المَعْرِض لأن هذه الهاء مبدلةٌ من تاء التأنيث التي كانت بثابةً في الوصل فقلبها هاءً ساكنة في الوصل إجراءً له مُجْى الوقف، وكلامُنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيث، لأنَّ هاء التأنيث لا حظَّ لها في الحركة البتة، ولذلك امتنع رَوْمُها وإشمامها في الوقفِ، نصوا على ذلك، وكان الزجاج يَضْعُف في اللغة، ولذلك رَدَّ على ثعلب في "فصيحه" أشياءَ أنكرها عن العرب، فردَّ الناس عليه ردَّه، وقالوا: قالتها العرب، فحفِظها ثعلب ولم يحفظْها الزجاجد فَلْكن هذا منها.
وزعم بعضهم أن الفعل لَمَّا كان مجزوماً وحَلَّتِ الهاءُ محلَّ لامه جرى عليها ما يجري على لام الفعل من السكون للجزم وهو غير سديد. وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها:
1340ـ لَهُ زَجَلٌ كأنه صوتُ حادٍ * ..........................
وقول الآخر:
1341ـ أنا ابنُ كِلابٍ وابنُ أوسٍ فَمَنْ يَكُنْ * قناعهُ مَغْطِيَّاً فإنِّي لَمُجْتَلِي
وقول الآخر:
1342ـ وأغبرُ الظَّهْرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه * ما حَجَّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا
وقد تقدَّم أنها لغةُ عقيل وكلاب أيضاً.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. وقرأ الزهري: "يُؤَدِّهو" بضم الهاء بعدها واو، وقو تقدَّم أن هذا هو الأصل في هاء الكناية، وقرأ سلام كذلك، إلا أنه ترك الواو فاختلس، وهما نظيرتا قراءَتَيْ: "يؤد هي ويؤده" بالإِشباع والاختلاس مع الكسر.
(4/44)
---(1/1324)
واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعلٍ مجزوم أو أمر معتل الآخر جرى فيها هذه الأوجه الثلاثة ـ أعني السكونَ والاختلاس والإِشباع ـ وذلك: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} {يَرْضَهُ لَكُمْ} {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، وقد جاء ذلك في قراءة السبعة أعني الأوجه الثلاثة في بعض هذه الكلمات، وبعضها لم يأتِ فيه إلا وجهان، وسيأتي ذلك مفصَّلاً في سوره إن شاء الله تعالى، والسر فيه أن الهاء التي للكناية متى سَبَقها متحركٌ فالفصيحُ فيها الاشباعُ نحو: إنه، وبه، وله، وإنْ سَبَقها سكانٌ فالأشهرُ الاختلاسُ، وسواءً كان ذلك الساكن صحيحاً أو متعتلاً نحو: فيه ومنه، وبعضُهم يُفَرِّق بين المعتل والصحيح، وقد أتقنت ذلك في أول الكتاب، إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلماتُ المشارُ إليها إنْ نَظَرْنا إلى اللفظ فقد وَقَعتْ بعد متحركٍ فحقُّها أَنْ تُشْبَعَ حركتُها موصولةً بالياء أو الواو، وإن سَكَنَتْ فلِما تقدَّم من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقف، وإنْ نظرنا إلى الأصلِ فقد سَبَقَها ساكنٌ وهو حرفُ العلة المحذوف للجزم، فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصلُ نافعَ يَطَّرِدُ معك عند قربِك في هذا الكتاب من هذه الكلماتِ.
قوله: "بدينار" في هذه الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على أصلها من الإِلصاق وفيه قلقٌ، والثاني: أنها بمعنى في، ولا بُدَّ من حذف مضاف أي: في حفظِ دينارٍ وفي حفظ قنطار. والثالث: إن الباء بمعنى على، وقد عُدِّي بها كثيراً: {لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} وكذلك في "بقنطار".
(4/45)
---(1/1325)
قوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} استثناءٌ مفرغ من الظرف العام، إذا التقدير: لا يُؤدِّه إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه متوكلاً به. ودُمْتَ هذه هي الناقصة/ ترفع وتنصب، وشرطُ أعمالها أَنْ يتقدمها "ما" الطرفيةُ كهذه الآية، إذ التقدير إلا مدةَ دوامك، ولا ينصرف، فأمَّا قولُهم، "يدومُ" فمضارع "دام" التامة بمعنى بقي، ولكونها صلةً لـ"ما" الظرفية لَزِم أن تكونَ محتاجةً إلى كلام آخر لتعمل في الظرف نحو: "لا أصحبُك ما دمت باكياً"، ولو قلت: "مادام زيد قائماً" من غير شيء لم يكن كلاماً.
وجَوَّز أبو البقاء في "ما" هذه أن تكونَ مصدرية فقط، وذلك المصدرُ المنسبك منها ومِنْ دام في محلِّ نصب على الحال، وهو استثناء مفرغٌ أيضاً من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلاَّ في حال ملازمتك له، وعلى هذا فتكون "دام" هنا تامةً لِما تقدم مِنْ أنَّ تقدُّم الظرفيةِ شرطٌ في إعمالها، وإذا كانت تامة انتصب "قائماً" على الحال.
ويقال: دامَ يدوم كقام يقوم، ودُمت قائماً بضم الفاء وهذه لغة الحجاز، وتميم يقولون: دِمت بكسرها، وبها قرأ أبو عبدالرحمن وابن وثاب والأعمش وطلحة والفياض بن غزوان، قال الفراء: "وهذه لغة تميم ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم"، يعني أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارعَ مضموم العين، وكان قياس تميم أن تقول يَدام كخَاف يخَاف ومات يمات، فيكون وزنُها عند الحجاز: فَعَل بفتح العين، وعند التميميين: فَعِل بكسرها، وهذا نقلُ الفراء، وأمَّا غيرُه فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْت أدام كخِفْت أخاف، نقل ذلك أبو أسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني وأبي القاسم الزمخشري.
(4/46)
---(1/1326)
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على الثبوت والسكون، يقال: "دام الماء" أس سكن، وفي الحديث: "لا يبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ" وفي بضعه بزيادة "الذي لا يجرى" وهو تفسيرٌ له، وأَدَمْتُ القِدْرَ ودوَّمْتُها: سكَّنت غليانها بالماء، ومنه دام الشيء: إذا امتد عليه زمان، ودَوَّمَتِ الشمس: إذا وقفت في كبد السماء، قال ذو الرمة:
1343ـ ...................... * والشمسُ حَيْرَى لها في الجَوِّ تَدْويمُ
هكذا أنشد الراغب هذا الشطرَ على هذا المعنى، وغيرُه يُنْشِده على معنى أنَّ الدوام يُعَبَّر به عن الاستداة حولَ الشيء، ومن الدوامُ: وهو الدُّوار الذي يأخذ الإِنسان في دماغه فيرى الأشياءَ دائرة، وأنشد معه أيضاً قولَ علقمة بن عبدة:
1344ـ تَشْفي الصُّداع ولا يُؤْذِيك صالِبُها * ولا يُخالطُها في الرأسِ تدويم
ومنه: دَوَّم الطائرُ إذا حَلَّق ودار.
وقوله: {عَلَيْهِ} متعلِّقٌ بقائماً، والمعنى بالقيام: الملازمة لأن الأغلَب أنَّ المطالِب يقوم على رأس المطالَب، ثم جُعِل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام.
قوله: {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ} مبتدأ وخبر، و"ذلك" إشارة إلى الاستحلال وعدمِ المؤاخذة في زعمهم، أي: ذلك الاستحلالُ مستحق أو جائز بقولِهم: "ليس علينا في الأميين سبيل".
قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا} يجوزُ أَنْ يكونَ في "ليس" ضميرُ الشأن وهو اسمها، وحينئذ يجوز أن يكون "سبيل" مبتدأ "وعلينا" الخبرُ، والجملةُ خبرُ "ليس" ويجوز أن يكونَ "علينا" وحده هو الخبرَ، و"سبيل" مرتفعٌ به معلى الفاعلية، ويجوز أن يكونَ "سبيل" اسمَ ليس، والخبرُ أحد الجارَّيْن ـ أعني علينا أو في الأميين ـ ويجوزُ أن يتعلق "في الأميين" بالاستقرار الذي تعلق به "علينا".
(4/47)
---(1/1327)
وجَوَّز بعضهم أن يتعلَّقَ بنفقس "ليس" نقله أبو البقاء وغيرُه وفي هذا النقلِ نظرٌ، وذلك أنَّ هذه الأفعال النواقص في عملِها في الظروف خلافٌ، وبَنوا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدثِ فَمَنْ قال: تَدُلُّ على الحدَث جَوَّز إعمالَها في الظرف وشِبْهِه، ومن قال: لا تَدْلُّ على الحدَث مَنَع إعمالَها، واتفقوا على أن "ليس" لا تدل على حدثٍ البتة فيكف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَلُ. ويجوز أنَّ يتعلَّقَ "في الأميين" بسبيل، لأنه استُعْمِل بمعنى الحرج والضمان ونحوهما، ويجوز أن يكون حالاً منه، فيتعلق بمحذوف.
وقوله: {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يجوز أن يتعلق "على الله" بالكذب وإن كان مصدراً؛ لأنه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما، ومن مَنَع علَّقه بيقولون متضمناً معنى يفترون فَعُدِّي تعديتَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "الكذب".
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية، ومفعولُ العلم محذوف اقتصاراً أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً أي: يعلمون كذبهم وافتراءهم وهو أقبحُ لهم.
* { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
وقوله تعالى: {بَلَى}: جوابٌ لقولهم "ليس" وإيجابٌ لِما نَفَوه، وقد تقدَّم القول في نظيره، ومَنْ شرطية أو موصولة، والرابطُ من الجملة الجزائية أو الخبرية هو العمومُ في المتعيِّن، وعند مَنْ يرى الربط بقيام الظاهرِ مقامَ المضمر يقولُ ذلك هنا، وقيل: الجزاء أو الخبر محذوف تقديره: يحبه الله، ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وفيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه.
(4/48)
---(1/1328)
و{بِعَهْدِهِ} يجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعِله على أَنَّ الضمير يعودُ على مَنْ، أو إلى مفعوله على أنه يعود على "الله"، ويجوز أن يكون المصدرُ مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى/، وإلى المفعول وإنْ كان الضمير لِمَنْ، ومعناه واضح إذا تُؤُمِّل.
* { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {يَلْوُونَ}: "صفةٌ لـ"فريقاً" فهي في محل نصب، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى لأنه اسمُ جمع كالقَوْم والرهط، وقال أبو البقاء: "ولو أُفْرد على اللفظ لجازَ" وفيه نظرٌ إذ لا يجوز: "القوم جاءني".
والعامة على "يَلوون" بفتح الياء وسكون اللم وبعدها واوٌ مضمومة ثم أخرى ساكنةٌ، مضارع لَوَى أي: فَتَل. وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع: يُلَوَّون بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد الواو الأولى من لَوَّى مضعفاً، والتعضيفُ فيه للتكثير والمبالغة لا للتعدية، إذ لو كان لها لتعدَّى لآخرَ لأنه متعدٍّ لواحد قبلَ ذلك، ونسبها الزمخشري لأهل المدينة وهو كما قال: فإنَّ هؤلاء رؤساء قراءة المدينة.
(4/49)
---(1/1329)
وقرأ حميد: يَلُون" بفتح الياء وضم اللام بعدها واو مفردة ساكنة، ونسبها الزمخشري لمجاهد وابن كثير، ووجَّهها هو بأن الأصلَ: "يَلْوُون" كقراءة العامة، ثم أُبْدِلَتِ الواو المضمومة همزةً، وهو بدلٌ قياسيّ كأجوه وأُقِّتت، ثم خُفِّف الهمزة بإلقاء حركتها على الساكنِ قبلها وهو اللامُ وحُذِفَت الهمزة فبقي وزنُ يَلُون: يَفُون بحذف اللام والعين، وذلك أن اللام وهي الياء حُذفت لالتقاء الساكنين لأن الأصل: "يَلْوِيُون" كيَضْربون فاستُثْقلت الضمة على الياء فَحُذفت فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فَحُذفت الياء لالتقائمها، ثم حُذِفت الواو التي هي عينُ الكلمة بما قدمته لك.
وألسنتهم: جمعُ لِسان وهذا على لغةِ مَنْ ذكَّر، وأما على لغة من يؤنثه فيقول: هذه لسان فإنه يُجْمع على ألسن نحو: ذِراع وأَذْرُع وكِراع وأَكْرُع، وقال الفراء: "لم نَسْمعه من العربِ إلا مذكراً" ويُعَبِّر باللسانِ عن الكلام لأنه يَنشأ منه وفيه، والمرادُ به ذلك أيضاً التذكيرُ والتأنيث.
والَّليُّ: الفَتيلُ، يقال: لَوَيْتُ الثوبَ ولَوَيْتُ عنقه أي: فَتَلْتُه والمصدرُ الليُّ الليَّان، قال:
1345ـ قد كُنْت دايَنْتُ بها حَسَّانا * مخافةَ الإِفلاسِ واللَّيَّانا
والأصل: لَوْي ولَوْيان، فأعِلَّ وهو واضح بما تقدَّم في "ميِّت" وبابِه، ثم يُطْلَقُ الَّليُّ على الإِراغةِ والمرواغة في الحجج و الخصومةِ تشبيهاً للمعاني بالإجرام.
(4/50)
---(1/1330)
و{بِالْكِتَابِ} متعلِّق بيَلْوُون وهو تعلُّقٌ واضح، وجَعَله أبو البقاء حالاً من الألسنة قال: تقديرُه ملتبسةً بالكتاب أو ناطقة بالكتاب"، والضمير في {لِتَحْسَبُوهُ} يجوزُ أَنْ يعودَ على ما دَلَّ عليه ما تقدم من ذِكْر الليِّ والتحريف أي: لتحسَبوا المحرَّف من التوراة، ويجوز أن يعودَ على مضافٍ محذوف دَلَّ عليه المعنى والأصل: يَلْوُون ألسنَتهم بشبه الكتاب لتحسَبوا شبه الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} ثم قال "يَغْشاه" والأصل: أو كذي ظلمات، فالضميرُ من "يغشاه" يعود على ذي المحذوف. و{مِنَ الْكِتَابِ} هو المفعول الثاني للحسبان. وقُرىء "ليحسبوه" بياء الغَيْبة والمراد بهم المسلمون أيضاً، كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسَب المسملون أنَّ المحرَّف من التوراة.
* { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }
(4/51)
---(1/1331)
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ}: "أَنْ يؤتيَه" اسمُ كان و"لبشر" خبرُها. وقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} عطفٌ على "يؤتيه"، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المعنى، إذ لو سكت عنه لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتابَ والحكم والنبوة، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل: إنها لازمة، فلا غرو أيضاً في لزوم المعطوف، وإما بَيَّنتْتُ لك هذا الأجل قراءةٍ سأذكرها. ومعنى مجيء هذ النفيَ في كلام العرب نحو: "ما كان لزيد أن يفعل" ونحوه نفيُ الكونِ والمرادُ نفيُ خبرِه، وهو على قسمين: قمسٍ يكونُ النفي فيه من جهة العقل، ويُعَبَّر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية، لأنَّ اله تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكم والنبوة لمَنْ يقولُ هذه المقالةَ الشنعاء، ونحوُه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، وقسمٍ يكونُ النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكل "ما كان لانب أبي قحافة أن يقدَّم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق.
وقرأ العامة: "يقول" بالنصب نسقاً على "يؤتيه"، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد، وأبو عمرو في رواية محبوب: "يقول" بالرفع، وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مشكلٌ لِما قَدَّمته من أن المعنى على لزومِ ذكر هذا المعطوف، إذ لا يستقِلّ ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القَطع والاستئناف؟
(4/52)
---(1/1332)
قوله: {عِبَاداً} قال ابن عطية: "ومِنْ جموعه عبيد وعِبِدَّى. قال بعض اللغويين: هذه الجموعُ كلها بمعنى، وقال بعضُهم: العِباد لله، والعبيد والعِبِدّى للبشر، وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغةٌ تقتضي الإِغراق في العبودية، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع "عبد" متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دونَ أَنْ يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن، وانظر قوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} و{عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} و{ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ}، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، وأمَّا العبيد فيستعمل في تحقيره، ومنه قول امرىء القيس:
1346ـ قولا لدودانَ عبيدِ العَصا * ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِ
(4/53)
---(1/1333)
وقال حمزة بن عبدالمطلب: "وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي"، ومنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} لأنه مكان تشفيقٍ وإعلامٍ بقلةٍ انتصارهم ومَقدِرتهم، وأنه تعالى ليس بضلامٍ لهم مع ذلك، ولما كانت لفظةُ العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أَنِيس بها في قوله تعالى: {قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} فهذا النوعُ من النظر يَسْلُك بك سبيلَ العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقةِ العربية" قال الشيخ: "وفيه بعضُ مناقشة أمَّا قولُه: ومِنْ جموعِه عبيد وعِبدَّى" فأمَّا "عبيد" فالأصحُّ أنه جمع. وقيل: اسم جمع، وأَما عِبدَّى فاسم جمع، وألفه للتأنيث" قلت: لا مناقشة، فإنه إنما يعني جمعاً معنوياً ولا شك أنَّ اسمَ الجمعِ جمعٌ معنوي. ثم قال: "وأمَّا ما استقراه من أنَّ "عباداً" يُساقُ في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دونَ أن يقترِنَ بها معنى التحقير والتصغير وإيرادُهُ ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد، وأَمَّا قوله: "وأمَّ العبيد فُستعمل في تحقير وأنشد بيتَ امرىء القيس وقولَ حمزة "وهل أنتم إلا عبيدُ أبي" وقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فاستقراءُ ليس بصحيح، وإنما كَثُرَ استعمال "عباد" دون "عبيد" لأنَّ فِعالاً في جمع فَعْل غير اليائي العين قياسيٌّ مطرد، وجمع فَعْل على فَعيل لا يَطِّرد. قال سيبويه: "وربما جاء فَعِيلاً وهو قليل نحو: الكليب والعبيد" فلما كان فِعال مقياساً في جمع "عبد" جاء "عباد" كثيراً. وأما {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فَحَسَّن مجيئه هنا ـ وإن لم يكن مقيساً ـ أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أنَّ قبله {أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وبعده {قَالُوااْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} فَحَسَّن مجيئَه بلفظ العيد مراعاةُ هاتين الفاصلتين، ونظير هذا في سورة ق: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} لأنَّ قبله:
(4/54)(1/1334)
---
{وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} وبعده : "وتقول: هل من مزيد". وأمَّا مدلُوله فمدلولُ "عِباد" سواءٌ. وأمَّا بيتُ امرىء القيس فلم يُفْهَمْ التحقيرُ من لفظ "عبيد" إنما فُهِمَ من إضافتهم إلى العصا ومن مجموعِ البيت، وكذلك قولُ حمزة: "هل أنتم إلا عبيدُ أبي" إنما فُهِمَ التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين". قلت: رَدُّه عليه استقراءَه من غير إتيانِهِ بما يخْرِمُ الاستقراء مردودٌ. وأمَّا ادِّعاؤه أن التحقير مفهومٌ من السياق دون لفظِ عبيد فممنوعٌ، ولأنه إذا دار إحالةٌ الحكم بين اللفظِ وغيره فالإِحالَةُ على اللفظ أَوْلَى.
وقوله: "لي" صفةٌ لعباد، و"مِنْ دون" متعلِّقٌ بلفظِ "عباد" لِما فيه من معنى الفعل، يجوزُ أَنْ يَكونَ صفةً ثانيةً وأَنْ يكونَ حالاً لتخصُّص النكرة بالوصف.
قوله: {وَلَاكِن كُونُواْ} أي: ولكن يقول كونوا، فلا بُدَّ من إضمار القول هنا. والرَّبَّانِيُّون جمع ربَّانِيّ، وفيه قولان، أحدهما أنه منسوب إلى الرَّبِّ، والألف والنون في زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقبَاني وشَعْراني ولِحْياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية، ولا تُفْرد هذه الزيادة عن النسب، أَمَّا إذا نَسَبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رَقَبي وشَعْري ولَحَوي، هذا معنى قول سيبويه. والثاني: أنه منسوب إلى رَبَّان والربَّان هو المُعَلِّمُ للخير ومَنْ يسوس الناس ويُعَّرِّفهم أمرَ دينِهم، فالألفُ والنونُ دالَّتان على زيادةِ الوصفِ كهي في عَطْشان ورَيَّان وجَوْعَان ووَسْنان، وتكونُ النسبةُ على هذا في الوصف نحو أَحْمريّ، وقال:
1347ـ أطَرباً وأنت قِنَّسْرِيُّ * والدهرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّ
(4/55)
---(1/1335)
وقال سيبويه: "زادوا ألفاً ونوناً في الرَّباني أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دونَ غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: شَعْراني ولِحْياني ورَقَباني" وفي التفسير: "كونوا فقهاء علماء"، ولمَّا مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: "مات اليوم رَبَّانيُّ هذه الأمة".
قوله: {بِمَا كُنتُمْ} الباء سببة أي: كونوا: علما بسبب كونكم. وفي متعلَّق هذه الباءِ حنيئذٍ أقوال: أنه متعلقة بكونوا، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور. الثاني: أن تتعلق بربانيين، لأنَّ فيه معنى الفعل. الثالث: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنىم.
و"ما" مصدريةٌ، وظاهرُ كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك، فإنه قال: "وما الظاهر أنها مصدريةٌ" فهذا يجوِّزُ غير ذلك، وجوازه فيه بُعْدٌ، وهو أن تكون موصولةً، وحنيئذٍ تحتاجُ إلى عائد وهو مقدَّر، أي: بسبب الذي تُعَلِّمون به الكتاب، وقد نقَص شرطُ وهو اتحاد المتعلَّق فلذلك لم يظهر جَعْلُها غيرَ مصدرية.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "تَعْلَمُون" مفتوحٌ حرفُ المضارعة، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللام من "عَلِمَ يَعْلَم، أي: تعرفون فيتعدى لواحد، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمون الناس والطالبين الكتابَ، ويجوز ألاَّ يُرادَ مفعول أي: كنتم من أهلِ تعليم الكتاب، وهو نظيرُ:"أطعم الخبز" المقصودُ الأهمُّ إطعامُ الخبزِ من غيرِ نظر إلى مَنْ يُطْعِمُه، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رَجَّح جماعة هذه القراءةَ على قراءة نافع بأنها أَبْلَغُ؛ وذلك أَنَّ كلَّ مُعَلِّمٍ عالمٌ، وليس كلُّ عالمٍ مُعَلماً، فالوصفُ بالتعليم أبلغُ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والربَّانيُّ يقتضي أَنْ يَعْلَمَ غيره، لا أن يَقْتَصَر بالعلم على نفسه.
(4/56)
---(1/1336)
ورجَّح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعولٌ واحدٌ والأصل عدم الحذف، والتخفيف مُسَوِّغٌ لذلك بخلاف التشديد، فإنه لا بد من تقدير مفعول، وأيضاً فهو أوفقُ لتدرُسون. والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخرى، وقد قَدَّمت ذلك في أوائل هذا الموضوع.
وقرأ الحسن ومجاهد: "تَعَلَّمون" فتح التاء والعين واللام مشددة من "تعلَّم" والأصل: تتعلَّمون بتاءين فحُذِفَت إحداهما. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبله.
والعامة على "تَدْرُسون" فتح التاء وضم الراء من الدَّرْس وهو مناسب لَتَعْلَمون من علم ثلاثياً، قال بعضهم: "كان حقٌّ مَنْ قرأ "تُعَلِّمون" بالتشديد أن يقرأ: "تُدَرِّسون" بالتشديد" وليس بلازم، إذ المعنى: كنتم تُعَلِّمون غيركم ثم صرتم تدرسُون، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي: تتلونه عليهم كقوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
}. وقرأ ابو حيوة في أحدى الروايتين عنه "تَدْرِسُون" بكسر الراء وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَسَ العلم يَدْرِسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع دَرَسَ، وقرأ هو أيضاً في رواية:
"تُدَرِّسون" مِنْ دَرَّس بالتشديد، وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ التضعيف فيه للتكثير، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون أحدُهما: أن يكونَ التضعيف فيه للتكثير، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون بالتخفيف. والثاني: أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى، والتقديرُ: تُدَرِّسون غيرَكم العلمَ أي: تَحْمِلُونهم على الدَّرْسِ. وقُرىء "تُدْرِسون" من أَدْرَسَ، كتُكْرِمُون مِنْ أَكْرَمَ على أنَّ أفعل بمعنى فَعَّل بالتشديد، فأَدْرَس ودَرَّس واحدٌ كأكرم وكرَّم وأَنْزَلَ ونَزَّل.
والدَّرْس: التَّكرارُ والإِمانُ على الشيء ومنه: دَرَسَ زيدٌ الكتاب والقرآن يَدْرُسه ويدرِسه أي كرَّر عليه، ويقال: دَرَسْتُ الكتاب أي: تناوَلْتُ أثرَه بالحفظ.
(4/57)
---(1/1337)
ولمَّا كانَ ذلك بمداومَةِ القرآن عَبَّر عن إدامةِ القرآن بالدَّرْسِ، ودَرَسَ المنزل: ذَهَبَ أثرُهُ وطللُ عارفٍ ودارسٌ بمعنًى.
* { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ}: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب "يأمركم" والباقون بالرفع، وأبو عمرو على أصلِهِ من جواز تسكين الراء والاختلاسِ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف، أخبر تعالى بأن ذلك الأمرَ لا يقع. والفاعل فيه احتمالان، أحدهما: هو ضميرُ الله تعالى، والثاني هو ضميرُ "بَشَر" الموصوف بما تقدَّم، والمعنى على عَوْدِهِ على "بَشَر" أنه لا يقع مِنْ بشر موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه رباً فيُعْبَدَ، ولا يأمر أيضاً أن تُعْبَدَ الملائكة والأنبياءُ من دمون الله، فانتقى أن يدعوَ الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره. ولامعنى على عَوْده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادةِ غيره تعالى.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها [أودجه،] أحدُهما: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكونَ المعنى: ولا له أن يأمرَكم، فقدَّروا "أَنْ" تُضْمر بعد "لا" وتكون "لا" مؤكِّدةً لمعنى النفي السابق كما تقول: "ما كان من زيد إتيانٌ ولا قيام" وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق/، وبقي معنى الكلام: ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام.
الثاني: أن يكونَ نصبُه لنسقِهِ على"يُؤْتِيَه" قال سيبويه: "والمعنى: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة". قال الواحدي: "ويُقَوِّي هذا الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد يا محمد أن نتَّخذك رباً فَنَزَلَت".
(4/58)
---(1/1338)
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "يقول" في قراءة العامة قال الطبري. قال ابن عطية: "وهذا خطأٌ لا يلتئم به المعنى" ولم ييبِّنْ أبو محمد وجهَ الخطأ ولا عدضم التئام المعنى. قال الشيخ: "وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على "يقول" وجَعَل "لا" للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدِّر الناصَب وهو "أنْ" إلا قبل "لا" النافية، وإذا قَدَّرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي بـ"لا" مصدر منفيٌّ، وفيصير المعنى: ما كان لبشرٍ موصوفٍ بما وُصف به انتفاءُ أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له انتفاءُ الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خطأُ بيَّن.
أمَّا إذا جَعَل "لا: لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ و لاعدم التئام المعنى، وذلك أنه يصير النفي منسحباً على المصدرين المُقَدَّرِ ثبوتُهما فينتفي قولُه {كونوا عباداً لي} وينتفي أيضاً أمرُه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضِّح هذا المعنى وضعُ "غير" موضعَ "لا" فإذا قلت: "ما لزيد فقهُ ولا نحوٌ" كانت "لا" لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت "لا: لتأسيس النفي كانت بمعنى غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عن وثبوتَ النحو له، إذ لو قلت: "ما لزيد فقه وغيرُ نحو" كانَ في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ما له غيرُ نحو، ألا ترى أنك إذا قلت: "جئتُ بلا زادٍ" كان المعنى جئت بغير زادٍ، وإذا قالت: "ما جئت بغير زادٍ" معناه أنك جِئت بزاد، لأنَّ "لا" هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدمَ التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن تكون "لا" لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفيُّ نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد: ما أريدُ أَنْ لا تتعلم" انتهى.
(4/59)
---(1/1339)
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف "يَأْمركم" على "يقول" وجَوَّز في "لا" الداخلةِ عليه وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ لتأسيس النفي، والثاني: أنها مزيدةٌ لتأكيده، فقال: "وقُرىء "ولا يأمركم" بالنصب عطفاً على "ثم يقول"، وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تَجْعَلَ "لا" مزيدةً لتأكيد معنى النفي في قوله: {ما كان لبشرٍ} والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وتركِ الأندادِ، ثم يأمرَ الناسَ بأن يكونوا عباداً له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً كقولك: ما كان لزيدٍ أ ن أكرمه ثم يهينَني ولا يستَخِفَّ بي. والثاني: أن تَجْعَلَ "لا" غيرَ مزيدة، والمعنى: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً على عبادةِ الملائكة، واليهودَ والنصارى عن عبادةِ عُزير والمسيح، فلمَّا قالوا له: أَنتخذك رَبّاً قيل لهم: ما كان لبشَر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء". قلت: وهذا الذي أورده الزمخشري كلامٌ صحيح ومعنى واضح على كلا تقديري كونِ "لا" لتأسيسِ النفي أو تأكيدِهِ، فكيف يجعل الشيخ كلام الطبري فاسداً على أحد التقديرين وهو كونُها لتأسيس النفي؟ فقد ظهر والحمد لله صحة كلام الطبري بكلام أبي القاسم الزمخشري وظهر أن ردَّ ابن عطيةَ عليه مردود.
(4/60)
---(1/1340)
وقد رَجَّحَ الناسُ قراءةَ الرفع على النصب قال سيبويه: "ولا يأمُركم منطقعة مما قبلهما؛ لان المعنى ولا يأمركم الله"، قال الواحدي: "ومما يدلُّ على الانقطاع من الأول قراءةُ عبدالله: "ولَنْ يأمركم". قالوا الفراء: "فهذا دليلٌ على انقطاعِها من النسق وأنَّها مستأنفةٌ، فلمَّا وقعت [لا] موقعَ لن رَفَعَتْ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} وفي قراءة عبدالله: "ولن تُسْأل" وقال الزمخشري: "والقراءة بالرفع على ابتداءِ الكلام أظهرُ، ويَعْضِدُها قراءةُ عبدالله: "ولن يأمركم". انتهى.
وقد تقدَّم أنَّ الضميرَ في "يأمركم" يجوز أن يعود على "الله" وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم، والمرادُ به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعلمُّ من ذلك، سواءً قُرىء برفع "ولا يأمركم" أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على "يؤتيه"، وأمام إذا جعلناه معطوفاً على "يقول" فإنَّ الضمير يعود لبشر ليس إلا، ويؤيد ما قلته ما قال بعضُهم: "ووجهُ القراءةِ بالنصب أن يكونَ معطوفاً على الفعلِ المنصوب قبله، فيكونُ الضميرُ المرفوع لبشر لا غير" يعني بما قبله "ثم يقولَ". ولمَّا ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضميرَ عائداً على الله تعالى، ولم يذكر غيرَ ذلك، فيُحتمل أَنْ يكونَ هو الأَظهرَ عنده، ويُحتمل أنه لا يجوز غيرُه، والأولى أَوْلى.
قال بضعهم: "في الضمير المنصوب في "يأمركم" على كلتا القراءتين خروجٌ من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفاتِ" قلت: كأنه تَوَهَّم أنه لمَّا [توهم] تقدَّم ذِكْرُ الناسِ في قوله: {ثم يقول للناس} كان ينبغي أن يكون النظم "ولا يأمرهم" جَرْياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداءٌ خطابٍ لا التفاتَ فيه.
(4/61)
---(1/1341)
قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} "بعد" متعلِّقٌ بيأمركم، و"بعد: ظرفُ زمانٍ مضافٌ لظرفِ زمانٍ ماضٍ، وقد تقدَّم أنه لا يُضاف إليه إلا الزمان نحو: حنيئذٍ ويومئذٍ، و{أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محلِّ خفضٍ بالإِضافة؛ لأنَّ "إذ" تُضاف إلى الجملة مطلقاً اسميةً كانت أو فعليةً.
* { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُوااْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ}: في العامل في هذا الظرف أوجهٌ، أحدُها: "اذكر" إنْ كان الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: "اذكروا" إن كان خطاباً لأهل الكتاب. الثالث: "اصطفى" فيكون معطفاً على "إذ" المقدَّمةِ قبلها. وفيه بُعْدٌ، بل امتناعٌ لبُعْدِه. الرابع: أنَّ العامل فيه "قال" من قوله: "قال أأقررتم" وهو واضح جداً.
و{مِيثَاقَ} يجوز أَنْ يكونَ مضافاً أو لمفعوله. وفي مصحف أُبي وعبدالله وقراءاتِهما: "ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب" مثلَ ما آخر السورة، وعن مجاهد بن جبر كذلك، وقال: "أخطأ الكاتب" وهذا خطأٌ من قائله كائناً مَنْ كان، ولا أظنُّه يصِحُّ عن مجاهد، وفإنه قرأ عليه مثلُ ابنِ كثير وابي عمرو ابن العلاء، ولم ينقلْ واحدٌ منهما عنه شيئاً من ذلك.
(4/62)
---(1/1342)
والمعنى على القراءةِ الشهيرة صحيحٌ، وقد ذَكَر الناسُ فيها أوجهاً، أحدُها: أنَّ الكلامَ على ظاهره وأن الله تعالى أخذ الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضَهم وينصرُ بعضُهم بعضاً، بمعنى أنه يوصي فومه أن ينصروا ذلك النبيَّ الذي بعدَه ولا يَخْذُلوه، وهذا مَرْوِيٌّ عن جماعة. الثاني: أن ميثاقَ النبيين على أممهم، ويؤيده قراءةُ أُبيّ وعبدالله، ويؤيدُه أيضاً قولُه: {فَمَّنْ تَولَّى بعد ذلك}. الثالث: أنه على حذف مضاف تقديرُه: ميثاقُ أمم الأنبياء أو أتباعِ، ويؤيده ما أيَّد ما قبله أيضاً وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ}.
الرابع: قال الزمخشري: "أَنْ يُراد أهلُ الكتاب، وأَنْ يَرُدَّ على زَعْمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أَوْلى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم، لأنَّا أهل كتاب ومنا كان النبيون" وهذا الذي قاله بعيد جداً، كيف يُسَمِّيهم أنبياءَ تهكماً بهم، ولم يكن ثَم قرينةٌ تبيِّين ذلك؟
قوله: {لَمَآ آتَيْتُكُم} العامةُ: "لَما" بفتح اللام وتخفيف الميم، وحمزةُ وحده على كسر اللام، وسعيد بن جبير والحسن: لَمَّا بالفتح والتشديد.
فأمَّا قراءة العامة ففيها خمسة أوجه: أحدُها: أن تكون "ما" موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعل محذوف، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم، والتقدير: والله لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ، قال هذا القائل: لأنَّ لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف، ثم قال تعالى: "ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه سلم" قال: "وعلى هذا التقدير يستقيم النظم". قلت: "وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوزَ البتة، إذ يمتنع أن تقولَ في نظيرِه من الكلام: "واللهِ لزيداً" تريد : والله لتضرِبَنَّ زيداً.
(4/63)
---(1/1343)
الوجه الثاني: ـ وهو قول أبي عليّ وغيره ـ أن تكونَ اللامُ في "لَما" جوابَ قوله: {مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} لأنه جارٍ مَجَْى القسم، فهي لامُ الابتداء المُتَلَقَّى بها القسمُ، و"ما" مبتدأةٌ موصولة و"آتيناكم" صلتُها، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، فَحُذِفَ لاستكمال شروطه، و"من كتاب" حال: إمَّا من الموصول وإمَّا من عائده، وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطفٌ على الصلة، وحينئذ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلة صلةٌ، واختلفوا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه محذوفٌ تقديره: "ثم جاءكم رسول به" فَحُذِف "ب" لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلا بشروطٍ تقدَّمت، وهي مفقودةٌ هنا، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفته، ومنهم مَنْ قال: الربطُ حصل هنا بالظاهر، لأن هذا الظاهر وهو قوله: "لِما معكم" صادقٌ على قوله: "لِما آتيناكم" فهو نظير: "أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف"، وقال:
1348ـ فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن * وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ
يريدون: عنه ورأيته وفي رحمته، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وهذا رأي أبي الحسن وتقدّم فيه بحث. ومنهم مَنْ قال: إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في "مع"، و"لتؤمِنُنَّ به" جوابُ قسمٍ مقدرٍ، تعود على المبتدأ ولا تعودُ على "رسول"، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ/ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ.
(4/64)
---(1/1344)
الثالث: كما تقدم إلا أن اللام في "لما" لامُ التوطئة، لأنَّ أَخْذَ الميثاق في معنى الاستحلاف، وفي "لتؤمِنُنَّ به" لامٌ جوابِ القسم، هذا كلام الزمخشري ثم قال: "ما" تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و"لتؤمِنُنَّ" سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى "الذي". وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنَّ لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط، وتأتي غالباً مع "إنْ"، أما مع الموصول فلا، فلو جَوَّز في اللام أن تكون موطئةً و أن تكونَ للابتداء، ثم ذكر ما في "ما" الوجهين لحَمَلْنَا كلَّ واحد على ما يليق به.
الرابع: أن اللامَ هي الموطئة و"ما" بعدَها شرطيةٌ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو "آيتناكم"، وهذا الفعلُ مستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشرط، ومَحلُّه الجزم والتقدير: والله لأَيَّ شيء آتيتُكم مِنْ كذا وكذا لتكونن كذا.
وقوله: {مِّن كِتَابٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} وقد تقدَّم تقريرُه. وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطفٌ على الفعلِ قبلَه فيلزُم أَنْ يكون فيه رابطٌ يربطُه بما عُطِف عليه . و"لتؤمِنُنَّ" جوابٌ لقوله: {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ}، وجوابُ الشرط محذوفٌ سَدَّ جوابُ القسم مَسَّده، والضميرُ في "به" عائدٌ على "رسول"، كذا قال الشيخ، وفيه نظر لأنه عَوْدُه على اسمِ الشرط، ويَسْتَغني حنيئذ عن تقديره رابطاً، وهذا كما تقدَّم في الوجهِ الثاني، ونظيرهُ هذا من الكلام أن تقول: "أَحْلِفُ باللهِ لأَيَّهم رأيتُ ثم ذهب إليه رجلٌ قُرَشي لأُحْسِنَنَّ إليه" تريدُ إلى الرجل، وهذا الوجهُ هو مذهبُ الكسائي.
(4/65)
---(1/1345)
وقال سأل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ "ما" بمنزلة الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على "ما" كما دخلت على "إنْ" حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في "ما" كهذه التي في إنْ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا" هذا نصٌّ الخليل. قال أبو علي: "لم يُرِد الخليل بقوله "إنها بمنزلة الذي" كونَها موصلةً بل أنها اسمٌ كما أن الذي اسم، وقرر أن تكونَ حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ} وقال سيبويه: "ومثلُ ذلك: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} إنما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين".
وإلى كونِها شرطيةً ذهب جماعةٌ كالمازني والزجَّاج والزمخشري والفارسي، قال الشيخ: "وفيه حَدْسٌ لطيف، وحاصلُ ما ذكره انهم إن أرادوا منها ـ أعني الشرط والقسم ـ يطلُب جواباً على حِدة، ولا يمكنُ في موضع جزم، والقسمُ يطلبُه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإِعراب، ومُحالٌ أن يكونَ الشيء له موضعٌ من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب" قلت: تقدَّم هذا الإِشكالُ والجوابُ عنه.
الخامس: أنَّ أصلَها "لَمَّا" بتشديدِ الميم فخففت، وهذا قول ابن أبي إسحاق، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة.
وقرأ حمزة: "لِما" بكسرِ اللامِ خفيفةَ الميم أيضاً، وفيها أربعةُ أوجه، أحدهما: ـ وهو أغربُها ـ أن تكونَ اللام بمعنى "بعد" كقوله النابعة:
1349ـ تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها * لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
يريد: فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم، ولا أدري ما حَمَله على ذلك. وكيف يَنْتظم هذا كلاماً، إذ يصير تقديرُه: وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين بعدَما آتيناكم، ومَنِ المخاطبُ بذلك.
(4/66)
---(1/1346)
الثاني: أن اللامَ للتعليل، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة بـ"لتؤمِنُنَّ"، و"ما" حنيئذٍ مصدريةٌ، قال الزمخشري: "ومعناه لأجلِ إيتيائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة، ثم لمجيء رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمِنُنَّ به، على أنَّ "ما" مصدريةٌ، والفعلان معها أعني: "آتيناكم" و"جاءكم" في معنى المصدرين، واللامُ داخلةٌ للتعليل، والمعنى: أخَذَ الله ميثاقَهم لتؤمِنُنَّ بالرسول ولتنصُرُنَّه لأجل أن آيتكم الحكمة، وأنَّ الرسول الذي أمركم بالإِيمان ونصرتِه موافقٌ لكم غيرُ مخالِفٍ. قال الشيخ: "ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعلِ المُقْسَم عليه، فإنْ عَنَى هذا الظاهرَ فهو مُخالِفٌ لظاهر الآية، لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يقتضي أن يكونَ تعليلاً لأخْذِ الميثاق لا لمتعلَّقه وهو الإِيمان، فاللامُ متعلقةٌ بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقةً بقوله: لتؤمِنُنَّ به"، ويمتنع ذلك من نحيث إنَّ اللام المتلَّقى بها القسمُ لا يعمل ما بعدَها فيما قبلها، تقول: والله لأضربَنَّ زيداً، ولا يجوزُ: والله زيداً لأضربنَّ، فعلى هذا لا يجوزُ أن تتعلق اللام في "لِما" بقوله: "لتؤمِننَّ". وقد أجاز بعضُ النحويين في معمول الجواب ـ إذا كان ظرفاً أو مجروراً ـ تقدُّمَه، وجَعَلَ من ذلك:
1350ـ ....................... * .............. عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ
وقولَه تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: "لَتُؤْمِنُنَّ" وفي هذ المسألةِ تفصيلٌ يُذْكَرُ في علم النحو، قلت: أمَّا تعلُّق اللامِ بلتؤمِنُنَّ من حيث المعنى فإنَّه أظهرُ مِنْ تعلُّقِها بأخذ، وهو واضحٌ فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذَكَر مِنْ مَنْع تقديمِ معمولِ الجواب المقترنِ باللام عليه وقد عُرف، وقد يكون الزمخشري مِمَّن يرى جوازه.
(4/67)
---(1/1347)
والثالث: أن تتعلَّق اللام بأخذ أي: لأجل إيتائي إياكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: لرعاية ما أتيتكم.
الرابع: أن تتعلَّقَ بالميثاق لأنه مصدر، أي توثَّقْنا عليهم لذلك. هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام، وأمَّا [ما] ففيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدرية وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و"ثم جاءكم" عطف على الصلة، والرابط لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ تقديره: "به" وهو رأيُ سيبويه، وإمَّا لقيامِ الظاهر مقامَ المضمرِ وهو رأيُ الأخفش، وإِمَّا ضميرُ الاستقرار الذي تضمَّنه "معكم" وقد تقدَّم تحقيق ذلك. والثالث: أنها نكرةٌ موصوفة، والجملةٌ بعدها صفتُها وعائِدُها محذوف، و"ثم جاءكم" عطفٌ على الصفة، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة، إلا أنَّ إقامة الظاهر مُقام الضمير في الصفة ممتنع، لو قت: "مررت برجلٍ قام أبو عبدالله" على أن يكون "قام أبو عبدالله" صفة لرجل، والرابطُ أبو عبدالله، إذا هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف.
وجوابُ قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ} قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} كما تقدم، والضمير فيه "به" عائدٌ على "رسول"، ويجوز الفصلُ بين القسم والمقسم عليه بمثلِ هذا الجار والمجرور لو قلت" أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه" جاز.
وقوله: {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}: إمَّا حالٌ من الموصول أو من عائده، وإمّضا بيانُ له فامتنع في قراءةِ حمزة أن تكونَ "ما" شرطيةً كما امتنع في قراءة الجمهورِ أن تكونَ مصدريةً.
(4/68)
---(1/1348)
وأمَّا قراءةُ سعيد والحسن ففيها أوجه، أحدها: أَنَّ "لَمَّا" هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية. ثم القائلُ بظرفيتها اختلف تقديرُه في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجوابَ مقدرٌ من جنس جواب القسم فقال: "لَمَّا" بالتشديد بمعنى حين، أي: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق وَجَبَ عليكم الإيمانُ به ونصرتُه". وقال ابن عطية: "ويظهر أن "لمَّا" هذه الظرفيةُ أي: لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يُؤْخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة" فقدَّر ابن عطية جوابَها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهبنا إليه مذهب مرجوح قال به الفارسي، والجمهور: سيبويه وأتباعُه على خلافه، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره. وقال الزجاج: "أي لَمَّا آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق، وتكون "لمَّا" تَؤُول إلى الجزاء كما تقول:لَمّا جِئْتني أكرمتُك" وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ "لَمّا" ظرفيةً ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابَها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير الزمخشري.
الثاني: أن "لَمَّا" حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابن عطية والزمخشري. وفي قول ابن عطية: "فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة" نظر؟ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فها، اللهم إلا أن يقال: لَمَّا كانت "لَمَّا" تحتاجُ إلى جواب أشبه ذلك العلةَ ومعلولَها، لأنك إذا قلت: "لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك" في قوةِ: أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة.
(4/69)
---(1/1349)
والثالث: أنَّ الأصلَ: لَمِنْ ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربُها، والإِدغامُ هنا واجب،/ ولما اجتمع ثلاثُ ميمات، وميمِ مِنْ، وميمِ "ما" والميمِ التي انقلبت من نون "من" لأجل الإِدغام فحصل ثقل في اللفظ. قال الزمخشري: "فحذفوا إحداها". اقل الشيخ: "وفيه إبهابٌ"، وقد عَيَّنها ابن عطية بأن المحذوفة هي الأولى، قلت: وفيه نظر، لأنَّ الثقلَ إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حَذْفُ الثواني نحو: "تَنَزَّل" و"تَذَكَّرون"، وقد ذكر أبو البقاء أنّ المحذوفة هي الثانية، قال: "لضَعْفها بكونها بدلاً وحصولِ التكرير بها".
و"مِنْ" هذه التي في "لَمِنْ ما" زائدة في الواجب على رأي أبي الحسن الأخفش. وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظرٌ بالنسبة إلى ادعائه زيادة "مِنْ" فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غيرَ ظاهر.
(4/70)
---(1/1350)
الرابع: أنَّ الأصل أيضاً: لَمِنْ ما، فَفُعِل به ما تقدم من القلب والإِدغام ثم الحذفِ، إلا أن "مِنْ" ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ، قال الزمخشري: "ومعناه لمِنْ أجل ما أتيتكم لتؤمنُنَّ به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى" قلت: وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامته من ادِّعاء زيادة "مِنْ" ولوضوح معناه. قال الشيخ: "وهذا التوجيهُ في غاية البُعْد ويُنَزَّه كلامُ العرب أن يَأْتيَ فيه مثلُه فكيف في كتاب اللهِ عز وجل! وكان ابن جني كثيرَ التمحُّلِ في كلام العرب، ويلزم في "لَمّا" هذه على ما قرره الزمخشري أن تكونَ اللامُ في "لِمنْ ما آتيناكم" زائدةً، ولا تكونُ اللامَ الموطئة، لأنَّ الموطئةَ إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت: "أٌقسم بالله لمِنْ أجلك لأضربن زيداً" لم يَجُزْ، وإنما سُمِّت موطئةً لأنها تُوَطِّىء ما يَصْلُح أن يكونَ جواباً للشرط للقسم، فيصيرُ جوابُ الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالةِ جواب القسم عليه" قلت: تقدَّم له هو أنَّ "ما" في هذه القراءة يجوز أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وأن اللام معها موطئةٌ للقسمِ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحدُ الأمرين لازمٌ له، وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذه هو الإِشكالُ على مَنْ جَعَلَ "ما" موصولةً وجَعَلَ اللامَ موطئةً.
وقرأ نافع: "آتيناكم" بضميرِ المعظِّم نفسَه، والباقون: "آتيتكم" بضمير المتكلم وحدَه، وهو موافلقٌ لما قبله وما بعده من صيغة الإِفراد في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ}، وجاء بعده "إصري".
(4/71)
---(1/1351)
وفي قوله "آتيتكم" أو "آتيناكم" على كلا القراءتين التفاتان أحدُهما: الخروجُ من الغيبة إلى التكلم في قوله آتينا أو آتيتُ، لأنَّ قبله ذِكْرَ الجلالة المعظمة في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ}، والثاني: الخروجُ من الغَيْبَة إلى الخطاب في قوله: "آتيناكم" لأنه قد تقدّضمه اسم ظ هر وهو "النبيين"، إذ لو جرى على مقتضى تقدُّم الجلالة والنبيين لكان التركيب: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتاهم من كتاب كذا، قال بعضهم: "وفيهِ نظرٌ لأنَّ مثلَ هذا لا يسمى التفاتاً في اصطلاحِهم، وإما يسمى حكايةً الحال، ونظيرُه قولُك: حلف زيد ليفعلنَّ ولأفعلن، فالغَيْبَةُ مراعاةً لتقدُّم اللاسم الظاهر، والتكلُم حكايةً لكلامِ الحالفِ، والآية الكريمة من هذا".
وأصل لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنَّه: لتؤمنونَنّ ولتنصرونَنّ، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشددة بعدها للتوكيد، فاستُثْقِلَ توالي ثلاثةِ أمثال فحذفوا نونَ الرفع لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى بحذفها ساكنان، فَحُذِفَت الواوُ لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبدالله:"مُصَدِّقاً" نصبٌ على الحال من النكرة، وقد قاسه سيبويه وإنْ كان المشهورُ عنه خلاَفهُ، وحَسَّن ذلك هنا كونُ النكرةِ في قوة المعرفة من حيث إنه أُريد بها شخصٌ معين وهو محمد صلى الله عليه وسلم. واللام في "لَما" زائدةٌ لأنَّ العاملَ فرع وهو مُصَدِّق والأصل: مُصَدِّقٌ ما معكم.
قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ}: فاعلٌ "قال" يجوز أن يكونَ ضميرَ الله تعالى وهو الظاهر، وأن يكون ضَميرَ النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك أمته، ومتعلِّقٌ الإِقرارِ محذوفلإ، أي: أأقرتم بذلك كله، والاستفهامُ على الأولِ مجازٌ، إذ المرادُ به التقريرُ والتوكيدُ عليهم لاستحالتِهِ في حق الباري تعالى، وعلى الثاني هو استفهامٌ حقيقةً، و"إصْري" على الأول الياء لله ت عالى وعلى الثاني للنبي.
(4/72)
---(1/1352)
وقرأ العامة "إصري" بكسر الهمزة وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية: "أُصْري" بضمها، ثم المضمومُ يُحتمل أن يكون لغةً في المكسور وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونَ جمع إصار، وثمله أُزُر في جمع إزار، وقد تَقَدَّم في أواخر البقرة الكلامُ عليه مشبعاً.
وقوله: {أَقْرَرْنَا} أي: بالإِيمان به وتبصرته. وفي الكلام حذفُ جملةٍ أيضاً، حُذِفَتْ لدلالةِ ما تقدَّم عليها، إذا التقديرُ: قالوا: أقررنا وأخذنا إصْرَكَ على ذلك كله.
وقوله: {فَاشْهَدُواْ} هذه الفاءُ عاطفة على جملة مقدرةٍ تقديره: قال: أأقررتم فاشهدوا، ونظيرُ ذلك: "أَلقِيتَ زيداً"؟ قال: لَقِيتُه"، قال: "فَأَحسِنْ إِليه"، والتقدير: أَلَقِيتَ زيداً فأحسن إليه، فما فيه الفاءُ بعضُ المقول، ولا جائز أن يكونَ كلَّ المقولِ لأجل الفاء، ألا ترى قولَه: "قال:أأقررتم" وقوله: "قالوا: أقررنا" لَمَّا كان كلَّ المقول لم يُدْخِلِ الفاء، قاله الشيخ، والمعنى واضح بدونه.
قوله: {مِّنَ الشَّاهِدِينَ} هذا هو/ الخبرُ لأنَّه مَحَظٌّ الفائدة، وأمَّا قوله: "معكم" فيجوزُ أن يكون حالاً أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز أن يكونَ منصوباً بالشاهدين ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويز ذلك، ويمتنع أن يكونَ هو الخبرَ ِإذ الفائدةُ به غيرُ تامة في هذا المقام، والجلمةُ من قوله: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ} يجوز ألاَّ يكونَ لها محلٌّ لاستئنافِها، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "فاشْهدوا".
* { فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
(4/73)
---(1/1353)
قوله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى}: يجوز أنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً فالفاء في "فأولئك" جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ لشبه المبتدأ باسم الشرط، فالفعل بعدها على الأول في محل جزم، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونِه صلةً، وأما "فأولئك" ففي محلِّ جزم أيضاً على الأول ورفعٍ على الثاني لوقوعِهِ خبراً، و"هم" يجوزُ أن يكونَ فصلاً وأن يكونَ مبتدأ، وهذه الأشياء واضحةٌ مِمَّا تقدَّم، فلذلك لم أُوغل في بيانها.
* { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}: قد تقدم أن الجمهور يجعلون الهمزةَ مقدمةً على الفاء للزمِها الصدرَ، والزمخشري يُقِرُّها على حالِها ويقدِّرُ محذوفاً قبلها، وهنا جوز وجهين، أحدُهما: أن تكونَ الفاءُ عاطفةً جلمةً على جلمة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغيَر دين الله يبغون، ثم توسَّطت الهمزةُ بينهما. والثاني: أن يُعْطَف على محذوفٍ تقديرُهُ: أيتولَّون فغيرَ دين الله يبغون، وقَدَّم المفعولَ الذي هو "غير" على فِعْلِهِ لأنه أهمُّ من حيثُ إنَّ الإِنكارَ الذي هو معنى الهمزة متوجهٌ إلى المعبودِ بالباطل، هذا كلامُ الزمخشري. قال الشيخ: "ولا تحقيقَ فيه لأنَّ الإِنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجَّه إلى الذوات، إنما يتوجَّه إلى الأفعال التي تتعلَّق بالذوات، فالذي أُنْكر إما هو الابتغاء الذى متعلَّقه غيرُ دين الله، وإنما جاء تقديمُ المفعول من باب الاتساع، ولشبهِ يبغون بالفاصلة بآخر الفعل" قلت: وأين المعنى من المعنى؟
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "يَبْغون" بالياءِ من تحت نَسَقاً على قوله: {هم الفاسقون} والباقون بياءِ الخطاب التفاتاً.
قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} جلمةٌ حالية أي: كيف يَبْغُون غيرَ دينه والحالُ هذه؟
(4/74)
---(1/1354)