الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
الكتاب مرجع رئيسي في بابه، وموسوعة علمية حوت الكثير من آراء السابقين، اهتم فيه مصنفه بالجانب اللغوي بشكل كبير أو غالب، فذكر الآراء المختلفة في الإعراب، إضافة إلى شرح المفردات اللغوية، كذلك أوجه القراءات القرآنية، كما أنه ألمح إلى الكثير من الإشارات البلاغية، وذكر الكثير من الشواهد العربية فقلما نجد صفحة إلا وفيها. شاهد أو أكثر
سورة الفاتحة
* {بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
مصدر بَسْمَلَ، أي قال: بسم الله، نحو: حَوْقَلَ وهيْكَلَ وحَمْدَلَ، أي: قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، والحمد لله. وهذا شبيه بباب النحت في النسب، أي أنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً، فينسِبون إليه كقولهم: حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس. قال:
وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة * كَأنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً
وهو غيرُ مقيس، فلا جرم أن بعضهم قال في: بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة [قال الماوردي: يقال لمَنْ قال: بسم الله: مُبَسْمِل وهي] لغةٌ مُولَّدة وقد جاءَتْ في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
7- لقد بَسْمَلَت ليلى غداةَ لقِيتُها * إلا حبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ
وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة كـ ثعلب والمطرِّز.
(1/1)
---(1/1)
وبِسْم: جارٌّ ومجرور، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم، لأنَّ المعنى: أقرأ مستعيناً بالله، ولها معانٍ، أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها، وهي: الإلصاقُ حقيقةً أو مجازاً، نحو: مَسَحْتُ برأسي، مررْتُ بزيدٍ، والسببية: [نحو] {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} أي بسببِ ظلمهم، والمصاحبة نحو: خرج زيدٌ بثيابه، أي مصاحباً لها، والبدلُ كقوله عليه السلام: "ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم" أي بدلها، وكقول الآخر:
8- فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا * شَنُّوا الإغارةَ فرساناً ورُكْبانا
أي: بَدَلَهم، والقسم: أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ، والظرفية نحو: زيد بمكة أي فيها، والتعدية نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} التبعيض كقول الشاعر:
9- شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ * متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
أي من مائة، والمقابلة: "اشتريتهُ بألف" أي: قابلتُه بهذا الثمنِ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} أي عن الغمام، ومنهم مَنْ قال: لا تكون إلا مع السؤال خاصة نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} أي عنه، وقول علقمة:
10- فإنْ تَسْألوني بالنساءِ فإنني * خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه * فليس له في زُدِّهِنَّ نَصيبُ
والاستعلاء كقوله تعالى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإلصاق أو التعديةِ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما، وليس هذا موضع استدلال وانفصال.
وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة، فالمطَّردةُ في فاعل "كفى" نحو: "كفى بالله": أي: كفى اللهُ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر:
11- ................................ * كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهياً
(1/2)
---(1/2)
وفي خبرِ ليس و "ما" أختِها غيرَ موجَبٍ بـ إلاَّ، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ [عَبْدَهُ]}، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} وفي: بحَسْبكِ زيدٌ. وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ "كفَى"، كقوله:
12- فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا * حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا
أي: كَفانا، وفي البيت كلامٌ آخرُ، وفي المبتدأ غيرَ "حَسْب" ومنه في أحدِ القولين: "بأيِّكم المفتونُ" وقيل: المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور، فعلى هذا ليست زائدةً، وفي خبر "لا" أختِ ليس، كقوله:
13- فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ * بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ
أي: مُغْنياً، وفي خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو:
14- وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ * بِأعجلِهم، إذْ أَجْشَعُ القومِ أعْجَلُ
أي: لم أكنْ أعجلَهم، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيِّيْنِ أيضاً كقوله:
15- فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ * حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها
وقولِ الآخر:
16- دهاني أخي والخيلُ بيني وبينه * فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ
أي: ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً، ولم يَجِدْني قُعْدَداً، وفي خبر "إنَّ" كقول امرئ القيس:
17- فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها * فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي: فإنك المجرِّب، وفي: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ} وشبهه.
والاسمُ لغةً: ما أبانَ عن مُسَمَّى، واصطلاحاً: ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان و دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ، والتسميةُ: جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى.
(1/3)
---(1/3)
واختلف الناسُ: هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ، تكلَّك الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة، أجودُها: أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسميةُ غيرُ الاسم، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: باسم مُسَمَّى اللهِ. الثالث: أن لفظَ "اسم" زائدٌ كقولِه:
18- إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما * ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ
أي: السلام عليكما، وقول ذي الرمة:
19- لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ * داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ
وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب.
واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش: ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك". وقال قطرب: "زيد للإجلال والتعظيم"، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما.
ومن هذا القَبيلِ -أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه- إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ، نحو: سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ، فتقديرُه: جاءني مسمَّى هذا اللفظِ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ: بقلةُ الحبَّةِ والحمقاءِ، ومسجدُ الجامعِ: مسجدُ المكانِ الجامعِ.
واختلف النحويون في اشتقاقه: فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ.(1/4)
(1/4)
---
استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على "أَسْماء" وتصغيرهم له على سُمَيّ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها، وتقولُ العَربُ: فلانٌ سَمِيُّك، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا، وأسْمَيْتُه بكذا، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير: أوْسام، وفي التصغير: وُسَيْم، ولقالوا: وَسِمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوسَمْتُ فلاناً بكذا، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك. وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ، وأيضاً فإنَّا عَهْدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كُوْنِها عوضاً من الفاء. فإن قيل: قولُهم "أسماء" في التكسير و "سُمَيّ" في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ: أَوْسَاماً ووُسَيْماً، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أوْسام: أَسْماواً، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أوْسام: أسْماواً، ثم أعِلَّ إعلالَ كساء، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرِيّ تصغير جَرْو. فالجواب أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إيله ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ. وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا؟ والجوابُ أن له فائدةً، وهي أنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول: إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم، لا تأثيرَ في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ. وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءٌ وصفاتٍ وهوقول المعتزلة،(1/5)
وهذا أشدُّ
(1/5)
---
خطأً من قولهِم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى.
وفي الاسم حمسُ لغاتٍ: "اسم" بضم الهمزة وكسرها، و "سُِم"بكسر السين وضمها. وقال أحمد بن يحيى: "سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أسْمي، وعلى اللغتين قوله:
20- وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ * يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ
مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ
يُنْشَدُ بالوجهين، وأنشدوا على الكسر:
21- باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سُِمُهْ
[فعلى هذا يكون في لام "اسم" وجهان، أحدٌهما: أنها واو، والثاني: أنها ياء وهو غريبٌ، ولكنَّ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل. و "سُمَىً" مثل هُدَىً. واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:
22- واللهُ أسْماك سُمَىً مُبارَكاً * آثرك اللهُ به إيثارَكَا
ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل: سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ.
وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله:
23- وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ * ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإسما
(1/6)
---(1/6)
وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي: اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم. والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال. وقيل: ليوافقَ الخطُّ اللفظَ. وقيل لا حذفَ أصلاً، وذلك لأن الأصل: "سِمٌ" أو "سُم" بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ، [وهذا حكاه النحاس وهو حسن]، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ، نحو: باسم الرحمن، هذا هو المشهور، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو: بسمِ ربِّك، بسمِ الخالق.
واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به، فعلٍ أو ما في معناه، إلا في ثلاثِ صور: حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما، وزاد الاستاذ ابن عصفور كاف التشبيه، وليس بشيء فإنها تتعلَّق. إذا تقرر ذلك فـ "بسم الله" لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف.
(1/7)
---(1/7)
واختلف النحويون في ذلك، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ، وذهب أهل الكوفة إلى أنه فِعْلٌ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين: فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه، تقديره: ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة. وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ. وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ ممنوعٌ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ. وذهبَ بعضهُم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه، والتقدير: ابتدائي كائنٌ باسمِ الله، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو: زيدٌ بمكةَ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفُوعه لقيامِهِ مقامَ الخبر. وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله، قال: لأنَّ الأصلَ التقديمُ، والتقدير: أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله. ومنهم مَنْ قدَّر بعده: والتقدير: باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو، وإلى هذا نجا الزمخشري قال: "ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّا على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم: باسم اللات، باسم العُزَّى، وهذا حسنٌ جداً، ثم اعترض على نفسِه لقولِه تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ". وأجاب بأنَّ بـ "اسم ربك" ليس متعلقاً بـ "اقرأ" الذي قبله، بل بـ "اقرأ" الذي بعده، فجاء على القاعدة المتقدمة. وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون "اقرأ" الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصل بكلامٍ طويل.
(1/8)
---(1/8)
واختلفوا أيضاً: هل ذلك الفعلُ أوٌ أو خبرٌ. فذهب الفراء أنه أمْرٌ تقديرُه: اقرأ أنت باسم الله، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره: اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ.
و "الله" في "بسم الله" مضافٌ إليه، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإضافة ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها. وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق، لاَ يُطلق على غيره، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به، وكذلك الإله قبل النقل والإدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ. قال الزمخشري: "كأنه صار عَلَماً بالغلَبة"، وأمّا "إله" المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، {[أَرَأَيْتَ] مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ} واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟، والصوابُ الأولُ، وهو أعرفُ المعارف. يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [له] ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: خيراً كثيراً، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ.
ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها، وقيل: لاتخاذِهِم إياها معبوداً، وعلى هذا قيل: "لَهْيَ أبوك" يريدونَ: للهِ أبوك، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام. وخَفَّع فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ. وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر:
24- ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى * لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ
(1/9)
---(1/9)
قال: الأصل: لله إنك كريمٌ عليَّ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، فصار اللفظ: لَهْ، ثم أَلقى همزة "إنَّ" علىلهاء فبقي: لَهْنَّك كما ترى، وهذا سماجَةٌ من قائلِه. وفي البيت قولان أيسرُ من هذا.
ومنهمَ مَنْ قال: "هو مشتقٌّ من لاخه يَلُوه لِياهاً. أي احتجَبَ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإدغام، وفُخِّمت لامُه. ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا: فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرها، وعلى كل تقدير: فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً، وكان الأصلَ: لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً.
ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي: العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع، فمعنى "غله" أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إيله ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه. ومنه قولُ رؤبة"
25- للهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ * سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي
أي: من عبادتِه، ومنه "ويذرُك وإلاَهَتَك" أي عبادتك. وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله: "كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات" وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر، ولهذا/ رُوي: "تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله" وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ، فأصلُ الجلالة الكريمة: الإله، كقولِ الشاعر:
26- معاذَ الإله أن تكونَ كظبيةٍ * ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبٍ
ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس، والأصل أُناس كقوله:
27- إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ * ـنَ على الأُناس الآمِنينا
(1/10)
---(1/10)
فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم. أو نقول: إن الهمزة من الإله حُذِفت للنقل، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال.
ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه، وعلى ذلك قال بعض الحكماء: "الله محبوب للأشياءِ كلها، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} فأصله: وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء، والأصلُ: وِشاح ووِعاء، فصار الفظُ به: إلاهاً، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام، ويُعْزَى هذا القول للخليل، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه: فِعال، وهو بمعنى مَفْعول أي: مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب.
وُردَّ قولث الخليل بوجهين، أحدهما: أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ، ولم يَقُلْه أحد، ويقولون: إشاح ووشاح وإعاء ووعاء. والثاني: أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها، ولم يُجْمع "إله" إلا على آلهة.
وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشِرَكَهْ فيها غيرُه، كما ستقف عليه، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل.
(1/11)
---(1/11)
وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً. وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم "لاهِ أبوك"، والأصل: للهِ أبوك كما تقدم، قالوا: وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط "اللات" اسم الصنم، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه. وقيل: لئلا يُشَبَّه بخط "اللاه" اسمَ فاعل من لها يلهو، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لبْس حينئذ. وقيل: حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله، قال الشاعر:
28- أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ * يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ
وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ، ولكنه يريد ما قلته. ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال. وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري. ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة: فمنهم مَنْ يُرَقِّقُهَا على كل حال. وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً كما ذكره الزمخشري. ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة: فمنهم مَنْ يُرَقِّقها، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه: "حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً".
(1/12)
---(1/12)
ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف، وقد رُدَّ قولهُما بانه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو: لآَّل وسَآَّل، وليس فيه ما يمنع من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ.
ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله: "لاها" فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا: الله، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:
29- كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ * يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ، ونق ذلك أبو زيد البلخي.
[ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب] قالوا: وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إيله بالضمير، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلك، إذ قد علِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ: "لَهُ" ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة.
(1/13)
---(1/13)
ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرِكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه، إنما تُعَرِّفه صفاتُه، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإشارة، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه. وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به، فتقول: إله عظيم واحد، كما تقول: شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم، ولا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه، فلو جَعَلْتَها صفاتٍ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً. والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب.
الرحمن الرحيم: صفتان مشتقتان من الرحمة، وقيل: الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم: {وَمَا الرَّحْمَانُ} وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ، ولذلك لم يقولوا: وَمَنْ الرحمن؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة.
(1/14)
---(1/14)
وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن "الرحمن" بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة. واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ، كقوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقد رَدَّ عليه السُّهيلي إلى تبيين لأنها اعرفُ الأعلامِ، ألا تراهم قالوا: {وَمَا الرَّحْمَانُ} ولم يقولوا: وما اللهُ. انتهى. أمَّا قوله: "جاء غيرَ تابع" فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه، كقولِه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي نوع مختلف، وكقول الشاعر:
30- كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوهِنَها * فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ
أي: كوعلٍ ناطح، وهو كثير.
والرحمة لغةً: الرقةُ والانعطافُ، ومنه اشتقاق الرَّحِم، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه. هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري. ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ، وقيل: الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ، وهذا القولُ هو الظاهرُ.
وقيل: الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإحسانَ إلى المرحومِ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ، وعلى هذا رُوي: "الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الادميين رقةٌ وتعطُّف".
(1/15)
---(1/15)
[وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهما اسمان رقيقان أحدهما ارقُّ من الآخر أي: أكثرُ رحمة". قال الخطَّابي: وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ. وقال الحسين بن الفضل: "هذا وَهْمٌ من الراوي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف"، ويؤيِّده الحديثُ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة.
واختلف أهلُ العلمِ في "الرحمن الرحيم" بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين. فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم، ثم اختلف هؤلاء على قولين، فمنهم مَنْ قال: جُمِع بينهما تأكيداً، ومنهم مَنْ قال: لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه: الرحمنُ الرحيم، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط. وهذا ضعيفٌ جداً، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ.
ومنهم مَنْ قال: لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال: "رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة"، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط، ويُروَى: رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى.
(1/16)
---(1/16)
وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان، ثم اختلف هؤلاء أيضاً: فمنهم مَنْ قال: الرحمن أبلغُ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى، واختاره الزمخشري، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلئِ غَضَباً وسُكْراً، ولذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط، قال الزمخشري: "فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى، إلى الأعلى، كما يُقال: شُجاع باسل ولا يقال: باسِلٌ شجاع. ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ كا دَقَّ منها ولَطَف.
ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال: "رحيم الدنيا والآخرة" لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن. لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ، وأثرُها فيها أظهرُ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة. والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ، فمبالغةُ "فَعْلان" من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ "فعيل" من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة. وقال أبو عبيدة: "وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلى على مبالغةِ الفِعْل، نحو: رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول، قال:
31- فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً * فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ
فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل. والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل. حكى ابنُ ابنُ سِيده: "زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك".
(1/17)
---(1/17)
والألفُ واللام في "الرحمن" للغلَبة كهي في "الصَّعِق"، ولا يُطلق على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ} فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه، بخلاف "رحيم" فإنه يُطلق على غيره تعالى، قال [تعالى] في حَقَّه عليه السلام: "بالمؤمنين رؤوف رحيم"، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى-:
32- ................................... * وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا
فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً، ولا يُلتفت لقوله: "لا زِلْتَ رَحْماناً" لشذوذه.
ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب، ليس بعربيِّ الأصل، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [والمبرد وأنشد]:
33- لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ * بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمرانا
أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ * ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا
(1/18)
---(1/18)
وفي وصب الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ، الذي عليه الجمهور: الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد. وفي هذه الكسرة احتمالان: أحدهما -وهو الأصحُّ- أنها حركةُ إعرابٍ، وقيل: يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر. والثاني من وَجْهَي الوصل: سكونُ الميمِ والوقفُ عليها، والابتداءُ بقطع ألف "الحمد"، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه السلام. الثالث: حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ: الرحيمَ الحمدُ" بفتح الميم ووصل ألف الحمد، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة. قال ابن عطية: "ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [فيما علمت، "وهذا فيه نظرٌ يجيئ في: {الاما اللَّهُ} قلت: يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع]، وهو أوْلَى من هذا التكلُّف.
* { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
الحمدُ: الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا، يقال: حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَوارح، إذ لا يقال: حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً، بخلافِ السكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ، يقال: شكرتُه علفى ما أعطاني، ولا يقال: شكرتُه على شجاعته، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى: {اعْمَلُوااْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً} وقال الشاعر:
34- أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً * يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا
(1/19)
---(1/19)
فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ. وقيل: الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم: "الحمدُ لله شكراً". وقيل: بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ، وقيل: الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه، والشكرُ الثناءُ عليع بأفعاله، فالحامدُ قسمان: شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة. وقيل: الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه، وهذان مستويان في الاستعمال، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس، فكانا مادتين مستقلتين، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ، فإنه يقال: "حَمِدْتُ الله" ولا يقال مَدَحْته، ولو كان مقلوباً لما امتنع ذلك. ولقائلٍ أن يقول: مَنَعَ من ذلك مانعٌ، وهو عَدَمُ الإْنِ في ذلك.
وقال الراغب: "الحمد لله الثناء [عليه] بالفضيلة، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر، يقال فيما يكونُ من الإنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير، فقد يُمْدَحُ الإنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً، ويقال: فلان محمود إذا حُمِد، ومُحْمَدٌ [وُجد محموداً] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة، وأحْمَدُ أي: إنه يفوق غيرَه في الحمد".
والألفَ واللامُ في "الحَمْد" قيل: للاستغراقِ وقيل: لتعريفِ الجنسِ، واختاره الزمخشري، قال الشاعر:
35- .......................... * إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ
(1/20)
---(1/20)
وقيل: للعَهْدِ. وَمَنع الزمخشرب كونَها للاستغراق، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك، ويُشْبِه أن يقال: إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافش كونِها للجنسِ.
والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد:
36- وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه * بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي
وقرأ الجمهور: "الحمدُ للهِ" برفع الدال وكسر لام الجر، ورفعُه على الابتداء، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة. ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً، أي: الحمدث مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله. والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها، وذلك أنك إذا قلت: "خرجت فإذا في الدار زيدٌ"، و "أمَّا في الدار فزيدٌ"، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ. وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور، وهو إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ، نحو: "الذي في الدار" فليكنْ راجحاً في غيره. والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى، بخلاف وقوعه صلةً، والأولُ غيرُ أجنبي.
ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقاً بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً، فأمَّا قول الشاعر:
37- لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ * فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ
(1/21)
---(1/21)
فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه. وأمَّا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} فلك يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به. ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أَنْ يكونَ اسماً. واختلفوا: أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين.
وقرئ شاذاً بنصب الدال من "الحمد"، وفيه وجهان: أظهرهُما أنه منصوب على المصدرية، ثم حُذِف العاملُ، وناب المصدرُ مَنَابَه، كقولهم في الإخبار: "حمداً وشكراً لا كُفْراً"، والتقدير: أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية. وقال الطبري: إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه، فكأنه قال: قولوا الحمدَ لله، وعلى هذا يجيء "قولوا إياك" فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر، وهو محتملٌ للوجهين، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه. والثاني: أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ، أو اتلوا الحمدَ، كقولهم: "اللهم ضَبُعاً وذئْباً"، أي اجمَعْ ضبُعاً، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ.
وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب، لأنَّ الرفع في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، ولذلك قال العلماء: إن جوابَ خليل النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، ولذلك قال العلماء: إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه: {قَالَ سَلاَمٌ} أحسنُ مِنْ قول الملائكة "قالوا سلاماً"، امتثالاً لقوله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ
(1/22)
---(1/22)
}. و "لله" على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره: أَعْنِي لله، كقولهم: سُقْياً له ورَعْياً لك، تقديرهُ: أعني له ولك، أعني ولك، ويدلُّ على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا: /سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} من باب الاشتغالِ لأنَّ "لهم" لم يتعلَّق بِتَعْساً مَرَّ. ويحتمل أن يقال: إنَّ اللام في "سُقياً لك" ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه.
وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها، وهي لغة تميم وبعض غطفان، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس، ومنه: "اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ"، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة. ومثله:
38- وَيْلمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً * ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ
الأصل: ويلٌ لأُمها، فَحَذَفَ اللامَ الأولى، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها، وحَذَفَ الهمزةَ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ، فصار اللفظ: وَيْلِمِّها، ومنهم مَنْ لا يُتبع، فيقول: وَيْلُمِّها بضم اللام، قال:
39- وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها * فَجْعٌ وَوَلْعٌ [وإخلافٌ وتَبِدِيلُ]
ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ، لأنَّ الإعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإتباعِ.
(1/23)
---(1/23)
وقُرئ أيضاً: "لُلَّهِ" بضمِّ لامِ الجرِّ، قالوا: وهي إتباعٌ لحركة الدالِ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس، يُتْعون الثاني للأول نحو: مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم، وعليه قُرئ: "مُرْدِفين" بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في "الحمدُ لله" وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها.
ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ، أي الحمدُ مستحقٌ لله، ولها معانٍ أخَرُ، نذكرها الآن، وهي الملك والاستحقاق [نحو:] المالُ لزيد، الجُلُّ للفرس، والتمليك نحو: وَهَبْتُ لك وشبهِه، نحو: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} والنسب نحو: لزيد عَمُّ" والتعليلُ نحو: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} والتبليغ نحو: قلتُ لك، والتعجبُ في القسم خاصة، كقوله:
40- للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ * بمُسْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ
والتبيين نحو: قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} والصيرورةُ نحو قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} والظرفية: إمَّا بمعنى في، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أو بمعنى عِنْد، كقولهم: "كتبتُه لخمسٍ" أي عند خمس، أو بمعنى بَعْدَ، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: بعد دلوكها، والانتهاء، كقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ} والاستعلاء نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} أي على الأذقان، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أو كان العاملُ فَرْعاً، نحوُ قولِه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله:
41- ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً * أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا
(1/24)
---(1/24)
وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} فقيلَ: على التضمين. وقيل هي زائدة.
قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الربُّ لغةً: السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود، ومنه:
42- أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه * لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ
والمُصْلِح. وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد:
43- قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه * بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ
والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك، فليس هو معنى زائداً، وقيل: يكون بمعنى الخالق.
واختلف فيه: هل هو في الأصل أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال: هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه، فقيل: هو على وزن فَعَل كقولك: نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ، وقيل: وزنه فاعِل، وأصله رابٌّ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال، كقولهم: رجل بارٌّ وبَرٌّ. ولِقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ. ومنهم من قال: هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه، قال: "لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن"، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل، نحو: رجل عَدْلٌ وصَوم، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة، نحو قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} ويقولون: "هو ربُّ الدار وربُّ البعير" وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الماس من غير قَيْدٍ، قال الحارث بن حلزة:
44- وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ * مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ
وهذا من كفرهم.
وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه، وقُرئ منصوباً، وفيه ثلاثةُ أوجه: إمَّا [منصوبٌ] بما دَلَّ عليه الحمدُ، تقديره: أَحْمَدُ ربِّ العالمين، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف. وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ.
(1/25)(1/25)
---
وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك: اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [التابع] الإتباعُ والقطعُ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف، ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ، نحو قَولِهم: "الحمدُ لله أهلَ الحمدِ" رُوِي بنصب "أهل" ورفعِه، أي: أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد. وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ: إمّا إتْباعِ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإتباع، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ، نحو: مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة.
(1/26)
---(1/26)
والعالمين: خفضٌ بالإضافةِ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم، لأنَّ الصحيحَ في "عالَم" أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَك؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ "أعراباً" ليس جمعاً لِ "عَرَب" لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي. فإنْ قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون "عالَمون" جمعاً لـ "عالَم" مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال: شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك. وفي الجواب نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقول: شَيْئون مضنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ "عالَمين" مراداً به العاقلُ، ويؤيِّده هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن "عالَمين" إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ والإنسُ، وقال الراغبُ أيضاً: "إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ"، وقال الراغب أيضاً: "وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتهم، والإنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه"، وظَاهرُ هذا أن "عالَمين" يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ، كما زَعَم بعضُهم، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ.
* { الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ }
(1/27)
---(1/27)
نعت أو بدل، وقُرئا منصوبَيْنِ موفرعَيْنِ، وتوجيه ذلك إلى ما ذكر في {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقهِما في البسملة/ فأغنى عن إعادته.
* { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }
يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم، وهو الشدُّ والربط، قال الشاعر:
45- مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها * يَرَى قائمٌ مِنْ دزنِها ما وراءها
ومنه: "إملاكُ العَروسِ"، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح.
وقُرئ "مالِك" بالألف، قال الأخفش: "يقال: مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم الميم، ومالكٌ بيِنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها"، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى. ورُوي عن العربِ: "لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك" مثلثةَ الفاء، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه. وقال الراغب: "والمِلْك -أي بالكسر- كالجنس للمُلْك- أي بالضم -فكل مِلْك -بالكسر- مُلك، وليس كل مُلك مِلكاً"، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك، بالضم، ومالِكاً مأخوذ منالمِلْك بالكسر. وقيل: الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة: إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها، وإمَّا في نفسه وفي غيره، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ.
(1/28)
---(1/28)
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى، وهذا غير مَرْضِيٍّ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال: ["إذا اختلف الإعرابُ في القرآن] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كرمِ الناس فصَّلْتُ الأقوى" نقله أبو عمر الزاهد في "اليواقيت". وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ: "وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما، ثم قال: "حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ" ذكر ذلك عند قوله: "مَلِك يوم الدين ومالِك".
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجَّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه. فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ "مالك" أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه، إذ يقال: "مالِكُ الجِّم والإنس والطير"، وأنشدوا على ذلك:
46- سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه * مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ
وقالوا: "فلانٌ مالكُ كذا" لمَنْ يملكه، بخلاف "مِلك" فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو: "مَلِك العرب والعجم"، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في "الرحمن"، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي "مَلِك".
(1/29)
---(1/29)
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ "مَلِك" ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ: "مالك" لأنها تكرارٌ، قال أبو عليّ: "ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ، نحو: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} وقال أبو حاتم: "مالِك" أَبْلَغُ في مدح الخالق، و "مَلِك" أبلغُ في مدحِ المخلوقِ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك، وإذا كان الله تعالى مَلِكاً كان مالكاً. واختاره ابن العربي. ومنها: أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك، بخلافِ "مالك" فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم، ولإشعارِه بالكثرةِ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك، بقوله تعالى: "قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ" ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه.
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام، ومنه:
47- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ * عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا
ومَليك. ومنه:
48- فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما * قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها
ومَلِكي، وتُرْوَى عن نافع.
(1/30)
---(1/30)
إذا عُرف هذا فكونُ "مَلِك" نعتاً لله تعالى ظاهر، فإنه معرفةٌ بالإضافة، وأمَّا "مالك" فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً، لأنَّ إضافته محضة فَيَتعرَّف بها، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ: "مَلَكَ يومَ الدين"، فجعل "مَلَك" فعلاً ماضياً، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ، لأنه: إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف، وإذا لك يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم. والذي ينبغي إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ، فكأنَّ المعنى -والله أعلم- أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ، وهذا ما مالَ إيله أبو القاسم الزمخشري.
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى "يوم الدين" من باب الاتِّساع، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم، والتقدير: مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين. ونظيرُ إضافة "مالك" إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة "طَبَّاخ" إلى "ساعات" من قول الشاعر:
49- رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمَى مُشْمَعِلّْ * طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو "زادَ الكَسِل"، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه. ويجوز أني كونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ.
(1/31)
---(1/31)
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ، ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ: "مَلَكَ يومَ الدينِ" فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ "يوم" مفعولاً به. والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى "في" مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال: "المعنى مَكْرٌ في الليل، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ، فالمكرُ واقعٌ فيه". والمشهورُ أن الإضافةَ: إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى "مَنْ"، وكونها بمعنى "في" غيرُ صحيح. وأمَّا قولُه تعالى: {مَكْرُ الْلَّيْلِ} فلا دَلالةَ فيه، لأن هذا من باب البلاغة، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما، فهو نظيرُ قولهم: نهارُه صائمٌ وليلُه قائم، وقولِ الشاعر:
50- أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ * والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ
لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم.
واليومُ لغةً: القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار، قال تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس. وقال الراغب: "اليومُ نعبِّر به عن وقنت طلوعِ الشمس إلى غروبها"، قلت: وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك.
والدِّيْنِ: مضافٌ إليه أيضاً، والمرادُ به هنا: الجزاءُ، ومنه قول الشاعر:
51- ولم يَبْقَ سوى العُدْوا * نِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازَيْناهم كما جاوزنا، وقال آخر:
52- واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ * واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدَانُ
ومثله:(1/32)
(1/32)
---
53- إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم * ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا
ومثله:
54- حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما * يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ
وله معانٍ أُخَرٌ: العادَة، كقوله:
55- كَدينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها * وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ
أي: كعادتك: ومثلُه:
56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني * أهذا دِينُه أبداً ودِينِي
ودانَ عصى وأطاع، وذلَّ وعزَّ، فهو من الأضداد. والقضاءُ، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في قضائِه وحكمه، والحالُ، سُئل بعضُ الأعراب فقال: "لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ" أي: على حالة. والداءُ: ومنه قول الشاعر:
57- يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا * ..............................
ويقال: دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً -بفتح الدال وكسرها في المصدر- أي جازَيْتُه. والدِّينُ أيضاً: الطاعةُ، ومنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أي: طاعةً، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يعني الإسلام، بدليل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} والدِّينُ: سيرة المَلِك، قال زهير:
58- لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ * في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ
يقال: دينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ، ومنه قيل للعبدِ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة. وقيل: هو من دِمْتُه إذا جازيته بطاعته، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب، قاله الراغب. وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها.
* {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
(1/33)
---(1/33)
"إياك" مفعولٌ مُقدَّمٌ على "نَعْبُدُ" للاختصاصِ، وهو واجبُ الانفصالِ. واختلفوا فيه: هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ، وقال الزجاج: "هو اسم ظاهر"، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو.
والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال، أحدُها: أنه كلَّه ضميرٌ. والثاني: أن: "إيَّا" وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب، وثالثُها: أن "إيَّا" وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به. ورابعها: أنَّ "إيَّا" عمادٌ وما بعده هو الضمير، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم: "إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ" بإضافة "إيا" إلى الشَّوابِّ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَل الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت: إياك إياه إياي.
وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً، ثم قال: هل هو مشتقٌ كم "أَوّ" كقول الشاعر:
59- فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها * ................................
أو من "آية" كقوله:
60- لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ * ......................................
وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء.
وفيه لغاتٌ: أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها. قال الشاعر:
61- فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ * مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ
[وقال بعضهم: إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه]، لأنه يصير" شمسَك نعبد، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة، وقد تُفتح، وقيل: هي لها بمنزلة الهالة للقمر، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ، قال:
(1/34)
---(1/34)
62- سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه * أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ
وقد قُرش ببعضها شاذاً، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به.
ونعبُدُ: فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسم، وهذا رأيُ البصريين، ومعنى المضارعِ المشابِهُ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة.
والعِبادة غاية التذلل، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإفضالِ وهو الباري تعالى، فهي أبلغُ من العبودية، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل، ويقال: طريق مُعَبَّد، أي مذلَّل بالوطء، قال طرفة:
63- تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ * وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
ومنه: العبدُ لذلَّته، وبعيرٌ مُعَبَّد: أي مُذَلَّل بالقَطِران. وقيل: العبادةُ التجرُّدُ، ويُقال: عَبَدْت الله بالتخفيف فقط، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط: أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، أذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل: الحمد الله، ثم قيل: إياه نعبدُ، والالتفاتُ: نوع من البلاغة. ومن الالتفات -إلا أنه عَكْسُ هذا- قولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} ولم يقل: بكم. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله:
64- تطاوَلَ ليلُكَ بالإثمِدِ * وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ
وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ * كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ
وذلم من نبأٍ جاءني * وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ
(1/35)
---(1/35)
وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات، وقال: بل هما التفاتان، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله: "ليلُك" إلى الغيبة في قوله: "وباتَتْ له ليلةٌ"، والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله: "من نبأٍ جتْني وخُبِّرْتُه". والجواب أن قوله أولاً: "تطاول ليلُك" فيه التفاتٌ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ: تطاول ليلي، لأنه هو المقصودُ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ.
وقُرئ شاذاً: "إِيَّاكَ يُعْبُدُ" على بنائِه للمفعول الغائبِ، ووجهُها على إشكالها: أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائعٌ كقولهم: عساك وعشاه وعساني في أحد الأقوال، وقول الآخر:
65- يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا * وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إلَيكا
فالكاف في "عَصَيْكا" نائِبةٌ عن التاء، والأصل: عَصَيْتَ. وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ: إيام تُعْبَدُ بالخطابِ، ولكنه التفتَ من الخطاب في "إيَّاك" إلى الغيبة في "يُعْبَدُ"، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم. ونظيرُ هذا الالتفات قوله:
66- أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً * سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال: "به" بعد قوله: "أنت وكنت".
و "إيَّاك" واجبُ التقديمِ على عاملهِ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه، وتحرَّزوا بقولهم: "لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ" من نحو: "الدرهمَ إياه أعطيتُك"ـ لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت: "الدرهمَ أعطيتُك إياه" لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي، بل يجوز: أعطيتُكه.
(1/36)
---(1/36)
والكلام في "إياك نَسْتعين" كالكلام في "إياك نعبدُ" والواو عاطفة، وهي من المُشَرِّكة في الإعراب والمعنى، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين. ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل نَسْتعين: نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ، لأنه من العَوْنِ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاعدةٌ مطردَة، نحو: كيزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت.
والسينُ فيه معناها الطلبُ، أي: نطلب منك العَوْنَ على العبادة، وهو أحدُ المعاني التي لـ استفعل، وله معانٍ أُخَرُ: الاتخاذُ نحو: استعْبَدَه أي: اتخذه عبداً، والتحول نحو: استحْجَرَ الطين أي: صار حَجَراً، ومنه قوله: "إن الابُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر"، أي: تتحوَّل إلى صفة النسور، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه، نحو: استعظَمه أي وجدَه عظيماً، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ، نحو: استحسنه، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو: أَشْلاه فاستشلى، وموافقتُه له أيضاً نحو: أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ، وموافقةُ تفعَّل، نجو: استكبرَ بمعنى تكبَّر، وموافقةُ افتَعَلَ نحو: استعصمَ بمعنى اعتصم، والإغناءُ عن المجردِ نحو: استكفَّ واستحيى، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه، وللإغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو: استرجع واستعانَ، أي: رَجَع وحَلَق عانَتَه.
(1/37)
---(1/37)
وقرئ "نِسْتعين" بكسر حرفِ المضارعةِ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء، لثقلِ ذلك. على أن بعضهم قال: يِيجَل مضارع وَجِلَ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ، وقد قرئ: "فإنهم يِيْلمونَ" وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو: تِعْلم من عَلِمَ، أو في أوله همزة وصل نحو: نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو: نِتَعلَّم من تَعَلَّم، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة. ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد: فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد، فقالت: بلى، نِكْتَني، وكَسَرتِ النونَ، فقال: لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى.
والاستعانة: طلبُ العَوْن، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ وكلَّ مستعانٍ، عليه، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو: "كُلوا واشربوا"، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ.
* {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
(1/38)
---(1/38)
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصّرَاطَ}: إلى آخرها: اهْدِ: صيغةُ أمرٍ ومعناه الدعاءُ. وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون. وقال بعضهم: إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ، وبالعكس دعاءٌ، ومن المساوي التماسٌ. وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ، أي: اهدِ أنت، ونا مقعول أول، وهو مضيرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ: نحو: قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر. وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك. تقول: أكرمَنَي ومَرِّ بي، وأنت تقومين يا هند، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ، وفي الثاني مجرورتُه، وفي الثالث مرفوعتُه. وهذا ليس بشيء، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر، لأن الأولى للمتكلمِ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ. وقيل: بل يشاركه لفظُ "هُمْ"، تقول: هم نائمون وضربَهم ومررت بهم، ف "هم" مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ، وهو للغائِبِين في كل حال، وهذا وإن كان أقربَ من الأول، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ، فافترقا، بخلاف "نا" فإن معناها لا يختلف، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة.
والصراطَ: مفعول ثان، والمستقيمَ: صفتُه، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة.
وأصل "هَدَى" أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا: إلى أو اللام، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِيا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ثم يُتَّسَعُ فيه، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه، فأصلُ اهدِنا الصراط: اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ، ثم حُذِف.
(1/39)
---(1/39)
والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب، وَيدَّعون في نحو: "اضرب" أنَّ أصله: لِتَضْرِب بلام الأمر، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن، وهذا ما لا حاجة إليه، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به.
ووزن اهْدِ: افْعِ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ.
والهدايةُ: الإرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس:
67- فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه * جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ
أو التبيينُ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بَيَّنَّا لهم، أو الإلهامُ، نحو: {أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي ألهمه لمصالِحه، أو الدعاءُ كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داعٍ. وقيل هو المَيلُ، ومنه {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} والمعنى: مِلْ بقلوبنا إليك، وهذا غَلَطٌ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود. وقال الراغب: "الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ، وما كان إعطاءً بأَهْديت.
والصراطُ: الطريقُ المُسْتَسْهَل، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ، قال:
68- فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ
ومثله:
69- أميرُ المؤمنين على صِراطٍ * إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ
وقال آخر:
70- شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى * تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ
أي الطريق، وهو مشتق من السِّرْطِ، وهو الابتلاعُ: إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه، ألا ترى إلى قولهم: "قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا"، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام:
71- رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً * رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ
(1/40)
---(1/40)
وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه.
وأصلُه السينُ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ وإنما أُبْدِلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نو: صَقَر في سَقَر، وصُلْح في سُلْح، وإصْبَع في اسبَع، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر، لما بينهما من التقارب.
وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً، وقرأ به خلف حيث وَرَد، وخلاَّد الأول فقط، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم.
والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث، فالتذكيرُ لغة تميم، وبالتأنيث لغة الحجاز، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة، وفي الكثرة على فُعُل، نحو: حِمار وأَحْمِرة وحُمُر، وإن استعمل مؤنثاً قياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو: ذِراع وأَذْرُع. والمستقيم: اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله: مُسْتَقْوِم، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}.
* { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }
قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ}: بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة، والبدلُ سبعة أقسام، على خلافٍ في بعضها، بدلُ كلٍ من كل، بدلُ بعض من كل، بدلُ اشتمال، بدل غلط، بدل نسيان، بدل بَداء، بدل من بعض. أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلَ فلا خلافَ فيها، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام: "إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر"، ولا يَرِدُ هذا في القرآن، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة:
72- لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ * وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
(1/41)
---(1/41)
قال: لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة. ولا يَرِدُ هذام البدلان في كلامٍ فصيحٍ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله:
73- رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنوها * بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ
وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ "طلحة" قال: لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة، وطلحة كلٌ، وقد أُبْدِل منها، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس:
74- كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا * لدى سَمُرانِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
فغذاةَ بعضُ اليوم، وقَد أبدل "اليومَ" منها. ولا حُجَّة في البيتين، أمَّا الأولُ: فإن الأصل: أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه، ويَدُلُّ على هذه الروايةُ المشهورة وهي جر "طلحة"، على أن الأصل: أعظُمَ طلحة، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم. ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ، موضوعُها كتب النحو.
وقيل: إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى، قاله جعفر بن محمد، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ.
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البدلِ: الإيضاحُ بعد الإبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ.
و "الذين" في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع "الذي" في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه:
75- نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا * يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا(1/42)
(1/42)
---
وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه، كقوله:
76- وإنَّ الذي حَانضتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ * هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، بخلاف مفدره، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم.
وأَنْعَمْتَ: فعلٌ صلةُ الموصول، والتناءُ في "أنعمتَ" ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ. و "عليهم" جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ، ويستوي لفظُ متثلهِ ومنفصلهِ.
(1/43)
---(1/43)
والهمزة في "أَنْعمت" لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّة تعديَتَه. ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى، تقدَّم واحدٌ، والباقي: التعديةُ نحو: أخرجته، والكثرة نحو: أَظْبَى المكان أي كَثُر ظِباؤه، والصيرورة نحو: أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة، والإعانة نحو: أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب، والسَّلْب نحو: أَشْكَيْتُه أي: أَزَلْتُ شِكايته، والتعريض نحو: أَبَعْتُ المتاعَ أي: عَرَضْتُه للبيع، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغمنه نحو: أَحْمدته أي وجدتُه محموداً، وبلوغُ عدد نحو: أَعْشَرَتِ الدراهم، أي: بَلَغَتْ عشرةً، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح، أو مكان نحو: أَشْأَمَ، وموتفقهُ الثلاثي نجو: أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته، أو أغنى عن الثلاثي نحو: أَرْقَلَ البعير، ومطاوعة فَعَل نحو: قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ، ومطاوعة فَعَّل نحو: قَطَّرْته فَأَقْطَرَ، ونفي الغزيرة نحو: أَسرع، والتسمية نحو: أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً، والدعاء نحو: أَسْقيته أي قلت له: سَقاك الله، والاستحقاق نحو: أَحْصَدَ الورعُ أي استحق الحصاد، والوصولُ نحو: أَعْقَلْته، أي: وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه، والاستقبال نحو/: أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ، والمجي بالشيء نحو: أكثرتُ أي جئتُ بالكثير، والفرقُ بين أقْعَل وفَعَل نحو: أشرقت الشمس أضاءت، وشَرَقِتْ: طَلَعت، والهجومُ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم أي: اطَّلَعْتُ عليهم.
و "على" حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً، نحو: عليه دَيْنٌ، ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المجاوزة كقوله:
77- إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر * لَعَكْرُ الله أعجبني رضاها
(1/44)
---(1/44)
أي: عني، وبمعنى الباء: "حقيقٌ على ألاَّ أقولَ" أي بأَنْ، وبمعنى في: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ} أي: في ملك، والمصاحبة نحو: {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} نحو: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} والتعليل نحو: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأجل هدايته إياكم، وبمعنى مِنْ: {حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} أي: إلا من أزواجهم، والزيادة كقوله:
78- أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ * على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
لأن "تروق" يتعدَّى بنفسه، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر.
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية، فتكونُ اسماً في موضعين، أحدُهما: أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله:
79- غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها * تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها من فوق، أي من فوقه، والثاني: أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله:
80- هَوِّن عليكَ فإنَّ الأمورَ * بكفِّ الإلهِ مقاديرُها
ومثلُها في هذين الحكمين: عَنْ، وستأتي إن شاء الله تعالى.
وزعم بعضُهم أنَّ "على" مترددة بين الاسم والفعل والحرف: أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما، وأمَّا الفعلُ قال: فإنك تقول: "علا زيدٌ" أي ارتفع وفي هذا نظرٌ، لأنَّ "على" إذا كان مشتقٌ من العلوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم: إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر.
(1/45)
---(1/45)
والصل في هاء الكناية الضمُّ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين، نحو: عَلَيْهِم وفيهم وبهم، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلى في ضرورة كقوله: "وفيهُمِ الحكلم" بكسر الميم.
وفي "عليهم" عشر لغات قُرئ ببعضها: عليهِم الهاء وضمِّها مع سكون الميم، عليهِمي، عَلَيْهُمُ، عليهِمُو: بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو باكسر فقط، عليِهمُ بكسر الهاء وضم الميم، ذكر أبو بكر ابن الأنباري.
و "غيرِ" بدلٌ من "الذين" بدلُ نكرة من معرفة، وقيل: نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن "غير" نكرةٌ و "الذين" معرفةٌ، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن "غير" إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ "غير" حينئذٍ بالإضافة، تقول: مررتُ بالحركة غير "السكون" والآيةُ من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح. والثاني: أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ، وقيل: إنَّ "غير" بدلٌ من الضمير المجرور في "عليهم"، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحِلُّ محلَّ المبدل منه، ويُنوَى بالأول الطرحُ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير: صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم.
و "المغضوب": خفضٌ بالإضافةِ، وهو اسمُ مفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور، فـ "عَليهم" الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ.
(1/46)
---(1/46)
واعلَمْ أنَّ لفظَ "غير" مفردٌ مذكرٌ أبداً، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه، تقول: قامت غيرُك، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ، ولذلك لا يتعرَّف بالإضافة، وكذلك أخواتُها، أعني نحوَ: مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على "إلاّ"، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها، وقد يُرَاد بها النفيُ كـ لا، فيجوز تقديمُ مهمولِ معمولها كما يجوز في "لا" تقول: أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، أي غير ضاربٍ زيداً، ومنه قول الشاعر:
81- إنَّ أمرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه * على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
تقديرُه: لغيرُ مكفورٍ عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي، لو قلت: جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ، تريد: غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ، لأنها ليست بمعنى "لا" التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقالِ في "لا". وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً، وقولٌ ثالثٌ: مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ.
وهي من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ.
وقرئ "غيرَ" نصباً، فقيل: حالٌ من "الذين" وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليع في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى، وقيل: من الضمير في "عليهم" وقيل: على الاستثناءِ المنقطعِ، ومنعه الفراء قال: لأن "لا" لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ، كقوله:
82- ما كان يَرْضَى رسولُ الله فِعْلَهما * والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ
وأجابوا بأنَّ "لا" صلةٌ زائدةٌ، مِثْلُها في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} وقول الشاعر:
83- وما ألومُ البيضَ إلاَّ تَسْخَرا * .................................
وقول الآخر:
84- وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه * وللَّهوِ داعٍ دابٌ غيرُ غافلِ
وقول الآخر:
(1/47)
---(1/47)
85- أبَى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ * به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه
فـ "لا" في هذه المواضع صلةٌ. وفي هذا الجواب نظرٌ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة، فقولُهم: إن "لا" زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المقتدمة لا يفيد/، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا: وُجِدَتْ "لا" زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة لا يفيد/، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا: وُجِدَتْ "لا" زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة. وتحتملُ أن تكونَ "لا" في قوله: "لا البخلَ" مفعولاً به لـ "أبى"، ويكونَ نصبُ "البخلَ" على أنه بدلٌ من "لا"، أي أبى جودُه قولَ لا، وقولُ لا هو البخلُ، ويؤيِّدُ هذا قولُه: "واستعجَلَتْ به نَعَمْ" فَجَعَلَ "نَعَم" فاعلَ "استعجَلَتْ"، فهو من الإسناد اللفظي، أي أبى جودُه هذا اللفظ، واستعجل به هذا اللفظُ.
وقيل: إنَّ نَصْبَ "غيرَ" بإضمار أعني، ويُحكى عن الخليل. وقدَّر بعضُهم بعد "غير" محذوفاً، قال: التقديرُ: غيرَ صراطِ المغضوبِ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ، فلم بقيِّدْه بجرِّ "غير" ولا نصبِه، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها، وتكون صفةً لقوله: {الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهذا ضعيفٌ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ، فالأوْلَى أن يكون صفةً لـ "صراطَ الذين" ويجوز أن تكونَ بدلاً من {الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أو من {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلا أنه يلزم منه تكرارُ البدل، وفي جوازِه نظرٌ، وليس في المسألة نقلٌ، إلا أنهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة، أو حالاً من "الصراط" الأول أو الثاني... واعلم أنه حيث جَعَلْنَا "غير" صفةً فلا بد من القول بتعريق "غير" أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ "غير".
(1/48)
---(1/48)
و "لا" في قوله: {وَلاَ الضَّآلِّينَ} زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من "غير" لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ "الضالِّين" على {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} وقال الكوفيون: هي بمعنى "غير"، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صُرِّح بـ "غير" كانَتْ للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب.
و "الضَّالين" مجرورٌ عطفاً على "المغضوب"، وقُرِئَ شاذاً: الضَّأَلِّين بهمز الألف، وأنشدوا:
86- وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ * بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََمَّتِ
قال أبو القاسم الزمخشري: "فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين" انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر:
87- فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ * .....................................
بهمز "العَأْلَمِ" وقال آخر:
88- ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زًوْزَأَةً * ...................................
بهمز ألف "زَوْزأة"، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان: "مِنْسَأْتَه" بهمز ساكنة: إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً.
فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً ؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء به كبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ ؛ لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، وترفُّق لطلبِ الإحسانِ ، فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام.
والإنعام: إيصالُ الإحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإحسانُ من العقلاءِ، فلا يقال: أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره.
(1/49)
---(1/49)
والغضبُ: ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ، ومنه قولُه عليه السلام: "اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه"، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره، ويقال: فلانٌ غَضَبة" إذا كان سريعَ الغضبِ.
ويقال: غضِبت لفلانٍ [إذا كان حَيًّا]،وغضبت به إذا كان ميتاً، وقيل: الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ، وقيل : إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ ، وإنْ أريدَ به إراجةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ.
والضَّلال: الخَفاءُ والغَيْبُوبةُ، وقيل: الهَلاك ، فمِن الأول قولُهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن، وقوله:
89- ألم تسأَلْ فَتُخْبِركَ الدِّيارُ * عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا
والضَّلْضَلَةُ: حجرٌ أملسُ السيلُ في الوادي. ومن الثاني: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} وقيل: الضلالُ: العُدول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} بدليلِ قوله: {فَتُذَكِّرَ}. القول في "آمين": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناهما: استجِبْ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ، وقيل: ليس باسم فِعْل، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير: يا آمين، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ، والثاني: أن أسماءَ الله تعالى توفيقيةٌ. ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على من أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى: لأنه اسمُ فعلٍ، وهو توجيهٌ حسنٌ، نقله صاحب "المُغْرِب".
وفي آمين لغتان: المدُّ والقصرُ، فمن الأول قوله:
90- آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ * حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا
وقال الآخر:
91- يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً * ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
ومن الثاني قوله:
(1/50)
92- تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه * آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا
وقيل: الممدودُ اسمٌ أعجمي، لأنه بزنة قابيل وهابيل. وهل يجوز تشديدُ الميم؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك، ومنه {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}.(1/50)
سورة البقرة
* { الم }
* {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
إنْ قيل: إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ النهجِّي، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ، والعينَ اسمٌ لعَهْ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَهم ولكن عَجَزْتُمْ عنه، فلا محلَّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلفيت كأسماءِ الأعدادِ نحو: واحد اثنان، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ، أحدها: ما تقدَّم. والثاني: أنها مُعْرَبَةٌ، بمعنى أنها صالحة للإعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ، وإليه مالَ الزمخشري. والثالث: أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ. أو إنْ قيل: إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها، أو إنها بعض أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس، كقوله: الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/، فالرفعُ على أحد وجهين: إمَّا بكونها مبتدأ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً. والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً: إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه: اقرَؤوا: ألم، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر:
93- إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ * فذاك أمانةَ الله الثريدُ
(1/51)
---(1/51)
يريد: وأمانةِ الله، وكذلك هذه الحروفُ، أقسم الله تعالى بها، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه: أنَّ "القرآن" في {صا وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} و "القلم" في: {نا وَالْقَلَمِ} محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف، والأول يلزم منه محذورٌ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم، قال: "وهم يستكرهون ذلك"، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعده، والفرضُ أنك قدِّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب. وهو ردٌّ واضح، إلا أَنْ يقال: هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و {حما وَالْكِتَابِ} و {قا وَالْقُرْآنِ} ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له.
والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها، حُذِف حرف القسم، وبقي عملُه كقولهم: "واللهِ لأفعلنَّ"، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء. وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها.
فتلخَّص ممَّا تقدم: أن في "الم" ونجوها ستةَ أوجه وهي: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، أو لا محلٌّ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم.
(1/52)
---(1/52)
وأمَّا "ذلك الكتاب" فيجوز في "ذلك" أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه، والجملةُ خبرُ "ألم"، وأغنى الربطُ باسمِ الإشارة، ويجوز أن يكونَ "الم" مبتدأً و "ذلك" خبره و "الكتاب" صفةٌ لـ "ذلك" أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان، وأن يكونَ "ألم" مبتدأً و "ذلك" مبتدأ ثان، و "الكتاب": إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ عن المبتدأ الثاني، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول، ويجوز أن يكونَ "ألم" خبرَ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هذه ألم، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها، ويكونُ "ذلك" مبتدأ ثانياً، و "الكتابُ" خبرُه، ويجوز أن يكون صفةً له أو بدلاً أو بياناً و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} هو الخبرُ عن "ذلك"، أو يكون "الكتابُ" خبراً لـ "ذلك" و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثانٍ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} إذا قيل إنَّ "تَسْعَى" خبرٌ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا.
وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيه معنى الإشارة، و "لا" نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها "إنَّ"، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ، فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ معنى الحرفِ، وهو "مِنْ" الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر:
94- فقام يَذُوْذُ الناسَ عنها بسيفِه * فقال: ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ
وقيل: بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ.
وزعم الزجاج أنَّ حركةَ "لا رجلَ" ونحوِه حركةُ إعراب، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ، كقوله:
95- ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً * يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ
(1/53)
---(1/53)
ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ: ألا تَرَوْنني رجلاً؟.
فإن لم يكن مفرداً -وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو: "لا خيراً من زيد" ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة، وأمًّا نحوُ:
96- تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ * بريءٌ من الحمَّى سليمُ الجوانِحِ
وقول الآخر:
97- أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ * نَكِدْنَ ولا أميَّةَ في البلادِ
وقول الآخر:
98- لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي
وقولِه عليه السلام: "لا قريشَ بعد اليوم، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه" فمؤولٌ.
و "ريبَ" اسمُها، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو "فيه"، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها، فالأوْلَى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريبَ كائنٌ، ويكون الوقف على "ريب" حينئذ تاماً، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها، قالوا: لا عليك، أي لا بأسَ عليك، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر. ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو.
واعلم أن "لا" لفظٌ مشتركٌ ين النفي، وهي فيه على قسمين: قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل "إنَّ" كما تقدم، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في {وَلاَ الضَّآلِّينَ
}. و "ذلك" اسمُ إشارةٍ: الاسمُ منه "ذا"، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله ثلاثُ رتبٍ: دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو: ذا وذي وهذا وهذي، ووسطى ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو: ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ، وقصوى ولها/ المتصلُ باللام والكاف نحو: ذلك وتلك، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف، ويجوز دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول، وبعضُ النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين: دنيا وغيرَها.
(1/54)
---(1/54)
واختلف النحويون في ذا: هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين. ثم اختلفوا: هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ، والمبني لا يدخله تصريف.
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه، ومنه:
99- أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه * تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا
أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [أو لأنه كان موعوداً به نبيُّه عليه السلام، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ المحفوظِ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد، وإلاَّ فالمشارُ إليه لا يكون حاضراً ذهناً أو حساً، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً بالغائبِ اي حساً، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك].
والكتابُ في الأصل مصدرٌ، قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وقد يُراد به المكتوبُ، قال:
100- بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً * أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
ومثله:
101- تثؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها * كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ
وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع، ومنه كتيبةُ الجيش، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ: خَرَزْتُها، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ، قال:
102- وَفراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها * مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدابَّةَ: [إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر]، قال:
103- لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به * على قُلوصِك واكتبْها بأسْيارِ
والكتابةُ عُرْفاً: ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ.
والرَّيْبُ: الشكُّ مع تهمة، قال:
104- ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ * إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ
(1/55)
---(1/55)
وحقيقته على ما قال الزمخشري: قَلَقُ النفس واضطرابُها، ومنه الحديث: "دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال: "لا يُرِبْهُ أحد" فليس قول من قال: "الريبُ الشكُّ مطلقاً" بجيدٍ، بل هو أخصُّ من الشكِّ، كما تقدَّم.
وقال بعضهم: في الريب ثلاثةُ معانٍ، أحدُها: الشكُّ. قال ابن الزبعري:
105- ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ
وثانيها التهمةُ: قال جميل بثينة:
106- بُثَيْنَةُ قالت: يا جميلُ أَرَبْتَني * فقلت: كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ
وثالثها الحاجةُ، قال:
107- قََضيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ * وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا
وقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه "فيه" متقدماً عليه إذا قلنا: إنَّ خبرَ "لا" محذوف، وإنْ قلنا "فيه" خبرُها كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر "لا" تقديره: لا ريبَ فيه، فيه هدىً، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدًى، وأن يكونَ خبراً ثانياً لـ "ذلك"، على أن "الكتاب" صفة أو بدلٌ أو بيان، و "لا ريب" خبرٌ أول، وأن يكون خبراً ثالثاً لـ "ذلك"، على أن يكون الكتاب" خبراً أول و "لا ريبَ" خبراً ثانياً، وأن يكونَ منصوباً على الحال من "ذلك" أو من "الكتاب" والعاملُ "فيه"، على كلا التقديرين اسمُ الإشارةِ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في "فيه"، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم: إمَّا على المبالغة، كأنه نفس الهدى، أو على حذف كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ. وأجازوا أن يكونَ "فيه" صفةً لريب فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأن يكونَ متعلقاً بريب، وفيه إشكالٌ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً، واسمُ "لا" إذا كان مطولاً أُعرِب، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ عليه "ريبَ" لا لنفس "ريب".
(1/56)
---(1/56)
وقد تقدَّم معنى "الهدى" عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} و "هُدَى" مصدرٌ على فُعَل، قالوا: ولم يَجيءْ من هذا الوزن في المصادر إلا: سُرى وبُكى وهُدى، وقد جاء غيرُها، وهو: لَقِيْتُه لُقَى، قال:
108- وقد زعموا حِلْماً لُفقاك ولم أَزِدْ * بحمدِ الذي أَعْطَاك حَلْماً ولا عَقْلا
والهُدى فيه لغتان: التذكير، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه، وقال الفراء: "بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون: هذه هدىً".
و "في" معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: زيدٌ في الدار، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةَ نحو: {ادْخُلُواْ فِيا أُمَمٍ} والتعليلُ: "إنَّ امرأةً دخلتِ النارَ في هرة"، وموافقةُ "على": {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} والباء: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي بسببه، والمقايَسَةُ: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ
}. والهاء في "فيه" أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين، وقد قرأ حمزة: "لأهلهُ امكثوا" وحفص في "عاهد عليهُ الله"، "وما أنسانيهُ إلا" بلغةِ الحجاز، والمشهورُ فيها -إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو: فيه ومنه -الاختلاسُ، ويجوز الإشباعُ، وبه قرأ ابن كثير، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً.
(1/57)
---(1/57)
و "للمتقين" جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بـ "هُدَى". وقيل: صفةٌ لهدى، فبتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّه حينئذٍ: إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه، أي: هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين. والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها، فأ "ألم" جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و "ذلك الكتاب" جملةٌ، و "لا ريبَ" جملةٌ، و "فيه هدى" جملةٌ، وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصل لشدةِ الوَصْلِ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها ’I?E? E???????C E?????C? ?C ????? ??? C????? EC?????. ?C? C???IO?? ?C ???C?: ??? ??E: ???? ???? ?E?I???? C?U??? ??? C???E ??C ??I??? ??? "C?U????"?? ???? E?C?? {?C? ?????C U?????} ??E: ????? E?I??? C?U??? E???? ??O????? E???? U????C ?C ?????? ???C? ?C?????: ??? ???C U????? ??C ?? I???? C?I??C? ???? ??I??? C?U??? ??C ??????? ??C C?????? ??? ???? U???? ?? C??EE? C???C??E? ??? ??E??? ???? ??? ????IC?? ?????? ??C C?C?? ???? ?E? C??C?? ???? I??E C?AI?E CIE???E? E??? C?U????? ???C EI?C?? U????C? ?????C???E? ??? ??C??.
وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ، قال علقمة:
109- تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها * وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ
وما أبعد هذا من الردِّ عليه، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ.
(1/58)
---(1/58)
فإن قيل: قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن، وقولُه تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ينفي ذلكَ. فالجوابُ من ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ المنفيَّ كونُه متعلقاً للريبِ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ، لأنه لم ينظرْ حقَّ النظرِ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به. والثاني: أنه مخصوصٌ، والمعنى: لا ريبَ فيه عند المؤمنين، والثالث: أنه خبرٌ معناه النهيُ، أي لا تَرْتابوا فيه. والأول أحسنُ.
و "المتقين" جمعُ مُتَّقٍ، وأصلُهُ مُتَّقِييْن بياءين، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِف إحداهما، وهي الأولى، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقي وهو مُفْتَعِل من الوقاية، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تارً نحو: اتَّعَدَ من الوَعْد، واتَّسَرَ من اليُسْر، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ، قالوا: اتَّزؤ واتَّكل من الإزار والأكل.
ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً: الاتخاذ نحو: اتَّقى، والتَّسَبُّب نحو: اعْتَمَلَ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو: اضطرب، والتخيُّر نحو: انتخب، والخطف نحو: استَلَبَ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو: انْتصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو: اسْتَلَبَ، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو: انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَل نحو: عَمَّمْتُه فاعتمَّ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو: اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ، وموافقةُ المجرد نحو: اقتَدَرَ بمعنى قَدَر، والإغناءُ عنه نحو: استلم الحجرَ، ل يُلفظ له بمجردٍ.
(1/59)
---(1/59)
والوِقايةُ: فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه، ومنه: فرسٌ واقٍ إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه. وقيل: هي في أصل اللغة قلةُ الكلام، وفي الحديث: "التقيُّ مُلْجَمٌ". ومن الصيانة قوله:
110- سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه * فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَت باليَدِ
وقال آخر:
111- فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ * بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومَعْصَمِ
* { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }
* {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}
: "الذين" يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ، والظاهرُ الجرُّ، وهو من ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه نعتٌ للمتقين، والثاني: بدلٌ، والثالث: عطفُ بيان، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع، وقد تقدَّم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: أولئك الأولى، والثاني: أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ. وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه: "والذين يؤمنون" يمنع كونَ "أولئك" الأولى خبراً، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ "أولئك" الثانية خبراً أيضاً، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه. والنصبُ على القطع، و "يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ، وهو مضارعٌ، علامةُ رفعهِ النونُ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ. والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كلفعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ، نحو: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين. والمضارعُ معربٌ أبداً، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب.
(1/60)
---(1/60)
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي، فالهمزة في "أمِنَ" للصيرورة نحو: أَعْشَبَ المكانُ أي: صار ذا عشبٍ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو: كَبَّ فَأَكَبَّ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف، وقد يتعدَّة باللام كقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى} إلا انَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين.
وأصلُ "يُؤْمَنون": يُؤَأْمِنُون بهمزتين، الأولى: همزةُ أَفْعَل، والثانيةُ: فاء الكلمةِ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو: أنا أُكرم. الأصل: أُأَكْرِمُ بهمزتين، الأولى: للمضارَعةِ، والثانيةُ: هَمزَةُ أَفْعل، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أَوْلَى بالمحافظةِ عليه، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله:
112- فإنَّه أَهْلٌ لإِنْ يُؤَكْرَما * ........................
(1/61)
---(1/61)
و "بالغيب]" متعلِّق بيؤمنون، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ. وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ. وقال الزمخشري: "يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعَل نحو: هَيْن من هيِّنٍ، ومَيْت من مَيِّت"، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً، ويَبْعد أن يقالَ: التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً. ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي: يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ، والغيبُ خينئذٍ مصدرٌ على بابه.
وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبَدَّلَ حرفاً/ مجانساً نحو: راس وبير ويُؤمن، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن.
و "يُقيمون" عطفٌ على "يُؤمنون" فهو صلةٌ وعائدٌ. وأصلُه يُؤَقْوِمَونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في "مستقيم"، وقد تقدَّم في الفاتحة. ومعنى يُقيمون: يُدِيمون أو يُظْهِرون، قال الشاعر:
113- أَقَمْنَا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ الـ * ـطِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً
وقال آخر:
114- وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا * حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ
(1/62)
---(1/62)
و "الصلاةَ" مفعول به ووزنُها: فَعَلَة، ولامها واو لقولهم: صَلَوات، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما: عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق. والصلاةُ لغةً: الدعاءُ، قال:
115- تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا * يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي * يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا
أي: مثلُ الذي دَعَوْتِ، ومثلُه:
116- لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها * وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما
وفي الشرع: هذه العبادةُ المعروفة، وقيل: هي مأخوذةٌ من اللزوم، ومنه: "صَلِيَ بالنار" أي لَزمَها، [قال]:
117- لم أكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللـ * ـهُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي
وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنمار أي قوَّمْتُه بالصَّلاء وهو حَرُّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه، قال:
118- فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ * فما صَلَّى عَصاكَ كمُسْتديمِ
ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء.
(1/63)
---(1/63)
و {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} جارٌّ ومجرور متعلِّق بـ"يُنْفِقون"، و "ينفقون" معطوفٌ على الصلة قبله، و "ما" المجرورةُ تجتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُهما: أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي، ورزقناهم صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، قال أبو البقاء: "تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه"، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة، وهو واجبُ الانفصال، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه، نصُّوا عليه، وعَلَّوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ. ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه، ويكون كقوله:
119- وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ * لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها
وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي. وعن الثاني بأنه غنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا. الثاني: يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثالث: أن تكونَ مصدريةً، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي: مرزوقاً، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال: "لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفِقُ" من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ.
والرزقُ لغةً: العطاءُ، وهو مصدرٌ، قال تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} وقال الشاعر:
120- رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه * إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا
(1/64)
---(1/64)
وقيل: يجوز أن يكونَ "فِعلاً" بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْع ورِعْي، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ. وقيل: الرزق بالفتح مصدرٌ، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وسيأتي في موضعه]، ونفق الشيء نَفِد، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت، قال الزمخشري، وهو كما قال نحو: نَفِد نَفَق نَفَر نَفَس نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ: ماتَتْ نُفوقاً: والنفقَةُ: اسمُ المُنْفَق.
و "مِنْ" هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أُخر: بيانُ الجنس: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} والتعليل: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ} والبدلُ: {بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} والمجاوزةُ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} والفصلُ: {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وموافقةُ الباءِ وفي: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ} والزيادةُ باطِّراد، وذلك بشرطين: كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرض موجَبٍ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً.
والهمزةُ في "أَنْفَقَ" للتعدية، وحُذِفَتْ من "ينفقون" لِما تقدَّم في "يؤمنون".
* { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}: الذين عطفٌ على "الذين" قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله:
121- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ * وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله:
(1/65)
---(1/65)
122- يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ أل * صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ
يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ.
والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ "الذين" المتقدمة من الإعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على "المتقين"، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه "أولئك" وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ "الذين" الأولى، و "يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ.
و "بما أُنْزِلَ" متعلِّقٌ به و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، و "أُنْزِلَ" ثلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: "لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإيمانُ إلاب بجميعِ ما أُنزل".
و "إليك" متعلِّقٌ بـ "أُنزل"، ومعنى "إلى" انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ: {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} والتبيينُ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} وموافقة اللام وفي ومِنْ: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} أي لك: وقال النابغة:
123- فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني * إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ
أي في الناس، وقال الآخر:
124- .......................... * أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا
أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: "تَهْوَى إليهم" بفتح الواو.
والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والخلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي حلَّ ووَصَل، و "ما" الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على "ما" الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على "ما" التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ.
(1/66)
---(1/66)
و "مِنْ قبلِك" متعلِّقٌ بـ "أُنْزِلَ"، و "مِنْ" لابتداء الغاية، و "قيل" ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ "بعد"، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإضافة لفظا/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإعرابِ قولُه:
125- فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً * أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وقال آخر:
126- ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ * فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْراً
ومن البناء قولُه تعالى: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وزعم بعضُهم أن "قبل" في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: "قمتُ قبلَ زيد" فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه "قبل زيد" وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله.
واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: "بما أَنْزَلَ إليك
مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله:
127- إنما شِعْريَ مِلْحٌ * قد خُلْط بجُلْجُلانْ
بتسكين "خُلْط" ثمّ حَذَف همزةَ "إليك"، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ.
و "بالآخرةِ" متعلِّقٌ بيوقنون، و "يُوقنون" خبرٌ عن "هم" وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لأن وصفهم بالإيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون.
(1/67)
---(1/67)
والإيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل.
والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ} وقال: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياءِ على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط: منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها، وألاّ تكونَ زائدةً، على خلافٍ في هذا الأخير، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ} فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لما ذكرت ذلك، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل "بالسُّؤْقِ"، و "على سُؤْقِه"، وقال الشاعر:
128- اَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى * وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ
بهمز "المُؤْقِدينَ". وجاء بالأفعال ِ الخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك. وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل، فهو من باب قولهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ.
* { أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(1/68)
---(1/68)
قوله تعالى: {أُوْلَائِكَ}: مبتدأٌ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى، وهذه الجملة: إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} إمَّا الأولى وإمَّا الثانية، ويجوز أن يكون "أولئك" وحدَه خبراً عن {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية، ويكون "على هدى" في هذا الوجهِ في محلِّ نصب على الحالِ، هذا كلُّه إذا أعربنا {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمَّا تقدم. ويجوز أن يكونَ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، و "أولئك" بدلٌ أو بيانٌ، و "على هدى" الخبرُ، و "مِنْ ربهم" في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى، ومِنْ لابتداء الغاية. ونَكَّر "هُدَى" ليفيدَ إبهامه التعظيم كقوله:
129- فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى * على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ
ورُوَيَ "مِنْ ربهم" بغير غُنَّة وهو المشهورُ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو.
و"أولئك": اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإناث، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار، وفيه لغتان: المدُّ والقَصْر، ولكنَّ الممدود للبعيد، وقد يقال: أولا لِك، قال:
130- أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً * وهل يَعِظُ الضَّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا
وعند بعضهم: المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد، وفيه لغاتٌ كثيرة. "أولئك" بزيادةِ واو قبل اللام، قيل للفرقِ بينها وبين "إليك".
(1/69)
---(1/69)
{وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: "أولئك" مبتدأ و "هم" مبتدأ ثانٍ، و "المفلحون" خبره، والجملةُ خبر الأول، ويجوز أن يكونَ "هم" فصلاً أو بدلاً، والمفلحون: الخبر. ويفيدُ أيضاً التوكيدَ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون "أولئك" الأولى أو الثانية خبراً عن "الذين يؤمنون"، وقد تقدَّم تضعيفُ هذين القولين. وكَرَّرَ "أولئك" تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها.
وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله: {أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى: {أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبرَيْن فيها شيءٌ واحدٌ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بمَعْزَل، قال الزمخشري: "وفي اسم الإشارة الذي هو "أولئك" إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابهِ من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم، كقول حاتم: "وللهِ صعلوكٌ"، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله:
131- فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه * وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً
والفلاحُ أصله الشَّقُّ، ومنه قوله: "إن الحديد بالحديد يفلح" ومنه قول بكر بن النطاح:
132- لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها * إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح
ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَ وهو مقصودُ الآيةِ، ويُراد به البَقاءُ، قال:
133- لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ * أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقال آخر:
134- نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا * ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ(1/70)
(1/70)
---
وقال:
135- لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ * والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه
وقال آخر:
136- أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بالـ * ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب
* { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}: الآية، "إنَّ" حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ، لكن النواسخَ غالباً، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها. ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ.
و {الَّذِينَ كَفَرُواْ} اسمُها، و "كفروا" صلةٌ وعائدٌ و "لا يؤمنون" خبرُها، وما بينهما اعتراضٌ، و "سواءٌ" مبتدأ، و "أأنذرتهم" وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ، والتقدير: سواءٌ عليهم الإنذارُ وعدمهُ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابد لأن الجملة نفسُ المبتدأ. ويجوز أن يكون سواءٌ" خبراً مقدماً، و "أنذرتهم" بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه: الإنذارُ وعدمُه سواءٌ. وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو "لا يؤمنون" في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإيمانِ وهو بعيدٌ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك، ويجوز أن يكونَ "سواءٌ" وحده خبرَ إنَّ، و "أأنذرتُهَم" وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له: والتقديرُ: استوى عندهم الإنذارُ وعدمُه، و "لا يؤمنون" على ما تقدَّم من الأوجه، أعني الحالَ والاستئناف، والدعاءَ والخبريةَ.(1/71)
والهمزةُ في "أأنذرتَهُمْ" الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ، إذ المرادُ التسويةُ، و "أأنْذَرْتَهم" فعل وفاعل ومفعول.
(1/71)
---
و "أم" هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً، ولكونها متصلةٌ شرطان، أحدُهما: أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً، والثاني: أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا بـ "لا". فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيَتْ منقطعةً ومنفصلةً. وتُقَدَّر بـ بل والهمزةِ، وجوابُها نعمخ أوْلا، ولها أحكامٌ أُخَرْ.
و"لم" حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى، أم المعنى دونَ اللفظ؟ قولان أظهرُهما الثاني، وقد يُحْذَفُ مجزومُها.
والكَفْر: السِّتْر، ومنه سُمِّي الليل كافراً، قال:
137- فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ * وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ
وقال آخر:
138- ....................... * أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر
وقال آخر:
139- ...................... * في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها
و "سواء" اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي، فيتحمَّل حينئذ ضميراً، ويَرْفع الظاهرَ، ومنه قولُهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ" برفع "العَدَم" على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في "سواء"، وشذَّ عدمُ الفصل، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع: إمَّا بكونِه في الأصل مصدراً، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو "سِيّ" بمعنى مِثْلَ، تقول: "هما سِيَّان" أي مَثْلان، قال:(1/72)
140- مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها * والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
على أنه قد حُكي "سواءان" وقال الشاعر:
(1/72)
---
141- وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته * سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُودُها
فسواءٌ خبر عن جمع وهو "صحيحات". وأصله العَدْل. قال زهير:
142- أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها * يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
أي: يَعْدِل بيننا العَدْلُ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك: قاموا سَواءَ زيد، وإنْ شاركه لفظاً. ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في "سواء" المستثنى به، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في "سواء" الذي بمعنى الاستواء. وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوااْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعد كقولِ علقمة:
143- سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه * أساعَة نَحْسٍ تُتَّقة أم بأَسْعَدِ
فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه، وقد يُعَرَّى عنالاستفهام وهو الأصلُ نحو:
144- ....................... * سواءٌ صححياتُ العيون وعُورُها
والإنذار: التخويفُ. وقال بعضهم: هو الإبلاغ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال:
145- أنذَرْتَ عَمْرَاً وهو في مَهَل * قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو
ويتعدَّى لاثنين، قال تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً} {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه: أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره.
(1/73)
---(1/73)
والهمزةُ في "أَنْذَرَ" للتعدية، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ، فقال ابن عطية: "لفطهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ، وإنما جَرَى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً: "سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ"، وإذا قلتَ مستفهماً: "أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ"؟ فقد استوى الأمران عندكَ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإبهام، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً" وهو كلامٌ حسنٌ. إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله: "أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر" بما معناه: أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ.
ورُوِيَ الوقفُ على قولِه "أم لم تُنذِرْهم" والابتداء بقوله: "لا يؤمنون" على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في "الوقف والابتداء" له.
وقرئ "أَأَنْذَرْتَهُمْ" بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً، ومنه:
146- أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ * وبين النقا آأنتِ أَمْ أمِّ سالمِ
وقال آخر:
147- تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ * فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ
(1/74)
---(1/74)
وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ، قال: "لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ" وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة توتراً، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر.
* { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }
قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} .. الآية {عَلَى قُلُوبِهمْ}: متعلّق بخَتَم، و "على سمعهم" يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه، و"غِشَاوة" مبتدأ، وجاز بالابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآيةُ من هذا القبيل، وهذا بخلافِ قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف عنده" لأن في تلك الآية مُسوَِّغاً آخر وَهو الوصفُ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على "سمعهم" ويُبتدأ بما بعده وهو "وعلى أبصارهم غشاوةٌ" فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على "قلوبهم"، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو "على" ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ. وقد فرَّق النحويون بين: "مررت بزيد وعمرو" وبين: "مررت بزيد وبعمرو" فقالوا: في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران، وهو يؤيِّد ما قلته، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإعرابين، اعني جَعْلَ "وعلى سَمْعِهم" معطوفاً على قوله "على قلوبهم" وجضعْلَه خبراً(1/75)
(1/75)
---
مقدماً، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرث الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمَين.
وقُرئ: "غِشاوةً" نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، الأولُ: على إضمار فعلٍ لائق، أي: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} والثاني: الانتصابُ على إِسقاط حرف الجر، ويكون "وعلى أبصارهم" معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله:
148- تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا * كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
أي تمرون بالديارِ، ولكنه غيرُ مقيسٍ. والثالث: أن يكونَ "غِشاوةً" اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى، لأنَّ الخَتْمَ والتنَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر، فكأنه قيل: "وخَتَم تغشيةً" على سبيل التأكيد، فهو من باب "قَعَدْتُ جلوساً" وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً.
وقال الفارسي: "قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ: إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه "خَتَم" تقديره: وجضعَلَ على أبصارهم غشاوةً، فيجيء الكلامُ من باب:
149- يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا * متقلدِّاً سيفاً ورُمْحا
وقوله:
150- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً * حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها
(1/76)
---(1/76)
ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار". واستشكل بعضهم هذه العبارةَ، وقال: "لا أَدْري ما معنى قوله: "لأن النصبَ إمَّا ان تحمله على خَتَم الظاهر"، وكيف تَحْمِل "غشاوةً" المنصوبَ على "ختم" الذي هو فعل وهذا ما لا حَمْلَ فيه؟". ثم قال: "اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} دعاءٌ عليهم لا خبرٌ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ لا خبرٌ، فكأنه قيل: وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على "خَتَم" عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء، نحو: "رَحِمَ الله زيداً وسقياً له"، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين "غشاوة" المعطوفِ وبين "ختم" المعطوفِ عليه بالجار والمجرور" انتهى، وهو تأويلٌ جسنٌ، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفَ، فتحرير التأويلِ أنْ يقال: فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور.
وقُرئ "غشاوة" بفتح العين وضَمِّها، و "عشاوة" بالمهملة. وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة.
والخَتْمُ لغةً: الوَسْمُ بطابع وغيره و "القلبُ" أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها، ولهذا قال:
151- ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه * فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه، وكثيراً ما يراد به العقلُ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه.
والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِه، وقد يستعمل بمعنى الاستماع، قال:
(1/77)
---(1/77)
152- وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ * بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ
أي في استماعه، والسَّمْع -بالكسر- الذِّكْرُ الجميل، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب من الضبُعِ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ حقيقةً، ولأنه على حذفِ مضافٍ، أي مواضعِ سَمْعِهم، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله:
153- كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا * فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي: بطونكم، وَمثلُه:
154- لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها * فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي: جلودها، ومثله:
155- لا تُنْكِروت القَتْلَ وقد سُبينا * في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا
وقُرِئَ شاذاً "على أسماعِهم" وهي تؤيِّد هذا.
والأبْصار: جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ، قالوا: وليس بمصدرلجَمْعِه، ولقائلٍ أن يقولَ: جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم.
والغِشاوى الغِطَاءُ، قال:
156- تَبِعْتُك إذ عَيْني عيها غِشاوةٌ * فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعَتُ نفسي أَلومُها
وقال:
157- هَلاَّ سألْتِ بني ذُبِيان ما حَسْبي * إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا
(1/78)
---(1/78)
وجَمْعُها غِشَاءٌ، لمَّا حُذِفَتِ العاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ، وقيل: غَشَاوى مثل أَداوى، قال الفارسي: "ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو، وإذا لم يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يَغْشَى بدليلِ قولِهم: الغِشْيان، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ من الياء، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة" انتهى. وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون مادة الواو، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين: غ ش و، و غ ش ي، ثم تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى، وهذا أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل؟
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}: "لهم" خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و "عذابٌ" مبتدأ مؤخر، و "عظيمٌ" صفته، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه، فهو نظير: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} من حيث الجوازُ.
والعَذابُ في الأصل: الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ، وقيل: أصلُه المنعُ، وهذا هو الظاهرُ، ومنه قيل للماء: عَذْب، لأنه يمنع العطشَ، والعذابُ يمنع من الجريمة. و "عظيمٌ" اسمُ فاعلٍ من عَظُم، نجو: كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ، ثم قد توصفُ به المعاني، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان.
(1/79)
---(1/79)
وفعيل له معانٍ كثيرةٌ، يكون اسماً وصفةً، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ، والمفردُ اسمُ معنى واسمُ عينٍ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب، والصفةُ مفردُ فُعْلَة كعَرِيّ يجمع على عُرَاة، ومفرد فَعَلة كَسِيٍّ يُجْمَعُ على سَراة، ويكون اسمَ فاعل من فَعُل نحو: عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم، ومبالغةً في فاعِل نحو: عليم من عالم، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح، ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد، ومُفاعِل كجليس بمعنى مُجالِس، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى مُتَسَعِّر، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب، وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح، وبمعنى الفاعلِ والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط، وجمع فاعِل كغريب جمع غارِب.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }
(1/80)
---(1/80)
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ}.. الآية {مِنَ النَّاسِ} خبر مقدم و "من يقول" مبتدأ مؤخر، و "مَنْ" تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي: الذي يقول أو فريقٌ يقول: فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً، قال: لأن "الذي" يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام" انتهى. وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه. وقال الأستاذ الزمخشري: "إن كانَتْ أل للجنس كانت "مَنْ" نكرةً موصوفة كقوله: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ} وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً"، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ "مَنْ" موصولةً، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/. وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ، كقوله:
158- رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه * قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر: إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة، قال:
159- فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا * ............................
و "مَنْ" تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة:
160- يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له * حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ
ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص: إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف.
(1/81)
---(1/81)
و "مِنْ" في "مِنَ الناس" للتبعيض، وقد قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و "الناس" اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ "أناسِيٌّ" جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل: أناس اشتقاقاً من الأنس، قال:
161- وما سُمِّي الإنسانُ إلا لأُِنْسِه * ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ
لأنه أَنِس بحواء، وقيل: بل أَنس بربه، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً، يدلُّ على ذلك قوله:
162- إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ * ـنَ على الأُناس الآمنينا
وقال آخر:
163- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ * ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ
وقال آخر:
164- وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم * دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، والنَّوْس والحركةُ. وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وسين وياء، والأصل: نَسِي، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قُلبت الياء ألفاً في نوس، قال: سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإنسان لنسيانه، قال:
165- فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً * فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس
ومثله:
166- لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما * سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي
فوزنُه على القول الأول: عال، وعلى الثاني، فَعَل، وعلى الثالث: فَلَع بالقلب.
(1/82)
---(1/82)
و "يقول": فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على "مَنْ"، والقولُ حقيقةً: اللفظُ الموضوعُ لمعنىً، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِيا أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ. والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو: "قُلْتُ خطبةً"، وتُحْكى بعده الجملُ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو، كقوله:
167- متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما * يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما
وبغير شرط عندهم كقوله:
168- قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً * هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا
و "آمَنَّا": فعلٌ وفاعلٌ، و "بالله" متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ نصب بالقول، وكُرِّرَت الباءُ في قوله "وباليومِ" للمعنى المتقدِّم في قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} وقد سأل سائل فقال: الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من الناس لا من غيرهم. واُجيب عن ذلك: بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ المؤمنين، ثم ذِكْرُ الكافرين، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين، فصار نَظيرَ التفصيلِ اللفظي، نحو قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ} {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي} فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ: إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك. وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ: وبعضُ الناسِ كَيْتَ وكَيْتَ.
(1/83)
---(1/83)
واعلم أن "مَنْ" وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى، فتقول: "جاء مَنْ قام وقعدوا" والآيةُ الكريمة كذلك، روعي اللفظُ أولاً فقيل: "مَنْ يقول"، والمعنى ثانياً في "آمَنَّا"، وقال ابن عطية: "حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ، لو قلت: ومن الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز". وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ، وذلك لأنه منع مراعاة [اللفظ بعد مراعاة] المعنى، وذلك جائزٌ، إلا أنَّ مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر:
169- لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو * ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي
وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ} إلى أن قال: "خالدين" فراعى المعنى، ثم قال: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله: "أو يَستكينون" ثم راعى اللفظَ في إذا كافحته". وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ امَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ: "ليس في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى" يعني تقول: مررت بمَنْ محسنون لك.
و "الآخِر" صفةٌ لليوم، وهو مقابِلُ الأولِ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة.
و {مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ما نافية، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ "هم" اسمَها، وبمؤمنين خبرَها، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ، فلا تعملَ شيئاً، فيكونُ "هم" مبتدأ و "بمؤمنين" الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ لا تُزاد في خبر "ما" إلا إذا كانَتْ عاملةَ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق، وهو تميمي:
(1/84)
---(1/84)
170- لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه * ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
إلا أنَّ المختارَ في "ما" أن تكونَ حجازِيةً، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح بالنصب قال الله تعالى: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} {مَا هَاذَا بَشَراً} وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها، حتى زعم بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآنإلا في قول الشاعر:
171- وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ * تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها
أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ * حَنِقُوا الصدورِ وما هُمُ أولادَها
وأتى بالضمير في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} جمعاً اعتباراً بمعنى "مَنْ" كما تقدم في قوله "آمنَّا" فإنْ قيل: لِمَ أتى بخبر "ما" اسمَ فاعل غيرَ مقيَّدٍ بزمانٍ ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم "آمنَّا" فيقال: وما آمنوا؟ فالجوابُ: أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإيمانَ منتفٍ عنهم في جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم "آمنَّا" فقال: وما آمنوا لكان يكونُ نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط، والمرادُ النفيُ مطلقاً، أي: إنهم ليسوا متلبسيت بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات.
* { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر، وهو: ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يُخادعون اللهَ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً لـ "مَنْ" وهي "يقولُ"، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله:
172- إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا * تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا
وقول الآخر:
173- متى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في ديارنا * تَجِدْ حَطَباً جَزلاً وناراً تَأجَّجَا
(1/85)
---(1/85)
فـ "تُؤْخَذَ" بدلُ اشتمالٍ من "تُبايع" وكذا "تُلْمم" بدلٌ من "تأتِنا"، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الأعراب. والجملُ التي لا محلَّ لها من الإعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي: المبتدأ والصلة المعترضة والمفسِّرة، وإن تَوَهَّمَ بعضُهم ذلك- وهي: المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة وسيأتي تفصيلُها في مواضعها. ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في "يقول" تقديرُه: ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "بمؤمنين" والعاملُ فيها اسمُ الفاعل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما معناه: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ: ما زيدٌ أقبل ضاحكاً، قال: "وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان، أحدُهما: نفيُ القيدِ وإثباتُ أصلِ الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى أنَّ الإقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية، أعني نفيَ الخِداع، وثبوتَ الإيمان. الطريقُ الثاني: أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق: لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً، أعني نفيَ الإيمان والخداعِ معاً، بل المعنى على نفي الإيمان وثبوتِ الخداع، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في "بمؤمنين". والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟ قال: "لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم، والمعنى على إثباتِ الخداعِ"، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير "مؤمنين" ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا.
والخِداعُ أصلُه الإخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستنبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر:
(1/86)
---(1/86)
174- أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ * طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ
أي: فَسَد. والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء، ومثله: الخَدِيعة. ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ. وقال أبو القاسم الزمخشري/: "إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ، والمعنى: يُخادِعون الذين آمنوا، ويكون من باب "أعجبني زيدٌ وكرمُه". المعنى: أعجني كرمُ زيد، وإنما ذُكر "زيدٌ" توطئةً لذِكْر كرمه" وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذا منه غيرُ مُرْضٍ، لأنه إذا صَحَّ مسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المقتدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى، وأمَّا "أعجبني زيدٌ وكرمُه" فإنَّ الإعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى: {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
}. وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ: المشاركةُ المعنويةُ نحو: "ضاربَ زيدٌ عمراً" وموافقةُ المجرد نحو: "جاوَزْتُ زيداً" اي جُزْتُه، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو: "باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته"، والإغناءُ عن أَفْعل نحو: "وارَيْتُ الشيءَ"، وعن المجردِ نحو: سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ. أمَّا أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم احكامض المسلمين في الدنيا، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة: "يَخْدَعون".
(1/87)
---(1/87)
وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان: "وما يُخَادِعون" كالأولى، والباقون: وما يَخْدعون، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد، اي كيون فاعَلَ بمعنى فَعَل، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها، أعين صدورَها من اثنين، فهم يُخادعون أنفسَهم، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر:
175- لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها * عُمْرَكَ ما عِشْ آخرَ الأبدِ
ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً * فيها وفي أختها لم تَكَدِ
وقال آخرُ:
176- يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ * أَيَسْتَوقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها
وقوله "إلا أنفسَهم": "إلا" في الأصل حَرف استثناء،ِ وأنفسَهم مفعول به، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ "إلا" لِما بعدها، ألا ترى أن "يُخادعون" يَفْتَقِرُإلى مفعولٍ، ومثلُه: "ما قام إلا زيدٌ" فقام يفتقر إلى فاعل،ٍ والتامُّ بخلافِه، أي: ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ "إلاَّ" لِما بعدها، نحو: قام القومُ إلا زيداً، وضرْبتُ القوم إلا بكراً، فقام قد أخذ فاعلَه، وضرْبتُ أخذ مفعولَه، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي. وأمَّا قولُهم: "قرأتُ إلا يومَ كذا" فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره: ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا، ومثلُه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} والاستثناء أحكامٌ كثيرة مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقُرئ: "وما يُخْدَعون" مبنياً للمفعول، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ:
177- تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا * .............................
(1/88)
---(1/88)
و "يُخَدِّعون"، مِنْ خَدَّعَ مشدداًـ و "يَخَدَّعون" بفتح الياء والتشديد والصل: يَخْتَدِعون فأدغم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} هذه الجملةُ الفعليةُ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإعراب، لأنها استئنافٌ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل "يَخْدعون"، والمعنى: وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك. ومفعولُ "يَشْعُرون" محذوفٌ للعلم به، تقديرُه: وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم، أو اطَِّلاعِ اللهِ عليهَم، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ، والثاني يُسَمَّى حذفض الاقتصار، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ.
والشعورُ: إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفَى، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته، وقيل: هوالإدراك بالحاسَّة مستقٌّ من الشِّعار، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ، ومنه مشاعرُ الإنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها.
* { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
قولُه تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}: الآية. الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ "مَرَض"، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض. والمرضُ: الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وانشدوا:
178- في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ * فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ
أي لظلمتها، ويجوزُ أن يكونَ اراد بمَرِضَتْ فَسَدت، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ.
(1/89)
---(1/89)
وقوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}: هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسِبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و "زاد" يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهماا اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} "وزدتُ زيداً ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه "وألفُ "زاد" منقلبةٌ عن ياء لقولهم: يزيدُ.
{وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} نظير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله:
179- ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ * يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ
ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء، وأَفْعال مثل: شريف وأَشْراف، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً، لأن الألم بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب، فهو نظيرُ قولهم: شِعْرٌ شاعِرٌ.
و {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في "لهم" أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و "ما" يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ لـ "كان" مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر:
180- بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى * وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ
(1/90)
---(1/90)
فقد صرَّح بالكون. ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [الخبر] بعدها، وهو: "إياه"، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه. وعلى القول لأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها، لا تقول: "كان زيد قائماً كوناً"، قالوا: لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على "ما" لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماًز ويجوز أن تكونَ "ما" بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذِّبونه، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ. وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ، قال: "لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على "الذي" لا على المصدرِ" وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة، حتى يلزمَ جَعْلُ "ما" اسميةً، بل مَنْ قرأ "يَكْذِبون" مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي: بما كانُوا يُكَذِّبن الرسولَ والقرآنَ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف. وقرأ الكوفيوم: "يَكْذِبون" بالفتح والتخفيفِ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ.
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد، وله معانٍ كثيرة" الرَّمْيُ بكذا، ومنه الآيةُ الكريمةُ، والتعديةُ نحو: فَرَّحْتُ زيداً، والتكثير نحو: قَطَّعْتُ الأثواب، والجَعْلُ على صفة نحو: فطَّرْتُه أي: جعلته مُقَطَّراً، ومنه:
181- قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها * مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا
(1/91)
---(1/91)
والتسميةُ نحو: فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً، والدعاءُ له نحو: سَقَّيْتُه أي: قلت له: سَقاك الله، أو الدعاءُ عليه نحو: عَقَّرْته، أي: قلت له: عَقْراً لك، والإقامة على شيء نحو: مَرَّضْتُه، والإزالة نحو: قَذَّيْتُ عينَه أي أزلْتُ قَذاها، والتوجُّه نحو: شَرَّق وغَرَّب، أي: تَوَجَّه نحو الشرق والغرب، واختصارُ الحكاية نحو: أَمَّن قال: آمين، وموافقة تَفَعَّل وفَعَل مخففَّاً نحو: ولَّى بمعنى تَوَلَّى، وقَدَّر بمعنى قَدَر، والإغناء عن تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو: حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ، قالوا: "مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر" وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً، وإن لم يُلْفَظْ به.
و "الكذب" اختلف الناسُ فيه، فقائلٌ: هو الإخبار عنو الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليهِ ف الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا. وقيل: الإخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا، والصدقُ نقيضُه، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُوااْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} الآية. "إذا" ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق او المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشّرط، فإنها للأمر المحتمل، ومن الجزم قولُه:
182- تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي * ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ
وقال آخر:
183- واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى * تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ
وقول الآخر:
184- إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها * خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ
فقوله: "فَنُضَارِبِ" مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه "كان وصلُها". وقال الفرزدق:
(1/92)
---(1/92)
185- فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ * وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ
وقد تكونُ للزمنِ الماضي كـ "إذ" كما قد تكون إذْ للمستقبل كـ "إذا" وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ، وهل تتصرَّف أم لا؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} بنصب {خَافِضَةً رَّافِعَةً}، فَجَعَلَ "إذا" الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها، التقديرُ: وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض، وبقوله: {حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ} فجعلَ "حتى" حرفَ جر و "إذا" مجرورةً بها، وسياتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه. ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش.
وقولُه تعالى: "قيل" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً، وهذه أفصحُ اللغاتِ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإشمامُ، والإشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم، نحو: قُولَ وبُوعَ، قال الشاعر:
186- ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ * ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ
وقال آخر:
187- حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ * تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ
وقال الأخفش: "ويجوزُ "قُيْل" بضم القافِ والياءُ" يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً. وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها، فتقول: اختير بالكسرِ والإشمامِ واختثور، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ، وأنشدوا:
(1/93)
---(1/93)
188- وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا * ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ
بكسر حاء "حِلَّ" وقرئ: "ولو رِدُّوا" بكسر الراء، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو: ضُرِب أو تقديراً نحو: قِيلَ واخْتِير، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو: يُقال ويُختار، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ، ويُختار، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ تُدُحْرج الحجرُ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو: انطُلِق بزيدٍ.
واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبَسَ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس، هكذا قال بعضُهم، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك، وأشمَّ الكسائي: قيل: وغيض وجيء وحيل بينهم، وسيق الذين، وسيء بهم، وسيئت وجوهُ، وافقه هشام في الجميع، وابنُ ذكوان في "حيل" وما بعدها، ونافع في "سيئ" و "سيئَتْ" والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع. والإشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في "يوسف" إن شاء الله تعالى عند {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} فإنه أليقُ به.
(1/94)
---(1/94)
و "لهم" جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل، واللامُ للتبليغ، و "لا" حرفُ نهي تَجْزشمُ فعلاً واحداً، "تُفْسِدوا" مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ، و "في الأرضِ" متعلّقٌ به، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قول "لا تُفْسِدواط لأنه هو المقولُ في المعنى، واختاره أبو القاسم الزمخشري، والتقديرُ: وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ، فهو من باب الإسنادِ اللفظي. وقيل: القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه: وإذا قيل لهم [قولٌ] هو، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} والمعنى: "وإذا قيل لهم قولٌ سديدٌ" فَأُضْمِر هذا القولُ الموَصوفُ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإعراب، قال: "فإذا أَمْكَنَ الإسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم" وهذا القولُ واُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره، ولا يجوزُ أن يكونَ "لا تُفْسِدوا" قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل". انتهى. وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظُ، ولا يجوزُ أن يكونَ "لهم" قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفش، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه. وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه: "لا تُفْسدوا" في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ بعه. والجملةُ من قوله: "قيل" ومافي حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه. والعاملُ في "إذا" جوابُها عند الجمهور وهو "قالوا"، والتقدير: قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا، وقال بعضهم: "والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإضافةِ لأنها أداةُ شرط، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها، فكما أنك إذا قلتَ: "متى(1/95)
(1/95)
---
تقمْ أقمْ" كان "متى" منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك "إذا". قال هذا القائل: "والذي يُفْسد مذهبض الجمهور جوازُ قولِك: "إذا قمت فعمورٌ قائمٌ"، ووقوعُ "إذا" الفجائية جواباً لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما. وهو اعتراضٌ ظاهر.
وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} "إنَّ" حرفٌ مكفوفٌ بـ "ما" الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن "إنما" مركبة من "إنَّ" التي للإثبات و "ما" التي للنفي، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ. واعلم أنَّ "إنَّ" وأخواتِها إذا ولِيَتْها "ما" الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسمائ كما مرَّ، إلا "ليت" فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قولَ النابغة:
189- قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا * إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ
برفع "الحمام" ونصبه، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل "ما" موصولةً بمعنى الذي، كالتي في قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} و "هذا" خبرُ مبتدأ محذوف هوالعائدُ، و "الحَمام"، نعتٌ لـ "هذا" و "لنا" خبر لليت، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ، والتقدير: ألا ليت الذي هو الحمامُ كائنٌ لنا، وهذا أوْلَى من أن يُدَّعَى إهمالُها، لأن المقتضَى للإعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ. وزعم بعضُهم ان "ما" الزائدةَ غذا اتصلت بأنَّ وأخواتِها جاز الإعمالُ في الجميع.
(1/96)
---(1/96)
و "نحن" مبتدأ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم، ومن معه، أو المعظِّمِ نفسه، و "مصلحون" خبرُه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا. والجملة الشرطيةُ وهي قولُه: "وإذا قيلَ لهم" عطفٌ على صلة مَنْ، وهي :يقولُ"، أي: ومن الناس مَنْ يقول، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا: وقيل: يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإعراب لما تقدم، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على "يَكْذِبُون" الواقع خبراً لـ "كانوا"، فيكونَ محلُّها النصبَ. وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي "ما" مِنْ قوله {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} خطأٌ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، إذ لا عائدَ فيها يعود على"ما" الموصولةِ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج. والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن "ما" موصولةٌ حرفيةٌ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ "ما" مصدريةً كما تقدم.
* { أَلاا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }
(1/97)
---(1/97)
قوله تعالى: {أَلاا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}: الآية. "ألا" حلاف تنبيه واستفتاح، وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ، بل هي بشسيطةٌ، ولكنها لفظٌ مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية، وبين العَرْض والتخصيص، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافيةَ للجنس دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى "ليت" في بعض أحكامِها. وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى، يقول القائل: لم يقم زيد، فتقول: ألا، بمعنى بلى قد قام، وهو غريب.
و "إنهم" "إنَّ" واسمُها، و "هم" تَحْتمل ثلاثةَ أوجه، أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم "إنَّ" لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ، وأن تكون فصلاً، وأن تكونَ مبتدأ و "المفسدون" خبره، وهما خيرٌ لـ "إنَّ"، وعلى القَوْلَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ "المفسدون" وحده خبراً لإِنَّ. وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد، منها: الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بأنَّ وبالإتيانِ وبالتاكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعوه من قولهم: إنما نحن مصلحون، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً اسمية مؤكَّدة بإنما، لِيَدُلُّوا على ثبوتِ الوصفِ لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه.
قوله: {وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و "لكن" معناها الاستدراكُ، وهو معنىً لا يفارقها، وتكون/ عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ، نحو: "ما قام زيدٌ لكن خرج بكر"، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة:
190- ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ * ولكن متى يَسْتَرْفدِ القومُ أَرْفِدِ
(1/98)
---(1/98)
فقوله: :متى يسترفدِ القوم أرفدِ" ليس ذداً ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافُه. قال بعضهم: وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعِي، لأنَّ قولَه: "لستُ بحلاَّل التِّلاعِ لبيته" كنايةٌ عن نفي البخلِ أي: لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ، وقوله: "متى يسترفد القوم أرفد" كنايةٌ عن الكرم، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ. ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس، ولها أحكامٌ كثيرة.
ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنه مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك، ومثلُه قولك: "زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم"، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كما ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه، لأن الإنسانَ ينبغي له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من الصفات فاستدؤكْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله.
ومفعول "يَشْعرون" محذوف: إمَّا حذفَ اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإمَّا حذفَ اقتصار، وهو الأحسنُ، أي ليس لهم شعورٌ ألبتة.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ قَالُوااْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلاا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُواْ}: الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها. وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ على ما تقدَّم في {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لاَ تُفْسِدُواْ} والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ عهنا فلا حاجة لذِكْرِها.
(1/99)
---(1/99)
والكافُ في قوله: {كَمَآ آمَنَ النَّاسُ} في محلِّ نصبٍ. وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس، وكذلك يقولون في: "سِرْ عليه حثيثاً"، أي سيراً حثيثاً، وهذا ليس من مذهب سيبويه، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ.
وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، ليس هذا منها، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ، نحو: مررت بكاتبٍ، أو واقعةً خبراً نحو: زيد قائم، أو حالاً نحو: جاء زيدٌ راكباً، أو صفةً لظرف نحو: جلستُ قريباً منك، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه، نحو: الأَبطح والأَبْرق، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: "ألا ماءَ ولو باردا"، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف، وأجاز: ألا ماءَ ولو بارداً لأنه نَصْبٌ على الحال.
و "ما" مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و "آمَنَ الناسُ" صلتُها. واعلم أن "ما" المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله:
191- ..................... * بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ، واستُدِبَّ على جوازه، بقوله:
192- واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ * فلأنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ
وقول الآخر:
193- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ * كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب
وقول الآخر:
194- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا * كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ
(1/100)
---(1/100)
إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله: "واصلْ خليلَك. البيت. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ "ما" كافةً للكاف عن العمل، مثلُها في قولك: ربما قام زيد. ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً. والألفُ واللامُ في "الناس" تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً. والهمزةُ في "أنؤمن" للإنكار أو الاستهزاءِ، ومحلُّ "أنؤمن" النصبُ بـ "قالوا".
وقوله: {كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ}: القولُ في الكافِ و "ما" كالقول فيهما فيما تقدَّم، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ، وأَبْعَجَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون، كما يُفْهخم من العيُّوق/ كوكب مخصوص.
والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، تقول: "ثوبٌ سفيه" أي خفيفُ النَّسْج. وقوله:{أَلاا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} كقولِه فيما تقدَّم: {أَلاا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} فلا حاجة إلى إعادتِه. ومعنى الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم، إلا أنه قال هناك: "لا يشعرون"، لأن المثبتَ لهم هناكَ هو الإفسادُ، وهو ممَّا يُدْرِكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم، والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ هو الأمرُ بالإيمان وذلك ممَّا يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ يُفْضي إلى الإِيمانِ والتصديقِ، ولم يَقَعْ منهم المأمورُ به وهو الإيمانُ، فناسَبَ ذلك نفيَ العلمِ عنهم. ووجهٌ ثان وهو أن السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور، قال السمَوْءَل:
(1/101)
---(1/101)
195- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا * فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ
والعلمُ نقيضُ الجهلِ فقابلَه بقولِه: لا يَعْلكون، لأنَّ عدمَ العلمش بالشيءِ جهلٌ به.
* { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوااْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواا آمَنَّا}: "إذا" منصوب بقالوا الذي هو جوابٌ لها، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك، و "لَقُوا" فعلٌ وفاعل، والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها. وأصل لَقُوا: لَقِيُوا بوزن شَرِبوا، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة، فحُذِفَتِ الضمةُ فالتقى ساكنان: لامُ الكلمة وواوُ الجمع، ولا يمكن تحريكُ أحدهما، فَحُذِف الأول وهو الياء، وقُلِبت الكسرةُ التي علىلقاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير،فوزن "لَقُوا": فَعُوا، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ، نحو: خَشُوا وحَيُوا.
وقد سُمع في مصدر "لَقي" أربعة عشر وزناً: لُقْياً ولبِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين، ولِقاء ولِقاءة [ولَقاءة] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها، ولُقْيا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً، وتِلْقاء.
و "الذين آمنوا" مفعولٌ به، و "قالوا" جوابُ "إذا"، و "آمنَّا" في محلِّ نَصْبٍ بالقول.
(1/102)
---(1/102)
قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوااْ} تقدَّم نظيرُه، والأكثرُ في "خلا" أن يتعدَّى بإلى، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما: الانفرادُ، والثاني: السخرية والاستهزاءُ، تقول: "خَلَوْتُ به" أي سَخِرْتُ منه، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط، أو تقول: ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى، والمعنى: صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق:
196- ألم تراني قالِباً مِجنِّي * قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي
أي: صرفه بالقتل، وقيل: هي هنا بمعنى مع، كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وقيل: هي بمعنى الباء، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز في الحروف لضَعْفِها. وقيل: المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ "إلى" على بابِها، قلت: وتقديرُ "مِن المؤمنين" لا يجعلُها على بابِها إلاَّ بالتضمينِ المتقدِّم.
والأصل في خَلَوْا: خَلَوُوْا، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها، فبقيَتْ ساكنةً، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ، فالتقَى ساكنان، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا.
و "شياطينهم" جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن شياطين: إمَّا فعاليل أة فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في الاستعاذة. والفصيح في "شياطين" وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم، سُمع منهم: "لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون"، وقرئ شاذاً: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطونُ}.
(1/103)
---(1/103)
قوله تعالى: {قَالُوااْ إِنَّا مَعَكُمْ} إنَّ واسمُها و "معكم" خبرُها، والأصل في إنَّا: إنَّنا، كقوله تعالى: {إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني "إنَّ" لَمَّا اتصلت بنونِ نا، تخفيفاً، وقال أبو البقاء: "حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في "إنَّ" إذا خُفِّفَتْ.
و "مع" ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم، فيتعلَّقُ بمحذوف، وهو ظرفُ مكانٍ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ. قالوا: لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ، وأمَّا كونثه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو: "زيدٌ معك"، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلَم أنَّ "مع" لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله:
197- وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ * وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما
وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ، وإنْ كان النحاس ادَّعَى الإجماع في ذلك، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإضافةِ، وقد تُقْطَعْ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً، تقولُ: جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ، وقد تقع خبراً، قال الشاعر:
198- حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ * مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا
(1/104)
---(1/104)
فَشْعباكما مبتدأ، و "معاً" خبرُه، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً، و "معا" حالاً. واختلفوا في "مع" حالَ قَطْعِها عن الإضافة: هل هي من باب المقصور نحو: عصا ورحا، أو المنقوص نحو: يد ودم؟ قولان، الأولُ قولُ يونسَ والأخفشِ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى الأول تقول: جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً، وعلى الثاني: جاءني معٌ ورأيت معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله: "وشَعْباكما معاً لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر، نحو: "زيدٌ عندَك" وفيها كلامٌ أكولُ من هذا، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ.
قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} كقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم، كأنهم لمَّا قالوا لهم: "إنَّا معكم" توجَّه عليهم سؤالٌ منهم، وهو فما بالُكم مكن المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ، وقيل: محلُّها النصب، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى: "إنَّا معكم". وقياسُ تخفيفِ همزةِ "مستهزئون" ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي منه حركتُها وهو الواو، وهو رأيُ سيبويه، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً. وقد وَقَف حمزةُ على "مستهزئون" و "فمالئون" ونحوِهما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ المصحفِ.
* { اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
(1/105)
---(1/105)
قولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}: "اللهُ" رفعٌ بالابتداء و "يَسْتَهْزىء" جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه، و "بهم" متعلقٌ به، ولا محلَّ لهذه الجملة لاستئنافِها، "وَيَمُدُّهم" في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر وهو يستهزىء، و "يَعْمَهُوْن" في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في "يَمُدُّهم" أو من الضميرِ في "طغيانهم" وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ. و "في طغيانهم" يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون، وقُدِّم عليه، إلا إذا جُعِل "يَعْمَهون" حالاً من الضميرِ في "طُغْيانهم" فلا يتعلَّق به حينئذ لفسادِ المعنى.
وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ "في طُغيانهم" و "يَعْمَهون" حالَيْن من الضميرِ في "يَمُدُّهُمْ"، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك إلا لِما ذكره أبو البقاء، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ.
(1/106)
---(1/106)
والمشهورُ فتحُ الياءِ من "يَمُدُّهم"، وقُرئ شاذاً بِضمِّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بمعنى واحدٍ، تقول: مَدَّة وأَمَدَّه بكذا، وقيل: مَدَّه إذا زاده من جنسه، وأَمَدَّه إذا زادَه من في جنسِه، وقيل: مَدَّه في الشرِّ، كقوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} وَأَمَدَّه في الخير، كقوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ} إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين الفرقين أنه قرئ {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ قولِهِ تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} يعني أبو علي -رحمه الله تعالى- بذلك أنه على سبيل التهكم.
وقال الزمخشري: "فإنْ قُلْتَ: لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإملاءِ والإمهالِ؟ قلت: كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن: "ويُمِدُّهم" وقراءةُ نافعِ" "وإخوانُهم يُمِدُّونهم" على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو "مَدَّ له" باللام كأَمْلَى له".
والاستهزاءُ لغةً: السُّخْرِيةُ واللعبُ: يقال: هَزِئَ به، واستَهْزَأَ قال:
199- قد هَزِئَتْ من أمُّ طَيْسَلَهْ * قالَتْ: أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ
وقيل: أصلُه الانتقامُ، وأنشدَ:
200- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ * سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ
فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها، وأمَّا على القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك. فقيل: المعنى يُجازيهم على استهزائهم، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ، ومنه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ} وقال عمرو ابن كلثوم:
(1/107)
---(1/107)
201- ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا * فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهلينا
وأصلُ المَدَدِ: الزيادةُ. والطغيانُ: مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً بكسر الطاء وضمِّها، ولامُ طغى قيل: ياءٌ وقيل: واو، يقال: طَغيْتُ وطغَوْتُ، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه: طَغَى الماءُ. والعَمَهُ: التردُّدُ والتحيُّرُ، وهو قريبٌ من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ.
* { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
(1/108)
---(1/108)
قولُه تعالى: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}: "أولئك" رفعٌ بالابتداءِ والذين وصلتُه خبرُه، وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} هذه الجملةُ عطفٌ على الجملةِ الواقعةِ صلةً، وهي "اشْتَرَوْا" وزعم بَعضُهم أنها خبرُ المبتدأ، وأنَّ الفاءَ دَخَلَتْ في الخَبَرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ من معنى الشرط، وجعل ذلك نظيرَ قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وهذا وَهْمٌ، لأنَّ الذين اشتروا ليس مبتدأ حتى يُدَّعَى دخولُ الفاءِ في خبره، بل هو خبرٌ عن "أولئك" كما تقدَّم. فإنْ قيل: يكونُ الموصولُ مبتدأً ثانياً فتكونُ الفاءُ دَخَلَتْ في خبره فالجوابُ أنه يلزم مِن ذلك عدمُ الربطِ بين المبتدأ والجملة الواقعةِ خبراً عنه، وأيضاً فإنَّ الصلَةَ ماضيةٌ معنى. فإنْ قيل: يكونُ "الذين" بدلاً من "أولئك" فالجوابُ انه يصير الموصولُ مخصوصاً لإبداله من مخصوصٍ، والصلة أيضاً ماضيةٌ. فإن قيل: يكونُ "الذين" صفةً لأولئك ويصيرُ نظيرَ قولك: "الرجلُ الذي يأتيني فله درهمٌ" فالجوابُ: أنه مردودٌ بما رُدَّ به السؤالُ الثاني، وبأنه لا يجوز أن يكونَ وصفاً له لأنه أعرفُ منه فبانَ فسادُ هذا القول.
والمشهورُ ضَمُّ واو "اشتروا" لالتقاءِ الساكنين، وإنما ضُمَّتْ تشبيهاً بتاءِ الفاعل. وقيل: للفرقِ بين واوِ الجمع والواوِ الأصليةِ نحو: لو استطعنا. وقيل: لأن الضمة هنا أخفُّ من الكسرةِ لأنها من جنسِ الواو. وقيل حُرِّكَتْ بحركة الياءِ المحذوفةِ، فإنَّ بكسرِها على أصلِ التقاء الساكنين، وبفتحِها: لأنه أخفُّ. وأجازالكسائي همزَها تشبيهاً لها بأَدْؤُر وأَثْؤُب وهو ضعيف، لأن ضمَّها غيرُ لازمٍ، وقال أبو البقاء: "ومِنهم مَنْ يَخْتَلِسُها، فيحذِفُها لالتقاءِ الساكنين وهو ضعيفٌ جداً؛ لأن قبلها فتحةً والفتحةُ لا تَدُلُّ عليها".
(1/109)
---(1/109)
وأصل اشْتَرَوا: اسْتَرَيُوا، فتحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليها، وقيل: بل حُذِفَت الضمة من الياءِ فَسَكَنَتْ، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَت الياءُ لالتقائِهما. فإن قيل: فواوُ الجمع قد حُرِّكَت فينبغي أن يعودَ الساكنُ المحذوفُ، فالجوابُ أن هذه الحركةَ عارضةٌ، فهو في حكمِ الساكنِ، ولم يجيءْ ذلك إلا في ضرورةِ شعرٍ، أنشد الكسائي:
202- يا صَباحِ لَمْ تنامش العَشِيَّا
فأعاد الألفَ لمَّا حُرِّكَتِ الميمُ حَركةً عارضةً.
و "الضلالةَ" مفعولُه، و "بالهدى" متعلِّق بـ "اشتروا"، والباءُ هنا للعِوض وهي تدخلُ على المتروكِ أبداً. فأمَّا قولُه تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} فإنَّ ظاهرَه أنَّ الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكةُ، فالجوابُ ما قاله الزمخشري -رحمه الله تعالى- من أن المرادَ بالمُشترين المُبْطِئُون وَعِظُوا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ويُخْلِصوا الإيمانَ بالله تعالى وسولِه ويجاهدوا في سبيل الله حَقَّ الجهادِ، فحينئذ إنما دخلتِ الباءُ على المتروكِ.
والشراءُ هنا مجازٌ عن الاستبدالِ بمعنى أنهم لَمَّا تَرَكوا الهدى، وآثروا الضلالةَ، جُعِلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى، ثُم رُشِّح هذا المجازُ بقولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فَأَسْنَدَ الربحَ إلى التجارةِ، والمعنى: فما ربحوا في تجارتهم، ونظيرُ هذا الترشيحِ قولُ الآخر:
203- بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكرَ جِلْدَه * وَعجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ المَطارِفُ
لمَّا أَسْنَدَ البكاءَ إلى الخَزِّ من أجل هذا الرجل -وهو رَوْحٌ- وإنكارِه لجِلْده مجازاَ رشَّحه بقوله: "وعَجَّت المَطارِف من جُذام" أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة، وقولُ الآخر:
(1/110)
---(1/110)
204- ولَمَّا رأيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنُ دايةٍ * وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جاشَ له صَدْري
لمَّا جَعَلَ النَّسْرَ عبارةً عن الشيب، وابنَ دايةَ وهو الغرابُ عبارةً/ عن الشباب مجازاً رشَّحه بقوله: "وعَشَّشَ في وَكْريه"، وقولُ الآخر:
205- فما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أَدَلَّتْ * بعمالةٍ بأخلاقِ الكرامِ
إذا الشيطانٌ قصَّع في قَفاها * تَنَقَّفْناه بالحَبْل التُّؤامِ
لمَّا قال: "قصَّع في قفاها" أي دخل من القاصعاء -وهي جُحْر من جُحْرة اليَرْبوع- رشَّحه بقولِه: "تَنَقَّفْناه" أي: أخرجناه من النافِقاء، وهي أيضاً كم جُحْرة اليربوع.
قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} هذه الجملةُ معطوفةٌ على قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} والرِّبْحُ: الزيادةُ على رأس المال، والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، وافتعل هنا للمطاوعة، ولا يكونُ افْتَعَل للمطاوعة إلا من فِعْلٍ متعدٍ. وزعم بعضُهم أنه يجيء من اللازم، واستدلَّ على ذلك بقول الشاعر:
206- حتى إذا اشْتضال سُهَيْلٌ في السِّحَرْ * كشُعْلةِ القابِس تَرْمِي بالشَّرَرْ
قال: "فاشْتال افْتَعَل لمطاوعة "شَال" وهو لازمٌ"، وهذا وَهْمٌ من هذا القائل، لأن افتعلَ هنا ليس للمطاوعةِ، بل بمعنى فَعَل المجردِ.
* { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}: "مثلُهم" مبتدأ و "كمثل": جارٌّ ومجروره خبره، فيتعلَّقُ بمحذوف على قاعدةِ الباب، ولا مبالاة بخلافِ مَنْ يقول: إن كافَ التشبيه لا تتعلَّق بشيء، والتقديرُ مَثَلَهم مستقر كمثل وأجاز أبو البقاء وابنُ عطية أن تكونَ الكافُ اسماً هي الخبرُ، ونظَّره بقول الشاعر:
207- أَتَنْتَهُون ولن يَنْهَى ذوي شَطَط
كالطَّعْن يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُل
(1/111)
---(1/111)
وهذا مذهبُ الأخفش: يُجيز أَنْ تكونَ الكافُ اسماً مطلقاً. وأمّا مذهب سيبويه فلا يُجيز ذلك إلا في شعر، وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس كما قال، لأنَّا في البيت نضطُّر إلى جَعْلِها اسماً لكونِها فاعلةً، بخلاف الآية. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ كافَ التشبيه لها ثلاثةُ أحوال: حالٌ يتعيَّن فيها أَنْ تكونَ اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلةً أو مجرورةً بحرفٍ أو إضافةٍ. مثالُ الفاعل: "أتنتهون ولن يَنْهى" البيت، ومثالُ جَرِّها بحرفٍ قولُ امرئ القيس:
208- وَرُحْنا بكابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنا * تَصَوَّبُ فيه العينُ طوراً وتَرْتقي
وقولُه:
209- وَزَعْتُ بكالهَراوةِ أَعْوَجِيٍّ * إذا جَرَت الرياحُ لها وِثابا
ومثالُ جَرِّها بالإضافة قولُه:
210- فَصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مأكولْ * ..........................
وحالٌ يتعيَّن أن تكونَ فيها حرفاًَ، وهي: الواقعةُ صلةً، نحو: جاء الذي كزيدٍٍ، لأنَّ جَعْلَها اسماً يستلزمُ حَذْفَ عائدِ مبتدأٍ من غير طولِ الصلةِ، وهو ممتنعٌ عند البصريين، وحالٌ يجوز فيها الأمران وهي ما عدا ذلك نحو: زيد كعمرو. وأَبْعَدُ مَنْ زعم أنها زائدةٌ في الآية الكريمة، أي: مَثَلُهم مثلُ الذي، ونظَّره بقوله: "فَصُيِّروا مثل كعصف" كأنه جعل المِثْل والمَثَل بمعنى واحدٍ، والوجهُ أَنَّ المَثَلَ هنا بمعنى القصةِ، والتقديرُ: صفتُهم وقصتُهم كقصةِ المستوقِدِ فليست زائدةً على هذا التأويلِ، ولكن المَثَلَ بالفتح في الأصل بمعنى مِثْل ومثيل نحو: شِبْه وشَبَه وشَبيه. وقيل: بل هي في الأصل الصفةُ، وأمَّا المَثَل في قوله: "ضَرَب مَثَلاً" فهو القولُ السائرُ الذي فيه غَرابةٌ من بعضِ الوجوهِ، ولذلك حُوفظ على لفظِه فلم يُغَيَّرْ، فيقال لكلِّ مَنْ فَرَّط في أمرٍ عِسِرْ تَدارُكُه: "الصيفَ ضَيّعْتِ اللبنَ"، سواءٌ أكانم المخاطب به مفرداً ام مثَنَّى أم مجموعاً أم مذكراً أم مؤنثاً، ليدلَّ على قَصْدٍ عليه.
(1/112)
---(1/112)
و "الذي" في محلِّ خَفْضٍ بالإضافة، وهو موصولٌ للمفردِ المذكرِ، ولكن المرادَ به هنا جَمْعٌ، ولذلك رُوعي معناه في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأَوْلى أن يقال إن "الذي" وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه، والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ، ويكون قد رُوعي الوصفُ مرةً، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله: "استوقد" و "حَوْلَه"، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليه مفرداً في قوله: "استوقد" و "حَوْلَه"، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله: "بنورِهم، وتركَهم".
ووهِم أبو البقاء فَجَعَل هذه الآيةَ من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ تخفيفاً، وأن الأصلَ: الذين، ثم خُفِّف بالحذفِ، وكأنه جَعَلَه مثلَ قولِه تعالى في الآية الأخرى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوااْ} وقول الشاعر:
211- وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهم * هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
والأصل: كالذينَ خاضُوا، وإنَّ الذين حانَتْ. وهذا وَهْمٌ فاحش، لأنه لو كان من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ لوجَبَ مطابقةُ الضميرِ جمعاً كما في قوله: "كالذي خاضوا" و "دماؤُهُمْ"، فلمَّا قال تعالى: "استوقد" بلفظ الإفراد تعيَّن أحدُ الأمرين المتقدِّمين: إمَّا جَعْلُه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ الجمعِ لأن المرادَ به الجنسُ، أو أنه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ الجمعِ لأن المرادَ به الجنسُ، أو أنه من باب ما وقع فيه صفةً لموصوف يُفْهِم الجَمْعَ.
(1/113)
---(1/113)
وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآيةَ مثلُ قولِه تعالى: {كَالَّذِي خَاضُواْ} واعتلَّ لتسويغِ ذلك بأَمْرين: أحدُهما أنَّ "الذي" لمَّا كانَ وُصْلَةً لوصفِ المعارفِ ناسَبَ حَذْفَ بعضِه لاستطالتِه، قال: "ولذلك نَهَكُوه بالحَذْفِ، فحذَفوا ياءَه ثم كَسْرَتَه ثم اقتصروا منه على اللامِ في أسماء الفاعِلين والمفعولين". والأمرُ الثاني: أنَّ جَمْعَه ليس بمنزلةِ جَمْعِ غيرِه بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادةِ الدلالةِ، ألا ترى أن سائرَ الموصولاتِ لَفْظُ الجمع والمفردِ فيهنَّ سواءٌ. وهذا القولُ فيه نَظَرٌ مِنْ وجهين، أحُدهما: أنَّ قول ظهرٌ في جَعْل هذه الآيةِ من باب حَذْف نون "الذين"، وفيه ما تقدَّم من أنه كان ينبغي أن يطابقَ الضميرَ جَمْعاً كما في الآية الأخرى التي نَظَّر بها. والوجهُ الثاني: أنه اعتقدَ كونَ أل الموصولةِ بقيةَ "الذي"، وليس كذلك، بل أل الموصولةُ اسمٌ موصولٌ مستقل، أي: غيرث مأخوذٍ من شيء، على أن الراجحَ من جهةِ الدليلِ كونُ أل الموصولةِ حرفاً لا اسماً كما سيأتي. وليس لمرجَّحٍ أن يرجِّح قولَ الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميمَ في قولهم: "مُ الله" بقية ايمنُ، فإذا انتهكوا ايمن بالحذف حتى صار على حرفٍ واحد فَأَوْلى أن يقال بذلك فما بقي على حرفين، لأن أل زائدةٌ على ماهِيَّةِ "الذي" فيكونون قد حَذَفوا جميعَ الاسم، وتركوا ذلك الزائدَ عليه بخلاف ميم ايمنُ، وأيضاً فإنَّ القولَ بأنّ الميمَ بقيةُ أيمُن قولٌ ضعيف مردودٌ يأباه قولُ الجمهور.
وفي "الذي" لغاتٌ: أشهرُها ثبوتُ الياء ساكنةً. وقد تُشَدَّد مكسورةً مطلقاً، أو جاريةً بوجوهِ الإعرابِ، كقوله:
212- وليسَ المالُ فاعلَمْهُ بمالٍ * وإنْ أرضاكَ إلا ِللَّذيِّ
يَنالُ به العَلاءَ ويَصْطَفيه * لأقربِ أَقْرِبيه وللقَصِيِّ
فهذا يَحْتمل أنْ يكونَ مبنيًّا وأن يكونَ مُعْرباً، وقد تُحْذف ساكناً ما قبلها، كقولِ الآخر:
(1/114)
---(1/114)
213- فلم أَرَ بيْتاً كان أكثرَ بهجةً * مِنَ اللذْ به من آلِ عَزَّةَ عامرُ أو مكسوراً، كقوله:
214- واللذِ لو شاء لكانَتْ بَرّاً * أو جبلاً أَصَمَّ مُشَمْخِراً
ومثلُ هذه اللغات في "التي" أيضاً، قال بعضُهم: "وقوُلُهم هذه لغاتٌ ليس جيداً لأنَّ هذه لم تَرِدْ إلا ضرورةً، فلا ينبغي أن تُسَمَّى لغات".
واستوقَدَ استفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ، نحو: استجاب بمعنى أَجاب، وهو رأي الأخفش، وعليه قولُ الشاعر:
215- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى * فلم يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ
أي: فلم يُجِبْه، وقيل: بل السينُ للطلب، ورُجِّحَ قولُ الأخفش بأنَّ كونَه للطلب يستدعي حَذفَ جملةٍ، ألا ترى أنَّ المعنى استدعَوْا ناراً فَأَوْقدوها، فلمَّا أضاءَتْ لأنّ الإضاءةَ لا تَتَسَبَّبُ عن الطلبِ، إنما تُسَبَّبُ عن الإيقاد.
والفاء في "فلمَّا" للسبب. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: "كمثل الذين" بلفظِ الجمع، "استوقد" بالإفراد، وهي مُشْكِلةٌ، وقد خرَّجوها على أوجهٍ أضعفَ منها وهي التوهُّمُ، أي: كانه نطق بمَنْ، إذا أعاد ضميرَ المفرد على الجمع كقولهم: "ضربني وضربتُ قومَك" أي ضربني مَنْ، أو يعودُ على اسمِ فاعلٍ مفهومٍ من اسْتَوْقَد، والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ، وإن لم يَكْمُلْ شرطُ الحذفِ، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم، وهذه القراءة تُقوِّي قولَ مَنْ يقولُ: إن أصلَ الذي: الذين، فَحُذِفَتِ النونُ.
و "لَمَّا" حرفُ وجوب لوجوب هذا مذهبُ سيبويه. وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء أنها ظرفٌ بمعنى حين، وأنَّ العاملَ فيها جوابُها، وقد رُدَّ عليه بأنها أُجيبت بـ "ما" النافية وإذا الفجائية، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} وقال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وما النافيةُ وإذا الفجائية لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما فانتفى أَنْ تكونَ ظرفاً.
(1/115)
---(1/115)
وتكون "لَمَّا" أيضاً جازمةً لفعلٍ واحد، ومعناها نفيُ الماضي المتصلِ بزمنِ الحال، ويجوزُ حَذْفُ مجزومها، قال الشاعر:
216- فجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولَمَّا * فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
وتكونُ بمعنى إلا، قال تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في قراءة مَنْ قرأه.
و "أضاء" يكونُ لازماً ومتعديً، فإن كان متعدياً فـ "ما" مفعولٌ به، وهي موصولة، و "حولَه" ظرفُ مكانٍ ومخفوضٌ به، صلةٌ لها، ولا يَتَصَرَّفُ، وبمعناه: حَوال، قال الشاعر:
217- وأنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكا * ...........................
ويُثَنَّيان، قال عليه السلام: "اللهم حوالَيْنا"، ويُجْمَعان على أَحْوال.
ويجوز أن تكونَ "ما" نكرةً موصوفةً، و "حولَه" صفتُها، وإن كان لازماً فالفاعلُ ضميرُ النار أيضاً، و "ما" زائدةٌ، و "حوله" فاعلةً موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وأُنِّثَ/ الفِعلُ على المعنى، والتقدير: فلمَّا أضاءَتِ الجهةُ التي حولَه أو جهةٌ حولَه. وأجاز أبو البقا فيها أيضاً أن تكونَ منصوبةً على الظرف، وهي حينئذٍ إمَّا بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، التقدير: فلمَّا أضاءت النارُ المكانَ الذي حوله أو مكاناً حوله، فإنه قال: "يُقال: ضاءَتِ النارُ وأَضاءَتْ بمعنىً، فعلَى هذا تكون "ما" ظرفاً وفي "ما" ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن تكونَ بمعنى الذي. والثاني: هي نكرة موصوفةٌ أي: مكاناً حوله، والثالث: هي زائدةٌ" انتهى.
وفي عبارتِه بعضُ مناقشةٍ، فإنه بَعْدَ حُكْمِه على "ما" بأنَّها ظرفيةٌ كيف يجوزُ فيها والحالةُ هذه أن تكونَ زائدةً، وإنما أراد: في "ما" هذه من حيث الجملةُ ثلاثةُ أوجهٍ: وقولُ الشاعر:
218- أضاءَت لهم أحسابُهم ووجُوهُهم * دُجَى الليلِ حتى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ
يَحْتمل التعدِّي واللزوم كالآية الكريمة. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: ضاءَتْ ثلاثياً.
(1/116)
---(1/116)
قولُه تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} هذه الجملةُ الظاهرُ أنَّها جوابُ "لَمَّا". وقال الزمخشري: "جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: فلمَّا أضاءَتْ خَمَدَت"، وجَعَل هذا أبلَغَ من ذِكْرِ الجواب، وجعلَ جملةَ قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بوجْهَيْن أحدهما: أنَّ هذا تقديرٌ مع وجودِ ما يُغْني عنه فلا حاجةَ إليه، إذ التقديراتُ إنما تكونُ عند الضروراتِ. والثاني: أنه لا تُبَدَلُ الجملةُ الفعليةُ من الجملةِ الاسميةِ.
و "بنورهم" متعلِّقٌ بـ "ذَهَبَ"، والباءُ فيها للتعدية، وهي مرادِفَةٌ للهمزة في التعديةِ، هذا مذهبُ الجمهورِ، وزَعَمَ أبو العباس أنَّ بينهما فَرْقاً، وهو أن الباءَ يلزَمُ معها مصاحبةُ الفاعل للمفعولِ في ذلك الفعلِ الذي فَعَلَه به والهمزةُ لا يَلْزَمُ فيها ذلك. فإذا قلتَ: "ذهبْتُ بِزيد" فلا بد أن تكونَ قد صاحَبْتَه في الذهاب فذهبْتَ معه، وإذا قلت: "أَذْهَبْتَه" جاز أن يكونَ قد صَحِبْتَه وألاَّ يكونَ. وقد رَدَّ الجمهورُ على المبرِّد بهذه الآية لأنَّ مصاحَبَتَه تعالى لهم في الذهابِ مستحيلةٌ. ولكن قد أجاب أبو الحسنِ ابنُ عصفور عن هذا بأنه يجوزُ ان يكونَ تعالى قد أَسْنَدَ إلى نفسِه ذهاباً يليقُ به كما أَسْند إلى نفسِه المجي والإتيان على معنى يليقُ به، وإنما يُرَدُّ عليه بقولِ الشاعر:
219- ديارُ التي كانت ونحن على مِنى * تَحِلُّ بنا لولا نَجاءُ الرِّكائِب
أي: تَجْعلنا حلالاً بعد أن كنا مُحْرِمين بالحَجّ، ولم تكن هي مُحْرِمةً حتى تصاحبَهم في الحِلّ، وكذا قول امرئ القيس:
220- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِه * كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ المُتَنَزَّلِ
الصَّفْوُ: الصخرة، وهي لم تصاحِبْ الذي تَزِلُّه.
(1/117)
---(1/117)
والضميرُ في "بنورِهم" عائدٌ على معنى "الذي" كما تقدَّم، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه: كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ، واحتاج هذا القائلُ إلى هذا التقديرِ قال: "حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، لأنَّ المشبَّهَ جمعٌ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو "أصحاب" لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ بالمفردِ وهو الذي استوقد" انتهى. ولا أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبَّهَ به إنما هو القصتان، فلم يقع التشبيهُ إلا بين قصتين إحداهما مضافةٌ إلى جمع والأخرى إلى مفردٍ.
قولُه تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} هذه جملةٌ معطوفةٌ على قوله "ذَهَبَ الله". وأصل الترك: التخليةُ، ويُراد به التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين على الصحيح، كقولِ الشاعر:
221- أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به * فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
فإن قُلْنا: هو متعدٍّ لاثنين كان المفعولُ الأول هو الضميرَ، والمفعولُ الثاني "في ظلمات" و "لا يُبْصرون" حالٌ، وهي حالٌ مؤكدة لأنَّ مَنْ كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ، وصاحبُ الحالِ: إمّا الضميرُ المنصوبُ أو المرفوعُ المستكنُّ في الجارِّ والمجرورِ. ولا يجوزُ أن يكونَ "في ظلمات" حالاً، و "لا يُبْصِرون" هو المفعولَ الثاني لأن المفعولَ الثاني خبرٌ في الاصل، والخبرُ لا يؤتَى به للتأكيد، وأنت إذا جعلت "في ظلمات" حالاً فُهِمَ منه عَدَمُ الإبصارِ، فلم يُفِدْ قولُك بعد ذلك لا "يُبْصرون" إلا للتأكيدَ، لكنَّ التأكيدَ ليس من شأن الإخبار، بل من شأنِ الأحوال لأنها فَضَلاتٌ. ويؤيِّد ما ذكرتُ أن النَّحْويين لَمَّا أَعربُوا قولَ امرئ القيس:
222- إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصَرفَتْ له * بشقٍّ وشِقٍّ عندنا لم يُحَوَّلِ
(1/118)
---(1/118)
أعربوا "شِق" مبتدأً و "عندنا" خبرَه، و "لم يُحَوَّل" جملةً حاليةً مؤكِّدةً، قالوا: وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنه موضعُ تفصيل، وأبَوْا أن يَجْعلوا "لم يُحَوَّل" خبراً، و "عندنا" لأنه إذا كان عندَه عُلِم منه أنه لم يُحَوَّل، وقد أعربَه أبو البقاء كذلك، وهو مردودٌ بما ذكرْتُ لك.
ويجوز إذا جَعَلْنا "لا يُبْصِرون" هو المفعولَ الثانيَ ان يتعلَّقَ "في ظلمات" به أو بـ "تَرَكهم"، التقدير: "وتَرَكهم لا يُبْصرون في ظلماتٍ". وإن كان "تَرَكَ" متعدياً لواحد كان "في ظلمات" متعلَّقاً بتَرَكَ، و "لا يُبْصرون" حالٌ مؤكِّدة ويجوز أن يكونَ "في ظلمات" حالاً من الضمير المنصوب في "تَرَكهم" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و "لا يَبْصرون" حالٌ أيضاً: إمَّا من الضميرِ المنصوب في "تَرَكَهم" فيكونُ له حالان/ ويجري فيه الخلافُ المتقدمُ، وإمَّا مِنَ الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في الجارِّ والمجرور قبلَه فتكونُ حالَيْنِ متداخلتين.
* { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
الجمهورُ على رَفْعَهاعلى أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، ويَجيء فيه الخلافُ المشهورُ في تعدُّدِ الخبرِ، فَمَنْ أجازَ ذلك حَمَلَ الآيةَ عليه من غير تأويلٍ، ومَنْ مَنَعَ ذلك قال هذه الخبارُ وإن تعدَّدتْ لفظاً فهي متَّحِدَةٌ معنًى، لأنَّ المعنى: هم غيرُ قائلين للحقِّ بسبب عَماهم وصَمَمِهم، فيكون من باب: "هذا حُلوٌ حامِضٌ" أي مُزٌّ، و "هو أَعْسَرُ يَسَرٌ" أي أَضْبَطُ، وقول الشاعر:
223- ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي * بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ
(1/119)
---(1/119)
أي: متحرِّزٌ، أو يقدَّر لكلِّ خبرٍ مبتدأً تقديرُه: هم صُمٌّ، هم بُكْم، هم عُمْي، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصافِ الثلاثة، ولولا ذلك لجاز أن تكونَ هذه الآيةُ من باب ما تعدَّدَ فيه الخبر لِتعدِّدِ المبتدأ، نحو قولِك: الزيدونَ فقهاءُ شعراءُ كاتبون، فإنه يَحْتمل أن يكونَ المعنى أن بعضَهم فقهاءُ، وبعضَهم شعراء وبعضَهم كاتبون، وأنَّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة، بل بعضُهم اختصَّ بالفقه، والبعضُ الآخر بالشعرِ، والآخرُ بالكتابة.
وقُرئ بنصبها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه حالٌ، وفيه قولان، أحدُهما: هو حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في "تَرَكَهم"، والثاني من المرفوع في "لا يُبْصرون". والثاني: النَصبُ على الذَمِّ، كقولِه: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وقول الآخر:
224- سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني * عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي: أَذُمُّ عُداةَ اللهِ. الثالث: أن يكونَ منصوباً بتَرَكَ أي: تَرَكهم صُمَّاً بُكْماً عُمْياً.
والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع، وأصلُه من الصَّلابة، يقال: "قناةٌ صَمَّاء" أي صُلبة، وقيل: أصلُه من الانسدادِ، ومنه: صَمَمْتُ القارورةَ أي: سَدَدْتُها. والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ، وقيل: هو عدمُ الفَهْمِ، وقيل: الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ.
(1/120)
---(1/120)
وقولُه: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ قبلها، وقيل: بل الأولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم، ولا حاجةَ إلى ذلك. وقال أبو البقاء: "وقيل: فهم لا يَرْجِعُون حالٌ، وهو خطأٌ، لأن الفاء تُرَتِّبُ، والأحوالُ لا ترتيبَ فيها". و "رَجَعَ" يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ، وهُذَيْل تقول: أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى "عاد" كان لازماً، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعدياً، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ، فإنْ جَعَلْنَاه متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: لا يَرْجِعُون جواباً، مثلُ قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن معنى صار، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر، وجَعَل منه قولَه عليه السلام: "لا تَرْجِعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض"، ومَنْ مَنَعَ جريانِهِ مَجْرى "صار" جَعَلَ المنصوبَ حالاً.
* { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }
قولُه تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ}: في "أو" خمسة أقوال، أظهرهُا: أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه. الثاني: أنها للإبهام، أي: إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء، الثالث: أنها للشَّكِّ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم. الرابع: أنها للإباحة. الخامس: أنها لتتخير، أي: أًُبيح للناس أن يشبِّهمهم بكذا أو بكذا، وخُيِّروا في ذلك. وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين، أحدُهما: كونُها بمعنى الواو, وأنشدوا:
225- جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً * كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثاني: كونُها بمعنى بل، وأنشدوا:(1/121)
(1/121)
---
226- بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى * وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت.
و "كصيبٍ" معطوفٌ على "كَمَثَل"، فهو في محلِّ رفع، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ، ليصِحَّ المعنى، التقدير: أو ذَوي صَيِّبٍ، ولذلك رَجَعَ عليه ضميرُ الجمع في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِم} لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه. والصيِّبُ: المطر: سُمِّي بذلك لنزولِهِ، يقال: صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ، قال:
227- فلسْتُ لإنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ * تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقال آخر:
228- فى تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ * سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ
واختُلف في وزن صَيِّب: فمذهبُ البصريين أنه "فَيْعِل"، والأصلُ: صَيْوبٍ فَأُدْغِمَ كميِّت وهيِّن والأصلُ: مَيْوِت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنه فَعِيل، والأصل" صَويب بزنة طَويل، قال النحاس: "وهذا خطأٌ لأنه كانَ ينبغي ولا يُعَلَّ كطويل" وكذا قال أبو البقاء. وقيل وزنه: فَعْيِل فقُلب وأُدْغِم.
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} استئنافيةٌ ومن قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ بين المتعاطفَين، أعني قوله: كمثل وكصيّب، وهي مسألةُ خرف منعها الفارسي وقد رُدَّ عليه بقول الشاعر:
229- لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ * وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي
لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى * ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي
(1/122)
---(1/122)
فَفَصَلَ بين القسمِ وهو قولُهُ: "لَعَمْرُك" وبين جوابِهِ وهو قولُهُ: "لقد بالَيْت" بجملتين، إحداهما: "والخطوبُ مغيِّرات" والثانيةُ: "وفي طولِ المعاشرةِ التقالي" [قولُه:] "مِن السماءِ" يَحْتمل وجهينِ، أحدُهما أَن يكونَ متعلقاً بـ "صَيِّب" لأنه يعملُ عملَ الفعلِ، التقديرُ: كمطرٍ يصوبُ من السماء، و "مِنْ" لابتداء الغاية. والثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لصيِّب، فيتعلَّقَ بمحذوف، وتكونُ "مِنْ" للتبعيض، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ، تقديرهُ: كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ.
والسماءُ: كلُّ ما عَلاَك من سقف ونحوه، مشتقةٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ والأصل: سَماوٌ، ونما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ، وهو بدلٌ مطَّرد، نحو: كِساء ورِدَاء، بخلافِ نحو: سِقاية وشَقاوة ، لعدم تطرُّفِ حرفِ العلة ، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو: سَماوة، قال الشاعر:
230- طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا * سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا
والسماءُ مؤنث، وقد تُذَكَّر، وأنشدوا:
231- فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً * لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ
فأعاد الضميرَ مِنْ قوله: "إليه" على السماءِ مذكَّراً، ويُجْمع على سَماوات وأَسْمِيَة وسُمِيَّ، والأصل: فُعول، إلا أنه أُعِلَّ إعلالَ عُصِيّ بقلب الواوين يائين وهو قلبٌ مطَّرد في الجمع، ويَقِلُّ في المفرد نحو: عتا عُتِيَّا، كما شَذَّ التصحيحُ في الجمع، قالوا: "إنكم تنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ"، وجُمِعَ أيضاً على سَمَاء، ولكن مفردَه سَماوة، فيكونُ من باب تَمْرة وتمر، ويدلُّ على ذلك قولُه:
232- ................................ * .............فوق سَبْعِ سَمَائِيا
ووجهُ الدلالة أنه مُيِّزَ به "سبع"، ولا تُمَيَّز هي وأخواتُها إلا بجمعٍ مجرور.
(1/123)
---(1/123)
قولهُ تعالَى: "فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ" يَحْتمل أربعةَ أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ صفةً لـ"صَيِّب". الثاني: أن يكونَ حالاً منه، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِهِ: إِمَّا بالعملِ في الجار بعدَه، أو بصفةٍ بالجارِ بعده. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "مِن السماء" إذا قيل إنه صفةٌ لصيِّب، فيتعلَّقُ في التقادير الثلاثة بمحذوفٍ، إلاَّ أنه على القولِ الأولِ في محلِّ جرٍّ لكونه صفةً لمجرورٍ، وعلى القولين الأخيرين في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. و"ظلماتٌ" على جميع هذه الأقوال فاعلٌ به لأنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ متى اعتمدا على موصوفٍ أو ذي حال أو ذي خبرٍ أو على نفي أو استفهام عمِلاَ عَمَلَ الفِعْلِ، والأخفش يُعْمِلهما مطلقاً كالوصف، وسيأتي تحريرُ ذلك. الرابعُ: أن يكونَ خبراً مقدَّماً و"ظلماتٌ" مبتدأ، والجملةُ تحتمل وجهين: الجرَّ على أنها صِفَةٌ لصيِّب. والثاني: النصبُ على الحال، وصاحِبُ الحال يُحْتمل أن يكونَ "كصيِّب" وإن كان نكرةً لتخصيصهِ بما تقدَّمه، وأن يكونَ الضميرَ المستكنَّ في "مِنْ السماء" إذا جُعِلَ وصفاً لصيِّب، والضمير في "فيه" ضميرُ الصَيِّب".
واعلم أنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً، ورفعَ "ظلماتٌ" على الفاعلية به أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ "فيه ظلماتٌ" جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ، لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة، وأصلُ الصفةِ والحال أن يكونا مفرَدَيْنِ.
(1/124)
---(1/124)
"وَرَعْدٌ وبَرْقٌ" معطوفانِ على ظُلُماتٌ" بالاعتبارين المتقدمين ، وهما في الأصل مصدران تقول : رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً ، قال أبو البقاء : "وهما على ذلك [مُوَحَّدَتان] هنا"، يعني على المصدريَّة، ويجوز أن يكونا بمعنى الراعِد والبارِق نحو: رجل عَدْلٌ، والظاهرُ أنهما في الآية ليس المرادُ بهما المصدرَ بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ ، وهو مقصودٌ الآيةِ ، ولا حاجةَ حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعل.
قولُه تعالى {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِم} هذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، كأنه قيل: ما حالُهم؟ فقيل: يَجْعَلون. وقيل: بل لها محلٌّ، ثم اختُلِفَ فيه، فقيل: جَرٌّ لأنها صفةٌ لمجرور، أي: أصحابُ صيِّب جاعلين، والضميرُ محذوفٌ، أو نابَتْ الألفُ منابَه، تقديرُهُ: يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعِقِه. وقيل: محلُّها نصبٌ على الحال من الضمير "فيه". والكلامُ في العائدِ كما تَقَدَّم، والجَعْلُ هنا بمعنى الإِلقاء، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ، ويكون بمعنى صيَّر أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويكون للشروع فيعملُ عَمَلَ عسى.
(1/125)
---(1/125)
وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع، وفيها عشرُ لغاتٍ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصْبوع بضمِّ الهمزة. والواوُ في "يَجْعلون" تعود للمضاف المحذوف كما تقدم إيضاحُهُ. واعلمْ أنَّه إذا حُذِفَ المضافُ جاز فيه اعتباران، أحدهما: أن يُلْتفت إليه، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه، وقد جَمِع الأمران في قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} التقدير: وكم من أهل قرية فلم يُرَاعِه في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا [فَجَآءَهَا}] وراعاه في قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ}/. و{فِيا آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ} كلاهما متعلقٌ بالجَعْل، و"مِنْ" معناها التعليل. والصواعِقُ: جمع صاعقة، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار، ويقال: ساعِقة بالسين، وصاقِعة بتقديمِ القاف وأنشد:
233- ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ * واقِعُ، لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ
ومثلُه قول الآخر:
234- يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ * تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ
وهي قراءةُ الحسن، قالَ النحاسَ: "وهي لغةُ تميم وبعض بني ربيعة" فيُحتمل أن تكونَ صاقِعَة مقلوبةً من صاعِقَة، ويُخْتَمَل ألاَّ تكونَ، وهو الأظهرُ لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدَّم، ويقال: صَعْقَة أيضاً، وقد قَرَأَ بها الكسائي في الذاريات، يقال: صُعِقَ زيدٌ وأَصْعَقَهُ غيرُه: قال:
235- تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ * أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صواهِلُهْ
قولُه تعالى: "حَذَرَ الموت" فيه وجهان، أظهرهُهما: أنه مفعولٌ من أجله ناصبُه "يَجْعلون" ولا يَضُرُّ تعدُّدُ المفعولِ مِنْ أجْله، لأنَّ الفعلَ يُعَلِّل بعِلَلٍ.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموت، والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي: خافَ خوفاً شديداً.
(1/126)
---(1/126)
واعلم أنَّ المفعولَ مِنْ أجله بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجرِّه بالحرف على ثلاثةِ أقسام: قسم يكثر نصبُه وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافٍ نحو: جِئْت أكراماَ لك، وقسم عكسه، وهو ما كان معرَّفاً بأل. ومِنْ مجيئه منصوباً قولُ الشاعر:
236- لا أقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ * ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
وقسم يستوي فيه الأمران وهو المضافُ كالآيةِ الكريمة، ويكونُ معرفةً ونكرةً، وقد جَمَعَ جاتِم الطائيُّ الأمرينِ في قوله:
237- وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ * وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا
و "حَذَرَ الموت" مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، وفاعلُه محذوفٌ، وهو أحدُ المواضِعِ التي يجوزُ فيها حذفُ الفاعلِ وحدّه، [والثاني: فِعْلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، والثالث: فاعل أَفْعَل في التعجب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذفُ الفاعلِ وحدّه] خلافاً للكوفيين. والموتُ ضدُّ الحياة يقال: مات يموت ويَمات، قال الشاعر:
238- بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ * عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي
وعلى هذه اللغة قُرِئَ: مِتْنَا ومِتُّ بكسر الميم كخِفْنا وخِفْت، فوزنُ ماتَ على اللغةِ الأولى: فَعَل بفتح العينِ، وعلى الثانية: فَعِل بكسرِها، والمُوات بالضمِّ الموتُ أيضاً، وبالفتح: كا لا رُوحَ فيهِ، والمَوَتان بالتحريك ضد الحَيَوان، ومنه قولُهم "اشْتَرِ المَوَتانِ ولا تَشْتَرِ الحَيَوان"، أي: اشتر الأَرْضَين ولا تَشْترِ الرقيق فإنه في مَعْرِضِ الهلاك. والمُوتان بضمِّ الميم: وقوعُ الموتِ في الماشية، ومُوِّت فلانٌ بالتشديد للمبالغة، قال:
239- فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً * فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ
والمُسْتميتُ: الأمرُ المُسْتَرْسِلُ، قال رؤبة:
240- وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ * والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ
(1/127)
---(1/127)
قولُه تعالى: "والله محيطٌ بالكافرين" جملةٌ من مبتدأ وخبر، وأصلُ مُحِيط: مُحْوِط، لأنه من حاطَ يَحُوطُ فأُعِلَّ كإعلال نَسْتعين. والإحاطةُ: حَصْرُ الشيء مَنْ جميعِ جهاتِهِ، وهو هنا عبارةٌ عن كونِهِم تحت قَهْرِهِ، ولا يَفُوتونه. وقيل: ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي عقابُهُ محيطٌ بهم. وهذه الجملةُ قال الزمخشري: "هي اعتراضٌ لا محلَّ لها من الإعراب". كأنه يَعْني بذلك أنَّ جملةَ قولِه: يَجْعَلون أصابِعَهم، وجملةَ قوله: "يكاد البرق" شيءٌ واحدٌ، لأنَّهما من قصةٍ واحدةٍ فوقَعَ ما بينهما اعتراضاً.
* { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: "يكادُ" مضارع كَادَ، وهي لمقاربةِ الفعل، تعملُ عمل "كانَ"، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً، قال:
241- فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً * وكخم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ
والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من "أنْ" عَكَسَ "عسى"، وقد شَذَّ اقرتانُهُ بها، وقال رؤبة:
242- قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصَا
(1/128)
---(1/128)
لأنها لمقاربةِ الفعلِ، و "أَنْ" تُخَلِّصُ للاستقبال، فَتَنَافَا. واعلم أنَّ خَبَرَها - إذا كانَتْ- هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: "كاد زيدٌ يفعلُ" كان معناه فارَبَ الفعلَ، إلا أنه لم يَفْعَل، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل / انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال:
243- أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ * جَرَتْ في لِسانِيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إذا نُفِيَتْ - والله أعلم - أُثْبِتَتْ * وإنْ أُثْبِتَتْ قامِتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه:
244- إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ * رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عِيْبَ عليه لأنه قال: لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: "لم يَزَلْ" أو ما هو بمعناه، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} قالوا: فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى، لأن الذبْحَ وقع لقوله: "فَذَبَحُوها". والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين، أحدُهما: أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ، أي: ذَبَحُوهَا في وقتٍ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ، والثاني: أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شِدَّةِ تعنُّتِهِم وعُسْرِهِم في الفعلِ.
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه.
(1/129)
---(1/129)
واعلم أَنَّ خَبَرَ "كاد" وأخواتِها - عيرَ عسى- لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: "عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه"، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه:
245- وَقَفْتُ على رَبْعٍ لميَّةَ ناقتي * فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه * تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ
فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ، وينبغي أن يُقال: إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع، فهي هو، فكأنه قيل: حتى كاد يكلِّمني، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه، وقولُ الأخر:
246- وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني * ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً * فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [خبر] جَعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين: أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره: وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُقْقلني. والثاني: أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبِّبِ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه، والمعنى: وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإثقالِ ثوبي إياي.
ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاءِ المتكلم وأخواتِهَا، فتقولُ: كُدْت وكُدْنَا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائَها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله:
247- وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي * وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ، وسيأتي هذا كلُه في "كاد" الناقصة، أمَّا "كاد" التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء، بدليل قوله: "إنهم يكيدون كَيْدَاً، وأكيد".
(1/130)
---(1/130)
و "البرق" اسمها، و "يخَطف" خبرُها، خَطِفَ يَخْطَفُ بكسر عين الماضي وفتح المضارع، وخَطَف يخطِف، عكسُ اللغة الأولى، وفيه قراءاتٌ كثيرة، المشهورُ منها الأولى. الثانية: يَخْطِف بكسر الطاء.
الثالثة يَخَطَّفُ بفتح الياء والخاء والطاء مع تشديدِ الطاء، والأصل: يَخْتَطِفُ، فَأُبْطلت تاءُ الافتعال طاءً للإدغام، الرابعة: كذلك إلا أنَّه بكسر الخاء إتباعاً لكسرة الطاء. السادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء، السابعة: يَخْتَطِف على الأصل. الثامنة: يَخْطِّف بفتح الياء وسكونِ الخاء وتشديد الطاء، وهي رديئةٌ لتأديتها غلى التقاء ساكنين. التاسعة: بضم الياء وفتح الخاء وتشديدِ الطاء مكسورةً، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. العاشرة" يَتَخَطَّف.
والخَطْفُ: أَخْذُ شيءٍ بسرعة، وهذه الجملةُ - أعني قولَه: يكاد البرق يَخْطَف - لا محلَّ لَها، لأنها استئنافٌ، كأنه قيل: كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟ فقيل: يكاد يَخْطَف، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة، التقدير: أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف.
قوله تعالى: / {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ}: "كل" نَصْبٌ على الظرفية، لأنها أُضيفت إلى "ما" الظرفية، والعاملُ فيها جوابُها، وهو "مَشَوا". وقيل: "ما" نكرةٌ موصوفةٌ، ومعناها الوقتُ أيضاً، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: كلَّ وقتٍ أضاءَ لهم فيه، فأضاءَ على الأول لا محلَّ له لكونِه صلةً، ومحلُّه الجرُّ على الثاني. و "أضاء" يجوز أن يكون لازماً. وقال المبرد: "هو متعدٍّ ومفعولُه محذوفٌ"، أي: أضاء لهم البرقُ الطريقَ، فالهاء في "فيه" تعودُ على البرق في قولِ الجمهور، وعلى الطريقِ المحذوفِ في قول المبرد.
(1/131)
---(1/131)
و "فيه" متعلَّق بمَشَوا، و "في" على بابها أي: إنه محيطٌ بهم: وقيل: هي بمعنى الباء، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين، أي: مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه، ولا محلَّ لجملةِ قولِهِ "مَشَوا" لأنها مستأنفةٌ.
واعلم أنَّ "كُلاًّ" من ألفاظِ العموم، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ بلإضافة، وقد يُحْذَفُ ما يضاف إليه، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان. والمضافُ إليه "كل" إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها، فلهذا انتصَبَ عنها الحالُ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم، وربما انتصَبَتْ حالاً، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ، والأحسنُ استعمالُها مبتدأً، وليس كونُها مفعولاً مقصوراً على السماعِ، ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعم ذلك. وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة فيما لها من ضميرٍ وغيره، تقول: كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم، ولا يجوزُ أن يُراعَى لفظ "كل" فتقول: كلُّ رجال أتاكَ فأكرِمْهم، اعتباراً بالمعنى، فأما قوله:
248- جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ * فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم
فراعى المعنى فهو شاذٌّ لا يُقاس عليه، وإذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ فوجهانِ، سواءً كانت الإضافة لفظاً نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} فراعى لفظَ كل، أو معنىً نحو: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} فراعى لفظَها، وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} فارعى المعنى، وقولُ بعضهم: "إن "كُلَّما" تفيدُ التكرارَ، ليس ذلك من وَضْعها، فإنك إذا قُلْتَ: "كلما جِئْتَنِي أَكْرَمْتُك" كان المعنى: أُكْرِمُكَ في كلِّ فردٍ فردٍ من جَيئاتِكَ إليَّ.
(1/132)
---(1/132)
وقُرئ "ضاء" ثلاثياً، وهي تَدُلُّ على أنَّ الرباعيَّ لازمٌ. وقرئ: "وإذا أُظْلِك" مبنياً للمفعول، وجَعَلَهُ الزمخشريُّ دالاَّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ، واستأنَسَ أيضاً بقول حبيب:
249- هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا * ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ
ولا دليلَ في الآيةِ لاحتمالِ أن أصلَه: وإذا أَظْلم الليلُ عليهم، فلمَّا بُنِي للمفعولِ حُذِف "الليل" وقم "عليهم" مَقَامَه، وأمَّا حبيبٌ فمُوَلِّدٌ.
وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما، والثانيةُ بإذا، قال الزمخشري: "لأنهم حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به مقعودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه، فكُلَّما صادفوا منه فرصةً انتهزوها، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتجسُّسُ" وهذا الذي قاله هو الظاهرُ، إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ "إذا" تُفيد التكرار أيضاً، وأنشد:
250- إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي * أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ
قال: "معناها معنى كلما".
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} "لو" حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارةُ سيبويه، وهي أَوْلَى من عبارة غيرِه: حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى: {لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} وفي قوله عليه السلام: "نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه"، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً، ولفسادِ نحو قولهم: "لو كان إنساناً لكان حيواناً" إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإنسانِ امتناعُ الحيوان، ولا يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم، فأمَّا قولُه:
251- لو يَشَأْ طارَ به ذو مِيْعَةٍ * لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ
وقول الآخر:
252- تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ * إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا
(1/133)
---(1/133)
فمِنْ تسكينِ المحرِّكِ ضرورةً، وأكثر ما تكونُ شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى إنْ كقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} وقوله:
253- ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ * عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ
لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا * إليها صَدَى مِنْ جانِبِ القبرِ صائحُ
ولا تكونُ مصدريةً على الصحيح، وقد تُشَرَّبُ معنى التمني فَتَنْصِبُ المضارعَ بعد الفاء جواباً لها نحو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} وسيأتي تحريرُه في مَوْضِعِه.
و "شاء" أصلُه: شَيئَ علَى فَعِلَ بكسر العين، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً للقاعدةِ المُمَهَّدةِ. ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه: ولو شاء الله إذهابَ، وكَثُر حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ "أراد" حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ المستغرَبِ كقولِه:
254- ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه * عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ
قال تعالى: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
}. واللامُ في "ذهب" جوابُ لو. واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه مثبتاً، وقد تُحْذَفُ، قال تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} ويَقِلُّ دخولُها عليه منفيَّاً بـ "ما"، ويَمْتَنِعُ دخولُها عليه منفيَّاً بغير "ما" نحو: لو قُمْتَ لم أَقُمْ، لِتَوالِي لامين فيثقلُ، وقد يُحْذَفُ كقوله:
255- لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً * خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً
و "بسَمْعِهم" متعلِّقٌ بذَهَب. وقُرئَ: "لأَذْهَبَ" فتكونُ الباءُ زائدةً، أو يكونُ فَعَل وأَفْعَل بمعنىً، ونحوهُ: {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ
(1/134)
---(1/134)
}. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى ما قبلَها، و "على كل شيء" متعلِّقٌ بقدير، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ، وفعلُها قَدَر بفتح العين، وله ثلاثةَ عشَرٍ مصدراً: قدرة بتثليث القاف، ومَقْدرة بتثليث الدال، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً. وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج، وقيل: هما بمعنى، قاله الهروي. والشيءُ: ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه، ويُخْبَرَ عنه، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/، وهل يُطْلق على المعدومِ والمستحيل؟ خلافٌ مشهور.
* { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}. "يا" حرف نداء وهي أم الباب، وزعم بعضُهم أنها اسمُ فعلٍ، وقد تُحْذَفُ نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} ويُنادى بها المندوبُ والمستغاثُ، قال الشيخ: "وعلى كثرة وقوع النداءِ في القرآن لمَ يَقَعْ نداءٌ إلا بها". قلت: زَعَمَ بعضُهم أنَّ قراءةَ {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ} بتخفيف الميم أنَّ الهمزةَ فيه للنداءِ وهو غريبٌ. وقد يُراد بها مجردُّ التنبيه فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، قال تعالى: {أَلاَ يا اسْجدواْ} بتخفيف أَلا، وقال الشاعر:
256- ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ * ..............................
وقال الآخر:
257- يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمِ * والصالحينَ على سِمْعانَ من جارِ
(1/135)
---(1/135)
و "أيّ" اسمُ منادى في محل نصب، ولكنه بُني على الضمِّ لأنه مفردٌ معرفةٌ. وزعم الأخفشُ أنَّها هنا موصولةٌ، وأنَّ المرفوعَ بعدها صفةٌ لها يلزم رَفْعُه، ولا يجوزُ نَصْبُه على المحلِّ، خلافاً للمازني، و "ها" زائدةٌ للتنبيه لازمةٌ لها، والمشهورُ فتحُ هائِها. ويجوزُ ضَمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ عامر بذلك في بعض المواضع نحو: {أيُّهُ المؤمنون}، والمرسُوم يساعده.
ولا يجوزُ وَصْفُ "أيّ" هذه إلا بما فيه الألفُ واللامُ، أو بموصولٍ هما فيه، أو باسم إشارة نحو: ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } وقال الشاعر:
258- ألا أيُّهذا النابِحُ السَّيدَ إنني * على نَاْيها مُسْتَبْسِلٌ مِنْ ورائِها
ولـ "أيّ" معانٍ أُخَرُ كالاستفهام والشرطِ وكونِها موصولةً ونكرةً موصوفةً وصفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ.
و "الناسُ" صفةٌ لأي، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقدَّم من الخلاف. و "اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ" جملةٌ أمرية لا محلَّ لها لأنها ابتدائيةٌ.
قولُه تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: نصبهُ على النعتِ لِرَّبكم. الثاني: نصبُه على القَطْع. الثالثُ: رَفْعُه على القطعِ أبيضاً، وقد تقدَّم معناه.
(1/136)
---(1/136)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في "خَلَقَكم"، و "مِنْ قبلكم" صِلةُ الذين، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر، و "مِنْ" لابتداء الغاية. واستشكلَ بعضُهم وقوعَ "مِنْ قبلكم" صلةً من حيث إنَّ كلَّ ما جاز أن يُخْبَرَ به جاز أن يَقَعَ صلةً، و "مِنْ قبلكم" ناقصٌ ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدةٌ إلا بتأويل، فكذلك الصلةُ، قال: "وتأويلُه أنَّ ظرفَ الزمانِ إذا وُصِفَ صَحَّ الإخبارُ والوصلُ به تقول: نحن في يومٍ طَيِّبٍ، فيكون التقديرُ هنا - والله أعلم-: والذين كانوا من زمان قبلَ زمانكم"/ وقال أبو البقاء: "التقدير: والذين خَلَقَهم من قبلِ خَلْقِكم، فَحَذَفَ الخَلْقَ وأقام الضميرَ مُقامَه".
وقرأ زيدٌ بنُ علي: "وَالَّذِينَ مَن قَبْلِكُمْ" بفتح الميم.
قال الزمخشري: ووجهُها على إشكلاِها أن يقالَ: أَقْحَمَ الموصولَ الثاني بين الأول وصلتِه تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله:
259- يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَالكُمُ * .................................
تَيْماً الثاني بين الأولِ وما أُضيفَ إليه، وكإقحامِهم لمَ الإضافة بين المضافِ والمضاف إليه في نحو: لا أبالَكَ، قيل: "هذا الذي قاله مذهبٌ لبعضِهم ومنه قولُه:
260- من النَفَر اللاءِ الذين إذا هُمُ * يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا
فإذا وجوابُها صلةُ "اللاء"، ولا صلة للذين لأنه توكيدٌ للأول.
(1/137)
---(1/137)
إلا أنَّ بعضَهم يَرُّدُّ هذا القولَ ويجعلُه فاسداً، مِنْ جهةِ أنه لا يُؤكَّدُ الحرفُ إلا بإعادةِ ما اتصل به فالوصولُ أَوْلَى بذلك، وخَرَّجَ الآية والبيتَ على أنَّ "مَنْ قبلكم" صلةٌ للموصولِ الثاني، والموصولُ الثاني وصلتُه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والمبتدأُ وخبرُه صلةُ الأول، والتقديرُ: والذينَ هُمْ قبلكم، وكذا البيتُ، تَجْعَلُ "إذا" وجوابَها صلةً للذين، والذين خبرٌ محذوف، وذلك المبتدأُ وخبرُه صلةٌ لِلاَّءِ، ولا يَخْفَى ما في هذا من التعسُّفِ.
والخَلْق يقال باعتبارين، وأحدهما: الإبداع والاختراع، وهذه الصفةُ ينفردُ بها الباري تعالى. والثاني: التقديرُ: قال زهير:
261- ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْـ * ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري
وقال الحَّجاج: "ما خلقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ ولا وَعَدْتُ إلا وَفَيْتُ".
وهذه الصفةُ لا يختصُّ بها اللهُ تعالى، وقد غَلِط أبو عبد الله البصري في أنه لا يُطْلق اسمُ الخالقِ على الله تعالى، قال: لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسويةَ في حق الله تعالى ممتنعان، لأنهما عبارةٌ عن التفكُّر والظنِّ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ} {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وكأنه لم يعلم أنَّ الخَلْقَ يكون عبارةً عن الإنشاءِ والاختراع.
قولُه تعالى: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" لعلَّ واسمُها وخبرُها، وإذا وَرَدَ ذلك في كلام الله تعالى، فللناس فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّ "لَعَلَّ" على بابها من الترجِّي والإطماع، ولكنْ بالنسبةِ إلى المخاطَبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائِِكم وطمعِكم، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أي: اذهبا على رجائكما. والثاني: أنها للتعليل، أي اعبدوا ربَّكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب والطبري وغيرُهما وأنشدوا:
262- وقُلْتُمْ لنا كُفُّوا الحروبَ لَعَلَّنا * نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ
(1/138)(1/138)
---
فلمّا كَفَفْنَا الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ * كَلَمْعِ سَرابٍ في المَلاَ مُتَألِّقِ
أي: لكي نَكُفَّ الحربَ، ولو كانت "لعلَّ" للترجي لم يقلْ: وَوَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ. والثالث: أنها للتعرُّض/ للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرِّضين لأِنَّ تتَّقوا. وهذه الجملةُ على كلِّ قولٍ متعلقةٌ من جهةِ المعنى باعبُدوا، أي: اعبدوه على رجائِكم التقوى، أو للتقوا، أو متعرِّضين للتقوى، وإليه مالَ المهدوي وأبو البقاء.
(1/139)
---(1/139)
وقال ابن عطية: "يتَّجِهُ تعلًُّقُها بـ "خَلَقَكم"، أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ فهو بحيِثُ يُرْجَى أَنْ يكونَ مُتَّقِياً، إلاَّ أنَّ المهدويَّ مَنَع من ذلك، قال: "لأنَّ مَنْ ذَرأَه الله لجهنَّم لم يَخْلُقْه ليتَّقِيَ" ولم يَذْكر الزمخشري غيرَ تعلُّقِها بـ "خَلَقَكُمْ"، ثم رتَّب على ذلك سؤالين، أحدُهما: أنه كما خَلَقَ المخاطبين لعلهم يتقون كذلك خَلَقَ الذين مِنْ قبلهم لذلك، فلِمَ خَصَّ المخاطبين على الغائبين في اللفظِ، والمعنى على إرادة الجميع. السؤالُ الثانِي: هَلاَّ قيل "تعبدونَ" لأجلِ اعبدوا، أو اتقوا لمكانِ "تَتَّقُون" ليتجاوبَ طَرفا النَّظْم، وإنما التقوى قُصارى أمر العابدِ وأقصى جُهْدِه. قال الشيخ: "وأمَّا قولُه: ليتجاوبَ طرفاً النَظْم فليس بشيء، لأنه لا يمكن هنا تجاوبُ طَرَفَي النظْمِ، إذ نَظْمُ اللفظ: اعبدوا ربَّكم لعلكم تعبدُون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيدٌ في المعنى، إذ هو مثل: اضربْ زيداً من غثاثةِ اللفظِ وفسادِ المعنى". والذي يُظهرُ به صحتُه أن يكونَ "لعلكم تتقون" متعلقاً بقولِه: "اعبدوا"، فالذي نُودوا لأجلِهِ هو الأمرُ بالعبادة، فناسَبَ أن يتعلَّقَ بها ذلكَ، وأتى بالموصولِ وصلتِه لعى سبيل التوضيحِ أو المدحِ الذي تعلَّقت به العبادةُ، فلم يُجَأ بالموصولِ لَيُحَدِّثَ عنه، بل جاءَ في ضمنِ المقصودِ بالعبادةِ، فلم يكنْ يتعلَّقُ به دونَ المقصودِ. قلت: وهذا واضحٌ.
وفي "لعلَّ" لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها، قال:
263- لَعلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ علينا * بشيء أنَّ أمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنِبُ الاسمين على الصحيح، وقد تَدْخُلُ "أنْ" في خبرها حَمْلاً على "عسى"، قال:
264- لَعَلَّكَ يوماً أن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ * ....................................
(1/140)
---(1/140)
وقد تأتي للاستفهامِ والتعليلِ كما تقدَّم، ولكنَّ أصلّها أن تكونَ للترجِّي والطمعِ في المحبوباتِ والإشفاق في المكروهات كعسى، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا يأتي مفصَّلاً في غضونِ هذا الكتابِ إنْ شاء الله تعالى.
وأصلُ تَتَّقُون: تَوْتَقِيُون لأنه من الوقاية، فأُبْدِلَتْ الواوُ تاء قبل تاء الافتعالِ، وأُدْغِمَتْ فيها، وقد تقدَّم ذلك في "المتقين"، ثم اسْتُثْقِلَت الضمةُ على الياء فَقُدِّرَتْ، فَسَكَنَتْ الياءُ والواوُ بعدَها، فحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، وضُمَّت القافُ لتجانِسَها، فوزنُه الآن: تَفْتَعُونَ. وهذه الجملةُ أعني "لعلكم تتقونَ" لا يجوزُ أن تكونَ حَالاً لأنها طلبيةٌ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهم ذلك. ومفعولُ تَتَّقون محذوفٌ أي ""تَتَّقون" الشِرْك أو النارَ.
* { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(1/141)
---(1/141)
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ}: "الذي" تحتملُ النصبَ والرفعَ. فالنصبُ من خمسةِ أوجهٍ، أظهرُها: أن يكونَ نصبُه على القطع. الثاني: أنه نعتٌ لربكم. الثالث: أنه بدلٌ منه: الرابع: أنه مفعول "تتقون" وبه بدأ أبو البقاء. الخامس: أنه نعتُ النعت أي: الموصولُ الأول، لكن المختارَ أن النعتَ لا يُنْعَتُ / بل إنْ جاء ما يُوهم ذلك جُعِلَ نعتاً للأول، أَنْ يمنَع مانعٌ فيكونَ نعتاً للنعت نحو قولهم: "يا أيُّها الفارسُ ذو الجُمَّة"، فذو الجُمَّة نعتٌ للفارس لا لـ "أيّ" لأنها لا تَنْعَتُ إلاَّ بما تقدَّم ذِكْرُه. والرفعُ من وجهين: أحدهما - وهو الأصح - أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو الذي جَعَلَ. والثاني أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه بعد ذلك: "فَلاَ تَجْعَلُواْ", وهذا فيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنَّ صلتَه ماضِيةٌ فلم يُشْبِهِ الشرطَ فلا تُزَادُ في خبرِهِ الفاءُ، الثاني: عدمُ الرابط إلا أن يقالَ بمذهبِ الأخفش وهو أَنْ يُجْعَلَ الربطُ مكرَّرَ الاسم الظاهر إذا كان بمعناه نحو: "زيدٌ قام أبو عبد الله"، إذا كان أبو عبد الله كنيةً لزيد، وكذلك هنا أقامَ الجلالة مُقامَ الضميرِ كأنه قال: الذي جعل لكم فلا تَجْعَلوا له أنداداً.
و "جَعَل" فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين فيكونُ "الأرضُ" مفعولاً لأولَ، و "فراشاً" مفعولاً ثانياً. الثاني: أن تكونَ بمعنى "خَلَقَ" فتتعدَّى لواحد وهو "الأرضَ" ويكونُ "فراشاً" حالاً.
"وَالسَّمَاءَ بِنَآءً" عطف على "الأرض فراشاً" على التقديرين المتقددَّمين، و "لكم" متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم.
(1/142)
---(1/142)
والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه. والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، وقد يُرادُ به المفعولُ. و "أَنْزل" عطفٌ على "جَعَلَ"، و "من السماء" متعلِّقٌ به، وهي لابتداءِ الغاية. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ حالاً مِنْ "ما" لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً، وحينئذٍ معناها التبعيضُ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من مِياه السماءِ ماءً.
وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم: "ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه" وفي جُمْعه: مياه وأَمْواه، وفي تصغيرِه: مُوَيْه، فتحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفاً، فاجتمع حرفان خَفِيَّان: الألفُ والهاءُ، فَأَبْدلوا من الهاءِ أختَها وهي الهمزةُ لأنها أَجْلَدُ منها.
وقوله: "فَأَخْرَجَ" عطفٌ على "أَنْزَل" مُرَتَّبٌ عليه، و "به" متعلِّقٌ بِه، والباءُ فيه للسببية. و "من الثمرات" متعلقٌ به أيضاً، ومِنْ هنا للتبعيضِ. وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين، أحدُهما: زيادتُها في الواجبِ، وكَونُ المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش. والثاني: أن يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا، وهذا يخالف الواقعَ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس رزقاً. وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ هذا، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى، و "رزقاً" ظاهرُه أنه مفعولٌ به، ناصبُه "أَخْرَجَ". ويجوز أن يكونَ "من الثمرات" في موضع المفعول به، والتقديرُ: فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات. وفي "رزقاً" حينئذ وجهان أحدُهما: أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ، كالطَّحْنِ والرَّعْي.
(1/143)
---(1/143)
والثاني: أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه، وفيه شروطُ النصبِ موجودةٌ. وإنما نَكَّر "ماء" و "رزقاً" ليفيدَ التبعيضَ، لأنَّ المعنى: وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم، إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "من الثمراتِ" حالاً مِنْ "رزقاً" لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ، وجعلَ الزمخشري "من الثمرات" واقعاً موقعَ الثمر أو الثمار، مَمَّا نابَ جمعُ قلةٍ عن جمعِ الكثرة، نحو: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} {ثَلاَثَةَ قُرُواءٍ} ولا حاجةَ تدعو إلى هذا لأنَّ جَمْعَ السلامةِ المحلَّى بأَلْ التي للعمومِ يقعُ للكثرةِ، فلا فرقَ إذاً بين الثمراتِ والثمار، ولذلكَ ردَّ المحققونَ قولَ مَنْ ردَّ على حسان بن ثابت رضي الله عنه:
265- لَنَا الجَنَفَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى * وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَما
قالوا: كان ينبغي أن يقولَ: الجِفان: وسيوفُنا، لأنه أمدحُ، وليس بصحيحٍ لما ذَكَرْتُ لك.
و "لكم" يَحْتملُ التعلُّقَ بـ "أَخْرَج"، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ، على أن يكونَ صفةً لـ "رِزْقاً"، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقِ، وإنْ أُريد به المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في "لكم" مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له، نحو: "ضربت ابني تأديباً له" أي: تأديبَه.
(1/144)
---(1/144)
قولُه تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} الفاءُ للتسبُّب، تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ. و "لا" ناهية و "تَجْعلوا" مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّروا. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا. وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما: أنداداً، وثانيهما: الجارُّ والمجرورُ قبلَهن وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما: أنداداً، وثانيهما: الجارُّ والمجرورُ قبلَه، وهو واجبُ التقديمِ. و "أنداداً" جمع نِدّ، وقال أبو البقاء: "أَنْدَاداً جمعُ نِد ونَديد" وفي جَعْلَه جمعَ نديد نظرٌ، لأن أَفْعالاً لا يُحْفظ في فَعيل بمعنى فاعل، نحو: شَريف وأَشَرْاف ولا يُقاسُ عليه. والنِّدِّ: المقاوِمُ المضاهي، سواء كان [مثلاً] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل: هو/ الضدُّ عن أبي عبيدة، وقيل: الكُفْء والمِثْل، قال حسان:
266- أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ * فشرُّكما لخيركما الفِداءُ
أي: لستَ له بكُفْءٍ، وقد رُوِي ذلك، وقال آخر:
267- نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له * عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ
وقال الزمخشري: "النِّدُ المِثْل، ولا يُقال إلا للنِّدِّ المخالف، قال جرير:
268- أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً * وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ
ونادّدْتُ الرجلَ خالَفْتُه ونافَرْتُه مِنْ: نَدَّ يَنِدُّ نُدُوداً أي نَفَر". انتهى، ويقال "نَديدة" على المبالغة، قال لبيد:
269- لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي * وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا
(1/145)
---(1/145)
وأمَّا النَّدُّ -بفتح النون- فهو التل المرتفعُ، والنَّدُّ الكِّيب أيضاً، ليس بعربي. وهذه الجملةُ متعلقةٌ من حيث المعنى بقوله: "اعبدُوا"، لأنَّ أصلَ العبادةِ التوحيدُ، ويجوز أن يتعلَّقَ بـ "الذي" إذا جعلتَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآياتِ العظيمةَ النَّيِّرة الشاهدَةَ بالوَحْدانية فلا تَجْعلوا له أنداداً. وقال الزمخشري: "يتعلَّق بـ "لعلَّكم" على أن ينتصِبَ "تجعلوا" انتصابَ {فَأَطَّلِعَ} في قراءة حَفْص، أي: خلقكم لكي تَتَّقوا وتخافوا عقابَه فلا تُشَبِّهوه بخَلْقه، فعلى قولِه: تكون "لا" نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" في جوابِ الترجِّي، وهذا لا يُجيزه البصريون، وسيأتي تأويلُ "فاطَّلِع" ونظائِرِه في موضعِه إنْ شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على الحال، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى: وأنتم من أهلِ العِلم، أو حُذِف اختصاراً أي: وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك. والاسمُ من "أنتم" قيلَ: أَنْ، والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب. وقيل: بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ عمادٌ قبلها. وقيل: بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ، وحكمُ ميمِه بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم، وقد تقدَّم جميعُ ذلكَ.
* { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قولُه تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ}: إنْ حرف شرطٍ يَجْزِم فعلينِ شرطاً وجزاءً، ولا يكونُ إلا في المحتملِ وقوعُه، وهي أمُّ ألبابِ، فلذلك يُحْذَفُ مجزومُها كثيراً، وقد يُحْذَفُ الشرطُ والجزاءِ معاً، قال:
(1/146)
---(1/146)
270- قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ * كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ: وإنْ
أي: وإن كان فقيراً تزوجتُه، وتكونُ "إنْ" نافيةً لتعملُ وتُهْمَلُ، وتكون مخففةً وزائدةً باطِّراد وعدمِه، وأجاز بعضُهم أن تكونَ بكعنى إذْ، وبعضُهم أن تكونَ بمعنى قد، ولها أحكامٌ كثيرة. و "في ريب" خبر كان، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّ "كان" الجزمُ، وهي وإن كانَتْ ماضيةً لفظاً فهي مستقبلةٌ معنى.
وزعم المبردُ أنَّ لـ "كان" الناقصةِ حكماً مع "إنْ" ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ فزعم أن لقوةِ "كان" أنَّ "إنْ" الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال، بل تكونُ على معناها من المضيِّ، وتبعه في ذلك أبو البقاء، وعَلَّلَ ذلك بأنه كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ. وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ إنما يكون في المستقبلِ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك، نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} إمَّا بإضمار "يَكُنْ" بعد "إنْ"، وإمَّا على التبيين، والتقديرُ: إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه، ولمَّا خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل "إنْ" هنا بمنزلة "إذْ".
(1/147)
---(1/147)
وقوله: "في ريبٍ" مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلةِ المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم. و "مِمَّا" يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في محلِّ جَرٍّ. و "مِنْ" للسببية أو ابتداءِ الغاية، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ، ويجوز أن تتعلَّق بريب، أي: إن ارتَبْتُمْ من أجل، فـ "مِنْ" هنا للسببيةِ "وما" موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ على كلا القولين محذوفٌ أي: نَزَّلناه. والتضعيفُ في "نزَّلنا" هنا للتعدية مرادفاً لهمزةِ التعدِّي، ويَدُلُّ عليه قراءةُ "أنْزَلْنا" بالهمز، وجَعَلَ الزمخشري التضعيفَ هنا دالاًّ على نزولِه مُنَجِّماً في أوقاتٍ مختلفة. قال بعضهُم: "وهذا الذي ذهبَ إليه في تضعيفِ الكلمة هنا هو الذي يُعَبَّر عنه بالتكير، أي يَفْعَلُ [ذلك] مرةً بعد مرةٍ، فَيَدُلُّ على ذلك بالتضعيفِ، ويُعَبَّرُ عنه بالكثرةِ". قال: "وذَهَلَ عن قاعدةٍ -وهي أن التضعيفَ الدالَّ على ذلك من شرطه أن يكونَ في الأفعال المتعديةِ قبل التضعيفِ غالباً نحو: جَرَّحْتُ زيداً وفتَّحْتُ الباب، ولا يُقال: جَلَّس زيدٌ، ونَزَّل لم يكن متعدياً قبلَ التضعيفِ، وإنَّ كا جَعَلَه متعدياً تضعيفُه. وقولُه "غالباً" لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو: "مَوَّت المالُ" وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً} إلا بتأويل بعيدٍ جداً، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا نزول آيةٍ، ولا أنه عَلَّق(1/148)
(1/148)
---
تكريرَ نزولِ مَلَكٍ رسولٍ على تقديرِ كونِ ملائكةٍ في الأرض.
وفي قوله: "نَزَّلْنا" التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل: ممَّا نَزَّلَ على عبدِه، ولكنه التفت للتفخيمِ. و "على عبدنا" متعلِّقٌ بنزَّلنا، وعُدِّي بـ "على" لإفادتها الاستعلاءَ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها، دونَ "إلى"، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ فقط، والإضافة في "عبدِنا" تفيدُ التشريف كقوله:
271- يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ * يَعْرِفُه السامعُ والرائي
لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها * فإنه أَشْرَفُ أسمائي
وقُرئ: "عبادِنا"، فقيل: المرادُ النبيُّ عليه السلام وأمته، لأنَّ جَدْوَى المنزَّلِ حاصلٌ لهم. وقيل: المرادُ بهم جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام.
قوله تعالى: "فَأْتُواْ" جوابُ الشرط، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه، وأصلُ فأْتُوا: اإْتِيُوا مثل: اضْربوا فالهمزة الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ، اجتمع همزتان، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ "إيمان" وبابِه، واستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ، وضُمَّتِ التاءُ للتجانُسِ فوزنُ ايتوا: افْعُوا، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً، أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاء الكلمةِ لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها، وقد زال نحو: "فَأْتوا" وبابِه وقد تُحْذَفُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ في الأمرِ كقوله:
272- فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ * فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ
يريد: فَأتْونا كقوله: فَأْتوا. وبسورة متعلق بـ أتوا".
(1/149)
---(1/149)
قوله تعالى : {مِّن مِّثْلِهِ} في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها تعودُ على ما نزَّلنا ، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة ، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ، أي : بسوةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك ، ويكونُ معنى "مِنْ" التبعيضَ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان ، وأجازاهما وأبو البقاء أن تكون زائدةً ، ولا تجيء إلا على قول الأخفش. الثاني : أنها تعودُ على "عبدِنا" فيتعلَّقُ "من مثله" بأْتُوا، ويكون من "مِنْ" ابتداءَ الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة ، أي : بسورةٍ كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا. الثالث : قال أبو البقاء : "إنها تعود على الأنداد بلفظِ المفرد كقوله : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} قلت : ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك، والمعنى يَأباه أيضاً.
والسُّورة: الدرجةُ الرفيعة، قال النابغة:
273- ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً * ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ
وسُمِّيَتْ سورةُ القرآنِ بذلك لأنَّ صاحبَها يَشْرُفُ بها وتَرْفَعُه. وقيل: اشتقاقُها وهو البَقِيَّة، ومنه "أَسْأَروا في الإناء" قال الأعشى:
274- فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا * دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْطيرا
أي: أَبْقَتْ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ تميماً وغيرَها يهمزون فيقولون: سُؤْرة بالهمز، وسُمِّيت سورةُ القرآن بذلك لأنها قطعةٌ منه، وهي على هذا مخففةٌ من الهمزة، وقيل: اشتقاقُها من سُورِ البِناءِ لأنها تُحيط بقارئها وتحفظُه كسُورِ المدينة، ولكنَّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الواو، وجَمْعَ سُورةِ البِناء سُوْر بسكونِها فَفرَّقوا بينها في الجمعِ.
(1/150)
---(1/150)
قوله تعالى: {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم} هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً. ووزنُ ادْعُوا: افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين و "شهداءَكم" مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف، وقيل: بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ: الحضور.
و {مِّن دُونِ اللَّهِ} متعلقٌ بادْعُوا، أي: ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم، ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "شهداءَكم"، والمعنى: ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله. او يكونُ معنى "مِنْ دونِ الله" بين يدي الله كقوله:
275- تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه * لوجهِ أخيها في الإناءِ قُطُوبُ
أي: تريكَ القذى قُدَّامها وهي قُدَّامة لرقتِها وصفائها.
واختار أبو البقاء أن يكون {مِّن دُونِ اللَّهِ} حالاً من "شهدائكم"، والعاملُ فيه محذوفٌ، قال: "تقديرُه: شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله".
و "دونَ" مْنِ ظروف الأمكنة، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ بـ "مِنْ"، وزعم الأخفش أنها متصرَّفة، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} قال: "دونَ" مبتدأ، و "منَّا" خبرُه، وإنما بُني لإضافتِه إلى مبني، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر:
276- الم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي * وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإضافةِ لفظاً ومعنىً. وأمّا "دون" التي بمعنى رديء فتلك صفةٌ كسائرِ الصفات، تقول: هذا ثوبٌ دونٌ، ورأيت ثوباً دوناً، أي: رديئاً، وليستْ ممَّا نجن فيه.
(1/151)
---(1/151)
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه، تقديره: إنْ كنتم صادِقين فافعلوا، ومتعلِّقُ الصدقِ محذوفٌ، والظاهرُ تقديرُه هكذا: إنْ كنتم صادِقين فافعلوا، ومتعلِّقُ الصدقِ محذوفٌ والظاهرُ تقديرُه هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا. وقيل: فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة، وقد صَرَح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا} والصدقُ ضدُّ الكذبِ، وقد تقدَّم فَيُعْرَفُ مِنْ هناك، والصديقُ مشتقٌّ منه لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ، والصِّدْقُ من الرماح: الصُّلبة.
* { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ}: "إنْ" الشرطيةُ داخلةٌ على جملة "لم تفعلوا" وتفعلوا مجزومٌ بلم، كما تدخل إنْ الشرطيةُ على فعلٍ منفي بلا نحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} فيكون "لم تفعلوا" في محلِّ جزم بها.
(1/152)
---(1/152)
وقوله: "فاتَّقوا" جوابُ الشرطِ، ويكونُ قولُه: "ولَن تفعلوا" جملةً معترضةً بين الشرطِ وجزائه. وقال جماعةٌ من المفسرين: معنى الآيةِ: وادعوا شهداءَكم مِنْ دونِ اللهِ إنْ كنتم صادِقين، ولَنْ تَفعلوا فإنْ لم تَفْعلوا فاتَّقوا النار. وفيه نظرٌ لا يَخْفى. وإنما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} فَعَبَّر بالفعلِ عن الإتيانِ لأن الفعلَ يجري مَجْرى الكناية، فيُعَبَّر به عن كلِّ فعلٍ ويُغْني عن طول ما تَكْني به. وقال الزمخشري: "لو لم يَعْدِلْ من لفظِ الإتيانِ إلى لفظِ الفعلِ لاسْتُطِيل أن يقال: فإنْ لم تاتوا بسورةٍ من مثله ولَنْ تاتوا بسورةٍ مِنْ مثلِه". قال الشيخ: "ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه لو قال: "فإنْ لم تأتوا ولَنْ تأتوا" كان المعنى على ما ذَكَر، ويكونُ قد حَذَفَ ذلك اختصاراً، كما حَذَف اختصاراً مفعولَ {لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ}، ألا ترى أنَّ التقدير: فإنْ لم تفعلوا الإتيانَ بسورةٍ من مِثله، ولن تفعلوا الإتبانَ بسورةٍ من مثله".
و "لَنْ" حرفُ نَصْبٍ معناه نَفْيُ المستقبل، ويختصُّ بصيغةِ المضارع كـ "لم"، ولا يقتضي نََفْيُه التأبيدَ، وليس أقلَّ مدةً مِنْ نفي لا، و نونُه بدلاً من ألفِ لا، ولا هو مركباً من "لا أَنْ" خلافاً للخليلِ، وزَعَم قومٌ أنها قد تَجْزِمُ، منهم أبو عبيدةَ وأنشدوا:
227- لن يَخِبْ لانَ مِنْ رجائِك مَنْ حَرْ * رَكِ مِنْ دونِ بابِك الحَلَقَهْ
وقال النابغة:
278- ............................ * فلن أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ
ويُمْكِنُ تأويلُ ذلك بأنه مِمَّا سُكِّنَ فيه للضرورةِ.
(1/153)
---(1/153)
قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ} هذا جوابُ الشرطِ كما تقدم، والكثير في لغة العرب: "اتَّقى يتَّقي" على افْتَعَل يَفْتَعِلُ، ولغة تميم وأسد: تَقَى يَتْقي مثل: رَمَى يَرْمي، فيُسكِّنون ما بعد حرفِ المضارعة، حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم مَنْ يُحَرِّكُ ما بعد حرف المضارعة، وأنشدوا:
279- تَقُوه أيُّها الفِتْيانُ إنّي * رأيتُ الله قد غَلَبَ الجُدودا
وقال آخر:
280- .................. * تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تتلو
قوله تعالى: {النَّارَ} مفعول به، و "التي" صفتُها، وفيها أربع اللغاتِ المتقدمةِ، كقوله:
281- شُغِفَتْ بك اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمثلُ ما * بك ما بها مِنْ لَوْعةٍ وغَرامِ
وقال آخر:
282- فقلْ لِلَّتْ تَلُومُك إنَّ نَفْسي * أراها لا تُعَوَّذُ بالتَّميمِ
وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر صلةٌ وعائدٌ، والألفُ واللامُ في "النار" للعهدِ لتقدُّمِ ذكرها في سورة التحريم -وهي مكية- عند قوله تعالى: {قُوااْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
(1/154)
---(1/154)
}. والمشهورُ فتحُ واوِ الوَقود، وهو اسمُ ما يُوقَدُ به، وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور. ولم يجيءْ مصدرٌ على فَعُول غيرُ هذه الألفاظِ فيما حكاه سيبويه. وزاد الكسائي: الوَزُوع، وقُرئ شاذاً في سورة (ق) {وما مسَّنا من لَغوب} فتصير سبعةً، وهناك ذَكرْتُ هذه القراءةَ، ولكن المشهور أن الوقود والوَضوءَ والطَهور بالفتح اسمٌ وبالضم مصدرٌ، وقرئ شاذاً بضمها وهو مصدرٌ. وقال ابن عطية: "وقد حُكيا جميعاً في الحَطَب، وقد حُكيا في المصدر" انتهى. فإن أريدَ اسمُ ما يُوقد ب فلا حاجةَ إلى تأويل، وإنْ أَريد بهما المصدرُ فلا بدَّ من تأويلٍ وهو: إمَّا البمالغة أي جُعلوا نفس التوقُّدِ مبالغةً في وصفهم بالعذاب، وإمّا حذفُ مضافٍ: إمَّا من الأولِ أي أصحابُ توقدِها، وإمَّا من الثاني أي: يُوقِدُها إحراقُ الناس، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه.
والهاءُ في الحجارةِ لتأنيثِ الجمع.
قوله تعالى: {أُعِدَّتْ} فعلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والقائمُ مَقَامَ الفاعلِ ضميرُ "النار" والتاء واجبة، لأن الفعلَ أُسْنِدَ إلى ضمير المؤنث، ولا يُلتفت إلى قوله:
283- فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
لأنه ضرورةٌ خلافاً لابن كيسان. و "للكافرين" متعلقٌ به، ومعنى أُعِدَّت: هُيِّئَتْ، قال:
284- أَعْدَدْتَ للحَدَثان سا * بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدى
(1/155)
---(1/155)
وقرئ: "أُعْتِدَتْ" من العَتاد بمعنى العُدَّة. وهذه الجملةُ الظاهر أنها لا محلَّ لكونِها مستأنفةً جواباً لمَنْ قال: لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ وقال أبو البقاء: "محلُّها التنصبُ على الحالِ من "النار"، والعَامِلُ فيها اتقوا". قيل: وفيه نظرٌ فإنها مُعَدَّةٌ للكافرين اتَّقَوْا أم لم يَتَّقُوا، فتكونُ حالاً لازمةً، لكن الأصل في الحال التي ليسَتْ للتوكيدِ أن تكونَ منتقلةً، فالأَوْلَى أن تكونَ استئنافاً. قال أبو البقاء: "ولا يجوزُُ أن تكون حالاً من الضمير في "وَقُودُها" لثلاثة أشياء أحدها: أنها مضاف إليها. الثاني: أنَّ الحَطَب لا يعمل، يعني اسمٌ جامدٌ. الثالث: الفصلُ بين المصدرِ أو ما يَعْمَلُ عَمَلَهُ وبين مَا يَعْمَلُ فيه بالخبر وهو "الناسُ"، يعني أنَّ الوُقودَ بالضمِّ وإن كان مصدراً صالحاً للعملِ فلا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنه عاملٌ في الحالِ وقد فَصَلْتَ بينه وبينها بأجنبي وهو "الناسُ". وقال السجستاني: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} من صلة "التي" كقوله: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِيا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قال ابن الأنباري: "وهذا غَلَطٌ لأن "التي" هُنا وُصِلَتْ بقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} فلا يجوز أن تُوصل بصلةٍ ثانية، بخلافِ التي في آل عمران، قلت: ويمكن ألاَّ يكون غَلطاً، لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ {وَقُودُهَا النَّاسُ} -والحالةُ هذه- صلةٌ، بل إمَّا معترضةً لأنَّ فيها تأكيداً وإمَّا حالاً، وهذان الوجهان لا يَمْنَعهُما معنىً ولا صناعةً.
* { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(1/156)
---(1/156)
قولُه تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ}: هذه الجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها، عَطَفَ جملةَ ثوابِ المؤمنين على جملةِ عقابِ الكافرين، وجاز ذلك لأنَّ مذهبَ سيبويه -وهو الصحيح- أنه لا يُشْتَرَطُ في عطفِ الجملِ التوافُقُ معنىً، بل تعْطَفُ الطلبيةُ على الخبريةِ وبالعكس، بدليلِ قولِهِ:
285- تُناغي غَزالاً عند بابِ ابنِ عامرٍ * وَكَحِّلْ أكاقِيكَ الحسانَ بإثْمِدِ
وقول امرئ القيس:
286- وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ * وهل عند رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكونَ عطفاً على "فاتقوا" ليَعْطِفَ أمراً على أمر. وهذا قد رَدَّهُ الشيخ بأنَّ "فاتَّقُوا" جوابُ الشرط، فالمعطوفُ يكون جواباً لأنَّ حكمَه حكمُه، ولكنه لا يَصِحُّ لأنَّ تبشيرَه للمؤمنين لا يترتَّبُ على قولِهِ: فإنْ لَمْ تَفْعَلوا.
وقرئ: "وبُشِّرَ" ماضياً كبنياً للمفعولِ. وقال الزمخشري: "وهو عطف على أُعِدَّت". قيل: "وهذا لا يتأتَّى على إعرابِ "أُعِدَّتْ" حالاً لأنها لا تَصْلُحُ للحاليَّةِ".
والبِشارةُ: أولُ خبرٍ من خيرٍ أو شرٍّ، قالوا: لأنَّ أثرَها يَظْهَرُ في البَشَرة وهي ظاهِرُ جلدِ الإنسان، وأنشدوا:
287- يُبَشِّرُنِي الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي * فقُلْتُ له: ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ
وقال آخر:
288- وبَشَّرْتَنِي يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي * جَفَوْنِي وأنَّ الوُدَّ موعدُهُ الحَشْرُ
(1/157)
---(1/157)
وهذا رأي سيبويه، إلا أن الأكثرَ استعمالُها في الخير، وإن اسْتُعْمِلَتْ في الشرِّ فبقَيْدٍ، كقولِهِ تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} وإن أُطْلِقَتْ كانت للخير، وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنها تختصُّ بالخَيْرِ، لأنه تأوَّلَ مثلَ: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} على العكسِ في الكلامِ الذي يُقْصَدُ به الزيادةُ في غَيْظِ المُسْتَهْزَأ به وتألُّمِهِ. والفعلُ منها: بَشَرَ وبَشَّر مخففاً ومثقلاً، كقولَه: "بَشَرْتُ عيالي" البيت، والتثقيلُ للتكثيرِ بالنسبة إلى المُبَشِّرِ به. وقد قرئ المضارعُ مخففاً ومشدداً، وأمَّا الماضي فَلَمْ يُقْرَأْ به إلا مثقَّلاً نحو: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} وفيه لغةٌ أخرى: أَبْشَرَ مثل أَكْرَمَ، وأنكر أبو حاتم التخفيفَ، وليس بصوابٍ لمجيء مضارعِهِ. وبمعنى البِشارة: البُشور والتَبْشير والإبْشَار، وإن اختَلَفَتْ أفعالُها، والبِشَارَةُ أيضاً الجَمالُ، والبَشير: الجميلُ، وتباشير الفجرِ أوائلُهُ.
[وقرأ زيدٌ بنُ علي -رضي الله عنهما- "وبُشِّرَ": ماضياً مبنياً للمفعول قال الزمخشري: "عطفاً على "أُعِدَّت" انتهى. وهو غلط لأن المعطوف عليه [مِن] الصلة، ولا راجعَ على الموصولِ من هذه الجملةِ فلا يَصِحُّ أن يكونَ عطفاً على أُعِدَِّت].
وفاعلُ "بَشِّرْ": إمَّا ضميرُ الرسولِ عليه السلام، وهو الواضحُ، وإمَّا كلُّ مَنْ تَصِحُّ منه البشارةُ. وكونُ صلةِ "الذين" فعلاً ماضياً دونَ دونِهِ اسمَ فاعلٍ دليلٌ على أَنْ يستحقَّ التبشيرَ بفضلِ الله مَنْ وَقَعَ منه الإيمانُ وتَحَقَّقَ به وبالأعمالِ الصالحةِ.
والصالحاتُ جمعُ صالحة وهي من الصفاتِ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ في إيلائِها العواملَ، قال:
289- كيفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ * مِنْ آلِ لأَْمٍ بظهرِ الغَيْبِ تَأتِينِي
وعلامةُ نصبِه الكسرةُ لأنه من بابِ جَمْعِ المؤنث السالم ميابةً عن الفتحةِ التي هي أصلُ النصبِ.
(1/158)
---(1/158)
قولُه تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جناتٍ اسمُ أنَّ، و "لهم" خبرٌ مقدمٌ، ولا يجوز تقديمُ خبرِ "أنَّ" وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء، لأن الأصلَ": وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحُذِفَ حرفُ الجر مع أَنَّ، وهو حَذْفٌ مُطَّردٌ معها ومع "أَنْ" الناصبة للمضارعِ، بشرط أمْنِ اللَّبْسِ، بسبب طولهما بالصلة، فلما حُذِفَ حرفُ الجرّ جرى الخلافُ المذكورُ، فالخليل والكسائي يقولان: كأنَّ الحرفَ موجودٌ فالجرُّ باقٍ، واستدلَّ الأخفشُ لهما بقولِ الشاعر:
290- وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً * إليَّ لا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ
فَعَطْفُ "دَيْنٍ" بالجرِّ على محلِّ "أن تكون" يبيِّنُ كونَها مجرورةً، قيل: ويَحْتملُ أن يكونَ من بابِ عَطْفِ التوهُّم فلا دليلَ فيه. والفراء وسيبويه يقولانك وَجَدْناهم إذا حذفوا حرفَ الجر نَصَبُوا، كقولِهِ"
291- تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا * كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرَامُ
أي، بالديار، ولا يجوزُ الجرُّ إلا في نادرِ شعرٍ، كقولِهِ:
292- إذا قيلَ: أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ * أَشَارتْ كليبٍ بالأَكفِّ الأصابعُ
أي: إلى كُلَيْبٍ، وقولِ الآخر:
293- ........................ * حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأَعْلامِ
أي: إلى الاعلام.
والجَنَّةُ: البُسْتَانُ، وقيل: الأرضُ ذاتُ الشجرِ، سُمِّيَتْ بذلك لسَتْرِها مَنْ فيها، ومنه: الجنين لاستتارِه، والمِجَنُّ: التُرْس، وكذلك "الجُنَّة" لأنه يَسْتُر صاحبَه، والجِنَّة لاستتارِهم عن أعينِ الناسِ.
(1/159)
---(1/159)
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} هذه الجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ لأنها صفةٌ لجنَّات، و "تَجْرِي" مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ضمةٌ مقدرةٌ في الياءِ استثقالاً، وكذلك تُقَدَّرُ في كلِّ فعلٍ معتلٍّ نحو: يَدْعو ويَخْشَى إلاَّ أَنَّها في الألِفِ تُقَدَّرُ تعذُّراً.
والنهارُ جمع نَهْر بالفتح، وهي اللغة العالية، وفيه تسكينُ الهاءِ، ولكن "أَفْعال" لا ينقاسُ في فَعْل الساكنِ العينِ بل يُحْفظ نحو: أَفْراخ وأَزْنَاد وأَفراد.
والنهرُ دونَ البحرِ وفوقَ الجدولِ، وهل هو مجرى الماءِ أو الماءُ الجاري نفسُه؟ والأولُ أظهرُ، لأنه مشتقٌّ من نَهَرْت أي: وسَّعْتُ، قال قيس بن الخطيم يصفُ طعنةِ:
294- مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها * .....................
أي وَسَّعْتُ، ومنه: النهارُ لاتساعِ ضوئِهِ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماءِ مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ.
و {مِن تَحْتِهَا} متعلقٌ بتجري، و "تحت" مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ، وهو نقيضُ "فوق"، إذا أُضيفا أُعْرِبَا، وإذا قُطِعَا بُنْيَا على الضم. و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ وقيل: زائدةٌ، وقيل: بمعنى في، وهما ضعيفان.
واعلمْ أنه إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذات الشجرِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: من تحتِ عَذْقِها أو أشجارِها. وإن قيل بأنها الشجرُ نفسَه فلا حاجةَ إلى ذلك. وإذا قيل بأنَّ الأنهارَ اسمٌ للماءِ الجاري فنسبةُ الجَرْيِ إليه حقيقةٌ. وإنْ قيلَ بأنه اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجازٌ كقول مهلهل:
295- نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدكَ أُوقِدَتْ * واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
(1/160)
---(1/160)
قال الشيخ: "وقد ناقضَ ابنُ عطيةَ كلامَهُ هنا فإنه قال: "والأنهار: المياهُ في مجارِيها المتطاولةِ الواسعةِ" ثم قال: "نَسَبَ الجَرْيَ إلى النهر، وإنما يَجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً، كما قال تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وكما قال: نُبِّئْتُ أنَّ النار. البيت".
والألف واللامُ في "الأنهار" للجنس، وقيل: للعَهْدِ لِذِكْرِها في سورة القتال. وقال الزمخشري: "يجوزُ أَنْ تَكونَ عوضاً من الضمير كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أي: أنهارُها"، بمعنى أنَّ الأصلَ: واشتعلَ رأسي، فَعَوَّض "أل" عن ياء المتكلم، وهذا ليس مذهب البصريين، بل قال به بعض الكوفيين، وهو مردودٌ بأنه لو كانت "أل" عوضاً من الضمير لَما جُمع بينهما، وقد جُمع بينهما، قال النابغة:
296- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رفيقةٌ * بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
[فقال: الجيبِ منها]، وأمَّا ما وَرَدَ وظاهرُه ذلك فيتأتى تأويله في موضِعِه.
قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ} تقدَّم الكلامُ في "كُلَّما"، والعاملُ فيها هنا: "قالوا"، و "منها" متعلِّق بـ "رُزِقوا"، و "مِنْ" لابتداء الغاية وكذلك "مِنْ ثمرةٍ" لأنها بَدَلٌ من قولِه "منها" بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ، وإنما قُلْنَا بدلُ اشتمالٍ، لأنه لا يتعلَّقُ حرفان بمعنىً واحدٍ بعاملٍ واحدٍ إلا على سبيلِ البدليةِ أو العطفِ. وأجاز الزمخشري أن تكونَ "مِنْ" للبيانِ، كقولِك: رأيت منكَ أسداً. وفيه نظرٌ، لأنَّ مِنْ شرطِ ذلك أن يَحُلَّ مَحَلَّها موصولٌ وأن يكونَ ما قبلَها شيءٌ يَتَبَيَّنُ بها، وكونُها بياناً لِما بعدها بعيدٌ جداً وهو غيرُ المصطلح.
(1/161)
---(1/161)
و "رِزْقاً" مفعولٌ ثانٍ لـ "رُزِقوا" وهو بمعنى "مَرْزوقٍ"، وكونُه مصدراً بعيدٌ لقولِه: {هَاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} والمصدرُ لا يُؤْتَى به متشابهاً، وإنما يُؤْتى بالمرزوق كذلك.
قوله: "قالوا: هذا الذي رُزِقْنا مِنْ قبلُ" "قالوا" هو العاملُ في "كلما" كما تقدَّم، و {هَاذَا الَّذِي رُزِقْنَا} مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول، وعائدُ الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ، أي: رُزِقْناه. و "مِنْ قَبلُ" متعلِّقٌ به. و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قُطِعَتْ "قبلُ" بُنِيَتْ، وإنما بُنِيَتْ على الضَّمةِ لأنها حركةٌ لم تكنْ لها حالَ إعرابها. واختُلِفَ في هذه الجملةِ، فقيل: لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ لأنَّها استئنافيةٌ، كأن قيل لَمَّا وُصِفَت الجناتُ: ما حالُها؟ فقيل: كلما رُزِقوا قالوا. وقيل: لَهَا محلٌّ، ثم اختُلِفَ فيه فقيل: رفعٌ على أنه خبرث مبتدأ محذوفٍ، واختُلِفَ في ذلك المبتدأ، فقيل: ضميرُ الجنات أي هي كلما. وقيل: ضميرُ الذين آمنوا أي: هم كلما رُزقوا قالوا ذلك. وقيل: محلًّها نصبٌ على الحالِ وصاحبُها: إمَّا الذينَ آمنوا وإمَّا جنات، وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لأنها تَخَصَّصَتْ بالصفةِ، وعلى هذين تكونُ حالاً مقدَّرةً لأن وقتَ البشارةِ بالجناتِ لم يكونوا مرزوقينَ ذلك. وقيل: مَحَلُّهَا َنَصْبٌ على أنها صفةٌ لجنات أيضاً.
(1/162)
---(1/162)
قوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} الظاهرُ أنها جملةٌ مستأنفةٌ. وقال الزمخشري فيها: "هو كقولِكَ: فلانٌ أَحْسِنْ بفلان، ونِعْمَ ما فعل، ورأى من الرأي كذا، وكان صواباً، ومنه: {وَجَعَلُوااْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ} وما أشْبَه ذلك من الجملِ التي تُساق في الكلام معترضةً فلا محلَّ لها للتقرير". قلت: يعني بكونها معترضةً أي بين أحوالِ أهل الجنة، فإنَّ بعدها: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ}، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها أيضاً. وقيل: هي عطفٌ على "قالوا"، وقيل: محلُّها النصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعلُ "قالوا" أي: قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ، ولا بُدَّ من تقديرِ "قد" قبل الفعلِ أي: قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ، ولا بُدَّ من تقديرِ "قد" قبل الفعلِ أي: وقد أُتوا، وأصلُ أُتُوا: أُتِيُوا مثل: ضُرِبوا، فَأُعِلَّ كنظائرِه. وقرئ: وأتَوا مبنياً للفاعل، والضميرُ للوِلْدان والخَدَمْ للتصريحِ بهم في غير موضع. والضميرُ في "به" يعودُ على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أنَّ "هذا" إشارةٌ إليه. وقال الزمخشري: "يعودُ إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأنَّ قولَه: {هَاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن. ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي: بجنسَي الغنيّ والفقيرِ المدلولِ عليهما بقولِه: غنياً أو فقيراً". انتهى.
(1/163)
---(1/163)
قلت: يَعْنِي بقولِه: "انطوى تحتَه ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن" أنه لمَّا كان التقديرُ: مثل الذي رُزِقْناه كان قدِ انطوى على المرزوقَيْنِ معاً كما أنَّ قولَكَ: "زيدٌ مثل ُ حاتم" مُنْطَوٍ على زَيد وحاتم. قال الشيخ: "وما قالَه غيرُ ظاهر، لأنَّ الظاهر عَوْدُه على المرزوق في الآخرةِ فقط، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ، في الآخرةِ فقط، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه على المرزوق في الآخرةِ فقط، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ، لا سيما إذا فسَّرْتَ القبلِيَّةَ بما في الجنة، فإنه يتعيَّن عَوْدُه على المَرزوق في الجنةِ فقط، وكذلك إذا أَعْرَبْتَ الجملةَ حالاً، إذْ يَصيرُ التقديرُ: قالوا: هذا [مثلُ] الذي رُزقنا من قبل وقد أُتُوا به [متشابهاً]، لأنَّ الحاملَ لهم على هذا القول كَونُه أُتُوا به متشابهاً وعلى تقديرِ أن يكونَ معطوفاً على "قالوا" لا يَصِحُّ عَوْدُهُ على المرزوقِ في الدارَيْنِ لأنَّ الإتيانَ إذ ذاك يستحيل أن يكونَ ماضياً معنًى، لأنَّ العاملَ في "كلما" وما في حَيِّزها يتعيَّنُ هنا أن يكونَ مستقبلَ المعنى، لأنها لا تَخْلُو من معنى الشرط، وعلى تقديرِ كونها مستأنفةً لا يظهرُ ذلك أيضاً لأنَّ هذه الجملَ مُحَدَّثٌ بها عن الجنة وأحوالِها". وقولُه "مُتَشابهاً" حالٌ من الضميرِ في "به".
قوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} "لهم" خبرٌ مقدَّمٌ و "أزواجٌ" مبتدأ و "فيها" متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبرُ. قال أبو البقاء: "ولا يكونُ "فيها" الخبرَ لأنَّ الفائدَةَ تَقِلُّ، إذا الفائدةُ في جَعْلِ الأزواجِ لهم". وقوله: "مُطَهَّرَةٌ" صفةٌ وأَتَى بها مفردةً على حدِّ: "النساءُ طَهُرَتْ"، ومنه قولُ الشاعر:
297- وإذا العَذارى بالدُّخانِ تَلَفَّعَتْ * واستَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدورِ فَمَلَّتِ
(1/164)
---(1/164)
وقُرئ: "مُطَهَّراتٌ" على حَدِّ: النساءُ طَهُرْنَ. والزوجُ: ما يكونُ معه آخرُ، ويقال: "زَوْجٌ" للرجلِ والمرأةِ، وأمَّا "زَوْجَةٌ" فقليلٌ، ونَقَلَ الفراءُ أنها لغةُ تميمٍ، وأنشد للفرزدق:
298- وإنَّ الذي يَسْعى ليُفْسِدَ زوجتي * كساعٍ إلى أُسِدِ الشَّرى يَسْتَبيلُها
وفي الحديثِ عَنْ عَمَّارِ بن ياسر في حقِّ رضي الله عنهما: "والله إني لأعْلَمُ انها زوجتُه في الدنيا والاخرة" ذَكَرَه البخاري، واختاره الكسائي، والزوجُ أيضاً: الصَِّنْفُ، والتثنية: زَوْجان، والطهارةُ: النظافةُ، والفِعْلُ منها طَهَر بالفتح ويَقِلُّ الضم، واسمُ الفاعل منها "طاهر" فهو مقيسٌ على الأول شاذ على الثاني كخاثِر وحامِض من خَثُر اللبنُ وحَمْض بضمِّ العين.
قوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "هم" مبتدأ، و "خالدون" خبرُه، و "فيها" متعلقٌ به، وقُدِّم ليوافقَ رؤوسَ الآيِ. وأجازوا أن يكونَ "فيها" خبراً أولَ، و "خالدون" خبرٌ ثانٍ، وليس هذا بسديدٍ. وهذه الجملةُ والتي قبلَها عطفٌ على الجملةِ قبلَها حَسْب ما تقدَّم. وقال أبو البقاء: "هاتان الجملتان مستأنفتان، ويجوز أن تكونَ الثانيةُ حالاً من الهاءِ والميمِ في "لَهُمْ" والعاملُ فيها معنى الاستقرار".
والخُلود: المُكْثُ الطويلُ، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهايةَ له بطريقِ الحقيقة أو المجاز. قولان: قال زهير:
299- فلو كان حَمْدٌ يُخْلِدُ الناسَ لم تَمُتْ * ولكنَّ حَمْدَ الناسِ ليسَ بِمُخْلِدِ
وقال الزمخشري: "هو الثباتُ الدائمُ والبقاءُ اللازمُ الذي لا ينقطع" وأنشدَ لامرئ القيس:
300- ألا عِمْ صباحاً أيُّها الطللُ البالي * وهل يَعِمَنْ مَنْ كانَ في العُصُر الخالي
وهل يَنْعَمَنْ إلا سعيدٌ مُخَلَّدٌ * قليلُ الهُموم ما يبيت بأَوْجَالِ
(1/165)
---(1/165)
* { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }
قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} "لا يَسْتَحيي" جملةٌ في محل الرفع خبرٌ لـ "إنَّ"، واستفْعَلَ هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد، وقال الزمخشري: "إنه موافق له" أي: قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف، وقد جاء اسْتَحْيَى يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل: استقى يستقي، وقُرئ به، ويُرْوَى عن ابن كثير. واختُلف في المحذوفِ فقيل: عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل. وقيل: لامُها فوزنُه يَسْتَفِع، ثم نُقل حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ، ومن الحَذْفِ قولُه:
301- ألا تِسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي * محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ
وقال آخر:
302- إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه * كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
والحياءُ لغةً: تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعاب به، واشتقاقُه من الحياة، ومعنا على ما قاله الزمخشري: "نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال: نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ، كما قالوا: فلان هَلَك من كذا حياءً". انتهى. يعني قوله: "نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ" أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ، وحَشاهُ وهو ما احتوى عليه البطن، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك.
(1/166)
---(1/166)
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ، وقيل: مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا: "أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ" قوبل قولُهم ذلك بقوله: "إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ"، ونظيرُه قول أبي تمام:
303- مَنْ مُبَلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها * أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ.
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، وعليه: "إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ" البيت، واستَحْيَيْتُ منه، وعليه: "ألا نَسْتَحِي منا الملوكُ" البيت، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى "أَنْ يضربَ" بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه "أنَّ لهم جناتٍ".
و "يَضْرِبَ" معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: "ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً"، وقال بعضُهم: "لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة"، فعلى القول الأول يكونُ "مَثَلاً" مفعولاً و"ما" زائدةٌ، او صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُهم: "لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه: وقولُ امرئ القيس:
304- وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا * وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
(1/167)
---(1/167)
وقال أبو البقاء: "وقيل "ما" نكرةٌ موصوفةٌ"، ولم يَجْعَلْ "بعوضة" صفتَها بل جَعَلَها بدلاً منها، وفيه نظرٌ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً صفةً محذوفةً ولا ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ "بعوضةً" صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها بالجنسِ المُنَكَّرِ لإبهامِه فهي في معنى "قليل"، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج وثعلب، وتكون "ما" وصفتُها حينئذ بدلاً من "مثلاً"، و "بعوضةً" بدلاً من "ما" أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ "ما" صفة لـ "مثلاً"، و "بعوضةً" بدلاً من "ما" أو عطففَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ "ما" صفةٌ لـ "مثلاً"، أو نعتٌ لـ "ما" إنْ قيل: إنها بدلٌ من "مثلاً" كما تقدَّمَ في قولِ الفراء، وبدلٌ من "مثلاً" أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ: إنَّ "ما" زائدةٌ. وقيل: "بعوضة" هو المفعولُ و "مثلاً" نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ. وقيل: نُصِبَ على إسقاطِ الخافضـ التقديرُ: ما بينَ بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ "بَيْنَ" أُعربت "بعوضةً" بإعرابها، وتكونُ الفاءُ في قولِه: "فما فوقها" بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا:
305- يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ * ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ
أي: ما بينَ قَرْنٍ، وحَكَوا: "له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً"، وعلى القول الثاني يكونُ "مثلاً" مفعولاً أولَ، و "ما" تحتملُ الوجهين المتقدمين و "بعوضةً" مفعولٌ ثانِ، وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و "مَثَلاً" هو الثاني ولكنه قُدِّم.
(1/168)
---(1/168)
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم انَّ في "ما" ثلاثةَ أوجه: زائدةٌ، صفةٌ لما قبلَها، نكرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في "مَثَلاً" ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ، مفعولٌ ثانِ، حالٌ مقدَّمةٌ، وأنَّ في "بعوضة" تسعة أوجهٍ. والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ "ضَرَبَ" متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيِّن، متعدياً بمعنى بَيَّن، و "مثَلاً" مفعولٌ به، بدليلِ قولِه: {ضُرِبَ مَثَلٌ} و "ما" صفةٌ للنكرة، و "بعوضةً" بدلٌ لا عطفُ بيان، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ.
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع "بعوضةٌ"، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو "ما" على أنها استفهاميةٌ، أي: أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه. وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً لـ "ما" لكونِها بمعنى الذي، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في "أيّ" خاصةً لطولِها بالإضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ، كقراءةِ: {تَمَاماً عَلَى الَّذِيا أَحْسَنُ} وقولِه:
306- مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ * ولا يَحِدْ عن سبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ
أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ "ما" على هذا بدلاً من "مثلاً"، كأنه قيل: مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ. والثاني: ان تُجْعَلَ "ما" زائدةٌ أو صفةً وتكونَ "هو بعوضةٌ" جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ.
(1/169)
---(1/169)
قولُه: {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً. و "ما" في {فَمَا فَوْقَهَا} إن نَصَبْنا "بعوضةً" كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي، وصلتُها الظرفُ، أو موصوفةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها، لكنْ في جَعْلِنا "ما" وصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ، وإنْ جَعَلْنَا "ما" زائدةً أو صفةً لنكرة و "بعوضةٌ" خبراً لـ "هو" مضمراً كانت "ما" معطوفةً على "بعوضة".
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٍ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع، وكذلك البَضْعُ والعَضْب، قال:
307- لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار * إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا
ومعنى: {فَمَا فَوْقَهَا} أي: في الكِبَر وهو الظاهرُ، وقيل: في الصِّغَرِ.
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ} "أمَّا": حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله، كذا قدَّره سيبويه، قال: "أمَّا" بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ". وقال الزمخشري: "وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ، تقولُ: زيدٌ ذاهبٌ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت: امَّا زيدٌ فذاهبٌ" وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك. وقال بعضُهم: "أمَّا" حرفُ تفصيلٍ لشما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلا المبتدأ، وتَلْزَمُ الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدِّرٍ كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} أي: فيقالُ لهم: أَكَفَرْتُمْ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ، كقوله:
308- فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ * ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ
(1/170)
---(1/170)
أي: فلا قتالَ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت: "أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار" لم يَجُزْ، ويجوز أنْ يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها، متليٌّ أمّا كقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} ولا يجوز االفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء.
وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو: أمَّا عِلْماً فعالمٌ": فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه عند التميميين برُجْحَان، وضَعُفَ رفعُه، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع. وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ، نحو: "أمَّا العلمُ فعالمٌ" ونصبُ المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ، والمعرَّفُ مفعولٌ له. وأمَّا الأخفشُ فنصبُهما عنده على المفعول المطلق. والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو: أمَّا علماً فلا علَمَ له" أو: فإنَّ زيداً عالمٌ، لأن "لا" و "إنَّ" لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما، وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملَةُ خبرهُ، والتقديرُ: أمَّا علمٌ -او العلمُ- فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ، وفيها كلامٌ أطلُ من هذا.
(1/171)
---(1/171)
و {الَّذِينَ آمَنُواْ} في محلِّ رفع بالابتداء، و "فيعلمونَ" خبرُه. قوله: {فَيَعْلَمُونَ} الفاءُ جوابُ أمَّا، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و "أنَّه الحقُّ" سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ، ومِسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي: فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً. وقال الجمهور: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ النسبةِ فيما بعدَ "أنَّ" كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به، والضميرُ في "أنَّه" عائدٌ على المَثَل. وقيل: على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل، وقيل: على تَرْكِ الاستحياءِ. و "الحقُّ" هو الثابتُ، ومنه "حَقَّ الأمرُ" أي: ثَبَتَ، ويقابِلُه الباطلُ.
وقوله: {مِن رَّبِّهِمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن "الحق" أي: كائناً وصادراً مِنْ ربهم، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ. وقال ابو البقاء: "والعامل فيه معنى الحقِّ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه" أي: في الحق، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً.
قوله: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ} اعلَمْ أنَّ "ماذا صنعت" ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات: أن تكون "ما" اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ، و "إذا" اسمُ إشارةٍ خبرهُ. والثاني: أن تكونَ "ما" استفهاميةً وذا بمعنى الذي، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله:
209- ألا تَسْأَلانِ المرءَ كاذا يُحاوِلُ * أَنَحْبٌ فَيُقْضى أم ضَلالٌ وباطِلُ
(1/172)
---(1/172)
فـ "ذا" هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو "أَنَحْبٌ"، وكذا {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} في قراءة أبي عمرو. والثالث: أن يُغَلَّبَ حكمُ "ما" على "ذا" فَيُتْرَكَت ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه: {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} في قراءة غر أبي عمروٍ، و "ماذا أَنْزَلَ ربُّكم، قالوا: خيراً: عند الجميع، ومنه قوله:
310- يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم * لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا
فـ "ماذا" مبتدأ، و "بالُ نسوتكم" خبرُه. الرابع: أن يُجْعَلَ "ماذا" بمنزلةِ الموصول تغليباً لـ "ذا" على "ما"، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه، وهو قليلٌ جداً، ومنه قولُ الشاعر:
311- دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه * ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئيني
فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ. الخامسُ: زعم الفارسي أن "ماذا" كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد: "دَعي ماذا عَلِمْتَ" أي: دَعي شيئاً معلوماً وقد تقدَّم تأويلُه. السادس: -وهو أضعفَها- أن تكونَ "ما" استفهاماً و "ذا" زائدةً وجمعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً.
إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ} يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ الباقيةِ، أحَدُهما: أن تكونَ "ما" استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وذا بمعنى الذي، و "أراد الله" صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه، تقديره: أرادَه اللهُ، والموصولُ خبرُ "ما" الاستفهاميةِ. والثاني: أن تكونَ "ماذا" بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه: أيَّ شيء أرادَ الله، ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ.
(1/173)
---(1/173)
[والإرادةُ لغةً: طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه، وقد تتجرَّدُ للطلبِ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي: طَلَب، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِـ وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث].
قوله: "مَثَلاً" نصبٌ على التمييزِ، قيل: جاءَ على معنى التوكيدِ، لأنه من حيث أُشير إليه بـ "هذا" عُلِم أنه مثلٌ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه. وقيل: نصبٌ على الحال، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل: اسمُ الإشارةِ، والعاملُ فيها معنى الإشارةِ، وقيل: اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك، وقيل: على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، ومعناه عندهم: أنه كان أصلُه أَنْ يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ: بهذا المثلِ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ، وعلى ذلك قولُ امرئ القيس:
312- سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ * وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا
أصله: من البسر الأحمر.
قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} "الباء" للسببيةِ، وكذلك في {يَهْدِي بِهِ} وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ بـ "أمَّا"، وهما من كلام الله تعالى، وقيل: في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً، أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين، وهما على هذا من كلامِ الكفار, وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي: مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً. وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} من كلام الكفار، وجملةُ قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ، لأنه تقديراً إلى المثل، أي: بِضَرْب المَثَل، وقيل: الضمير الأول للتكذيبِ، والثاني للتصديق، ودلَّ على قُوَّةُ الكلام.
(1/174)
---(1/174)
وقُرئَ: "يُضِلُّ به كثيرٌ ويُهْدى به كثيرٌ، وما يُضِلُّ به إلا الفاسقُون" بالبناء للمفعول، وقُرئَ أيضاً: "يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ، وما يُضِلُّ بِه إلا الفاسقون" بالبناء للفاعل، قال بعضهم: "وهي قراءة القَدَرِيَّة" قلت: نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة، ثم قال: "وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثَقات الشاميّين" يعني قارئها، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف. فإن قيل: كيف وَصَف المهتدين هنما بالكثرةِ وهم قليلون، لقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرونفي الحقيقةِ كقولِهِ:
313- إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ * قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا
فصار ذلك باعتبارَيْن.
قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}. الفاسقين: مفعولٌ لـ "يُضِلُّ" وهو استثناءٌ مفرغٌ، وقد تقدَّم معناه، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه: وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله:
314- نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه * ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا
أي: لم ينجُ بشيء، ومنعَ ابو البقاء نصبَه على الاستثناءِ، كأنه اعتبرَ مذهبَ جمهورِ االبصريين.
والقِسْقُ لغةً: الخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها، أي: خَرَجَتْ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى، يقال: فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ. وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ، وهذا عجيب، قال رؤبة:
315- يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً * فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً
(1/175)
---(1/175)
* { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ}.. فيه أربعة أوجهٍ، أحدُها: أنْ يكونَ نعتاً للفاسقين. والثاني: أنه منصوبٌ على الذمِّ. والثالث أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ من قوله: {أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. والرابع: أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الفاسقون.
والنَّقْضُ: حَلَّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى. والعهدُ في كلامِهم على معانٍ منها: الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ. والخَسار: النقصانُ في ميزان أو غيره، قال جرير:
316- إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ * أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ
وخَسَرْتُ الشيء -بالفتح- وأَخَسَرْتُه نَقَصْتُه، والخُسْران والخَسار والخَيْسَرى كلُّه بمعنى الهلاك.
و "مِنْ بعد" متعلقٌ بـ "يَنْقْضُون"، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. و "ميثاقَه" الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد، وقال ابنُ عطية: "وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ:
317- أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني * وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا
أي: إعطائك"، ولا حاجة تدعُو إلى ذلك. والمادةُ تَدُلُّ على الشَدِّ والربطِ وجمعُه مواثيق ومياثِق وأنشد ابن الأعرابي:
318- حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا * ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ المَيَاثِقِ
(1/176)
---(1/176)
و "يقطعونَ" عطف على "ينقصون" فهي صلةٌ أيضاً، و "ما" موصولةٌ، و {أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} صلتُها، وعائدُها. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكونَ مصدرِيَّةً لعَوْدِ الضميرِ عليها إلا عند أَبي الحسن وابن السراج، وزهي مفعولةٌ بيَقْطَعون.
قوله: {أَن يُوصَلَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: الجرُّ على البدلِ من الضمير في "به" أي: ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ، كقول امرئ القيس:
319- أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ * فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً وتَبُوصُ
أي: أمِنْ نَأيِها. والنصبُ وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من ما أمر اللهُ بدلُ اشتمالٍ. والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، فقدَّره المهدوي: كراهةَ أن يُوصل، وقدَّرَهُ غيرُه: أن لا يُوصلَ. والرفع [على] فقدَّره المهدوي: كراهةَ أن يُوصل، وقدَّرَهُ غيرُه: أن لا يُوصلَ. والرفع [على] أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي هو أن يُوصلَ، وهذا بعيدٌ جداً، وإنْ كان أبو البقاء ذَكَرَهُ.
و {يُفْسِدُونَ} عطفٌ على الصلةِ أيضاً و {فِي الأرْضِ} متعلِّقٌ به. وقولُه {أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كقولِهِ: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكنَ هذه الجملةُ خبراً عن {الَّذِينَ يَنقُضُونَ} إذا جُعِلَ مبتدأً، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ. وتقدم معنى الخَسار، والأمرُ: طلبُ الأعلى من الأدنى.
* { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
(1/177)
---(1/177)
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}: "كيف" اسمُ استفهامٍ يُسْأَلُ بِهِ عن الأحوالِ، وبُنِيَ لتمُّنِهِ معنى الهمزة، وبُنِيَ على أخفِّ الحركات، وشَذَّ دخولُ حرفِ الجرِّ عليها، قالوا: "على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ"، وكونهُها شرطاً قليلٌ، ولا يُجْزَم بها خلافاً للكوفيين، وإذا أُبْدِل منها اسمٌ أو وَقَعَ جواباً لها فهو منصوبٌ إن كان بعدها فعلٌ متسلِّطٌ عليها نحو: كيف قمت؟ أصحيحاً أم سقيماً، وكيف سِرْت؟ فتقول: راشداً، وإلاَّ فرفوعان: نحو: كيف زيدٌ؟ أصحيحٌ أم سقيمٌ. وإنْ وقعَ بعدَها اسمٌ مسؤولٌ عنه بها فهو مبتدأٌ وهي خبرٌ مقدَّمٌ، نحو: كيف زيدٌ؟ وقد يُحْذَفُ الفعلُ بعدَها، قال تعالى : {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي كيف تُوالونهم. و "كيفَ" في هذه الآيةِ منصوبةٌ على التشبيهِ بالظرف عند سيبويه، أي: في أيِّ حالةٍ تكفُرون، وعلى الحالِ عند الأخفشِ، أي: على أي حالٍ تكفُرون، والعاملُ فيها على القولين "تكفرون" وصاحبُ الحالِ الضميرُ في تكفرون، ولم يَذْكر أبو البقاء غيرَ مذهبِ الأخفشِ، ثم قال: "والتقدير: معانِدين تكفرون. وفي هذا التقدير نظرٌ، إذ يذهبَ معه معنى الاستفهام المقصودِ به التعجبُ أو التوبيخُ أو الإنكارُ، قال الزمخشري بعد أَنْ جَعَلَ الاستفهامَ للإنكارِ: "وتحريرهُ أنه إذا أنْكَرَ أن يكونَ لكفرهم حالٌ يُوجَدُ عليها، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ موجودٍ لا بُدَّ له من حالٍ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ بغيرِ صفةٍ من الصفاتِ كان إنكاراً لوجودِه على الطريق البرهاني".
وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه: وأمَّا الذين كفروا إلى آخره، إلى الخطاب في قولِهِ: "تَكْفُرون، وكُنْتُم". وفائدتُهُ أنَّ الإنكارَ إذا توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ. وجاء "تكفرونَ" مضارعاً لا ماضياً لأنَّ المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك، ولئلا يكونَ ذلك تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر.(1/178)
(1/178)
---
و "كَفَرَ" يتعدَّى بحرف الجر نحو: {تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} {تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} {كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ} وقد تعدَّى بنفسه في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا.
قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الواوُ واوُ الحالِ، وعلامتُها أن يَصْلُح موضِعَها "إذ"، وجملَةُ {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} في محلِّ نصبٍ على الحال، ولا بد من إضمار "قد" ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً. وقال الزمخشري: "فإن قلت" كيف صَحَّ أن يكونَ حالاً وهو ماضٍ بها؟ قُلْتُ: لَمْ تَدْخُل الواوُ على {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} وحدَه، ولكنْ على جملة قوله: {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} إلى {تُرْجَعُونَ}، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتُكم هذه وحالُكم أنكم كنتم أمواتاً نُطَفَاً في أصْلاَبِ آبائكم فَجَعَلَكم أحياءً، ثم يُميتكم بعد هذه الحياة، ثم يُحْييكم بعد الموتِ ثم يُحاسِبُكم". ثم قال: "فإنْ قلتَ: بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً؟ قلت: هو العلمُ بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرونَ وأنتم عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها"؟ قال الشيخُ ما معناه: هذا تَكَلُّفٌ، يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية. قال: "والذي حَمَله على ذلك اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى". قال: "ولا يتعيَّن، بل يكونُ قولُه تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}.
(1/179)
---(1/179)
والفاءُ في قولِه: "فَأَحْيَاكُمْ" على بابِها مِن التعقيبِ، و "ثم" على بابها من التراخي، لأنَّ المرادَ بالموتِ الأول العدَمُ السابقُ، وبالحياةِ الأولى الخَلْقُ، وبالموتِ الثاني الموتُ المعهودُ، وبالحياةِ الثانية الحياةُ للبعثِ، فجاءت الفاءُ و "ثم" على بابِها من التعقيبِ والتنراخي على هذا التفسير وهو أحسنُ الأقوالِ، ويُعْزَى لابنِ عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوعُ إلى الجزاءِ أيضاً متراخٍ عن البعثِ. والضميرُ في "إليه" لله تعالى، وهذا ظاهرٌ لأنه كالضمائر قبلَه وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: إلى ثوابِهِ وعقابِه. وقيل: على الجزاءِ على الأعمالِ. وقيل: على المكانِ الذي يَتَوَلَّى اللهُ فيه الحكمَ بينكم. وقيل: على الإحياء المدلولِ عليه بأَحْياكم، يعني أنكم تُرْجَعون إلى الحالِ الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياةِ الأولى من كونِكم لا تَمْلِكُون لأنفسِكم شيئاً.
والجمهورُ على قراءة "تُرْجَعُون" مبنياً للمفعولِ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث جاء، ووجهُ القراءتين أنَّ "رَجَع" يكونُ قاصراً ومتعدياً، فقراءةُ الجمهورِ من المتعدِّي وهو أرجحُ؛ لأنَّ أصلَها: "ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ" لأنَّ الإسنادَ في الأفعالِ السابقة لله تعالى، فيناسِبُ أن يكونَ هذا كذا ولكنه بُنِيَ للمفعول لأجل الفواصل والقواطع.
وأَمْوات جمعُ "مَيِّت" وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ، والأَوْلَى أن يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل، وقد تقدَّمت هذه المادةُ.
* { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ}: هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها، وقد تُشَدَّد كقوله:
(1/180)
---(1/180)
320- وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها * وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
وقد تُسَكَّنُ، وقد تُحْذَفُ كقوله:
321- فَبَيْنَاهُ يَشْرِي ........... * ......................
والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه. و "لكم" متعلقٌ بَخَلَقَ، ومعناه السببيةُ، أي: لأجلِكم، وقيل: للمِلْك والإباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه، وقيلَ: للاختصاص، و "ما" موصولةٌ و "في الأرض" صلُتها، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها، و "جميعاً" حالٌ من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ،وهذا هو الفارقُ بين قولِك: "جاؤوا جميعاً" و "جاؤوا معاً"، فإنَّ "مع" تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع. قيل: وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه: "ما في الأرضِ" عامٌّ.
قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أصل "ثُمَّ" أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ -كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى- عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ.
واستوى معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوى العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر:
322- فَأَوْرَدَتْهُمْ مَاءً بفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ * وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى
وقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ، وفاعل استوى ضميرٌ يعودُ على الله، وقيل: يعودُ على الدخان نقله ابن عطية، وهذا غلطٌ لوجهين، أحدهُما: عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه، والثاني: أنه يَرُدُّهُ قولُه: ثُمَّ استوى إلى السماء، وهي "دُخانٌ". و "إلى" حرفُ انتهاءٍ على بابها، وقيل: هي بمعنى "على" فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر:
(1/181)
---(1/181)
323- قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ * مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْراقِ
أي: استولى، ومثلُه قول الآخر:
324- فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ * تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ
وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ، و {إِلَى السَّمَآءِ} متعلِّقٌ بـ "استوى"، و "فَسَوَّاهُنَّ" الضميرُ يعودُ على السماءِ: إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ، وقال الزمخشري: "هُنَّ" ضميرٌ مُبْهَمٌ، و "سبع سمواتٍ" يُفَسِّرُهُ كقولِهم: "رُبَّه رَجُلاً". وقد رُدَّ عليه هذا، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع: ضميرِ الشأن، والمجرور بـ "رُبَّ"، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسِّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه، ثم قال هذا المعترض: "إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ "سبع سمواتٍ" بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبِّه رجلاً، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما: أنه استوى إلى السماء. والثاني: أنه سَوَّى سبع سموات، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه.
(1/182)
---(1/182)
قوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في نصبه خمسةُ أوجه، أحسنُها: أنه بدلٌ من الضميرِ في {فَسَوَّاهُنَّ} العائدِ على السماءِ كقولِكَ: أخوك مررتُ به زيدٍ. الثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده. وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري، وقد تقدَّم آنِفاً. الثالث: أنه مفعولٌ به، والأصلُ: فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سمواتٍ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ} أي: مِنْ قومه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ. والثاني بالنسبة إلى المعنى. أمَّا الأولُ: فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما. الثاني: أنه يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سمواتٌ كثيرةٌ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك. الرابعُ: أنَّ "سَوَّى" بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكونُ "سبع" مفعولاً ثانياً، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ "سَوَّى" مثل صَيَّرَ. الخامس: أن ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش. وفيه بُعْدٌ من وجهين: أحدُهما: أنه حالٌ مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل. والثاني: أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ أيضاً.
قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "هو" مبتدأ و "عليمٌ" خبره، والحارُّ قبلَه يتعلَّق به.
واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء "هو" و "هي" بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم، نحو: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {لَهُوَ الْغَنِيُّ} {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} تشبيهاً لـ "هو" بعَضْد، ولـ "هي" بكَتْف، فكما يجوز تسكين عين عَضُد وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء "هو" و "هي" بعد الأحرفِ المذكورةِ، إجراء للمنفصل مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله:
325- فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي * سُلُوٌّ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا(1/183)
(1/183)
---
وبعد همزة الاستفهامِ كقوله:
326- فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي * فقلتُ أَهِيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ
وبعد "لكنَّ" في قراءة ابن حمدون: {لَّكِنَّ هْوَ اللَّهُ رَبِّي} وكذا من قوله: {يُمِلُّ هْوَ}.
فإن قيل: عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية، وإذا تأخَّرَ أَنْ يتعدَّى إيلع بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ، وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي، فأُعطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك الحُكْمَ: وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا، فإن كان الأول: فإمّا ان يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا، فإن كان الأولَ تعدَّت بالباء نحو: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به. وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو: أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب، ومنه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو: أنا أصبرُ على كذان وأنا صبورٌ عليه، وأزهدُ فيه منك، وزهيدٌ فيه. وهذا مقررٌ في علم النحو.
* { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
(1/184)
---(1/184)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ}: "إذ" ظرفُ زمانٍ ماضٍ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو: يومئذٍ وحينئذٍ، ولا يكون مفعولاً به، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين، فإنهم يُقَدِّرونَ: اذكر وقتَ كذا، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً لزاعمي ذلك، وقد تُحْذَفُ الحملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى: وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال:
327- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ * بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
وللأخفشِ أن يقولَ: أصلُه "وأنتَ حينئذٍ" فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه، نحو: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} بالجر، إلا أنه ضعيفٌ.
و {قَالَ رَبُّكَ} جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها.
(1/185)
---(1/185)
واعلم أنَّ "إذ" فيه تسعةُ أوجه، أحسنُها أنه منصوبٌ بـ {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، وهذا أسهلُ الأوجهِ. الثاني: أنه منصوبٌ بـ "اذكُرْ" مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب، "خَلَقَكم" المتقدمِ في قولِه: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} والواو زائدةٌ. وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ. الرابعُ: أنه منصوبٌ بـ "قال" بعده. وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف. الخامس: أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد. السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك. الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق، تقديرُه: ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف. التاسع: أنه منصوبٌ بـ "أحياكم" مقدَّراً، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً.
و "للملائكة" متعلِّقٌ بـ "قال" واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمع مَلَك. واختُلِف في "مَلَك" على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعَه فقط. وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من "أَلَك" أي: أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام، ويدلُّ عليه قوله:
328- أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً * غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر:
329- وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه * بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر:
(1/186)
---(1/186)
330- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا * أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ: مَألَك، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَفْعَل، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، فيكونُ وزنُ مَلَكَ: مَعَلاً بحَذْفِ الفاء. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لأك أي أرسل أيضاً، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال:
331- فَلَسْتُ لإنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ * تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلَيْنِ، فوزن ملائِكَة على هذا القول: مفاعِلَة، وعلى القولِ الذي قبلَه: معافِلَة بالقلب. وقيل: هو مشتقٌّ من: لاكَه يَلُوكه أي: أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه، فأصل مَلَك: مَلْوَك، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا: مصائِب ومنائِر، قُُرئ شاذاً: "معائِش" بالهمز، فهذه خمسةُ أقوال. والسادس: قال النضر بن شميل: "لا اشتقاقَ للملك عند العرب".
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر:
332- أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ
(1/187)
---(1/187)
قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} هذه الجملة معمولُ القولِ، فهي في محلِّ نصبٍ به، وكُسِرت "إنَّ" هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان: الفتحُ والكسرُ، وأنشدوا:
333- إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ * نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر
وكان ينبغي أن يُفْتَح ليسَ نظراً لمعنى الظنِّ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاةً لصورةِ القولِ.
و "إنَّ" على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ يجب فيه كَسْرُها، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان، وليس هذا موضعَ تقريرِه، بل يأتي في غضون السور، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ.
و "جاعلٌ" فيه قولان، أحدُهما أنه بمعنى خالق، فيكونُ "خليفةً" مفعولاً به، و "في الأرض" فيه حينئذ قولان، أحدُهما -وهو الواضح- أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه. القولُ الثاني: أنه بمعنى مُصَيِّر، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه، فيكونُ خليفةً" هو المفعولَ الأولَ، و "في الأرض" هو الثانيَ قُدِّم عليه، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر. و "خليفة" يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي: يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال: "إنَّ "خليفةً" جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة. وإنما وُحِّد "خليفة" وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة، وقيل: المعنى على الجنس.
وقرئ: "خليقةً" بالقاف.(1/188)
(1/188)
---
و "خليفةً" منصوبٌ بـ "جاعل" كما تقدَّم، لأنَّه اسمُ فاعل. واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية.
قوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ} قد تقدَّم أن "قالوا" عامل في "إذ قال ربُّك" وأنه المختارُ، والهمزةُ في "أتجعل" للاستفهامِ على بابها، وقال الزمخشري: "للتعجب"، وقيل: للتقرير كقوله:
334- ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا * وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
وقال أبو البقاء: "للاستشهاد"، أي: أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ" وهي عبارةٌ غريبةٌ. و "فيها" الأولى متعلقةٌ بـ "تَجْعَل" إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق، و "مَنْ يُفْسِدُ" مفعولٌ به، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون "فيها" مفعولاص ثانياً قُدِّم على الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإعراب، وعلى الثاني محلُّها النصب، و "فيها" الثانيةُ مُتَعلقةٌ بـ "يُفْسِدُ". و "يَسْفِكُ" عطفٌ على "يَفْسِدُ" بالاعتبارين.
والجمهورُ على رَفْعِهِ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار "أَنْ" كقوله:
335- أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى * وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
وقال ابن عطية: "منصوبٌ بواو الصَرْف" وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى واوِ الصرفِ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب، والمشهورُ "يَسْفِك" بكسر الفاء، وقُرئ بضمِّها، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير.
والسَّفْكُ: هو الصَّبُّ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ، وقال ابن فارس، والجوهري: "يُستعمل أيضاً في الدمع". وقال المَهدوي "ولا يُستعمل السقك إلا في الدَّمِ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ، يقال: سَفَكَ الكلامَ أي: نثره".
(1/189)
---(1/189)
والدِّماء: جمعُ دّمٍ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً، لقولِهم في التثنيةِ: دَمَوان ودَمَيان، قال الشاعر:
336- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا * جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
وهل وزنُ دم "فَعْل" بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان، وقد يُرَدُّ وحذوفُه، فَيُسْتعملُ مقصوراً وغيرِه، وعليه قولُه:
337- كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها * أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً
غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه * فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً
وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً، قال الشاعر:
338- أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه * يا عمروُ بُغْيُكَ إصراراً على الحَسَدِ
وأصلُ: الدِماء: الدِّماء أو الدِّماي، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو: كساء ورداء.
قولُه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} الواوُ للحال، و {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، في محلِّ النصب على الحال، و "بحمدك" متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ أيضاً، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك، نحو: "جاء زيد بثيابِه" فهما حالان متداخلتان، أي حالٌ في حال. وقيل: الباءُ للسببية، فتتعلَّق بالتسبيح. قال ابن عطية: "ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم: "بحمدِكَ" اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح ونقدِّس، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم، أي: وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك" قلتُ: كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه: حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك.
(1/190)
---(1/190)
والحمدُ هنا: مصدرٌ مضاف لمفعولِه، وفاعلُه محذوف تقديره: بحمدِنا إياك. وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو: ضرباً زيداً، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم.
و "نُقَدِّسُ" عطف على "نُسَبِّح" فهو خبر أيضاً عن "نحن" ومفعولُه محذوفٌ أي: نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك، و "لكم" كتعلِّقٌ بِه أو بـ "نُسَبِّح"، ومعناها العلةُ، وقيل: هي زائدةٌ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً، وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ نحو: سجدت لله، وقيل: هي للبيان، كهي في قولك: سُقْياً لك. فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: تقديسُنا لك. وهذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم: "أعني" لأنه أليقُ بالموضِع. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه "ونحنُ نسبِّح" داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه: وأنحن نسبِّح أم نتغيَّر. واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام المحضِ في قولهم: "أتجعلُ"، وهذا يَأْباه الجمهورُ، أعني حَذْفَ همزةِ الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر "أم" المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش، وجَعَل مِن ذلك قَولَه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أي: وأتلك نعمةٌ، وقول الآخر:
339- طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ * ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب
أي: وأذو الشيب، وقول الآخر:
340- أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً
أي: أأفرحُ، فأمَّا مع "أمْ" فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله:
341- فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً * بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ
أي: أبسبعٍ.
(1/191)
---(1/191)
والتسبيحُ: التنزيهُ والبَرَاءَةُ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد، ومنه السابحُ في الماء، فمعنى "سبحان الله" أي: تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ بجلالِه ومنه قولُ الشاعر:
342- أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ * سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر
أي: تنزيهاً، وهو مختصٌّ بالباري تعالى، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة: "إن أصلَه سبحانَ علقمةَ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه "مِنْ"، وقيل: تقديرُه: سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة"، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم، وفيه نظرٌ.
والتقديسُ: التَطْهير، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ، وبيت المَقْدِس، وروحُ القُدُس، وقال الشاعر:
343- فأدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنِّسا * كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ
أي: المطهَّرُ لهم. وقال الزَمخشري: "هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها وأبعدَ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح". انتهى.
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أصلُ إنِّي: إنني فاجتمع ثلاثةُ أمثال، فحذَفْنا أحدَها، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى؟ قولان الصحيحُ الثاني، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في {إِنَّا مَعَكُمْ} وبابه.
والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ، و "أعلمُ" يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ، و "ما" مفعولٌ به، وهي: إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي: تعلمونَه، وقال المهدوي، ومكي وتبعهما أبو البقاء: "إنَّ" أعلمُ "اسمٌ بمعنى عالم" كقوله:
344- لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ * على أيُّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ
(1/192)
---(1/192)
فـ "ما" يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ أو نصبٍ بـ "أَعْلَمُ" ولم يُنوَّنْ "أعلمُ" لعدمِ انصرافه، نحو: "هؤلاء حَوَاحُّ بيتَ الله" وهذا مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ، أحدُهما: جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه، والجمهورُ لا يثبتونها. وقيل: "أعلمُ" على بابها من كونِها للتفضيلِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: أعلمُ منكم، و "ما" منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل، أي: علمتُ نا لا تعلمون، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أوَّلوه من قول الشاعر:
345- فلم أرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبِّحاً * لا مثلَنا يومَ التَقْنَا فوارِساً
أَكَرَّ وأَحْمى للحقيقةِ منهمُ * وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا
فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر، أي بـ "ضَرَب"، لا بـ "أَضْرَبَ"، وفي ادَّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين: المفضَّلِ عليه والناصبِ لـ "ما".
* { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَاؤُلااءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
(1/193)
---(1/193)
قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا}.. هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإعرابِ لاستئنافِها، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على "قال ربك". و "عَلَّم" هذه متعديةٌ إلى اثنين، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً لواحدٍ لأتها عرفانيةٌ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ، وفَرَّقوا بين "عَلِم" العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ عَدَّوْها بالتضعيف، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ، ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين، وفاعلُ "عَلَّم" يعودُ على الباري تعالى، و "آدمَ" مفعولُه.
وفيه ستةُ أقوال، أرجحُها [أنه] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٌ، ووزنُه فاعَل كنظائِره نحو: آزَر وشالَح، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ الشخصيةِ، الثاني: أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ، الثالث: انه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض، [وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على هذين القولين للوزنِ والعلميةِ. الرابعُ: أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض] أيضاً على هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ. الخامس: أنه عِبْرِيٌّ من الإدام وهو الترابُ. السادس: قال الطبري: "إنه في الأصل فِعْلٌ رباعي مثل: أَكْرَم، وسُمِّي بع لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تثعْرَفَ جِهتُه" والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى، و "الأسماءَ" مفعولٌ ثانٍ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا، وله أحكامٌ تأتي إن شاء الله تعالى.
(1/194)
---(1/194)
وقُرئ: "عُلِّم" مبنياً للمفعول، و "آدمُ" رفعاً لقيامهِ مضقامَ الفاعلِ. و "كلَّها" تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم. وقولُه "الأسماء كلَّها" الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ، لأنَّ المعنى: وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ، [ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ]، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا المسميَّات، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه، فقيل: تقديرُه: أسماءَ المسمَّيات، فَحُذِفَ المضافُ إليه للعلم. قال الزمخشري: "وعُوَِّض منه اللامُ، كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} ورُجِّح هذا القول بقولِه تعالى: "أنبئوني بأسماء هؤلاءِ، فلمَّا انبأهم بأسمائهم، ولم يَقُل: أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم. ولكن في قوله: وعُوَّض منه اللام" نظرٌ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإضافةِ عند البصريين. وقيل: تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء، فَحُذِف المضافُ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه، ورُجِّح هذا القولُ بقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ. ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} تقديرُه: أو كذي ظُلُمات، فالهاءُ في "يَغْشَاه" تعودُ على "ذي" المحذوفِ.
(1/195)
---(1/195)
قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} "ثم" حرفٌ للتراخي كما تقدَّم، والضميرُ في "عَرَضَهُمْ" للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات، كما تقدَّم. وقيل: يعودُ على الاسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ: "عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ" إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ، أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ. و "على الملائكة" متعلق بـ "عرضهم".
قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَاؤُلااءِ} الإنباءُ: الإخبارُ، وأَصلُ "أنبأ" أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية، وقد يُحْذَفُ الحرفُ، قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا} أي: بهذا وقد يتضمَّن معنى "أَعْلَم" اليقينية، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل، ومثلُ أنبأ: نَبَّأ وأخبر، وخبَّر وحدَّث. و "هؤلاء" في محلِّ خفضٍ بالإضافة, وهو اسمُ إشارة ورتبتُه دنيا، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ، كقولِه:
346- هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْـ * أتَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ
والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً، وقد تُبْدَلُ همزتُه هاءً، فتقولُ: هَؤلاه، وقد يقال: هَوْلا، كقوله:
347- تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا * بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما
ولامُه عند الفارسي همزتُه فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ، وعند المبرِّد أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة.
(1/196)
---(1/196)
قوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قد تقدَّم نظيره، وجوابُه محذوف اي: إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ، وهو مردودٌ بقولِهِم: "أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ" لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ معه، كما تَجِبُ متأخراً، وقال ابن عطية: "إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه" وهو وَهْمٌ.
* { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ}.. "سُبْحان" اسمُ مصدرٍ وهو التسبيح، وقيل: بل هو مصدرٌ لأنه سُمِعَ له فعلٌ ثلاثي، وهو من الأسماء اللازمةِ للإضافة وقد يُفْرَدُ، وإذا أُفْرِد مُنِعَ الصرفَ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنونِ كقوله:
348- أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه * سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ
وقد جاء منوَّناً كقوله:
349- سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به * وقبلَنَا سبِّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
فقيل: صُرِف ضرورةً، وقيل: هو بمنزلة قبلُ وبعدُ، إن نُودي تعريفُه بقي على حالِه، وإن نُكِّر أُعْرِبَ منصرفاً، وهذا البيتُ يساعِدُ على كونِهِ مصدراً [لا اسمَ مصدرٍ] لورودِه منصرفاً. ولقائلِ القولِ الأولِ أن يُجيبَ عنه بأنّ هذا نظرةٌ لا معرفةٌ، وهو من الأسماءِ اللازمةِ النصبَ على المصدريةِ فلا يتصرَِّفُ، والناصبُ له فعلٌ مقدرٌ لا يجوزُ إظهارُه، وقد رُوي عن الكسائي أنه جَعَلَه منادى تقديرُه: يا سبحانَك، وأباه الجمهورُ من النحاةِ، وإضافتُه [هنا] إلى المفعولِ لأنَّ المعنى: تُسَبِّحُك نحنُ. وقيل: بل إضافتُه للفاعل، والمعنى: تنزَّهْتَ وتباعَدْتَ من السوء وسبحانَك، والعاملُ فيه في محلِّ نصبٍ بالقول.
(1/197)
---(1/197)
قوله: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} كقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} و "إلاَّ" حرفُ استثناء، و "ما" موصولةٌ، و "علَّمتنا" صلتُها، وعائدُها محذوفٌ، على أن يكونَ "عِلْم" بمعنى مَعْلُوم، ويجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً وهي في محلِّ نصب على الاستثناءِ، [ولا يجوز أن تكونَ منصوبةً بالعِلْم الذي هو اسمُ لا لأنه إذا عَمِل كان مُعْرباً]، وقيل: في محلِّ رفعٍ على البدلِ من اسم "لا" على الموضع. وقال ابن عطية: "هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم: "لا إلهَ إلا اللهُ" وفيهِ نظرٌ، لأن الاستثناءَ إنما هو من المحكومِ عليه بقيدِ الحكم لا مِن المحكومِ به. وهذا غيرُ معقولٍ لأنه كيف ينتصبُ الموصولُ بصلتِه وتَعْمَلُ فيه؟قال الشيخُ: "إلا أَنْ يُتَكَلَِّف لَه وجهٌ بعيدٌ، وهو أن يكونَ استثناءً منقطعاً بمعنى لكنْ، وتكونُ "ما" شرطيةً، و "علَّمتنَا" ناصبٌ لها وهو في محلِّ جَزْمٍ بها والجوابُ محذوفٌ، والتقديرُ: لكنْ ما علَّمْتنا عَلِمناه.
قولُه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أنتَ يَحتمِلُ ثلاثةَ أوجهٍ، أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ فيكونَ منصوبَ المحلِّ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه ما بعده والجملةُ خبرُ إنَّ، وأن يكونَ فَصلاً، وفيه الخلافُ المشهورُِ، وهل له محلُّ إعرابٍ أم لا؟ وإذا قيل: إنَّ له محلاًّ، فهل بإعرابِ ما قبلَه كقولِ الفراء فيكونُ في محلِّ نصبٍ، أو بإعراب ما بعده، فيكونُ في محلِّ رَفعٍ كقول الكسائي؟ و "الحكيمُ" خبَرٌ ثانٍ أو صفةٌ للعليم، وهما فَعِيل بمعنى فاعِل، وفيهما من المبالغةِ ما ليس فيه.
والحُكْم لغةً: الإتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابَّة وقال جرير:
350- ابني حُنَيْفَةَ أحْكِموا سفهاءَكُم * إني أخافُ عليكُمُ أَنْ أغْضَبَا
(1/198)
---(1/198)
وقَدَّم "العليم" على "الحكيم" لأنه هو المتصلُ به في قولِه: "عَلَّم" وقولِه: "لا عِلْمَ لنا"، فناسَبَ اتِّصالَه به، ولأنَّ الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العِلْمِ وأثرٌ له، وكثيراً ما تُقَدَّمُ صفةُ العِلْم عليها،والحكيمُ صفةُ ذاتٍ إنْ فُسِّر بذي الحكمةِ، وصفةُ فِعْلٍ إنْ فُسِّر بأنه المُحْكِمُ لصَنْعَتِه.
* { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيا أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قوله تعالى: {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ}.. "آدَمُ" مبنيٌّ على الضم لأنه مفردٌ معرفةٌ، وكلُّ ما كان كذلكُ بني على ما كان يُرْفع به، وهو في مَحلِّ نصبٍ لوقوعه موقعَ [المفعولِ به فإنَّ تقديره: أدعو آدمَ، وبُنِي لوقوعِه موقعَ] المضمرِ، والأصلُ: يا إياك، كقولهم: "يا إياك قد كُفِيْتُكَ" ويا أنتَ كقوله:
351- يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا * انتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا
قد أحسنَ اللهُ وقد أَسَأْتَا
و "يا إياك" أقيسُ من "يا أنت" لأنَّ الموضعَ موضعُ نَصْبٍ، فإياك لائقٌ به، وتحرَّزْتُ بالمفردِ من المضافِ نحو: يا عبدَ الله، ومن الشبيهِ به وهو عبارةٌ عَمَّا كان الثاني فيه من تمامِ معنى الأول نحو: يا خيراً من زيدٍ ويا ثلاثةً وثلاثين، وبالمعرفة من النكرةِ غيرِ المقصودة نحو قوله:
352- أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ * ندامَاي مِنْ نجرانَ إلاَّ تلاقِيا
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربةٌ نصباً.
(1/199)
---(1/199)
و "أنْبِئْهُمْ" فعلُ امر وفاعلٌ ومفعولٌ، والمشهورُ: أَنْبِئْهُمْ مهموزاً مضمومَ الهاء، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ لحركةِ الباء ولم يَعْتَدَّ بالهمزةِ لأنها ساكنةٌ، فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ، وقُرِئ بحَذْفِ الهمزةِ ورُوِيَتْ عن ابنِ كثير، قال ابن جني: "هذا على إبدالِ الهمزةِ ياءً كَمَا تقولَ: أَنْبَيْتُ بزنة أَعْطَيْت. قال: "وهذا ضعيفٌ في اللغة لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبَدلُ عندنا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ"، وهذا من أبي الفتح غيرُ مُرْضٍ لأن البدل جاء في سَعَةِ الكلام، حكى الأخفشُ في "الأوسط" له أنهم يقولون في أَخْطَأْت أَخْطَيْتُ، وفي توضَّأْت: توضَّيْتُ، قال: "وربما حَوَّلوه إلى الواو، وهو قليلٌ، قالوا: رَفَوْتُ في رَفَأْتُ ولم يُسْمع رَفِيْتُ".
إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها: ها يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غير المُبْدل [أم لا] نظراً إلى أصلِه، واستدلَّ بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير:
353- جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه * سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ لأنَّ أصله "يُبْدَأ" بالهمزةِ فكذلك هذه الآيةُ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً ثم حُذِفَتَ حَمْلاً على المجزومِ. وقُرئ "أنبيهم" بإثباتِ الياء نظراً إلى الهمزةِ زهل تُضَمُّ الهاءُ نظراً للأصلِ أم تُكْسَرُ نظراً للصورة؟ وجهان مَنْقولان عن حمزةَ عند الوقفِ عليه.
و "بأسمائِهم" متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم، وقد يتعدَّى بـ "عن" نحو: انبأْتُه عن حالِه، وأمَّا تعديتُه بـ "مِنْ" في قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فسيأتي في موضعه إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
(1/200)
---(1/200)
قوله: {قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيا أَعْلَمُ} الاية. "قال" جوابُ "فلمَّا" والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ} أي: قد شرحنا و "لم" حرفُ جزمٍ وقد تَقَدَّمَ أحكامُها، و "أَقُلْ" مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وي الواوُ لالتقاءِ الساكنين. و "لكم" متعلقٌ به، واللامُ للتبليغِ. والجملةُ من قوله: إني أَعْلَمُ" في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ. وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ إلى إعادتِه.
قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} كقولِه: {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من كونِ "أَعْلَمُ" فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل، وكونِ "ما" في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم. والظاهرُ: أن جملة قولِه: "وأعلمُ" معطوفةٌ على قولِه: {إِنِيا أَعْلَمُ غَيْبَ}، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال أبو البقاء: "إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ"، ثم جَوَّزَ فيه ذلك.
و "تُبْدُون" وزنه: تُفْعون لأن أصله تُبْدِوُونَ مثل تُخْرِجون، فَأُعِلَّ بحذْفِ الواو بعد سكونها. والإبداءُ: الإظهارُ. والكَتْمُ: الإخفاءُ، يقال: بَدا يَبْدُو بَداءً، قال:
354- ..................... * بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ بَداءُ
قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}: "ما" عطفٌ على "ما" بحسَبِ ما تكونُ عليه من الإعرابِ.
* { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
(1/201)
---(1/201)
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ}: الهاملُ في "إذ" محذوفٌ دلَّ عليه قولُه: "فَسَجَدوا" تقديرُه: "فَسَجَدوا" تقديرُه: أطاعوا وانقادُوا فسجدوا، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ، وقيل: العاملُ "اذكُرْ" مقدرةً، وقيل: [إذ] زائدةٌ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين. وقال ابن عطية: "وإذ قلنا معطوفٌ على "إذ" المتقدمةِ" لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين، وقيل: "إذ" بدلٌ منة "إذ" الأولى، ولا يَصحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ، وجملةُ "قلنا" في محلِّ خفضٍ بالظرفِ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلمِ للعظمةِ، واللامُ للتبليغ كنظائِرها.
(1/202)
---(1/202)
والمشهورُ جَرُّ تاءِ "الملائكة" بالحرفِ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاًلضمةِ الجيم، ولم يَعْتَدَّ بالساكن، وغَلَّطه الجَّاج، وخطّأه الزجَّاج، وخطّأه الفارسي، وشَبَّهه بعضُهم بقولِه تعالى: {وَقَالَتِ اخْرُجْ} بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها، والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ. وقال الزمخشري: "لا يجوزُ استهلاكُ الحركةِ الإعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ: {الْحَمْدِ للَّهِ} يعني بكسر الدال"، قلتُ: وهذا أكثرُ شذوذاً، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من الضعفِ المتقدِّم، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً، وقال أبو البقاء: "وهي قراءةٌ ضعيفةٌ جداً، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإشارَةَ. وقيل: إنه نوى الوقفَ على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم، وهذا من إجراء الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ. ومثلُه: ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت: "أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه" نوتِ الوقف على"سَوْءَة" فسكَّنَتِ التاءَ ثم ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ "أنتنَّ". قلت" فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ التقاءِ ساكنين، وحينئذٍ يكونُ كقوله: {قَالَتِ اخْرُجْ} وبابه، وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارئِها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ، وترجمتُهما مشهورةٌ.
و "اسجُدوا" في محلِّ نصبٍ بالقولِ، واللامُ في "لآدمَ" الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا، ومعناها التعليلُ اي لأجلِه وقيل: بمعنى إلى، أي: إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم، والسجودُ لله. وقيل: بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ، وقيل: اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك.
(1/203)
---(1/203)
و "فسجدوا" الفاءُ للتنعقيب، والتقديرُ: فسَجدوا له، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به. قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} [إلا] حرفُ استثناءٍ، و "إبليس" نصبٌ على الاستثناء. وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا، أو بفعلٍ محذوف أو بـ "أنَّ"؟ أقوالٌ، وهل هواستثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، والأصحُّ أنه متصلٌ. وأمَّا قولُه تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} فلا يَُرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِتنانِهم قال:
355- وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً * قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ
وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} يعني الملائكةَ.
واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ: قسمٍ واجبِ النصبِ، وقسم واجبِ الجرِّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ، وقسمٍ جائزٍ النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ. القسم الأول: المستثنى من الموجبِ والمقدِّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ، نحو: قام القومُ إلا زيداً، ما قَام إلا زيداً القومُ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً، وقاموا إلا حماراً، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً. القسم الثاني: المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء. القسم الثالث: المستثنى بعدا وخلا وحاشا. القسمُ الرابع: المستثنى من غيرِ الموجب نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ
}. والسجودُ لغةً: التذلُّلُ والخضوعُ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ علىلأرضِ، وقال ابن السكيت: "هو المَيْلُ" قال زيدٌ الخيل:
356- بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته * تَرَى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ
[يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا]، وقال آخر:
(1/204)
---(1/204)
357- .......................... * سُجودَ النصارى لإَحْبارِها
وفَرَِّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد، فسجد: وََضَعَ جَبْهَتَه، وأسْجَدَ: أمال رأسَه وطأطأها، قال الشاعر:
358- فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ * سُجودَ النَّصارى لأرْبابها
وقال آخر:
359- وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا * ...........................
يعني: أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يَسْجُدون لها، قال الشاعر:
360- .................................. زافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ
وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل: اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ للعلَمِيَّة والعَجْمةِ، وهذا هوالصحيحُ، وقيل: إنه مشتقٌّ من الإبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها، قال:
361- وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ * ........................
وقال آخر:
362- يا صاحِ هل تَعْرَفُ رَسْماً مُكْرَسَا * قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا
أي: بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به، ووزنُه عند هؤلاء: إِفْعيل، واعتُرِضَ عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في العربية كثيرٌ، نحو: إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل. وقيل: لمَّا لم يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه بُعْدٌ.
قوله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال: فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} تامٌّ. وقال أبو البقاء: "في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه: تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على "واستكبر" وجَوَّز في قولِه تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً.
والإباء: الامتناعُ، قالَ الشاعر:
(1/205)
---(1/205)
363- وإما اَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا * وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإباءُ
وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ، قال الله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} والمشهورُ أبى يأبى بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تِئْبى ونِئْبى. وقيل: لمَّا كانت الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تِئْبَى ونِئْبَى. وقيل: لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح لأجلها عين المضارع. وقيل: أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع، وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال: أبى يأبى -بالفتح فيهما- استغنى بمضارع مَنْ قال: أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو: ركَن يركَنُ وبابِه.
واستكبر بمعنى تكبَّر, وإنما قدَّم الإباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب. وقوله "وكان" قيل: هي بمعنى صار كقوله:
364- بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها * قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها
أي: قد صارَتْ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال: "تَرُدُّه الأصولُ" والأظهر أنها على بابها، والمعنى: وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي، أو: في عِلْم الله.
* { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }
(1/206)
---(1/206)
قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}: هذه الجملةُ كعطوفةٌ على جملةِ: "إذْ قلنا" لا على "قُلْنا" وحدَه لاختلافِ زمنَيْهِما، و "أنت" توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في "اسكُن" ايصِحَّ العطفُ عليه، و "زوجُك" عَطْفٌ عليه، هذا مذهبِ البصريين، أعني: اشتراط الفصلِ بين المتعاطِفَيْن إذا كان المعطوفُ عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يُشْترط أن يكونَ الفاصلُ توكيداً، [بل] أيَّ فصلٍ كان، نحو: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا:
365- قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى * كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريينَ ضرورةً لا يُقاسُ عليه. وقد مَنَعَ بعضَهُم أن يكونَ "زوجُك" عطفاً على الضميرِ المستكنِّ في "اسكُنْ" وجعله من عطفِ الجملِ، بمعنى أن يكونَ "زوجُك" مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: وَلَتَسْكُنْ زوجك، فحُذِف لدلالة "اسكنْ" عليه، ونَظَّره بقولِه تعالى: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} وزعم أنه مذهبُ سيبويهِ، بنصِّه يخالِفُه، ولأنَّه لا خلافَ في صِحَّةِ: "تقوم هندٌ وزيدٌ"، ولا يَصِحُّ مباشرةُ زيدٍ لـ "تقوم" لتأنيثه.
والسكونُ والسُّكْنى: الاستقرارُ. ومنه: المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه وتصرُّفِه، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ، والسِّكِينة لأنَّ بها يَذْهَبُ القلقُ.
و "الجنَّةَ" مفعولٌ به لا ظرفٌ، نحو: سَكَنْتُ الدارَ. وقيل: هي ظرفٌ على الاتساعِ، وكان الأصلُ تعديتَه إليها بـ "في"، لكونها ظرفَ مكان مختصٍّ، وما بعد القولِ منصوبٌ به.
(1/207)
---(1/207)
قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} هذه الجملةُ عَطْفٌ على "اسكُنْ" فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، وأصلُ كُلْ: أُأْكُلْ بهمزتين: الأولى همزةُ وصلٍ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل: اُوكُلْ بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ، ومثلُه: خُذْ ومُرْ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر: جُرْ. ولا تُرَدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول: قم وخذ وكُلْ، إلا "مُرْ" فإنَّ الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} وعدمُ الردِّ قليلٌ، وقد حَكَى سيبويه: "اؤْكُلْ" على الأصلِ وهو شاذٌّ. وقال ابن عطية: "حُذِفَتْ النونُ من "كلا" [للأمر]" وهذه العبارةُ مُوهِمةٌ لمذهبِ الكوفيين من أنَّ الأمرَ عندهم مُعْربٌ على التدريجِ كما تقدَّم، وهو عند البصريين محمولٌ على المجزومِ، فن سُكِّنَ المجزومُ سُكِّن الأمرُ منه، وإنْ حُذِفَ منه حرفٌ حُذِفَ من الأمر.
و "منها" متعلِّقٌ به، و "مِنْ" للتبعيضِ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ ثمارِها، ويجوز أن تكونَ "مِنْ" لابتداءِ الغاية وهو أَحْسَنُ، و "رَغَداً" نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ. وقد تقدَّم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوِه أن ينتصبَ حالاًن وقيل هو مصدر في موضع الحال أي: كُلا طيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ؟
(1/208)
---(1/208)
زقُرئ: "رَغْداً" بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ. وقال بعضُهم: كل فعلٍ حلقيٍّ العين صحيحِ اللامِ يجوزُ فتحُ عينِه وتسكينها نحو: نهر وبحر. وهذا فيه نظرٌ بل المنقولُ أنَّ فعْلاً بسكونِ العينِ إذا كانت عينُه حلقيةً لا يجوزُ فتحُها عند البصريين إلا أَنْ يُسْمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه، ويكون ذلك على لغتين لأنَّ إحداهما مأحوذةٌ من الأخرى. وأمَّا الكوفيون فبعضُ عذا عندهم ذو لغتين، وبعضُه أصلُه السكونُ ويجوز فتحُه قياساً، أمَّا أنَّ فعَلاً المفتوحَ العينِ الحلقِيِّها يجوزُ فيه التسكينُ فيجوز في السَّحَر: السَّحْر فهذا لا يُجيزه أحد. والرغَدُ: الواسِعُ الهنيئُ، قال امرؤ القيس:
366- بينما المرءُ تراهُ ناعماً * يَأْمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغَدْ
ويقال: رَغُِدَ عيشُهم بضم الغين وكسرها وأَرْغَدَ القومُ: صاروا في رَغَد.
قوله: {حَيْثُ شِئْتُمَا} حيث: ظرفُ مكانٍ، والمشهور بناؤُه على الضم لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهاً بـ "قبل" و "بعد". ونقل الكسائي إعرابَها عن فَقْعَس، وفيها لغاتٌ: حيث بتثليث الثاء وحَوْث بتثليثها أيضاً، ونُقل: حاث بالألف، وهي لازمةُ [الظرفيةِ لا تتصرفُ، وقد تُجَرُّ بمِنْ كقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ} {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وهي لازمةٌ] للإضافة إلى جملةٍ مطلقاً ولا تُضاف إلى المفرد إلا نادراً، قال:
367- أَمَا تَرى حيثُ سهيلٍ طالِعا * .........................
وقال آخر:
368- وَنَطْعَنُهم تحت الحُبَة بعد ضَرْبهم * ببيضِ المواضي حيثُ لَيِّ العَمائم
وقد تُزاد عليها "ما" فتجزمُ فعلين شرطاً وجزاء كإنْ، ولا يُجْزَمُ بها دونَ "ما" خلافاً لقوم، وقد تُشَرَّبُ معنَى التعليلِ، وزعم الأخفش أنها تكونُ ظرفَ زمانٍ وأنشد:
369- للفتى عَقْلٌ يَعيشُ به * حيث تَهْدي ساقَهُ قَدَمُهْ
ولا دليلَ فيه لأنها على بابِها.
(1/209)
---(1/209)
والعامِلُ فيها هنا "كُلا" أي: كُلا أيَّ مكانٍ شِئْتُم تَوْسِعَةً عليهما. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ بدلاً من "الجنَّة"، قال: "لأنَّ الجنةَ مفعولٌ بها، فيكون "حيث" مفعولاً به" وفيه نظرٌ لأنها لا تتصرَّف كما تقدَّم إلا بالجرِّ بـ "مِنْ".
قوله: "شِئْتُمَا": الجملةُ في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها. وهل الكسرةُ التي على الشين أصلٌ كقولِك: جِئْتُما وخِفْتُما، أو مُحَوَّلة من فتحة لتدلَّ على ذواتِ الياءِ نحو: بِعتما؟ قولان مبنيَّان على وزنِ شَاءَ ما هو؟ فمذهب المبرد أنه: فَعَل بفتحِ العينِ، ومذهبُ سيبويه فَعِل بكسرِها ولا يَخْفَى تصريفُهما.
قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ} لا ناهيةٌ، و "تَقْرَبا" مجزومٌ بها حُذِفَتْ نونُه. وقُرئ: "تِقْرَبا" بكسر حرف المضارعة، والألفُ فاعلٌ، و "هذه" مفعولٌ به اسمُ إشارةِ المؤنث، وفيها لغاتٌ: هذي وهذهِ [وهذهِ] بكسرِ الهاءِ بإشباعٍ ودونِهِ وهذهْ بسكونِه، وذِهْ بكسر الذالِ فقط، والهاءُ بدلٌ من الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ. قال ابنُ عطية -ونُقِلَ أيضاً- عن النحاس- "وليس في الكلام هاءُ تأنيثٍ مكسورٌ ما قبلَها غيرُ "هذه". وفيه نظرٌ، لأن تلك الهاء التي تَدُلُّ على التانيث ليستْ هذه، لأن تيكَ بدلٌ من تاءِ التأنيث في الوقف، وأمَّا هذه الهاءُ فلا دلالةَ لها على التأنيثِ بل الدالُّ عليه مجموعُ الكلمةِ، كما تقول: الياءُ في "هذي" للتأنيثِ. وحكمُها في القُرْبِ والبُعْدِ والتوسط ودخولِ هاءِ التنبيه وكاف الخطاب حكمُ "ذا" وقد تقدَّم. ويُقال فيها: أيضاً: تَيْكَ وتَيْلَكَ وتِلْكَ وتالِك، قال الشاعر:
370- تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا * وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً
قال هشام: "ويقال: تافَعَلَتْ"، وأنشدوا:
371- خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ * بتا الدارِ إلاَّ عابرَ سبيلٍ
(1/210)
---(1/210)
و "الشجرةِ" بدل من "هذه"، وقيل: نعتٌ لتأويلِها بمشتق، أي: هذه الحاضرةَ من الشجر. والمشهورُ أن اسمَ الإشارةِ إذا وقع بعده مشتقٌّ كان نعتاً له، وإن كان جامداً كان بدلاً منه. والشجَرةُ واحدة الشَّجَر، اسم جنس، وهو ما كان على ساقٍ بخرف النجم، وسيأتي تحقيقُهما في سورة "الرحمن" إن شاء الله تعالى. وقرئ: "الشجرة" بكسر الشينِ والجيمِ وسكونِ الجيمِ، وبإبدالها ياءً مع فتحِ الشين وكسرِها لقُرْبِها منها مَخْرجاً، كما أُبْدِلَتِ الجيمُ منها في قوله:
372- يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ * فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ
يريد بذلك حَجَّتي وبي، وقال آخر:
373- إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى * فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من شِيَرَاتِ
وقال أبو عمرو: "إنما يقرأ بها برابِرُ مكةَ وسُودانُها". وجُمعت الشجرُ أيضاً على شَجْراء، ولم يأتِ جمعٌ على هذه الزِنة إلا قَصَبَة وقَصْباء، وطَرَفَة وطَرْفاء وحَلَفة وحَلْفاء، وكان الأصكعي يقول: "حَلِفة بكسر اللام" وعند سيبويه أنَّ هذه الألفاظَ واحدةٌ وجمعٌ.
وتقول: قَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع أي: التبَسْتُ به، وقال الجوهري: "قَرُب بالضمِّ يقرُبُ قُرْباً أي: دَنَا، وقَرِبْتُهُ بالكسر قُرْبَاناً دَنَوْتُ [منه]، وقَرَبْتُ أقرُبُ قِرابَةً مثل: كَتَبْتُ أكتُبُ كِتابة إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه لَيْلَةٌ. وقيل: إذا قيل: لا تَقْرَبْ بفتح الراء كان معناه لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ وإذا قيل: لا تَقْرُب بالضمَّ كان معناه: لاَ تَدْنُ منه".
قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدُهما: أَنْ يكونَ مجزوماً عطفاً على "تَقْرَبَا" كقولِهِ:
374- فقلت له: صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ * فَيُذْرِكَ من أُخرى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
(1/211)
---(1/211)
والثاني: أنه منصوبٌ على جوابِ النهي كقولِهِ تعالى: {لاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ} والنصبُ بإضمارِ "أَنْ" عند البصريينَ، وبالفاءِ نفسِها عند الجَرْمي، وبالخلافِ عند الكوفيين، وهكذا كلُّ ما يأتي مثلَ هذا.
و {مِنَ الْظَّالِمِينَ} خبرُ كان. والظُلْمُ: وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه ومنه قيل للأرضِ التي لم تستحقَّ الحفرَ فتُحْفَر: مظلومةٌ، وقال النابغة الذبياني:
375- إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا * والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقيل: سُمِّيَتنْ مَظلومةً لأنَّ المطرَ لا يأتيها، قال عمرو بن قَمِيئَةَ:
376- ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصةٍ * فصفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ
وقالوا: "مَنْ أشبه أباهُ فما ظَلَمْ"، قال:
377- بأبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ * ومَنْ يشابِهْ أَبَه فما ظَلَمْ
* { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }
قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}: المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ، والفاعلُ ظاهرٌ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه. قرأ حمزة: "فَأَزَالهما" والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ "أَزَلَّهما" يجوز أَنْ تكونَ مِنْ "زَلَّ عن المكان" إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس:
378- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ * كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ
وقال أيضاً:
379- يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ * ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ
(1/212)
---(1/212)
فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول: معنى أزالَهما أي: صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ. ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ، فيكونُ زلَّ استنزل، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [أصلُه] في زَلَّة القَدَمِ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ. و "عنها" متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ومعنى "عَنْ" هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على "الشجرة" أي: أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة. ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [عاد] الضميرُ على "الجَنَّةِ"، وهو الأظهرُ، لتقدُّمِ ذِكْرِها، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة، قل ابن عطية: "وأمَّا مَنْ قرأ "أَزَالهما" فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط"، وقيل: الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً.
(1/213)
---(1/213)
قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الفاءُ هنا واضحةُ السببية. وقال المهدويُّ: "إذا جُعِلَ "فَأَزَلَّهما" بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} توكيداً، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ"، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ لا التأكيدِ، لإفادتِهِ معنىً جديداً، قال ابن عطية: "وهنا محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ تقديرُهُ: فأكلا من الشجَرَةِ"، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ "فَأزَلَّهما".
و {مِمَّا كَانَا} متعلِّقٌ بأَخْرَجَ، و "ما" يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، أي: من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ.
وقوله: "اهبِطوا" جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [قبلها]. وقُرئ: "اهبُطوا" بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط، وجاء في مضارعِهِ اللغتان، والمصدرُ: الهُبوط بالضم، وهو النزولُ. وقيلَ: الانتقال مطلقاً. وقال المفضل: "الهبوطُ: الخروجُ من البلد، وهو أيضاً الدخةلُ فيها فهو من الأضداد". والضمير في "اهبطوا" الظاهرُ أنه لجماعةٍ، فقيل: لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ، [وقيلَ: لهما وللجنة[، وقيل: لهما وللوسوسةِ، وفيه بُعْدٌ. وقيل: لبني آدمَ وبني إبليس، وهذا وإنْ نُقِلَ عن مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزمخشري: "إنه يعودُ لآدمَ وحواء، والمرادُ هما وذريتُهما، لأنهما لمَّا كانا أصلَ الإنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإنسُ كلُّهم، ويَدُلُّ عليه "قال اهبطوا منها جميعاً".
(1/214)
---(1/214)
قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} هذه جملةٌ من مبتدأْ وخبرٍ، وفيها قولان، أَصَحُّهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: اهبِطوا مُتعادِيْن. والثاني: أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة. وأُفْرِدَ لفظُ "عدو" وإنْ كان المرادُ به جَمْهاً لأحدِ وجهَيْنِ: إمَّا اعتباراً بلفظِ "بعض" فإنه مفردٌا وإمَّا لأن "عَدُوَّاً" أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ. وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً، قال في سورة النساء: "وقيلَ: عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ"، وعبارةُ المصدرِ تقديرُهُ: ذوي عَداوة". [ونحوُه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيا} وقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} واشتقاقُ العدوّ من عَدا يعدُو: إذا ظَلَمَ. وقيل: من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ، وهما متقاربان. وقيل: من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا ُبُعْدَ ما بينهما، ويقال: عُدْوَةَ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء.].
واللامُ في "لِبعض" متعلقةٌ بـ "عَدُوّ" ومقوِّيةٌ له، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً لـ "عدُوّ"، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ.
والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه، وهو يقابِلُ "كُلاًّ"، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل, وينتصِبُ عنه الحال. تقول: "مررت ببعضٍ جالساً" وله لفظٌ ومعنًى، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ "كُل".
(1/215)
---(1/215)
قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدَّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ، كأنه قيل: اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ في الاستقرارَ. و "لكم" خبرٌ مقدمٌ. و {فِي الأَرْضِ} متعلقٌ بما تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار. وتعلُّقُه به على وجهين, أحدُهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ، ويجوزُ أن يكونَ {فِي الأَرْضِ} هو الخبرَ، و "لكم" متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ، لكن على أنه غيرُ حالٍ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي، على أنّ بعضَ النَّحويين أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية، فيكونَ في "لكم" أيضاً الوجهان، قال بعضُهم: "ولا يجوز أن يكونَ {فِي الأَرْضِ} متعلقاً بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ لا تعملُ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه". ولِقائلٍ أن يقول: هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ، لكنه غيرُ مؤولٍ بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم: "له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ". وقد اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا.
(1/216)
---(1/216)
قوله: {إِلَى حِينٍ} الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع، وأنَّ المسألة من بابِ الإعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ: {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} يَطْلُبُ قولَه" {إِلَى حِينٍ} من جهةِ المعنى. وجاء الإعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه، والتقديرُ: ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني، فإن قيل: مِنْ شرطِ الإعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ، و "مستقرٌ" لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول. فالجوابُ: أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ، فلا يُؤَول بموصولٍ، وأيضاً فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله:
380- أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ
و "مستقر" يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ، قال الشاعر:
381- .......................... * فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ
ويقال: استقرَّ وقرَّ بمعنًى. والمَتاعُ: البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار أي: ارتفع. واختارر أبو البقاء أن يكونَ "إلى حين" في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع.
والحينُ: القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً، وهذا هو المشهورُ، وقيل: الوقتُ البعيدُ. ويُقال: عامَلَتْهُ محايَنَةً، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به حِيناً، وحانَ حينُ كذا: قَرُبَ، قالت بثينة:
382- وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ * من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها
وقال بعضُهم: "إنه يُزادُ التاءُ فيقال: تحينَ قُمْتَ" وأنشد:
383- العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ * والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ
وليس كذلكَ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى.(1/217)
(1/217)
---
* { فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}: الفارُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلَها، و "تلقَّى" تفعَّل بمعنى المجرد، وله معانٍ أُخَرُ: مطاوعة فَعَّلَ نحو: كسَّرته فتكسَّرَ، والتجنُّب نحو: تجنَّب أي جانَبَ الجَنْبَ، والتكلُّف نحو: تحلَّم، والصيرورةُ نحو: تَأثَّم، والاتخاذُ نحو: تَبَنَّيْتُ الصبيَّ أي: اتخذتُه ابناً، ومواصلةُ العمل في مُهْلَة نحو: تَجَرَّع وتَفَهَّمَ، وموافقةُ استَفْعَل نحو: تكبَّر، والتوقُّع نحو: تَخَوَّف، والطلبُ نحو: تَنَجَّز حاجَته، والتكثير نحو: تَغَطَّيت بالثياب، والتلبُّس بالمُسَمَّى المشتقِّ منه نحو: تَقَمَّص، أو العملُ فيه نحو: تَسَحَّر، والخَتْلُ نحو: تَغَفَّلْتُه. وزعم بعضُهم أن أصل تلقَّى بالنون فأُبْدِلَتِ النونُ ألفاً، وهذا غَلَطٌ لأن ذلك إنما ورد في المضعَّف نحوَ: قَصَّيْتُ أظفاري وتَظَنَّيْتُ وأَمْلَيْتُ الكتابَ، في: قَصَصْتُ وتَظَنَّنْتُ وَأَمْلَلْتُ.
و {مِن رَّبِّهِ} متعلِّقٌ به، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ في الأصل صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، و "كلماتٍ" مفعول به.
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ "آدم" ورفعِ "كلمات"، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ. وقيل: لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً. ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مرنثاً [لأنه غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً] مجازياً.
(1/218)
---(1/218)
قولُه تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} عَطْفٌ على ما قبلَه، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها، فقالَها. والكلماتُ جمع كلمة، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ} ثم فَسَّر بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} إلى آخره. وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ} يريدُ قولَه: {رَبِّ ارْجِعُونِ} إلى آخرِه، وقال لبيد:
384- ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ * وكلُّ نعيمٍ -لا مَحالةَ- زائلُ
فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمةً، فقال: "أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ
". والتوبةُ: الرجوعُ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المصيبةِ إلى الطاعةِ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ، ولا يختصَّان بالباري تعالى. قال تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ولا يُطْلَقُ عليه "تائب" وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى، وقُدِّم عليه "تائب" وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى، وقُدِّم التوابُ على الرحيمِ لمناسبةِ "فَتَاب عليه" ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} نظير قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وأدغم أبو عمرو هاء "إنه" في هاء "هو". واعتُرِض على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع [من] الإدغام وهو الواوُ، وأُجيب بأنَّ الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها بدليلِ سقوطِها في قوله:
385- لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّه صوتُ حادٍ * إذا طَلَبَ الوسِيقَةَ أو زَمِيرُ
وقوله:
386- أو مُعْبَرُ الظهرِ يُنْبي عن وَلِيَّته * ما حَجَّ في الدنيا ولا اعْتَمَرا
والمشهورُ قراءةُ: "إنَّه" بكسر إنَّ، وقُرئ بفتحَها على تقديرِ لامِ العلة.
(1/219)
---(1/219)
* { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قولُه: {قُلْنَا اهْبِطُواْ} إنما كرَّر قولِه: "قُلْنا" لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان باعتبارِ متعلَّقَيْهما، فالهبوطُ الأول [عَلَّق به العداوةَ، والثاني علَّقَ به إتيانَ الهدى. وقيل: "لأنَّ الهبوطَ الأول] من الجنةِ إلى السماءِ، والثاني من السماءِ إلى الأرض". واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}. وقال ابن عطيةِ: "وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو من الجنة إلى السماءِ، والأَوْلَى في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ في الوقوعِ". انتهى، وقيل: كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك: قُمْ قُمْ، والضمير في "منها" يَعُودُ على الجنةِ أو السماء.
قوله: "جميعاً" حالٌ من فاعلِ "اهبِطوا" أي: مجتمعِين: إمَّا في زمانٍ واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل، وهذا [هو] الفرقُ بين: جاؤوا جميعاً، وجاؤوا معاً، فإن قولَك "معاً" يستلزمُ مجيئهم جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه "مع" مِن الاصطحاب، بِخلاف "جميعاً" فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ احدٌ منهمْ عن المجئِ، من غيرِ تعرُّضٍ لاتحادِ الزمانِ. وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره، فلم يعرِفْها ذاك الرجلُ فأفادها له ثعلب.
(1/220)
---(1/220)
و "جميع" في الأصل من ألفاظِ التوكيد، نحو: "كُل"، وبعضُهم عَدَّها معها. وقال ابنُ عطية: "وجميعاً حالٌ من الضميرِ في "اهبِطوا" وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما، كأنه قال: "هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً" كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ، وأنَّ "جميعاً" تأكيدٌ له، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه. وقال بعضُهُم: التقديرُ: قُلْنا اهبِطوا نجتمِعِين فهبطوا جميعاً، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ.
قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع}... الآية. الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ. و "إمَّا" أصلُها: إن الشرطيةُ زيدَتْ عليها "ما" تأكيداً، و "يأتينَّكم" في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ التوكيدِ. وقيل: بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً. وقيل: مبنيٌّ مطلقاً. والصحيح: التفصيلُ: إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني، وإلاَّ أُعْرِبَ، نحو: هل يقومانِّ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة، وقيل: بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ. وذهب الزجاج والبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن الشرطية المؤكِّدة بـ "ما" يجب تأكيدُه بالنون، قالا: ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ إلا عليه. وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر غيرَ مؤكَّد، فكثرةُ مجيئِه غيرض مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ، فمِنْ ذلك قولُه:
387- فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً * على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ
وقولُ الآخر:
389- زَعَمَتْ تُماضِرُ إمَّا أَمُتْ * يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ خُلَّتي
وقول الآخر:
390- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ * فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بِها
وقولُ الآخر:
(1/221)
---(1/221)
391- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً * مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ فَأَنْعَسَا
وقول الآخر:
392- إمَّا تَرَيِني اليومَ أمَّ اليومَ أمَّ حَمْزِ * قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي
وقال المهدوي: "إما" هي أنْ التي للشرطِ زِيدَتْ عليها "ما" ليصِحَّ دخولُ النون للتوكيدِ في الفعلِ، ولو سَقَطَتْ "ما" لم تَدْخُلِ النونُ، فـ "ما" تؤكِّدُ أولَ الكلامِ، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه" وتبعه ابنُ عطية. وقال بعضهم: "هذا الذي ذَهَبا إليه من أنَّ النونَ لازِمَةٌ لفعلِ الشرطِ إذا وُصِلَتْ "إنْ" بـ "ما" هو مذهبُ المبردِ والزجاجِ". انتهى. وليس في كلامِهما ما يدُلُّ لزومِ النونِ كما ترى، غايةُ ما فيه أنَّهما اشترطا في صِحَّةِ تأكيدِه بالنونِ زيادةَ "مأ" على "إنْ"، أمَّا كونُ التأكيدِ لازماً أو غيرَ لازم فلم يتعرَّضا له، وقد جاء تأكيدُ الشرطِ بغيرِ "إنْ" كقوله:
393- مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ * أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي
(1/222)
---(1/222)
و "مني" متعلق بـ "يَأْتِيَنَّ"، وهي لابتداءِ الغاية مَجازاً، ويجوز أن تكون في محلِّ حالٍ من "هُدَىً" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، وهو نظيرُ ما تَقَدَّم في قوله تعالى: {مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} و "هُدى" فاعلٌ، والفاءُ مع ما بعدها مِنْ قولِه: {فَمَن تَبِعَ} جوابُ الشرطِ الأولِ، والفاءُ في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ} جوابُ الثاني، وقد وقع الشرطُ [الثاني وجوابُه جوابَ الأول، ونُقِل عن الكسائي أن قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} جوابُ الشرطين] معاً. قال ابن عطية بعد نَقْلِه عن الكسائي: "هكذا حُكِي وفيه نَظَرٌ، ولا يتوجَّه أن يُخالَفَ سيبويه هنا، وإنما الخلافُ في نحوِ قولِه: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ} فيقولُ سيبويهِ: جوابُ أحدِ الشرطينِ محذوفٌ لدلالةِ قوله "فَرَوْحٌ" عليه. ويقول الكوفيون "فَرَوْح" جوابُ الشرطين. وأمَّا في هذه الآية فالمعنى يمنع أَنْ يكونَ "فلا خوف" جواباً للشرطين". وقيل: جوابُ الشرطِ الأول محذوفٌ تقديرُه: فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هدىً فاتَّبعوه، وقولُه: {فَمَن تَبِعَ} جملةٌ مستقلةٌ. وهو بعيدٌ أيضاً.
(1/223)
---(1/223)
و "مَنْ" يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً، ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ، ولا حاجةَ إلى هذا. فإن كانتْ شرطيةً كان "تبع" في محلِّ جزم، وكذا: "فلا خَوْفٌ" لكونِهما شرطاً وجزاءً، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ لـ "تَبِع". وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي مبتدأٌ أيضاً، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور: الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ، بدليل أنه يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ، تقول: مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً، [فليس في "أُكرم زيداً" ضميرٌ يعودُ على "مَنْ" ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ]، ولو قلتَ: "مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه" وأنمت تعديدُ الهاءَ على "مَنْ" لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير. وقيل: الخبرُ الجوابُُـ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ، فلا يَجُوزُ عندهم: "مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً" ولكنه غير جائز، هذا ما أورده أبو البقاء. وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ والجزاءِه هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما. وقيل: ما كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ.
والمشهورُ: "هُدَايَ" وقُرئ: هُدَيَّ، بقلبِ الألفِ ياءً، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هُذَيْل، يقولون في عَصاي: عَصَيَّ، وقال شاعرُهم يرثي بَنيه:
394- سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَواهُمُ * فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
كأنهم لمَّا يَصِلوا إلى ما تستحقُّه ياءُ المتكلمِ مِنْ كسرِ ما قبلَها لكونِه ألفاً أتَوا بما يُجَانِسُ الكسرةَ، فقلبوا الألف ياءً، وهذه لغةٌ مطردةٌ عندهم، إلا أَنْ تكونَ الألفُ للتثنية فإنهم يُثْبِتُونها نحو: جاء مسلمايَ وغلامايَ.
(1/224)
---(1/224)
قولُه: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ، فيكونَ في محلِّ جزم، وأن يكونَ خبراً لـ "مَنْ" إذا قيل بأنها موصولةٌ، وهو أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ} فيكونَ في محل رفع، و "لاط يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس، فيكونَ "خوفٌ" اسمها، و "عليهم" في محلِّ نصبٍ خبرَها، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ "خوفٌ" مبتدأ، و "عليهم" في محل رفع خبرَه. وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين، أحدُهما: أنَّ عملَها عملَ ليس قليلٌ ولم يَثْبُتْ إلا بشيءٍ محتملٍ وهو قوله:
395- تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً * ولا وَزْرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا
والثاني: أنَّ الجملة التي بعدها وهي: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تُعَيِّنُ أن تكونَ "لا" فيها غيرَ عاملةٍ لأنها لا تعملُ في المعارفِ، فَجَعْلُها غيرَ عاملةٍ فيه مشاكلةٌ لِما بعدها، وقد وَهِكَ بعضُهم فَجَعَلها عاملةً في المعرفة مستدلاًّ بقوله:
396- وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً * سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا
فـ "أنا" اسمُها و "باغياً" خبرُها. قيل: ولا حُجَّةَ فيه لأنَّ "باغياً" حال عاملُها محذوفٌ هو الخبرُ في الحقيقة تقديره: ولا أنا أُرَى باغِياً، أو يمونُ التقديرُ: ولا أُرَى باغياً، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ.
(1/225)
---(1/225)
وقُرِئَ: "فلا خَوْفُ" بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ الإضافةُ مقدرةً أي: خوفُ شيءٍ، وقيلَ: لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ، وقيل: حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً. وقرئ: "فلا خوفَ" مبنياً على الفتح، لأنها لا التبرئة وهي أبلغُ في النفي، ولكن الناسَ رجَّحوا قراءةَ الرفع، قال أبو البقاء: "لوجهَيْنِ، أحدُهما: أنه عُطِف عليه ما لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ وهو قولُه: "ولا هم" لأنه معرفةٌ، و "لا" لا تعملُ في المعارِفِ، فالأَوْلى أن يُجْعَلَ المعطوفُ عليه كذلك لتتشاكلَ الجملتان"، ثم نظَّره بقولِهم: "قام زيد وعمراً كلَّمْتُه" يعني في ترجيحِ النصب في جملة الاشتغالِ للتشاكل. ثم قال: "والوجه الثاني من جهة المعنى، وذلك أنَّ البناءَ يَدُلُّ على نفي الخوفِ عنهم بالكُلِّيَّة، وليس المراد ذلك، بل المرادُ نفيُه عنهم في الآخرةِ. فإنْ قيل: لِمَ لا يكونُ وجهُ الرفعِ أنَّ هذا الكلامَ مذكورٌ في جزاءِ مَنِ اتَّبع الهُدى، ولا يَليق أن يُنْفَى عنهم الخوفُ اليسيرُ ويُتَوَهَّمَ ثَبوتُ الخوفِ الكثير؟ قيل: الرفعُ يجوزُ أَنْ يُضْمَرَ معه نفيُ الكثيرِ، تقديرُه: لا خوفٌ كثيرٌ عليهم، فيُتَوَهَّمَ ثبوتَ القليلِ، وهو عكسُ ما قُدِّر في اشلؤال فبانَ أنَّ الوجهَ في الرفعِ ما ذكرنا". انتهى.
قولَه تعالى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ أنَّها غيرُ عاملةٍ، و "يَحْزنون" في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ، وعلى هذا القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب.
(1/226)
---(1/226)
والخوفُ: الذُّعْرُ والفَزَع، يقال: خافَ يخاف فهو خائِفٌ والصل: خضوِف بزون عِلِمَ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف. قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ} ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل. والحزنُ ضدُّ السرورِ، وهو مأخوذٌ من الحَزْن، وهو ما غَلُظَ من الأرض فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ، ولا يكون إلا في الأمرِ الماضي، يقال: حَزِن يَحْزَن حُزْناً وحَزَناً. ويتعدَّى بالهمزةِ نحو: أَحْزَنْتُه، وحَزَّنْتُه، بمعناه، فيكون فَعَّل وأَفْعَلَ بمعنى. وقيل: أَحْزَنَه حَصَّل له حُزْناً. وقيل: الفتحةُ مُعْدِّيةٌ للفعلِ نحو: شَتِرَتْ عينُه وشَتَرها الله، وهذا على قولِ مَنْ يَرَى أنَّ الحركةَ تُعَدِّي الفعلَ. وقد قُرِئ باللغتين: "حَزَنَه وأَحْزَنه" وسيأتي تحقيقهما.
* { وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ، إلى قوله: خَالِدُونَ}: :الذين" مبتدأ وما بعده صلةٌ وعائدٌ، و "بآياتنا" متعلقٌ بكذَّبوا. ويجوز أن تكونَ الآيةُ من بابِ الإعمال، لأنَّ "كفروا" يَطْلُبها، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول، والتقديرُ: كفروا بنا وكذَّبوا بآياتِنا. و "أولئك" مبتدأٌ ثانٍ و "أصحابُ" خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ أن يكونَ "أولئك" بدلاً من الموصول أو عطفَ بيان له، و "أصحابُ" خبرَ المبتدأ الموصول. وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ للتصريحِ بذلك في مواضعَ. قال تعالى: {أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ} وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من "النار"، قال: "لأنَّ فيها ضميراً يعودُ عليها، ويكونُ العامل فيها معنى الإضافةِ أو اللام المقدَّرَةَ". انتهى. وقد عُرِف ما في ذلك.
(1/227)
---(1/227)
ويجوز أن تكونَ في محلِّ رفع خبراً لأولئك، وأيضاً فيكونُ قد أُخْبِرَ عنه بخبرين، أحدهما مفردٌ وهو "أصحابُ". جملةٌ، وقد عُرَف ما فيه من الخلافِ.
و "فيها" متعلقٌ بـ "خالدون". قالوا: وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في الثاني، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول، والتقدير: فَمَنْ تبع هُدايَ فلا خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك، ونظَّروه بقولِ الشاعر:
397- وإني لَتَعْرُونِي لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ * كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ
والآيةُ [لغةً]: العلامةُ، قال النابغةُ الذبياني:
398- تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها * لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ
وسُمِّيَتْ آيةُ القرآنِ [آيةً] لأنها علامةٌ لانفصالِ ما قبلَها عمَّا بعدَها. وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْمَعُ حروفاً من القرآن فيكون مِنْ قولِهم: "خرج بنو فلان بآياتِهم" اي: بجماعتهم، قال الشاعر:
399- خَرَجْنَا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا * بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ المَطافِلاَ
واختلف النحويون في وَزْنِها: فمذهب سيبويه والخليلِ أنها فَعَلَة، والأصل: أيَية بفتح العين، تحرَّكَتِ الياء وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً، وهذا شاذٌ، لأنه إذا اجتمع حرفا عِلة أُعِلَّ الأخيرُ، لأنه مَحَلُّ التغييرِ نحو: هَوَى وحَوَى، ومثلُها في الشذوذِ: غاية وطاية وراية.
ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة، فكانَ القياسُ ان يُدْغَمَ فيقال: آيَّة كذابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا كَيْنونة والأصل: كيَّنونة بتشديد الياء، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه.
(1/228)
---(1/228)
ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين، واختاره أبو البقاء قال: "لأنها من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فَظَهَرَتِ الياءُ [الأولى]، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء، ووزنُه أَفْعال، والألفُ الثانيةُ بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع، آواه، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الكلمة، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع: آواه، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس" انتهى. يعني أنَّ حرفَ العِلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله.
وذهبَ بعضُ الكوفيين إلى أن وزنها أَيِيَة، بكسر العين مثل: نَبِقَة فَأُعِلَّ، وهو في الشذوذِ كمذهبِ سيبويه والخليل. وقيل وزنُها: فَعُلَة بضم العين، وقيل أصلُها: أياة بإعلال الثاني، فَقُلبت بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ وأُخِّرَتِ العبنُ وهو ضعيفٌ. فهذه ستةُ مذاهبَ لا يَسْلَمُ كلُّ واحدٍ منها من شذوذٍ.
* {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }
قولُه تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}.. "بني" منادى وعلامةُ نصبِه الياءُ لأنه جمعُ مذكرٍ سالمٌ وحُذِفَتْ نونثه للإضافةِ، وهو شبيهٌ بجَمْعِ التكسيرِ لتغيُّرِ مفرِده، ولذلك عامَله العربُ ببعضِ معاملةِ التكسير فَأَلْحقوا في فِعْلِه المسندِ إليه تاءَ التانيثِ نحو: قالت بنو فلان، وقال الشاعرَ:
400- قالَتْ بنو عامِرٍ خالُوا بني أَسَدٍ * يا بؤسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
وأعْربوه بالحركاتِ أيضاً إلحاقاً [له] به، قال الشاعر:
401- وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ * أباً بَرًّا ونحنَ له بنينُ
(1/229)
---(1/229)
برفعِ النونِ، وهل لامُه ياءٌ لأنه مشتقٌ من البناء لأن الابنَ من فَرْعِ الأبِ، ومبنيٌّ عليه، أو واوٌ لقولهم: البُنُوَّة كالأُبُوَّة الأُخُوَّة؟ قولان. الصحيحُ الأولُ، وأمّا البُنُوّة فلا دلالَةَ فيها لأنهم قد قالوا: الفُتُوَّة، ولا خلافَ أنها من ذوات الياء، إلا أنَّ الأخفشَ رَجَّح الثانيَ بأنَّ حَذْفَ الواو أكثرُ. واختُلِفَ في وزنِه فقيل: بَنَي بفتح العين وقيل بَنْي بسكونها، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرةِ التي سُكِّنَتْ فاؤها وعُوِّضَ من لامِها همزةُ الوصلِ.
وإسرائيل: خَفْضٌ بالإضافةِ، ولا يَنْصَرِفُ للعلَمِيَّة والعُجْمة، وهو مركبٌ تركيبَ الإضافةِ مثل: عبد الله، فإنَّ "إسْراً" مشتقٌ من الأسْرِ وهو القوة، فكأن معناه: الذي قَوَّاه الله. وقيل لأنه أُسْرِي بالليلِ مٌهاجراً إلى الله تعالى. وقيل: لأنه أَسَرَ جِنِّيَّاً كان يُطْفِئُ سِراج بيتِ المَقْدِس. قال بعضُهُم: فعلى هذا يكونُ الاسمِ عربياً وبعضُه أعجمياً، وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ بلغاتٍ كثيرةٍ أفصَحُها لغةُ القرآنِ وهي قراءةُ الجمهور. وقرأ أبو جعفر والأعمش، "إسْرايِل" بياءٍ بعد الألف من غيرِ همزةٍ، ورُوِي عن ورش: إسْرائِل بهمزةٍ بعد الألف دونَ ياءٍ، وأسْرَأَلَ بهمزةٍ مفتوحةٍ بين الراء واللام [واسْرَئِل بهمزة مكسورةٍ بين الراء واللام] وإسْرال بألفٍ محضة بين الراءِ واللامِ، قال الشاعر:
402- لا أَرى مَنْ يُعْينُني في حياتي * غيرَ نفسي إلا بني إسْرالِ
وتُرْوى قراءةً عن نافع. و "إسرائِين" أَبْدلوا من اللامِ نوناً كأُصَيْلان في أُصَيْلال، قال:
403- قالَتْ وكنتُ رجلاً فَطِينا * هذا -وربِّ البيتِ- إسرائينا
ويُجْمَع على "أَساريل". وأجاز الكوفيون: أَسارِلَة، وأسارِل، كأنهم يُجيزون التنعويضَ وعدمه، نحو: فَرازِنة وفرازين. قال الصفَّار: "لا نعلم أحداً يُجيز الهمزةِ من أوَّلِه".
(1/230)
---(1/230)
قوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} اذكروا فعلٌ وفاعلٌ، ونعمتي مفعولٌ، وقال ابن الأنباري: "لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: شُكْرَ نِعْمتي. والذِّكر والذُّكر بكسرِ الذال وضَمِّها بمعنىً واحدٍ، ويكونان باللسانِ وبالجَنانِ. وقال الكسائي: "هو بالكسر للِّسان وبالضمّ للقلب" فضدُّ المكسور: الصمتُ، وضدُّ المضمومِ: النِّسيان، وفي الجملةِ فالذكرُ الذي محلُّه القلبُ ضدُّه النسيانُ، والذي محلُّه اللسانُ ضِدُّه الصمتُ، سواءً قيل: إنهما بمعنىً واحدٍ أم لا.
والنِّعْمَةُ: اسمٌ لِما يُنْعَمُ به وهي شبيهةٌ بفِعْلٍ بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، والمرادُ بها الجمعُ لأنها اسمُ جنسٍ، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} و {الَّتِي أَنْعَمْتُ} صفتُها والعائدُ محذوفٌ. فإنْ قيل: مِنْ شرطِ حَذْفِ عائدِ الموصولِ إذا كان مجروراً أن يُجَرَّ المصوولُ بمثلِ ذلك الحرفِ وأَنْ يَتَّحِدَ متعلِّقُهما، وهنَا قد فُقِد الشرطان، فإنَّ الأصلَ: التي أنعمتُ بها، فالجوابُ أنه إنما حُذِف بعد أَنْ صار منصوباً بحَذْفِ حَرْفِ الجرِّ اتساعاً فبقي: أنعمتُها، وهو نظيرُ: {كَالَّذِي خَاضُوااْ} في أحدِ الأوجه، وسياتي تحقيقُه إنْ شاء الله تعالى.
و "عَليكُمْ" متعلِّقٌ به، وأتى بـ "على" دلالةً على شمولِ النعمةِ لهم.
قوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيا} هذه جملةٌ أمريةٌ عطْفٌ على الأمريَّةِ قبلَها، ويقال: أَوْفَى وَوَفَى وَوَفَّى مشدَّداً ومخففاً، ثلاثُ لغاتٍ بمعنىً، قال الشاعر:
404- أمَّا ابنُ طَوْقٍ فقد أَوْفَى بذِمَّتِه * كما وَفَى بقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها
(1/231)
---(1/231)
فَجَمِع بين اللغتين. ويقال: أَوْفَيْتُ وفَيْتُ بالعهدِ وأَوْفَيت الكيلَ لا غيرُ. وعن بعضِهم أنَّ اللغاتِ الثلاثَ واردةٌ في القرآن، أمَّا "أَوْفى" فكهذه الآية، وأمَّا "وفَّى" بالتشديد فكقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} وأمَّا "وَفَى" ببالتخفيف قلِم يُصَرَّح به، وإنما أُخِذَ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} وذلك أنَّ اَفْعَلَ التفضيلَ لا يُبْنَى إلا من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهورُ، وإنْ كانَ في المسألة كلامٌ كثيرٌ، ويُحْكى أن المستنبطَ لذلك أبو القاسم الشاطبي، ويجيء "أَوْفَى" بمعنى ارتفع، قال:
405- رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ * تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
و "بعهدي" متعلِّقٌ بـ "أَوْفُوا" والعَهْدُ مصدرٌ، ويُحتمل إضافتُه للفاعل أو المفعول. أو المفعول. والمعنى: بما عَاهَدْتُكم عليه من قَبول الطاعة، ونحوُه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِيا آدَمَ} أو بما عاهَدْتموني عليه، ونحوُه: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ} {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ
}. قوله: "أُوْفِ" مجزومٌ على جوابِ الأمر، وهل الجازمُ الجملةُ الطلبيةُ نفسُها لِما تضمَّنَتْه مِنْ معنى الشرط، أو حرفُ شرطٍ مقَدَّرٌ تقديرُه: "إنْ تُوفوا بعَهْدي أُوفِ" قولان. وهكذا كلُّ ما جُزِم في جوابِ طلبٍ يَجْري [فيه] هذا الخلاف.
و "بِعَهْدِكم" متعلِّقٌ به، وهو محتمِلٌ للإضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ كما تقدَّم.
(1/232)
---(1/232)
قولُه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} "إيَّاي" ضميرٌ منصوبٌ منفصلٌ، وقد عُرِفَ ما فيه من الفاتحة. ونصبُه بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ الظاهرُ بعدَه، والتقديرُ: "وإياي ارهبوا فارهبون" وإنما قَدَّرْتُه متأخراً عنه، لأنَّ تقديرَه متقدِّماً عليه لا يَحْسُنُ لانفصالِه، وإن كان بعضُهم قَدَّره كذلك. والفاءُ في "فارهبون" فيها قولان للنحويين، أحدُهما: أنها أمر مقدَّر تقديرُه: تَنَبَّهوا فارهبونن وهو نظيرُ قولِهم: "زيداً فاضرب" أي: تنبَّه فاضربْ زيداً، ثم حُذِف: تَنَبَّه فصار: فاضْرِب زيداً، ثم قُدِّم المفعولُ غصلاحاً للَّفْظِ، لئلا تقعَ الفاءُ صدراً، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لتربِطَ هاتينم الجملتين. والقولُ الثاني في هذه الفاءِ: أنها زائدةٌ. وقال الشيخ بعد أن حى القولَ الأولَ: "فتحتملُ الآيةُ وجهين أحدُهما: أن يكون التقديرُ: وإياي ارهبوا تنبَّهُوا فارهبون، فتكونُ الفاء دَخَلَتْ في جواب الأمر وليست مؤخرةً من تقديم. والوجه الثاني أن يكونَ التقديرُ: وتنبَّهوا فارهبون، ثم قُدِّم المفعولُ فانفصلَ وأُتِي بالفاء حين قُدِّم المفعول، وفعلُ الأمر الذي هو تنبَّهوا محذوفٌ، فالتقى بحذفِه الواوُ والفاءُ، يعني فصارَ التقديرُ: وفإياي ارهَبُوا، فقُدِّم المفعولُ على الفاءِ إصلاحاً للفظ، فصارَ: وإيَّاي فارهبوا، ثم أُعيد المفعولُ على سبيل ِ التأكيد ولتكميل الفاصِلةِ، وعلى هذا "فإيَّاي" منصوبٌ بما بَعده لا بفعلٍ محذوفٍ، ولا يَبْعد تأكيد المنفصل بالمتصل كما لا يمتنعُ تاكيدُ المتصلِ بالمنفصلِ، وفيه نظرٌ.
والرَّهَبًُ والرَّهْبُ والرَّهْبةُ: الخوفُ، مأخوذٌ من الرَّهابة وهي عَظْْمٌ في الصدر يؤثِّر فيه الخوف.
* { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوااْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }
(1/233)
---(1/233)
قوله تعالى: {بِمَآ أَنزَلْتُ}.. "ما" يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي أَنْزَلْتُه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ أي بالمتنزَّلِ. و "مصدقاً" نصبٌ على الحالِ، وصاحبُها العائدُ المحذوفُ. وقيل: صاحبُها "ما" والعاملُ فيها "آمنوا" واجازَ بعضُهم أن تكونَ "ما" مصدريةً من غير جَعْلِه المصدرَ واقعاً موقعَ مفعولٍ به، وجَعَل "لِما معكم" من تمامه، أي: بإنزالِي لِما معكم، وجَعَل معكم، وجَعَل "مُصَدِّقاً" حالاً من "ما" المجرورةِ باللامِ قُدِّمَتْ عليها وإن كان صاحبُها مجروراً، لأنَّ الصحيحَ جوازُ حالِ المجرورِ [بحرف الجر] عليه كقولِه:
406- فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ * فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ
"فَرغاً" حالٌ من "بقتل"، وأيضاً فهذه اللامُ زائدةٌ فهي في حكم المُطَّرح، و "مصدقاً" حالق مؤكدة، لأنه لا تكونُ إلا كذلك. والظاهرُ أنَّ "ما" بمعنى الذي، وأنَّ "مصدقاً" حالٌ مِنْ عائدِ الموصولِ، وأنَّ اللامَ في "لِما" مقويةٌ لتعدية "مصدِّقاً" لـ "ما" الموصولةِ بالظرف.
(1/234)
---(1/234)
قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} "أولَ" خبرُ "كان" قبلَه، وفيه أربعة أقوال، أحدُها "وهو مذهبُ سيبويهِ- أنه اَفْعَل، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ، وتأنيثَه أُوْلى، وأصلُها: وُوْلى، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً، وليست مثلَ "وُوْرِيَ" في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها، لأنَّ واوِ "أُولَى" تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم "أُوَل"، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك. ولم يَتَصَرَّفْ من "أوَّل" فِعْلٌ لاستثقاله. وقيل: هو مِنْ وَأَل إذا نجا، ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ، وأصلُه أَوْ أَل، فَخُفِّفَن بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ واواً، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار: أوَّل، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه، بل قياسُه ان تُلْقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة وتُحْذَفُ الهمزةُ، ولكنهم شَبَّهُوه بخَطِيَّة وبرِيَّة، وهو ضعيفٌ، والجمع، اَوائل وأَوالي أيضاً على القلب. وقيل: هو من آل يَؤُول إذا رَجَع، وأصلُه: أَأْوَل بِهمزتين الأولى زائدةٌ والثانيةُ فاؤُه، ثم قُلِب فأُخِّرَتِ الفاءُ بعد العين فصار: أوْأَل بوزن أَعْفَل، ثم فُعِلَ به ما فُعِل في الوجهِ الذي قبلَه من القلب والإدغامِ وهو أضعفُ منه. وقيل: هو وَوَّل بوزن فَوْعَلِ، فأُبْدِلَتِ الواوُ الأولَى همزةً، وهذا القولُ أَضْعَفُها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرفَ ليس إلاَّ. والجمعُ: أوائل، والأصلُ: وَواوِل، فَقِلَبتِ الأولى همزةً لِما تقدَّم، والثالثة أيضاً لوقوعِها بعد ألفِ الجمعِ.
(1/235)
---(1/235)
واعلم أَنَّ "أَوَّل" أَفْعَلُ تفضيلٍ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً. ثم النكرةُ المضافُ إيلها أَفْعل: إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو: الزيدان أفضلُ رجلَيْن، الزيدون أفضلُ رجال، الهنداتُ أفضلُ نسوةٍ. وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون. وإن كانَتْ مستقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو: "الزيدُون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين"، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها، أنشد الفراء:
407- وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ * وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ
فَأَفْرَدَ في الأولِ طابَقَ في الثاني. ومنه عندَهم: {وَلاَ تَكُونُوااْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}.
إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع "كافر"، فأجابوا عن ذلك بأوجهٍ: أَجْوَدُها: أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ مُفْهَمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه، فجاءت النكرةُ المضافُ إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف، والتقديرُ: ولا تكونوا أولَ فريقٍ -أو فوجٍ- كافرٍ، وكذا: فَالأمُ فريقٍ طاعمٍ، وقيل: لأنه في تأويل: أوَّلَ مَنْ كفر به، وقيل: لأنه في معنى: لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ، كقولِك: كساناً حُلَّةً أي: كلَّ واحدٍ منا، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا يُراد: ولا تكونوا اولَ كافرٍ بل آخرَ كافر. ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ "أول" زائداً، قال: تقديرُه ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بشيء، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ للابتداءِ به، وهو نظيرُ قولِه:
408- مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ * الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ
(1/236)
---(1/236)
لا يريد أن فيهم فُحْشاً آجِلاً، بل يريد لا فُحْشَ عندهم لا عاجلاً ولا آجلاً. والهاءُ في "به" تعودُ على "ما أَنْزَلْتُ" وهو الظاهرُ، وقيل: على "ما معكم" وقيل: على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه، وقيل: على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإحسانِ.
قوله: {بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} متعلِّقٌ بالاشتراءِ قبلَه، وضُمِّنَ الاشتراءُ معنى الاستبدالِ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ، وكان القياسُ دخولَها على ما هو ثَمَنَ في البيعِ حقيقتُه أن يَشْتَرَى به لا أَنْ يَشْتَري لكنْ لَمَّا دَخَلَ الكلامض معنى الاستبدالِ جازَ ذلك، لأنَّ معنى الاستبدالِ أن يكونَ المنصوبُ فيه حاصلاً والمجرورُ بالباءِ زائلاً. وقد ظَنَّ بعضُهم أنَّ "بَدَّلْتُ الدرهمَ بالدينار" وكذا "أَبْدَلْتُ" أيضاً أنَّ الدينارَ هو الحاصلُ والدرهمَ هو الزائلُ، وهو وَهْمٌ، ومِنْ مجيءِ اشترى بمعنى استبدل قوله:
409- كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا
وقول الآخر:
410- فإنْ تَزْعُمِيتِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم * فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ بالجَهْلِ
(1/237)
---(1/237)
وقال المهدوي: "دخولُ الباءِ على الآياتِ كدخولِها على الثَّمن، وكذل كلُّ ما لا عَيْنَ فيه، وإذا كان في الكلامِ دراهمُ أو دنانيرُ دخَلَتِ الباءُ على الثمنِ قاله الفراء" انتهى. يعنى أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن ثمناً ومثمَّناً، لكن يَخْتَلِفُ [ذلك] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن، فَمَنْ نَسَب الشراءَ إلى نفسِه اَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما حَصَل له، فتقولُ: اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ دراهمُ او دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ، نحو: اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ، ولا تقول: اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ. وقدَّر بعضُهم [مضافاً] فقال: بتعليمِ آياتي لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها، ولا حاجةَ إلى ذلك، لأنَّ معناه الاستبدال كما تقدَّم.
و "ثَمناً" مفعولٌ به، و "قليلاً" صفتُه. و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} كقوله {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال هنا: [فاتقون، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ الإيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهْب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً، وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه.
* { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(1/238)
---(1/238)
قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}: الباءُ: [هنا] معنا الإِلصاقُ، كقولِك: خَلَطْتُ الماءَ باللبن، أَي: لاَ تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا يتميَّزَ. وقال الزمخشري: "إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى: ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم. وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك: كتبْتُ بالقَلمِ كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه" فأجازَ فيها وجهين كما ترى، ولا يريدُ بقوله: "صلة" أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ، كما تقدَّم. قال الشيخ: "وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن؟.
قوله: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} فيه وجهان، أحدُهما وهو الأظهرُ: أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي: لا تفعلوا لا هاذ ولا هذا. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ، أي: لا تَجْمَعُوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه، ومنه:
411- لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه * عارٌ عليكَ -إذا فَعَلْتَ- عظيمُ
و "أَنْ" مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه، والتقديرُ: لا يكُنْ منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه، وكذا [سائرُ] نظائره. وقال الكوفيون: "منصوب بواو الصرف"، وقد تقدَّم معناه، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه. وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع، ولا يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا بدليل خارجي
(1/239)
---(1/239)
واللَّبْسُ: الخَلْطُ والمَزْجُ، يُقال: لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله، ومنه قولُ الخَنْساء:
412- ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه * رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا
صَدَّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ * والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
وقال العجَّاج:
413- لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي * غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي
ومنه أيضاً:
414- وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ * حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا
وفي فلان مَلْبَسٌ أي: مُسْتَمْتَعٌ، قال:
415- إلا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنَوَةً * وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا
وقولُ الفَرَّار:
416- وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ * حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي
يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي: لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ.
والباطلُ ضدُّ الحقِّ، وهو الزائلُ، كقولِ لبيد:
417- إلا كلَّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ * ...................................
وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً. والبَطْلُ: الشجاعُ، سُمِّي بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه. وقيل: لأنه يُبْطِلَ دمَه، فهو فَعَل بمعنى مَفْعُولِ، وقيل: لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ. وقد بَطُل [بالضم] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي: صارَ شجاعاً. قال النابغة:
418- لَهُمْ لِواءٌ ماجدٍ بَطَلٍ * لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي
وبَطَل الأجيرُ -بالفتح- بِطالة بالكسر: إذا تعطَّل فهو بَطَّالٌ، وذهب دَمُه بُطْلاً -بالضم- اَي: هَدْراً.
(1/240)
---(1/240)
قولُه: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وعاملُها: إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا، إلاَّ أنَّ عَمَل "تكتموا" اَوْلَى لوجهين، أحدُهما: أنه أقربُ. والثاني: أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً، وفيه نوعُ مقابلةٍ. ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإعمال، لأنه يَسْتدعي الإضمارَ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً، ولذلك مَنَعوا الإخبارَ عنه بالذي. فإن قيل: تكونُ المسألةُ من باب الإعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إشمارٍ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ: ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون. فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ، لأنَّ الإعمالَ يَسْتَدْعي أإن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ. وأجاز ابن عطية إلاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال: "ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [على الإطلاق]، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال" وفيما قاله نظرٌ.
وقُرئ شاذاً: "وَتَكْتُمونَ" بالرفع، وخَرَّجوها على أنها حالٌ. وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ، وما وَرَد من ذلك فهو مؤولٌ مبتدأ قبلَه قَولِهم: "قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه"، وقولِ الآخر:
419- فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُم * نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا
(1/241)
---(1/241)
أي: وأنا أصُكُّ، وأنا أَرْهُنه، وكذا: وأنتم تَكْتُمون، إلاَّ أنه يَلْزَمُ منه إشكالٌ آخرُ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً، والحالُ قََيْدٌ في الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ، وليسَ ذلك مُراداً، إلا أَنْ يُقال: إنَّها حالٌ لازمةٌ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين، فَجَعَله حالاً، وفيه الإشكالُ المتقدِّم، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ. ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ، كأنَّه تعالى نَعَى عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق. ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ المعنى: وانتم مِنْ ذوي العلمِ. وقيلَ: حُذِفَ للعلمِ في حالِ به، والتقديرُ: تَعْلَمُون الحقَّ من الباطلِ. وقَدَّره الزمخشري "وأنتم تَعْلَمُون في حالِ عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون"، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن، وهذا حَسَنٌ جداً.
قوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ قبلَها، عطفَ أمراً على نَهْي. وأصلُ اَقيموا: "أَقْوِمُوا" فَفُعِل به ما فُعِلَ بـ {يُقِيمُونَ} وقد تقدَّم، وأصلُ آتُوا: اَْتِيُوا بهمزتين مثل: أَكْرِمُوا، فَقُلِبَتْ الثانيةُ الفاً لسكونِها بعدَ همزةٍ مفتوحةٍ، واستُثْقِلَتِ الضَّمةُ على الياءِ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان" الياءُ والواوُ، فحُذِفَتِ الياءُ لأنها أَوَّلُ، وحُرِّكَتِ التاءُ بحركتِها. وقيل: بل ضُمَّت تَبَعاً للواو، كما ضُمَّ آخِرُ "اضْرِبُوا" ونحوِه، ووزنه: اَفْعُوا بحذف اللام.
وألفُ "الزكاة" من واو لقولهم: زَكَوات، وزَكا يَزْكو، وهي النُمُوُّ، وقيل: الطهارةُ، وقيل: أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه "زَكَّى القاضي الشهودَ" والزَّكا: [الزوجُ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه. والخَسا: الفَرْدُ: قال:
(1/242)
---(1/242)
420- كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ * لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتَلجُ
قوله: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} منصوبٌ باركَعوا. والركوعُ: الطمأنينةُ والانحناءُ، ومنه قوله:
421- أُخَبِّرُ اَخْبَارَ القرونِ التي مَضَتْ * أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ
وقيل: الخضوعُ والِّلَّة، ومنه قولُ الشاعر:
422 *- لا تُهينَ الفقيرَ علَّكَ اَنْ تَرْ * كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ
* { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قولُه تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}: الهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم. و "أمَرَ" يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله:
423- أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمْرتَ به * فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
فالناسَ مقعولٌ أولُ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان. والبِرُّ: سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما، والفعلُ [منه]: بَرَّيَيَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعِلَمَ يَعْلَم، قال:
424- لا هُمَّ ربِّ إنََّ بَكْراً دونكا * يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا
[أي: يُطيعونك، والبِرُّ أيضاً: ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم، ومنه قولُهم: "لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ" أي: لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ، قال:
425- أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه * وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ
والبَرُّ -بالفتح- الإجلالُ والتعظيمُ، ومنه: وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ، أي: يُعَظِّمُهما، واللهُ تعالى بَرٌّ بسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه].
(1/243)
---(1/243)
قوله: "وتَنْسَوْن" داخلٌ في حَيِّز الإنكار، وأصلُ تَنْسَون: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها، وقد تقدَّم في {اشْتَرُواْ} فوزنُه تَفْعون، والنِّسيانُ: ضدُّ الذِّكْر، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ، وقد يُطْلَقُ على التَّركِ، ومنه: {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه، قال:
426- ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ * وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ
قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال، العاملُ فيها تَنْسَوْن". والتلاوةُ: التتابعُ: ومنه تلاوة القرآنِ، لأنَّ القارئ يُتْبه كلماتِه بعضَها ببعضٍ، ومنه: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} وأَصل تَتْلون: تَتْلُوون بواوين فاسْتُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ فوزنُه: تَفْعُون.
قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزةُ للإنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} والنيةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ كَنْوِيٍّ بها التأخيرُ، ويُقَدَّرَ بها الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده، فيقدِّر هنا: أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون، وكذا: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ} ي: أَعَمُوا فلم يَرَوْا، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مةاضعَ يأتي التنبيهُ عليها. ومفعولُ "تَعْقِلون" غيرُ مرادٍ، لأنَّ المعنى: أفلا يكونُ منكم [عَقْلٌ]. وقيل: تقديرهُ: أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك.
(1/244)
---(1/244)
والعَقْلُ: الإدراكُ المانعُ من الخطأن وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة:
427- عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ * كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ
قال ابن فارس: "ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ" ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها.
قوله : {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ} هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ "استعينوا" اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في {نَسْتَعِينُ} وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه. "وبالصبر" متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها، "استعان" يتعدَّى بنفسِه نحو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسينَ بالصبر، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ: استَعَنْتُ [الله واستعنْتُ بالله] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب. والصبرُ: الحَبْسُ على المكروه، ومنه: "قُتِل فلانٌ صبراً"، قال:
428- فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً * فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ
(1/245)
---(1/245)
قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} إنَّ واسمها وخبرُها، والضميرُ في "إنها" قيل: يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ، وهو نظيرُ قولِه: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوااْ إِلَيْهَا} أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ، كذا قيل، وفيه نظرٌ، لأنَّ العطف بـ "أو" فيجبُ الإِفرادُ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ. وقيل: يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو: {هُوَ أَقْرَبُ} وقيل: على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ، وقيل: هو عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ، وهذا ليسَ بشيء. وقيل: حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وتقديرُه: وإنه لكبيرٌ، نحو قوله:
429- إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشِّعْرَ الأسْ * وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً
قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} استثناءٌ مفرَّعٌ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ، أي: لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء، فـ "على الخاشعين" متعلِّقٌ بـ "كبيرة" نحو: وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة، ومنه "الخُشْعَةُ" للرَّمْلَةِ المتطامنةِ، وفي الحديث: "كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ" أي: كانت الأرضُ لينةً، وقال النابغة:
430- رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه * ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ
أي: عليه أثرُ الذلَّ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع، فقال: الخُضُوع في البدنِ خاصةً، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه.
* { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }
(1/246)
---(1/246)
ٌقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ}: "الذين" يَحتملُ موضعُه الحركاتِ الثلاثَ، فالجرُّ على أنه تابعٌ لِما قَبْلَه نعتاً، وهو الظاهرُ، والرفعُ والنصبُ على القَطْع، وقد تقدَّم معناه. وأصلُ الظنِّ : رُجْحانُ احدِ الطرفينِ وأمَّا هذه الآيةُ ففيها قولانِ، أحدٌهما -وعليه الأكثرُ- أنَّ الظنَّ ههنا بمعنى اليقين ومثلُه: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} وقوله:
431- فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ * سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرِّدِ
وقال أبو دُؤاد:
432- رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ * وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ
فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً، كما استُعْمِل العِلْمُ استعمالَ الظنِّ كقولِه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} ولكنَّ العربَ لا تِسْتَعْمِلُ الظنَّ استعمالَ اليقين إلا فيما لم يَخْرُجْ إلى الحِسِّ والمشاهدةِ كالآيتين والبيت، ولا تَجِدُهم يقولون في رجل مَرْئيٍّ حاضراً: أظنُّ هذا إنساناً.
(1/247)
---(1/247)
والقولُ الثاني: أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تاويلان، أحدُهما ذَكَره المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما: أن يُضْمَر في الكلام "بذنوبهم" فكأنهم يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين. قال ابن عطية: "وهذا تعسُّفٌ" والثاني من التأويلين: أنهم يظنُّون ملاقاةَ ثوابِ ربهم لأنهم ليسوا قاطِعين بالثوابِ دونَ العقاب، والتقديرُ: يَظُنُّون أنهم ملاقُو ثوابِ ربِّهم، ولكن يُشْكِلُ على هذا عَطْفُ {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنه لا يَكْفي فيه الظنُّ، هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في "إليه" على الربِّ سبحانه وتعالى، أمَّا إذا أَعَدْناه على الثوابِ المقدِّر فيزولُ الإشكالُ أو يُقالُ: إنه بالنسبةِ إلى الأول بمعنى الظنِّ على بابه، وبالنسبةِ إلى الثاني بمعنى اليقينِ، ويكونُ قد جمَعَ في الكلمةِ الواحدةِ بين الحقيقةِ والمجازِ، وهي مسألةُ خلافٍ و "أن" وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ عندَ الجمهورِ، ومسدَّ الأولِ، والثاني عند الأخفش، وقد تقدَّم تحقيقُه.
(1/248)
---(1/248)
و {مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه مستقبلٌ، وحُذِفَتِ النونُ للإضافة، والأصلُ: مُلاقونَ ربِّهم. والمفاعلةُ عهنا بمعنى الثلاثي نحو: عافاك الله، قاله المهدوي: قال ابن عطية: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ "لَقِيَ" يتضمَّن معنى "لاقى". كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي المشاركةَ بخلافِ غيرِها من: عاقَبْت وطارقت وعافاك. وقد تقدَّم ان في الكلام حَذْفاً تقديرُه: ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه. قال ابن عطية: "ويَصِحُّ أن تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها متواترُ الحديث"، فعلى هذا الذي قاله لا يُحْتاج إلى حَذْفِ مضاف. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} عَطْفٌ على "أنَّهم" وما في حَيِّزها، و "إليه" متعلق بـ "راجعون"، والضميرُ: إمَّا للربِّ سبحانَه أو الثَّوابِ كما تقدَّم، أو اللقاءِ المفوم من "مُلاقُو".
* { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: "أنَّ" وما في حَيِّزها في محل نصبٍ لعَطْفِها على المنصوبِ في قوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِي} أي: اذكروا نعمتيَ وتفضيلي إياكم، والجارُّ متعلَِّقٌ به، وهذا من الباب عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ لأن النعمةَ تَشْمَلُ التفضيلَ. والفضلُ: الزيادةُ في الخَيْر، واستعمالُه في الأصل التعدِّي بـ "على"، وقد يَتَعدَّى بـ "عَنْ" " إمَّا على التضمين وإمَّا على التجوُّزِ في الحذف، كقوله:
433- لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ * عني ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزَوني
وقد يتعدَّى بنفسه، كقوله:
434- وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً * كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على الفَصيلِ
(1/249)
---(1/249)
و بـ "على"، وفِعْلُه: فضَل يَفْضُل بالضم، كقَتَلَ يقتُل. وأمَّا الذي معناه الفَضْلة من الشيء وهي البقيَّة ففعلُه أيضاً كما تقدَّم، ويقال فيه أيضاً: "فَضِل" بالكسر يَفْضَل بالفتح كعَلِمَ يعلَم، ومنهم مَنْ يكسِرُها في الماضي ويَضُمُّها في المضارعِ وهو من التداخُلِ بين اللغتين.
* { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }
قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً}: "يوماً" مفعولٌ به، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: عذابَ يوم أو هولَ يوم، وأُجيز أن يكونَ منصوباً على الظرف، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: واتقوا العذابَ في يومٍ صفتُه كَيْتَ وكَيْتَ، ومضنَع أبو البقاء كونَه ظرفاً، قال: "لأنَّ الأمر بالتقوى لا يقع المؤدِّيةِ إلى العذابِ في يومِ القيامةِ. وأصلُ اتَّقُوا: اوْتَقُوا، ففُعِل به ما تقدَّم في {تَتَّقُونَ
}. قوله: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} التنكيرُ في "نفسٌ" و "شيئاً" معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء، وكذلك في "شفاعةٌ" و "عدلٌ"، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "يوماً" والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَجْزي فيه، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها، وهذا مذعبُ سيبويه. وقيل: بل حُذِفَ بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار: "لا تَجْزِيه" كقوله:
435- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً * قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
ويُعْزَى للأخفش، إلا أن المهدويَّ نَقَل أنَّ الوجهين المتقدمين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. ويَدُلُّ على حَذْفِ عائدِ الموصوفِ إذا كان منصوباً قولُه:
436- وما أَدْري: أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ * وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا
(1/250)
---(1/250)
أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ التقديرُ: يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ، فيصيرُ كقولهِ تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ} ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من "يوماً" الأولِ، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وعلى هذا لا يُحتاج إلى تقديرِ عائدٌ لأنَّ الظرف متى أُضيف في الجملةِ بعدَه لم يُؤْتَ له فيها بضمير إلا في ضرورةٍ، كقوله:
437- مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدَتُ فيه * وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ
و {عَن نَّفْسٍ} متعلِّقٌ بتَجْزي، فهو في محلِّ نَصْب به، قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الحال".
والجزاء: القضاءُ والمكافأةُ، قال الشاعر:
438- يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى * جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلَى
والإجزاءُ: الإغْناء والكِفاية، أَجْزَأَني كذا: كفاني، قال:
439- وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ * لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ
قيل: وأَجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ
قيل: وأَجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربان. وقيل: إنَّ الجزاء والإجزاء بمعنى، تقول منه: جَزَيْتُه وأَجْزَيْته، ووقد قُرئ: "تُجْزِئُ" بضمِّ حرفِ المضارعة من أَجْزَأ، وجَزَأْتُ بكذا أي: اجتزَأتُ به، قال الشاعر:
440- فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ * وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ
أي: يَجْتَزِئ به.
قوله: "شيئاً" نصبٌ على المصدرِ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ "تَجْزِ" بمعنى "تَقْضِي"، أي: لا تَقْضي [نفسٌ" من غيرِها شيئاً من الحقوقِ، والأولُ أظهَرُ.
(1/251)
---(1/251)
قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلها فهي صفةٌ أيضاً لـ "يوماً"، والعائدُ منها عليه محذوفٌ كما تقدَّم، أي: ولا يُقبل منها فيه شفاعةٌ. و "شفاعةٌ" مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه، فلذلك رُفِعَتْ، وقُرئ: "يُقْبَل" بالتذكير والتأنيثِ، فالتأنيثُ للِفْظِ، والتذكيرُ لأنه مؤنثٌ مجازيٌّ، وحَسَّنَهُ الفصلُ. وقُرئ: "ولا يُقْبل" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. و "شفاعةً" نصباً مفعولاً به. و {لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} صفةٌ أيضاً، والكلامُ فيه واضحٌ. و "منها" متعلِّقٌ بـ "يُقْبل" و "يُؤْخذ"، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ نصباً على الحال، لأنه في الأصلِ صفةٌ لشفاعة وعدل، فلمَّا قُدِّم عليهما نُصِبَ على الحالِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذا غيرُ واضحٍ، فإنَّ المعنى مُنْصَبٌّ على تعلُّقِهِ بالفعلِ، والضميرُ في "منها" يعودُ على "نفس" الثانيةِ، لأنها أقربُ مذكور، ويجوز أن يعودَ على الأولى لأنها هي المُحَدَّث عنها، ويجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ الأول على الأولى وهي النفسُ الجازية، والثاني يعودُ على الثانية وهي المُجْزِيُّ عنها، وهذا مناسِبٌ.
والشفاعةُ مشتقةٌ من الشَّفْع، وهو الزوجُ، ومنه: الشُّفْعَةُ، لأنها ضَمُّ مِلْكٍ إلى غيره، والشافعُ والمشفوعُ له، لأنَّ كلاًّ منهما يُزَوَّجُ نفسَه بالآخر، وناقةٌ شَفُوع: تَجْمَع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبَةٍ واحدةٍ، وناقةٌ شافِع إذا اجتمع لها حَمْلٌ وولدٌ يَتْبَعُها، والعَدْل بالفتح الفِداء، وبالكسر المِثْل، يقال: عَدْل وعَدِيل. وقيل: "عَدْل" بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقَدْراً، وإنْ لم يكنْ جنسه، وبالكسر: المساوي له في جنسهِ وجِرْمه، وحكى الطبري أنَّ من العرب مَنْ يكسِر الذي بمعنى الفِداء، والأولُ أشهرُ، وأمّا عِدْل -واحد الأَعْدال- فهو بالكسر لا غيرُ.
(1/252)
---(1/252)
قوله: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلَها وإنما أُتي هنا بالجملةِ مصدرةً بالمبتدأ مُخْبَراً عنه بالمضارعِ تنبيهاً على المبالغةِ والتأكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة. والضميرُ في قوله "ولا هُمْ" يعود على النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس، وإنما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ بها العِبادُ والأناسيُّ. قال الزمخشري: "كما تقول ثلاثةُ أنفسٍ" يعني: إذا قُصِد بها الذكورُ، كقوله:
441- ثلاثةُ أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * .............................
ولكنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه ضرورةٌ، فالأَوْلى أن يعودَ على الكفارِ الذين اقتضَتْهُمُ الآيةُ كما قال ابنُ عطية.
والنَّصْرُ: العَوْنُ، والأنصار: الأعوان، ومنه: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} والنصر أيضاً: الانتقامُ، انتصر زيد أي: انتقم. والنَّصْرُ أيضاً: الإتيان نَصَرْتُ أرضَ بني فرن أتيتُها، قال الشاعر:
442- إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي * بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ
وهو أيضاً: العَطاءُ، قال الراجز:
443- إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً * لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْراً
ويتعَدَّى بـ "على"، قال: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وأمَّا قولُه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} فيحتَمِل التعدِّيَ بـ "مِنْ" ويَحْتمل أن يكونَ من التضمين أي: نَصَرْناه بالانتقام له منهم.
* { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }
(1/253)
---(1/253)
قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}: "إذْ" في موضعِ نصبٍ عطفاً على "نعمتي"، وكذلك الظروفُ التي بعده نحو: "وإذا واعَدْنا" "وإذا قُلتم" وقُرئ: "أَنْجَيْتُكُم" على التوحيدِ، وهذا خطابٌ للموجودين في زمن الرسول عليه السلام، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: أَنْجَيْنا آباءكم، نحو: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أو لأنَّ إنجاءَ الآباء سببٌ في وجودِ الأبناءِ. وأصلُ الإنجاءِ والنجاةِ الإلقاءُ على نَجْوَةٍ من الأرضِ، وهي المُرتفعُ منها لِيَسْلَمَ من الآفات، ثم أُطلِقَ الإنجاء على كل فائزٍ وخارجٍ من ضيق إلى سَعَة وإن لم يُلْقَ على نَجْوة.
(1/254)
---(1/254)
و "من آلِ" متعلِّقٌ به، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. و "آل" اختُلِف فيه على ثلاثةِ أقوال، قال سيبويه وأتباعُه: إنَّ أصلَه أَهْلٌ، فأُبْدِلَتِ الهاءُ همزةً لقُربها منها، كما قالوا: ماء وأصلُه: ماه، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ألفاً، لسكونِها بعد همزةٍ مفتوحةٍ نحو: آمَنَ وآدَم، ولذلك إذا صُغِّ رَجَعَ إلى أصله فتقول: أُهَيْل. قال أبو البقاء: "وقال بعضُهم: اُوَيْل، فأُبدلت الألفُ واواً، ولَم يَرُدَّه إلى أصله، كما لَم يَرُدُّّوا "عُيَيَدْ" إلى أصله في التصغير". يعني فلم يقولوا "عُوَيد" لأنه من عاد يعود، قالوا: لئلا يلتبسَ بعُود الخَشَب. وفي هذا نظر، لأنَّ النخْويين قالوا: مَنِ اعتقد كونَه من "أهل" صَغَّره على أُهَيْل، ومَنِ اعتقد كونَه من آل يَؤُولُ أي رَجَع صغَّره على أُوَيْل. وذهب النحاس إلى أنَّ أصلَه "أَهْلَ" أيضاً، إلا أنه قَلَب الهاءَ ألفاً من غير أَنْ يَقْلِبَها أولاً همزة، وتصغيرُه عنده على أُهَيْل. وقال الكسائي: أُوَيْل، قد تقدَّم ما فيه. ومنهم مَنْ قال: أصلُه مشتقٌّ من آل يَؤُول، أي: رَجَع، لأن الإنسان يَرْجع إلى آله، فتحرَّكَتِ الواوُ وانفَتَح ما قبلَها فقُلِبَتْ ألفاً، وتصغيرُه على أُوَيْل نحو: مال ومُوَيل وباب وبُوَيْب، ويُعز هذا للكسائي. وجمعه آلون وآلين وهو شاذٌّ كأهلِين لأنه ليس بصفةٍ ولا عَلَمٍ. واختُلِف فيه: فقيل: "آلُ الرجل" قرابتُه كأهلِه، وقيل: مَنْ كان مِنْ شيعتِه، وإن لم قريباً منه, وقيل: مَنْ كان تابعاً له وعلى دينِه وإنْ لم يكنْ قريباً منه، قال:
444- فلاَ تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ * عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
(1/255)
---(1/255)
ولهذا قيل: [إن] آلَ النبي مَنْ آمَنَ به إلى آخرِ الدهرِ، ومَنْ لم يُؤْمِنْ به فليس بآلِه، وإن كان نسبياً له، كأبي لهب وأبي طالب. واختَلَفَ فيه النحاة: هل يُضاف إلى المضمر أم لا؟ فذهبَ الكسائي وأبو بكر الزبيدي والنحاس إلى أنَّ ذلك لا يجوزُ، فلا يجوز: اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ، بل: وعلى آلِ محمد، وذهبَ جماعةٌ منهم [ابنُ] السَّيد إلى جوازه، واستدلَّ بقولِه عليه السلام، لمَّا سُئِل فقيل: يا رسولَ الله مَنْ آلُكَ؟ فقال: "آلي كلُّ تقيّ إلى يوم القيامة" وأنشدوا قولَ أبي طالب:
445- لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْـ * ـنَعُ رَحْله فامنَعْ حَلالَكْ
وانصُرْ على آل الصَّليـ * ـب وعابِديه اليومَ آلَكْ
وقول نُدْبة:
446- أنا الفارسُ الحامي حقيقةَ والدي * ولآلي كما تَحْمي حقيقةَ آلِكا
واختلفوا أيضاً فيه: هل يُضافُ إلى غيرِ العقلاءِ فيُقال: آلُ المدينةِ وآلُ مكةَ؟ فمنعَه الجمهورُ، وقال الأخفش: قد سَمِعْنَاه في البلدان قالوا: اهلُ المدينةِ وآلُ المدينة، ولا يُضاف إلاَّ مَنْ قَدْرٌ وخَطَرٌ، فلا يُقال: آلُ الإسكاف ولا آلُ الحَجَّام، وهو من الاسماءِ اللازمة للإضافة معنى لا لفظاً، وقد عَرَفْتَ ما اختصَّ به مكن الأحكلمِ دونَ أصلِه الذي هو "أَهْل".
هذا كلُّه في "آل" مراداً به الأهلُ، أمَّا "آل" الذي هو السَّراب فليس مِمَّا نَحْنُ فيه في شيء، وجَمْعُه أَأْوال، وتصغيرُه أُوَيْل ليس إلاَّ، نحوُ: مال وأَمْوال ومُوَيْل.
(1/256)
---(1/256)
قوله: "فِرْعَون" خفضٌ بالإضافةِ، ولكنه لا يَنْصَرِفُ للعُجْمة والتعريف. واختُلِفَ فيه: هل هو علمُ شخصٍ أو علمُ جنسٍ، فإنه يُقال لكلِّ مَنْ مَلَك القِبْطَ ومصرَ: فرعون، مثلَ كِسْرى لَكَلِّ مَنْ مَلَك الفرس، وقيصرُ لكلِّ مَنْ مَلَك الروم، والقَيْلُ لكلِّ منْ مَلَكَ حميرَ، والنجاشي لكلِّ مَنْ مَلَكَ الحبشة، وَبَطْلَيْموس لكلِّ مَنْ مَلَكَ اليونان. قال الزمخشري: "وفرعونُ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَك العمالقة كقيصر للروم، ولعُتُوِّ الفراعِنَة اشتقُّوا منه: تَفَرْعَنَ فلانٌ إذا عَتا وتَجَبَّر، وفي مُلْحِ بعضم.
447- قد جاءَهْ الموسى الكَلُومُ فَزَاد في * أَقْصَى تَفَرْعُنِه وفَرْطِ عُرَامِه
وقال المسعودي: "لا يُعْرَفُ لِفرْعَوْنَ تفسيرٌ بالعربيةِ"، و [ظاهر] كلامٍ الجَوْهري أنَّه مشتقٌّ مِنْ معنى العُتُوِّ، فإنه قال: "والعُتاة الفَرَاعِنة، وقد تَفَرْعَنَ وهو ذو فَرْعَنةٍ أي: دهاءٍ ومكرٍ". وفي الحديث: "أَخَذْنا فِرْعونَ هذه الأمَّةِ" إلاَّ أنْ يريدَ معنى ما قاله الزمخشري المتقدم.
قولُه: "يَسُومونكم" سوءَ العذابِ" هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحالِ مِنْ "آل" حالَ كونِهم سائِمين. ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً لمجردِ الإخْبارِ بذلك، وتكون حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، قال بمعناه ابن عطية، وليس بظاهر. وقيل: هي خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: هم يَسُومونكم، ولا حاجةَ إليه أيضاً. و "كم" مفعولٌ أولُ، و "سوء" مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ "سام" يتعدَّى لاثنين كأعطى ومعناه: أَوْلاهُ كذا وأَلْزمه إياه أو كلَّفه إياه، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم:
448- إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفاً أَبَيْنا * أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينا
(1/257)
---(1/257)
قال الزمخشري: "وأصلُهُ مِنْ سَام السِّلْعَةَ إذا طَلَبها، كأنه بمعنى يَبْغُونكم سوءَ العذاب ويُريدُونَكم عليه"، وقيل: أصلُ السَّوْمِ الدَّامُ، ومنه: سائِمَةُ الغَنَم لمُداوَمَتِهِا الرَّعْيَ. والمعنى: يُديكونَ تعذيبكم، وسوءُ العذاب أشدُّهُ وأفظعهُ وإنْ كان كَلُّه سيئاً، كأنه أقبحُهُ بالإضافة إلى سائرِه. والسوءُ: كلُّ ما يَعُمُّ الإنسانَ من أمرٍ دنيوي وأُخْرَوي، وهو في الأصل مصدرٌ، ويؤنَّثُ بالألفِ، قال تعالى: {أَسَاءُواْ السُّواءَى} وأجاز بعضُهم أن يكونَ "سوء" نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: يَسُومونكم سَوْماً سيئاً كذا قدَّره، وقال أيضاً: "ويجوزُ أن يكونَ بمعنى سَوْم العذاب"، كأنه يريد بذلك أنه منصوبٌ على نَوْعِ المصدرِ، نحو: قَعَدَ جلوساً"، لأن سُوء العذابِ نوعٌ من السَِّوْمِ.
قولُه تعالى: "يُذَبِّحُون" هذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً للجملة قبلَها، وتفسيرُها لها على وجهين: أحدُهما أن تكونَ مستأنفةً، فلا محلَّ لها حينئذٍ من الإعرابِ، كأنه قيل: كيف سَوْمُهم العذابَ؟ فقيل: يُذَبِّحُون. والثاني: أنْ تكونَ بدلاً منها كقولِه:
449- متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في ديارنا * .....................
{وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ولذلك تُرِكَ العاطفُ، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً ثانيةً، لا على أنها بدلٌ من الأولى، وذلك على رأْي مَنْ يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الحال. وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ محتجَّاً بأنَّ الحَالَ تُشْبِهُ المفعولَ به ولا يَعملُ العاملُ في مفعولَيْن على هذا الوصفِ، وهذا بناءً منه على أحد القولين، ويحتملُ أن يكونَ حالاً من فاعل "يَسُومونكم". وقُرئ: "يَذْبَحُون" بالتخفيف، والأَوْلَى قراءةُ الجماعةِ لأنَّ الذبحَ متكرِّر.
(1/258)
---(1/258)
فإنْ قيل: لِمَ لَم يُؤْتَ هنا بواو العَطْفِ، كما أُتِي بها في سورة إبراهيم؟ فالجوابُ أنه أُرِيدَ هنا التفسيرُ كما تقدَّم، وفي سورة إبراهيم معناه: يُعَذِّبونكم بالذَّبْح وبغيرِ الذبحِ. وقيل: يجوز أن تكونَ الواوُ زائدةً فتكونَ كآيةِ البقرة، واستدلَّ هذا القائلُ على زيادةِ الواوِ بقوله:
450- فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ القَرْم وابنِ الهُمَامِ * ...........................
والجوابُ الأول هو الأصَحُّ.
والذَّبْحُ: أصلُه الشَّقُّ، ومنه: "المَذابحُ" لأخاديدِ السيول في الأرض. و "أبناء" جمع ابن، رَجَع به إلى أصله، فَرُدَّت لامُه، إمَّا الواوُ أو الياءُ حَسْبما تقدَّم. والأصلُ: "أَبْناو" أو "أبناي"، فَأُبْدِل حرفُ العلةِ همزةً لتطرُّفِه بعد ألفٍ زائدةٍ، والمرادُ بهم الأطفالُ، وقيل: الرجالُ، وعَبَّر عنهم بالأبناءِ اعتباراً بما كانوا.
قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ} عطفٌ على ما قبله، وأصلُه: يَسْتَحْيِيُون، فَأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ بعد حَذْفِ حركتها وقد تقدَّم بيانُه، فوزتُه يَسْتَفْعُون. والمراد بالنساءِ الأطفالُ، وإنما عَبَّر عنه بالنساءِ الظاهرُ أنَّها من واوٍ لظهورها في مرادِفِه وهو نِسْوَان ونِسْوَة، ويُحْتمل أن تكونَ ياءً اشتقاقاً من النِّسْيان، وهل نساء جمعُ نِسوةٍ أو جمعُ امرأةٍ مِنْ حيث المعنى؟ قولان.
قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلااءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و "بلاءٌ" مبتدأ. ولامُه واوٌ لظهورِها في الفعلِ نحو: بَلَوْتُه، أَبْلُوه، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} فأُبْدَلَتْ همزةً. والبلاءُ يكون في الخيرِ والشرِّ، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} لأنَّ الابتلاءَ امتحانٌ فيمتحِنُ اللهُ عباده بالخيرِ ليشكُروا، وبالشرِّ ليصبِروا، وقال ابن كَيْسان: "أبلاهُ وبَلاه في الخير" وأنشد:
(1/259)
---(1/259)
452- جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم * وأَبْلاهُمَا خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو
فَجَمَع بين اللغتين، وقيل: الأكثرُ في الخيرِ أَبْلَيْتُه، وفي الشرِّ بَلَوْتُه، وفي الاختبارِ ابتلَيْتُه وبَلَوْتُه، قال النحاس: "فاسمُ الإشارةِ من قوله: "وفي ذلكم" يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى الإنجاءِ "وهو غير مَحْبوب، ويجوز أن يكونَ إشارةً إلى الذَّبْحِ، وهو شرٌّ مكروهٌ". وقال الزمخشري: "والبلاءُ: المِحْنَةُ إنْ أشير بـ "ذلك" إلى صنيع فرعون، والنعمةُ إن أُشير به إلى الإنجاء"،وهو حسن. وقال ابن عطية: "ذلكم" إشارةٌ إلى جملةِ الأمر إذ هو خيرٌ فهو كمفردٍ حاضر" كأنه يريدُ أنه أُشير به إلى مجموعِ الأمرين من الإتجاءِ والذبح، ولهذا قال بعدَه: "ويكونُ البلاءُ في الخيرِ والشر" وهذا غيرُ بعيدٍ، ومثله:
453- إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى * وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
و {مِّن رَّبِّكُمْ} متعلقٌ بـ "بلاءٌ"، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ مجازاً. وقال أبو البقاء: "هو رفعٌ صفةٌ لـ "بلاء" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ" وفي هذا نظرٌ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان، إحداهما صريحةٌ والأخرى مُؤَوَّلةٌ قُدِّمَتِ الصريحةُ، حتى إنَّ بعضَ الناسِ يَجْعلُ ما سِواه ضرورةً. و "عظيمٌ" صفة لـ "بلاء" وقد تقدَّم معناه مستوفىً في أول السورة.
* { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
(1/260)
---(1/260)
قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}.. "بكم" الظاهرُ أنَّ الباءَ على بابها من كونِها داخلةً على الآلةِ فكأنه فَرَق بهم كما يُفْرَقُ بين الشيئين بما توسَّط بينهما. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن تمون المُعَدِّيةَ كقولِك: ذهبتُ بزيدٍ، فيكونُ التقدير: أَفْرَقْناكم البحرَ، ويكونُ بمعنى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ} وهذا قريبٌ من الأولِ. ويحوزُ أن تكونَ الباءُ للسبيَّة أي: بسببكم، ويجوزُ أن تكونَ للحالِ من "البحر" أَيْ: فَرَقْنا ملتبِساً بكم، ونظَّره الزمخشري بقولِ الشاعر:
454- .......................... * تَدُوس بنا الجماجِمَ والتَّريبا
أي: تدوسُها ونحن راكبوها. قال أبو البقاء: "أي: فَرَقْنا البحر وأنتم به، فتكونُ إمَّا حالاً مقدَّرةً أو مقارنةً". قلت: وأيُّ حاجةٍ إلى جَعْلِه إياها حالاً مقدَّرة وهو لم يكنْ مفروقاً إلا بهم كونِهم سالكينَ فيه؟ وقال أيضاً: و "بكم" في موضعِ نصبٍ ثانٍ لفَرَقْنا، و "البحرَ" مفعولٌ أولُ، والباءُ هنا في معنى اللام" وفيه نظرٌ؛ لأنه على تقديرِ تسليم كون الباءِ بمعنى اللام فتكونُ لام العلَّةِ، والمجرورُ بلام العلةِ لا يُقال إنَّه مفعولٌ ثانٍ، لو قلتَ: ضَرَبْتُ زيداً لأجلِك، لا يقولُ النحوي: "ضَرَبَ" يتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه والآخر بحرفِ الجر.
والفَرْقُ والفَلْقُ واحدٌ، وهو الفصلُ والتمييز، ومنه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [أي: فَصَلْناه] وميَّزناه بالبيانِ، والقرآنُ فرقانٌ لتمييزه بين الحقِّ والباطل وفَرْقُ الرأسِ لوضوحِه، والبحرُ أصله: الشِّقُّ الواسعُ، ومنه: لشَقِّ أذُنها. والخلافُ المتقدِّمُ في النهر في كونِه حقيقةً في الماء أو في الأخدُودِ جارٍ هنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وهل يُطْلَقُ على العَذْبِ بَحْرٌ، أو هو مختصٌّ بالماءِ المِلْحِ؟ خلافٌ ياتي تحقيقُه في موضِعِه. ويقال: أَبْحَرَ الماءُ أي: صار مِلْحاً قال نُصَيْب:
(1/261)
---(1/261)
455- وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادني * إلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ
والغَرَقُ: الرُّسوبُ في الماءِ، وتُجُوَّزُ به عن المُداخَلَةِ في الشيء، فيقال: أَغْرَق فلانٌ في اللَّهْو، ويقال: غَرِقَ فهو غَرِقٌ وغارِق، وقال أبو النجم:
456- مِنْ بَيْنِ مقتولٍ وطافٍ غارِقِ
ويُطْلَقُ على القتلِ بأيِ نوعٍ كان، قال:
457- ........................... * ألا لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ
والأصلُ فيع أن القابِلَة كانَتْ تُغَرِّق المولودَ في دَمِ السُّلَى عام القَحْطِ ليموتَ، ذكراً كان أو أنثى، ثم جُعِل كلُّ قَتْل تغريقاً. ومنه قول ذي الرمة:
458- إذا غَرَّقْتَ أرباضُها ثْنِيَ بَكْرَةٍ * بتَيْهاءَ لم تُسْبَحْ رَؤوماً سَلُوبُها
قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملةٌ من مبتدأ أو خبر في محلِّ نصبٍ على الحال من "آل فرعون" والعاملُ "أَغْرقنا"، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعولٍ "أنْجَيْناكم". والنظرُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ بالبصرِ لأنهم كانوا يُبْصِرُون بعضَهم بعضاً لقُرْبِهم. وقيل: المعنى وأنتم بحالِ مَنْ ينظرُ لو نَظَرْتُم، ولذلك لم يُذْكَرْ له مفعولٌ.
* { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
(1/262)
---(1/262)
قوله تعالى: {وَاعَدْنَا}. قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً، وقرأه الباقون: "وَاعَدنا" بألف. واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْدِ والوعيد، على هذا وجَدْنَا القرآن، نحو: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ} {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً: "وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من الله لموسى، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص" ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها. وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً: "قراءةُ العامَّة عندَنا: وَعَدْنا - بغيرِ ألفٍ - لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين". وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه. وقال مكي: "المواعدة أصلُها من اثنين، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو: طارَقْتُ النَّعْلَ"، فجعل القراءتين بمعنىً واحد، والأولُ أحسنُ. ورجَّح قوم "واعدنا". وقال الكسائي: "وليس قولُ الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة، وليس من الوَعْد في شيء، وإنما هو من قولك: مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا، والفصيحُ في هذا "واعَدْنا". وقال الزجاج: "واعَدْنا" بالألفِ جَيِّدٌ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة، فمِنَ الله وَعْدٌ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ، فجَرى مَجْرَى المواعدة". وقال مكي أيضاً: "والاختيارُ "واعَدْنا" بالألفِ، لأن بمعنى وَعَدْنَا، في أحدِ مَعْنَيَيْه، وأنه لا بُدَّ لموسى(1/263)
(1/263)
---
وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة".
و "وعدَ" يتعدَّى لاثنين، فموسى مفعولٌ أولُ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف، أي: تمامَ أربعين، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مَجْرَى جَمْعِ المذكر السالم، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه:
459- وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني * وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ
بكسر النون، و "ليلةً" نصبٌ على التمييز، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيِّز بواحدٍ منصوبٍ.
وموسى اسمٌ أعجمي [غيرُ منصرفٍ]، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ، والأصل: مُوشى - بالشين - لأنَّ "ماء" بلغتهم يقال له: "مُو" والشجر يقال به "شاء" فعرَّبته العربُ فقالوا موسى، قالوا: وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ. واختلافُهم في موسى: هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من ماسَ يميس أي: يتبخترُ في مِشْيَته ويتحرَّكُ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين، [وهذا] إنما هو [في] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق، لأنها تتحرَّك وتضطرب عند الحَلْقِ بها، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه أعجميٌّ.
(1/264)
---(1/264)
قوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ} اتَّخذ يتعدَّى لإثنينِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: ثم اتخذتم العجلَ إلهاً. وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل وجَعَل نحو: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وقال بعضُهم: تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهَمَا كَسْباً، فيتعدَّيان لواحدٍ. واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل: هو افْتَعَلَ من الأخْذِ والأصلُ: أأتخذ الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد أخؤى، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان، فَوَقَعَتْ الياءُ قبلَ تاءِ الافتعالِ فأبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعال كاتَّسر مِن مِن اليُسْر، إلاَّ أنَّ هذا قليلٌ في باب الهمز نحو: اتَّكل من الأكْل واتَّزَرَ من الإزارِ. وقال أبو علي: هو افْتَعَلَ من تَخِذَ يَتْخِذُ، وأنشد:
460- وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا * نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ
وقال تعالى:{لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} وهذا أسهلُ القَوْلَيْن.
والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما، وابن كثير وعاسم في رواية حَفْصٍ بالإظهار، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو: اتَّخَذْتُ، والجمع نحو: اتَّخَذْتُم، وأَتى في هذه الجملة بـ "ثُمَّ" دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ.
قوله: "مِنْ بعدِه" متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ يعودُ على موسى، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ، وقال ابنُ عطية: "يعودُ على موسى [وقيل: على انطلاقِه للتكليمِ، وقيل: على الوَعْدِ وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ، فإنَّ قولَه: "وقيل يعودُ على انطلاقِه" يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ.
قوله: "وأنتم ظالمون" جملةٌ حاليةٌ من فاعل "اتَّخَذْتُمْ".
(1/265)
---(1/265)
* { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: [{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم}] والعَفْوُ: المَحْوُ، ومنه "عَفَا الله عنكم" أي: مَحَا ذنوبَكم، والعافيةُ لأنها تَمْحُو السُّقْمَ، وَعَفَتِ الريحُ الأثرَ، قال:
461- فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها * لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وشَمَأْلِ
وقيل: عَفا كذا أي: كَثُر، ومنه "وَأَعْفُوا اللِّحى" فيكونُ من الأضداد. وقال ابنُ عطية: "العَفْوُ تغطيهُ الأثرِ وإذهابُ الحالِ الأول من الذَّنْب أو غيره ولا يُسْتَعْمَلُ العَفْوُ بمعنى الصَّفْح إلا في الذَّنْبِ" وهذا الذي قاله [قريبٌ] من تفسير الغُفْرانِ، لأنَّ الغَفْرَ التغطيةُ والسَّتْر، ومنه: المِغْفَرُ، ولكِنْ قد فُرِّقَ بينهما بأنَّ العفوَ يجوزُ أن يكونَ بعد العُقوبَةِ فيجتمعُ معها، وأمَّا الغُفْران فلا يكونُ مع عقوبةٍ. وقال الراغب: "العَفْوَ: القَصْدُ لِتَناوُلِ الشيء، يُقال: عَفَاه واعْتَفَاه أي قَصَدَه مُتَناولاً ما عندَه، وعَفَتِ الريحُ الترابَ قَصَدَتْها متناولةً آثارَها، وعَفَتِ الديارُ كأنها قَصَدَتْ نحو البِلَى، وعَفَا النبتُ والشَّعْرُ قَصَدَ تناولَ الزيادةِ، وعَفَوْتُ عنك كأنه قَصَدَ إزالةَ ذَنْبِه صارِفاً عنه، وأَعْفَيْتُ كذا أي تركْتُه يَعْفُو ويكثُر ومنه "وأَعْفُوا اللِّحى" فَجَعَلَ القصدَ قَدْرَاً مشتركاً في العَفْو، وهذا ينفي كونَه من الأضداد، وهو كلامٌ حَسَنٌ، وقال الشاعرٍ:
462- …….............................. * إذا ردَّ عافي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُهَا
معناه: أنَّ العافِيَ هنا ما يَبْقَى في القِدْرِ مِنَ المَرَقِ ونحوِه، فإذا أرادَ أحدٌ [أَنْ] يستعيرَ القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبَها بالعافي الذي فيها، فالعافي فاعل، ومَنْ يستعيرُها مفعولٌ، وهو من الإسنادِ المجازي لأنَّ الرادَّ في الحقيقة صاحبُ القِدْرِ بسببِ العافي.
(1/266)
---(1/266)
وقوله: {تَشْكُرُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرُ "لعلَّ"، وقد تقدَّم تفسيرُ الشكر عند ذكر الحَمْدِ. وقال الراغب: "وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وأظهارُها، وقيل: هو مَقْلُوبٌ عن الكَشْرِ أل الكَشْف وهو ضدُّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النِّعْمَةِ. وقيل: أصلُه من عَيْن شَكْرى أي ممتلئةٌ، فهو على هذا الامتلاءُ مِنْ ذِكر المُنْعَمِ عليه". وشَكَر من الأفعالِ المتعدِّيَة بنفسِها تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى وليسَ أحدُهما أصلاً للآخَر على الصحيحِ، فَمِنَ المتعدذشي بنفسِه قولُ عمرو ابن اُحَيّ:
463- همُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عليكُمُ * فَهَلاَّ شكرْتَ القومَ إذ لم تُقاتِلِ
ومن المتعدَّي بحرفِ الجرِّ قولُه تعالى: {وَاشْكُرُواْ لِي} وسيأتي [هناك] تحقيقُه.
* { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}.. مفعولٌ ثانٍ لآتينا، وهل المرادُ بالكتاب والفرقانِ شيءٌ واحدٌ وهو التوراةُ؟ كأنه قيل: الجامعُ بينَ كونِه كتاباً مُنَزِّلاً وفرقاناً يَفْرُق بين الحقِّ والباطلِ، نحو: رأيت الغيثَ والليثَ، وهو من باب قولِه:
464- إلى المَلِك القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ * .................................
أو لأنه لمَّا اختَلَفَ اللفظُ جازَ ذلك كقوله:
465- فَقَدَّمَتِ الأَدشيمَ لراهِشَيْهِ * وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله:
466- ............................... * وهندٌ أتى مِنْ دَوْنِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقولهِ:
467- .................................. * أَقْوَى وأَفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ
(1/267)
---(1/267)
قال النحاس: "هذا إنما يجوزُ في الشِّعْر، فالأحسنُ أن يُرادَ بالفرقان ما علَّمه الهُ موسى من الفَرْق بين الحق والباطل". وقيل: الواوُ زائدة، و "الفرقان" نعتٌ للكتاب أو "الكتابُ" التوراةُ، و "الفرقانُ" ما فُرِّقَ به بين الكُفْر والإيمانِ، كالآياتِ من نحو العَصا واليد، أو ما فُرِّقَ به بين الحلالِ والَحرام من الشرائعِ.
والفُرْقُانُ مصدرٌ مثلُ الغُفْران. وقد تقدَّمَ معناهُ في {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} وقيل: الفرقانُ هنا اسمُ للقرآنِ، قالوا: والتقديرُ: ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتابَ ومحمداً الفرقانَ. قال النحاس: "هذا خطأٌ في الإعرابِ والمعنى، أمَّا الإعرابُ فلأنَّ المعطوفَ على الشيءِ مثلُه، وهذا يخالِفُه، وأمَّا المعنى فلقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}.
* { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوااْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوااْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: {يَاقَوْمِ}. اعلم أنَّ في المنادى المضافِ إلى ياء المتكلم ستِّ لغاتٍ أفصحُها: حَذْفُها مُجْتَزَأً منها بالكسرةِ وهي لغةُ القرآن، الثانية: ثبوتُ الياءِ ساكنةً، الثالثة: ثبوتُها مفتوحةً، الرابعةُ: قَلْبُهَا ألفاً، الخامسةُ: حَذْفُ هذهِ والاجتزاءُ عنها بالفتحةِ كقولِه:
468- ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي * بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي
أي: بقولي يا لَهْفَا، لا سادسة: بناءُ المضاف إليها على الضمِّ تشبيهاً بالمفرد، نحو قراءةِ مَنْ قَرَأ: {قَالَ رَبُّ احْكُم بِالْحَقِّ}. قال بعضُهم: "لأنَّ "يا قوم" في تقدير: يا أيُّهَا القومُ" وهذا ليس بشيءٍ.
(1/268)
---(1/268)
والقومُ: اسمُ جمعٍ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين، وليس له واحدٌ من لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ، ومفردُه رَجُل، واشتقاقُه من قام بالأمرِ يَقُوم به، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} والأصلُ في إطلاقِهِ على الرجال، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ} وفي قولِ زهير:
469- وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي * أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ
وأما قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} و {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} والمكذِّبون رجالٌ ونساء فإنما ذلك من باب التغليب، ولا يجوزُ أن يُطْلَقَ على النساءِ وَحْدَهُنَّ البتىَ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهِمُ [ذلك].
قوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} الباءُ للسببيةِ، متعلِّقَةٌ بـ "ظَلَلْتُم" وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ: هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ. "والعجل" مفعولٌ أولُ والثاني محذوفٌ أي: إلهاً كما تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو أحسنُ الوجهينِ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه إلى الفاعل لأنَّ رُتٍبَته التقديمُ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ الفاعل. فأمَّا: {قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} فسيأتي [القول فيها مُشْبعاً] إن شاء الله تعالى.
والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة. قال الراغب: "العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ لِتَصوُّرِ عَجَلَتها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً". وقيل: إنما سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه مجيء موسى، ويُرْوَى عن عليّ، وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك، والجمع عَجاجِيل وعُجُول.
(1/269)
---(1/269)
قوله: "إلى بارئكم" متعلِّقٌ بـ "تُوبوا" والمشهورُ كَسْرُ الهمزة، لأنها حركةُ إعرابٍ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ: الاختلاسُ، وهو الإتيانُ بحركةٍ خفيَّة، والسكونُ المَحْضُ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو، قال سيبويه: "إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط"، وقال المبردُ: "لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحراكات في حرف الإعراب في كلامٍ ولا شعر، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ" وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإعراب وقد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً، ومنه قولُ امرئِ القيس:
470- فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ * إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ
فسكَّن "أَشْرَبْ"، وقال جرير:
471- ................................ * ونهرُ تِيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال أخر:
472- رُحْتِ وفي رِجٍلَيْكِ ما فيهما * وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ
يريد: هَنُك، وتَعْرِفُكم، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه:
473- قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا
وقول الآخر:
474- إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ
وقول الآخر:
475- إنما شِعْريَ شَهْدٌ * قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ
(1/270)
---(1/270)
ولا يَحْسُن لأنها حركاتُ بناء، وإنما مَنَع هو ذلك في حاكاتِ الإعراب، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَكْرَ السَّيىءِ وَلاَ} فإنه سَكَّن هَمزة "السيء" وَصْلاً، والكلامُ عليهما واحد، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزوِ راءً مكسورةً، والراءُ حرفُ تكريرٍ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذارِ عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه:
476- وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ * لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ
وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ، ولذلك يُدْغَمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو: {يَنصُرْكُمُ} و {يَأْمُرُكُمْ} و {بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} على تفصيلٍ معروةفٍ عند القرَّاء. ورُوِيَ [عنه] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [عنه]، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ. وروى ابنُ عطية عن الزهري "باريِكِم" بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ، قال: :ورُوِيَتْ عن نافع"، قلت: من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب.
477- كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً * ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ
وقرأ قتادة: "فاقْتالوا" وقال: عينُها واواً [كاقتادوا] أو ياءً كاقتاس، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة"، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده.
(1/271)
---(1/271)
والبارئ هو الخالقُ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم، وقد فَرَّق بعضُهم بين الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدعُ المُحْدِثُ، والخالِقُ هو المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال. وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ والتميُّزِ، ومنه: بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأتُ أيضاً من الدَّيْن بَراءةً، والبَرِيَّةُ الخَلْق، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجودِ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ، وقيل: أصلُه من البَرَى وهو التراب، وسيأتي تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى.
قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} قال بعضُهم: "ذلكم" مفردٌ واقعٌ موقعَ "ذانكم" المثنَّى، لأنه قد تقدَّم اثنان: التوبة والقتلُ. قال أبو البقاء: "وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ قولَه: {فَاقْتُلُوااْ} تفسيرُ التوبةِ فهو واحدٌ" و "خَيْر" أفعلُ تفضيلٍ وأصلًُه: أًَخْيَرُ، وإنما حُذِفَتْ همزتُه تخفيفاً ولا تَرْجِعُ هذه الهمزةُِ إلا في ضرورةٍ، قال:
478- بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ
ومثلُه شَرّ، لا يجوز أَشَرّ، إلا في ندور، وقد قُرء: "مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ" وإذا بُني من هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم: "ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ، وما شَرَّه للمبكونِ" فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب، و "خَيْر" أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على فَيْعَل ولا يكونُ من هذا البابِ، ومنه: "فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ" قال بعضهم: "مُخَفَّف من خَيِّرات". والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به، أي: خيرٌ لكم من عدم التوبة. ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتَملها [هذا] الكتابُ، وإنام تأتي منها بما نضطرُّ إليه.
(1/272)
---(1/272)
قولُه تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} في الكلامِ حَذْفٌ، وهو "فَفَعَلْتُم ما أُمِرْتُمْ به من القتلِ فتابَ عليكم. والفاءُ الأولى في قوله: "فتوبوا" للسببية، لأن الظلمَ سَببُ التوبةِ، والثانيةُ للتعقيبِ لأنَّ المعنى: فاعْوِموا على التوبة، فاقتلوا أنفسَكم، والثالثةُ متعلقةٌ بمحذوفٍِ، ولا يخلو: إمَّا فَعَلْتُم فقد تابَ عليكم، وإمَّا أَنْ يكونَ خطاباً من الله لهم على طريقةِ الالتفاتِ، فيكونُ التقديرُ: فَفَعَلْتُم ما أَمركم به موسى فتابَ عليكُم، قاله الزمخشري.
* { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
قولُه تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ}: إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين: إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ: لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعنى الأقرارِ، أي: [لَنْ] نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه، وقرأ أبو عمرو بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما.
(1/273)
---(1/273)
قولُه تعالى: "جَهْرَةً" فيه قولان: أحدُهما: أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ، وهو من لفظِها، تقديرُه: جَهَرْتُمْ جَهْرَةً نقله أبو البقاء، والثاني: أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْصِبُ انتصابَ القُرْفُصاء من قولك: "قَعَدَ القُرْفُصاء"، "واشتمل الصَمَّاء"، فإنها نوعٌ من الرؤيةِ، وبه بدأ الزمخشري. والثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ، أحدُهما: أنه حالٌ من فاعل "نرى" أي: ذوي جَهْرَةٍ، قاله الزمخشري. والثاني: أنَّها حالٌ من فاعل "قُلْتم"، أي: قلتم ذلك مجاهِرين، قاله أبو البقاء، وقال بعضُهم: فيكونُ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، بل أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه، فهو نظيرُ: "ضَرَبْتُ هنداً قائماً". والثالثُ: أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى، أي: نَرَاه ظاهراً غيرَ مستورٍ. والرابعُ: أنَّها حالٌ من فاعلِ "نؤمن" نقله ابنُ عطية، ولا معنى له، والصحيحُ من هذه الأقوالِ الستة الثاني.
وقرأ ابنُ عباس "جَهَرَةً" بفتح الهاء وفيها قولان، أحدُهما: أنها لغةٌ في جَهْرة، قال ابن عطية: "وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمَعُوه"، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك. والثاني: أنها جمعُ "جاهر"، نحو: خادِم وخَدَم والمعنى: حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر، وهي تُؤَيِّدُ كونَ "جهرةً" حالاً من فاعل "نَرى".
والجَهْرُ: ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي: أظهرَها: قال الزمخشري: "كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ، والذي يَرَى بالقلبِ مُخافِتٌ بها".
* { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوااْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(1/274)
(1/274)
---
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}: تقديرُه: وجَعَلْنَا الغَمَامَ يُظَلِّلُكُمْ، قال أبو البقاء: "ولايكونُ كقولِك: "ظَلَّلْتُ زيداً يُظِلُّ" لأن ذلك يقتضي أن يكونَ الغمامُ مستوراً بظِلٍّ آخَرَ" وقيل: التقديرُ: بالغَمَامِ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجلاِّ لا ينقاسُ.
والغَمَامُ: السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء، أي يستُرُها، وكلُّ مستورٍ مغموم أي مُغَطَّى، وقيل: الغمامُ: السحابُ الأبيضُ خاصةً، ومثلُه الغَيْمُ والغِيْن بالميم والنونِ، وفي الحديثِ "إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي"، وواحدتُه غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ.
والمَنُّ قيل: هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنِجيِن بالتاء والطاء، وقيل: هو مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ، وكذلك قِيل في السَّلْوى، إنها مصدرٌ أيضاً، أي: إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ، نقلَه الراغبُ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ حرفَ علَّة، فيقالُ: "مَنا" مثلَ عَصا، وتثنيتهُ مَنَوان، وجمعُه أمْناء. والسَّلْوى المشهورُ أنها السُّمانَى بتخفيفِ الميمِ، طائرٌ معروف. والمَنُّ لا واحدَ له من لفظِه، والسَّلْوى مفردُها سَلْواة، وأنشدوا:
479 *- وإني لَتَعْروني لِذِكْرالكِ *سَلْوَةٌ كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ
فيكونُ عندَهم من باب: قمح وقمحة، وقيل: "سَلْوى" مفردٌ وجمعُها سَلاوى، قاله الكسائي، وقيل: سَلْوَى يُستعمل للواحدِ والجمعِ، كدَقَلى وشُكاعى وقيل: السَّلْوَى: العَسَلُ، قال الهذلي:
480- وقاسَمَهَا بالله جَهْداً لأنتمُ * أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها(1/275)
وغَلَّطه ابنُ عطية، وادَّعَى الإجماعَ على أن السَّلْوى طائر، وهذا غيرُ مُرْضٍ من القاضي أبي محمد، فإن أئمةَ اللغةِ نقلوا أن السَّلْوَى العَسَلُ، ولم يُغْلِّطوا هذا الشاعرَ، بل يستشهدونَ بقولِهِ.
(1/275)
---
قوله: "كُلُوا" هذا على إضمار القَوْلِ، أي: وقُلْنَا لهم: كُلوا: وإضمارُ القولِ كثيرٌ في لسانِهم، ومنه: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} أي: يقولونَ سلامٌ، "والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم إلا" أي: يقولون ذلك، "وأمّا الذين اسْوَدَّتْ وجوهُهم أَكَفَرْتُم أي: فيُقال لهم ذلك وقد تقدَّم القولُ في "كل" وتصريفِه.
قوله: {مِن طَيِّبَاتِ} "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ، وقال أبو البقاء: "او لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي: كُلوا شيئاً من طيبات" وهذا غيرُ مُرْضٍ، لأنه كيف يُبَيِّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ؟
قوله: {مَا رَزَقْنَاكُمْ} يجوزُ في "ما" أن تكونَ بمعنى الذي، وما بعدها صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً. فالجملةُ لا محلَّ لها عل الأولِ ومحلًُّها الجرُّ على الثاني، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عُرِفَ قبلَ ذلك، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً المفعولِ، أي: مِنْ طيباتِ مَرْزُوقِنا.
قوله تعالى: {أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} "أنفسَهم" مفعولٌ مقدَّمٌ، و "يَظْلِمُون" في محلِّ النصْبِ لكونِهِ خبرَ "كانوا"، وقُدِّمَ المفعولُ إيذاناً باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم. والاستدراكُ في "لكنْ" واضحٌ. ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله {وَمَا ظَلَمُونَا}، فقدَّره ابنُ عطية: فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ وما ظلمونا، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ {وَمَا ظَلَمُونَا} عليه.(1/276)
* { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }
(1/276)
---
قوله تعالى: {هَاذِهِ الْقَرْيَةَ}: هذه: منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على المفعولِ به، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يَتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا بـ "في" تقول: صَلَّيتُ في البيتِ، ولا تقولُ: صَلَّيْتُ البيتَ؛ إلا ما اسْتُثْنِي. ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي "دَخَلَ" مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ، نحو: دَخَلْتُ" مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِكَ: "هَدَمْتُ البيتَ" فلو جاء "دَخَلَ" مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [بفي، نحو: دَخَلْتُ في الأمر، ولا تقولُ: دَخَلْتُ الأمرَ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ "دَخَلَ" تَعَدَّى] بـ "في" إلا ما شَذَّ كقولِه:
481- جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه * رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
و "القريةَ" نعتٌ لـ "هذه"، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي: جَمَعْتُ: تقولُ: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ، أي: جَمَعْتُه، واسمُ ذلك الماء: قَرِىً بكسر القاف. والمِقْرَاةُ: الجَفْنَةُ العظيمةُ، وجمعُها مقارٍ، قال:
482- عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ * ..................................
والقَرْيان: اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي يَجْتَمِعُ فيه القومُ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً، وقوله تعالى: "واسألِ القريةَ" يَحْتَمِلُ الوَجْهَيْن. وقال الراغبُ: "إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما".(1/277)
قولُه تعالى: {الْبَابَ سُجَّداً} "سُجَّدا" حالٌ من فاعلِ "ادْخُلوا"، وهو جمع ساجدِ. قال أبو البقاء: "وهو أَبْلَغُ من السجود" يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول، وفيه نَظَرٌ. وأصلُ "باب": بَوَب لقولهم أبْواب، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِيه لازدواجِ الكلامِ، قال الشاعر:
(1/277)
---
483- هَتَّاكَ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أَبْوِيَةٍ * يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا
قوله :حِطَّة" قُرِئ بالرفع والنصب، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة، قال الزمخشري: والأصلُ النصبُ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبنا حِطًَّ، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [معنى] الثباتِ، كقوله:
484- شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى * صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
والأصلُ: صَبْراً عليَّ، اصبرْ صبراً"، فَجَعَلَه من بابِ {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال ابنُ عطية: "وقيل: أُمِرُوا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ" يعني على الحكايةِ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ. وقال أيضاً: "وقال عكرمة: أُمِرُوا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم" وحكى فقَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال: "فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو: قُلْ لزيد خيراً، المعنى: قل له ما هو من جنس الخُيور. وقال النحاس: "الرفعُ أَوْلَى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل، قال أحمد بن يحيى: "يقال: بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله:
485- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ(1/278)
وقال تعالى: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} ولحديث ابن مسعود "قالوا حِنْطة" تفسيرٌ على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال: "فبدَّل" الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ العَيْنِ، وهذا المعنى يَقْتَضي الرفعَ لا النصبَ؟
(1/278)
---
وقرأ ابنُ أبي عبلة "حِطَّةً" بالنصب، وفيها وجهان: أحدُهما: أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ، نحو: ضَرْباً زيداً، والثاني: أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي: قولوا هذا اللفظَ بعينِه، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ، ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجه.
والحِطَّةُ: اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة، وقيل: هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها، وقيل: هي التوبةُ، وأنشد:
486- فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ اللـ * ـهُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا
قوله: "نَغْفِر" هو مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقد تقدَّم الخلافُ: هل الجازمُ نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ؟ أي: إنْ يقولوا نَغْفِرْ. وقُرئ "نَغْفِرْ" بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه "وإذ قلنا" و "تُغْفَرْ" مبنياً للمفعول بالتاءِ والياء. و "خَطاياكم" مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه، فالتاءُ لتأنيثِ الخَطايا، والياءُ لأن تُنيثَها غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً بـ "لكم". وقُرئ "يَغْفِرْ" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، وهي في معنى القراءةِ الأولى، إلا أنَّ فيه التفاتاً. و "لكم" متعلق بـ "نَغْفِرْ". وأدغم أبو عمرو الراءَ في اللام، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها، قالوا: لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى من اللامِ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ، وليسَ فيها ضَعْفٌ؛ لأنَّ انحرافَ اللامِ يقاوِمُ تكريرَ الراءِ. وقد طَوَّل أبو البقاء وغيرُه في بيانِ ضَعْفِها وقد تقدَّم جوابُه.
(1/279)
---(1/279)
قوله: "خَطَايَاكُمْ": إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه، أو مرفوعٌ حَسْبَما تقدَّم من القراءاتِ، وفيها أربعةُ أقوال، أحدُها: -وهو قولُ الخليل رحمه الله - أن أصلَها: خطايِئٌ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ، لأنها جمعُ خطيئة مثل: صحيفة وصحايف، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا، على ما تقرَّر في علمِ التصريف، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان [بأنْ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأخَّر عنها المَدَّة فصارت: خَطائِي، فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ، فَقَلبوا الكسرةَ فتحةً، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً، فصارتْ: خطاءَا، بهمزةٍ بين ألفين، فاسُتْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ، فكأنه اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ، فقلبوا الهمزةَ ياءً، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ، فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى، ففيها أربعةُ أعمالٍ، قلبٌ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً، وقلبُ الياءِ ألفاً، وإبدالُ الهمزةِ ساءً، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهبُ الخليلِ.
(1/280)
---(1/280)
الثاني - وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً - إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه: فعالِئ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً، فتنقلبَ ساءً فتصيرَ فَعالئ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا: يا لَهْفى ويا أسفى، فصارت الهمزةُ بين ألفين، فأُبْدل منها ياءٌ لأن الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ. فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ: تقديمُ اللامِ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً، ثم إبدالُها ألفاً، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً. والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان.
الثالث: قولُ سيبويهِ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم، فَاَبْدَلَ الياءَ الزائدةَ همزةً، فاجتمع همزتان، فَاَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً، ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم، ووزنُها عنده فعائل، مثل صحائِف، وفيها على قوله خمسةُ تغييراتٍ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً، وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ ياءً.
(1/281)
---(1/281)
الرابع: قولُ الفرَّاء، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا، ورَكِيَّة ورَكايا، قال الفراء: "ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءا"، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ، ولكنه لم يَقُله العربُ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز. وقال الكسائي: ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل: دَوابّ. وقُرئ "يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم" و "خطيئَتكم" بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و "خَطَأْيَاكم" بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ، وبالعكس. والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم.
والغَفْرُ: السَّتْرُ، ومنه: المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها. وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو. والغِفار خِرْقَةٌ تِسْتُر الخِمار [أن] يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ. والخطيئة من الخَطَأ، وأصلُه العُدولُ عن الجهةِ، وهو أنواعٌ، احدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه، يُقال منه: أَخْطَأ خَطَأً فهو مُخْطِئٌ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً واتفق منه غيرُهُ يُقال: أخْطَأَ، وإن وقع كما أراد يُقال: أصاب، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل فِعْلاً لا يُحْسَنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ: إنه أَخطأ، ولهذا يقال أصابَ الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ، وسيأتي الفرقُ بينهما وبين السيئة أنْ شاءَ اللهُ تعالى.
* { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
(1/282)
---(1/282)
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}: لا بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا القولَ الذي قيل لهم، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره، فقيل: تقديرُه: فبدَّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم [قولاً غيرَ الذي قيل لهم] فـ "بَدَّلَ" يتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخرؤ بالباءِ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو الموجودُ كقولِ أبي النجم:
487- وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ * هَيْفَاً دَبُوراً بالصِّيا والشَّمْأَلِ
فالمقطوعُ عنها الصِّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ، قالَه أبو البقاء. وقال: "يجوز أن يكونَ "بَدَّل مَحْمولاً على المعنى تقديره: فقال الذين ظلموا قولاً غيرَ الذي قيلَ لهم، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ "غير" عنده في هذين القولَيْن على النعت لـ "قولاً" وقيل: تقديرُه: فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي، فَحَذَفَ الحرفَ فانتصبَ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل: فغيَّروا قولاً بغيره، أي جاؤوا بقولٍ آخَرَ مكانَ القولِ الذي أُمِرُوا به، كما يُرْوى في القصة أنَّهم قالوا بَدَلَ "حِطَّة" حِنْطة في شُعَيْرة.
والإبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ، وقد يُقال التبديل: التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين، إلا أنه قُرئ: {عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا} {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} بالوجهين، وهذا يُقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما]، والبديلُ، والبدل بمعنى واحدٍ، وبَدَّله غيرُه. ويُقال: بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَشَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل، قال أبو عبيدة: "لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ".
(1/283)
---(1/283)
قوله: {مِّنَ السَّمَآءِ} [يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، أيْ: من جهةِ السماء، وهذا الوجهُ] هو الظاهرُ. والثاني أن يكونَ صفةً لـ "رِجْزاً"، فيتعلَّفَ بمحذوفٍ و "مِنْ" أيضاً لابتداءِ الغايةِ. وقولُه: {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فأعادَهم بذِكْرِهم أولاً، ولم يَقُلْ "عليهم" تنبيهاً على أنَّ ظُلْمِهِم سببٌ في عقابِهم، وهو من إيقاعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المُضْمر لهذا الغرض. وإيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ على ضَرْبَيْنِ: ضربٍ يقعُ بعد تمامِ الكلامِ كهذهِ الآيةِ، وقول الخَنْساء:
488- تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً * وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمْزا
أي: أصابَتْني نوائبُه جُمَعُ، وضربٍ يقعُ في كلامٍ واحد نحو قوله: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ} وقول الآخر:
489- ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَتُ دائباً * كان الغبراُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ
وقد جمع عديٌّ بنُ زيدٍ بين المعنيين فقال:
490- لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا
وجاء في سورة الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} فجاء هنا بلفظ الإرسالِ، وبالمضمرِ دونَ الظاهرِ، وذلك أنه تعالى عَدَّد عليهم في هذه السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها أَبَلَغَ مِنْ ثَمَّ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا، ولفظُ الإنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإرسالِ.
والرِّجْزُ: العَذَابُ، وفيه لغةٌ أخرى ضَمُّ الراءِ، وقِرِئ بهما وقيل: المضمومُ اسم صَنَمٍ، ومنه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وذلك لأنه سببُ العذابِ. وقال الفراء: "الرِّجْزُ والرِّجْسُ - بالزاي والسين - بمعنىً كالسُّدْغِ والزُّدْغِ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ: القَذَرُ وسيلأتي بيانُه، والرَّجَزُ داءٌ يُصيبُ الإبلِ فترتعشُ منه، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر.
(1/284)
---(1/284)
قوله: "بما كانوا يفسُقُون متعلِّق بـ {أَنزَلْنَا} والباءُ للسببية و "ما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وهو الظاهرُ أي: بسببِ فِسْقِهم، وأن تكونَ موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوفٌ على التدريجِ المذكور في غير موضعٍ، والأصلُ يَفْسُثُونَه، ولا يَقْوَى جَعْلُها نكرةً موصوفَةً، وقال في سورة الإعراف: {يَظْلِمُونَ} تنبيهاً [على] أنهم جامِعُون بين هذين الوصفينِ القبيحين. وقد تقدَّم معنى الفِسْق. وقرأ ابن وثَّاب {يَفْسُقُونَ} بكسر السين، وقد تقدَّم أنهما لغتان.
* { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
قوله تعالى: {اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} السينُ للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي: سَأَلَ لهم السُّقيا، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السُّقْيِ، وقد تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفى في أولِ السورة. ويقال: سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى وأنشد:
491- سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى * نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل: سَقِيْتُه: أَعْطَيْتُه، ما يَشْرَبُ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له يتناولُه كيف شاء، والإسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا، وقيل: أَسْقَيْته دَلَلْتُه على الماءِ، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى عند قولِه: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ
} و "لقومِه" متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة، أي: لأجلِ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم "سُقْياً لك" فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كنظيرتِها".
(1/285)
---(1/285)
قوله: {اضْرِب بِّعَصَاكَ} الإدغام [هنا] واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مِثْرن في كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإدغامُ نحو: اضربْ بكرا. وألفُ "عصاك" منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسب: عَصَوِيّ، وفي التثنية عَصَوانِ، قال:
492- ............................ * على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع: عِصِيّ وعُصِيّ بضمَّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً، وأَعْصٍ، مثل: زَمَن، وأَزْمُن، والأصل: عُصُوو، وأَعْصُو، فَأُعِلَّ. وعَصَوْتُه بالعَصا وعَصَيْتُه بالسيفِ، و "ألقى عصاه" يُعَبِّر به عن بُلوغ المنزلِ، قال:
493- فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى * كما قرَّ عَيْناً بالإيابِ المسافِرُ
وانشقَّت العصا بين القومِ أي: وقع الخلافُ، قال الشاعر:
494- إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا * فَحَسْبُكَ والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
قال الفراس: "أولُ لَحْنٍ سُمِعَ بالعراقِ هذه عصاتي" يعني بالتاء، و "الحَجَرَ" مفعولٌ وأل فيه للعهدِ، وقيل: للجنسِ.
قوله: {فَانفَجَرَتْ} "الفاءُ" عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه، تقديرُه: فَضَرَيَ فانفجَرَت، وقال ابنُ عصفور: "[إن] هذه الفاءَ الموجودةَ هي الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ، والفاءُ الداخلةُ على "انفجَرتْ محذوفةٌ" وكأنه يقولُ: حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَتْ الفاءُ الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها. ولا حاجةَ تَدْعُو إلى ذلك، بل يُقال: حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْهُ قبلها. وجَعَلَها الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ، قال: "أو: فإن ضَرَيْتَ فقد انفجرَتْ، قال: "وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في كلامٍ بليغ"، وكأنه يريدُ تفسيرَ المعنى لا الإعرابِ.
والانفجارُ: الانشقاقُ والتفتُّح، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ، وفي الأعرافِ، {فَانبَجَسَتْ} فقيل: هما بمعنى، وقيل: الانبِجاس أضيقُ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً.
(1/286)
---(1/286)
قوله: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} فاعل "انفجرت"، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد من لفظِه، وكذلك مذكَّرُ "اثنان" ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى، تقول: رجلان وامرأتان، ولا تقول: اثنا رجلٍ ولا اثنتان امرأةٍ، إلا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه: قال:
495- كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ * ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَل
وثِنْتَان مثل اثنتين، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما، قالوا: لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإضافة وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً، وأمَّا "عَشْرة" فمبني لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و "عَيْناً" تمييز.
وقُرئ: "عَشِرة" بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ، قال النحاس: "وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ تميم عَشِرة بالكسر، وسبيلُهم التخفيفُ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون وسبيلُهم التثقيل". وقرأ الأعمش: عَشَرة بالفتح. والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ المِيزان، والعَيْنُ: المطر الدائم ستاً أو خمساً، والعَيْنُ: الثُّقْب في المَزادَة، وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي: قليلُ الناس.
[قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ} قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس. وقال الزمخشري في سورة الأعراف: إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير، ثم قال: "ويجوز أن يكونَ الأصلُ الكسرَ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورةِ].
(1/287)
---(1/287)
قوله: {مَّشْرَبَهُمْ} مفعولٌ لـ "عَلِمَ" بمعنى عَرَف، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها [سِبْطُ] غيرُه. وقيل: هو نفسُ المشروب. فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به.
قوله: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ، تقديرُه: وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا، وقد تقدَّم تصريفُ "كل" وما حُذِف منه.
قولُه: {مِن رِّزْقِ اللَّهِ} هذه من باب الإعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الولِ، والتقديرُ: وكُلوا منه.
و "مِنْ" يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولُ الأكلِ محذوفاً، وكذلك مفعولُ الشُّرْب، للدلالة عليهما، والتقدير: كُلوا المَنَّ والسَّلْوى، لتقدُّمِهما في قوله:{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} واشرَبُوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ، وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتَمَلُ تعلُّقُه بالفِعلِ قبله، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ [المحذوفِ]، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. وقيل: المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ يُؤْكل منه ويُشْرَبُ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من باب ذِبْح ورِعْي، وأن يكونَ من باب "درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ"، وقد تقدَّم بيانُ ذلك.
(1/288)
---(1/288)
قوله{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أصلُ "تَعْثَوا": تَعْثَيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى، فوزنُه تَفْعُون. والعِثِيُّ والعَيْثُ: أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان. وقال بعضُهم: "إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً، يقال: عَثَى يَعْثَى عِيْثَاً وهي لغةُ القرآنِ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً، وليس عاثَ مقلوباً من عَثَى كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ كما تقدَّم، ويُحْتَمل ذلك، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ. ويُقال: عَثِيَ يَعْثَى عِثيّاً ومَعَاثاً، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان لثبوت العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك. وعَثَا كما تقدَّم، ويقال: عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فسد، ومنه: العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ، وأمَّا "عَتَا" بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي الكلامُ عليه.
و "مُفْسِدِينَ" حالٌ من فاعل "تَعْثَوْا"، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين، ومثله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} هكذا قالوا: ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم، ولهذا قال الزمخشري: "فقيل لهم: لا تَتَمادَوا في اففسادِ في حالِ فَسادِكم، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه، فغايَر بينهما كما ترى.
و {فِي الأَرْضِ} يَحْتمل أن يتعلَّق بـ "تَعْثَوْا" وهو الظاهرُ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين.
(1/289)
---(1/289)
* { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
قوله تعالى: {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}: ناصبٌ ومنصوبٌ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقد تقدَّم الكلامُ على "لن"، وقولُه "طعام واحد" وإنما كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف، ونحن أهلُ زراعاتٍ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ، وقيل: كَنَوْا بذلك عن الغِنَى، فكأنهم قالوا: لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ.
والطعامُ: اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ، ومنه {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر، وفي حديث الصدقة: "أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من عشير"، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ، تقول: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل، قال أبو خراش:
(1/290)
---(1/290)
496- أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه * وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي * إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى، منه، وقد يُعَبَّر به عن الإعطاءِ، قال عليه السلام: "إذا اسْتَطْعَمَكم الإمامُ فأطْعَموه" أي: إذا استفتح فافتحُوا عليه، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً، قال:
497- نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو * دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياماً
قوله: {فَادْعُ} اللغةُ الفصيحةُ "ادعُ" بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو، ولغة بني عامر: فادْع بكسر العين، قالَ أبو البقاء: "لالتقاءِ الساكنين، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ، ولا يُراعونَ المحذوفَ" يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ، فكُسِرت العينُ، وفيه نظرٌ، لأن القاعدةَ في هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني، فيجوزُ أن يكونَ [مِنْ لغتهم] دَعَى يَدْعى مثل رَمى يَرْمِي. والدعاءُ هنا السؤالُ، ويكونُ بمعنى التسمية كقوله:
498- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ * .................................
وقد تقدَّم، و "لنا" متعلِّق به، واللام للعلَّة.
قوله :يُخْرِجْ" مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقال بعضُهم: "مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً، أي: لِيُخْرِجْ، وضَعَّفه الزجاج، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى.
(1/291)
---(1/291)
قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} مفعولُ "يُخْرِجْ" محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه: مأكولاً [مِمَّا] - أو شيئاً مِمَّا - تُنبت الأرضُ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، ويكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغاية، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي: مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و "مِنْ" للتبعيضِ، ومذهبُ الأخفش أنَّ "مِنْ" زائدةٌ في المفعول، والتقديرُ: يُخْرَجْ ما تُنْبِتْهُ الأرضُ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً. و "ما" يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ، أي: من الذي تُنْبِتهُ أو من شيءٍ تُنبته، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإنباتِ، لأن الإنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ، وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات.
قوله: {مِن بَقْلِهَا} يجوزُ فيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ بَدلاً من "ما" بإعادةِ العامل، و "مِنْ" معناها بيانُ الجنس، والثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على "ما" أي: مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنِه مِنْ بقلها و "مِنْ" أيضاً للبيان. والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ من النَّجْم أي: مِمَّا لا ساقَ له، وجمعُه: بُقول. والقِثَّاء معروف، الواحدُ: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقمحة، ويها لغتان: المشهورةُ كَسْرُ القافِ، وقُرئ بضمِّها، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم: أَقْثَأَتِ الأرضُ أي: كَثُر قِثَّاؤها كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّالِ، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء وعَلاَبي. قال بعضُهم: "إلاَّ أنَّ قِثَّاء من ذواتِ الواو، تقول: أَقْثَأْتُ القومَ،: أي أطعمتهُم ذلك، وفَثَأْتُ القِدْر سكَّنْتُ غَلَيَانَها بالماءِ، قال:
499- تفُورُ علينا قِْرُهم فَنُديمُها * ونَفُثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا
(1/292)
---(1/292)
وهذا من هذا [القائل] وَهْمٌ فاحش، لأنه لمَّا جَعَلَها من ذوات الواو كيفَ يَسْتَدِلُّ عليها بقولهم: "أَقْثَأْتُ القومَ" [بالهمزِ، بل كان ينبغي أن يُقال: أَقْثَيْتُ والأصلُ: أَقْثَوْتُ، لكنْ لمَّا وَقَعَتِ الواوُ في بناتِ الأربعةِ قُلِبَتْ ياءً، كأَغْرَيْتُ من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يُقالَ: "فَثَوْتُ القِدْر" بالواو، ولقال الشاعر: نَفْثَوُها بالواو، والمَقْثُأَةُ والمَقْثَؤةُ بفتح التاءِ وضمِّها: مَوْضِعُ القِثَّاء. والفُوم: الثُّوم، والفاءُ تُبْدَلُ من الثاء، وضمِّها: مَوْضِعُ وعاثُور وعافُور، ومعاثِير ومعافِير، ولكنه [على] غيرِ قياس، وقيل الحِنْطَو، وأنشد ابن عباس:
500- قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً * نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ
وقيل غيرُ ذلك.
قوله: "أَدْنَى" فيه ثلاثةُ أقوال، أحدُها - وهو الظاهرُ، وهو قول أبي إسحاق الوجاج - أنَّ أصلَه: أَدْنُو من الدُّنُوِّ وهو القُرْبِ، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان: أحدُهما: أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ، والثاني - قولُ علب بن سليمان الخفش -: أنَّ أصلَه أَدْنَأْ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة، وهو الشيء الخسيس، إلا أنه حُفِّفَ همزهُ كقوله:
501- .................................... * فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ زهير الفرقبي: "أَدْنَأُ" بالهمز. الثالث: أنَّ أصلَه أَدْوَنُ من الشيءِ الدُّوْن أي الرديء، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ: أَدْنَوَ فأُعِلَّ كما تقدَّم، ووزنُهُ أَفْلَع، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ وأدْنَى خبرٌ عن "هو" والجملة صلةٌ وعائدٌ، وكذلك "هو خير" أيضاً صلةٌ وعائد.
(1/293)
---(1/293)
قوله: "مِصْراً" قرأه الجمهورُ منوناً، وهو خَطُّ المصحف، فقيل: إنهم أُمِرُوا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف، وقيل: أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد، وأنشد:
502- لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها * دَعدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فَجَمع بين الأمرين، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان، وقرأ الحسنُ وغيرُه: "مصر" وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه. وقال الزمخشري: "إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم، فإن أصله مِصْرائيم،، فَعُرِّب"، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ لانضمامِ العُجْمَة إليه، فهو نظيرُ "ماه وجَوْر وحِمْص" ولذلك أجمعَ الجمهورُ على منعِه في قولِه {ادْخُلُواْ مِصْرَ} والمِصْرُ في أصل اللغةِ: "الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين" وحُكِي عن أهلِ هَجَرَ أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ دارٍ قالوا: اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها "أي: حدودِها، وأنشد:
503- وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ * بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا
قوله {مَّا سَأَلْتُمْ} "ما" في محلِّ نصبٍ اسماً لإنَّ، والخبرُ في الجارِّ قبله، و "ما" بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي سألتموه. قال أبو البقاء: "ويَضْعُفُ أن يكونُ نكرةًَ موصوفةً" يعني أنَّ الذي سألوه شيءٌ معينٌ فلا يَحْسُنُ أن يُجابُوا بشيءٍ مُبْهَمٍ. وقُرئ: "سِلْتُم" مثل بِعْتُم، وهي مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف، قالَ حسان - رضي الله عنه-:
504- سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً * ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ
وهل هذه الألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ أو واوٍ لقولهم: يتساوِلان، أو عن همزةٍ؟ أقوالٌ ثلاثةٌ سيأتي بيانُها إن شاء الله في سورة المعارج.
(1/294)
---(1/294)
قولُه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} "ضُرِبت" مبنيٌّ للمفعولِ، "الذِّلَّةُ" قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ، ومعنى "ضُرِبَتْ" أي: أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها، من ضَرْب القِباب، قال الفرزدقُ لجرير:
505- ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها * وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ
والذِّلَّةُ: الصِّغارُ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر، وبالكسر ما كانَ بعد شِماس من غير قهر، قاله الرغب. والمَسْكَنَةُ: مَفْعَلةٌ من السكون، لأن المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ، لِما به من الفَقْر، والمِسْكينُ مِفْعِيل منه إلا أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاق هذهِ الكلمةِ، قالوا: تَمَسْكَنَ يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من النَّدل والدَّرِع، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها، لأن الاشتقاق قَضَى عليها بالزيادَةِ. وقال الراغب: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فالميمُ في ذلك زائدةٌ في أصحِّ القولين" وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ، وأنه من مَسَك".
قوله: "وباؤُوا" ألفُ "باء بكذا" منقلبةٌ عن واو لقولهم: "باء يَبُوء" مثل: قال يقول:، قال عليه الصلاة والسلام "أبُوْءُ بنعمتِك عليّ" والمصدرُ البَواء، وباءَ معناه رَجَعَ، وأنشد بعضهم:
506- 506- فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا * وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا
وهذا وَهَمٌ، لأنَّ هذا البيتَ من مادة آب يَؤوب فمادتُه من همزةٍ وواو وياء، و "باء" مادتُه من باء وواو وهمزة، وادِّعاءُ القلبِ فيه بعيدٌ [أنه لم يَعْهَدْ] تقدُّمُ العينِ واللام معاً على الفاءِ في مقلوبٍ وهذا من ذاك.
والبَواء: الرجوعُ بالقَوَدِ، وهم في هذا الأمر بَواء أي: سَواء، قال:
507- ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي * محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ
(1/295)
---(1/295)
أي: لا يرجِعُ الدم بالدم في القَوَد، وباءَ بكذا أَقَرَّ أيضاً، ومنه الحديثُ المتقدم، أي أُقِرُّ بِها [وأُلْزِمُها نفسي]، وقال:
508- أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها * ...................................
وقال الراغبُ: "أصلُ البَواءِ مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ خِلاَفَ النَّبْوَةِ الذي هو منافاةُ الأجْزاء، وقوله "وباؤوا بغضبٍ" أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه غضبٌ، واستعمال "باء" تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ فكيف بغيره من الأمكنَةِ، وذلك نحو "فَبَشِّرْهم بعذاب". ثم قال: "وقولُ مَنْ قَالَ "بُؤْتُ بحقِّها" أي أَقْرَرْتُ فليس تفسيرُه بحسب مقتضى اللفظ، وقولُهم: حَيّاك الله وبَيَّاك": بَوَّأَكَ وإنما غُيِّر للمشاكَلَةِ، قاله خلف الأحمر".
قوله: بغضب" في موضعِ الحالِ من فاعِل "باؤوا": أي: رَجَعوا معضوباً عليهم، وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ. وقال الزمخشري: "هو من قولك: باء فلانٌ بفلان إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته، أي: صاروا أحِقَّاءَ بغضبِه" وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال.
قوله "مِن الله" الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بغضبٍ كائن من اللهِ. و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وقيل: هو متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي: رَجَعوا من الله بغضب، وليس بقويٍّ.
(1/296)
---(1/296)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} "ذلك" مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنَة والخلافةِ بالغضب. و "بأنهم" الخبرُ. والباءُ للسببية، أي: ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرهم. وقال المهدوي: "الباءُ بمعنى اللام أي: لأنهم" ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها. و "يكفرون" في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء. والباءُ وما في حيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم.
قوله "بآيات الله" متعلِّقٌ بيكفرون، والباءُ للتعدية.
قوله "ويقتُلون" في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان، وقرئ "تَقْتُلون" بالخطاب التفاتاً غلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْيبة، و "يُقَتَّلونَ" بالتشديدِ للتكثيرِ.
قوله: "الأنبياءَ" مفعولٌ به جمع نبيّ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها، ونافعٌ المدنيُّ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين: في سورةِ الأحزابِ "للنبيِّ إن أراد" "[لا تَدْخُلوا] بيوتَ النبيِّ إلاَّ" فإنَّ قالون حَكَى عنه في الوصلِ كالجماعةِ وسيأتي. فأمّا مَن هَمَز فإنه جَعَله مشتقاً من النبأ وهو الخبر، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل، أي: مُنَبِّئٌ عن الله برسالته، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي: إنه مُنَبَّأ مِن الله بأوامِره ونواهِيه، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبآء، كظريف وظُرفاء، قال العباس ابن مرداس:
509- يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ * بالخيرِ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا
(1/297)
---(1/297)
فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ، واستضعف بعضُ النحويين هذه القراءةَ، قال أبو علي: "قال سيبويه: "بلغَنا أنّ قوماً من أهل التحقيق يحقِّقون نَبيَّاً وبَريَّة، قال: وهو رديء"، وإنما استردَأَه لأن الغالبَ التخفيفُ" وقال أبو عبيد: "الجمهورُ الأعظمُ من القرَّاء والعوام على إسقاط الهمز من النبيّ والأنبياء، وكذلك أكثرُ العرب مع حديث رويناه، فذكر أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نبيئَ الله" فهمز، فقال: "لست نبيءَ الله" فهمز، "ولكن نبيُّ اللهِ" ولم يهمز، فأنكر عليه الهمز، قال: "وقال لي أبو عبيدة: العربُ تُبْدِل الهمزَ في ثلاثةِ أحرف: النبي والبريَّة والخابية وأصلهنَّ الهمزُ"، قال أبو عبيدة: "ومنها حرف رابع: الذُّرِّيَّة من ذرأ يذرأ، ويدل على أن الأصلَ الهمزُ قولُ سيبويه: إنهم كلَّهم يقول: تنبَّأ مسيلمة فيهمزون، وبهذا لا ينبغي أن تُرَدَّ به قراءة هذا الإمامِ الكبير. أمَّا الحديثُ فقد ضَعَّفوه، قال ابنُ عطية: "مِمَّا يُقَوِّيَ ضعفَه أنه لمَّا أَنْشده العباس: "يا خاتم النُّبآء" لم يُنْكِرهْ، ولا فرقَ بين الجمع والواحد"، ولكنَّ هذا الحديثَ قد ذكره الحاكم في المستدرك، وقال: هو صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يُخْرجاه. قلت: فإذا كان في ذلك كذلك فَلْيُلْتَمَسْ للحديثِ تخريجٌ يكونُ جواباً عن قراءة نافع، على أن القطعيَّ لا يُعارَضُ بالظني، وإنما نذكره زيادةَ فائدةِ والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى: "نَبَأْتُ من أرضِ كذا إلى أَرش كذا" أي: خَرَجْتُ منها إليها، فقوله: "يا نبيءَ الله" بالهمز يُوهم يا طريدَ الله الذي أخرجه من بلدِه إلى غيره، فنهاهُ عن ذلك إيهامِهِ ما ذكرنا، لا لسبب يتعلَّق بالقراءةِ. ونظيرُ ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم: "راعِنا"، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي أفصحِ اللغاتِ في(1/298)
(1/298)
---
القرآنِ وغيرِه.
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ، وهذا أَوْلَى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم: تَنَبَّأ مُسَيْلَمَةُ، وقولِه: "يا خاتَم النُّبآء". والثاني: أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق، والأصلُ: نَبِيْوٌ وأَنْبِواء، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون، فقُلبت الواوُ ساءً وأُدْغِم، كميِّت في مَيْوِت، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلِبت ياءً، فصار أنبِياء. والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ وأصلٌ بنفسِها على لاثاني، فهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي: ظاهرٌ مرتفعٌ، أو بمعنى مفعول أي: رَفَعه الله على خَلْقه، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق، وذلك أن النبيَّ طريقُ اللهِ إلى خَلْقِه، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم، وقال الشاعر:
510- لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا * مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
أي: طريقاً، وقال:
511- لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى * مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ
(1/299)
---(1/299)
الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً: الكَسْر، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ جبلٍ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ: نُبَيِّئة. وقالوا: جمعُه على أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو: وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ وأَصْفِياء. وأمَّا قالون فإنما تَرَك الهمزَ في الموضعين المذكورين لَمَدْركٍ آخرَ، وهو أنه مِنْ أصلِه في اجتماعِ الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورَتَيْنِ أَنْ تُسَهَّل الأولى، إلا أنْ يَقَعَ قبلَها حَرفُ مدٍّ فتُبْدَلَ وتُدْغَمَ، فَلَزِمَه أن يفعل هنا ما فَعَل في "بالسوء إلاَّ" من الإبدالِ والإدغامِ، إلاَّ أنه رُوي عنه خلافٌ في "بالسوء إلاَّ" ولم يَرْوَ عنه هنا خلافٌ، كأنه التزم البدل لكثرةِ الاستعمال في هذه اللفظة وبابها، ففي التحقيق لم يُتْرَكْ همزَ "النبيّ" بل هَمزَهْ وَلمَّا هَمَزَه أدَّاه قياسُ تخفيفِه إلى ذلك، وَيدُلَّ على هذا الاعتبارِ أنَّه إنما يَفْعَلُ ذلك حيث يَصِلُ، أمَّا إذا وَقَفَ فإنَّه يَهْمِزُه في الموضعين لزوالِ السببِ المذكورِ / فهو تارِكٌ للهمزِ لفظاً آتٍ به تقديراً.
قولُه تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ "يَقْتُلون" تقديرُه: يقتُلونهم مُبْطِلين، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره: قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. قال الزمخشري: "قتلُ الأنبياء لا يكون إلا بغير الحقِّ، فما فائدةُ ذِكْرِه؟ وأجابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا، فلو سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يّذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ عندهم" وقيل: إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في حقهم لاحقٌ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم.
(1/300)
---(1/300)
قوله: {ذالِكَ بِمَا عَصَواْ} مثلُ ما تقدَّم. وفي تكريرِ اسم الإشارة قولان، أحدهما: أنه مشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول على سبيل التأكيد. والثاني ما قالَه الزمخشري: وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما". و "ما" مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة، أي بسبب عِصْيانهم، فلا محلَّ لـ "عَصَوا" لوقوعِه صلةً، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها، قُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان هو والواوُ، فحُذِفَت لكونها فالتقى ساكنان هي والواُ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين، وبَقِيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا. "وكانوا يعتدُون" في محلِّ نصبٍ خبراً لـ "كان"، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ "ما" المصدرية.
وأصلُ العِصيان: الشِّدَّةُ، اعتصَتِ النَّواةُ، اشتدَّت، والاعتداءُ على المجاوزُ من عدا يعدُو، فهو افتعالٌ منه، ولم يَذْكُرْ متعلِّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويُعْتَدَى فيه.
وأصلُ "يَعْتَدُون" يَعْتَدِيُونَ، ففُعِل به ما فُعِل بـ "يتَّقون" من الحَذْفِ والإعلال وقد تقدَّم، فوزنُه يَفْتَعُون. والواوُ من "عَصَوْا" واجبةُ الإدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها، فليسَ فيها مَدٌّ يمنعُ مِن الإدغامِ، ومثلُه: {فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ} وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ، فإنَّ المدَّ يقومُ مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإظهارُ، نحو {آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} ومثلُه: {الَّذِى يُوَسْوِسُ}.
* { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(1/301)
---(1/301)
قولُه تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}.. "مَنْ" يجوز فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "آمَن" مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ حَسْبَما تقدَّم الخلافُ فيه. وقوله: "فلهم" جواب الشرط، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً لـ "إنَّ" في قوله: "فلهم" جواب الشرط، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً لـ "إنَّ" في قوله: إنَّ الذين آمنُوا، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مَنْ آمن منهم، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر. والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ "إنَّ" وهو "الذين" بدلِ بعضٍ من كلٍّ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم، و "آمن" صلتُها، فلا محلَّ له حينئذ.
وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبرُ "إنَّ الذين"، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ، وهذا عند غيرِ الأخفش، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ بـ "إنَّ" يمتنعُ ذلكَ فيه، فمحلُّ قولِه {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} رفعٌ على هذا القولِ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ، و "لهمْ" خبرٌ مقدَّمٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، و "أجرُهُم" مبتدأ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك.
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} "عند" ظرفُ مكانٍ لازمُ الإضافةِ لفظاً ومعنىً، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه "لهم"، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "أجرُهم" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم. والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ، وقد تَخْرُجُ غلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً، ومنه قولُه عليه السلام: "إنما الصبرُ عند الصّدمةِ الأولى" والمشهورُ كسرُ عَيْنِها، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ.
والذين هادُوا هم اليهودُ، وهادُوا في أَلِفه قولان: أحدُهما أنه من واو، والأصلُ: هاد يهودُ أي تاب، قال الشاعر:(1/302)
(1/302)
---
512- إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ
أي: تائبٌ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادرةِ العِجْلِ، وقال تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} لأي تُبْنَا، وقيل: هو من التَّهِويد وهو النطق في سكون ووقار، وأنشدوا:
513- وخُودٌ من اللائي تِسَمَّعْنَ بالضُّحى * قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد
وقيل: هو من الهَوادة وهي الخضوعُ. الثاني: انها من ياء، والأصلُ: هاد يَهِيد، أي: تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم. وقيل: سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية.
والنَّصارى جمعٌ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانه كَنْدمان ونَدْمانة ونَدامى، قاله سيبويه وأنشد:
514- فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها * كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
وأنشد الطبري على نَصْران قوله:
515- يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً * ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامٍسُ
قال سيبويه: "إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب" وقال الخليل: "واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومَهارى. وقال الزمخشري: :الياءُ في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري". ونصارى/ نكرةٌ، ولذلك دَخَلَتْ عليه أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر:
516- صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له * ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ
وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام، أو لأنهم كانوا يتناصرون، قال الشاعر:
517- لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا * شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإزارا
كُنْتُ لهم من النَّصارى جَارا
(1/303)
---(1/303)
والصابئُون: قومٌ عَبدوا الملائكةَ، وقيل: الكواكبَ. والجمهورُ على همزةِ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز. فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه من صَبَأَ نابُ البعير أي: خَرَجَ، وصَبَأَتِ النجومُ: طَلَعت. وقال أبو عليّ: "صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم، فالصابئُ، الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ أرضِه ومتنقلُ عنها". ومَنْ لم يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَاَبْدَلَ من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو غازٍ، والأصل: صابٍ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي، إلا أنَّ سيبويه لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً. الثاني: أنه من صَبَا يَصْبُو إذا مال، فالصابي كالغازي، أصلُه، صابِوٌ فأُعِلَّ كإعلال غازٍ. وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس: "ما الصابُون إنما هي الصابئون، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون". فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ النبيين وتَرْك همز الصابئين، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ. وقد حَمَلَ الضميرَ في قوله {مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ} على لفظِ "مَنْ" فأَفْرد، وعلى المعنى في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} على المعنى، فَجَمَع كقوله:
518- أَلَمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما * وقولا عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا
فراعى المعنى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
} والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال: أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين.
وقرأ أبو السَّمَّال: {وَالَّذِينَ هَادَوْا} بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ: "هادَيُوا" فأُعِلَّ كنظائره.
(1/304)
---(1/304)
* { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
قوله تعالى: {فَوْقَكُمُ}: ظرفُ مكانٍ ناصبُه "رَفعنْا" وحكمُ "فوق" مثلُ حكم تحت، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. قال أبو البقاء: "ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من "الطور"، لأن التقدير يصير: رَفَعْنا الطورَ عالياً، وقد استُفيد [هذا] من "رَفَعْنَا" وفي هذا نظرٌ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره. قال: "ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع، ونما صارَ فوقَهم بالرفْعِ. ولقائلٍ أن يقولَ: لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة، وقد قالَ هو في قولِه "بقوة" إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي.
والطُّور: اسمٌ لكلَّ جبل، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ، وهل هو عربي أو سُرْياني؟ قولان، وقيل: سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام، وقال العجَّاج:
519- داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ * تَقَضَّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ
قوله: "خُذوا" في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، أي: وقُلْنا لهم خُذُوا، وهذا القولُ المضمر يجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل "رَفَعْنا" والتقدير: ورفعنا الطور قائلين لكم خُذوا. وقد تقدَّم أنَّ "خُذْ" محذوفُ الفاءِ وأن الأصلَ: أُؤْخُذْ، عند قوله {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً
}. قوله: {مَآ آتَيْنَاكُم} مفعولُ "خُذوا"، و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي لا نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ محذوفٌ أي: ما آتيناكموه.
(1/305)
---(1/305)
قوله: "بقوةْ" في محلِّ نَصْبٍ على الحال. وفي صاحِبها قولان، أحدهما: أنه فاعلُ "خُذوا" وتكونُ حالاً مقدرة، والمعنى: خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم عازمين على الجِدَّ بالعمل به. والثاني: أنه ذلك العائدُ المحذوف، والتقدير: خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي: في العمل به والاجتهادِ في معرفته، وقوله "ما فيه" الضميرُ يعود على "ما آتيناكم". والتولِّي تَفَعُّل من الوَلْي، وأصلُه الإعراضُ عن الشيء بالجسم، ثم استُعْمِل في الإعراض عن الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً، و "ذلك" إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ الطور وإيتاء التوراة.
* { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ }
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ} "لولا" هذه حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، والظاهرُ أنها بسيطةٌ، وقال أبو البقاء: "هي مركبةٌ من "لَوْ" و "لا"، و "لو" قبل التركيبِ يمتنعُ بها الشيءُ لامتناع غيره، و "لا" للنفي، والامتناعُ نفيٌ في المعنى، وقد دَخَلَ النفيُ بـ "لا" على أحد امتناعي لو، والنفيُ إذا دخل على النفي صار إيجاباً، فمِنْ هنا صار معنى "لولا" هذه يمتنع بها الشيءُ لوجودِ غيره، وهذا تكلُّفُ ما لا فائدةَ فيه، وتكونُ "لولا" أيضاً حرفَ تخصيصٍ فتختصُّ بالأفعال وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى. و "لولا" هذه تختصُّ بالمبتدأ، ولا يجوزُ أَنْ بيلَها الأفعالُ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك أوَّلَ كقولِه:
520- ولولا يَحْسِبون الحِلْم عَجْزاً * لَمَا عَدِم المُسيئون احتمالي
وتأويلُه أن الأصلَ: ولولا أن يَحْسِبِوا، فلمَّا حُذِفَتْ ارتفع الفعلُ كقوله:
521- ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى * ...............................
(1/306)
---(1/306)
أي: أَنْ أَحضرَ، والمرفوعُ بعدها مبتدأٌ خلافاً للكسائي حيث رَفَعَهُ بفعلٍ مضمر، وللفراء حيث قال: "مرفوعٌ بنفس لولا"، وخبرُه واجبُ الحذف للدلالةِ عليه وسَدَّ شيءٍ مَسَدَّه وهو جوابُها، والتقديرُ: ولولا فضلُ اللهِ كائنٌ أو حاصل، ولا يجوز أن يُثْبَتَ إلا في ضرورة ضعر، ولذلك لُحّن المعري في قوله:
522- يُذيبُ الرُّعْبُ منه كلَّ غَضْبٍ * فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُه لَسالا
حيث أَثْبتَ خبرَها بعدها، هكذا أطلقوا. وبعضُهم فصَّل فقال: "إنْ كان خبرُ ما بعدها كوناً مطلقاً فالحذفُ واجبٌ، وعليه جاء التنويلُ وأكثرُ الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يَخْلو: إمَّا أَنْ يَدُل عليه دليلُ أو لا، فإنْ لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وجَبَ ذِكْرُه، نحو قولِه عليه السلامُ: "لولا قومُكِ حديثو عهدٍ بكفر" وقولِ الآخر:
523- فلولا بَنُوها حولَها لَخَبَطْتُها * ................................
وإنْ دَلَّ عليه دليلٌ جاز الذكرُ والحذف، نحو: لولا زيدٌ لغُلِبْنا، أي شجاع، وعليه بيتُ المعري المتقدِّم، وقال أبو البقاء: "ولَزِمَ حَذْفُ الخبر للعلكِ به وطولِ الكلام، فإن وَقَعَتْ "أَنْ" بعدها ظَهَر الخبرُ، كقولِه: "فلولا أنَّه كان من المسبِّحين" فالخبرُ في اللفظ لـ "أنَّ" وهذا الذي قاله مُوْهمٌ، ولا تعلُّق لخبرِ "أنَّ" بالخبر المحذوف ولا يُغْني عنه البتةَ فهو كغيرِه سواء، والتقدير: فلولا كونُه مُسَبِّحاً حاضرٌ أو موجود، فأيُّ فائدةٍ فبي ذكره لهذا؟ والخبرُ يجب حَذْفُه في صورٍ أخرى، يطولُ الكتابُ بِذِكْرِها وتفصيلِها، وإنما تأتي إن شاء اللهُ مفصَّلةً في مواضعها. وقد تقدَّم معنى الفضلِ عند قوله {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
}. قوله: {لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} اللامُ جوابُ لولا. واعلم أنَّ جوابَها إن كان مُثْبَتَاً فالكثيرُ دخولُ اللامِ كهذه الآيةِ ونظائِرها، ويَقِلُّ حَذْفُها، قال:
(1/307)
---(1/307)
524- لَوْلا الحياءُ وباقي الدينِ عِبْتُكُما * ببعضِ ما فيكما إذْ عِبْتُما عَوَري
وإنْ كان منفيَّاً فلا يَخْلُو: إمَّا أنْ يكونَ حرفُ النفي "ما" أو غيرَها، إن كان غيرَها فتركُ اللام واجبٌ نحو: لولا زيدٌ لم أقم، أو لن أقوم، لئلاَّ يتوالى لامان، وإن كان بـ "ما" فالكثيرُ الحَذْفُ، ويَقِلُّ الإتيانُ بها، وهكذا حكمُ جوابِ "لو" الامتناعية، وقد تقدَّم عند قولِه: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} ولا محلَّ لجوابِها من الإعرابِ. و {مِّنَ الْخَاسِرِينَ} في محلِّ نصبٍ خبراً لـ كان"، ومِنْ للتبعيض.
* { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ}: اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لقد، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها، و "قد" حرف تحقيق وتوقع، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله:
525- قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه * كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ
وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ. وفي عبارة بعضِهم: "قد: حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال" ويكونُ اسماً بمعنى حِسْب نحو: قدني درهمٌ أي: حسبي، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين، قال:
526- قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي * ..................................
وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه:
527- أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا * لمَّا تَزُلْ برِجالِنا وكَأنَّ قَدِ
(1/308)
---(1/308)
أي: قد زالت، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً. و "عَلِمْتُمِ" بمعنى عَرَفْتُم، فيتعدَّى لواحدٍ فقط، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي علهي من الأحوال نحو: عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ، وقيل: لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه. {الَّذِينَ اعْتَدَواْ} الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ، كما قدَّره بعضُهم، أي: أحكامُ الذين اعتدوا، لأنَّ المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم. وأصلُ اعتَدَوْا: اعتَدَيُوا، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه.
قوله: "منكم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في "اعتدَوا" ويجوز أن يكونَ من "الذين" أي: المعتدين كائنين منكم، و "مِنْ" للتبعيض.
(1/309)
---(1/309)
قوله: {فِي السَّبْتِ} متعلِّقٌ باعتَدَوا، والمعنى: في حُكْم السبت، وقال أبو البقاء: وقد قالوا: اليومَ السبتُ، فجعلوا "اليومَ" خبراً عن السبت، كما يقال، اليومَ القتالُ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت". والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ، أي: قَطَعَ العمل. وقال ابن عطية: "والسَّبتُ: لإمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة، وإمَّا من السَّبْت وهو القطع، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها، ومنه قولُهم: سَبَتَ رأسَه أي: حَلَقه. وقال الزمخشري: "والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ إذا عَظَّمت يومَ السبتِ" وفيه نظرٌ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ المذكورَ في هذه الآيةِ. والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنةِ مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو: اليوم الجمعةُ، اليوم العيدُ، كما يقال: اليوم الاجتماعُ والعَودُ، فإنْ ذُكِرَ مع "الأحد" وخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ، وتحقيقُها مذكورٌ في كتبِ النحوِ.
(1/310)
---(1/310)
قوله: {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها أن يكونا خبرين، قال الزمخشري: "أي: كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء" وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ، فلذلك قَدَّرها بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب: هذا حُلْوٌ حامِضٌ، وقد تقدَّم القول فيه. الثاني: أن يكون "خاسئين" نعتاً لقِردة، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ، وها جّمْعُ العقلاء. فإنْ قيل: المخاطبون عُقَلاء. فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ: كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء، كقوله: {لِي سَاجِدِينَ} {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} الثالث: أن يكون حالاً من اسم "كونوا" والعاملُ فيه "كونوا" وهذا عندَ مَنْ يُجيز لـ "كان" أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ. وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه عند قولِه تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} إن شاء الله تعالى. الرابع -وهو الأجْوَدُ- أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "قِرَدَةً" لأنه في معنى المشتقِّ، أي: كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس.
ومادة القردة تدل على اللصوق والسكون، تقول: "قَرَد بمكان كذا" أي: لَصِق به وسكن، ومنه الصوفُ القَرَد" أي المتداخلُ، ومنه أيضاً: "القُراد" هذا الحيوانُ المعروف. ويقال: خَسَأْتُه فَخَسَأَ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ. وقال الكسائي: "خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن، والخُسُوءُ: الذِّلَّة والصِّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ.
* { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }
(1/311)
---(1/311)
قوله تعالى: {نَكَالاً}: مفعولٌ ثانٍ لجَعَلَ التي بمعنى صَيَّر والأولُ هو الضميرُ وفيه أقوالٌ، أحدُها: يعود على المَسْخَة. وقيل: على القريةِ لأنَّ الكلامَ يقتضيها كقولِه: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي بالمكانِ. وقيل على العقوبة، وقيل على الأمَّة. والنِّكالُ: المَنْعُ، ومنه النِّكْلُ اسمٌ للقيد من الحديد واللِّجام لأنه يُمْنَعُ به، وسُمِّي العِقَابُ نكالاً لأنه يُمْنَعُ به غيرُ المعاقب أن يفعلَ فِعْلَه، ويَمْنَعُ المُعَاقَبَ أن يعودَ إلى فِعْلِه الأولِ. والتنكيلُ: إصابةُ الغيرِ بالنِّكالِ ليُرْدَعَ غيرُه، ونَكَلَ عن كَذا يَنْكُل نُكولاً امتنع، وفي الحديثِ: "إنَّ الله يحبُ الرجلَ النَّكَل" أي: القوي على الفرس. والمَنْكَلُ ما يُنَكَّل به الإنسان قال:
528- فارمِ على أَقفائِهم بِمَنْكَلِ * ............................
والضميرُ في يديهَا وخلفها كالضميرِ في {جَعَلْنَاهَا}.
قوله: {وَمَوْعِظَةً} عطفٌ على {نَكَالاً} وهي مَفْعِلَة من الوعظ وهو التخويف، وقال الخليل: "التذكيرُ بالخيرِ فيما يَرِقُّ له القَلْبُ، والاسمُ: العِظَةُ كالعِدَّة والزِنَة. و "للمتقين" متعلقٌ بِمَوْعِظة. واللتمُ للعلة، وخُصَّ المتقين بالذِّكْرِ، وإن كانَتْ موعظةً لجميعِ العالَم: البَرُّ والفاجِرِ، لأن المنتفعَ بها هم هؤلاء دونَ مَنْ عَدَاهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ مقويةً، لأنَّ "موعظة" فَرْعٌ على الفِعْلِ في العملِ فهو نظيرٌ {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} فلا تعلُّق لها لزيادتها، ويجوز أَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لموعطةً، أي: موعظةً كائنةً للمتقين.
* { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوااْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
(1/312)
---(1/312)
قوله تعالى: {يَأْمُرُكُمْ}.. الجمهور على ضمِّ الراء لأنه مضارعٌ مُعْرَبٌ مجرَّدٌ من ناصبٍ وجازمٍ. ورُوِيَ عن أبي عمرو سكونُها سكوناً مَحْضاً واختلاسُ الحركةِ، وذلك لتوالي الحركات، ولأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فكأنها حرفان، وحركتُها حركتان، وقيل: شبَّهها بعَضْد، فسُكِّن أَوْسَطُه إجراءً للمنفصلِ مُجْرَى المتصلِ، وهذا كما ذِكْرُ من اسْتَضْعَفها من النحويين، وتقدَّم ذكرُ الأجوبةِ عنه بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا، ويجوز في همز "يَأْمركم" إبدالُه ألفاً وهذا مطَّرِدٌ. و "يَأْمركم" هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لإنَّ، وإنَّ وما في حَيِّزها في مَحلِّ نصب مفعولاً بالقول، والقولُ وما في حَيِّزِه في محلِّ جرٍّ بإضافة الظرف إليه، والظرفُ معمولٌ لفعل محذوفٍ أي: اذكُرْ.
قوله {أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} "أَنْ" وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ ليَأمركم، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من ذِكْرِ الخلافِ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي: بأَنْ تَذْبَحوا، ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز حذفُ الباءِ معه، ولو لم تكنِ الباءُ في "أَنْ" نحو: أمرتُكَ الخيرَ.
والبقرةُ واحدة البَقَر، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة، والصفةُ تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى، تقول: بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى، وقيل: بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى، وقيل: بقرةٌ اسمٌ للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور، نحو: ناقةٌ وجَمَل، وأَتان وحمار، وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يِشُقُّها بالحرث، ومنه: بَقَر بطنَه، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ، والجمع: بَقَر وباقِر وبَيْقُور وبَقيرِ.
(1/313)
---(1/313)
قوله: {هُزُواً} مفعول ثان لـ "{أَتَتَّخِذُنَا}. وفي وقوعِ "هُزُوا" مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ. أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء. الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا. الثالث: أنهم جُعِلوا نفس الهُزْءِ مبالغةً. وهذا أَوْلَى، وقال الزمخشري -وبدأ به-: "أَتَجْعَلُنا مكانَ هُزْءٍ" وهو قريبٌ من هذا.
وفي {هُزُواً} قراءاتٌ سِتٌّ، المشهورُ منها ثلاثٌ: هُزُؤاً بضمتين مع الهمز، وهُزْءاً بسكونِ العين/ مع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله، فإذا وَقَفَ أبدلَها واواً، وليس قياسَ تخفيفها، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ قبلَها. وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً، ولذلك لم يُبْدلها في "جزءاً" واواً وقفاً، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب، وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق: عُنْق. وقيل: بل هي أصلٌ بنفسِها، ليست مخففةً من ضم، حَكَى مكي عن الأخفش عن عيسى بن عمر: "كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان: التثقيل والتخفيفُ". و "هُزُواً" بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراؤةُ حَفْص عن عاصم، كأنه أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن، و{السُّفَهَآءُ وَلاا إِنَّهُمْ} وحكمُ "كُفْئاً" في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُئاً أَحَدٌ} حكمُ "هَزَواً" في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً. و "هُزَاً" بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها وهو أيضاً قياسٌ مطرد، وهُزْواً بسكون العين مع الواو، وهُزَّاً بتشديد الزاي من غيرِ همزةٍ، ويُرْوَى عن أبي جعفر، وتقدَّم معنى الهُزْء أول السورة.
(1/314)
---(1/314)
قوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ} تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم في المعنى كأنه قال: لا أَهْزَأُ مستعذياً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ. وقوله {أَنْ أَكُونَ} أي: مِن أَنْ أكونَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف. فإنَّ المعنى: أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل.
* { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }
قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا}.. كقوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} وقد تقدَّم. قوله: "ما هي"؟ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه: أيُّ شيءٍ هي، و "ما" الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو: "ما العنقاءُ؟ [و] ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو: ما الحركةُ. وقال السكاكي: "يَسْأَلُ بـ "ما" عن الجنسِ، تقولُ: ما عندك؟ أي: أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك، وجوابُه: كتابٌ ونحوه، أو عن الوصف، تقول: ما زيدٌ؟ وجوابه: كريمٌ" وهذا هو المرادُ في الآية. و "هي" ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً لـ "ما"، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بيبيِّن، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ القلوبِ.
قوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} لا نافيةٌ، و "فارضٌ" صفةٌ لبقرة، واعترض بـ "لا" بين الصفةِ والموصوفِ، نحوٍ: مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: لا هي فارضٌ. وقولُه: {وَلاَ بِكْرٌ} مثلُ ما تقدَّم، وتكرَّرت "لا" لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ أو حالٍ وَجَب تكريرُها، تقول: زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ، ومررت به لا ضاحكاً ولا باكياً، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا ف ضرورةٍ, خلافاً للمبرد وابن كيسان، فمن ذلك:
(1/315)
---(1/315)
529- وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا * حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
وقولُه:
530- قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ * ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ
فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ.
والفارضُ: المُسِنَّةُ الهَرِمَة، قال الزمخشري: "كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي قَطَعَتْهَا وبَلَغَتْ آخرَها" قال الشاعر:
531- لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً * تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ
ويقال لكلِّ ما قَدُم: فارضٌ، قال:
532- شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ * محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ
أي: كبارٌ قدماء، وقال آخر:
533- يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ * له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
وقال الراغب: "سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ،والفَرْضُ في الأصل: القَطْع وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة، قال: فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً" ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً، وقيل: فُرِضَتْ بالضمَّ أيضاً. والبِكْرُ ما لم تَحْمِل، وقيل: مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً، قال:
534- يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ * أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ
والبِكْرُ من الحيوان: مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل، والبَكْر بالفتح: الفَتِيُّ من الإبل، والبَكارة بالفتح: المصدر.
قوله: {عَوَانٌ} صفةٌ لبقرة، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هي عوانٌ، كما تقدَّم في {لاَّ فَارِضٌ} والعَوانُ، النَّصَفُ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه، قال:
535- ............................... * نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ
وقيل: هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى، ومنه الحَرْبُ العَوانُ، أي: التي جاءت بعدَ حربٍ أخرى، قال زهير:
536- إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ * ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
(1/316)
---(1/316)
والعُون بسكونِ الواو: الجمعُ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله:
537- ....................... * .... في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ
بضمِّ الواو. ونظيرُه في الصحيح: قَذَال وقُذثل، وحِمار وحُمُر.
قوله: {بَيْنَ ذالِكَ} صِفةٌ لعَوان، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ بين ذلك، و "بين" إنما تُضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع، كقوله:
538- إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى * وكِلا ذلك [وَجْهٌ وقَبَلْ]
كأنه قيل: بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف جازَ أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإشارةِ المذكر؟ قلت: لأنه في تأويلِ ما ذُكر وما تقدَّم"، وقال: "وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإشارةِ في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:
539- فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ * كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
إن أردْتَ الخطوطَ فقل: كأنها، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل: كأنهما، فقال: أردْتُ: كأنَّ ذاكَ. وَيْلَك". والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإشارةِ تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة، وكذلك الموصولاتُ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع.
قوله: {مَا تُؤْمَرونَ} "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ تقديره: تُؤْمَرون بِه، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ. وليس هو نظيرَ {كَالَّذِي خَاضُوااْ} فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ، ويضعُف أن تكونَ "ما" نكرةً موصوفةً. قال أبو البقاء: "لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ"، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي: أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير، قاله الزمخشري. و "تُؤْمَرون" مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً.
(1/317)
---(1/317)
* { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ }
قوله تعالى: {مَا لَوْنُهَا}: كقولِه "هي"؟ وقال أبو البقاء: "ولو قُرئ "لونَها" بالنصب لكان له وجهٌ، وهو أن تكونَ "ما" زائدة كهي في قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ويكون التقديرُ: يبين لنا لونَها، وأمَّا "ما هي فابتداءٌ وخبرٌ لا غيرُ إذ لا يُمْكِنُ جَعْلُ "ما" زائدةً لأنَّ "هي" لا يَصِحُّ أن تكونَ مفعولَ يبيِّن" يعني أنها بصيغةِ الرفع، وهذا ليس من مواضعِ زيادةِ "ما" فلا حاجةَ إلى هذا. واللونُ عبارةٌ عن الحمرةِ والسوادِ ونحوِهما. واللونُ أيضاً النوعُ وهو الدَّقَل نوعٌ من النحل، قال الأخفش: "هو جَماعةٌ واحدها: لِينة" وسيأتي. وفلان يَتَلَوَّن أي: لا يثبُتُ على حالٍ، قال الشاعر:
540- كلَّ يومٍ تتلوَّنْ * غيرُ هذا بك أَجْمَلْ
(1/318)
---(1/318)
قوله: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} بجوز أن يكونَ "فاقعٌ" صفةً و "لونُها" فاعلٌ به، وأن يكونَ خبراً مقدماً، و "لونُها" مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ، ذكرها أبو البقاء. وفي الوجهِ الأول نظرٌ، وذلك أن بعضَهم نقلَ أن هذه التوابعَ للألوانِ لا تعملُ عَمَلَ الأفعال. فإنْ قيل: يكونُ العملٌ لصفراء لا لفاقع كما تقول: مررتُ برجلٍ أبيضَ ناصعٍ لونُه، فلونُه مرفوعٌ بأبيض لا بناصع، فالجوابُ: أنَّ ذلك ههما ممنوعٌ من جهةٍ أخرى، وهو أنَّ صفراء مؤنثٌُ اللفظِ، ولو كانَ رافعاً لـ "لونُها" لقيل: أصفرُ لونُها، كما تقول: مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها، ولا يجوز: صفراَ لونُها، كما تقول: مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها، ولا يجوز: صفراءَ لونُها، لأنَّ الصفةَ كالفِعْل، إلا أن يُقال: إنه لمَّا أُضيف إلى مؤنثٍ اكتسَب منه التأنيثَ فعُومِل معاملتَه كما سيأتي ذِكْرُه. ويجوز أن يكونَ "لونُها" مبتدأً، و "تَسُرُّ" خبرَه، وإنما أَنَّث الفعلَ لاكتسابِه بالإضافةِ معنى التأنيث: كقوله:
541- مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ * أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ
وقول الآخر:
542- وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه * كما شَرِقَنْ صدرُ القناةِ من الدمِ
(1/319)
---(1/319)
أنَّث فعلَ المَرِّ والصدرِ لَمَّا أُضيفا لمؤنثٍّ، وقُرئ {تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} وقيل: لأنَّ المرادَ باللونِ هنا الصفرةُ، وهي مؤنثةٌ فَحُمِل على المعنى في ذلك، ويقال: أصفرُ فاقعٌ، وأبيضُ ناصعٌ وَيَقِقٌ ولَهِقٌ، ولِهاقٌ وأخضرُ ناصعٌ، وأحمرُ قانئٌ وأسودُ حالِكٌ وحائِك وحَلَكُوك وحُلْكُوك ودَجُوجيّ وغِرْبيب وبهيم، وقيل: "البهيم الخالصُ من كل لون". وبهذا يَظْهر أن صفراء على بابها من اللون المعروفِ لا سوداء كما قاله بعضهم، فإنَّ المفقوعَ من صفةِ الأصفرِ خاصةً، وأيضاً فإنه مجازٌ بعيدٌ، ولا يُسْتَعمل ذلك إلا في الإِبِلِ لقُرْب سوادها من الصفرةِ كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} وقال:
543- تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي * هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ
قوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ "بقرة" أيضاً، وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ خبراً عن "لونها" بالتأويلين المذكورين. والسرورُ لَذَّةٌ في القلب عند حصولِ نَفْعِ أو توقُّعِه، ومنه "السريرُ" الذي يُجْلَسُ عليه إذا كان لأولي النِّعمةِ، وسريرُ الميِّت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك.
* { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {مَا هِيَ}؟.. مرةً ثانيةً، تكريرٌ للسؤال عن حالِها وصفتِها واستكشافٌ زائدٌ ليزدادوا بياناً لوَصْفِها.
(1/320)
---(1/320)
قوله: {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} "البقر" اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ كما تقدَّم. وقرئ "الباقِرُ" وهو بمعناه كما تقدم. و "تَشَابه" جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ خبراً لإنَّ، وقرئ: "تَشَّابَهُ" مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ، فالأصلُ: تَتَشابهُ بتاءين، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى، وكِلا الوجهين مقيس. وقُرئ أيضاً: يَشَّابهُ بتاءين، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى، وكِلا الوجهين مقيس. وقُرئ أيضاً: يَشِّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً، وتذكيرُ الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} فَأَنَّث، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} فذكَّر، ولهذا موضعٌ نستقصي منه، يأتي إن شاء الله تعالى. وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصلُ: تَتَشَبَّهُ. وتَشَّابَهَتْ، ومُتَشَابِهَة، ومُتَشَابِه، ومُتَشَبِّه على اسم الفاعل من تشابه وتَشَبَّه، وقُرئ: تَشَبَّهَ ماضياً. وفي مصحف اُبَيّ: "تَشَّابَهَتْ" بتشديد الشين. قال أبو حاتم: "هو غلط لأن التاءَ في هذا الباب لا تُدْغَمُ إلا في المضارعِ"، وهو معذورٌ في ذلك. وقرئ: تَشَّابَهَ كذلك إلا أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهُها على إشكالها أن يكونَ الأصل: إن البقرة تشابَهَتْ فالتاء الأولى من البقرة والتاء الثانية من الفعل، فلمَّا اجتمع متقاربنان أَدْغَم نحو: الشجرةُ... إلا أنه يُشْكِل أيضاً في تَشَّابه من غير تاء، لأنه كان يَجِبُ ثبوتُ/ علامةِ التأنيثِ، وجوابُه أنه مثلُ:
544- ....................... * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
مع أن ابنَ كَيْسان لا يلتزم ذلك في السَّعَة.
(1/321)
---(1/321)
قوله: {إِن شَآءَ اللَّهُ} هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها عليه، والتقدير: إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا، ولكنهم أَخرجُوه في جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية، واعترضوا بالشرطِ تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى. و "لمهتدونَ" اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على خبرِ "إنَّ"، وقال أبو البقاء: "وجوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه، وجاز ذلك لمَّا كان الشرطُ متوسطاً، وخبرُ إنَّ هو جوابُ الشرط في المعنى، وقد وقع بعدَه، فصار التقديرُ: إنْ شاء اللهُ اهتدينا. وهذا الذي قاله لا يَجُوز، فإنه متى وقعَ الشرطِ ما لا يَصْلُح أنْ يكونَ شرطاً وجَبَ شرطاً وجَبَ اقترانُه بالفاء، وهذه الجملةُ لا تَصْلح أن تقعَ شرطاً، فلو كانَتْ جواباً لَزِمَتْها الفاءُ، ولا تُحْذَفُ إلا ضرورةً، ولا جائزٌ أنْ يريدَ أبو البقاء أنه دالٌّ على الجواب وسَمَّاه جواباً مجازاً، لأنه جَعَلَ ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه، فقال: "وقالَ المبرد: الجوابُ محذوفٌ دَلَّت عليه الجملةُ، لأنَّ الشرط معترضٌ فالنيةُ به التأخيرُ، فيصيرُ كقولِك: "أنت ظالم إنْ فَعَلْتَ" وهذا الذي نقلَه عن المبرد هو المقنولُ عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نُقِل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوزُ تقديمُ جوابِ الشرطِ عيله، وقد ردَّ عليهم البصريون بقول العرب: "أنتَظالمٌ إنْ فعلْتَ" إذ لو كانَ جواباً لوَجَبَ اقترانُه بالفاءِ لِما ذكرْتُ لك. وأصلُ "مُهْتَدُون" مُهْتَدِيُون، فأُعِلَّ بالحَذْفِ، وهو واضحٌ مما تقدَّم.
* { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }
(1/322)
---(1/322)
قوله تعالى: {لاَّ ذَلُولٌ}: المشهورُ "ذلولٌ" بالرفع على أنها صفةٌ لبقرة، وتوسَّطت "لا" للنفي كما تقدَّم في {لاَّ فَارِضٌ}، أو على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: لا هي ذلولٌ. والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعٍ صفةً لبقرة. وقرئ: "لا ذَلولَ" بفتح اللام على أنها "لا" التي للتبرئة والخبرُ محذوف، تقديره: لا ذلولَ ثَمَّ، أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه القراءةِ، ولذلك قال الأخفشُ: "لا ذلولٌ نعت ولا يجوز نصبُه". والذَّلولُ: التي ذُلِّلَتْ بالعمل، يقال: بَقَرةٌ ذَلول بَيَِّنَةُ الذِّشل بكسر الذال، ورجلٌ ذَليل بيِّنُ الذُّل بضمها، وقد تقدَّم عند قوله: {الذِّلَّةُ
}. قوله: {تُثِيرُ الأَرْضَ} في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ، أظهرهُها أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في "ذلول" تقديرُه: لا تُذَلُّ حالَ إثارتِها [الأرضَ]. وقال ابن عطية: "وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ لبقرة، [أي]: لا ذلولٌ مثيرةٌ، وقالَ أيضاً: ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ"، أمَّا قولُه: "في موضع الصفةِ" فإنه يلزم منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور، بل قال بعضُهم، وسيأتي بيانُه قريباً. وأمَّا قولُه: "لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من "بقرة" لأنها نكرةٌ. فالجوابُ: أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة، بل من الضميرِ في "ذلولٌ" كما تقدَّم شرحه، أو نقولُ: بل هي حالٌ من النكرة قد وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله {لاَّ ذَلُولٌ} وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ الحالِ منها اتفاقاً. وقيل: إنها مستأنفةً، واستئنافُها على وجهين، أحدُهما: أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هي تثير، والثاني: أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير تقديرِ مبتدأ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإخبار بذلك.
(1/323)
---(1/323)
وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ، منهم الأخفش علي بن سليمان، وعلَّل ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ بعدَه: {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ} فلو كان مستأنفاً لما صَحَّ دخولُ "لا" بينه وبين الواوِ. الثاني: أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانِتِ الإثارةُ قد ذَلَّلَتْها، واللهُ تعالى نفى عنها ذلك بقولِه: لا ذلولٌ. انتهى. وهذا المعنى هو الذي منعتُ به أن يكون "تثيرُ" صفةً لبقرة لأن اللازمَ مشتركٌ، ولذلك قال أبو البقاء: "ويجوزُ على قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ هذا الوجهَ -يعني كونها تثيرُ ولا تَسْقي -أن تكونَ تُثير في موضعِ رفعٍ صفةً لبقرة". وقد أجابَ بعضُهم عن الوجه الثاني بأن إثارةَ الأرض عبارةٌ عن مَرَحِها ونشاطِها كما قال امرؤ القيس:
545- يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه * إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ
أي: تثيرُ الأرضَ مَرَحاً ونشاطاً لا حَرْثاُ وعَمَلاً، وقال أبو البقاء: "وقيل هو مستأنفٌ، ثم قال: "وهو بعيدٌ عن الصحة، لوجهينِ، أحدُهما: أنه عَطَفَ عليه قوله: {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ} فنفى المعطوفَ، فيجب أن يكونَ المعطوفُ عليه كذلك لأنه في المعنى واحدٌ، ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ ولا قاعدٍ، بل تقول: لا قاعدٍ بغير واو، كذلك يجب أن يكون هنا، وذَكر الوجه الثاني كما تقدَّم، وأجاز أيضاً أن يكون "تُثير" في محلِّ رفعٍ صفةً لذَلول وقد تقدَّم لك خلافٌ: هل يُوصف الوصفُ أو لا؟ فهذه ستةُ أوجهٍ، تلخيصها: أنها حالٌ من الضميرِ في "ذَلولٌ" من "بقرة" أو صفةٌ لبقرة أو لذلولٌ أو مستأنفةٌ بإضمارِ مبتدأ أو دونَه.
(1/324)
---(1/324)
قوله: {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. وقال الزمخشري: ولا الأولى للنفي -يعني الداخلةَ على "ذلولٌ" والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ الأولى، لأن المعنى: لا ذلولٌ تثيرُ وتَسْقي، على أن الفعلينِ صفتانِ لذَلول، كأنه قيل: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ".
وقُرئ "تُسْقي" بضم التاء من أَسْقى. وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها، ومنه {وَأَثَارُواْ الأَرْضَ} أي: بالحرثِ والزراعةِ، وفي الحديث: "أثيروا القرآن، فإنه عَلْمُ الأولين والآخرِين"، وفي روايةٍ، "مَنْ أرادَ العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن". ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي: خَلُص. و "شية" مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً، فحُذفت فاؤها لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه، ووزنُها: عِلة، ومثلُها: صِلة وعِدة وزِنة، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ، ومنه ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي: أَبْلَقُها قال الشاعر:
546- من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه * طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه: "الواشي" للنمَّام، لأنه يَشي حديثَه أي: يُزَيِّنُه ويَخْلِطُه بالكذب، وقال بعضهم: ولا يقال له واشٍ حتى يُغَيِّرَ كلامَه ويُزَيِّنَه. ويقال: ثورٌ أَشْيَهُُ، وفرس أَبْلَقُ وكبشٌ أَخْرَجُ وتيسٌ أَبْرَقُ وغرابٌ أَبْقَعُ، كلُّ ذلك بمعنى البُلْقَةِ، و "شِيَةَ" اسم لا، و "فيها" خبرها.
(1/325)
---(1/325)
قوله: {الآنَ جِئْتَ} "الآن" منصوبٌ بجِئْتَ، وهو ظرفٌ زمانٍ يقتضي الحالَ ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين، وقال بعضُهم: هذا هو الغالبُ وقد جاء حيثُ لا يُمْكِنُ أن يكونَ للحالِ كقولِه: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ} {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فلو كان يقتضي الحالَ لَما جاء من فعل الشرط والأمرِ اللذين هما نصٌّ في الاستقبالِ، وعَبَّر عنه هذا القائلُ بعبارةٍ توافقُ مذهبَه وهي: "الآن" لوقتٍ حُصِر جميعُه أو بعضُه" يريد بقولِه: "أو بعضُه" نحوَ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ} وهو مبنيٌّ. واختُلِفَ في علَّة بِنائِه، فقال الزجاج: "لأنَّه تضمَّن معنى الإشارة، لأنَّ معنى أفعلُ الآن أي: هذا الوقتَ". وقيل: لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ. وقيل: لأنَّ تضمَّن معنى حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما، ويُعْزى هذا للفارسي. وهو مردودٌ بأنَّ التضمينَ اختصار، فكيف يُخْتصر الشيءَ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه. وهو لازمٌ للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام: "فهو يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى" فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم، و "حين" خبره، بُني لإضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، ومجروراً في قوله:
547- أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ * ......................
وادَّعى بعضُهم إعرابَه مستدلاًّ بقوله:
548- كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا * وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ
(1/326)
---(1/326)
يريد: "من الآن" فجَرَّه بالكسرة، وهذا يَحْتمل أن يكونَ بُني على الكسر. وزعم الفراء أنه منقولٌ من فعلٍ ماضٍ، وأن أصلَه آنَ بمعنى حانَ فَدَخَلَتْ عليه أل زائدةً واسْتُصْحِبَ بناؤُه على الفتح، وجَعَله مثلَ قولهم: "ما رأيته مذ شَبَّ إلى دَبَّ" وقولِه عليه السلام: "وأَنْهاكم عن قيلَ وقال"، ورُدَّ عليه بأنَّ أل لا تدخُل على المنقولِ من فعلٍ ماضٍ، وبأنه كان ينبغي أن يجوزَ إعرابُه كنظائرِه، وعنه قولٌ آخر أنَّ اصلَه "أوان" فحُذِفَتْ الألفُ ثم قًُلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفُه عن واو، وقد أدخله الراغبُ في باب "أين" فتكون ألفُه عن ياء، [والصواب الأول].
وقُرئ "قالوا الآن" بتحقيق [الهمزةِ] من غير نَقْل، وهي قراءةُ الجمهورِِ، و "قالٌ لان" بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة، وهو قياسٌ مطَّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه، و "قالو لاَن" بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ إليها، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر: "لَحْمَر". وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء اللهُ تعالى في {عَاداً الأُولَى} وحُكِي وجه رابع: "قالوا ألآن" بقطعِ همزةِ الوصلِ وهو بعيدٌ.
قوله: "بالحقِّ" يجوزُ فيه وجهانِ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة كأنه قيل: أَجَأْتَ الحقَّ أي: ذَكَرْتَه. الثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ "جِئْتَ" أي: جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ.
قوله {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كادَ واسمُها وخبرُها، والكثيرُ في خبرها تَجَرُّدُه من أَنْ، وشَذَّ قولُه:
549- قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا
عكسَ عسى، ومعناها مقاربةُ الفعلِ، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً، والجوابُ عن ذلك عند قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ} فَلْيُتَفتْ إليه.
(1/327)
---(1/327)
* { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قوله تعالى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} فعلٌ وفاعلٌ، والفاءُ للسببية، لأنَّ التدارُؤ كان مُسَبِّباً عن القتلِ، ونسبَ القتلَ إلى الجميعِ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ أو اثنين كما قيل، لأنه وُجِدَ فيهم، وهو مجازٌ شائعٌ. وأصل ادَّارأتم: تَدارَأْتُم تفاعَلْتُم من الدَّرْءِ وهو الدفعُ، فاجتمعَتِ التاءُ مع الدال وهي مقارِبتُها فأريدَ الإدغامُ فَقُلبت التاءُ دالاً وسُكِّنتْ لأجلِ الأدغامِ، ولا يمكنُ الابتداءُ بساكنٍ فاجتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ليُبتدأ بها فبقي ادَّارأتم، والأصل: "ادْدَارَأْتم" فأدغم، وهذا مطردٌ في كلِّ فعل على تَفَاعَل أو تفعَّل فاؤُه دالٌ نحو: "تَدَايَنَ وادَّايَنَ، وتَدَيَّن وادَّيَّن، او ظاء أو طاء أو صادٌ أو ضاد نحو: تَطَاير واطَّاير، وتَطّيَّر واطَّيَّر، وتَظَاهَرَ واظَّاهر، وتَطَهَّر واطَّهَّر، والمصدرُ على التفاعُلِ أو التفعُّل نحو: تدارؤ وتطهُّر نظراً إلى الأصلِ، وهذا أصل نافعٌ غفي جميعِ الأبوابِ فليُتأمَّلْ.
(1/328)
---(1/328)
قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} "الله" رفعٌ بالابتداء و "مُخْرجٌ" خبرُه، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلَّ باسمِ الفاعلِ، فإنْ قيل: اسمُ الفاعلِ لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام. فالجواب/ أنَّ هذه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ، وهذا كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً ويستدلُّ بهذا ونحوهِ. و "ما" يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً، فلا بد من عائدٍ، تقديره: مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهما: "فادَّارَأْتم" "فقلنا اضرِبوه" قاله الزمخشري. والضميرُ في "اضربوه" يعودُ على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإنسان، إو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله: والله مُخْرلاِجٌ ما كنتم تكتمون". والجملةُ من "اضربوه" محلَّ نصبٍ بالقولِ.
* { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ}: "كذلك" في محلِّ نصب لأنه نعتٌ بمحذوفٍ، أي إحياءً كائناً كذلك الإحياءِ، أولأنه حالٌ من المصدرِ المعرَّفِ، أي: ويريكم الأراءةَ حالَ كونِها مُشْبِهةً ذلك الإحياءَ، وقد تقدَّم أنه مذهبُ سيبويه، والموتى جمع "مَيِّت" وقد تقدَّم.
(1/329)
---(1/329)
قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الرؤيةُ هنا بَصَريَّةٌ فالهمزةُ للتعديةِ أَكْسَبَتِ الفعلَ مفعولاً ثانياً، وهو "آياتِه، والمعنى: يَجْعلكم مُبْصرينَ آياتِه. و "كم" هو المفعولُ الأولُ، وأصلُ يُريكم: يُأَرْإيكم، فَحُذِفَت همزةَ أَفْعل في المضارعةِ لِما تقدَّم في "يُؤمنون" وبابه، فبقي يُرئيكم، فَنُقِلت حركةُ الهمزة على لاراءِ، وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، وهو نقل لازمٌ في مادةِ "رأى" وبابِه دون غيره ممَّا عينُه همزةٌ نحو: نَأَى يَنْأَى، ولا يجوز عدمُ النقلِ في رأى وبابِه إلا ضرورةً كقوله:
550- أُري عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ * كِلانا عالمٌ بالتُّرَّهات
* { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}: "أو" هذه كـ "أو" في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} فكلُّ ما قيلَ فيه ثَمَّةَ يمكنُ القولُ به هنا، ولمَّا قال أبو الأسود:
551- أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً * وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا
(1/330)
---(1/330)
اعترضوا عليه في قوله "أو" التي تقتضي الشكَّ، وقالوا له: أَشَكَكْتَ؟ فقال: كَرَّ، واستدلَّ بقولِه تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ} وقال: أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ وإنما قَصَد - رحمه الله - الإبهامَ على المخاطب. و "أشدُّ" مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ "كالحجارة" أي: فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ. والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكون اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ اي: أو هي أشدُّ. و "قسوة" نصبٌ على التمييزِ؛ لأنَّ الإبهامَ حَصَلَ في نسبةِ التفضيلِ إليها، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ علهي أي: أشدُّ قسوةً من الحجارةِ.
(1/331)
---(1/331)
وقُرئ "أشدَّ" بالفتح، ووجهُها أنه عَطَفَها على "الحجارة" أي: فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها. قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ: "وأشدُّ معطوفٌ على الكاف: إمَّا على معنى: أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على "الحجارة". ويجوز على ما قاله أن يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله، كقراءة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ} بجرِّ الآخرةِ، أي: ثوابَ الآخرةِ، فيحصُلُ من هذا أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ. وقال الزمخشري أيضاً: "فإنْ قلت: لِمَ قيل "أشدُّ قسوةً" وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ؟ - يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ - ثم قال: "قلت: لكونِه أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى، ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة، كأنه قيل: اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم أشدُّ قسوةً" وهذا كرمٌ حسنٌ جداً، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ. وقُرئ: قَساوة.
(1/332)
---(1/332)
قوله: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ} اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم "إنَّ"، لتقدُّمِ الخبرِ وهو {مِنَ الْحِجَارَةِ}، وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك، والضميرُ في "منه" يعودُ على "ما" حَمْلاً على اللفظ، قال أبو البقاء: "ولو كان في غير القرآنِ لجازَ "منها" على المعنى" قلت: هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك. وقرأ مالك بن دينار: "يَنْفَجِرُ" من الانفجار. وقرأ قتادة: {وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ} بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين "إنْ" النافية، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ - وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ "ما" فيها في محل رفع وهو المشهورُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ "إنْ" المخففة سُمع فيها الإعمالُ والإهمالُ، قال تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} في قراءة مَنْ قرأه. وقال في موضع آخر: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} إلاَّ أنَّ المشهورَ الإهمالُ. و {يَشَّقَّقُ} أصلُه: يَتَشَقَّقُ، فأُدْغم، وبالأصلِ قرأ العمشُ، وقرأ طلحة بن مصرق: "لَمَّا" بتشديد الميم في الموضعين، قال ابن عطية: "وهي قراءة غير متجهة" وقرأ أيضاً: "يَنْشَقُّ" بالنون، وفاعلُه ضمير "ما" وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ "يَشَّقَّقُ" يجوز أن يُجْعَلَ للماء على المعنى، فيكونَ معك فعلان، فيعملُ الثاني منهما في الماء، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ/ على شريطةِ التفسيرِ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ" يعني أنه من باب التنازع، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ من "يَشَّقَّق" على "ما" الموصولة دلَّ عليه قوله "مِنْه" والتقديرُ: وإنَّ من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ منه. وقال أيضاً: "ولو قُرئ "تتفجَّر"(1/333)
(1/333)
---
بالتاءِ جاز" قلتُ: قال أبو حاتم يجوز "لما تتفجَّر" بالتاء لأنه أَنَّثه بتأنيثِ الأنهار، وهذا لا يكون في تشَّقَّق يعني التأنيث. قال النحاس: "يجوز ما أنكره على المعنى، لأنَّ المعنى: وإنَّ منها لحجارةً تَتَشَقَّقُ" يعني فيراعي به معنى "ما" فإنَّها واقعةٌ على الحجارة.
قوله: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} منصوبُ المحلِّ متعلقٌ بـ "يَهْبِط". و "مِنْ" للتعليل، وقال أبو البقاء: ["مِنْ"] في موضع نصب بيهبط، كما تقول: يهبط بخشيةِ الله، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى. وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه: مِنْ أن يَخْشَى اللهَ.
وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ، كقوله:
552- لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ * سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك. وقيل: الضميرُ في "منها" يعودُ على القلوبِ وفيه بُعْدٌ لتنافُرِ الضمائر.
قوله {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} قد تقدَّم في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فَلْيُلْتَفَتْ إليه.
قوله: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بغافل، و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، فلا بد من عائدٍ أي: تعلمونه، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه، أي عن علمِكم، ويجوز أن يكونَ واقعاً موقعَ المفعولِ به، ويجوز ألاَّ يكون. وقُرِئ "يعلمون" بالياءِ والتاءِ.
* { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ}.. ناصبٌ ومنصوبٌ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ النونِ، والأصلُ: في أَنْ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ على ما عُرِفَ غيرَ مرةَ، وعَدَّى "يؤمنوا" باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإيمان لأجلِ دعوتِكم، قاله الزمخشري وقد تقدَّم تحقيقُه.
(1/334)
---(1/334)
قوله: {وَقَدْ كَانَ} الواو للحالِ. قالَ بعضُهم: "وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها "إذ" والتقدير: أفتطعَمُون في لإيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى. و "قد" مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً. و "يَسْمَعُون" خبراً كان، و "منهم" في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ، أي: فريقٌ كائنٌ منهم. وقال بعضُهم: {يَسْمَعُونَ} في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق، و "منهم" في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم. وقُرئ {كَلِمَ اللَّهِ} وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإفَادَةُ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ فصاعداً، لأنه جَمْعٌ في المعنى، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِهم. وهل الكلامُ مصدرٌ واسمُ مصدر؟ خلافٌ. والمادةُ تَدُلُّ على التأثير، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ، والكلامُ يؤثِّر في المخاطب قال:
553- ........................... * وجُرْحُ اللسانِ كجُرْحِ اليَدِ
ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإشارةِ كقوله:
554- إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ * رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وعلى النفساني، قال الأخطل:
555- إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما * جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا
قيل: ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل، وأمَّا عند النحويين فلا يُطْلَقُ إلا على اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع.
(1/335)
---(1/335)
قوله: {بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} متعلِّقٌ بـ {يُحَرِّفُونَهُ}. والتحريفُ: الإمالة والتحويلُ، و "ثم" للتراخي: إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ، و "ما" يجوز ان تكونَ موصولةً اسميةً أي: ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه. ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في "عَلَقوه" يعودُ حينئذٍ على الكلامِ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ، وفي العاملِ فيها قولان، أحدهما: {عَقَلُوهُ}، ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً، لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه "عَلَقُوه" والثاني: وهو الظاهرُ، أنه يُحَرِّفونه، أي يُحَرِّفُونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك.
* { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوااْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوااْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ}.. الآية، قد تقدَّم نظيرُها أولَ السورةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على مفرادتها وإعرابها، فأغنى ذلك من الإعادة.
وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن أحوال اليهودِ والمنافقين. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً على الجملة الحالية قبلها وهي: "وقد كان فريقٌ" والتقدير: كيف تطعمون في إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع: لاقُوا، وهو بمعنى لَقوا، فَاعَل بمعنى فَعِل نجو: سافر وطارَقْتُ النعل.
(1/336)
---(1/336)
قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه، وما موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: فَتَحَه الله. وأجازَ أبو البقاؤ أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو مصدريةً، أي: شيءٌ فَتَحه، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً، أو بفتحِ الله عليكم. وفي جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} عائدٌ على "ما" هذا هو الظاهرُ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعود عليها ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر ب ن السراج، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ فيُقال: الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم} أو من قوله فَتَح، أي: لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه، أو بالفتح الذي فَتَحه الله عليكم. والجملةُ من قولِهِ: "أتُحَدِّثونهم في محلِّ نصبٍ بالقَوْل، والفتحُ هنا معناه الحكمُ والقَضاءُ، وقيل: الفَتَّاحُ: القاضي بلغةِ اليمن، وقيل الإنزالُ. وقيل: الإعلامُ/ أو التبيينُ بمعنى أنه بَيَّنَ لكم صفة محمدٍ عليه السلام، أو المَنُّ بمعنى ما مَنَّ عليكم يه من نَصْرِكم على عَدُوِّكم، وكلُّ هذه أقوالٌ مذكورةٌ في التفسيرِ.
(1/337)
---(1/337)
قوله: {لِيُحَآجُّوكُم} هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل، كما أنَّ "كي" كذلك، لا بمعنى أنها تضنْصِبُ ما بعدَها بإضمار بـ "كي" كما سيأتي، وهي حرفُ جرٍّ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً بعدها، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه غيرُ صريح. والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى : {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} لأن "أَنْ" هي أُمُّ البابِ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ غيرِها. وقال الكوفيون: "النصبُ باللامِ نفسِها، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد"، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو. ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع بعدها "لا" نحو قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لَميْن فيثقُل اللفظُ والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح. وهذه اللامُ متعلقةٌ بقوله: "أَتُحَدِّثُونهم". وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ بـ "فَتَحَ"، وليس بظاهرٍ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست على للفتح، وإنما هي نَشَأَتْ عن التحديث، اللهم أَنْ يُقالَ": تَتَعَلَّقُ به على أنها لامُ العاقبة، وهو قولٌ قيل بهِ فصارَ أنَّ عاقبةَ الفتحِ ومَآلَة صارَ إلى أَنْ حاجُّوكم، أو تقول: إنَّ اللام لامُ العِلَّة على بابِها، وإنَما تَعَلَّقَتْ بفَتْحِ لأنه سببٌ للتحديث، والسَّبَبُ والمُسَبِّبُ في هذا واحدٌ. قوله: "به" الضميرُ يعودُ على "ما" من قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} وقد تقدَّم أنه يضعفُ القولُ بكونِها مصدريةً، وأنه يجوز أن يعود على أحدِ المصدَرَيْنِ المفهومين من "أَتُحَدِّثُونهم" و "فتح".
(1/338)
---(1/338)
قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرفٌ معمولٌ لقولِه: {لِيُحَآجُّوكُم} بمعنى لِيحاجُّوكم يومَ القيامة، فًَكَنَى عنه بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ}، وقيل: "عندَ" بمعنى في، أي: ليحاجُّوكم في ربكم، أي: فيكونون أَحَقَّ به منكم. وقيل: ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي: عند ذِكْرِ ربِّكم، وقيل: هو معمولٌ لقولِه: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم، وهو نَعْتُه عليه السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه. ورجَّحه بعضُهم وقال: "هو الصحيح، لأنَّ الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا" وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة، وذلك أنَّ {لِيُحَآجُّوكُم} متعلقٌ بقوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم} على الأظهرِ كما تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ بين العاملِ - وهو فَتَح - وبين معموله - وهو عند ربك - وذلك لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما.
قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها. وفي هذه الجملةِ قولان: أحدُهما [أنها] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ. والثاني أنها من خطابِ الله تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني، ومفعولُ {تَعْقِلُونَ} يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ.
* { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }
(1/339)
---(1/339)
قوله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ}.. تقدَّم أنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ النيةَ بالواوِ التقديمُ على الهمزةِ لأنَّها عاطفةٌ، وإنما أُخِّرَتْ عنها لقوةِ همزةِ الاستفهام، وأنَّ مذهبَ الزمخشري تقديرُ فِعْلٍ بعدَ الهمزةِ، ولا للنفي. و {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} يجوزُ أن تكونَ في محلِّ نصبٍ، وفيها حينئذٍ تقديران، أحدُهما أنَّها سادَّةٌ مسَدَّ مفردٍ إن جَعَلْنَا عَلِمَ بمعنى عَرَف، والثاني: أنها سادةٌ مَسَدَّ مفعولَيْن إنْ جَعَلْنَاها متعديةً لاثنين كظنَنْتُ، وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهبُ سيبويهِ والجمهور، وأنَّ الأخفشَ يَدَّعي أنها سَدَّتْ مَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ، و" ما" يجوز أن تكونَ بمعنى الذي وعائدُها محذوف، أي: ما يُسِرُّونه ويُعْلِنُونه، وأن تكونَ مصدريةً أي: يعلم سِرَّهم وعَلَنهم، والسِرُّ والعلانِيَةُ متقابِلان.
* { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }
(1/340)
---(1/340)
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.. "منهم" خبرٌ مقدَّمٌ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و "أمِّيُّون" مبتدأٌ مؤخر، ويجوزُ على رأي الأخفشِ أن يكونَ فاعلاً بالظرف قبلَه وإنْ لم يَعْتمدْ، وقد بَيَّنْتُ على ماذا يعتمد فيما تقدَّم. "وأمِّيُّون جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ، واختُلف في نسبته، فقيل: إلى الأُم وفيه معنيان: أحدُهما: أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ الكتابة وليس مثلَ أبيه، لأن النساءَ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ. والثاني: أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمِّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ. وقيل: نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا ذلك. وقيل: نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم: عامِّي أي: على عادة العامَّة. وعن ابن عباس: "قيل لهم أمِّيُّون لأنهم لم يُصَدِّقوا بأم الكتاب" وقال أبو عبيدة: "قيل لهم أُمِّيُّون لإنزالِ الكتابِ عليهم كأنهم نُسبوا لأُمِّ الكتاب".
وقرأ ابن أبي عبلة: "أُمِّيُون" بتخفيف الياء، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين.
قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ، كأنه قيل: أُمِّيُّون غيرُ عالمين.
قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} هذا استثناءٌ منقطعُ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه، وهذا هو المنقطعُ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} وقولِ النابغة:
556- حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةً * ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
لأنَّ بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ، ولهذا لا يَجُوز: صَهَلَت الخيلُ إلا حماراً.
(1/341)
---(1/341)
واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن: ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو: "جاء القوم إلا حماراً" وضرب لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون: "ما زاد إلا ما نَقَصَ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ" فالأول فيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِيْهِهِ النصبُ والإتباعُ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول، فَيَحْتملُ نصبُها وجهين، أَحَدُهُما: على الاستثناء المنقطع، والثاني: أنه بدلٌ من الكتاب، و "إلا" في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين بـ "لكن" وعند الكوفيين بـ "بل". وظاهرُ كلام أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ، فإنَّه قال: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} استثناء منقطع، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم، وتقديرُ "إلاَّ" في مثلِ هذا بـ "لكنْ"، أي: لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ، فيكونُ عندَه من بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ، فيصيرُ نظيرَ: "ما علمت إلا ظناً" وفيه نظرٌ.
والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما. وقال أبو البقاء: "يجوز تخفيفُها فيهما". وقرأ أيو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءَين، تخفيفاً، قال الأخفش: "هذا كما يُقال في جمعِ مفتاح: مفاتح ومفاتيح"، قال النحاس: "الحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ" وأنشد قول النابغة:
557- وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العَمَى * ثلاثُ الأَثافي والرسومُ البلاقِعُ
وقال أبو حاتم: "كلُّ ما جاء مشدَّداً من هذا النوع فلك في الجمعِ الوجهان" وأصلُه يَرْجِعُ إلى ما قال الأخفش. ووزن أُمْنِيَّة: أُفْعُولة من منَّى يُمَنِّي إذا تلا وقرأ، قال:
558- تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلهِ * تَمَنَّى داودَ الزبورَ على رِسْلِ
وقال كعب بن مالِك:
559- تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ * وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
(1/342)
---(1/342)
وقال تعالى: "إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ"، أيَ: قَرَأَ وتَلا، فالأصلُ على هذا: أُمْنُوية، فاعتلَّت اعتلالَ ميِّت وسيِّد، وقد تقدَّم. وقيل: الأمنيَّةُ الكذبُ والاختلاقُ. وقيل ما يتمنَّاه الإنسان ويَشْتَهيه. وقيل: ما يُقَدِّرُه وَيَحْزِرُه مِنْ مَنَّى إذا كَذَبَ أو تمنَّى أو قدَّر، كقوله:
560- لا تأْمَنَنَّ وإنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ * حتى تُلاَقِي ما يَمْني لكَ الماني
أي: يقدِّر لك المقدِّرُ. وقال الراغب: "والمَنْيُ القَدْرُ، ومنه "المَنا" الذي يُوزَنُ به، ومنه: المَنِيَّة وهو الأجَل المقدَّرُ للحيوان، والتمنِّي: تقديرُ شيءٍ في النفسِ وتصويرُه فيها، وذلك قد يكونُ عن ظَنٍّ وتخمين، وقد يكونُ بناءً على رَوِيَّةٍ وأصلٍ، لكنْ لمَّا كان أكثرُه عن تَخْمينٍ كان الكذبُ أَمْلَكَ له، فأكثرُ التمنِّي تصوُّرُ ما لا حقيقةَ له، والأُمْنِيَةُ: الصورةُ الحاصلةُ في النفسِ مِنْ تمنِّي الشيءِ، ولمَّا كان الكذبُ تَصَوُّرَ ما لا حقيقة له وإيرادَه باللفظِ صار التَمنِّي كالمبدأ للكذبِ [فعُبِّر به عنه، ومنه قولُ عثمانَ رضي اللهُ عنه: "ما تَغَيَّبْتُ ولا تَمَنَّيْتُ منذ أَسلمْتُ"]. وقال الزمخشري: "والاشتقاقُ من مَنَّى إذا قدَّر، أن المتمنِّي يُقَدِّر في نفسِه ويَحْزِرُ ما يتمنَّاه، وكذلك المختلقُ، والقارئُ يقدَّر أنَّ كلمةَ كذا بعد كذا" فجَعَلَ بين هذه المعاني قَدْراً مشتركاً وهو واضحٌ.
قولُه: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} "إنْ" نافيةٌ بمعنى ما، وإذا كانت نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ "ما" الحجازيةِ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه لسيبويهِ وأنشدوا:
561- إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ * إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين
(1/343)
---(1/343)
و "هو" اسمُها و "مستولياً" خبرُها، فقولُه "هم" في محلِّ رفعٍ بالابتداء، لا اسم "إنْ" لأنها لم تَعْمَل على المشهور، و "إلاَّ" للاستثناء المفرغ، و "يَظُنُّونَ" في محلِّ الرفع خبراً لقولِه "هم" وحَذَفَ مفعوليَ الظنِّ للعلمِ بهما، او اقتصاراً، وهي مسألةُ خلافِ.
* { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }
قولُه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ}.. وَيْلٌ مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له نحو: "يلامٌ عليكم، أو عليه كهذه الآية، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ بمحذوف. وقال أبو البقاء: "ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير: أَلْزَمَهم الله ويلاً، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر" يعني أنَّ اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، وقولُه: "لأنَّ الاسم" يعني أنه لو ذُكِرَ قبلَ "ويلَ" فقلت: "ألزم الله زيداً ويلاً" لم يَحْتَجْ إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر، وعبارةُ الجَرْميّ توهم وجوبَ الرفعِ في المقطوعِ عن الإضافة، ونَصَّ الأخفش على جوازِ النصبِ فإنه قال: "ويجوزُ النصبُ على إضمار فعلٍ أي: أَلْزمهم الله ويلاً".
(1/344)
---(1/344)
واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي: وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإضمارِ، لا يجوز إظهارُها البتة أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ، وإذا فُصِل عن الإضافةِ فالأحسنُ فيه الرفعُ، نحوَ: "وَيْلٌ له" وإن أضيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم، وإن كان عِبارىُ الجرميّ توهُم وجوبَ الرفعِ عند قَطْعِه عن الإضافة فإنه قال: "فإذا أَدْخَلْتَ اللامَ رَفَعْتَ فقلت: ويلٌ له، وَوَيْحٌ له" كأنه يُريد على الأكثر، ولم يَسْتعمل العربُ منه فعلاً لاعتلالِ عينه وفائِه، وقد حَكى ابن عرفة: "تَوَيَّلَ الرجلُ" إذا دَعا بالوَيْل، وهذا لا يَرُدُّ، لأنه مثلُ قولهم: "سَوَّفْتَ ولَوْلَيْتَ" إذا قلتَ: له سوفَ ولو.
ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل، وقال الأصمعي: الوَيْلُ: التفجُّع، والوَيْل: الترحُّم. وقال سيبويه: "وَيْل، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك" وقيل: الويلُ الحُزن، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ، وقد تقدَّم ما فرَّق به سيبويه في بعضِها. وقال قومٌ: وَيْلٌ في الدُّعاء عليه، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ عليه. وزعم الفرّاء أن أصلَ ويْل: وَيْ أَي حُزْن، كما تقول: وَيْ للان، أي حُزْن له، فَوَصَلَتْه العربُ باللام، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا غريبٌ جداً. وَيْل وويلَة بالتاء، وقال امروء القيس:
562- له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ * لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا
وقال أيضاً:
563- ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خَدْرَ عُنَيْزَةٍ * فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ إنَّك مُرْجِلي
فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية / لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقاسُ.
(1/345)
---(1/345)
قوله {بِأَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بيكُتبون، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من "الكتاب"، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب، فنصبُه على المفعولِ به، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ، ونحوُه: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} وقيل: فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم، فإنَّ قولَك: فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُبَاشِرْه، نحو: بنى الأميرُ المدينةَ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ. وقيل: فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه. وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز. وقال ابن السَّرَّاج: "ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم" وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ.
والأيدي جمعُ يَدٍ، والأصلُ: أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو: بِيْض جمعَ أَبْيض، والأصلُ: بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر، وهذا رأيُ سيبويه، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه، وسيأتي تحقيقُ مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ "معيشة" إنْ شاء الله تعالى.
وأصل يَد: يَدْي بسكونِ العَيْنِ، وقيل: يَدَي بتحريكِها، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً، وعليه التثنيةُ: يديان، وعليه أيضاً قوله:
564- يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا * تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفِّ اليَدا
والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامشها، قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} وقد شَذَّ الردُّ في قوله: "يَدَياتِ:
(1/346)
---(1/346)
565- يَدَيَان بَيْضاوان عِندَ مُحَلِّمٍ * قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا
وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو: كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب. ولا بدَّ في قوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى، فقدَّره الزمخشري: "يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ" وقدَّرَه غيرُه حالاً من الكتاب تقديرُه: يكتُبون الكتابَ مُحَرَّفاً، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإضمارِ لأنَّ الإنكارَ لاَ يَتَوجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره.
قوله: {لِيَشْتَرُواْ} اللامُ لامُ كي، وقد تقدَّمت. والضميرُ في "به" يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم: {هَاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} و "ثمناً" مفعولُه، وقد تقدَّم تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} فَلْيُلْتَفَتْ إليه، واللامُ متعلقةٌ بيقولون، أي: يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ. وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَها متعلقةً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه قولُه {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
قوله: {مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر، و "مِنْ" للتعليلِ، و "ما" موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي: كَتَبَتْهُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَتْبِهم، و {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} مثلُ ما تقدَّم قبلَه، وإنما كرَّر "الوَيْل" ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ، وإنَّما قَدَّم قولَه: "كَتَبَتْ" على "يَكْسبون" لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ، فالكُتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ، فجاء النَّظْمُ على هذا.
(1/347)
---(1/347)
* { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.. هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، فأيَّاماً منصوبٌ على الظرفِ بالفعلِ قبلَه، والتقديرُ: لَنْ تَمَسَّنا النارُ أبداً إلا أياماً قلائلَ يَحْصُرُها العَدُّ، لأن العَدَّ يَحْصُر القليلَ، وأصلُ أَيَّام: أَيْوام لأنه جمعُ يوم، نحو: قَوْم وأَقْوامٍ، فاجتمع الياءُ والواوُ وَسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَوَجَبَ قَلْبُ الواوِ وإدغامُ الياءِ في الياءِ، مثل هيّن وميّت.
قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} الهمزةُ للاستفهامِ، ومعناهُ الإنكارُ والتقريعُ، وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الصول الداخلةِ على "اتَّخَذْتُم" كقوله: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ} {أَصْطَفَى} وبابه. وقد تقدَّم القولُ في تصريفِ {اتَّخَذْتُمُ} وخلافُُ أبي علي فيها. ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد. قال أبو البقاء: "وهو بمعنى جَعَلْتُم المتعدية لواحد"، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها بمعنى "جَعَل" في تعدِّيها لواحد، بل المعنى: هل أَخَذْتُم مِنَ اللهَ عَهْداً، ويُحتملُ أَنْ تتعدَّى لاثنين، والأولُ "عهد"، والثاني "عند الله" باتَّخَذْتُمْ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوزُ نَقْلُ حركةِ همزةِ الاستفهامِ إلى لام "قُلْ" قبلَها فَتُفْتَحُ وتُحْذَفُ الهمزةُ وهي لغةٌ مطَّرِدَةٌ قرأَ بها نافع في روايةِ ورش عنه.
(1/348)
---(1/348)
قوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ} هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ، أو بطريقِ إضمار الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ؟ قولان، تقدَّم تحقيقُهما. واختار الزمخشري القولَ الثاني، فإنه قال: {فَلَنْ يُخْلِفَ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: إن اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه". وقال ابنُ عطية: "فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه: اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ. كأنه يَعْني بذلك أنَّ قولَه: "أم تَقُولون" مُعادِلٌ لقولِه: "أَتَّخَذتم" فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ بين المتعادِلَيْنِ معترضةً، والتقديرُ: أيُّ هذين واقعٌ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم قولِكم بغيرِ علمٍ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإعراب، وعلى الأول محلُّها الجَزْمُ.
قوله: {أَمْ تَقُولُونَ} أمْ "هذه يجوزُ فيها وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين، أي: أيُّ هذين واقعٌ، وأَخْرَجَهَ مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه، وإنْ [كان] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما، وهو قولُهم على اللهِ ما لا يعلمون للتقرير، ونظيرُه: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وقد عُلِمَ أيُّهما على هدىً وأيُّهما في ضلالِ، وقد عَرَفْتَ شروطَ المتصلةِ أولَ السورة. ويجوزُ أن تكونَ منقطعةً، فتكونَ غيرَ عاطفةٍ، وتُقَدَّر بـ بل والهمزةِ/ والتقديرُ: بل أتقولون، ويكونُ الاستفهامُ للإنكارِ لأنه قد وقع القولُ منهم بذلك، هذا هو المشهورُ في أمِ المنقطعةِ. وزعم جماعةٌ أنها تُقَدَّر بـ "بل" وجدَها دونَ همزةِ استفهامٍ، فَيُعْطَفُ ما بعدَها على ما قبلها في الإعرابِـ واستدَلَّ عليه بقولِهم: إنَّ لنا إبلاً أَمْ شاءً، بنصْبِ "شاء" وقول الآخر:
566- وَليْتَ سُلَيْمى في المَنَامِ ضَجيعتي * هنالِكَ أَمْ في جنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
(1/349)
---(1/349)
تقديره: بل في جهنَّمَ، ولو كانَتْ همزةُ الاستفهامِ مقدَّرةً بعدَها لَوَجَبَ الرفعُ في "شاء" و "جهنم" على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وليس لقائلٍ أن يقولَ: هي في هذين الموضعينِ متصلةٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أنَّ شرطَها أَنْ تتقدَّمَها الهمزةُ لفظاً أوْ تقديراً، ولا يَصْلُحُ ذلك هنا.
قوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} "ما" منصوبةٌ بتقولون، وهي موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً.
* { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيائَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {بَلَى}.. حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي، إلاَّ أَنَّ "بلى" جوابٌ لنفي متقدِّمٍ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا، فيكونُ إيجاباً له نحو قول القائلِ: ما قام زيدٌ فتقولُ: بلى، قد قام، وتقول: أليس زيداً قائماً؟ فتقول بلى، أي: هو قائم، قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا: نَعَمْ لَكَفروا. فأمَّا قولُه:
567- اليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ * وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي
نَعَمْ وَتَرى الهلالَ كما أَراه * وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني
(1/350)
---(1/350)
فقيل: ضرورةٌ، وقيل: نَظَرَ إلى المعنى؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي قَرَّره، وبهذا يُقال: فكيفَ نُقِل عنىبنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا، مع انَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل: قَوْلُه: "نعم" ليس جواباً لـ "أليس" إنما هو جوابٌ لقولِه: "فذاكَ بنا تَداني" فقوله تعالى: "بلى" رَدٌّ لقولِهم: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ} أي: بلى تَمَسُّكم أبداً، بدليلِ قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قاله الزمخشري، يريد أن "أبداً" في مقابَلَةِ قولهم: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وهو تقديرٌ حَسَنٌ. والبصريون يَقُولون: إنَّ "بلى" حرفٌ بسيطٌ. وزعم الكوفيون أنَّ أصلها بل التي للإضراب، زِيْدَتْ على رَدِّ النفي والياءُ تَدُلُّ على الإيجابِ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ، وإنما سَمُّوْها ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ، ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ غيرُ هذا، وسيأتي الكلامُ إن شاء الله في بقيةِ حروفِ الجواب.
قولُه: {مَن كَسَبَ} يجوزُ "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والخبرُ قولُه: "فأولئك"، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم. ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً وهو قولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ}، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً، والجوابُ قولُه "فأولئك" وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء، لكنْ إذا قلنا إنها مصولةٌ كان الخبر: "فأولئك" وما بعد بلا خلافٍ، ولا يكونُ لقولِه {كَسَبَ سَيِّئَةً} وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً، وإذا قلنا إنها شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ: إمَّا الشرطُ أو الجزارُ أو هما، حَسْبما تقدَّم، ويكونُ قولُه "كَسَب" وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط.
(1/351)
---(1/351)
و "سَيِّئَةً" مفعولٌ به، وأصلُها: سَيْوِئةَ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء، فوزنُها فَيْعِلة، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيِّد وميت، وقد تقدَّم. وراعى لفظ "مَنْ" مرةً فأفرَدَ في قوله "كسب"، و "به" و "خطيئته"، والمعنى مرةًً أخرى، فَجَمَع في قوله: {فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وقرأ نافعٌ وأهلُ المدينة: "خطيئاتُه" بجمعِ السلامة، والجمهور: "خطيئتُه" بالإفراد. ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة. وفيهما أقوالٌ"، أحدُهما: أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين. الثاني: السيئةُ الكفرُ، والخطيئةُ الكبيرةُ. الثالث: عكسُ الثاني. فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ، وعلى الوجه الثاني أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ. وقيل: المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها، كأنَّه قال: وأَحاطَتْ به خطيئتُه تلك، أي السيئة، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ، أو يُراد بهم العُصاةُ، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون.
وقوله: {فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ} إلى آخره تقدَّمَ نظيرُه فلا حاجةَ إلى إعادَتِه. وقُرئ "خطاياه" تكسيراً وهذه مخالِفةٌ لسَوادِ المصحفِ، فإنه رُسِم "خطيئتُه" بلفظِ التوحيدِ. وقد تقدَّم القول في تصريف خطايا.
* { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }
(1/352)
---(1/352)
قولُه تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا}.. "إذ" معطوفٌ على الظروفِ التي قبله، وقد تقدَّم ما فيه من كونِه متصرفاً أو لا. و "أَخَذْنا" في محلِّ خفضٍ، أي: واذكر وقتَ أَخْذِنا ميثاقَهم أو نحو ذلك.
قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ} قُرئ بالياءِ والتاء، وهو ظاهرٌ. فَمَنْ قَرَأَ بالغَيْبَة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو التفاتٌ، وحكمتُه أنَّه أَدْعى لقبولِ المخطابِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه، وجَعَل أبو البقاء قراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ. قال: "يُقْرَأُ بالتاء على تقدير: قُلْنا لهم: لا تَعْبُدون إلا الله" وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ، وفي هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ، اَظْهَرُها: أنَّها مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فاتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإعراب. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من "بني إسرائيل" وفيها حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا. والثاني: أنها حالٌ مقارِنةٌ بمعنى: أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإقامةَ على التوحيد، قالَه أبو البقاء، وسَبَقَه إلى ذلك قطرب والمبرِّد، وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحال من المضافِ إليه/ في غير المواضِع الجائز فيها ذلك على الصحيحِ، خلافاً لمَنْ أجازَ مجيئَها من المضافِ إليه مطلقاً، لا يُقال المضافُ إيله معمولٌ في المعنى لميثاق، لأنَّ ميثاقاً إمَّا مصدرٌ أو في حكمه، فيكونُ ما بعده إمَّا فاعلاً أو مفعولاً، وهو [غير] جائز لأنَّ مِنْ شرطِ عملِ المصدرِ غير الواقِعِ موقعَ الفعلِ أَنْ ينحلَّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعل هذا لاَ يَنْحَلُّ لهما، لَو قَدَّرْتَ: وإذ أَخَذْنا أن نواثِقَ بني إسرائيلَ أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يَصِحَّ، ألا ترى(1/353)
(1/353)
---
أنَّك لو قُلْتَ: أَخَذْتُ علمَ زيدٍ لم يتقدَّر بقول: أخذت أَنْ يعلَمَ زيدٌ، ولذلك مَنَع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه: "هذا بابُ علم ما الكِلمُ من العربية" أن يُقَدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدري والفعل، وَردَّ وأنكر على مَنْ أجازه. الثالث: أن يكنَ جواباً لقسمٍ محذوفٍ دَلَّ عليه لفظُ الميثاق، أي: استَحْلَفْناهم أو قلنا لهم: باللهِ لا تعبدون. ونُسِب هذا الوجهُ لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرِّدُ. الرابع: أن يكونَ على تقديرِ حَذْفِ حرفِ الجرّ، وحَذْفِ أَنْ، والتقديرُ: أَخَذْنَا ميثاقَهم على أَنْ لا تعبدوا أَو بأَنْ لا تَعْبدوا، فَحُذِفَ حرفُ الجر لأنَّ حَذْفَه مطَّردٌ مع أَنَّ وأَنْ كما تقدَّم غيرَ مرة، ثم حُذِفَتْ "أَنْ" الناصبةُ فارتفع الفعلُ بعدَها ونظيرُه قولُ طرفة:
568- أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى * وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي
(1/354)
---(1/354)
وحَكَوا عن العرب: "مُرْهُ يَحْفِرَها" أي: بِأَنْ يَحْفِرَها، والتقديرُ: عن أَنْ أَحْضُرَ، وبأَنْ يَحْفِرَها، وفيه نظرٌ، فإنَّ إضمارَ "أَنْ" لا ينقاسُ، إنَّما يجوزُ في مواضعَ عَدَّها النَّحْويون وجَعَلُوا ما سِواها شاذاً قليلاً، وهو الصحيحُ خلافاً للكوفيين. وإذا حُذِفَتْ "أَنْ" فالصحيحُ جوازُ النصبِ والرفعِ، ورُوي: "مُرْه يَحْفِرها"، وأَحْضُر الوغى" بالوجهين، وهذا رأيُ المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن حيث التزم رفعَه. وهذا رأيُ المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن حيث التزم رفعَه. وللبحثِ موضعٌ غيرُ هذا هو أَلْيَقُ به. وأيَّد الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ بقراءةِ عبد الله: "لاَ تَعْبُدوا" على النهي. الخامس: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ المحذوفِ، وذلك القولُ حالٌ تقديره: قائلين لهم لا تعبدون إلا اللهَ، ويكونُ خبراً في معنى النهي ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ المتقدمة، وبهذا يَتَّضح عطفُ "وقولوا" عليه، وبه قال الفراء. السادس: أَنَّ "أَنْ" الناصبة مضمرةٌ كما تقدَّم، ولكنها هي وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلٌ من "ميثاق"، وهذا قريبٌ من القولِ الأول من حيثُ إنَّ هذه الجملة مفسِّرةٌ للميثاق، وفيه النظرُ المتقدم، أعني حَذْفَ "أَنْ" في غيرِ المواضِع المَقِيسة. السابعُ: أَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ محذوفٍ، وذلك القولُ ليس حالاً، بل مجرَّدُ إخبارٍ، والتقديرُ: وقُلْنا لهم ذلك، ويكونُ خبراً في معنى النهي. قاله الزمخشري: "كما تقولُ: تذهَبُ إلى فلانٍ تقولُ له كذا، تريدُ الأمر، وهو أَبْلَغُ من صريحِ الأمر والنهي، لأنَّه كأنه سُورع إلى الامتثالِ والانتهاءِ فهو يُخْبِرُ عنه، وتَنْصُره قراءة اُبَي وعبد الله: "لا تعبدوا" ولا بدَّ من إرادة القول". انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ جداً.
(1/355)
---(1/355)
الثامن: أن يكونَ التقديرُ: أَنْ لا تعبدون، وهي "أَنْ" المفسِّرة، لأنَّ في قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ} إيهاماً كما تقدَّم، وفيه معنى القول، ثم حُذِفَتْ "أَنْ" المفسِّرة، ذكره الزمخشري. وفي ادِّعاء حَذْفِ حرفِ التفسيرِ نَظَرٌ لا يَخْفَى.
وقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} استثناءٌ مفرغ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم تحقيقُه أولاً. وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، إذ لو جَرَى الكلامُ على نَسقَه لقيل: لا تَعْبدون إلا إيانا، لقوله "أَخَذْنَا". وفي الالتفاتِ من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر، وأيضاً الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ.
(1/356)
---(1/356)
قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: اَنْ تتعلَّقَ الباء بـ "إحساناً"، على أنَّ مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، والتقديرُ: وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ، والباءُ ترادِفُ "إلى" في هذا المعنى، تقول: أَحْسَنْتُ به وإليه، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ، أي: وأَحْسنوا بِرَّ الوالدَيْن بمعنى: أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما. قال ابن عطية: "ويَعْتَرِضُ هذا القولَ أَنْ يتقدَّمَ على المصدرِ معمولُه" وهذا الذي جَعَله ابنُ عطية اعتراضاً على هذا القولِ لا يتِمُّ على مذهب الجمهور، فإنَّ مذهبَهَم جوازُ تقديم معمولِ المصدرِ النائبِ عن فِعْل الأمر عليه، تقول: ضرباً زيداً، وإنْ شئْتَ: زيداً ضرباً، وسواءً عندهم إنْ جَعَلْنَا العملَ للفعلِ المقدِّرِ أم للمصدرِ النائبِ عن فِعْلِه فإنَّ التقديمَ عندَهم جائزٌ، وإنما يمتنعُ تقديمُ معمولِ المصدرِ المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعلِ، كما تقدَّم بيانه آنِفاً، وإنما يَتِمُّ على مذهبِ أبي الحسن، فإنه يمنَعُ تقديمَ معمولِ المصدرِ النائبِ عن الفعلِ، وخالَفَ الجمهورَ في ذلك. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ يجوزُ أَنْ يُقَدَّر فعلَ أمرٍ مراعاةً لقولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ} فإنه في معنى النهي كما تقدَّم، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا اللهَ وأَحْسِنوا بالوالدين. وبهذين الاحتمالين قَدَّر الزمخشري، وَيَنْتَصِبُ "إحساناً" حينئذٍ على المصدرِ المؤكِّد لذلك الفعلِ المحذوفِ. وفيه نظرٌ من حيث إنَّ حَذْفَ عاملِ المؤكَّد منصوصٌ على عدمِ جوازِه، وفيه بَحْثٌ ليس هذا موضعَه. الثالث:/ أن يكونَ التقديرُ: واستوصُوا بالوالدَيْن فالباءُ تتعلَّقُ بهذا الفعل المقدِّرِ، وينتصبُ "إحساناً" حينئذٍ على أنه مفعولٌ به. الرابعُ: تقديرُه: ووصَّيْناهم بالوالدَيْنِ، فالباءُ متعلِّقةٌ بالمحذوفِ أيضاً، وينتصبُ "إحساناً" حينئذٍ على أنه مفعولٌ من أجلهِ، أي(1/357)
(1/357)
---
لأجل إحساننا إلى المُوصَى بهم من حيث إن الإحسانَ مُتَسَبِّبٌ عن وصيتِنا بهم أو الموصى لِما يترتَّبُ الثوابِ منَّا لهم إذا أَحْسَنوا إليهم. الخامس: أن تكونَ الباؤُ وما عضمِلَتْ فيه عطفاً على قولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ} إذا قيلَ بأنَّ "أَنْ" المصدريةَ مقدرةٌ، فينسِبُكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ يُعْطَفُ عليه هذا المجرورُ، والتقديرُ: أََخَذْنَا ميثاقَهم بإفرادِ الله بالعبادةِ وبالوالدَيْن، أي: وبِبِرِّ الوالدَيْن، أو بإحسانٍ إلى الوَالدَيْن، فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بالميثاقِ لِما فيه من معنى الفعلِ، فإن الظرفَ وشِبْهَهُ تعملُ فيه روائحُ الأفعالِ، وينتصبُ "إحساناً" حينئذٍ على المصدر من ذلك المضافِ المحذوفِ وهو البِرُّ لأنه لأنه بمعناه أو الإحسانُ الذي قَدَّرناه. والظاهرُ من هذه الأوجهِ إنما هو الثاني لِعَدَمِ الإضمارِ اللازم في غَيْره، ولأنَّ ورودَ المصدرِ نائباً عن فعلِ الأمر مطَّرد شائِعٌ، وإنَّما قٌدِّم المعمولُ اهتماماً به وتنبيهاً على أَنَّه اَوْلَى بالإحسان إليه مِمَّن ذُكِرًَ معه.
والوالدان: الأبُ والأمُ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد، قال:
569- ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ لَهُ أبٌ * وذي وَلَدْ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ
وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قِيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للمذكَّر. والإحسانُ: الإنعامُ على الغير، وقيل: بل هو أَعَمُّ من الإنعام، وقيل هو النافِعُ لكل شيء.
(1/358)
---(1/358)
قوله: {وَذِي الْقُرْبَى} وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ، وعلامةُ الجرِّ فيها الياءُ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون، وها إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها. عشرةُ مذاهبِ للنحْويين فيها، ليس هذا موضعَ ذِكْرِها، وهي من الأسماء اللازمةِ للإضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة باسمِ الجنسِ، نحو: مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله:
570- صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ * أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها
وأنشد الكسائي:
571- إنما يَعْرِفُ المَعْـ * ـروفَ في الناس ذَوُوه
وعلى هذا قولُهم: اللهم صلِّ على محمدٍ وذَويه، وإضافتُه إلى العَلَمِ قليلةٌ جداً، وهي على ضَرْبين: واجبةٌ وذلك إذا اقْتَرَنا وَضْعاً نحو: ذي يزن وذي رَعين، وجائزةٌ وذلك [إذا] لم يقترنا وَضْعاً نحو: ذي قَطَري وذي عمرو، أي: صاحبُ هذا الاسمِ، واقلُّ من ذلك إضافتُها إلى ضميرِ المخاطب كقوله:
572- وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ ما * رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك الأفاضلِ
وتَجيء "ذو" موصولةً بمعنى الذي وفروعِه، والمشهورُ حينئذٍ بناؤها وتذكيرها، ولها أحكامٌ كثيرة مذكورةٌ في كتب النحو.
و "القُرْبى" مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى، ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم، قال طَرَفة:
573- وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً * على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
وقال أيضاً:
574- وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدَّك إنه * متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادةُ تدل على الدُّنِّو ضد البُعْد.
(1/359)
---(1/359)
قوله: {وَالْيَتَامَى} وزنُه فُعالى، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم ونَدامى ولا يَنْقَاسُ هذا الجمعُ، واليُتْمُ: الانفراد، ومنه "اليَتيم" لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما، ودُرَّةٌ يتيمةٌ: إذا لم يكنْ لها نظيرٌ. وقيل: اليُتْم الإبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ. وقيل: هو التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه. قال الأصمعي: "اليُتْمُ في الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات". وقال الماوردي: "إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات" والأولُ هو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال: يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل: كرُم يكرُم وعَظُم يَعْظُم عُظْماً، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ: سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء، ويقال: أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به ذلك. وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ، وإن كانَتْ للتأنيثِ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة، وهل يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو: "يَعْمُرُكمْ" أو لا قيُسَمَّى منجرَّا نحو: بالأحمر، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير.
قوله: "وَالْمَسَاكِينِ" جمعُ مِسْكين، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد وجَمْعاً على صيغةِ مُنْتَهى الجموع، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عَلَّتين، وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ. وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه: هل هو بمعنى الفقيرِ او أسوأُ حالاً منه كقوله: {مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي لَصِق جِلْدُه بالتراب بخلافِ الفقير فإنَّ له شيئاً ما، قال:
575- أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه * وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ
(1/360)
---(1/360)
أو أكملُ حالاً لأنَّ اللهَ جَعَلَ لهم مِلْكاً ما، قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} خلافٌ مشهور بين العلماء من الفقهاءِ واللغويين.
قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه {لاَ تَعْبُدُونَ} في المعنى، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا الله واَحْسِنوا بالوالدين وقولُوان أو على "أَحْسِنوا" المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه: "وقلنا لهم قولوا. وقرئ: حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين، وحُسْنى من غير تنوين كحُبْلى، وإحساناً من البراعي.
فامَّا قراءة "حُسْناً" بالضم والإسكان فيَحْتمل أوجهاً، أحدُها وهو الظاهرُ: أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي: ذا حُسْن. الثاني: أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه القولُ نفسُه حَسَناً. الثالث: أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ، بل هو كالحُلْو والمُرّ، فيكون بمعنى "حَسَن" بفتحتين، فيكونُ فيه لغتان: حُسْن وحَسَن كالبُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والعَرَب. الرابع: أنه منصوبٌ على المصدرِ من المعنى، فإنَّ المعنى: وَلْيَحْسُن قولُكم حُسْناً.
وأمَّا قراؤةُ "حَسَناً" بفتحتين -وهي قراءةُ حمزة والكسائي- فصفةٌ لمحذوف، تقديرُه: قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه "حُسْناً".
وأمَّا "حُسُناً" بضمَّتين فضمةُ السينِ للإتباعِ للحاءِ فهو بمعنى "حُسْناً" بالسكون وفيه الأوجهُ المتقدمةُ.
(1/361)
---(1/361)
وأمَّا مَنْ [قَرَأَ] "حُسْنى" بغير تنوين، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى والرُّجْعى. وقال النحاس في هذه القراءةِ: "ولا يجوزُ هذا في العربية، لا يُقال من هذا شيءٌ إلا بالألفِ واللامِ نحو: الكُبْرى والفُضْلَى، هذا قول سيبويه، وتابعه ابنُ عطية على هذا، فإنه قال: "وردَّه سيبويه لأن أَفْعَل وفُعْلى لا يجيء إلا معرفةً، إلا أن يُزال عنها معنى التفضيل، ويَبْقى مصدراً كالعُقْبى فذلك جائزٌ وهو وجهُ القراءةِ بها. انته وقد ناقشهَ الشيخ، وقال: "في كلامِه ارتباكٌ لأنه قال: لأنَّ أفْعَل وفُعْلى لا يَجِيءُ إلا معرفةً، وهذا ليس بصحيح. أمَّا "أَفْعَل" فله ثلاثةُ استعمالاتٍ، أحدُها: أن يكونَ معه "مِنْ" ظاهرةً أو مقدرةً، أو مضافاً إلى نكرةٍ، ولا يَتَعرَّفُ في هذين بحالٍ. الثاني: أن يَدْخُلَ عليه أَلْ فيتعرفَ بها، الثالث: أن يُضَاف إلى معرفةٍ فيتعرَّفَ على الصحيح. وأمَّا "فُعْلى" فلها استعمالان، أحدُهما بالألفِ واللام، والثاني: الإضافةُ لمعرفةٍ وفيها الخلافٌُ السابقُ. وقولُه: "إلا أَنْ يُزال عنها معنى التفضيلِ ويبقى مصدراً" ظاهرُ هذا أنَّ اَفْعَل إذا زال عنها معنى التفضيلِ تَبْقى نصدراً وليس كذلك، بل إذا زَال عن فُعْلى أنثى أَفْعَل معنى التفضيلِ صارَتْ بمنزلةِ الصفةِ التي لا تفضيلَ فيها، ألا ترى إلى تأويلِهم كُبْرى بمعنى كبيرة، وصُغْرى بمعْنى صغيرة، وأيضاً فإنَّ فُعْلى مصدراً لا ينقاسُ، إنما جاءَتْ منها ألَيْفاظٌ كالعُقْبَى والبُشْرى". ثم أجابَ الشيخُ عن هذا الثاني بما معناه أنَّ الضميرَ في قولِه "عنها" عائدٌ إلى "حُسْنى" لا إلى فُعْلى أنثى أَفْعل، ويكون استثناءً منقطعاً كأنه قال: إلا أَنْ يُزال عن حُسْنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويَصير المعنى: إلا أَنْ يُعْتقد أنَّ "حُسْنى" مصدرٌ لا أنثى أَفْعَل، وقولُه: "وهو وجه القراءةِ على وجهين، أحدُهما: المصدرُ كالبشرى وفيه الأوجهُ المتقدمة في(1/362)
(1/362)
---
"حُسْناً" مصدراً إلا أنه يَحْتاج إل إثباتُ حُسْنى مصدراً من قولِ العرب: حَسُنَ حُسْنَى، كقولهم: رَجَع رُجْعى، إذ مجيء فُعْلى مصدراً لا يَنْقَاس. والوجهُ الثاني أن تكونَ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي: وقولوا للناس كبمةً حُسْنى أو مقالةً حُسْنى. وفي الوصف بها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للتفضيلِ، ويكونُ قد شَذَّ استعمالُها غيرَ معرَّفةٍ بال ولا مضافةٍ إلى معرفةِ كما شَذَّ قولٌه:
576- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ * يَوْماً سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا
وقولُه:
577- في سَعْي دُنْيا طالما قَدْ مُدَّتِ * ................................
والوجه الثاني: أن تكونَ لغيرِ التفضيل، بل بمعنى حَسَنة نحو كُبْرى في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناسِ مقالَةً حَسَنة، كما قالوا: "يوسفُ أَحْسَنُ إخوتِه" في معنى حَسَن إخوتِه" انتهى. وقد عُلِم بهذا فسادُ قولِ النحاس.
وأمَّا مَنْ قرأ "إحساناً" فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً، وفيه التأويلُ المشهورُ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ، كما تقولُ: "أَعْشَبَتِ الأرضُ" أي: صارت ذا عشبٍ. وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} تقدَّم نظيره.
(1/363)
---(1/363)
قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} قال الزمخشري: "على طريقةِ الالتفات" وهذا الذي قاله إنما يَجيءُ على قراءةِ "لا يَعْبدون" بالغيبة، وأمَّا على قراءةِ الخطابِ فلا التفاتَ البتةَ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد قيل بذلك، ويؤيِّده قولُه تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ} قيل: يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه السلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين. والمشهورُ نَصْبُ "قليلاً" على الاستثناء لأنه مِنْ/ موجب. ورُوِي عن أبي عمرو وغيره: "إلا قليلٌ" بالرفع. وفيه ستةُ اقوال، أصحُّها: أنَّ رفعه على الصفة بتأويل "إلا" وما بعدها بمعنى غَيْر. وقد عَقَد سيبويه -رحمه الله- في ذلك باباً في كتابه فقال: "هذا بابٌ ما يكونُ فيه "إلاَّ" وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل"، وذكر من أمصلة هذا الباب: لو كان معنا إلا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنا" و {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} و:
578- .......................... * قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
وسَوَّى بين هذا وبينَ قراءةِ: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} برفع :غير" وجَوَّز في نحو: "ما قامَ القومُ إلا زيدٌ" -بالرفع- البدلَ والصفةَ، وخَرَّج على ذلك قولَه:
579- وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه * لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ
كأنه قال: ولك أخٍ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، كما قال الشماخ:
580- وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه * لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ
وأنشدَ غيرُه:
581- لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه * أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ
وقولَه:
582- وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ * عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ
(1/364)
---(1/364)
والفرقُ بين الوصفِ بإلاَّ والوصفِ بغيرها أنَّ "إلا" تُوصف بها المعارفُ والنكراتُ والظاهرُ والمضمرُ، وقال بعضُهم: "لا توصَف بها إلا النكرةُ أو المعرَّفةُ بلام الجنس فإنه في قوة النكرة". وقال المبرد: "شَرْطُه صلاحيةُ البَدَلِ في موضعه"، ولهذا موضعٌ نتكلَّم فيه. الثاني: أنه عطفُ بيان. قال ابن عصفور: "إنما يعني النحويون بالوصفِ بإلا عطفَ البيان" وفيه نظرٌ. الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قال: امتنع قليل. الرابع: أن يكونَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ أي: إلا قليلٌ منكم لم يَتَوَلُّوا، كما قالوا: ما مررْتُ بأحدٍ إلا رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه. الخامس: أنه توكيدٌ للمضمرِ المرفوع، ذكرَ هذه الثلاثة الأوجهَ أبو البقاء. قال: "وسيبويه وأصحابُه يُسَمُّونه نعتاً ووَصْفاً" يعني التوكيد. وفي هذه الأوجه التي ذَكَرها ما لا يَخْفى ولكنها قد قِيلت. السادس: أنه بدلٌ من الضميرِ في "تَوَلَّيْتُم" قال ابن عطية: "وجاز ذلك مع انَّ الكلامَ لم يتقدَّمْ فيه نفيٌ، لأن "تَوَلَّيْتم" معناه النفيُ كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاقِ إلا قليلٌ" وهذا الذي ذكره مِنْ جوازِ البدل منعه النحويون، لا يُجيزون: "قام القَومُ إلا زيدٌ" على البدل، قالوا: لأنَّ البدل يَحُلُّ مَحَلَّ المبدَلِ منه فَيَؤُول إلى قولِك: قامَ إلا زيدٌ، وهو ممتنعٌ، وأمَّا قولُه: إنه في تأويل النفي" فما مِنْ موجَبٍ إلا يمكن فيه ذلك، ألا تَرى أنَّ قولَك: "قام القومُ إلا زيدٌ" في قوة "لم يَجْلِسُوا إلا زيدٌ" فكلُّ موجَبٍ إذا أخَذْتَ نَفْيَ نقيضِه أو ضدِّه كانَ كذلك، ولم تعتبر العربُ في كلامِها، وإنما أجاز النحويون "قام القومُ إلا زيدٌ" بالرفع على الصفة كما تقدَّم تقريرُه.
(1/365)
---(1/365)
و "منكم" صفةٌ لقليلاً، فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين. والظاهرُ أن القليلَ مرادق بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله "منكم". وقال ابن عطية: "ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإيمان، أي: لم يَبْقَ حينَ عَصًوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم، والأولُ أقوى" انتهى. وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ.
قوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "تَوَلَّيْتُم". وفيها قولان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإعراضَ بالقلبِ، قاله أبو البقاء: وقال بعدَه: "وقيل: تَوَلَّيتم يعني آباءهم، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم، كما قال: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} أي: آباءَهم" انتهى. وهذا يُؤَدِّي إلى [أنّ] جُمْلَةَ قوله {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} لا تكون حالاً، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم. وكذلك تكون مبيَّنةً إذا اختَلَفَ متعلِّقُ التولِّي والإعراضِ كما قال بعضُهم: ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: التولِّي والإعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك انه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً بـ "أنتم" لأنه آكد. وجيء بخبر المبتدأ اسماً لأنه أجلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل: وأنتم عادَتثكم التولِّي عن الحقِّ والإعراضُ عنه.
* { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }
(1/366)
---(1/366)
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ}: كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ: لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ
}. قوله: {مِّن دِيَارِكُمْ} متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ. ودِيار جمع دَار والأصل: دَوَر، لأنها من دّار يدُور دَوَراناً، وأصلُ دِيار: دِوار، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها، واعتلالِها في الواحدِ. وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيح اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ: دار ودِيار وثِياب، ولذلك صَحًّ "رِواء" لاعتلال لامه، و "طِوال" لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ، فأمَّا "طِيال" في طِوال فشاذٌّ. وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو: قامَ قياماً وصامَ صِياماً، ولذلك صَحَّ "لِواذ" لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم: لاوَذ، وأمَّا "دَيَّار" فهو من لفظة الدَّار، وأصلُه دَيْوار، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه: فَيْعال لا فَعَّال، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل: دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام. والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية. وقال الخليل: "كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنيةً".
وقرئ: "تَسْفُكُون" بضم الفاء، و "تُسَفِّكون" من سَفَّك مضعفاً، "وتُسْفِكون" مكن أَسْفك الرباعي.
وقوله: {دِمَآءَكُمْ} يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه، أحدها: إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبِّب، أي: إذا سَفَكْتُمْ دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم، وهو قريبٌ/ من قولهم: :القتلُ أنفى للقتل". قال:
583- سَقَيْنَاهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها * ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا
وقيل: "المعنى: لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض" واختاره الزمخشري. وقيل: "المعنى: لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض" واختاره الزمخشري. وقيل: "لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه".(1/367)
(1/367)
---
قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} قال أبو البقاء: "فيه وجهان، أحدُهما أنَّ "ثُمَّ" على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي. والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه: فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم. والثاني: أن تكونَ "ثُمَّ" جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ
}. قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} كقوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ}.
* { ثُمَّ أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
(1/368)
---(1/368)
قوله تعالى: {أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ تَقْتُلُونَ}: فيه سبعة أقوال، أحدها: وهو الظاهرُ أنَّ "أنتم" في محلِّ رفع بالابتداء، و "هؤلاء"خبرُه. و "تَقْتُلون" حالٌ العاملُ فيها اسمُ الإشارةِ لِما فيه من معنى الفِعْل، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في غيرِ هذا [المكانِ] وقد قالتِ العربُ: "ها أنت ذا قائماً"، و "ها أنا ذا قائماً"، و "ها هو ذا قائماً"، فأخبروا باسمِ الإشارةِ عن الضميرِ في اللفظِ، والمعنى على الإخبارِ بالحال، فكأنه قال: أنت الحاضرُ وأنا الحاضرُ وهو الحاضرُ في هذه الحالِ. ويَدُلُّ على أنَّ الجملةَ من قوله "تَقْتُلون" حالٌ وقوعُ الحالِ الصريحةِ موقعَها، كما تقدَّم في: ها أنا ذا قائماً ونحوِه، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال: "ثم أنتم هؤلاء" استبعادٌ لِما أُسْنِد إليهم من القَتْل والإجلاءِ بعد أَخْذِ الميثاق منهم، وإقرارِهم وشهادتهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون"، يعني أنكم قومٌ آخرون غيرُ أولئك المُقِرِّين، تنزيلاً لتغيُّر الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ، كما تقول: رَجَعْتُ بغير الوجه الذي خَرَجْتُ به. وقوله: "تَقْتُلون" بيانٌ لقوله: ثم أنتم هؤلاء بقوله: "أنتم هؤلاء" المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أنَّ التقديرَ الذي قدَّره الزمخشري مِنْ تقديرِ تغيُّرِ الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ لا يتأتَّى في نحو: ها أنا ذا قائماً، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المخاطَبُ هو المُشارُ إليه مِنْ غيرِ تغيُّرٍ" ولم يتضحْ لي صحةُ الإيرادِ عليه وما أبعدَه عنه.
الثاني: أن "أنتم" أيضاً مبتدأٌ، و "هؤلاء" خبرُه، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه: ثم أنتم مثلُ هؤلاء، و "تقتلونَ" حالٌ أيضاً، العاملُ فيها معنى التشبيه، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإشارةُ إلى غائبين، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ.(1/369)
(1/369)
---
الثالث: وَنَقَله ابنُ عطية عن شيخِه ابن الباذش أن "أنتم" خبرٌ مقدمٌ، و "هؤلاء" مبتدأٌ مؤخرٌ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ، وإنْ وَرَد [منه] ما يُوهِم فمتأوَّلٌ.
الرابع: أنَّ "أنتم" مبتدأٌ، و "هؤلاء" منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ، و "تقتلون" خبرُ المبتدأ، وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه. وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا:
584- إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ * هذا اعتصِم تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا
أي: يا هذا، وهذا لا يَجُوز عند البصريين، ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:
585- هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا * ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا
وفي البيتِ كلامٌ طويل.
الخامس: أنَّ "هؤلاء" موصولٌ بمعنى الذي. و "تَقْتُلون" صلتُه، وهو خبرٌ عن "أنتم" أي: أنتم الذين تقتلونَ. وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين، وإنما قالَ بع الكوفيون، وأنشدوا:
586- عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ * أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
أي: والذي تحملينَ، ومثلُه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} أي: وما التي؟.
السادسُ: أن "هؤلاء" منصوبٌ على الاختصاصِ، بإضمارِ "أعني" و "أنتم" مبتدأٌ، وتقتلونَ خبرُه، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ، وإليه ذهب ابن كيسان. وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكونُ بالنكراتِ ولا أسماءِ الإشارةِ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ: إمَّا "أيُّ" نحو: "اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ"، أو معرَّفٌ بأل [نحو]: نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ، أو بالإضافةِ نحو: "نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ" وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه:
587- بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ
(1/370)
---(1/370)
وأكثرُ ما يجيء بعد ضمير متكلِّم كما تقدَّم، وقد يَجيء بعدَ ضميرٍ مخاطَبٍ، كقولِهم "بكَ اللهَ نرجو الفضلَ" وهذا تحريرُ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ.
السابع: أن يكونَ {أَنْتُمْ هَاؤُلااءِ} [على] ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً، والجملةُ من "تقتلون" مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله: {هاأَنْتُمْ هَؤُلااءِ حَاجَجْتُمْ} ولم يَذْكُرَه هنا، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى.
قوله: {تَظَاهَرُونَ} هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل {تُخْرِجُونَ} وفيها خمسُ قراءات: "تظَّاهرون" بتشديد الظاء، والأصل: تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء، و "تَظَاهرون" مخفِّفاً، والأصل كما تقدَّم، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف. وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلَى لحصول الثقل بها ولعَدَم دَلالِتها على معنى المضارعة أو الأُولى كما زعم هشام؟ قال الشاعر:
588- تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ * فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ
أراد: تتعاطَسون فحذَف. و "تَظَهَّرُون" بتشديد الظاء والهاء، و "تُظَاهِرون" من تَظَاهَرَ. و "تَتَظاهَرون" على الأصل مِنْ غيرِ حذفٍ ولا إدغامٍ، وكلُّهم يَرْجِعُ إلى معنى المُعاوَنة والتناصُرِ من المُظاهَرة، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُسْنِدُ ظهرَه للآخر ليتقوَّى به فيكونَ له كالظهر، قال:
589- تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ * على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ
(1/371)
---(1/371)
والإثْمُ في الأصل: الذَّنْبُ وجمعُه آثام، ويُطْلَقُ على الفعلِ الذي يَسْتَحِقُّ به صاحبه الذمِّ واللومَ. وقيل هو: ما تَنْفِرُ منه النفسُ ولا يَطْمئنُّ إليه القلبُ، فالإثمُ في الآية يَحْتَمِل أن يكونَ مراداً به ما ذَكَرْتُ من هذه المعاني. ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الإثمَ إثامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيِّب كقول الشاعر:
590- شَرِبْتُ الإثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي * كذاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ
فَعَبَّر عن الخمرِ بالإثمِ لمَّا كان مُسَبِّباً عنها.
والعُدوانُ: التجاوُزُ في الظلمِ، وقد تقدَّم في {يَعْتَدُونَ} وهو مصدرٌ كالكُفْران والغُفْران، والمشهورُ ضَمُّ فائِه، ضَمُّ فائِه، وفيه لغةٌ بالكسرِ.
قوله: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ، و "أُسارى" حالٌ من الفاعل في "يأتوكم". وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة "أُسارى"، وقرأ هو أَسْرَى، وقُرئ "أَسارى" لفتح الهمزة. فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه، أحدُها: أنه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَها مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف، فقالوا: أَسير وأُسارى [بصم الهمزة] كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْان وسُكارى، كما أنه قد ضُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعَا جَمْعَه الأصليِّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا: كَسْلان وكَسْلى، وسَكْران وسَكْرى كقولهم: أَسير وأَسْرى. قال سيبويه: "فقالوا في جمع كَسْلان كَسْلَى شبَّهوه بأَسْرى كما قالوا أُسارى بكُسالى"، ووجهُ الشبه أن الأَسْر يَدْخُل على المَرْءِ كَرْهاً، كما يَدْخُل الكسل، قال بعضهم: "والدليلُ على اعتبارِ هذا المعنى أنَّهم جَمَعوا مريضاً ومَيِّتاً وهالِكاً على فَعْلَى فقالوا: مَرْضَى ومَوْتَى وهَلْكَى لَمَّا جَمَعَها المعنى الذي في جَرْحَى وقَتْلَى".
(1/372)
---(1/372)
الثاني: أن أُسارى جمعُ أَسير، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا: شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه.
الثالث: أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى [كما ضُمَّتْ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى] وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو: عَطْشَان وعَطَاشى.
الرابع: أنه جَمْعُ أَسْرى الذي [هو] جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ.
وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو: جَريح وجَرْحَى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى.
وأما "أَسارَى" بالفتح فلغةٌ ليست بالشاذة، وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم [عند بعضهم]، ولم يَعْرف أهلُ اللغة فَرْقاً بين أُسارى وأَسْرى إلا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: "ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى. ونَقَلَ عنه بعضُهم الفرقَ بمعنى آخر فقال: "ما جاء مُسْتأسِرا فهم الأَسْرى، وما صار في أيديهم فهم الأُسارى، وحكى النقاش عن ثعلب أنَّه لما سَمع هذا الفرقَ قال: "هذا كلامُ المجانين"، وهي جرأةٌ منه على أبي عمرو، وحُكي عن المبردِ أنه يُقال: "أَسير وأُسَراء كشهيد وشُهداء".
والأسيرُ مشتق من الإسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط [به المَحَمَلُ، فسُّمي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط]. والأسْر: الخَلْق في قوله تعالى {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم، والأُسْرُ احتباسُ البولِ، رجلٌ مَأْسورٌ [أذا] أصابَه ذلك: وقالت العرب: "أَسَرَ قَتَبه" أي: شَدَّه. قال الأعشى:
591- وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه * كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا
يريد أنه بَلَغ في الشعر النهايةَ حتى صارَ له كالبيتِ لا يَبْرَح عنه.
(1/373)
---(1/373)
قوله: {تُفَادُوهُمْ} قرأ نافع وعاصم والكسائي: "تُفَادُوهم"، وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو: عاقَبْت وسافَرْت، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، ثم اختلف الناسُ في ذلك الفرقِ ما هو.؟ فقيل: مَعْنَى فَداه أَعْطى فيه فِداءٍ من مالٍ وفاداه أعطى فيه أسيراً مثلَه وأنشد:
592- ولكنَّني فادَيْت أمِّي بعدما * عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما * لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ
وهذا القول يَرُدُّه قولُ العباس رضي الله عنه: "فادَيْت نفسي وفادَيْتَ عَقيلا" ومعلومٌ أنه لم يُعْطِ أسيرَه في مقابلة نفسِه ولا وَلَدِه، وقيل: "تَفْدُوهم بالصلح وتُفادُوهم بالعِتْقِ". وقيل: "تَفْدُوهم تُعْطوا" فِدْيَتَهم، وتُفادوهم تَطْلبون من أعدائِكم فِدْيةَ الأسيرِ الذي في أيديكم، ومنه قول الشاعر:
593- قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي * وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا
والظاهرُ أن "تُفادهم" على أصله من اثنين، وذلك ان الأسيرَ يعطي المالَ والآسِرَ يعطي الإطلاقَ، وتَفْدُوهم على بابِه من غيرِ مشاركةٍ، وذلك أنَّ أَحدَ الفريقين يَفْدي صاحبه من الآخر بمالٍ أو غيره، فالفعلُ على الحقيفة من واحدٍ، والفداءُ ما يُفْتَدَى به، وإذا كُسِر أولُه جازَ فيه وجاهن: المَدُّ والقَصْرُ فمِن المدِّ قولُ النابغة:
594- مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ * وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
ومن القَصْرِ قولُه:
595- ................................. * فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي
(1/374)
---(1/374)
وإذا فُتِحَ فالقصرُ فقط، ومن العربِ مَنْ يكسِر "فِدى" مع لام الجر خاصةً، نحو: فِدَىً لكَ أبي وأمي يريدون الدعاءَ له بذلك، وفَدى وفَادى يتعدَّيان لاثنينِ أحدثهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ جر تقول: فَدَيْتُ أو فادَيْتُ الأسير بمال، وهو محذوفٌ في الآية الكريمة. قال ابن عطية: "وحَسُنَ لفظ الإتيانِ من حيثُ هو في مقابلةِ الإخراج فيظهرُ التضادُّ المُقْبِحُ لفِعْلِهم في الإخراج" يعني أنه لا يناسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إليه بالإخراجِ مِنْ دارِه أَنْ تُحْسِنًُوا إليه بالفِداء.
قوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} هذا موضعٌ يَحْتَاجُ لفضلِ نَظَرٍ، والظاهرُ من الوجوهِ المنقولةِ فيه أن يكونَ "هو" ضميرَ الشأنِ والقصةِ فيكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "مُحَرَّمٌ" خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، و "إخراجُهم" مبتدأ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه. وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه، وقد تقدَّمَتْ وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسِّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير، ومنْ شَرْطِه تقدَّمَتْ، وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسِّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير، ومِنْ شَرْطِه أن يُؤْتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط، وأن يُفَسِّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزئيها، ولا يُتْبَعَ بتابعٍ من التوابعِ الخمسةِ، ويجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه مطلقاً خلافاً لمَنْ فصَّل: فتذكيرُه باعتبارِ الأمر والشأن، وتأنيثُه باعتبار القصةِ فتقولُ: هي زيدٌ قائمٌ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُحْذَفُ إلا في مواضع تُذْكر إنْ شاء الله تعالى. والكوفيون يُسَمُّونه ضميرَ المَجْهول وله أحكامٌ كثيرةٌ.
(1/375)
---(1/375)
الوجهُ الثاني: أن يكونَ "هو" ضميرَ الشأنِ أيضاً، و "مُحَرَّمٌ" خبرُه، [و "إخراجُهم" مرفوعٌ] على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه. وهذا مذهبُ الكوفيين وتابَعهم المهدوي، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول، لأنَّ عندهم [أنَّ الخبرَ المحتمَّل ضميراً] مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال: "قائمٌ زيدٌ" على أن يكونَ "قائمٌ" خبراً مقدِّماً، وهذا عند البصريين [ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ] الشأنِ لا يُفَسِّر إلا بجملةٍ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ.
الثالث: أن يكونَ "هو" كنايةً عن الإخراجِ، وهو مبتدـ، و "مُحَرَّمٌ" خبرُه، و "إخراجُهم" بدلٌ منه، وهذا على أحدِ القولين وهو [جوازُ إبدالِ الظاهرِ من] المضمرِ قبله ليفسِّرَه، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله:
596- على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً * على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
فحاتمٌ بدلٌ من الضميرِ في "جودِه".
الرابع: أن يكونَ "هو" ضميرَ الإخراجِ المدلولَ عليه بقوله "وتُخْرِجُون"، و "مُحَرَّمٌ" خبره و "إخراجُهم" بدلٌ من المضيرِ المستترِ في "مُحَرَّمٌ".
الخامس: كذلك، إلاَّ أنَّ "إخراجُهم" بدلٌ من "هو". نقل هذينِ الوجهين أوب البقاء. وفي هذا الأخيرِ نظرٌ، وذلك أنَّك إذا جَعَلْتَ "هو" ضمير الإخراج المدلولِ عليه بالفعل كانَ الضميرُ مفسِّراُ به نحو: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ} فإذا أَبْدَلْتَ منه "إخراجهم" الملفوظَ به كانَ مفسِّراً به أيضاً، فيلزِمُ تفسيرُه بشيئين، إلا أَنْ يقالَ: هذان الشيءان في الحقيقة شيءٌ واحدٌ فيُحتملَ ذلك.
(1/376)
---(1/376)
السادس: أجاز الكوفيون أن يكونَ "هو" عماداً - وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل - قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم، والأصلُ: وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم، فإخراجُهم مبتدأ، ومُحَرَّمٌ خبره، وهو عِمادٌ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه. قال الفراء: "لأن الواوَ هنا تَطْلُبُ الاسمَ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جاشزٌ" وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجيهن: أحدُهما: أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ، ومثلٍ وأخواتها. والثاني: أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به. ولهذه الأقوالِ مواضعُ يُبْحث فيها عنها.
السابع: قال ابن عطية: "وقيل في "هو" إنه ضميرُ الأمرِ، والتقديرُ: والأمرُ مُحَرَّم عليكُم، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من "هو" انتهى. قال الشيخ: "وهذا خطأٌ من وجهين، أحدُهما: تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك لا يُجيزه بَصْريٌّ ولا كوفيٌّ، أمّا البصريُّ فلاشتراطه جملةً، وأمَّا الكوفيُّ فلا بد أن يكونَ المفردُ قد انتظمَ منه ومِمَّا بعده مُسْنَدٌ إليه في المعنى نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدان. والثاني: أنه جَعَلَ "إخراجُهم" بدلاً من ضميرِ الأمر، وقد تقدَّم أنه لا يُتْبَعُ بتابعٍ.
الثامن: قال ابنُ عطية أيضاً: "وقيل "هو" فاصلةٌ، وهذا مذهبٌ الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و "مُحَرَّم" على هذا ابتداءٌ، و "إخراجُهم" خبرٌ". قال الشيخ: "والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإعرابُ، أي: يكونُ "إخراجُهم" مبتدأ مؤخراً، و "مُحَرَّم" خبرٌ مقدمٌ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ، وهو الموافِقُ للقواعدِ، وألاَّ يَلزَم منه الإخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك.
(1/377)
---(1/377)
التاسع: نَقَلَه ابنُ عطية أيضاً عن بعضِهم أن "هو" الضميرَ المقدَّرَ في "مُحَرَّم" قُدِّمَ وأُظْهِرَ، قال الشيخ: "وهذا ضعيفٌ جداً، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ، إذ على هذا القولِ يكونُ "مُحَرَّم" خبراً مقدِّماً و "إخراجُهم" مبتدأ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً" وفي قول الشيخ: "يَلْزَمُ خُلُوِّه من ضميرٍ" نظرٌ، إذ هو ضميرٌ مرفوعٌ به فلم يَخْلُ منه، غايةُ ما فيه أنه/ انفصلَ للتقديم، وقوله: "لا ندري ما أعرابهُ" قد دَرَى، وهو الرفعُ بالفاعليةِ. قوله: "والافعلُ لا يُقَدِّم" ممنوعٌ فإنَّ الكوفيَّ يُجيزُ تقديمَ الفاعلِ، فيحُتمل أن يكونَ هذا القائلُ يَرى ذلك، ولا شك أنَّ هذا قولٌ رديءٌ مُنْكَرٌ لا ينبغي أن يجوزَ مثلُه في الكلامِ، فكيف في القرآن!! فالشيخُ معذورٌ، وعَجِبْتُ من القاضي أبي محمد كيف يُورد هذه الأشياءَ حاكياً لها، ولم يُعَقِّبْها بنكيرٍ.
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ، وهي قولُه: "تَقْتُلون أنفسَكم، وتُخْرِجون، وتَظاهرون، وتُفادون، فيكونُ التقدير: تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها، وكذلك مع البواقي. ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ، فالإخراجُ من الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار.
(1/378)
---(1/378)
والمُحَرَّمُ: الممنوعً، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا. والحَرامُ: الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ: حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء.
قوله: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ}: "ما" يجوز فيها وجهان، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و "جزاء" مبتدأ، و "إلاَّ خَزْيٌ" "خبرُه" وهو استثناءٌ مفرغٌ، وبَطَلَ عَمَبُ "ما" عند الحجازيين لانتقاضِ النفي بـ إلاَّ، وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد "إلاَّ": جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزِّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ، ويتأوَّلون قوله:
597- وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه * وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا
على أنَّ الناصبَ لمَنْجَنوناً ومُعَذَّباً محذوفٌ، أي: يدورُ دَوَرَانَ مَنْجَنونٍ، ويُعَذَّبُ مُعَذَّباً تَعْذيباً. وأجاز يونس النصبَ مطلقاً، وإن كان النحاسُ نَقَلَ عدمَ الخلافِ في رفع "ما زيدٌ إلا أخوك"، فإن كان الثاني مُنَزِّلاً منزلةَ الأولِ نحو: "ما أنت إلا عِمامَتك تحسيناً وإلاَّ رِداءَك ترتيباً" فأجاز الكوفيون نصبَه، وإن كان صفةً نحو: ما زيدٌ إلا قائمٌ فأجاز الفراء نصبَه أيضاً. والثاني أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء، و "جزاء" خبرُه، و {إِلاَّ خِزْيٌ} بدلٌ من "جَزَآءُ"، نقله أبو البقاء و "مَنْ" موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، و "يفعلُ" لا محلَّ لها على الأول، ومحلُّها الجَرُّ على الثاني.
قوله: :منكم" في محلَّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ "يفعل" فيتعلَّقُ بمحذوف أي: يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم.
قوله: {فِي الْحَيَاةِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ "خزي"، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: خِزْيٌ كائنٌ في الحياة، والثاني: أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً.
(1/379)
---(1/379)
والجَزاءُ: المقابَلَةُ، خيراً كان او شراً، والخِزْيُ: الهَوانُ، يُقال: خَزِيَ بالكسر يَخْزَى خِزْياً فهو خَزْيانُ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا، وقال ابن السكيت: "الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا". والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ، وهو القُرْب، وألِفُها للتأنيثِ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله:
598- يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ * في سَعْي دُنْيَا طالما قد مُدَّتِ
وياؤُها عن واو، وهذه قاعدةٌ نطَّردةٌ، وهي كلُّ فُعْلَى صفةً لامُها واوٌ تُبْدَلُ ياءَ نحو: العُلْيَا والدُّنْيا، فأمَّا قولُهم: القُصْوى عند غير تميم، والحُلْوى عند الجميع فشاذ، فلو كانت فُعْلى اسماً صَحَّتِ الواو كقوله:
599- أداراً بحُزْوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً *فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وقد استُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ، فلم يُذْكَرْ موصوفُها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وقال ابنُ السراج في "المقصور والممدود": "والدُّمْيا مؤنثةٌ مقصورةٌ، تُكْتَبُ بالألفِ، هذه لغةُ نجدٍ وتميمٍ، إلا أنَّ الحجازِ وبني أسد يُلْحِقُونها ونظائرهَا بالمصادرِ ذوات الواو فيقولون: دَنْوَى مثلَ شَرْوَى، وكذلك يَفْعَلون بكلِ فُعْلى موضعُ لامِها واوٌ يفتحونَ أوَّلها ويَقْلِبُون ياءَها واواً، وأمَّا أهلُ اللغةِ الأولى فَيَضُمُّون الدالَ ويَقْلِبُون الواءَ ياءً لاستثقالِهم الواوَ مع الضمةِ.
(1/380)
---(1/380)
وقُرئ: "يُرَدُّون" بالغَيْبَةِ على المشهورِ. وفيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله: "أفتؤمنون" فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، والثاني: أنَّه لا التفاتَ فيه، بل هو راجعٌ إلى قولِه: "أفتؤمنون"، وقرأ الحسن "تُرَدُّون" بالخطابِ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان، فالالتفاتُ نظراً لقولِه: "مَن يفعَل" وعدمُ الالتفات نظراً لقوله: "أفتؤمنون".
وكذلك {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قُرِئَ في المشهورِ بالغَيْبَةِ والخطابِ، والكلامُ فيهما كما تقدَّم.
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
(1/381)
---(1/381)
وتقدَّم نظائرُ {أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ}.. وما بعدَه. إلا أنَّ بعضَ المُعْرِبين ذَكَر وجوهاً مردودةً لا بدَّ من التنبيهِ عليها، فأجاز أن يكونَ "أولئك" مبتدأ، و {الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ} خبرَه، و {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} خبراً ثانياً لأولئك، قال: "ودخَلَتْ الفاءُ في الخبر لأجلِ الموصولِ المُشْبِهِ للشرطِ وهذا خطأٌ، فإن قوله: {فَلاَ يُخَفَّفُ} لم يَجْعَلْهُ خبراً للموصول حتى تَدْخُلَ الفاءُ في خبره، وإنما جَعَلَه خبراً عن "أولئك" وأينَ هذا مِنْ ذاك؟ وأجاز أيضاً أن يكونَ "الذين" مبتدأ ثانياً، و {فَلاَ يُخَفَّفُ} خبرَهُ، دخَلْت لكونِه خبراً للموصولِ، والجملةُ خبراً عن "أولئك" قال: "ولم يُحْتَجْ هنا إلى عائدٍ لأنَّ "الذين" هم "أولئك" كما تقولُ: "هذا زيدٌ منطلقٌ"، وهذا أيضاً خَطَأٌ لثلاثةِ اوجهٍ أحدُها: خُلُوُّ الجملةِ مِن رابطٍ /، قوله: "لأن الذين هم أولئك" لا يفيدُ لأنَّ الجملةَ المستغنِيَةَ لا بُدَّ وأنْ تكونَ نفسَ المبتدأ، وأمَّا تنظيرُه بـ "هذا زيدٌ منطلقٌ" فليس بصحيحٍ، فإنَّ "هذا" مبتدأٌ، و "زيدٌ" خبرٌ، و "منطلقٌ" خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ "زيدٌ" مبتدأً ثانياً، و "منطلقٌ" خبرَه والجملةُ خبرٌ عن الأول للخلوِّ من الرابط. الثاني: أن الموصولَ هنا لقومٍ معيَّنين وليس عاماً، ومعنىً، فلم يُشْبِه الشرط فلا تَدْخُلُ الفاءُ في خبره. الثالث: أن صلته ماضيةٌ لفظاً ومعنىً، فلم تُشْبِهْ فعلَ الشرطِ في الاستقبال فلا يجوزُ دخولُ الفاءِ في الخبرِ. فتعيَّن أن يكون "أولئك" مبتدأً والموصولُ بصلتِه خبرَه، و {فَلاَ يُخَفَّفُ} معطوفٌ على الصلةِ، ولا يَضُرُّ تخالُفُ الفِعْلَيْنِ في الزمانِ، فإنَّ الصلاتِ من قَبيل الجملِ، وعَطْفٌ الجملِ لا يُشْتَرَطُ فيه اتحادُ الزمانِ، يجوزُ أن تقولَ: "جاء الذي قَتَلَ زيداً أمسٍ وسيقتُل عمراً غداً" وإنما الذي يُشْتَرَطُ فيه ذلك حيث كانت(1/382)
(1/382)
---
الأفعالُ مُنَزَّلَةً منزلةَ المفرداتِ.
قوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يجوز في "هم" وجهانِ/ أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وما بعده خبرُه، ويكون قد عَطَفَ جملةً اسميةً على جملةٍ فعليةٍ وهي: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}. والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرهُ هذا الظاهرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، ويكونُ كقولِه:
600- وإنْ هُو لم يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَها * فليسَ إلى حًسْنِ الثَّناءِ سَبيلُ
وله مُرَجَّحٌ على الأولِ وذلك أنَّه يكونُ قد عَطَفْتَ جملةً فعليةً على على مثلِها، وهو من المواضعِ المرجَّحِ فيها الحَمْلُ على الفعلِ في بابِ الاشتغالِ. وليس المرجَّحُ كونَه تقدَّمه لا النافية، فإنَّها ليسَتْ من الأدواتِ المختصَّةِ بالفِعْلِ ولا الأوْلَى به، خلافاً لابن السَّيدِ حيث زَعَمَ أنَّ "لا" النافيةَ من المرجِّحاتِ لإضمارِ الفعل، وهو قولٌ مرغوبٌ عنه، ولكنه قَويٌ من حيث البحث. فقوله: "يُنصَرُونَ" لا محلَّ له على هذا لأنه مفسِّرٌ، ومحلُّه الرفعُ على الأولِ لوقوعه موقعَ الخبرِ.
* { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }
(1/383)
---(1/383)
قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}.. التضعيفُ في "قَفَّيْنا" ليس للتعديةِ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ، نحو: قَفَوْت زيداً، ولكنه ضُمِّن معنى "جِئْنا" كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرسلِ. فإنْ قيل: يجوةزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني "بالرسل" والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}.
فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن يُبْعِدُ هذا التقديرَ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى.
وقَفَّينا أصله: قَفَّوْنا، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً، واستقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه، ثم اتَّسع فيه، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع، وقال أمية:
601- قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ * وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ
والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه قافيةُ الشِّعْر، لأنها تَتلُو بناءِ الكلام وآخرَه، ومعنى قَفَّيْنا أي: أَتْبَعْنا كقولِه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى
}. و {مِن بَعْدِهِ} متعلِّقٌ به، وكذلك "بالرُسل"، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غيرُ مقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن، والضمُّ لغةُ تميم، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى "نا" أو "كم" أو "هم" فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ.
(1/384)
---(1/384)
قوله: "عيسى" عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضعن فقال سيبويه: :وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى" يَعْني بالياءِ الألفَ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ. وقال الفارسي: "أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرة". وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي: "وزنه فِعْلَل" فالألفُ عنده أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل. ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ، فمَنْ قال إنَّ "عِيسى" مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرَةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ. وقال الزمخشري: "وقيل: عيسى بالسُّريانية: أَيْسوع".
قوله: "ابنَ مريم" عطفُ بيان أو بدلٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ "ابن مريم" جرى مَجْرَى العلم له. وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى، وتقدَّم اشتقاقُ "ابن" وأصلُه.
ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم يَنْصرِفْ، وغي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِر مخالطَة الرجال كالزِّير من ارجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ، قال رؤبة:
602- قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ * ......................................
(1/385)
---(1/385)
وياءُ "الزير" عن واو لأنه من زار يَزُور فَقُلِبَتِ للكسرة قبلَها كالرِّيح، فصار لفظُ مريم مشتركاً بين اللسانينِ، ووزنُه عند النحويين مَفْعَل لا فَعْيَل، قال الزمخشري: "لأن فَعْيَلاً بفتح الفاء لم يَثْبُتْ في الأبينة كما ثَبَتَ في نحو: عِثْبَر وعِلْيَب" وقد أثبت بعضهم فَعْيَلاً وجَعَلَ منه نحو: "ضَمْيَد" اسمَ مكان و "مَدْيَن" على القولِ بأصالة ميمهِ و "ضَهْيَا" بالقصر وهي المرأة التي لا تَحِيضُ، أو لا ثَدْيَ لها، لأنها مشتقةٌ من ضاهَأَتْ أي شابَهَتْ، لأنها شابَهَتْ الرجال في ذلك، ويجوزُ مَدُّها قاله الزجاج. وقال ابن جني: "وأما ضَمْيدَ وعَثْيَر فمصنوعان" فلا دَلالة فيهما على ثبوت فَعْيَل، وصحةُ الياء في مريم على خلافِ القياس، إذ كان من حقِّها الإعلالُ بنَقْلِ حركةِ الياء إلى لاراءِ ثم قَلْبِ الياءِ ألفاً نحو: مَباع من البَيْع، ولكنه شَذَّ مَزْيَد ومَدْيَن، وقال أبو لابقاء: "ومَرْيَم عَلَمٌ أعجمي ولو كان مشتقاً من رامَ يريم لكان مَرِيماً بسكونِ الياء، وقد جاءَ في الأعلامِ بفتح الياء نحوَ مَزْيَد وهو على خلافِ القياس".
(1/386)
---(1/386)
قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ} معطوفٌ على قوله: "{وَآتَيْنَا عِيسَى}. وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه عل فَعَّلْناه، وقرأ مجاهد وابن محيصن - ويروي عن أبي عمرو - "آيَدْنَاه" على: أَفْعَلْناه، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو: أَأْمَنَ وبابِه، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في "أَغْيَلَت" و "أَغْيَمَت"، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فَعْل التعجب نحو: ما أَبْيَنَ وأَطْوَل. وحُكي عن أبي زيد أن تصيحَ "أَغْيَلَت" مقيسٌ. فإنْ قيل: لِم لا أُعِلَّ آيَدْناه كما أُعِلَّ نحو: أَبَعْنَاه حتى لا يَلْزَم حَمْلُه على الشاذ؟ فالجواب أنه لو أُعِلَّ بأنْ أُلْقِيَتْ حركةُ العينِ على الفاءِ فيلتقي ساكنانِ العينُ واللامُ فتُحْذَفُ العَيْنُ لالتقاء الساكنين، فتجتمعُ همزتان مفتوحتان فيجبُ قَلْبُ الثانيةِ واواً نحو "أَوادِم" فتتحرَّكُ الواوُ بعدَ فتحةٍ فتقلبُ أَلفاً فيصيرُ اللفظُ: أَادْناه، لأدَّى ذلك إلى إعلالِ الفاءِ والعينِ، فلمَّا كانَ إعلالُه يؤدَّي إلى ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأَقَمْنَاه، فإنه ليسَ فيه إلا إعلالُ العينِ فقط. قال أبو البقاء: "فإنْ قلتَ: فَلِمَ لَمْ تُحْذَفِ الياءُ التي هي عينٌ كما حُذِفَتْ من نحو: أَسَلْناه منْ سالَ يَسالُ؟ قيل: لو فَعَلوا ذلك لتوالى إعلالان: أحدُهما قَلْبُ الهمزةِ الثانيةِ ألفاً ثم حَذْفُ الألفِ المبدلةِ من الياءِ لسكونِها وسكونِ الألفِ قبلَها، فكان يصيرُ اللفظُ آدْناه فكانَتْ تُحْذَفُ الفاءُ والعينُ وليس "أسلناه" كذلك، لأنَّ هناك حَذْفَ العينِ وحدَها. وقال الزمخشري في المائدة: "آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك" وقال ابن عطية: "على فاعَلْتُك" ثم قال: "ويَظْهَرُ الأصلَ في القراءتين: أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإعلالُ". انتهى.
(1/387)
---(1/387)
والذي يظهر أن "أيَّد" فعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ، وأمَّا آيَدَ - يعني بالمَدِّ- فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في المائدة. ثم قال: "إنه لم يَظْهر كلامُ ابن عطية في قوله: "اختلف الإعلالُ" وهو صحيحٌ، لإلاَّ أنَّ قوله: الذي يظهر أن في قراءةِ الجمهورِ فَعَّل لا أَفْعَل إلى أخرِه" فيه نظرٌ لأنه يُشْعِرُ بجوازِ شيءٍ آخَر وذلك متعذِّرٌ، كيف يُتَوَهَّمُ أن أيَّدَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ بزنة أَفْعَل، هذا ما لا يَقَعْ.
والأَيْدُ: القوَّةُ، قال عبد المطلب:
603- الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ * أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ
والصحيحُ أن فَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى واحد وهو قَوَّْناه. وقد فَرَّق بعضُهم بينهما فقال: "أمَّا المدُّ فمعناه القوةُ، وأمَّا القصرُ فمعناه التأييدُ والنَّصْرُ"، وهذا في الحقيقةِ ليس بفرقٍ، وقد أبدلتِ العربُ في آيَدَ على أَفْعَل الياءَ جيماً فقالت: آجَدَهُ أي قوَّاه، قال الزمخشري: "يقال: "الحمدُ لله الذي آجَدَني بعد ضَعْفٍ وأَوْجَدَني بعد فَقْر"، وهذا كما أَبْدلوا من يائِه جيماً فقالوا: لا أَفْعَل ذلك جَدَ الدهرِ أي: يدَ الدهر، وهو إبدالٌ لا يَطَّرِدُ.
(1/388)
---(1/388)
قوله: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} متعلِّق بأيَّدْناه. وقرأ ابن كثير: "القُدْس" بإسكانِ الدال، والباقون بضمِّهما، وهما لغتان: الضمُّ للحجاز، والإسكانُ لتميم، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ أبو حَيْوة: "القُدُوس" بواوٍ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه: "ونقدِّسُ لك". والروح في الأصل: اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب، والمرادُ به جبريلُ عليه السلام لقولِ حَسَّان:
604- وجبريلٌ رسولُ الله فينا * وروحُ القُدْسِ ليس له كَفَاءُ
سُمِّي بذلك لأنَّ بسببه حياةَ القلوب.
قوله: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ} الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدَّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها. وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء، كأنه قال: ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءِكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ. ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي: فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ. وقد تقدَّم الكلام في "كلما" عند قولِه: {كُلَّمَا أَضَآءَ} والناصبُ لها هنا "استكبرتم"، و "رسول" فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي: المَرْكُوب والمَحْلُوب، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري. وأنشد:
605- لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم * بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول
أي: برسالة، ومنه عنده: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(1/389)
---(1/389)
}. قوله: {بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ} متعلِّق بقوله "جاءكم"، و "جاء" يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو: جِئْتُ إليه، و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروط، والتقديرُ: بما لا تهواه، و "تهوى" مضارعُ هَوِي بكسر العين ولامُه من ياءٍ لأنَّ عينَه واوٌ، وباب طَوَيْتُ وشَوَيْتُ أكثرُ من بابُ قوَّة وحُوَّة. ولا دليلَ في "هَوِيَ" لانكسار العين وهو مثل "شَقِيَ" من الشَّقاوة، وقولُهم في تثنيةِ مصدرِه هَوَيان أدلُّ دليلٍ على ذلك، ومعنى تَهْوَى: تُحِبُّ وتختار. وأصل الهَوَى: المَيْلُ، سُمِّي بذلك لأنه يَهْوي بصاحبِه في النار ولذلك لا يُسْتعمل غالباً إلا فيما لا خَيْرَ فيه، وقد يُستعمل فيما هو خيرٌ، ففي الحديث الصحيح قولُ عمرَ في أُسارى بدر: "فَهَوي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت". وعن عائشة رضي الله عنها: "واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك" وجمعُه أَهْواء، قال تعالى: {بِأَهْوَائِهِم} ولا تُجْمَع على أَهْوِية وإنْ كان قد جاء: نَدَى وأَنْدِية قال الشاعر:
606- في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ * لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائِها الطُّنُبا
وأمَّا "هَوَى يَهْوي" بفتحها في الماضي وكسرِها في المضارع فمعناهُ السقوطُ، والهَوِبُّ - بفتح الهاؤُ - ذهابٌ فب انحدارِ، والهُوِيُّ ذهابٌ في صعود، وسيأتي تحقيقُ كلِّ ذلك، وأسندَ الفعلَ إلى الأنفس دونَ المخاطبِ فلم يَقُلْ: "بما لا تَهْوون" تنبيهاً أنَّ النفسَ يُسْنَدُ إليها الفعلُ السَّيِّء غالباً نحو: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّواءِ} {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} واستكبرَ بمعنى تَكَبَّرَ.
(1/390)
---(1/390)
قوله: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} الفاءُ عاطفةٌ جملةَ "كَذَّبْتم" على "استكبرتم" و "فريقاً" مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي، وكذا {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةٌ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره، فإنَّ المقتولِين قد كَّبوهم أيضاً، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ. وجيء بـ "تقتلون" مضارعاً: إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل، وإمَّا ان يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب. وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} معطوفاً على قوله "وأَيَّدْناه" ويكونُ "أفكلما" مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإنكار، والأظهرُ هو الأولُ، وإنْ كان ما قاله محتملاً.
* { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }
(1/391)
---(1/391)
قوله تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.. مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه، وقرأ الجمهورُ: "غُلْفٌ" بسكون اللام، وفيها وجهان، أحدهما - وهو الأظهرُ-: أن يكونَ جمع "أَغْلَف" كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر، والمعنى على هذا: أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ. والثاني: أن يكونَ جمعَ "غِلاف"، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو: حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنْق، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية: "لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ"، وليس كذلك، بل هو قليل، وقد نصّ غيرُه على جوازه، وقرأ ابن عباس - ويُروى عن أبي عمرو - بضمِّ اللامِ وهو جمع "غِلاف"، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ "أَغْلف" لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر، والمعنى على هذه القراءة جمعَ "أَغْلف" لأنَّ تثقيلَ فُعَل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى.
قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ} "بل" حرفُ إضرابٍ، والإضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق. والإضرابُ على قسمين: إبطالٍ وانتقالٍ، فالأول نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ، ولا تَعْطِفُ "بل" إلا المفردات، وتكونُ في الإيجاب والنفي والنهي، ويُزاد قبلها "لا" تأكيداً. واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والبُعْدُ، ومنه: شَأْوٌ لعين أي بعيد: قال الشَّماخ.
607- ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه * مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
(1/392)
---(1/392)
أي: البعيد، وكان وجهُ الكلام أن يقول: "مقام الذئب اللعين كالرجل". والباءُ في "بكفرهم" للسببِ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ. وقال الفارسي: "النية به التقديمُ أي: وقالوا: قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ "بل لعنهم" جملةً معترضةً"، وفيه بُعْدٌ، ويجوز أن تكونَ حالاً من المفعولِ في "لَعَنهم" أي لَعِنهم كافرين أي: مُلتبسين بالكفرِ كقوله: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ
}. قوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} في نصبِ "قليلاً" ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو الأظهرُ: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: فإيماناً قليلاً يُؤمنون. الثاني: أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي: فيؤمنونه أي الإيمانَ في حالِ قلَّته، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره. الثالث: أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: {آمِنُواْ بِالَّذِيا أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوااْ آخِرَهُ} الرابع: أنه على إسقاطِ الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب، ويُعْزَى لأبي عبيدة. الخامس: أن يكونَ حالاً من فاعل "يؤمنون"، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة. إلا أن المهدوي قال: "ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى: فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ "قليل". قلت: لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى: و "ما" على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد. السادس: أن تكونَ "ما" نافيةً أي: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثلُه: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} وهذا قويٌ من جهة المعنى، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيَِزها عليها، قاله أبو البقاء، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا(1/393)
(1/393)
---
أنَّ تقديمَ ما في حَيِّزها عليها لم يُجْزِه البصريون، وأجازه الكوفيون. قال أبو البقاء: "ولا يَجُوز أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً، لأن "قليلاً" يبقى بلا ناصبٍ". يعني أنَّك إذا جَعَلْتَها مصدريةً كان ما بعدَها صلتَها، ويكون المصدرُ مرفوعاً بـ "قليلاً" على أنه فاعلٌ بن فأين الناصبُ له؟ وهذا بخلافِ قولِه {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فإنَّ "ما" هناك يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لأنَّ "قليلاً" منصوبٌ بـ كان. وقال الزمخشري: "ويجوز ان تكونَ القِلَّةُ بمعنى العَدَم". قال الشيخ: "وما ذهبَ إليه من أنَّ "قليلاً" يُراد به النفيُ فصحيحٌ، لكنْ في غيرِ هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} لأنَّ "قليلاً" انتصبَ بالفعلِ المثبتِ فصار نظيرَ "قُمْتُ قليلاً" أي: قمتُ قياماً قليلاً، ولا يَذْهَبُ ذاهبٌ إلى أنَّك إذا أَتَيْتَ بفعلٍ مُثْبَتٍ وجَعَلْتَ "قليلاً" منصوباً نعتاً لمصدرِ ذلك العفلِ يكونُ المعنى في المُثْبَتِ الواقعِ على صفةٍ أو هيئةٍ انتفاءَ ذلك المُثَبَتِ رأساً وعدَمَ قوعِه بالكلِّية، وإنما الذي نَقَل النحويون: وقَلَّما يقوم زيد"، وإذا تقرَّر هذا فَحَمْلُ القلةِ على النفي المَحْضِ هنا ليس بصحيحٍ". انتهى./ قلت: ما قاله أبو القاسم الزمخشري - رحمه الله - من أنَّ معنى التقليلِ هنا النفيُ قد قال به الواحديُّ قبلَه، فإنه قال: "أَيْ: لا قليلاُ ولا كثيراً، كما تقول: قَلَّما يفعلُ كذا، أي: ما يفعله أصلاً".
* { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
(1/394)
---(1/394)
قوله تعالى: {مِّنْ عِندِ اللَّهِ}.. فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع صفةً لكتاب، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي كتابٌ كائنٌ من عندِ الله.
والثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ لابتجاءِ غايةِ المجيء قالَه أبو البقاء. وقد ردَّ الشيخ هذا الوجهَ فقال: "لا يُقال إنه يُحْتمل أن يكونَ {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} متعلقاً بجاءهم، فلا يكونُ صفةً، للفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بما هو معمولٌ لعير أحدهما" يعني أنه ليس معمولاً للموصوفِ ولا للصفةِ فَلا يُغْتَفَرُ الفصلُ به بينهما.
والجمهورُ على رفع "مُصَدِّقٌ" على أنه صفةٌ ثانيةٌ، وعلى هذا يُقال: قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والآخرى مؤولةٌ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوز إلا ضرورةً. والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشيءٌ عن كونه من عندِ الله. وقرأ ابن أبي عبلة "مُصَدِّقاً" نصباً، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ، ونصبُه على الحال، وفي صاحبِها قولان، أحدُهما أنه "كتاب". فإنْ قيل: كيفَ جاءت الحالُ من النكرة؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي {مِّنْ عِندِ اللَّهِ } كما تقدَّم. على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري. والثاني: أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً، والعاملُ فيها إمَّا: الظرفُ أو ما يتعلَّق به على الخلاف لمشهور، ولهذا اعترضَ بعضُهم على سيبويه في قوله:
608- لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ * يَلُوح كأنَّه خِلَلُ
(1/395)
---(1/395)
إنَّ "موحشاً" من "طَلَل"، وساغَ ذلك لتقدُّمِهِ، فقال: لا حاجةَ إل ذلك، إذ يمكنُ أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في قوله: "لميَّةَ" الواقعَ خبراً لطلل، وللجوابِ، عن ذلك موضعٌ آخرُ. واللام في {لِّمَا مَعَهُمْ} مقويةٌ لتعدية "مُصَدِّق" لكونِه فَرْعاً، و "ما" موصولةٌ، والظرفُ صلتُها.
قوله: {وَكَانُواْ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على "جاءهم" فيكونُ جوابُ "لَمَّا" مرتَّباً على المجيءِ والكونِ. والثاني: أن يكونَ حالاً أي: وقد كانوا، فيكونُ جوابُ "لَمَّا" مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون. قال الشيخ: "وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن "وكانوا" ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد "لَمَّا" ةلا حالاً، لأنه قدَّر جوابَ "لَمَّا" محذوفاً قبل تفسيره "يستفتحون"، فَدّلَّ على أنَّ قوله "وكانوا" جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه: ولَمَّا، وهذا هو الثالثُ.
(1/396)
---(1/396)
و {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون، والأصل، من قبلِ ذلك، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ. و "يَسْتَفْتحون" في محلِّ النصبِ على خبر "كان". واختلف النحويون في جوابِ "لَمَّا" الأولى والثانية. فَذَهَبَ الأخفش والزجاج ألى أنَّ جوابَ الأولى محذوفٌ تقديرُه: ولَمَّا جاءهم كتابٌ كفروا به. وقَدَّره الزمخشري: "كَذَّبوا به واستهانوا بمجيئه" وهو حَسَنٌ. وذهب الفراء إلى أنَّ جوابَها الفاءُ الداخلةُ على لَمَّا، وهو عندَه نظير {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} قال: ولا يجوزُ أن تكونَ الفاءُ ناسقةً إذ لا يَصْلُح موضِعَهَا الواوُ" و "كفروا" جوابُ لَمَّا الثانية عل القولَيِن. وقال أبو البقاء: "في جواب لمَّا الأولى وجهانِ، أحدُهما: جوابُها "لَمَّا" الثانية وجوابُها. وهذا ضعيفٌ لأنَّ الفاءَ مع "لمَّا" الثانيةِ، و "لمَّا" لا تُجَابُ بالفاءِ إلا أَنْ يُعْتقدَ زيادةُ الفاءِ على ما يُجيزه الأخفش" قلت: ولو قيل برأي الأخفش في زيادةِ الفاءِ من حيث الجملةُ فإنه لا يمكنُ ههنا لأنَّ "لَمَّا" لا يُجابُ بمثلِها، لا يُقال: "لَمَّا جاء زيدٌ لَمَّا قَعَد أكرمتُك" على أن يكونَ "لَمَّا قعد" جوابَ "لمَا جاء". والله أعلم.
وذهب المبردُ إلى أنَّ "كفروا" جوابُ "لَمَّا" الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه، وهو حسنٌ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك. وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ: "والثاني: أنَّ "كفروا" جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاها واحدٌ. وقيل: الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب" قلت: "قولُه: "وقيل الثانية تكريرٌ" هو ما حَكَيْتُ عن المبرد، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون "كفروا" جواباً لهما بل هو هو.
(1/397)
---(1/397)
قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل، وأتى بـ "على" تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد استعْلَتْ عليهم وشَمِلَتْهم. وقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ} ولم يقُلْ "عليهم" إقامةً للظاهر مُقامَ المضمرِ لينبِّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفرُ.
* { بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
قولُه تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ}.. بئسَ: فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ، معناه الذمُّ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بأل، أو فيما أُضيف إلى ما هما فيه، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ، أو في "ما" على قول سيبويه. وفيه لغاتٍ: بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ، هذا الأصلُ، وبِئس بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ، هذا الإتباعُ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ، ومثلُها "نِعْمَ" في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات. وزعم الكوفيون أنهما اسمان، مستدلِّين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم: "ما هي بِنِعْمَ الولد نصرُها بكاءٌ وبِرُّها سَرِقة"، "ونِعْمَ السيرُ على بِئس العَيْر" وقولِه:
609- صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ * بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ
وقد خَرَّجه البصريون على حَذْفِ موصوف، قامَتْ صفتُه مَقَامَه تقديرُه: ما هي بولدٍ مقولٍ فيه نِعْم الولد، ولها أحكامٌ كثيرة، ولا بُددَّ بعدَها من مخصوصٍ بالمدحِ والذمِّ، وقد يُحْذَفُ لقرينةٍ، هذا حكمُ بِئْسَ.
(1/398)
---(1/398)
أمَّا، "ما" الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ: فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً، واضطريت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً، فاختلفوا: هَلْ لها محلٌّ من الإعراب أو لا؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع "بِئْسَ" شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ "حَبَّذا" نَقَلَه ابنُ عطية، ونَقَلَ عنه المهدوي أنه يُجَوَّز أن تكونَ "ما" مع بئسَ بمنزلة كُلَّما، فظاهرُ هذين النقلين أنها لا محلَّ لها. وذهب الجمهورُ إلى أنَّ لها مَحَلاً، ثم اختلفوا:/ محَلُّها رفعٌ أو نصبٌ؟ فذهب الأخفشُ إلى أنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه "ما"، والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه: {أَن يَكْفُرُواْ} لأنه في تأويلِ مصدرٍ، والتقدير: بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كرُهم، وبه قال الفارسي في أحدِ قوليه، واختاره الزمخشري، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ، و "اشتَرَوا" صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه: بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به، كقولِه.
610- لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل * ...............................
أي: فتىً أَضْحى، و {أَن يَكْفُرُواْ} بدلٌ من ذلك المحذوفِ، أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أَنْ يكفروا. وذهبَ الكسائي إلى أنَّ "ما" منصوبىُ المحلِّ أيصاً، لكنه قَدَّر بعدها "ما" أخرى موصولةً بمعنى الذي، وجعل الجملةَ مِنْ قولِه "اشتروا" صلتها، و "ما" هذه الموصولةُ هي المخصوصُ بالذمِّ، والتقديرُ: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلَّ لـ "اشتروا" عل هذا، ويكونُ {أَن يَكْفُرُواْ} على هذا القولِ بنصبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها صفةٌ لها فتكونُ في محلِّ نصبٍ أو صلةٌ لـ "ما" المحذوفةِ فلا محلَّ لها أو صفةٌ للمخصوصِ بالذم فتكونُ في محلِّ رفعٍ.
(1/399)
---(1/399)
وذهب سيبويه إلى أَنَّ موضعَها رفعُ على أنَّها فاعلُ بئس، فقال سيبويه: هي معرفةٌ تامةٌ، التقديرُ: بئس الشيء،ُ، والمخصوصُ بالذمِّ على هذا محذوفٌ أي شيءٌ اشَتَرَوا له أنفسَهم، وعُزي هذا القولُ أيضاً للكسائي. وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أنَّ "ما" موصولةٌ بمعنى الذي والجملةُ بعْدَها صلتُها، ونقلُه ابن عطية عن سيبويه، وهو أحدُ قَوْلَيْ الفارسي، والتقدير: بئسَ الذي اشتروا به أنفسَهم أَنْ يكفُروا، فأَنْ يكفروا هو المخصوصُ بالذمِّ. قال الشيخ: "وما نَقَلَه ابنُ عطية عن سيبويه وَهْمٌ عليه". ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضاً أم "اما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، والتقديرُ: بئسَ اشتراؤُهم، فتكون "ما" وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ. قال ابنُ عطية: "وهذا معترضٌ بأنَّ "بِئْسَ" لا تَدْخُل على اسمٍ معيَّنٍ يتعرَّفُ بالإضافةِ للضمير". قال الشيخ: "وهذا لا يَلْزَم إلا إذا نَصَّ أنه مرفوعُ بئس، أمَّا إذا جعله المخصوصَ بالذمِّ وجعل فاعلَ "بئس" مضمراً والتمييزُ محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: بئسَ اشتراءً اشتراؤهم فلا يَلْزَمُ الاعتراضُ" قلت: وبهذا - أَعْنِي بجَعْلِ فاعلِ بئسَ مضمراً فيها - جَوَّز أبو البقاء في "ما" أَنْ تكونَ مصدريةً، فإنه قال: "والرابعُ أن تكونَ مصدريةً أي: بئسَ شِراؤُهُم، وفاعلُ بئسَ على هذا مضمرٌ لأنَّ المصدر ههنا مخصوصٌ ليس بجنسٍ" يعني فلا يكونُ فاعلاً، لكن يُبْطِلُ هذا القولَ عَوْدَ الضمير في "به" على "ما" والمصدريةُ لا يعودُ عليها، لأنها حرفٌ عند الجمهور، وتقديرُ أَدِلَّةِ كلِّ مذكورٍ في المُطَوِّلات. فهذه نهايةُ القولِ في "بئسما" و"نِعِمَّا" واللهُ اعلم.
(1/400)
---(1/400)
قوله: {أَن يَكْفُرُواْ} قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة: إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه، ولا حاجةَ إلى الرابطِ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبَما تقرَّر وتحرَّر. وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرٍّ بدلاً من الضمير في "به" إذا جَعَلْتَ "ما" تامَّة.
قوله: {بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ} متعلَّق بيكفُروا، وقد تقدَّم أنَّ "كفر" يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى، و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْزله، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بلإنزالِه يعني بالمُنَزِّل.
قوله: {بَغْياً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ مِنْ أَجْلِه وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ، وفي الناصبِ له قولان، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه "يكفروا" أي علةُ كفرِهم البغيُ. والثاني أنه {اشْتَرَوْاْ}، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري، فإنه قال: "وهو علةُ {اشْتَرَوْاْ }. والثاني من الأوجهِ الثلاثة: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْياً. والثالث: أنه في موضعِ حالٍ، وفي صاحِبها القولان المتقدِّمان: إمَّا فاعلُ {اشْتَرَوْاْ } وإمَّا فاعلُ {يَكْفُرُواْ}، تقديرُه: اشْتَرَوا باغِين، أو يَكْفُروا باغِين.
والبَغْيُ: أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم: بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ قاله الأصمعيْ وقيل: هو شِدَّةُ الطلبِ، ومنه قولُه تعالى: {مَا نَبْغِي} وقال الراجز:
611- أُنْشِدَ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ * قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ
ومنه "البَغِيُّ" لشدة طلبها له.
(1/401)
---(1/401)
قوله {أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ} فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له "بَغْياً" أي: عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمد عليه السلامُ. والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ: بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ، أي: حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ: أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ؟ والثالثُ: أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من "ما" في قوله: {بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ} بدلَ اشتمال، أي: بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس:
612- أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ * .....................................
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من "أَنْزَل" مخففاً إلا ما وقع الإجماع على تشديدِه في الحجرِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ} وقد خالفا هذا الأصلَ: أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد {عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً} في الأنعام، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّدَ في الإسراء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً} والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} آخر لقمان، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في الشورى. والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ، وقد تقدَّم: هل بينهما فرقٌ؟ وتحقيقُ الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا؟ بما يطول ذكره، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات.
قوله: {مِن فَضْلِهِ}: "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وفيه قولان، أحدُهما: أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ "يُنَزِّل" أي: أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب. والثاني: أنَّ "مِنْ" زائدةٌ، وهو رأيُ الأخفش، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي: أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله.
(1/402)
---(1/402)
قوله {عَلَى مَن يَشَآءُ} متعلقٌ بيُنَزِّلَ. و "مَنْ" يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ، والتقديرُ: على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال - بعد تجويزِه في "مَنْ" أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً - "ومفعولُ "يشاء" محذوفٌ أي: يَشَاءُ نزولَه عليه، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي" انتهى. وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ.
قوله: {مِنْ عِبَادِهِ} فيه قولان: أحدُهما: أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ الذي هو عائدٌ على الموصولِ أو الموصوفِ، والإضافةُ تقتضي التشريفَ. والثاني: أَنْ يكونَ صفةً لـ "مَنْ" بعدض صفةٍ على القولِ بكونِها نكرةً، قاله أبو البقاء. وهو ضعيفٌ لأنَّ البداءة بالجارِّ والمجرورِ على الجملةِ في باب النعتِ عند اجتماعهما أَوْلَى لكونِه أقربَ إلى المفردِ، فهو في محلِّ نصبٍ على الأولِ وجَرٍّ على لاثاني، وفي كِلا القولين يتعلَّق بمحذوفٍ وجوباً لِما عَرَفْتَ.
قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} الباءُ للحال، أي: رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك. قوله {عَلَى غَضَبٍ} في محل جر لأنه صفة لقوله" بغضب" أي: كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ. وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام، أو الاولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً؟ خلافٌ مشهور.
(1/403)
---(1/403)
قوله: {مُّهِينٌ} صفة لعذاب، وأصلُه: "مُهْوِن" لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً. والإهانةُ: الإذلالُ والخِزْيُ، وقال: "وللكافرين" ولم يَقُلْ: "ولهم" تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ}: يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإعراب. والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يكفرون، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها "قالوا" أي قالوا: نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيها "نؤمن"، قال أبو البقاء: "إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر" يعني فكان يجبُ المطابَقةُ. ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله:
613- ................................. * نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه: {بِمَا أَنْزَلَ} وأُقيم المفعولُ مُفامَه للعلم به، إذ لا يُنَزذِلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.
(1/404)
---(1/404)
قوله: {بِمَا وَرَآءَهُ} متعلَّق بيَكْفرون، وما موصولةٌ، والظرفُ صلتُها، فمتعلَّقة فعلٌ ليس إلا. والهاءُ في "وراءه" تعودُ على "ما" في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ}. ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ، وهو ظرفُ مكانٍ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام، فهو من الأَضْداد، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى "سِوَى" التي بمعنى "غَيْر"، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى "بعد". وفي همزه قولان، أحدُهما: أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم: وُرَيْئة. والثاني: أنها من ياء لقولهم: تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ. ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو "واو" اسمِ حَرْفِ الهجاء، وحكمُه حكمُ قبلُ وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعِرْبَ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر:
614- إذا أنا لم أُؤمِنْ عليكَ ولم يَكُنْ * لقاؤك إلا مِنْ وارءُ وراءُ وراءُ
وفي الحديثِ عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: "كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ"، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما: وُرَيْئة وقُدَيْدِيمة: تصغير: وراء وقُدَّام. قال ابن عصفور: لأنَّهما لم يتصرفَّا فلو لم يُؤَنِّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما".
قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} مبتدأٌ وخبر، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه: "ويَكفرون" وصاحبُها فاعلُ يكفرون. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العانلث الاستقرارَ الذي في قولِه {بِمَا وَرَآءَهُ} أي: بالذي استقر وراءَه وهون الحقُّ.
(1/405)
---(1/405)
قوله: {مُصَدِّقاً} حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه {وَهُوَ الْحَقُّ} قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ: إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ. فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه:
615- أما ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي * وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ
والتقديرُ: وهو الحقُّ أَحُقُّه مصدقاً، وابنُ دارَة أُعْرَفُ معروفاً، هذا تقديرُ كلامِ النحويين. وأمّا أبو البقاء فإنه قال: "مصدقاً حالٌ مركِّدةٌ، والعاملُ فيها ما في "الحقّ" من معنى الفعل إذ المعنى: وهو ثابِتٌ مصدِّقاً، وهو صاحل الحالِ الضميرُ المستترُ في "الحقّ" عند قومٍ، وعند آخرين صاحبُ الحالِ ضميرٌ دَلَّ عليه الكلامُ، و "الحقّ" مصدرٌ لا يتحَمَّلُ الضميرَ على حَسَبِ تحمُّلِ اسمِ الفاعلِ له عندهم، فقولُه "عند آخرين" هذا هو الذي قَدَّمْتُه أوَّلاً وهو الصواب.
قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ؟ وهذا تكذيبٌ لهم، لأن الإيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه. و "لِمَ" جارٌّ ومجرورٌ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي: لأي شيء؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين "ما" الخبريةِ. وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها، قالَ الشاعر:
616- على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ * كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ
(1/406)
---(1/406)
وهذا ينبغي أَنْ يُخَصَّ بالضرورةِ كما نصَّ عليه بعضُهم، والزمخشري يُجيز ذلك، ويُخَرِّج عليه بعضَ آي القرآن، كما قد تُحْمَلُ الخبريةُ على الاستفهاميةِ في الحذفِ في قولِهم: اصنعْ بِمَ شِئْتَ، وهذا لمجردِ الشَّبَهِ اللفظيِّ. وإذا وُقف على "ما" الاستفهاميةِ المجرورة: فإنْ كانَتْ مجرورةً باسمٍ وَجَبَ لَحاقُ هاءِ السكتِ نحو: مَجيء مَهْ، وإن كانَتْ مجرورةً بحرْفٍ فالاختيارُ اللَّحاقُ. والفرقُ أنَّ الحرفَ يمتزجُ بما يَدْخُلُ عليه فَتَقْوَى به الاستفهاميةُ بخِلافِ الاسمِ المضافِ إليها فإنه في نيةِ الانفصالِ، وهذا الوقفُ إنما يجوز ابتلاءً أو لقَطْعِ نفسٍ، ولا جَرمَ أنَّ بعضَهم مَنَع الوقفَ على هذا النحوِ، قال: "لأنه إنْ وُقف بغيرِ هاءٍ كان خطأً لنقصانِ الحَرْفِ، وإنْ وُقِفَ بهاءٍ خالفَ السوادَ"، لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثلُ ذلك لا يُعَدُّ مخالفةً للسواد، ألا ترى إلى إثباتِهم بعضَ ياءاتِ الزوائدِ. والجارُّ متعلقٌ بقولِهِ: "تقتلون"، ولكنه قُدِّمَ عليه وجوباً لأنَّ مجرورَه له صدْرُ الكلامِ، والفاءُ وما بعدها من "تَقْتُلون" في محلِّ جزم، وتَقتلون -وإن كان بصيغةِ المضارعِ- فهو في معنى الماضي لفَهْمِ المعنى، وأيضاً فمعه قولُه "من قبل"، وجاز إسنادُ القتلِ إليهم وإنْ لم يَتَعاطَوْه لأنهم لَمَّا كانوا راضِينَ بفعلِ أسلافِهم جُعِلوا كأنَّهم فَعَلوا هم أنفسهم.
(1/407)
---(1/407)
قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} في "إنْ" قولان أحدهما: أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه: إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو: فَلِمَ تقتلون، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى. وقال ابن عطية: "جوابُها متقدِّمٌ، وهو قوله: فَلِمَ" وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد. والثاني: أَنَّ "إنْ" نافيةٌ بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإيمانَ.
* { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ}: يجوز فيه وجهان، أحدُهما أن يكونَ حالاً من "موسى"، أي: جاءكم ذا بيناتٍ وحُجَجٍ أو ومعه البيناتُ. والثاني: أن يكونَ مفعولاً أي: بسبب إقامةِ البيناتِ، وما بعدَه من الجملِ قد تقدَّم مِثْلُه فلا حاجةَ إلى تكريرِه.
* { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
(1/408)
---(1/408)
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه: "قالوا سَمِعْنا"، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل "قالوا"، أي: قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار "قد" لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين، حيثُ قالوا: لا يُحْتاجُ إليها. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك، واستضعَفَه أبو البقاء، قال: "لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ}، فهو جوابُ قولِهم: "سَمِعْنا وعَصَيْنا"، فالأَوْلَى ألاَّ يكونَ بينهما أجنبيٌّ". والواوُ في "أُشْرِبوا" هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو "العِجْلَ" لأنَّ "شَرِبَ" يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ "العِجْل" والتقديرُ: وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ. وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل. والإِشرابُ: مخَلَطَةُ المائع بالجامِدِ، ثم أتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو: أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً. والمعنى: أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه، كما داخَل الصبغُ الثوبَ. ومنه:
617 - إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ * فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا
وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف الأكل، فإنه مجاوزٌ، ومنه في المعنى:
618 - جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي * .........................
وقال بعضُهم:
619 - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي * فبادِيه مع الخافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ * ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها * أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ
(1/409)
---(1/409)
وقيل: الإشرابُ هنا حقيقةٌ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه: "في قُلوبهم".
قوله: "بكُفْرهم" فيه وجهان، أظهرُهما: / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [41 / ب] بـ"أُشْرِبوا"، أي: أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق. والثاني: أنها بمعنى "مع"، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي: أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم. والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ، أي: بأَنْ كفروا. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} كقولِه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ} فَلْيُلْتفت إليه.
قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه: "فبِئْسَما يَأْمرُكم". وقيلَ: تقديرُه: فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي: إيمانُكم الباطلُ، أو حَذْفِ مضافٍ أي: صاحبُ إيمانكم. وقرأ الحسن: "بِهُو إيمانُكُمْ" بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل.
* { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
(1/410)
---(1/410)
قوله تعالى: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً}: شَرْطٌ جوابُه: "فَتَمَنَّوُا" و "الدارُ" اسمُ كان وهي الجنةُ. والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ، أي: نَعيمُ الدارِ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن. واختلفوا في خبر "كان" على ثلاثةِ أقوالٍ، أحدُها: أنه "خالصةً" فتكون "عند" ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في "لكم" فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه. قال أبو البقاء "ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد "خالصةً" أي خالصةً لكم فَتَعَلَّقَ بنفسِ "خالصةً". وهذا فيه نظرٌ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه: أعني لكم نحو: سُقْياً لك، تقديرُه: أعني بهذا الدعاءِ لك. وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حنيئذٍ بمحذوف كما ذكرت. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً لـ"خالصةً" في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.
الثاني: أنَّ الخبر "لكم" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ "خالصةً" حينئذٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: إمَّا "كان" أو الاستقرارُ في "لكم" و "عند" منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً.
(1/411)
---(1/411)
الثالث: أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ، و "خالصةً" حالٌ أيضاً، والعاملُ فيها: إمَّا "كانَ" أو الاسقرارُ، وكذلك "لكم". وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا: "لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به". وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء. واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال: "وسَوَّغَ أن يكونَ "عند" خبرَ كان "لكم"، يعني لفظَ "لكم" سَوَّغَ وقوعَ "عند" خبراً، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ، ونظيرُه قولُه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، لولا "له" لم يَصِحَّ أن يكونَ "كفواً" خبراً. و {مِّن دُونِ النَّاسِ} في محلِّ النصبِ بـ"خالصةً" لأنَّك تقولُ: "خَلُصَ كذا مِنْ كذا".
وقرأ الجمهورُ: "َتَمَنَّوُا الموتَ" بضمِّ الواو، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً، واختلاسُ الضمة. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو "لَوِ استطعنا". و "إنْ كنتم" كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقد تقدّمَ.
* { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ }
(1/412)
---(1/412)
قولُه تعالى: {أَبَداً} .. منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً، تقول: ما فَعَلْتُه أبداً، وقال الراغب: "هو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ، وذلك أنه يقالك زمانَ كذا ولا يُقال: أبدَا كذا، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألاَّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ، وقد قالوا: آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه، وقيل: آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ، ومجيئُه بعد "لَنْ" يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ، وقد تقدَّم ذلك، ودَعءوى التأكيدِ فيه بعيدةٌ". وقال هنا: "ولن يَتَمَنَّوْه" فنَفى بلن وفي الجمعة بـ"لا" قال صاحب المنتخب: "لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى، والنفيُ بـ"لن" أَبْلَغُ مِن النفي بِ"لا".
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ} متعلِّقٌ بيتمنَّوْه، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ. و "ما" يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: كونُها موصولةً بمعنى الذي. والثاني: نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْه، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني. والثالث: أنَّها مصدريَّةٌ أي: بتَقْدِمَةِ أيديهِم. ومفعولُ "قَدَّمَتْ" محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه.
* { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
(1/413)
---(1/413)
قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ} .. هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه: واللهِ لَتَجِدَنَّهَم. و "وجَدَ" هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ، والثاني "أَحْرَصَ"، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ كـ"عَلِمَ" في المعنى نحو: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}. ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ، وينتصِبُ "أَحْرَصَ" على الحالِ: إمَّا على رَأْي مَا لا يشترطُ التنكيرَ في الحال، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ "أَفْعَل" إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن، أعني عَدَمَ المطابقةِ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ "مِنْ" جازَ فيها وجهان: المطابقةُ لِما قبلَها نحو: الزيدان أَفْضَلا الرجالِ، والزيدون أفاضل الرجال، وهند فُضْلى النساء. والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ، ومنه قولُه: "أكابِرَ مجرميها"، وعدمُها نحو: الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ، وعليه هذه الآيةُ، وكلا الوجهين فصيحٌ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيّثنَ الإفرادِ، والأبي منصور الجوال يقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ. وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها، ولذلك مَنَع النحْويون: "يوسُف أَحْسَنُ إخوته" على معنى التفضيلِ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو: "الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان" بمعنى العادِلان فيهم، وأمَّا:
620 - يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ * فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ "أَظْلَمَ" الثاني مقحماً كأنه قال: "أَظْلَمُنا". وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه: "أوَّل كافر".
(1/414)
---(1/414)
قوله: {عَلَى حَيَاةٍ} متعلِّق بـ"أَحْرَصَ"، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى بـ"على"، تقول: حَرَصْتُ عليه. والتنكيرُ في "حياة" تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ "على الحياة" بالتعريفِ. وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى: أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ. وإنْ قُلْتَ: فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك. وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانتفح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً.
(1/415)
---(1/415)
قولُه: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حُمِل على المعنى، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس: أَحْرَصَ من الناسِ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، والتقديرُ: وأحرصَ من الذين أشركوا، وعلى ما تقرَّر من كونِ {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر "مِنْ" لأنَّ "أَحرصَ" جَرى على اليهودِ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ "مِنْ" لكانَ معطوفاً على الناس، فيكونُ في المعنى: ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون الأصنامَ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً. الثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ، فيكونُ {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} صفةً لمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في "لتجدنَّهم"، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ. وعلى القولِ بانقطاعهِ من "أَفْعل" يكونُ {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} خبراً مقدَّماً.، و "يَوَدُّ أحدُهم" صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه، كقولِه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}، وقوله: "مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام". والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ(1/416)
(1/416)
---
اليهودِ كما تقدم. وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ، إذا التقديرُ: ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم. وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} تحت أَفْعَل، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ.
قوله: "يَوَدُّ أحدُهم" هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم، فإنْ قيل بأنَّ {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} داخلٌ تحتَ "أَفْعَلَ" كان في "يَوَدُّ" خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنه حالٌ من الضمير في "لَتَجِدَنَّهم" أي: ليتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم. الثاني: أنه حال من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه "أَحْرَصَ" المحذوف. الثالث: أنه حالٌ من فاعلِ "أشْركوا". الرابع: أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في ازديادِ حِرْصِهِم على الحياةِ. الخامسُ وهو قولُ الكوفيين: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ، ذلك الموصولُ صفةٌ للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودُّ أحدُهم. وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لمبتدإٍ محذوفٍ كما تقدّم. و "أحدٌ" هنا بمعنى واحد، وهمزتُه بدلٌ من واو، وليس هو "أحد" المستعملَ في النفي فإنَّ ذاك همزتُه أصلٌ بنفسِها، ولا يُستعملُ في الإِيجابِ المَحْض. و "يودُّ" مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ "يَعِد" وبابه، وحكى الكسائي في "ودَدْت" بالفتحِ. قال بعضُهم: "فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو". والوَدادة التمني.
(1/417)
---(1/417)
قوله: "لو يُعَمَّر" في "لو" هذه ثلاثةُ أقوال، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة -: أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ "يَوَدُّ" عليه، وحُذِفَ مفعولُ "يَوَدُّ" لدلالةِ "لو يُعَمَّرَ" عليه، والتقديرُ: يضوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلّض عليه الآخرُ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء -: أنها مصدرية بمنزلة أضنْ الناصبةِ، فلا يكونُ لها جوابٌ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ، والتقدير: يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ. واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يَلْزَمُها المستقبل كـ"أَنْ"، وبأنَّ "يودُّ" / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق، وبأنَّ "أَن" قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وهو كثيرٌ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ. الثالث - وإليه نحا الزمخشري - : أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ غلى جوابٍ لأنها في قوة: يا ليتني أُعَمَّر، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ، إجراءً له مُجْرى القول. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: كيف اتصل لو يُعَمَّر بَيَودُّ أحدثهم؟ قُلْتُ: هي حكايةٌ لوَدَادَتِهم، و "لو" في معنى التمني، وكان القياسُ: "لو أُعَمَّر" غلا أنَّه جرى على لفظِ الغَيْبَة لقوله: "يَوَدُّ أحدُهم"، كقولِك: حَلَفَ بالله ليَفْعَلَنَّ انتهى". وقد تقدَّ شرحُه، إلا قولَه: "وكان القياسُ لو أُعَمَّر، يعني بذلك أنه كانَ مِنْ حَقِّه أَنْ يأتيَ بافعلِ مًيْنَداً للمتكلم وحدَه وإنما أَجْرَى "يَوَدُّ" مُجْرى القولِ لأنَّ "يَوَدُّ" فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ".
(1/418)
---(1/418)
و "ألفَ سَنَةٍ" منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ. وفي "سَنَة" قولان "أحدُهما: أنَّ أصلَها: سضنَوة لقولهم: سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ. والثاني: أنها من سَنَهَة لقولِهم: سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك.
قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على "أحد" وفيه حينئذٍ وَجْهان، أحدُهما: أنه اسمُ "ما" الحجازيةِ، و "بمُزَحْزِحِه" خبرُ "ما"، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة. و "أَنْ يُعَمَّر" فاعلٌ بقولِه "بمُزَحْزِحِه"، والتقديرُ: وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه. الثاني من الوجهين في "هو": أن يكونَ مبتدأ، و "بمُزَحْزِحِهِ" خبرُه، و "أَنْ يُعَمَّر" فاعلٌ به كما تقدَّم، وهذا على كَوءنِ "ما" تميميَّةً، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه: {مَا هَذَا بَشَراً}، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}. الثاني من الأقوال: أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من "يُعَمَّر"، أي: وما تعميره، ويكون قولُه: "أن يُعَمَّر" بدلاً منه، ويكون ارتفاعُ "هو" على الوَجْهَيْن المتقدِّمَين، أعني كونَه اسمَ "ما" او مبتدأ.
الثالثُ: أن يكونَ كناية عن التعميرِ، ولا يعودُ على شيء قبلَه، ويكونُ "أن يُعَمَّر" بدلاً منه مفسِّراً له، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: "ويجوزُ أن يكونَ "هو" مبهماً، و "أَنْ يُعَمَّر" موضِّحَه".
(1/419)
---(1/419)
الرابع: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في "الحلبيَّات" موافقةً للكوفيين، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ، نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ، وما هو بقائمٍ زيدٌ، لأنه في قوة: ظننتُه يقومُ الزيدان، وما هو يقومُ زيدٌ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ، وقد تقدَّ تحقيقُ القولين.
الخامسُ: أنَّه عِمادٌ، نعني به الفصلَ عند البصريين، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح: وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم، يقولون في: زيدٌ هو القائمُ: هو القائمُ زيدٌ، وكذلك هنا، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ "بمُزَحزِحِه" خبراً مقدَّماً و "أَنْ يُعَنمَّر" مبتدأً مؤخراً، و "هو" عَمادٌ، والتقديرُ: وما تعميرُه هو بمزحزحِه، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ. والبصريُّون لا يُجِزيون شيئاً من ذلك.
و "من العذابِ" متعلِّقٌ بقوله: "بمُزَحْزِحِه" و "مِنْ" لابتداءِ الغاية.
والزَّحْزَحَةُ: التنحِيَةُ، تقولُ: زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً، فمِنْ مجيئِه متعدِّياً قولُه:
621 - يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ * وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ
وأنشدَه ذو الرمة:
622 - يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً * ...........................
ومن مجيِئه قاصراً قولُ الآخر:
623 - خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ * وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ
قولُه: "أَنْ يُعَمَّر": إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من "هو" أو مبتدأً حَسْبَ ما تقدَّم من الإِعرابِ في "هو".
(1/420)
---(1/420)
{أَن يُعَمَّرَ} مبتدأٌ وخبرُه، و "بما" متعلِّقٌ ببصير. و "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي: يَعْمَلُونه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: بِعَمَلِهم. والجمهورُ "يعملون" بالياء، نَسَقَاً على ما تقدَّم، والحسنُ وغيرُه "تَعْمَلُون" بالتاء للخطاب على الالتفات، وأتى بصيغةِ المضارعِ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي، وخَتْمِ الفواصلِ.
* { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} ... "مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ،
و"كان" خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه: مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه ، أو فَلْيَمُتْ غَيْظاً ونحوُه. ولا جائز أن يكونَ "فإنه نزَّله" جواباً للشرطِ لوجهين ، أحدُهما من جهةِ المعنى ، والثاني من جهةِ الصناعةِ ، أما الأول : فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ ، والجزاءُ لا يكون إلاَّ مستقبلاً ، ولقائلٍ أن يقولَ : هذا محمولٌ على التبيين ، والمعنى : فقد تبيَّن أنه نَزَّله ، كما قالوا في قوله : {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} ونحوِه. وأمَّا الثاني : فلأنه] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ ، فلا يجوزُ : مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ ، ولا ضميرَ في قولِه : "فإنَّه نَزَّله" يَعُودَ على "مَنْ" فلا يكونُ جواباً للشرط ، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك ، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه:
(1/421)
---
الدر المصون في علم الكتاب المكنون
السمين الحلبي
نسخ وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
(2)(1/421)
الكتاب مرجع رئيسي في بابه، وموسوعة علمية حوت الكثير من آراء السابقين، اهتم فيه مصنفه بالجانب اللغوي بشكل كبير أو غالب، فذكر الآراء المختلفة في الإعراب، إضافة إلى شرح المفردات اللغوية، كذلك أوجه القراءات القرآنية، كما أنه ألمح إلى الكثير من الإشارات البلاغية، وذكر الكثير من الشواهد العربية فقلما نجد صفحة إلا وفيها. شاهد أو أكثر
624 - فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ * فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني
وقولُه:
625 - فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه * فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط. فإنْ قيل: إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير /، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ}، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ، وفيه النظرُ المذكورُ، وجوابُه ما تقدَّم.
(2/1)
---(1/422)
و "عَدُوَّاً" خبرُ كانَ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه، قال: "هم العدُوُّ": والعَدَاوَةُ: التجاوُزُ. قالَ الراغب: "فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ، وبالمشِي يقال: العَدْوُ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال: العُدْوان، وبالمكان أو النسب يقال: قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء". و "لِجبريلَ" يجوزُ أنْ يكونَ صفةً لـ"عَدُوّاً" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ "عَدُوَّاً" إليه. وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقولُ مَنْ قالَ: "إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله" بعيدٌ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [الأسماءِ] الأعجميةِ، وكذا قولُ مَنْ قالَ: "إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ، وأنَّ "جَبْر" معناه عَبْد، و "إيل" اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله" لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني، وكذا قولُ المهدوي: إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو: حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلاَّ. وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المضزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك.
وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً، أشهرُها وأفصحُها: جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل، وهي قراءةُ أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغةُ الحجازِ، قال ورقةُ بنُ نوفل:
626 - وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما * مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ
وقال حسان:
(2/2)
---(1/423)
627 - وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا * وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ
وقال عمران بن حطان:
628 - والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له * وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً
الثانيةُ: كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفراء: "لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل". وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين: قسمٍ ألحقُوه بأبنتيِهم كلِجام، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر، وعن اب: فلا أزال أقرؤهُما كذلك. الثالث: جَبْرَئيل كعَنْتَريس، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي، وقال حسان:
629 - شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ *َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وقال جرير:
630 - بَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ * وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا
(2/3)
---(1/424)
الرابعةُ: كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر. الخامسة: كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و "إلَّ" بالتشديد اسمُ الله تعالى، وفي بعض التفاسير: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} قيل: معناهُ الله. ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة: "هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ". السادسة: جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ، وبها قرأ عكرمةُ. السابعةُ: مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ. الثامنة: جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً. التاسعةُ: جِبْرال. العاشرة: جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف. الحاديةَ عشرةَ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم. الثالثةَ عشرةَ: جَبْرايين. والجملةُ مِنْ قولِه: "مَنْ كان" في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والضميرُ في قوله: "فإنَّه" يعودُ على جبريل ، وفي قوله "نَزَّلَه" يعودُ على القرآنِ ، وهذا موافقٌ لقولِه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} في قراءةِ مَنْ رَفَع "الروح"، ولقولِه "مصدِّقاً"، وقيل: الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل ، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ "نَزَل به الروح} بالتشديدِ والنَّصْبِ ، وأتى بـ"على" التي تقتضي الاستعلاء دونَ "إلى" التي تقتضي الانتهاء ، وخَصّض القلبَ بالذكر ؛ لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون "على قلبي" - لأحدِ أمرَيْنِ: إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك : قل لقومِك لا يُهينوك ، ولو قلت : لا تُهينوني لجازَ ، ومنه قولُ الفرزدق:
(2/4)
---(1/425)
631 - ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ: ما ليا
فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ بـ"مالك"؟، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد "قُلْ"، والتقديرُ: قُلْ يا محمد: قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ ، وعليه نَحَا الزمخشري بقولِه : "جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى ، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي : مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ" فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ "قُلْ"، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ "قُلْ" بالتأويل المذكورِ أولاً ، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ.
قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل: "نَزَّله" إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل ، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في "نَزِّلَ" يعودُ على الله، والتقديرُ: فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله. [والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ، والإِيذانُ: الإِعلامُ]، أَذِنَ به: عَلِمَ به. وأذَنْتُه بكذا: أَعْلَمْتُه به، ثم يُطْلَقُ على التمكينِ، َذِن لي في كذا: أَمْكَنني منه، وعلى الاختيارِ: فَعَلْتُه بإذنك: أي باختيارِك، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي: بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك.
قولُه: "مُصَدِّقاً" حالٌ من الهاءِ في "نَزَّلَه" إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً، والثاني: أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدٌ، والهاءُ في "بين يديه" يجوزُ أن تعودَ على "القرآنِ" أو على "جِبْريل".
(2/5)
---(1/426)
و "هُدَىً وبُشْرَى" حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هُدَىً، و "بُشْرى" ألفُها للتأنيثِ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطاباً للترتيبِ الوجودِيِّ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ، والثاني: أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه. والثالث: أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه.
* { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ }
(2/6)
---(1/427)
قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً}: الكلامُ في "مَنْ" كما تقدَّم، إلاَّ أَنَّ الجوابَ هنا يَجثوز أن يكونَ {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}، فإنْ قيل: وأين الربطُ؟ فالجوابُ مِنْ وَجْهين أحدُهما: أنَّ الاسم الظاهرَ قامَ مَقام المضمرِ، وكان الأصلُ: فإنَّ الله عَدُوٌّ لهم، فأتى بالظاهرِ تنبيهاً على العلةِ. والثاني: أن يُرادَ بالكافرين العموم، والعموم من الروابط، لاندراجِ الأولِ. تحتَه. ويجوزَ أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: مَنْ كانَ عَدُوَّاً لله فقد كَفَر ونحوُه. وقال بعضهم: الواوُ في قوله: {وَمَلاائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بمعنى أو، قال: لأنَّ مَنْ عادى واحداً من هؤلاء المذكورين فالحكمُ فيه كذلك. وقال بعضُهم: هي للتفصيلِ، ولا حاجةَ إلى ذلك، فإنَّ هذا الحكمَ معلومٌ، وَذَكر جبريلَ وميكالَ بعد اندراجهما أولاً تنبيهاً على فَضْلِهما على غيرِهما من الملائكةِ، وهكذا كلُّ ما ذُكِرَ: خاصٌ بعد عامٍ، وبعضهم يُسَمِّي هذا النوعَ بالتجريدِ، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصاً له بمزيَّةٍ، وهذا الحكمُ - أعني ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ - مختصٌّ بالواوِ، لا يَجُوز في غيرِها من حروف العَطْف.
(2/7)
---(1/428)
وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وهذا فيه نظر؛ فإن "فاكهةٌ" من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات، وليست من العمومِ في شيءٍ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ. وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ} لأنه لو أُضْمِر فقيل: "فإنَّه" لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ. وميكائيل اسمٌ أعجمي، والكلامُ فيه كلاكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله او أن "مِيك" بمعنى عبد، و "إيل" اسمُ الله، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك.
وفيه سبعُ لغاتٍ: مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، قال: 632 - ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ * فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ
وقوله:
633 - ................... * ............ وكَذَّبوا مِيْكالا
(2/8)
---(1/429)
الثانيةُ: كذلك، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع. الثالثة: كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين. الرابعة: مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك إلاَّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ/ مِيكَعِل وقُرىء بها. السادسةُ: ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءَل بهمةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال: إسراءَل. وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن "جَبْر" بمعنى عَبْد بالتكبير، و "مِيكا" بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جِبْريل: عبد الله، ومعنى مِيكائيل: عُبَيْد الله قال: "ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ". قوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ.
* { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ}: الجمهورُ على تحريك واو "أَوَ كلما" واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال، فقال الأخفش: إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها. وقال الكسائي: هي "أَوْ" العاطفةُ التي بمعنى بل، وإنما حُرّكَتِ الواوُ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً. وقال البصريون: هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده، لذلك قَدَّره هنا: أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا.
(2/9)
---(1/430)
وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي: "أَوْ كلَّما" ساكنةَ الواو، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال، فقالَ الزمخشري: "إنها عاطفةٌ على "الفاسقين"، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ} أي: الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا. وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى، وقال المهدوي: "أَوْ" لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ، يعني أنَّها بمعنى بل، وهذا رأيُ الكوفيون وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله:
634 - ....................... * .............. أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ
في أولِ السورةِ، وقالَ بعضُهم: هي بمعنى والواوِ فتتفقُ القراءتان، وقد ثَبَتَ ورودُ "أو" بمنزلةِ الواوِ كقوله:
635 - ...................... * ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
{خَطِيائَةً أَوْ إِثْماً}{آثِماً أَوْ كَفُوراً} فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم. والناصبُ لكُلَّما بعدَه، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وانتصابُ "عَهْداً" على أحدِ وَجْهين: إمَّا علت المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ: "معاهدةً"، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا معنى أَعْطَوا، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقديرُ: عاهدوا الله عَهْدَاً.
وقُرِىءَ: "عَهِدُوا" فيكونُ "عهْداً" مصدرا / جارياً على صَدْرِه، وقُرىء أيضاً: "عُوْهِدُوا" مبنياً للمفعولِ"
(2/10)
---(1/431)
قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} هذا فيه قولان، أحدُهما: أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ، وتكونُ "بل" لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ "بل" لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ. والثاني: أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ "أكثرُهم" معطوفاً على "فريقٍ"، و "لا يؤمنون" جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من "أكثرُهم". وقال ابن عطية "من المضافِ إليه لنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ: وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ، والنَّبْذُ: الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ.
* { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ}: "الكتابَ" مفعولٌ ثانٍ لـ"أُوْتُوا" لأنه يتعدَّى في الأصلِ إلى اثنين. فأُقيم الأولُ مُقام الفاعلِ وهو الواوُ، وبقي الثاني منصوباً، وقد تَقَدَّم أنه عند السهيلي مفعولٌ أوَّلُ، و "كتابَ الله" مفعولُ نَبَذَ، و "وراءَ" منصوبٌ على الظرفِ وناصبُه "نَبَذَ"، وهذا مَثَلٌ لإِهمالِهم التوراةَ، تقولُ العرب: "جَعَلَ هذا الأمرَ وراءَ ظهره ودَبْرَ أذنِه" أي: أهمله، قال الفرزدق:
636 - تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي * بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها
(2/11)
---(1/432)
والنَّبْذُ: الطَّرْحُ - كما تقدَّم -. وقال بعضُهم: "النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة، إلا أن النبذَ أكثرُ ما يقال في المبسوط والجاري مَجْراه، والإِلقاء فيما يُعْتبر فيه ملاقاةٌ بين شيئين" ومن مجيء النَّبْذ بمعنى الطرح قوله:
637 - إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا * نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما
وقال أبو الأسود:
638 - وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما * أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا
نظْرتَ إلى عنوانِ فنبذْتَه * كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
قوله: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وصاحبُها، فريقٌ، وإنْ كان نكرةً لتخصيص بالوصفِ، والعامل فيها: نَبَذَ، والتقدير: مُشْبهين للجُهَّال. ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه: أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ، والمعنى: أنهم كفروا عِناداً.
* { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ}: هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه: "ولمَّا جاءَهم" إلى آخرها.
(2/12)
---(1/433)
وقال أبو البقاء: "إنها معطوفةٌ على "أُشْرِبوا" أو على "نَبَذَ فريقٌ"، وهذا ليس بظاهر، لأنَّ عطفَها على "نَبَذَ" يقتضي كونَها جواباً لقولِه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم. و "ما" اتِّباعُهم لذلك قبله، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم. و "ما" موصولةٌ، وعائدُها محذوفٌ، والقديرُ: تَتْلوه. وقيل: "ما" نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ، نقل ذلك ابنُ العربي. و "يَتْلو" في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله:
639 - وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه * كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها * فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَابائحِ
أي: فلقَدْ كان، وقال الكوفيون: الأصلُ: ما كانت تَتْلو الشياطينُ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ "ما" محذوفةٌ، وهي "كانَتْ"، و "تتلو" في موضعِ الخبرِ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى، وهو نظيرُ: "كانَ زيدٌ يقوم" المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي
وقرأ الحسن والضحاك: "الشياطُون" إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ، قالوا: وهو غَلَطٌ. وقال بعضُهم: لَحْنٌ فاحِشٌ. وحكى الأصمعي: "بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون" وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن.
(2/13)
---(1/434)
قوله: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فيه قولان: أحدثهما: أنه على معنى في، أي: في زمنِ ملكِه، والمُلْكُ هنا شَرْعُه. والثاني: أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى: تتقوَّل أي: تتقوَّل على مُلْكِ سليمان، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ}. وهذا الثاني أَوْلَى، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة. وإنما أَحْوَجَ غلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى بـ"على" كان المجرورُ بـ"على" شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو: تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ، والمُلْكُ ليس كذلك.
والتلاوةُ: الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه. وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ. وقال أبو البقاء: "وفيه ثلاثةُ أسبابٍ: العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ" وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية، وكَرَّر قولَه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله:
640 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * ..................
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
(2/14)
---(1/435)
قوله: {} هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها. وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ "لكنْ" ورَفْعِ ما بَعْدها، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ. وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ "لكنْ" مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ. وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ، وكانَ ما بعدَها مفرداً، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً، وهو قويٌّ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم: ما قام زيدٌ لكن عمروٌ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ. وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ، قال زهير:
641 - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ * لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء: "الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ" وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ. وأبعدَ مَنْ زضعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ: لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً.
(2/15)
---(1/436)
قوله: {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ} "الناسَ" مفعولٌ أولُ، و "السحرَ" مفعولٌ ثانٍ. واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال، أحدُها: أنها حالٌ من فاعل "كفروا"، أي: كفروا مُعَلِّمينَ. الثاني: أنها حالٌ من الشياطين، ورَدَّه أبو القاء بأنَّ "لكنّ" لا تعملُ في الحال. وليس بشيء فإن "لكنَّ" فيها رائحةُ الفعل. الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين. الرابعُ: أنها بدلٌ من "كَفروا" أبدلض الفعلَ من الفعلِ. الخامسُ: أنَّه استئنافيةٌ، أخبرَ عنهم بذلك، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من "يُعَلِّمون" على الشياطين، أمَّا إذا أَعَدْناه على {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} فتكونُ حالاً من فاعلِ "اتَّبعوا"، أو استئنافيةً فقط. والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ. سَحَرَهُ. إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. قال:
642 - ................... * أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَره: أي خَدَعَه وعَلَّله، قال امرؤ القيس:
643 - أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ * ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصلِ: مصدرٌ يُقال: سَحَرَه سِحْراً، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً.
(2/16)
---(1/437)
قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ} فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ "ما" موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على "السِّحْر"، والتقديرُ: يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن. الثاني: أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} والتقديرُ: واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً. الثالث: أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على "مُلْكِ سليمان" والتقديرُ: افتراءً على مُلْكِ سُلَيءمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين. وقال أبو البقاء: "تقديرُه: وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل". الرابع: "أنَّ "ما" حرفُ نفيٍ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها، وهي { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، والمعنى : وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ.
والجمهورُ على فَتْح لام "المَلَكَيْن" على أنَّهما من الملائكة، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ، وسيأتي تقريرُ ذلك.
قوله {بِبَابِلَ} متعلِّقٌ بأُنِزِلَ، والباءُ بمعنى "في" أي: في بابل: ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في "أُنْزل" فيتعلَّق بمحذوفٍ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء.
(2/17)
---(1/438)
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية، وسُمِّيَتْ بذلك قال: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ. والبَلْبَلَةُ: التفرقةُ، وقيل: لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها "ثمانينَ"، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً. وقيل: لِتَبَلْبُلِ أسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود.
قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} الجمهورُ على فَتْح تائِهما، واختلف النحويون في غعرابهما، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في "المَلَكَيْنِ": فَمَنْ فَتَحَ لامَ "المَلَكَيْنِ" وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بَدَلُ من "الملَكَيْنِ"، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ. الثاني: أنهما عطفُ بيانٍ لهما. الثالث: أنهما بدلٌ من "الناس" في قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان. الرابع: أنهما بدلٌ من "الشياطين" في قوِه: "ولكنَّ الشياطينَ" في قراءةِ مَنْ نَصَبَ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم. وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ. وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ "الشياطين" فلا يكونُ "هاروت وماروت" بدلاً منهم، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ، أي: أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها، كقولِه:
644 - أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها * وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
(2/18)
---(1/439)
أي: أذمُّ وجوهَ قرودٍ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه، أو يكونان بدلاً من "الناس" كما تقدَّم. وقرأ الحسن: هاروتُ وماروتُ برفعهما، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هما هاروتُ وماروتُ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من "الشياطين" الأولِ، وهو قولُه: {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه. ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما، ولو كانا مشتقَّينِ كام ذُكِر لانْصَرَفا.
قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها. والجمهور على "يُعَلِّمان" مُضَعَّفاً، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين: أحدُهما: أنه على بابِه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يُعْلِمان من "أَعْلم"، فالتضعيفُ والهمزةُ متعاقبان، قالوا: لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف، وكان يقرأ: "يُعْلِمان" من الإِعلام. وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير:
645 - تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً * فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
وقولَ القطامي
646 - تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً * وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
وقول كعب بن مالكِ:
647 - تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي * وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
وقول الآخر:
648 - تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا * على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ
(2/19)
---(1/440)
والضميرُ في "يُعَلِّمان" فيه قولان، أحدُهما: أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت، والثاني: أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ: "وما يُعَلم الملكان"، والأولُ هو الأصحُّ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول: "هندٌ حُسْنُها فاتِنٌ" ولا تقول: "فاتنةٌ" مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله:
649 - إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها * تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
وقول الآخر:
650 - فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه * ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: تَرَكَتْ، وفي قوله: مُعَيَّن، ولو راعى ابَدَلَ وهو الكثيرُ لقال: تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر:
651 - فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ * ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة. وأجاب الشيخ عن البيتين بأن "رَواحَهَا وغدوَّها" منصوبٌ عل الظرفِ، وأن قول "مُعَيَّنٌ" خبرٌ عن "حاجِبَيْه" وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك، قال:
652 - .......................... * بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ
وقال:
653 - لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ * أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه، قال:
654 - إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى * بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و "مِنْ" زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق، لأنَّ "أحداً" يفيدُه بخلافِ: "ما جاءَني من رجلٍ" فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ، و "أحد" هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها. وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو.
(2/20)
---(1/441)
قوله: {حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} حتى: حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" ولا يجوزُ إظهارها، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ، والتقديرُ: إلى أَنْ يقولا، وهي متعلقةٌ بقولِه: "وما يُعَلِّمانِ" والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ" وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن كثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد:
655 - ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً * حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ
قال: "تقديرُه: إلا أَنْ تجودَ".
واعلم أنَّ "حتى" تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية، وكقولِه: {حَتَّى مَطْلَعِ [الْفَجْرِ]}، وتكونُ حرفَ عطفٍ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [الجملُ كقوله]:
656 - فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها * بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [فلذلك لا يكون ما بعدها] إلا غايةً لِما قبها: إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى. و "إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ، وقد تقدّضم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَهاه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وكذلك: "فَلا تَكْفُرْ".
قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ، أظهرُها، أنَّها معطوفةٌ على قولِه: "وما يُعَلِّمان" والضميرُ في "فيتعلَّمون" عائدٌ على "أحد".
(2/21)
---(1/442)
وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى، نحو قولِه: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، فإن قيل: المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ "فيتعلَّمون" منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى. فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ} وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى: يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما: إنما نحنُ فتنةٌ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه.
الثاني: أنه معطوفٌ على { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} قاله الفراء. وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في "يُعَلِّمون" مع إتيانِه بضميرِ التنثية في "منهما"، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ: "منهم" لأجلِ "يَعَلِّمون"، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه، وقالوا: لا يمتنع عَطْفُ "فيتعلَّمون" على "يُعَلِّمون" وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً، والضميرُ في "منهما" راجعٌ إليهما، فإنَّ قوله "منهما" إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ. وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ، وذلك أَنَّ الضميرَ في "مِنهما" عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ "فيتعلَّمون منهما" عَطْفٌ على "يُعَلِّمون" فيكونُ التقديرُ: "يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما" فيلزم الإِضمارُ في "منهما" قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ.
(2/22)
---(1/443)
الثالث: - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على "كفروا"، و "كفروا" فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ، قال سيبويه: "وارْتفَعَتْ "فيتعلَّمون" لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا: لا تَكْفُرْ فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه، ولكنه على: كفر فيتعلَّمون"، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس "فيتعلَّمون" جواباً لقولِه: "فلا تَكْفُرْ" فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ: "فَيُسْحِتَكم" بعدَ قولِه: "لا تَفْتَرُوا" لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم. وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه.
الرابع: وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: "فهم يتعلَّمون"، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ.
الخامس: قال الزجاج أيضاً: "والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على "يُعَلِّمان فيتعلَّمون" فاستغنى عِنْ ذكرِ "يَعَلِّمان" على ما في الكلام من الدليل عليهِ". واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال: "لا وجهَ لقولِه: "استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان" لأنه موجودٌ في النص". وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ "فيتعلَّمون" عطلفٌ على "يُعَلِّمان" المنفيِّ بـ"ما" في قوله "وما يُعَلِّمان" حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو: يَعَلِّمان فيتعلَّمون.
السادس: انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام، والتقديرُ: فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً.
(2/23)
---(1/444)
السابع: قال أبو البقاء: "وقِيل هو مستأنَفٌ" وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه. هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ - رحمه الله - فيها فأمتعَ.
قوله: {مِنْهُمَا} متعلِّقٌ بيُعَلِّمون. و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها. والثاني: أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ، والثالث: أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه "فَلا تَكْفُرْ" وهو قولُ أبي مسلم.
قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} الظاهرُ في "ما" أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في "به" عليها، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة.
(2/24)
---(1/445)
و "بين المرءِ" ظَرْفٌ لـ"يُفَرِّقون". والجمهورُ على فَتْحِ ميم "المَرْء" مهموزاً وهي اللغة العالية. وقرأ ابنُ أبي إسحاق: "المُرْء" بضمِّ الميمِ مهموزاً، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ: "المِرْء" بكسر الميم مهموزاً. فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع، وذلك أنَّ في "المَرْء" لغةً، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ. تقول: "ما قام المُرْءُ" بضم الميم، و "رأيت المَرْءَ" بفتحها، و "مررت بالمِرْءِ" بكسرِها. وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه: "أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن" أي: أخلاقكم. وقرأ الحسن والزهري: "المِرِ" بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً، وهو قياسٌ مُطَّرد. / وقرأ الزهري أيضاً: "المَرِّ" بتشديد الراء من غير همز، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً، كما رُوي عن عاصم "مُسْتَطرٌّ" بتشديد الراء، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
قوله: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يجوز في "ما" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الحجازيةَ فيكون "هم" اسمَها، و "بضارِّين" خبرَها، والباءُ زائدةٌ، فهو في محلِّ نصبٍ، والثاني: أن تكونَ التميميةَ، فيكونَ "هم" مبتدأ، و "بضارِّين" خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ. والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ "فيتعلَّمون". الثاني: يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ "واتَّبَعوا". الثالث: يعودُ على الشياطين. والضميرُ في "به" يعودُ على "ما" في قولِه: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ}.
(2/25)
---(1/446)
والجمهورُ على "بضارِّين" بثباتِ النونِ و "من أحدٍ" مفعولٌ به، وقرأ الأعمشُ: "بضارِّي" من غيرِ نونٍ، وفي توجيهِ ذلك قولان، أظهرُهما: أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر:
657 - ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني * لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم
أي: بمُذْعنين، ونظيرُه في التثنية: "قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا. يريدون: ثِنْتان ومِئَتان. والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ عطية -: أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى "أحد" وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو "به" كما فُصِل به في قول الآخر:
658 - هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله * إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
وفي قوله:
659 - كام خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً * يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال: "فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن؟ قلت: جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور"، قال الشيخ: "وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ، وأقبحُ من ذلك ألاَّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه" وفي قولِ الشيخ نظرٌ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام.
وأمَّا قولُه: "لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه" فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي، وهذا إنما قال: نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين: الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه.
(2/26)
---(1/447)
و "مِنْ" في "مِنْ أَحَد" زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ}. وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء: إنَّ "أَحَداً" يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ، والمعهودُ زيادةُ "مِنْ" في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو: "ما ضَربْتُ من أحدٍ" إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى: وما يَضُرُّون من أحدٍ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثوبتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية.
قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ. فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ المستكِنُّ في "بضارِّين". الثاني: أنه المفعولُ وهو "أَحَدٍ" وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ. والثالثُ: أنَّه الهاءُ في "به" أي بالسحرِ، والتقديرُ: وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك. والرابعُ: أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه.
(2/27)
---(1/448)
قوله: وَلاَ يَنفَعُهُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على "يَضُرُّهم" فتكونُ صلةً لـ"ما" أيضاً، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب. والثاني - وأجازه أبو البقاء -: أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: وهو لا ينفعُهم، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه: "ما يَضُرُّهم"، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع، قال أبو البقاء: "ولا يَصِحُ عَطْفُه على "ما" لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم" وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه. وأتى هنا بـ"لا" لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ. والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان، يقال: ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي، والمصدرُ: الضُّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً، قال الشاعر:
660 - تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها * بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها
وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ، ونَقَلَ بعضُهم: أنَّه لا يُبْنَى من "نفع" اسمُ مفعول فَيُقال: مَنْفُوع، والقياسُ لا يَأْباه.
(2/28)
---(1/449)
قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. و "عَلِمَ" يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ: إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها، فإن اعتقدنا تعدِّيضها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً، ونظيرُه في الكلامِ: عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ. والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد "عَلِم" في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ:
661 - وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى * ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ "مُوجعات" على أنه عَطْفٌ على محلذِ "ما الهوى"، وفي البيت كلامٌ، إذ يُحتمل أن تكونَ "ما" زائدةً، و"والهوى" مفعولٌ به، فَعَطَفَ "موجعات"ِ" عليه، ويُحتمل أن تكونَ "لا" نافيةً للجنس و "نوجعاتِ" اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت.
والضميرُ في "عَلِموا" فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ.
(2/29)
---(1/450)
قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ لـ"عَلِم" عن العملِ كما تقدّم، و "مَنْ" موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "اشتراهُ" صلتُها وعائدُها. و {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: ما له خلاقٌ في الآخرةِ. وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً لـ"مَنْ" الموصولةِ فالجملةُ من قوله: "ولقد عَلِموا" مقسمٌ عليها كما تقدَّم، و "لَمَن اشتراه" غيرُ مقسمٍ عليها، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور. الثاني - وهو قول الفراء، وتَبِعه أو بالبقاء -: أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ، و "مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} جوابُ القسمِ، فـ"اشتراه" على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ. ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله:
662 - لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً * أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا
ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلاَّ وفعلُه ماضٍ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله:
663 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ * لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ} مُقْسَماً عليهما، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال: "هذا ليس موضعَ شرط" ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك. والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ، أنَّ الفعل بعد "مَنْ" وهو "اشتراه" ماضٍ لفظاً ومنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً منعنىً.
(2/30)
---(1/451)
والخلَلاقُ: النَّصِيبُ، قال الزجاج: "أكثرُ استعمالِه في الخيرِ" فأمَّا قولُه:
664 - يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ * إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ
فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله:
665 - ......................... * تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ
والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا، والثالث: أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة. والخَلاقُ: القَدْر قال:
666 - فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ * وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ
أي: من قَدْرٍ ورتبةٍ، وهو قريبٌ من الأولِ. والضميرُ المنصوبُ في "اشتراه" فيه أربعةُ أقوالٍ: يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه. وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه: "ولَبِئْس ما" وما ذَكَر الناسُ فيها. واللامُ في "لَبِئْسَهما" جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لَبِئْسَما، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: السحرُ أو الكفرُ.
(2/31)
---(1/452)
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه: لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: "لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ" لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى. والمضيرُ في "به" يعودُ على السحرِ أو الكفرِ، وفي "يَعْلَمُون" يعودُ على اليهود باتفاق، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري وغيرُه، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في "عَلِمُوا" و "يَعْلَمُوا"، وذلك أنَّ الزمخشري قال: "فإنْ قلتَ:كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولاَّ في "ولقد عَلِمُوا" على سبيلِ التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قولِه: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} قلت: معناه: لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم، جَعَلهم حينَ لم يَعْملَوا به كأنهم مُنْسلخون عنه" وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في "عَلِموا" و "يَعْلَمون" لشيءٍ واحدٍ. وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه ، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي: عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في "عَلِموا" على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد عليه العلمُ حينئذ.
* { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
(2/32)
---(1/453)
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ}: "لو" هنا فيها قولان، أحدثهما: أنها على بابِها من كوِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وسيأتي الكلامُ في جوابها. وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي: ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حنيئذٍ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ.
و "أنهم آمنوا" مؤولٌ بمصدرٍ، وهو في محلِّ رفعٍ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال، كما شَذَّ نصبُ "غُدْوَةً" بعد "لَدُنْ". وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ "أَنَّ"، وصَحَّح الشيخ هذا في سورة النساء، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في "أنَّ" الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم. والثاني: - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه: ولو ثَبَتَ إيمانُهم، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه، وهذا يُحْمَلُ على المبرد، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها. والضميرُ في "أنهم" فيه قولان، أحدُهما: عائدٌ على اليهودِ، والثاني: على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ.
(2/33)
---(1/454)
قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه، وعلى هذا فجوابُ "لو" محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره: لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ لو، فإنَّ "لو" تجابُ بالجملةِ الاسميةِ. قال الزمخشري: "أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في "سلامٌ عليكم" وفي قوع جوابِ "لو" جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع. قال الشيخ: "لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ.
ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما: أنَّ وزنَها مَفْعُولة والأصلُ مَثْوُوْبَة، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي. والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال: "مَثْوَبة" بسكون الثاءِ وفتحِ الواو، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال: "مَثُابة" كمَقامَة، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة. ومعنى "لَمَثُوبة" أي: ثوابٌ وجزاءٌ في من الله. وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله.
(2/34)
---(1/455)
قوله: {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله. والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره. قال الشيخ: "وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ" قلت: ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ، حتى قو قيل في الكلام: "لَمَثُوبة خيرٌ" من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ. والتنكيرُ في "لَمَثُوبَةٌ" يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وقوله "خيرٌ" خبرٌ لِمَثُوبَةٌ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ، كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}{ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ تقديرُه: لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى، وكذلك قَدَّرَه، بعضُهم: لآمنوا. وفي مفعولِ "يَعْلَمُون" وجهان: أحدُهما: أنه محذوفٌ اقتصاراً أي: لو كانوا من ذوي العلمِ، والثاني: أنه محذوفٌ اختصاراً، تقديرُه: لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى.
* { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(2/35)
---(1/456)
قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}: الجمهورُ على "راعِنا" أمرٌ من المُراعاة، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه، و "راعِنا" يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه: ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه السلام. وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة: "راعِناً" بالتنوين، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً راعناً، وهو على طَريقِ النَسَب كلابن وتامر، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذارُعونة. والرُّعونة: الجَهْل والحُمْق والهَوَج، وأصلُ الرُّعونة: التفرُّقُ، ومنه: "جَيْشٌ أَرْعَنُ" أي: متفرِّقٌ في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ، وقيل للبَصْرةِ: الرَّعْناء، قال:
766 - لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له * ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا
قيل: سُمِّيت بذلك لأنها أَشْبَهت "رَعْنَ الجبلِ" وهو الناتِيءُ منه، وقال ابن فارس: "يقال: رَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً". وقرأ أُبَيّ: راعُونا، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً، وفي مصحفِ عبدِ الله أيضاً، "ارْعَوْنا" لِما تقدَّم. والجملةُ في محل نصبٍ بالقول، وقَدَّم النهيَ على الأمرِ لأنه من باب التروك فهو أَسْهَلُ.
قوله: "انظُرْنا" الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والجمهورُ على "انظُرْنا" بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراء من الثلاثي، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخر، أي: أَخِّرْنا وتأنَّ علينا، قال المرؤ القيس:
668 - فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً * من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ
وقيل: هو من نَظَر أي: أبْصَرَ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى بـ"إلى"، ومنه:
669 - ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ * نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ
(2/36)
---(1/457)
أي: إلى الأراك، وقيل: مِنْ نَظَر أي: تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي: انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش: "أَنْظِرْنَا" بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى: أَمْهِلْنا وأخِّرْنا، قال الشاعر:
670 - أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا * وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا
أي: أَمْهِلْ علينا، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في الحديد: :انظُرونا نقتبسْ" فإنها قُرِئَتْ بالوَجْهَيْنِ.
* { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: في "مِنْ" قولان: أحدهُما: أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ. الثاني: أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري.
(2/37)
---(1/458)
قوله: {وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} عطفٌ على "أَهْلِ" المجرورِ بمِنْ و "لا" زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} بغيرِ زيادة "لا". وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة، نحو: "برؤوسكم وأرجلكِم" في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: "ويجوزُ: ولا المشركونَ بعطفِه على "الذين" وقال أبو البقاء: "وإنْ كان قد قرىء "ولا المشركون" بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك" وهذان القولان يؤيِّد ان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار.
قوله: {أَن يُنَزَّلَ} ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ بـ"يَوَدُّ" أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه: "من ربكم"، وأتى بـ"ما" في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك.
قولُه: {مِّنْ خَيْرٍ} / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ، و "مِنْ" زائدةٌ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم. وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان "يُنَزَّل" لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها.
(2/38)
---(1/459)
وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو: "ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ" برفع "زيداً بدلاً من فاعِل "يقول" وإنْ لم يباشر النفيَ، لكنه في قوةِ: "ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني" وقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ، وهذا على رأس سيبويه وأتباعِه. وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا. وقيل: "مِنْ" للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل: "عليكم" والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} في "مِنْ" أيضاً قولان، أحدُهما: أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل. والثاني: أنها للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه: "مِنْ خيرٍ" أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ "مِنْ" زائدةٌ في "خير" فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدّضم. وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ "مِنْ" قولين، الأولى: قيل إنها للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، وفي الثانيةِ قولان: زائدةٌ أو للتبعيضِ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ.
(2/39)
---(1/460)
قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك. و "يختصُّ" يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً، فإنْ كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، وتكون "مَنْ" مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو: كَسَب مالاً واكتسَبه، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه "مَنْ" أي: واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ. و "مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ، أي: يشاءُ اختصاصَه، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ "يشاء" معنى يَخْتار، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي: يَشاؤه، و "يشاءُ" على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً.
* { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} .. في "ما" قولان: أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له، والتقدير: أيَّ شيءٍ نَنْسَخ، مثلَ قوله {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ}. والثاني: أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ، و "مِنْ آيةٍ" هو المفعولُ به، والتقديرُ: أَّ نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً، قاله أبو البقاء وغيرُه، وقالوا: مجيءُ "ما" مصدراً جائز وأنشدوا:
671 - نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلُ * ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
(2/40)
---(1/461)
وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين، أحدثُهما: أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في ذلك عند قولِه: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ}. والثاني: أنَّ "مِنْ لا تُزَادُ في الموجَبِ، والشرطُ موجَبٌ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ.
وقرأ ابنُ عامر: "نُنْسِخْ" بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ، قال أبو حاتم: "هو غلطٌ" وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه، وقال أبو عليّ: ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال: نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى: ما نَجِدْه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ"، فالهمةُ عنده ليس للتعديةِ. وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ، إلا أانهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها، أي: الإِعلامُ به، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً.
(2/41)
---(1/462)
وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له، قال: "ويكونُ المعنى: ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في "منها" و "بمثلها" عائِدَيْنِ على الضمير في "نَنْسَأْها" قال الشيخ: "وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضيرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ، و "ما" في قوله: "ما نَنْسَخْ" شرطيةٌ، وقولُه "أو نَنْسَأْها" عائدٌ على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو: عندي درهمٌ ونصفُه، فهو في الحقيقة على إضمار "ما" الشرطيةِ، التقدير: أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء، ولكن يبقى قولُه: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله".
قوله: {مِنْ آيَةٍ} "مِنْ" للتبعيضِ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً، والمعنى: أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات فـ"آية" مفرد وقع موقِعَ الجمعِ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ}{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: "مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ" تناوَلَ النساءَ والرجالَ، فإذا قلت: "مِن الرجالِ" بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط.
(2/42)
---(1/463)
وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين، أحدهما: أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز، والممَّيز "ما" والتقدير: أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ، قال: "ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ "آية" وبين المميَّز بآية، لا تقول: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز. والثاني:
أنها زائدةٌ وآية حال /، والمعنى: أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت "آية" حالاً في قوله: {هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} أي: "علامة" وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ بـ"مِنْ"، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها، و "مِنْ" زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل "ما" واقعةً موقع المصدر، فهذه أربعةُ أوجه.
(2/43)
---(1/464)
قولِه: {أَوْ نُنسِهَا} "أو" هنا للتقسين، و "نُنْسِها" مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه. وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً: "نَنْسَأها" بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزٍ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن عطية: "وأراه وَهِمَ". الثالثة: "تَنْسَها" بفتح التاء التي للخطاب، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ، وهي قراءةُ الحسن، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص: "إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضومةٍ وسينٍ مكسورة فقال: إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ" وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه. الرابعةُ: كذلك إلا أنه بالهمز: الخامسةُ: كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة: السادسةُ: كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ. السابعة: "نُنْسِها" بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ. الثامنةُ: كذلك إلا أنه بالهمز. التاسعةُ: نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء. العاشرةُ: "نُنْسِكَ. بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب. الحاديةَ عشرة: كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً. الثانيةَعشرةَ: كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف: "نُنَسِّكَها" وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه. الثالثةَ عشرةَ: " ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها" وهي قراءةُ الأعمش، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ(1/465)
(2/44)
---
عبد الله.
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم: نَسَأَ الله وأَنْسضأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي: أَخَّرَه، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً، وتقولُ العرب: نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً، وأنْسَأَ الإِبلَ: إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء. الثاني: نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن زيد. الثالث: نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد، وهو ضعيفٌ لقوله: نَأْتِ بخيرٍ منها، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه: نَأْتِ بخير منه.
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان: أظهرُهما: أنها من النسيانِ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ، وفي بعضِها التركَ. والثاني: أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان. ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء: "نَنْسَاها" من الثلاثي فواضحٌ. وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: نُنْسِكَها، أي:نجعلُك ناسياً لها، أو يكونُ المعنى: نَأْمُرُ بتركها، يقالك أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه، وأنشدوا:
672 - إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها * لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها
(2/45)
---(1/466)
أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءت فقال: "هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك، لا يُقال: أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه: "ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها" وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ، وقال: "إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً"، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك. وأجابَ الفارسي عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع. وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس.
(2/46)
---(1/467)
قوله: "نَأْت" هو جوابُ الشرط، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ، أعني: مجيئهما مضارِعَيْن. وقوله: "بخيرٍ منها" متعلِّقٌ بِنَأْتِ، وفي "خير" هنا قولان، الظاهرُ منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ، وقولُه: "أو مثلِها" أي في التكليف والثواب، وهذا واضحٌ. والثاني: أن "خيراً" هنا مصدرٌ، وليس من التفضيلِ في شيء، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ، كخير في قوله: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} و "مِنْ" لابتداء الغاية، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه "خير" أي: خيرٌ صادِرٌ من جهتِها، والمعنى عند هؤلاء: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء. وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك: "أو مثلِها" فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على "بخير" على هذا المعنى، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ، فيكونَ المعنى: نَأْتِ بخيرِ من الخُيور، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء. وأمَّا عَطْفُ "مثلِها" على الضمير في "منها"، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين، لعدمِ إعادةِ الخافضِ، وقوله "ما نَنْسَخْ" فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم، ألا ترى أنَّ قبله "واللهُ يَخْتَصُّ"{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ}.
والنَّسْخُ لغةً: الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [نحو:] نَسَخْتُ الكتابَ، وقال بعضهُم:
(2/47)
---(1/468)
"والنسخُ: الإِزالةُ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن: ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو: "نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ" فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه، ومن {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}، والثاني: أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو: نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه: فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ، النسيئة: التأخيرُ كما تقدَّم، والإمضاءُ أيضاً قال:
673 - أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها * على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ
* { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ}: هذا استفهامٌ معناهُ التقريرُ، فلذلك لم يَحَتَجْ إلى معادِلٍ يُعْطَفُ عليه بـ"أم"، وأَمْ في قولِه: "أم تُريدون":
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ} ... يجوزُ في "مُلْك" وجهان، أحدُهما أنَّه مبتدأٌ وخبرُه مُقَدَّمِ عليه، والجملةُ في محلَّ رفعٍ خبرٌ لـ"أنَّ". والثاني: أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ، رَفَعَه الجارُّ قبله عند الأخفش، لا يقال: إنَّ الجارَّ هنا قد اعتمد لوقوعِه خبراً لـ"أَنَّ"، فيرفعُ الفاعلَ / عند الجميع، لأنَّ الفائدة لم تتمَّ به فلا يُجْعَلُ خبراً. والمُلْكُ بالضمِّ الشيءُ المَمْلوك، وكذلك هو بالكسرِ، إلا أنَّ المضمومَ لا يُسْتَعْمَل إلا في مواضِع السَّعَةِ وبَسْطِ السُّلْطانِ.
(2/48)
---(1/469)
قوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدُهما: كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ "لكم" خبراً مقدماً، و "مِنْ وليّ" مبتدأً مؤخراً زيدت فيه "مِنْ" فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ. والثاني: أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمض خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ، فيكونُ "لكم" في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً، و "مِنْ وليّ" اسمها مؤخراً، و "مِنْ" فيه زائدةٌ أيضاً، و {مِّن دُونِ اللَّهِ} فيه وجهان، أحدثهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به "لكم" من الاستقرارِ المقدَّرِ، و "مِنْ" لابتداءِ الغاية. والثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، قاله أبو البقاء. فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به "لكم". ولا نصير" عطفٌ على لفظِ "ولي" ولو قُرِىءَ برفعِهِ على الموضِع لكان جائزاً. وأتى بصيغة فَعيل في "وليَّ" و "نَصير" لأنها أَبْلَغُ من فاعل، ولأنَّ "وليَّاً" أكثرُ استعمالاً من "والٍ" ولهذا لم يَجِيءْ في القرآن إلا في سورةِ الرعدِ، وأيضاً لتواخي الفواصلِ وأواخرِ الآي. وفي قولِه "لكم" انتقالٌ من خطابِ الواحدِ لخطابِ الجماعةِ، وفيه مناسَبَةٌ، وهو أنّض المنفيَّ صار نَصَّاً في العمومِ بزيادةِ "مِنْ" فناسَبض كونَ المَنْفِيِّ عنه كذلكَ فجُمِعَ لذلك.
* { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }
(2/49)
---(1/470)
منقطعةٌ هذا هو الصحيُ في الآيةِ. قال ابنُ عطية "ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ: أَمْ تريدون، وقال قومٌ: أَمْ منقطعةٌ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْ عَلِمْتُم، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ" انتهى. وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ، فهو كقولِه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك.
وفي قولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} التفاتان، أحدُهما: خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو {خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، والثاني: خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم. {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أَنَّ وما في حَيِّزِها: إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ.
(2/50)
---(1/471)
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} .. قد تَقَدَّم أنَّ "أَمْ" هذا يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه: "ألم تَعْلَمْ"، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ، ويكون إضرابض انتقالٍ من قصةٍ إلا قصة قال أبو البقاء: أَمْ هنا منقطعةٌ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم: أيّثهما، والهمزةُ من قولِه: "ألم تعلمْ" ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى: بل أريدون" فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام. وأصلُ تُريدون: تُرْدِون لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ، وقد تقدَّم، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً. وقيل "أم" للاستفهامِ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل: هي بمعنى بل وحدَها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله: {أَن تَسْأَلُواْ} ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله "تُريدون"، أي: أتريدون سؤالَ رسولِكم.
قولُه: "كما سُئِلَ" متعلِّقٌ بتَسْأَلوا، والكافُ في محلِّ نصبٍ، وفيها التقديران المشهوران: فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي: أَنْ تَسْأَلوه أي: السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و "ما" مصدرية، أي: كسؤال موسى، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى. و "موسى" مفعول لم يُسمَّ فاعله، حُذِف افاعل للعلم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور: "سُئِل" بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن: "سِيل" بكسر السين وياء بعدها، مِنْ: سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف، وهل هذه الألفُ في "سال" أصلُها الهمزُ اولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في "سَأَلَ"، وقُرىء بتهسيلِ الهمزةِ بينَ بينَ.
(2/51)
---(1/472)
و "من قبلُ" متعلق بسُئل، و "قبلُ" مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.
قوله: {بِالإِيمَانِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها باء العِوَضيَّة، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. والثاني: أنها للسببية، قال أبو البقاء: "يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل، وتكون الباءُ للسبب كقولك: اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ" وفي مثالِه هذا نظرٌ.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها، و "سواءِ" قال أبو البقاء: "سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله" وهذا صحيحٌ فإنَّ "سَواء" جاء بمعنى وَسَط، قال تعالى: {فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ} وقال عيسى بن عمر: "ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي" وقال حسان
674 - يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه * بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير:
675 - أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها * يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ
والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِيا}. والجملةُ من قولِه: "فَقَدْ ضَلَّ" في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً.
* { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
(2/52)
---(1/473)
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم}: الكلامُ في "لو" كالكلامِ فيها عندَ قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ}، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا، وقال: هي مفعولُ "يَوَدُّ"، أي: وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم. ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه: لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك، وقال بعضُهم: تقديرُه: لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ "لو" لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط. وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ "لو" حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه فَيَلْزَمُ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاعٍ، فتقديرُ: لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ. و "يَرُدُّ" هنا فيه قولان، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ، و "كفاراً" مفعولٌ ثانٍ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله:
676 - رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ * بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً * وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا
وجَعَلَ أبو البقاء "كفاراً" حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً، وهذا لا بُدَّ منه.
و "مِنْ بعدِ" متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و "مِنْ" لابتداءِ الغاية.
(2/53)
---(1/474)
قوله: {حَسَداً} نصبٌ على المفعولِ له، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه، والعاملُ فيه "وَدَّ" أي: الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم. وجَوَّزوا لكونِه مصدراً، أي: حاسِدِين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجشيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً، والأولُ أظهرُ الثلاثة.
قوله: {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ، أي: وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. الثاني: أنه صفةٌ لـ"حَسَدا"، فهو في محلِّ نصبٍ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم، ومعناه قريبٌ من الأول. الثالث: انه متعلِّقُ بيردُّونكم، و "مِنْ" للسببية، أي: يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم.
قوله: {مِّن بَعْدِ مَا} متعلِّقٌ بـ"وَدَّ"، و "مِنْ" للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ، و "ما" مصدريةٌ أي: مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ. والحَسَدُ: تمنِّي زالِ نعمةِ الإِنسانِ، المصدرُ: حَسَدٌ وحَسَادَة. والصَّفْحُ قريبُ من العفو، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق، وقيل: معناهُ التجاوزُ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي: جاوزت / ورقَه، والصَّفوح: من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً، قال:
677 - صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلاَّ بِحِيلةٍ * فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ
(2/54)
---(1/475)
قوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} فيجوز في "ما" أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ، ويجوز في "مِنْ خيرٍ" الأربعةُ الأوجهِ التي في "من آية". من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ. و "مِنْ" تبعيضيةٌ، وقد تقدَّم تقحيقُها فَلْيُراجَع ثَمَّةَ. و "لأنفسِكم" متعلِّق بتقدِّموا، أي: لحياةِ أنفسِكم، فَحُذِفَ، و "تَجِدُوه" جوابُ الشرطِ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأهها بمعنى الإِصابةِ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: تَجدوا ثوابَه، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على "ما" وهو يريد ذلك، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ مُنْقَضٍ لا يوجد، إنما يوجد ثوابُه. قوله: "عند الله" يجوزُ فيه وجهان. أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"تجدوه". والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي: تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو: "لك عندَ فلانٍ يدُ".
* { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً}: "مَنْ" فاعلٌ بقوله "يَدْخُلَ" وهو استنثاءٌ مفرغٌ، فإنَّ ما قبل "إلاَّ" مفتقرٌ لِما بعدَها، والتقديرُ: لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في "مَنْ" وجهان آخران، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من "أحد" المحذوفِ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.
(2/55)
---(1/476)
والجملةُ من قولِه: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن} في محل نصبٍ بالقول، وحُمِلَ أولاً على لفظِ "مَنْ" فَأُفْرِدَ الضمير في قوله: "كان"، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو "هوداً"، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه، منهم أبو العباس، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و "هائد" من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ، وقال الشاعر:
678 - وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما * ..........................
و "نيام" جمعُ نائمٍ وهو كالأول، وفي "هُود" ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب، يوسف به الواحدُ وغيرُه نحو: عَدْل وصَوْم. والثالث: - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه "يَهود" فحُذِفَتِ الياء من أوله، وهذابعيدٌ جداً.
و "أو" هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله: "وقالوا" فَصَّل القائلين، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس، والتقديرُ: وقالَ اليهودُ نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى، ونظيرُه: { قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول: كونوا نصارى، ولا النصارى تقول: كونوا هوداً، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي بـ"لن" لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ. وقُدَّمَت اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً.
(2/56)
---(1/477)
قوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} "تلك" مبتدأ، و "أمانِيُّهم" خبرُه، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه: "وقالوا" وبين: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها. والمشارُ إليه بـ"تلك" فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها: أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ}، أي: تلك المقالةُ أمانيُّهم، فإنْ قيل: فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ بـ"تلك" الجمعُ من حيث المعنى. والثاني: - قاله الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألاَّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً، وأُمْنِيَّتُهم ألاَّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم. قال الشيخ: "وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها". والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه. انتهى ما قاله، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ. قال الشيخُ في هذا الوجهِ، "وفيه قَلْبُ الوَضْعِ، إذا الأصلُ أن يكونَ "تلك" مبتدأ، و "أمانيُّهم" خبرٌ، فَقَلبَ هذا الوضعِ، إذ قال: إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو: زيدٌ زهيرٌ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك: الأسدُ زيدٌ شجاعةً".
(2/57)
---(1/478)
قوله: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ. واختُلِفَ في "هاتِ" على ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه فعلٌ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو: هاتُوا، هاتي، هاتِيا، هاتِين. الثاني: أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ. والثالث - وبه قال الزمخشري -: أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ.
وغذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً، أصحُّها: أن هاءَه أصلٌ بنفسها، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل: رامَى يُرامي مُراماة، فوزنه فاعَلَ فنقول:هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات، كما تقولُ: رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ. وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ، وليس كذلك.
الثاني: أنَّ الهاءَ بَدَلُ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ: أَأْتى وزنُه: أَفْعَل مثل أَكْرم. وهذا ليس بجيدٍ لوجهين، أحدهما: أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط. والثاني من الوجهين: أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث: أن هذه "ها" التي للتنبيه دَخَلَتْ على "أتى" ولَزِمَتْها، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودُ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ: احضَرْ أنت، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة. فتحصَّل في "هاتُوا" سبعةُ أقوالٍ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أولا يتصرفُ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا: هاتِيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا.
(2/58)
---(1/479)
قوله: {بُرْهَانَكُمْ} مفعولٌ به، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن، أحدُهما: أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ، ومنه: بُرْهَةُ الزمان أي: القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان. والثاني: أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البيانُ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنتيهم فونه فُعْلال، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ "بُرهان" وعدمِه مُسَمَّى به.
* { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها "أَسْلم"، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ، ولذلك يقال: وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى:
679 - أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ * ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ
ومعنى أَسْلَمَ: خَضَع، ومنه:
680 - وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا
وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ، وقال الزمخشري: "وهو مُحْسِنٌ له في عمله" فتكونُ على رأيه مبيِّنة، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان: مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ. قال الشيخ: "وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال".
(2/59)
---(1/480)
قوله {فَلَهُ أَجْرُهُ} الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ "مَنْ" شرطية، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها. وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ "مَنْ" فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم، و "فله أجرُه" كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها. هذا نصُّه. و "له أجره" مبتدأٌ وخبرُه، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدّضم من الخلافِ في "مَنْ"، وحُمِل على لفظِ "مَنْ" فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وعلى معناها فجُمع في قولِه: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، وهذا أحسنُ التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى. والعاملُ في "عند" ما تعلَّق به "له" من الاستقرارِ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول: فله أجرهُ عنده أو عندَ الله، لما ذكرْتُ لك، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى: "ولا خَوْفٌ" وما فيه من القرآءت.
* { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
(2/60)
---(1/481)
قوله تعالى: {الْيَهُودُ}: اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى} وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ "هوداً" أصلُه: يَهود فَحُذِفت ياؤُه، وتقدَّم أيضاً عند قولِه: "والذين هادوا" أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب. وقال الشلوبين: "يَهُود فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً. والثاني: أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف. انتهى، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ، وعلى الثاني قولُه:
681 - أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ * إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ
وقال:
682 - فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها * ....................
بأنَّ "يهود" منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو: يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً. ويؤيِّدُه قولُهم: سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك.
قوله: {لَيْسَتِ النَّصَارَى} "ليس" فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل: شِئْتُ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقية الفاءُ على حالِها، وقال بعضُهم: لُسْتُ بضم الفاء، ووزنُه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر، لم يُجيء منه إلا "هَيُؤَ الرجلُ" إذا حَسُنَتْ هيئتُه. وكونُ "ليس" فعلاً هو الصحيحُ خلافً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً كـ"ما" ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها، ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و "النصارى" اسمُها، و "على شيء" خبرُها، وهذا يَحْتملِ أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه: "إنه ليس من أهلِك" أي: أهلِك الناجين، [وقوله:]
(2/61)
---(1/482)
683 - .................... * ........لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ
أي: لحمٍ عظيمٍ وأَنْ يكونَ نفياً على سبيلِ المبالَغَةِ، فإذا نُفِي إطلاقُ الشيء على ما هُمْ عليه مع أنَّ الشيء يُطْلق على المعدومِ عند بعضهم كان ذلك مبالغةً في عدمِ الاعتدادِ به، وصارَ كقولهم: "أقَلّث من لا شيء".
قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ} جملةٌ حالية. وأصل يَتْلُون: يَتْلُوُوْنض فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} في هذا الكافِ قولان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ وفيها حينئذ تقديران، أحدُهما: أنَّها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ قُدِّم على عامِله تقديرُه: قولاً مثلَ ذلك القولِ قالَ الذين لا يعلمون. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المصدرِ المعرفةِ المضمرِ الدالِّ عليه "قال" تقديرُه: مثلَ ذلك القولِ قاله أي: قال القولَ الذين لا يعلمون حالَ كونِه مثلَ ذلك القولِ، وهذا ريُ سيبويه والأول رأيُ النحويين كما تقدَّم غيرَ مرة. وعلى هذين القولَيْن ففي "مثلَ قولهم" وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف. الثاني من الوجهين: أنه مفعولٌ به العاملُ فيه "يَعْلمون"، أي: الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم، أي: إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى.
(2/62)
---(1/483)
الثاني من القولين: أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ بعدها خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون، وانتصابُ "مثلض قولهم" حينئذٍ إمّضا: على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه: مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً. والثاني: حَذْفُ العائدِ المنصوبِ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه:
684 - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا * بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ
ضرورةً، وللكوفيين في هذه المسألةِ تفصيلٌ.
قوله: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} منصوبان بيحكُمُ، و "فيه" متعلق بيختلفون.
* { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(2/63)
---(1/484)
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ}: "مَنْ" استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و "أظلمُ" أفعلُ تفضيلٍ خبرُه، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ، أي: لا أحدَ أظلمُ منه، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً: وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى}{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ}{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ} ولكُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك؟ وفي ذلك ثلاثةُ أوجبةٍ، أحدُها: - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال: لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله، ولا أاحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله، وكذلك ما جاءَ منه. الثاني: أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المعانيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما. الثالث: أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم / متساوون في ذلك وصار المعنى: ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم، كما أنَّك إذا قلتَ: "لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ" لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ(1/485)
(2/64)
---
أفقهَ منهم، لا يُقال: إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً.
و "مَنْ" يوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها، و "مساجد" مفعولٌ أولُ لمَنَع، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها، وقد سُمع "مَسْجَد" بالفتح على الأصل، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه: المَسْيِد في لغة.
قوله: {أَن يُذْكَرَ} ناصبٌ ومنصوبٌ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع، تقولُ: مَنَعْتُه كذا. والثاني: انه مفعولٌ من أجلِه أي:: كراهةَ أن يُذْكَرَ. وقال الشيخ: "فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله، وما أَشْبهه". والثالثُ: أنه بدلُ اشتمالٍ من "مساجد"، أي: مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها. والرابع: أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ، والأصلُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ، و "في خَرابشها" متعلِّقٌ بسَعَى. واختُلِف في "خراب": فقال أبو البقاء: "هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ. وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ هل يَعْمَلُ أو لا؟ وأنشدوا على إعماله:
685 - أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني * وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقال غيرُه: هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً، فالمعنى: سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة، ويقال: منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله:
(2/65)
---(1/486)
686 - ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [به] * غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب
فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل.
قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ}: "لهم" خبرُ "كان" مقدَّمٌ على اسمِها، واسمُها "أَنْ يدخُلوها" لأنه في تأويل المصدرِ، أي: ما كان لهم الدخولُ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن "أولئك".
قوله: {إِلاَّ خَآئِفِينَ} حالٌ من فاعل "يَدْخُلوها"، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ، لأن التقديرَ: ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف. وقرأ أُبَيّ "خُيَّفاً" وهو جمعُ خائف، كضارب وضُرَّب، والأصل: خُوَّف كصُوَّم، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ، قالوا: صُوَّم وصُيَّم، وحَمَل أولاً على لفظ "مَنْ"، فَأَفْرَد في قوله: "مَنَع، وسعى" وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله: "أولئك" وما بعده.
قوله: {لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها لاستئنافِها عَمَّا قبلَها، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً.
* { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}: جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه: "مَنَعَ مساجدِ الله، وسعى في خَرابِها" يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين، أحدُهما: لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى. والثاني: أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي: لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله: "تَقِيكم الحَرَّ" أي والبردَ، وكقولِ الشاعر:(1/487)
(2/66)
---
687 - * تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ * نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ
أي: يضداها ورجلاها، ومثله:
688 - كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها * إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا
أي: رجلُها ويدُها. وفي المشرق والمغرب قَوْلان، أحدُهما: أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ، والثاني: أنهما اسما مصدرٍ أي: الإِشراق والإِغرابُ، والمعنى: لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها، وهذا يُبْعِدُه قولُه: "فأينما تُوَلُّوا"، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما، أو لأنَّهما مصدران، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في كلِّ يومٍ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما. وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً.
قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} "أين" هنا اسمُ شرطٍ بمعنى "إنْ"، و "ما" مزيدةٌ عليها و "تُوَلُّوا" مجزومٌ بها. وزيادةُ "ما" ليست لازمةً لها بدليلِ قوله:
689 - أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا * ..................
(2/67)
---(1/488)
وهي ظرفُ مكان، والناصبُ لها ما بعدَها، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ كـ"مَنْ" و "ما". وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرك أو الاستفهامِ. وأصلُ تُوَلُّوا: تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ. وقرأ الجمهور: تُوَلّثوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا، فإنَّ "وَلَّى" وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما. تقول: وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا. وقرأ الحسن: "تَوَلَّوا" بفتحِهما، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصل: تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً، نحو: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ}. والثاني: أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله: "لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة" فتتناسَقُ الضمائرُ، وقال أبو البقاء: "والثاني: أنه ماضٍ والضمير للغائبين، والتقديرُ: أَيْنما يَتَوَلَّوا" يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً، ثم قال: "وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع، ولا يكونُ "أَيْنَ" شرطاً في اللفظِ بل في المعنى، كما تقولُ: "ما صَنَعْتَ صنعتُ" إذا َرَدْتَ الماضي، وهذا ضعيفٌ لأنَّ "أين" إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ". انتهى وهو غيرُ واضحٍ.
(2/68)
---(1/489)
قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزم، و "ثَمَّ" خبرٌ مقدم، و "وجهُ الله" رفعٌ بالابتداء و "ثَمَّ" اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل: هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب. قال أبو البقاء: "لأنك تقولُ في الحاضر: هُنا، وفي الغائب هُناك، وثَمَّ ناب عن هناك" / وهذا ليس بشيءٍ. وقيل: بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه بـ"مِنْ"، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [رَأَيْتَ]}، بل مفعولُ "رأيت" محذوف. ومعنى "وَجْهُ الله" جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها، أو ذاتُه نحو: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، أو المرادُ به الجاهُ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم: هو وجهُ القوم، أو يكونُ صلةً زائداً، وليس بشيءٍ، وقيل: المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله:
690 - أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه * ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
* { وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ }
(2/69)
---(1/490)
قوله تعالى: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ}: الجمهورُ: "وقالوا" بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط. وقيل: هي معطوفةً على قوله: "وسعى" فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله. وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - "قالوا" من غير واوٍ، وذلك يَحْتمل وجهين، أحدُهما: الاستئنافُ. الثاني: حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ. و "اتَّخَذَ" بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر، فيعتدَّا لاثنين، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه: "وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً" إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ}، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}. والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض ولنَّقْص، وهو غيرُ مقيسٍ، والمصدرُ: الوِلادة والوَليديَّة، وهذا الثاني غريبٌ جداً.
قوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} "بَلْ" إضرابٌ وانتقالٌ، و "له" خبرٌ مقدَّمٌ و "ما" مبتدأ مؤخرٌ، وأتى هنا بـ"ما" لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في "ما و "مَنْ"، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله "قانتون" فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء. قال الزمخشري "فإن قلت: كيف جاءَ بـ"ما" التي لغير أولي العلمِ مع قوله "قانتون"؟ قلت: هو كقولِه:
(2/70)
---(1/491)
"سبحانَ ما سَخَّركُنَّ" وكأنه جاء بـ"ما" دون "مَنْ" تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ "ما" قد تقع على أولي العلمِ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه. وأمَّا قولُه "سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا" فسبحانُ غَيرُ مضافٍ، بل هو كقوله:
691 - ........................ * سبحان مِنْ علقمةَ ..............
و "ما" مصدرية ظرفية.
قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأٌ وخبرٌ، و "كلٌّ" مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً، أي: كلُّ مَنْ في السموات والأرض، وقال الزمشخري: "ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً" قال الشيخ: "وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ولداً] وغيرُه" قوله: "لم يَجْرِ له ذِكْر" بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه.
وجَمَعَ "قانِتون" حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ "كُلاًّ" إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}. ومِنْ مراعاةِ اللفظِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي. والقُنُوت: الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ.
* { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
(2/71)
---(1/492)
قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ}: المشهورُ رَفْعُه على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ. وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في "له" وفيه الخلافُ المشهورُ. وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ، وبيدعُ السمواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ، والأصل: بديعُ سماواتُه، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه وهو لا يجوزُ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ. وقال الزمخشري: "وبديعُ السمواتِ" من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها". وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه. وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكونَ "بديع" بمعنى مُبْدِع، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو:
692 - أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ * يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ
إلا أنه قال: "وفيه نظرٌ". وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ مَقيسٍ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السمواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً. والمُبْدِعُ: المخترِعُ المُنْشِىءُ، والبديع: الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً.
قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} العاملُ في "إذا" محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه: "فإنما يقول"، والتقديرُ: إذا قضى أمراً يكونُ، فيكونُ هو الناصبُ له. و "قضى" له معانٍ كثيرةٌ، قال الأزهري: "قضى" على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب:
693 - وعليهما مَسْردتان قَضَاهُما * داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
وقال الشماخ:
(2/72)
---(1/493)
694 - قَضَيْتَ أم راً ثم غادَرْتَ بعدَها * بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ فيكونُ بمعنى خَلَق نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، وبمعنى أَعْلَمَ: {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وبمعنى أَمَر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وبمعنى وفَّى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}، وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا، وبمعنى أراد: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً}[وبمعنى] أَنْهى، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يقضي قَضاءً قال:
695 - سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً * عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا
قوله: {فَيَكُونُ} الجمهورُ على رفعه، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي: فهو يكونُ، ويُعزْى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على "يقولُ" وهو قول الزجاج والطبري. وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ" انتهى. يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا، ومثلُه قولُ أبي النجم:
696 - إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "كُنْ" من حيثُ المعنى، وهو قولُ الفارسي، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على "يقولُ"، لأنَّ من المواضعِ ما ليس فيه "يقولُ" كالموضع الثاني في آل عمران، وهو: {ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، ولم يَرَ عطفَه على "قال" من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه:
(2/73)
---(1/494)
697 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني * فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني فقال: "أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت. قال بعضُهم: "ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على "قال".
وقَرأَ ابن عامر / "فيكونَ" نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران، وهي: {لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ}، تحرُّزاً من قوله: {كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي}، وفي غافر: {كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي.
وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ، فقال ابن مجاهد: "قرأ ابن عامر "فيكونَ" نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ"، وقال في آل عمران: "قرأ ابن عامر وحدَه: "كن فيكونَ" بالنصب وهو وهمٌ" قال: "وقال هشام: كان أيوبُ بن تميم يقرأُ: فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ: فيكونُ رفعاً"، وقال الزجاج: "كن فيكونُ: رفعٌ لا غيرُ".
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ} أي: فَيَمُدُّ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله:
698 - سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ * وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا
وقول الآخر:(1/495)
(2/74)
---
699 - لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها * ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما
والثاني: أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منها شرطٌ وجزاءٌ نحو: "ائتني فأكرمك" تقديرُه: إنْ أتيتين أكرمتُك، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ: إنْ تَكُنْ تَكُنْ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلاَّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال. قالوا: والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ} {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} وقال عمر ابن أبي ربيعة:
700 - فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ * عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ
وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري * ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي
فجعل "تَغْرُبِ" جواباً "ارقب" وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يزلمُ من قوله [تعالى] أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ.
أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ، وأمَّا الآياتث فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [عليه]، لأنه أرادَ بالعبادةِ الخُلَّصَ، ولذلك ضافهم إليه، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه. وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك: "إنَّ "أَنْ" الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين، قال: "وحَكَوْا عن العرب: "إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه" بنصبِ "تَحْطِمَ" فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ، تقديرُه: إنما هي ضربةٌ فَحَطْم، كقوله:
701 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني * أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
وهذا نهايةُ القول في هذه الآية.
(2/75)
---(1/496)
* { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
قوله تعالى: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ}: "لولا" و "لَوْما" يكونانِ حَرْفي ابتداءٍ، وقد تقدم ذلك عند قوله {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ}، ويكونان حَرْفَيْ تحضيضٍ بمنزلة: "هَلاَّ" فيختصَّان بالأفعالِ ظاهرةً أو مضمرةً كقوله:
702 - تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم * بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
أي: لولا تَعُدُّون الكميَّ، فإنْ وَرَدَ ما يُوهم وقوعَ الاسمِ بعدَ حرفِ التحضيض يُؤَوَّل كقوله:
703 - ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ * إليَّ فهلاَّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها
فـ"نفسُ ليلى" مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّره "شفيعُها" أي: فَهَلاَّ شَفَعَتْ نفسُ ليلى. وقال أبو البقاء: "إذا وَقَعَ بعدَها المستقبلُ كانَتْ للتحضيضِ وأنْ وَقَعَ [بعدها] الماضي كانَتْ للتوبيخ" وهذا شيءٌ يقولُه علماءُ البيانِ، وهذه الجملةُ التحضيضيةُ في محلِّ نصبٍ بالقول.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ} قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك. وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق: "تَشَّابَهَتْ" بتشديد الشين، قال الداني: "وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض" يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم، أمَّا الماضي فلا.
* { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
(2/76)
---(1/497)
قولُه تعالى: {بِالْحَقِّ}: يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ إقامةِ الحقِّ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في، "أَرْسلناك" أي: أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الفاعل أي: ملتبسين في الحقِّ، قوله: "بَشيراً ونذيراً" يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: ان يكونَ حالاً من المفعول، وهو الظاهرُ. الثاني: أن يكونَ حالاً مِن "الحقِّ" لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة، وشير ونذيرِ على صيغة فَعيل، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي، وأمَّا "نذير" فمن الراعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً.
قوله: {وَلاَ تُسْأَلُ} قرأ الجمهور: "تُسْأَلُ" مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي. وقُرىء شاذاً: "تَسْأَلُ" مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه الجملةِ وجهان: أحدُهما: أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً وغير مسؤول. والثاني: أن تكونَ مستأنفةً. وقرأ نافع "تُسْأَلْ" على النهي وهذا مستأنفٌ فقط ، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً ؛ لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً. والجحيمُ: شدَّةُ تَوَقُّدِ النار، ومنه قيل لعين الأسد: "جَحْمة" لشدَّة توقُّدِها، يُقال: جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ، ويقال لشدة الحر: "جاحم"، قال:
704 - والحربُ لا يَبْقى لِجَا * حِمِلها التخيُّلُ والمِراحُ
والرِّضا: ضدُّ الغضَبِ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم: الرُّضْوانِ، والمصدر: رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْوناً بكسرِ الفاء وضمِّها، وقد يَتَضَمَّن معنى "عَطَفَ" فيتعدَّى بـ"على"، قال:
705 - إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ * ...........................
(2/77)
---(1/498)
والمِلَّةُ في الأصلِ: الطريقةُ، يقال: طريقٌ مُمِلٌّ: أي: أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ، وقيل: بل اشْتُقَّت من "أَمْلَلْتُ" لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه.
* { وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قوله تعالى: {هُوَ الْهُدَى}: يجوزُ في "هو" أَنْ يكونَ فَصْلاً أو مبتدأً وما بعدَه خبرُه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ "هدى الله" لمجيئِه بصيغةِ الرفعِ، وأجازَ أبو البقاء فيه أن يكونَ توكيداً لاسم أنَّ، وهذا لا يجوزُ فإن المضمَر لا يؤكِّدُ المُظْهَرَ.
قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم، وعلامتُها أَنْ تقعَ قبلَ أدواتِ الشرطِ، وأكثرُ مجيئِها مع "إنْ" وقد تأتي مع غيرِها نحو: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ}، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} وسيأتي بيانُه، ولكنها مُؤذِنةٌ بالقسم اعتُبر سَبْقُها فَأُجيبَ القَسَمُ دونَ الشرطِ بقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} وحُذِفَ جوابُ الشرط. ولو أُجيب الشرطُ لَوَجَبَتِ الفاءُ، وقد تُحْذَفُ هذه اللامُ ويُعْمَلُ بمقتضاها / فيجابُ القَسَمُ نحو قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ}. قوله: "من العِلْم" في محلِّ نصب على الحال من فاعل "جاءك" و "مِنْ" للتبعيض، أي جاءَكَ حالَ كونِه بعضَ العلم.
(2/78)
---(1/499)
* { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِيا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
(2/79)
---(1/500)
قولُه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ}: رفعٌ بالابتداء، وفي خبرهِ قولان، أحدُهما: "يَتْلُونه"، وتكونُ الجملةُ من قولِه "أولئكَ يؤمنون": إمَّا مستأنفةً وهو الصحيحُ، وإمَّا حالاً على قولٍ ضعيفٍ تقدمَّم ثلُه أولَ السورة. والثاني: أنَّ الخبرَ هو الجملةُ من قوله: "أولئك يؤمنون" ويكونُ "يتلونه" في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمّا من المفعولِ في "آتَيْناهم" وإمَّا من الكتاب، وعلى كِلا القَوْلَيْن فيه حالٌ مقدَّرة، لأنَّ وقتَ الإِيتاء لم يكونوا تالين، ولا كانَ الكتابُ مَتْلُوّاً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ "يَتْلونه" خبراً، و "أولئك يؤمنون" خبراً بعد خبر، قال: "مثلُ قولهم: "هذا حلوٌ حامِضٌ" كأنه يريدُ جَعْلَ الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ، هذا إنْ أُريد بـ"الذين" قومٌ مخصوصونَ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ "أولئكَ يُؤمِنونُ" الخبرَ. قال جماعة - منهم ابنُ عطية وغيرُه - "ويَتْلُونه" حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها وفيها الفائدةُ". وقال أيضاً أبو البقاء: "ولا يجوزُ أن يكونَ "يَتْلُونه" خبراً لئلا يلزَمَ منه أنَّ كلَّ مؤمِنٍ يتلو الكتاب حقَّ تلاوتِه بأيِّ تفسيرٍ فُسِّرَت التلاوةُ". قال الشيخ: "ونقول ما لَزِمَ من الامتناع مِنْ جَعْلِها خبراً يلزمُ في جَعْلِها حالاً لأنَّه ليس كل مؤمنٍ على حالِ التلاوة بِأيّ تفسر فُسِّرت التلاوة".
(2/80)
---(1/501)
قوله: {حَقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه: "تلاوةً حقاً" ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ، وصار نظير: "ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ" أي: ضَرْباً شديداً. فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه. الثاني: أنه حالٌ من فاعل "يَتْلونه" أي: يَتْلُونه مُحِقِّينِ، الثالث: أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ. وقال ابن عطية: "و "حَقَّ" مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم: رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه" يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه.
والضميرُ في "به" فيه أربعةُ أقوالٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ - : عَوْدُه على الكتاب. الثاني: عَوْدُه على الرسولِ، قالوا: "ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ" ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه: "أَرْسلناك"، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة. الثالثُ: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه: "أَرْسلناك" إلى الغَيْبة. الرابعُ: قال ابن عطية: "إنه يعودُ على "الهدى" وقَرَّره بكلامٍ حَسَنٍ.
(2/81)
---(1/502)
قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} العاملُ في "إذا" قال . . . العامِلُ فيه "اذكر" مقدراً، وهو مفعولٌ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ. فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً، وقَدَّره . . . كان كَيْتَ وكَيْتَ، فَجَعَلَه ظرفاً، ولكنَّ عملَه مقدرٌ. و "ابتلى" وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. وأصلُ ابتلى: ابتلَوَ، فألفُه عن واوٍ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي: اختبرَ. و "إبراهيمَ" مفعولُ مقدمٌ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً. وهذا هو المشهورُ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً. وخالَفَ أبو الفتح وقال: "إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ" وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ، منها:
706 - لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً * أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ
ومنها:
707 - جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ * وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابنُ عطية: "وقَدَّم المفعولَ للاهتمامِ بمَنْ وَقَع الابتلاءُ [به]، إذ معلومٌ أنَّ اللهَ هو المبتلي، واتصالُ ضميرِ المفعولِ بالفاعلِ موجِبٌ للتقديم" يعني أنَّ الموجِبَ للتقديمِ سببان: سببٌ معنويٌّ وسببٌ صناعي.
(2/82)
---(1/503)
و "إبراهيم" علَلَمٌ أَعْجَمي، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ، وفيه لغاتٌ تسعٌ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء، وإبراهام بألِفَيْن، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور. ورُوي عن ابن عمر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام باللف، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منه بالقرآءة. فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له. الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ، وبها قرأ أبو بكر، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل:
708 - عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ * إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتحِ الهاءِ. الخامسة: كذلك إلا أنه بضمِّها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء، قال عبد المطلب:
709 - نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته * لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ
السابعة: إبراهوم بالواو. قال أب البقاء: "ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم. وقيل: أبارِهَة وبَراهِمَة، ويجوز أَبَارهة" وقال المبرِّد: "لا يقال: بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها". وحكى ثعلب في جمعِه: بَراه، كما يُقال في تصغيره: "بُرَيْه" بحذفِ الزوائدِ.
(2/83)
---(1/504)
والجمهورُ على نصبِ "إبراهيم" ورفعِ "ربُّه" كما تقدَّم، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلُها دَعَا ربَّه، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ. والضميرُ المرفوعُ في "فَأَتَّمَّهُنَّ" فيه قولان: أحدُهما أنه عائدٌ على "ربه" أي: فأكملهنَّ. والثاني: أنه عائدٌ على إبراهيم أي: عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ.
قوله: {قَالَ إِنِّي} هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في "إذ" لأن التقديرَ: وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قللنا: إنَّ العاملَ في "إذ" مضمرٌ، كأنه قيل: فماذا قال له ربُّه حين أتَمذَ الكلماتِ؟ فقيل: قال: إني جاعِلُك. ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله: "ابتلى" وتفسيراً له، فيُرادُ بالكلماتِ ما ذَكَره من الإِمامةِ وتَطْهِيرِ البيتِ ورَفْعِ القواعدِ وما بعدَها، نَقَل ذلك الزمخشري.
قوله: {جَاعِلُكَ} هو اسمُ فاعلٍ من "جَعَلَ" بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما: الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ، قالوا: ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله:
710 - فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ * أَمْسْلِمُني إلى قومي شُراحي
وقال آخر:
711 - هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه * ........................
وهذا على تسليمِ كونِ نون "مُسْلِمُني" تنويناً، وإلاَّ فالصحيحُ أنها نونُ وقايةٍ. الثالث - وهو مذهبُ سيبويه - / أنَّ حكمَ الضميرِ حكمُ مُظْهره فما جاز في المُظْهَرِ يجوزُ في مضمرِه. والمفعولُ الثاني إماماً.
(2/84)
---(1/505)
قوله: {لِلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بجالع أي لأجلِ الناس. والثاني: انه حالٌ من "إماماً" فغنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها. فيكونُ حالاً منها، إذ الأصلُ: إماماً للناسِ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ. والإِمامُ:
اسمُ ما يُؤْتَمُّ به أي يُقْصَدُ ويُتَّبَعُ كالإِزار اسمُ ما يُؤْتَزَرُ به، ومنه قيل لخيط البَنَّاء: "إمام"، ويكون في غيرِ هذا جَمْعاً لآمّ اسمِ فاعلٍ من أَمَّ يَؤُمُّ نحو: قائم وقِيام: ونائِم ونِيام وجائِع وجِياع.
(2/85)
---(1/506)
قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها، أَنَّ "مِنْ ذريتي" صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه: "قال واجْعَلْ فرياً من ذريتي إماماً" قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّ "ومِنْ ذُرِّيَّتي" عطفٌ على الكافِ، كأنَّه قال: "وجاعلُ بعضِ ذريتي" كما يُقال لك: سَأُكْرمك، فتقول: وزيداً. قال الشيخ: "لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ، ولم يُعَدْ، ولأنَّ "مِنْ" لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ "مِنْ" في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في "سأكرمك" في موضعِ نصبٍ. الثالث: قال الشيخ: "والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ "مِنْ ذرّيَّتي" متعلقاً بمحذوفٍ، التقديرُ: واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ "إبراهيم" فَهَِ من قولِه: "غني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً" فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى "جاعل" لواحدٍ، فهذا ليسَ بظاهرٍ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ "مِنْ ذرِّيَّتي" مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ.
لو قلتَ: "مِنْ ذُرِّيَّتي إمامٌ" لصَحَّ. وقال ابن عطية: "وقيل هذا منه على جهةِ الاسفهامِ عنهم أي: ومِنْ ذريتي يا ربِّ ماذا يكون؟ فيتعلَّقُ على هذا بمحذوفٍ، ولو قَدَّره قبل "مِنْ ذريتي" لكانَ أَوْلى لأنَّ ما في حَيِّز الاستفهامِ لا يتقدَّم عليه.
(2/86)
---(1/507)
وفي اشتقاق "ذُرِّيَّة" وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل. اعلم أنَّ في "ذرية" ثلاثَ لغاتٍ: ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ، أحدُها: أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ، الثاني: مِنْ ذَرَيْتُ، الثالث: من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ، الرابع: من الذرّ. وأَمَّا تصريفُها: فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة، والأصلُ: ذُرُّوْوَى فاجتمع واوان: الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراثُ للتجانُسِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة، والأصلُ: ذُرِّيْوَة، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ: ذُرِّيْيَة، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [هي] لامٌ. وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ مهموزاً فوزنُها فُعِّيْلة والأصلُ: ذُرِّيْئَة فَخُفَّفتِ الهمزةُ بأَنْ أُبْدِلَتْ ياءً كهمزةِ خطيئة والنسيء، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياء المُبْدَلَةِ من الهمزةِ.
(2/87)
---(1/508)
وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه، أحدُها: فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى لاضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر: دُهْري وإلى السَّهْل: سُهْلي بضمِّ الدال والسين، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة. الثاني: أن يكونَ: فُعِّيْلَة كمُرِّيٌقة، والأصلُ: ذُرِّيْرةً، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ. الثالث: أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح، والأصلُ: ذُرِّيْرةً، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم، فصارَ ذُرُّوْيَة، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم. الرابع: أن تكونَ فُعْلُولة والأصل: ذُرُّوْرَة، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله.
وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة، والأصل: ذِرِّيْوَة، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ، فيها ما تقدَّم في المضمومةِ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ. الثاني: أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة، الثالث: أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها: ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها.
(2/88)
---(1/509)
وأمَّا "ذَرِّيَّة" بفتحِ الذال: فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها: فَعِّيْلَة كسَكِّينة، والأصلُ: ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة، أو فَعُّولة والأصلُ: ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة، فَعُعِل به ما تقدَّم في نَظيرهِه، وإنْ كانَتْ مِنْ ذَرَأَ فوزنُها: إمّا فَعِّيْلَة كسَكِّينة والأًلُ: ذَرِّيْئَة، وإمّا فَعُّولة كخَرُّوبة والأصلُ: ذَرَّوْءةَ ففُعِل به ما تقدَّم في نظيره. وإنْ كانَتْ من الذرّ ففي وَزْنِها أيضاً أربعة أوجهٍ أحدُها فَعْلِيَّة، والياءُ أيضاً تَحْتَمِلُ أَنْ تكونَ للنسَبِ ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شّذُّوا في الضم والكسرِ وأَنْ لا يكون نحو: بَرْنِيَّة، الثاني: فَعُّولة كَخرُّوبة والأصلُّ ذَرُّوْرَة، الثالث: فَعِّلية كسَكِّينة والأصلُ: ذَرِّرْرَة، الرابع: فَعْلُولة كبَكُّولَة والأصلُ: ذَرُّوْرَة أيضاً فَفُعِل به ما تقدَّم في نظيره، من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ وإدغامِ ما قبلَها فيها وكُسِرَتِ الذالُ اتباعاً. وبهذا الضبطِ الذي فعلتُه اتَّضح القولُ في هذه اللفظةِ لغةً واشتقاقاً وتصريفاً، فإنَّ الناس قد استشكلوا هذه اللفظةَ بالنسبةِ لما ذكرْتُ، وغلِط أكثرهُم في تصريفِها بالنسبةِ إلى الأعمال التي قَدَّمْتُها والحمد لله.
وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ. والذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه.
(2/89)
---(1/510)
قوله: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} الجمهورُ على نصبِ "الظالمين" مفعولاً و "عَهْدي" فاعلٌ، أي: لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء /: "والظالمون" بالفاعلية، و "عهدي" مفعولٌ به، والقراءتان ظاهرتان، إذ الفعلُ يَصِحُّ نسبتُ إلى كلٍّ منهما فإنَّ مَنْ نالَكَ فقد نِلْتَه. والنَّيْلُ: الإدراك وهو العَطاءُ أيضاً، نال ينال نَيْلاً فهو نائل.
* { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ}: "إذ" عَطْفٌ على "إذْ" قبلَها، وقد تقدَّم الكلامُ فيها، و"جَعَلْنا" يحتمل أن يكونَ بمعنى "خَلَقَ" و "وَضَعَ" فيتعدَّى لواحدٍ وهو "البَيْت"، ويكون "مَثَابةً" نصباً على الحالِ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكون "مثابةً" هو المفعولُ الثاني.
والأصلُ في "مَثَابة" مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل:
712 - مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها * تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقال:
713 - جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ * ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ
وهل معناه من ثابَ يَثثوب أي: رَجَع، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما. وقرأ الأعمش وطلحة: "مَثَابَاتٍ" جَمْعاً، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس.
(2/90)
---(1/511)
قوله: {لِّلنَّاسِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي: لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم.
قوله: {وَأَمْناً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه عَطْفٌ على "مَثَابة" وفيه التأويلاتُ المشهورةُ: إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا أَمْن، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي: آمِنَاً، على سبيل المجاز كقوله: "حَرَماً آمِناً". والثاني: أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وإذا جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد. والمعنى: أن الله جَعَلَ البيتَ محتمراً بحكمه، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ: "اتَّخِذُوا" على الأمرِ فعلى هذا يكونُ "وأَمْناً" وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.
قوله: {وَاتَّخِذُواْ} قرأ نافعٌ وابنُ عامر: "واتَّخذوا" فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ. فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُه: أنه معطوفلٌ على "جَعَلْنا" المخفوض بـ"إذ" تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً. الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: "وإذ جَعَلْنا" فيحتاجُ إلى تقديرِ "إذ" أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا.
(2/91)
---(1/512)
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها عَطفٌ على "اذكروا" إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه: "مثابةً" كأنه قال: ثُوبوا واتَّخِذوا، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي. الثالث: أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي: وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء.
قوله: {مِن مَّقَامِ} في "مِنْ" ثلاثة أوجه: أحدُها: أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ. الثاني: أنها بمعنى في. الثالث: أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش. وليسا بشيء. والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه: "مَقْوَم" فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير:
714 - وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ * وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
قوله: {مُصَلًّى} مفعولُ "اتَّخِذُوا"، وهو هنا اسمُ مكانٍ أيضاً، وجاءَ في التفسير بمعنى قِبْلة. وقيل: هو مصدرٌ: فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: مكانَ صلاة، وألفهُ منقبلةٌ عن واوٍ، والأأصلُ: "مُصَّلَّوَ" لأنَّ الصلاةَ من ذواتِ الواوِ كما تقدَّم أولَ الكتابِ.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ} إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان: اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر:
715 - قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا * هذا وربِّ البيتِ إسماعينا
ويجمع على: سَماعِلة وسَماعيل وأساميع. ومن أَغْرَبِ ما نُقِلَ في التسمية به أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دعا الله أَنْ يرزقَه ولداً كان يقول: اسْمَعْ إيل اسْمَعْ إيل، وإيل هو الله تعالى فَسَمَّى ولدُه بذلك.
(2/92)
---(1/513)
قوله: {أَن طَهِّرَا} يَجوزُ في "أَنْ" وَجْهان، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه: "عِهِدْنا" فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ "أي" التي للتفسيرِ، وشرطُ "أَنْ" التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه. وقال أبو البقاء: "والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه. وقد غَلِطَ في ذلك، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ. والثاني: أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا: "كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ" وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه، والأصلُ: بأَنْ طَهِّرا، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِه في محل نصبِ أو خفضٍ. و "بيتي" مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً. والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف، ويقال: أَطَاف رباعياً، قال:
716 - أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه * ........................
وهذا من باب فَعَل وأَفْعَل بمعنىً. والعُكوفُ لغةً: اللزومُ والَّلْبثُ، قال:
717 - ................ * عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا
وقال:
718 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا
ويقال: عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع، وقد قُرِىء بهما. و "السجودُ" يجوز فيه وجهان، أحدُهُما: أنه جمع ساجِد نحو: قاعِد وقُعود، وراقِد ورُقُود، وهو مناسبٌ لِما قبله. والثاني: أنه مصدرٌ نحو: الدُّخول والقُعُود، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء.
(2/93)
---(1/514)
وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله: الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله: الرُّكَّعِ السجودِ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة.
* { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى: {اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً}: الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين فـ"هذا" مفعولٌ أولُ و "بلداً" مفعولٌ ثانٍ، والمعنى: اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ. و "آمناً" صفةٌ أي ذا أَمْن نحو: "عيشةٌ راضيةٌ" أو آمِناً مَنْ فِيه نحو: ليلةٌ نائمٌ. / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان، أحدُهما: أنه مأخوذُ من البَلْدِ. والبَلْدُ في الأصل: الصَّدْر يقال: وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا بَرَكَتْ أي: صدرَها، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك. والثاني: أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه: رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ "بَلْدَة" لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال:
719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ * قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
قوله: {مَنْ} بدلُ بعضٍ من كل وهو "أهلَه" ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه، و "مِنْ" في "مِن الثمرات" للتبعيضِ. وقيل: للبيانِ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها.
(2/94)
---(1/515)
قولُه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} يجوزُ في "مَنْ" ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ موصولةً، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ، ويكونُ "فأمتِّعُه" معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ. والثاني من الوجهين: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و "فأمتِّعُه" الخرَ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه. الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع. الثالث: أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط، و "فأمتِّعُه" جوابُ الشرط.
(2/95)
---(1/516)
ولا يجوزُ في "مَنْ" في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ الخبرَ الذي هو "فأمتِّعه" شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلأى بذلك، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ. وقال أبو البقاء: "لا يجوزُ أن تكونَ "مَنْ" مبتدأ و "فأمتِّعُه" الخبرَ، لأنَّ "الذي" لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو: الذي يأتيني فله درهمٌ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ، أو [جعلت] الخبرَ محذوفاً و "فأمتِّعُه" دليلاً على جاز، تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه. ويجوز أَنْ تكونَ "مَنْ" شرطيةً والفاءُ جوابَها. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ، و "مَنْ" على هذا رفعٌ بالابتداءِ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فلعُ الشرطِ". انتهى.
(2/96)
---(1/517)
أمَّا قولُه: "لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ" فليس بِمُسَلَّم، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّر فيها أن تكونَ شرطيةً، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به. وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيد لا حاجةَ إليها. وقرىء: أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان: أحدُهما: أنه تخفيفٌ كقولِه:
720 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ * ...................
والثاني: أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} على صيغةِ الأمر فيهما، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في طقال" لإِبراهيم، يعني سألَ ربَّه ذلكَ، و "مَنْ" على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ.
(2/97)
---(1/518)
وقال الزمخشري: {وَمَن كَفَرَ} عَطْفٌ على "مَنْ آمَنَ" كما عَطَفَ "ومِنْ ذريتي" على الكافِ في "جاعِلُك". قال الشيخ: أمَّا عطفُ "مَنْ كَفَر" على "من آمَنَ" فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ، لأنه يصيرُ المعنى: قال براهيم: وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل، و "من آمن" العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في "ومَنْ كفر"، وإذا قَدَّرءتَه أمراً تنافى مع قوله "فَأُمَتِّعه" لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على "مَنْ" كما عَطَفَ "ومِنْ ذرِّيتي" على الكاف في "جاعِلك" فقال: "فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت: قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً، والمعنى: قال وأرزقُ مَنْ كفر
* { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
(2/98)
---(1/519)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ}: "إذ" عطفٌ على "إذ" قبلها فالكلامُ فيها واحِدٌ، و "يرفعُ" في معنى رفَعَ ماضياً، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ. وقال الزمخشري: "هي حكايةُ حالٍ ماضية" قال الشيخ: "وفيه نظرٌ". والقواعدُ: جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة، ومنه "قَعَّدك الله" أي: أسأل الله تَثْبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع. وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها "قاعِد" من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج. ولم يقل "قواعد البيت" بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن.
قوله: {مِنَ الْبَيْتِ} فيه وجهان، أاحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ"يرفع" ومعناها ابتداءُ الغايةِ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "القواعدِ" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: كائنةً من البيت، ويكون معنى "مِنْ" التبعيضَ.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلُ} فيه قولان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على "إبراهيم" فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ، ويكونُ قولُه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي: يَرْفَعان يقولان: ربَّنَا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ: "يقولان ربَّنا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قلأ: "يقولان ربَّنا تقبَّلْ" أي: قائِلين ذلك، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها، ويكونُ هو العاملَ في "إذ" قبله، والتقديرُ: يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي: وقتَ رَفْعِهما.
(2/99)
---(1/520)
والثاني: الواوُ واو الحالِ، و "إسماعيلُ" مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه: "ربَّنا تَقبَّلْ" فيكونُ "إبراهيم" هو الرافعَ، و "إسماعيلُ" هو الداعيَ فقط، قالوا: لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً، وَرَوْوه عن علي عليه السلام. والتقديرُ: وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول: ربَّنا تقبَّلْ منا. وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح. وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد. وتقدَّم الكلام على نحوِ {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} من كون "أنت" يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ والفصلُ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ، كقولِه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ، ولأنَّها تَشْمَل المشموعاتِ وغيرَها.
قوله: {مُسْلِمَيْنِ} مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير، والمفعولُ الأولُ هو "نا" وقرأ ابن عباس "مسلمِين" بصيغةِ الجمع، وفي ذلك تأويلات أحدُهما: أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً. والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر.
قوله {لَّكَ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن، لنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى. والثاني: أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن، أي: مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي: مستسلمَيْن، والأولُ أقوى معنىً.
(2/100)
---(1/521)
قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} فيه قولان، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ "مِنْ ذريتنا" صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، و "أمة مسلمة" مفعولٌ ثان تقديرُه: واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً. وفي "من" حينئذ ثلاثة أقوالٍ، أحدُها: أنها للتبعيض، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين، قال: كقولِه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ}. الثالث: أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل، قاله أبو البقاء.
الثاني من القولَيْن: أن يكونَ "أمَّةً" هو المفعولَ الأولَ، و "مِنْ ذريتنا" حالٌ منها؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، و "مُسْلِمَةً" هو المفعولُ الثاني، والأصل: "واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً"، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على "أمة" وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه: "مِنْ ذرِّيَّتنا" وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ، وجَعَلوا قولَه:
722 - يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ الـ * ــعَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً
(2/101)
---(1/522)
ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك: "ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ" وهذا غيرُ فصيحٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ "اجعَلْ" المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ "من ذريتنا" به، ويكونُ "أمةً" مفعولاً به؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه "اخلُقْ" إنما معناه صيِّر، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} أن يكونَ التقديرُ: وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما، وقوله "لكَ" فيه الوجهان المتقدمان بعد "مسلِمَيْنِ".
قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً، فـ"نا" مفعولٌ أولُ، و "مناسِكَنا" مفعولٌ ثانٍ. وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من "رأى" بمعنى عَرَفَ فتتعدذَى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين، كقوله:
723 - وإنّضا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً * إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ
وقال الكميت:
724 - بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ * ترى حُبذَهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ
وقال ابن عطية: "ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ: وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر:
725 - أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني * أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا
(2/102)
---(1/523)
يعني: أنه قد تَعدَّى "عَلِم" القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمةِ أم لا، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ، ألا ترى أن قولَه "جواداً ماتَ" من متعلِّقات البصر، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي "أعلَم" القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ. وقال بعضهم: "هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر"، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاص.
وقرأ الجمهور: "أَرِنَا" بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ. "أَرِني أنظرْ"، وفي فُصّلت: {أَرِنَا الَّذَيْنِ}، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها. أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور، وأما الإِسكان فللتخفيفِ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ وكتِف: كتْف.
وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا: صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه: "أَرْءِنا" ثم نُقِل، قاله الزمخشي تابعاً لغيره. قال الفارسي: "التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ" وقال أيضاً: "ألا تراهم أَدْغموا في {لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي}، والأصل: "لكنْ أنا" "نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا، فذهابُ الحركةَ في "أَرِنا" ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال:
(2/103)
---(1/524)
726 - أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها * من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا
وأصل أَرِنَا: أَرْءِنا، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ} والمناسِكُ واحدُها: مَنْسَك بفتح العين وكسرِها، وقد قرىء بهمنا والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه. والمنسَكُ: موضعُ النسُك وهو العبادة.
قوله: {فِيهِمْ} في هذا المضيرِ قولان: أحدُهما: أنه عائدٌ على معنى الأمة، إذ لو عادَ على لفظِها لقال: "فيها" قاله أبو البقاء، والثاني: أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ. المتقدِّم. وقيل: يعودُ على أهل مكة، ويؤيده: {الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً }
* { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
قوله تعالى: {مِّنْهُمْ}: في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لرسولاً فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: رسولاً كائناً منهم.
قوله: {يَتْلُواْ} في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذا تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ. والثاني: أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من "رسولا" لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ. الثالث: أنها حالٌ من الضميرِ في "مِنْهم" والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به "منهم" لوقوعِه صفةً.
وتقدَّم قولُه "العزيزُ" لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر "الحكيمُ" لأنها صفةُ فِعْل.
ويقال: عَزَّ يَعُزَّ، وَيَعَزُّ، ويَعِزُّ، ولكنْ باختلافِ معنىً، فالمضمومُ بمعنى غَلَب ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} والمفتوحُ بمعنى الشدةِ، ومنه: عَزَّة لحمُ الناقة أي: اشتدَّ، وعَزَّ عليَّ هذا الأمرُ، والمكسورُ بمعنى النَّفاسةِ وقلةِ النظري.
(2/104)
---(1/525)
* { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ}: "مَنْ" اسمُ استفهامٍ بمعنى الإِنكار فهو نفيٌّ في المعنى، ولذلك جاءَتْ بعده "إلاَّ" التي للإِيجابِ، ومحلُّه رفعٌ بالابتداءِ، و "يَرْغَبُ" خبرُه، وفيه ضميرٌ يعودُ عليه، والرغبةُ أصلُها الطلبُ، فإنْ تَعَدَّت بـ"في" فكانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو: رَغِبْت في الطلبُ، فإنْ تَعَدَّت بـ"في" كانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو: رَغِبْت في كذا، وإن تَعَدَّت بـ"عن" كانت بمعنى الزَّهادة نحو: رَغِبْت عنك.
قوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} في "مَنْ" وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من لاضمير في "يَرْغَبُ" وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ، فإذا قلتَ: ما قام القومُ إلا زيدٌ، فـ"إلاَّ" عندهم حرفُ عطفٍ وزيدُ معطوفٌ على القوم: ما قام القومُ إلا زيدٌ، فـ"إلاَّ" عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و "مَنْ" يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني.
(2/105)
---(1/526)
قوله: {نَفْسَهُ} في نصبِه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [الفاء] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال: "سَفِه نفسَه: امتَهَنَها واستخَفَّ بها"، ثم ذَكَر أوجهاً أُخَرَ، ثم قال: "والوجهُ الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الاحديث: "الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحقَّ وتَغْمَصَ الناسَ". الثاني: أنه مفعولٌ به ولكن على تضمين "سَفِه". معنى فِعْلٍ يتعدَّى، فقدَّره الزجاج وابنُ جني بمعنى جَهِل، وقدَّره أبو عبيدة. بمعنى أهلك. الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ تقديره: سَفِه في نفسه. الرابع: توكيدٌ مؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره: سَفِه قولَه نفسَه، فحذَفَ المؤكَّد، قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكي. الخامس: أنه تمييزٌ وهو قولُ بعضِ الكوفيينن قال الزمخشري: "ويجوز أَنْ يكونَ في شذوذِ تعريفِ المُمَيِّز نحو قوله:
727 - .................... * ولا بفَزارةَ الشّثعْرِ الرِّقَابا
728 - ................... * أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
فجعل الرِّقابَ والظهرَ تمييزَيْن، وليسَ كذلك، بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به لأنهما معمولاً صفةٍ مشبهةٍ، وهي الشُّعْر جمع أَشْعر، وأجَبّ وهو اسمٌ. السادس: أنه مشبّهٌ بالمفعولِ به وهو قولُ بعض الكوفيين. السابع: أنه توكيدٌ لِمَنْ سَفِه، لأنه في محلِّ نصبٍ على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريجٌ غريبٌ نقله صاحب "العجائب والغرائب"، والمختارُ الأولُ لأنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ وكذلك حرفِ الجرِّن وأمّا حَذْفُ المؤكَّد وإبقاءُ التوكيدِ فالصحيحُ لا يجوزُ، وأمَّا التمييزُ فلا يقع معرفةً، وما وَرَدَ نادرٌ أو مُتَأَوَّل، وأمّا النصبُ على التشبيهِ بالمفعولِ فلا يكونُ في الأفعالِ إنما يكون في الصفاتِ المشبَّهةِ خاصةً.
(2/106)
---(1/527)
قوله: {فِي الآخِرَةِ} فيه خمسةُ أوجه، أحدُهما: أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً. الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي: وإن لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين. الرابع: أن يتعلَّقَ بقولِه "الصالحين" وإنْ كانت أل موصولةً: لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً، ونظيرُه قوله:
729 - رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا * كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا
الخامس: أن يتعلَّق بـ"اصَطَفْناه" قال الحسين بن الفضل: "في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة" وهذا ينبغي ألاَّ يجوزُ مثلُه في القرآنِ لنُبُوِّ السَّمْعِ عنه.
والاصطفاءُ: الاختيارُ، افتعال من صَفْوةِ الشيء وهي خِيارُه، وأصلُه: اصْتَفى، وإنما قُلِبت تاءُ الافتعال طاءً مناسبةً للصادِ لكونِها حرفَ إطباقٍ وتقدَّم ذلك عند قولِه: {أَضْطَرُّهُ} . وأكَّد جملةَ الاصطفاءِ باللام، والثانية بإنَّ واللام، لأنَّ الثانية محتاجةٌ لمزيدِ تأكيدٍ، وذلك أنَّ كونَه في الآخرةِ من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاجَ الإِخبارُ به إلى فَضْلِ توكيدٍ، وأمَّا اصطفاءُ الله له / فقد شاهَدُوه منه ونَقَله جيلٌ بعد جيلٍ.
* { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
(2/107)
---(1/528)
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ}: في "إذ" خمسةُ أوجهٍ أصَحُّها أنه منصوبٌ بـ"قال أَسْلَمْتُ"، أي: قال أسلمتُ وقتَ قولِ الله له أَسْلَمْ. الثاني: أنه بَدَلٌ من قوله "في الدنيا". الثالث: أنه منصوبٌ باصطفيناه. الرابع: أنه منصوبٌ بـ"اذكر" مقدَّراً، ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري. وعلى تقدير كونِه معمولاً لاصطفيناه أو لـ"اذكر" مقدرّاً يبقى قولُه "قال أسلمْتُ" غيرَ منتظم مع ما قبله، إلا أنْ يُقدَّرَ حذفُ حرفِ عطفٍ أي: فقال، أو يُجْعَلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّرٍ أ: ما كان جوابُه؟ فقيل: قال أسلَمْتُ، الخامس: أبْعَدَ بعضُهم فجعله مع ما بعدَه في محلِّ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيه "اصطَفَيْناه".
وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل: إذ قلنا، لأنَّ بعدَ "ولقَدِ اصْطَفَيْناه" وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه:
730 - باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً * وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا
وقوله {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه من الفخامة ما ليس في قوله "لك" أو "لربّي"، لأنه إذا اعترف بأنَّه ربُ جميعِ العالمينِ اعتَرَف بأنه ربُّه وزيادةٌ بخلافِ الأول فلذلك عَدَلَ عن العبارَتَيْنِ. وفيه قوله: "أَسْلْمِ" حَذْفُ مفعولٍ تقديرُه: أَسْلِمْ لربِّك.
* { وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {وَوَصَّى}: قُرِىء مِنْ وصَّى، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً.
(2/108)
---(1/529)
والضميرُ في "بها" فيه ستةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه يعودُ على المِلَّة في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}، قال الشيخ: "وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكُرِ [المهدوي] وغيرَه" والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله "أَسَلَمْتُ" لتأويله بالكلمةِ، قال الزمخشري: "والضميرُ في "بها" لقولِه {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} إلى قوله: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} وقولُه "كلمةً باقيةً" دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه "أَسْلَمْتُ" كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري: قال ابن عطية: "وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور". الثالثُ: أنه يَعودُ على متأخر، وهو الكلمةُ المهفومةُ مِنْ قولِه: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ}. الرابع: أنه يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ذِكْرٌ]. الخامسُ: أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً. السادسُ: أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله: "ووصَّى"، و "بها" يتعلَّق لوصَّى. و "بنِيه" مفعولٌ به.
قوله: {وَيَعْقُوبُ} الجمهورُ على رفعه وفيه قولان، أظهرهُما: أنه عطفٌ على "إبراهيم" ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي: ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً، والثاني: أن يكونَ مرفوغاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال: يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على "بَنيه"، أي: ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً.
(2/109)
---(1/530)
قوله: {يَابَنِيَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه من مقولِ إبراهيمِ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتِ منصوباً. والثاني: أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه: "ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله: "يا بَنِيَّ" وما بعدها [منصوبةٌ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين، أي: فقال يا بَنِيَّ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين، وقال الراجز:
731 - رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا * إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا
بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ، ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود: "أَنْ يا بَنِيَّ" بـ"أَنْ" المفسرة، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً.
ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق. ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب.
و "اصطفى" ألفُه عن ياء، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً. و "لكم" أي لأجلكم، والالفُ واللامُ في "الذين" للعهدِ.
(2/110)
---(1/531)
قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ} هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك: "لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع"، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كلاصلاة، كأنه قال: أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم.
وأصل تموتُنَّ: تموتُونَنَّ: النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان: الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره. {إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة، و "أنتم مسلمون" مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى "لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ"، والعاملُ فيها ما قبلَ إلاَّ.
* { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَاهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
(2/111)
---(1/532)
قوله: { أَمْ}: في أم هذه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدثهما - وهو المشهورُ -: أنها منقطعةٌ، والمنقطعةُ تُقُدَّر بـ"بل" وهمزةِ الاستفهامِ وبعضُهم يقدَّرُها ببل وحدَها. ومعنى الإِضرابِ انتقالٌ من شيءٍ إلى شيءٍ لا إبطالٌ له، ومعنى الاستفهامِ الإِنكارُ والتوبيخُ فيؤُول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداءَ يعنل يم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى / همزةِ الاستفهامِ وهو قولُ ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلِّها: فإنَّ ابن عطية قال: "وأم تكون بمعنى ألفِ الاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَّة" وقال الطبري: "إنَّ أم يُستفهم بها وسْطَ كلامٍ قد تقدَّم صدرُه"، قال الشيخ في قول ابن عطية: "ولم أقفْ لأحدٍ من النحويين على ما قال"، وقال في قول الطبري: "وهذا أيضاً قولُ غريبٌ". الثالثك أنها متصلةٌ وهو قولُ الزمخشري، قال الزمشخري بعد أن جَعَلَها منقطعةً وجَعَلَ الخطابَ للمؤمنين قال بعد ذلك: "وقيل الخطابُ لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبيٌّ إلى على اليهودية، إلا أنهم لو شَهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه لظَهَر لهم حِرْصُه على مِلَّة الإِسلامِ ولَمَا ادْعوا عليه اليهوديةَ، فالآيةُ منافيةٌ لقولهم، فكيف يُقال لهم: أم كنتم شهداءَ؟ ولكن الوجهَ أن تكونَ "أم" متصلةً على أَنْ يُقَدَّرَ قبلَها محذوفٌ كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياءِ اليهوديةَ أم كنتُمْ شهداءَ، يعني أنَّ أوائلكم من بني إسرائيلَ كانوا مشاهِدين له إذا أراد بَنيه على التوحيد وملَّةِ الإِسلامِ. فما لكم تَدَّعُون على الأنبياءِ ما هم منه بَراءٌ؟".
(2/112)
---(1/533)
قال الشيخ: "ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه، لو قلت: "أم زيدٌ" تريد: "أقام عمروٌ أم زيدٌ" لم يَجُزْ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك: "بلى وعمراً" لمَنْ قال: لم يَضرِبْ زيداً، وقوله تعالى: {فَانفَجَرَتْ} أي فضربَ فانفجَرَتْ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله:
732 - فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا * .......................
أي: من أخٍ أو والدٍ، ومع حتى كقوله:
733 - فواعَجَباً كُلَيْبٌ تَسُبُّني * كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ
أي: يَسُبُّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ، على نظرٍ فيه، وإنما الجائزُ حَذْفُ "أم" مع ما عَطَفَتْ كقوله:
734 - دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ * سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك لأنَّ المستفْهَمَ عن الإِثبات يضمَّن نقيضَه، ويجوز حَذْفُ الثواني المقابلاتِ إذا دَلَّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قولِه: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} كيف حَذَف "والبردَ". انتهى. و "شهداء" خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد، وقد تقدَّم أول السورة.
قوله: {إِذْ حَضَرَ} "إذ" منصوبٌ بشهداءَ على أنَّ ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي: شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته، قال الشاعر:
735 - وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا * قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتث
أي: أنا سببُه، والمشهورُ نصبُ "يعقوب" ورفع "الموت"، قَدَّم المفعولَ اهتماماً. وقرأ بعضُهم بالعكس. وقُرىء "حَضِر" بكسر الضاد قالوا: والمضارعُ يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخُلِ وقد تقدَّم.
قوله: {إِذْ قَالَ} "إذ" هذه فيها قولان أحدُهما: بدلٌ من الأولى، والعاملُ فيها: إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك. الثاني: أنها ظرفٌ لحَضَر.(1/534)
(2/113)
---
قوله: {مَا تَعْبُدُونَ}؟ "ما" اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى بـ"ما" دون "مَنْ" لأحدِ أربعةِ معانٍ، أحدُهما: أنَّ "ما" للمُبْهَمِ أمرُه، فإذا عُلِمَ فُرِّق بـ"ما" و "مَنْ. قال الزمخشري: "وكفاك دليلاً قولُ العلماء "مَنْ لما يَعْقِل". الثاني: أنها سؤالٌ عن صفةِ المعبود، قال الزمخشري: "كما تقول: ما زيدٌ؟ تريد: أفقيهٌ أم طبيبٌ أم غيرُ ذلك من الصفات". الثالث: أن المعبودات ذلك الوقتَ كانت غيرَ عقلاء كالأوثان والأصنام والشمسِ. والقمرِ، فاسْتَفْهم بـ"ما" التي لغير العاقل فَعَرَف بنوه ما أراد فأجابوه بالحقِّ. الرابع: أنه اختَبَرهم وامتحَنَهم فسألهم بـ"ما" دون "مَنْ" لئلا يَطْرُقَ لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصودُه الاختبارُ. وقولُه "مِنْ بعدي" أي بعد موتي.
قوله: {وَإِلَاهَ آبَائِكَ} أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ، والجمهور على "آبائِك" وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء "أبيك"، وقرأ أُبَيّ: "وإلَه إبراهيم" فأسقط "آبائك". فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ. وفي "إبراهيم" وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أوحدُها: أنه بدلٌ. والثاني: أنه عطفُ بيانٍ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ. الثالثُ: أنه منصوبٌ بإضمار "أعني"، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه، كما يُطْلَقُ على الخالة أب، ومنه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} في أحد القولين. قال بعضهم: "وهذا من باب التغليب، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما، قال عليه السلام: "رُدُّوا عليَّ أبي" يعني العباس.
(2/114)
---(1/535)
وأمَّا قراءة "أَبيك" فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفرداً غيرَ جمعٍ، وحينئذٍ: فإمّا أَنْ يكونَ واقعاً موقعَ الجمعِ أولا، فإن كان واقعاً موقع الجمعِ فالكلامُ في "إبراهيم" وما بعدَه كالكلامِ فيه على القراءة المشهورةِ، وإنْ لم يكنْ واقعاً موقعه بل أُريد به الإِفرادُ لفظاً ومعنىً فيكون "إبراهيم" وحدَه على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكونُ إسماعيلُ وما بعدَه عطفاً على "أبيك" أي: وإله إسماعيل. الثاني: يكونَ جَمْعَ سلامةٍ بالياء والنون، وإنما حُذِفَت النون للإِضافة، وقد جاء جمعُ أب على "أَبُون" رفعاً، و "أبِين" جَرَّاً ونَصْباً حكاها سيبيوه، قال الشاعر:
736 - فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا * بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا
ومثله:
737 - فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ * ....................
والكلامُ في إبراهيمِ وما بعده كالكلامِ فيه بعد جمعِ التكسير. وإسحاق علم أعجمي ويكونُ مصدرَ أًسْحق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرَف، والجمعُ أساحِقة وأساحيق.
قولُه: {إِلَاهاً وَاحِداً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ "إلهك" بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ [كَاذِبَةٍ]}. والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه:
738 - فلا وأبيك خيرٍ منك * إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
(2/115)
---(1/536)
فـ"خيرٍ" بدل من "أبيك"، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ. والثاني أنه حالٌ من "إلهك" / والعاملُ فيه "نعبدُ"، وفائدةُ البدلِ والحالِ التنصيصُ على أن معبودَهم فَرْدٌ إذ إضافةُ الشيءِ إلى كثير تُوهم تعدادَ المضافِ، فنصَّ بها على نَفْي ذلك الإِبهامِ. وهذه الحالُ تسمّى "حالاً موطئةً" وهي أَنْ تذكرها ذاتاً موصوفةً نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً. الثالث: - وإليه نحا الزمخشري - أن يكونَ منصوباً على الاختصاص أي: نريد بإلهاك إلهاً واحداً. قال الشيخ: "وقد نَصَّ النحويون على أنَّ المنصوبَ على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً".
قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدثها: أنها معطوفةٌ على قوله: "نعبد" يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة. والثاني: أنها حالٌ من فاعلِ "نَعْبُدُ" والعاملُ "نَعْبُد". والثالث: - وإليه نحا الزمخشري - ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ، أي: ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ. قال الشيخ: "ونصَّ النحيوين على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ: إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله:
739 - ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما * يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل
وقوله:
740 - ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً * والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ
أو بين مسندٍ ومسند إليه كقوله:
741 - وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ * أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ
(2/116)
---(1/537)
أو بينَ شرطٍ وجزاءٍ أو قَسَمٍ وجوابِه، ممَّا بينهما تلازُمٌ ماء، وهذه الجملةُ قبلَها كلامٌ مستقلَّ عمَّا بعدَها، إنَّ بينَ المُشار إليه وبينَ الإِخبارِ عنه تلازماً لأنّض ما قبلها مِنْ بني يعقوبَ وما بعدَها من كلام الله تعالى، أَخْبر بها عنهم، والجملةُ الاعتراضيةُ إنما تكونُ من الناطقِ بالمتلازِمَيْنِ لتوكيدِ كلامِه". انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية: "ونحنُ لَه مسلمون ابتداءٌ وخبرٌ أي: كذلك كنَّا ونحن نكون". قال الشيخ: "يَظْهَرُ منه أنه جَعَلَ هذه الجملةُ عطفاً على جملةٍ محذوفةٍ ولا حاجةَ إليه".
* { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قولُه تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ}: "تلكَ" مبتدأٌ، و "أمةٌ" خبرُه، ويجوزُ أن تكونَ "أمةٌ" بدلاً من "تلك" و "قد خَلَتْ" خبرٌ للمبتدأ.: وأصل تلك: تي فلمَّا جِيء باللامِ للبعدِ حُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنَيْنِ، فإنْ قيلَ: لِمَ لَمْ تُكْسَرُ اللامُ حتى لا تُحْذَفَ الياءُ؟ فالجوابُ أَنَّه يَثْقُل اللفظُ بوقوع الياءِ بين كسرتين. وزعم الكوفيون أن التاءَ وحدَها هي الاسمُ، وليس ثَمَّ شيءٌ محذوقٌ. وقوله "قد خَلَتء" جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفةً لـ"أمَّة"، إنْ قيل إنَّها خبرُ "تلك"، أو خبرُ "تلك" إنْ قيل إنَّ "أُمَّة" بدلٌ من "تلك"، كما تقدَّم، و "خَلَتْ" أي صَارتْ إلى الخلاءِ وهي الأرْضُ التي لا أنيسَ بها، والمرادُ به ماتَتْ، والمشارُ إليه هو إبراهيم ويعقوبُ وأبناؤُهم.
(2/117)
---(1/538)
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً، فيكونُ محلُّها رفعاً. والثاني: أن تكونَ حالاً من الضمير في "خَلَتْ" فمحلّثها نصبٌ، أي: خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها. الثالث: أن تكونض استئنافاً فلا محلذَ لها. وفي "ما" مِنْ قولِه: "ما كَسَبَتْ" ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بمعنى الذي. والثاني: أنها نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: كَسَبَتْه، إلاَّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول. والثالث: أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي: لها جزاءُ كَسْبِها.
قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إنْ قيل: إنَّ قولَه {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه، وإنْ قيل إنّضه صفةٌ أو حالٌ فلا، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها، وأمَّا الحاُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و "ما" مِنْ قولِه "ما كسبتم" كـ"ما" المتقدمةِ.
قوله: {وَلاَ تُسْأَلُونَ} هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلاَّ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك. و "ما" يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ أو حرفية أو نكرةً، وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: ولا يُسْأَلون عمّا كنتم تَعلمون. قال أبو البقاء: "ودلَّ عليه: لَهَا ما كَسَبَتْ ولكم ما كَسَبْتُم انتهى. ولو جُعِلَ الدالُّ قولَه {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كان أَوْلى لأنه مقابلَةٌ.
(2/118)
---(1/539)
* { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قوله تعالى: {هُوداً أَوْ نَصَارَى}: الكلامُ في "أو" كالكلامِ فيها عندَ قولِه: "وقالوا: لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى" وقد تقدَّم، و "تهتدوا" جزمٌ على جوابِ الأمرِ، وقد عُرِفَ ما فيه من الخلافِ: أعني هل جَزْمُه بالجملةِ قبلَه أو بـ"إنْ" مقَدَّرَةً؟
قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} قرأ الجمهور: "مِلَّةَ" نصباً، وفيها أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ، أي: بل نتبعُ مِلّةَ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً: اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية. الثاني: أنه منصوبٌ على خبر كان، أي: بل نكونُ مِلَّة أي: أهلَ ملة، كقول عدي بن حاتم: "إني من دين" أي من أهل دين، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري. الثالث: أنه منصوبُ على الإِغراء أي: الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ. الرابع: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ، والأصلُ: نَقْتَدي بملةِ إبراهيم، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ،وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ: بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما تقدَّم، وأ يكونُ خطاباً للكفارِ فيكونُ التقديرُ: كونوا أو اتَّبعوا او اقتدوا. وقرأ ابن هرمز وابن أبي عبلة "مِلَّةُ" رفعاً. وفيها وجهان: أحدثهما: خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: بل ملتُنا ملةُ إبراهيمَ أو نحن ملةُ، أي أهلُ ملة.
والثاني: أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، تقديرُه: مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا.
(2/119)
---(1/540)
قوله: {حَنِيفاً} في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حالٌ من "إبراهيم" لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم، أحدها: أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ. الثاني: أنْ يكون جزءاً نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. الثالث: أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ. والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً، قالوا: لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل. ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ، وهما عملان في صاحِبها عند هذا القائل. ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ، وشبَّهه بقولك: "رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً" وهو قولُ الزجَّاج.
الثاني: نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي: نتبعُ حنيفاً، وقدَّره أبو البقاء بأعني، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ.
الثالث: أنه منصوبٌ على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، وكان الأصلُ عندهم: إبراهيمَ الحنيفَ، فلمَّا نكَّره لم يُمْكِن إتْباعه، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك.
الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من "ملَّة" فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وقد تقدَّم، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من "إبراهيم" لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها، فإنْ قيل: صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال: حنيفةً، فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث. والثاني: أن الملَّة بمعنى الدِّين، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ذكر ذلك ابنُ الشجري في "أماليه".
(2/120)
---(1/541)
والحَنَفُ: المَيْلُ ومنه / سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه:
742 - واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه * ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ
ويقال: رَجُلٌ أَحْنَفُ وامرأة حَنْفَاءُ، وقيل: هو الاستقامةُ، وسُمِّي المائلُ الرجلِ بذلك تفاؤلاً كقولِهم لِلديغ: "سليمٌ"، وللمَهْلَكَة: "مفازة" قاله ابن قتيبة، وقيل: الحَنيفُ لَقَبٌ لمن تَدّيَّن بالإِسلام، قال عمرو:
743 - حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي * إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ
قاله القفال، وقيل: الحَنيف: المائلُ عَمّا عليه العامَّةُ إلى ما لزِمه، قاله الزجاج وأنشد:
744 - ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا * حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ
* { قُولُوااْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
قوله تعالى: {قُولُوااْ}: في هذا الضمير قولان، أحدُهما: أنَّه للمؤمنينِ والمرادُ بالمُنَزَّلِ إليهم القرآنُ على هذا. والثاني: أنه يعودُ على القائلين كونوا هوداً أو نصارى، والمرادُ بالمُنَزَّل إليهم: إمّا القرآنُ وإمَّا التوراةُ والإِنجيلُ، وجملةُ "آمنَّا" في محلِّ نَصْبِ بقوله، وكرَّر الموصول في قولِه: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} لاختلافِ المنزَّلِ إلينا والمُنزَّلِ إليه، فلو لم يكرِّر لأوْهَمَ أن المنزَّلَ إلينا هو المنزَّلُ إليه، ولم يكرِّر في "عيسى" لأنه لم يخالِفْ شريعةَ موسى إلا في نَزْر يَسير، فالذي أوتيه عيسى هو عينُ ما أُوتيه موسى إلاَّ يسيراً، وقُدِّم المنزَّلُ إلينا في الذِّكرْ وإِنْ كان متأخراً في الإِنزال تشريفاً له.
(2/121)
---(1/542)
والأسْباط: جمعُ "سِبْط" وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً. واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون. وقيل: هو مَقْلُوبٌ من البَسْط، وقيل: مِنْ "السَّبَط: بالتحريك جمع "سَبَطة" وهو الشجرُ الملتفُّ. وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لانتشارِ ذرِّيَّتهم، ثم قيل لكل ابن بنت: "سِبْط".
قوله: {وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى} يجوزُ في "ما" وجهان، أحدثهما: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفع بالابتداءِ، ويكونُ {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} عطفاً عليها، وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ "مِنْ ربهم". والثاني: أن يكون "لا نفرِّقُ" هكذا ذَكِرَ الشيخ، إلا أنَّ في جَعْلِ "لا نفرِّقُ" خبراً عن "ما" نظراً لا يَخْفى من حيثُ عدمُ عودِ الضميرِ عليها. ويجوزُ أن تكونَ "ما" الأولى عطفاً على المجرورِ، وما الثانيةُ مبتدأةً وفي خبرها الوجهانِ، وللشيخ أن ينفصِلَ عن عدمِ عَوْدِ الضميرِ بأنَّه محذوفٌ تقديرُه: لا نفرِّق فيه، وحَذْفُ العائدِ المجرورِ بـ"في" مطَّردٌ كَما ذَكَر بعضُهم، وأنشد:
745 - فيومٌ علينا ويومٌ لنا * ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
أي: نُساء فيه ونُسَرُّ فيه.
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، ويتعلَّقُ بـ"أُوتِيَ" الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو بـ"أوْتِيَ" الأولى، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين، الثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث: انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا "ما" مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه.
(2/122)
---(1/543)
قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِّقُ بـ"لا نُفَرِّقُ"، وفي "أحد" قولان أظهرُهما: أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ، فلذلك صَحَّ دخولُ "بين" عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو: "المالُ بين الناس". والثاني: أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد، وعلى هذا فلا بدَّ من تقيدرِ معطوفٍ ليَصِحَّ "بَيْنَ" على متعددٍ، ولكنه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى، والتقدير: بين أحدٍ منهم، ونظيرُه ومثلُه قولُ النابغة:
746 - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً * أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي: بين الخير وبيني. و "له" متعلِّقٌ بمسلمون، قُدِّم للاهتمامِ به لعَوْدِ الضميرِ على الله تعالى أو لتناسُبِ الفواصل.
* { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ}: في الباءِ أقوالٌ، أحدُها: أنها زائدةٌ كهي في قولِه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} وقوله:
747 - .................. * سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
(2/123)
---(1/544)
والثاني: أنها بمعنى "على، أي: فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله". والثالث: أنَّها للاستعانةِ كهي في "نَجَرْتُ بالقَدُوم" و "كَتَبْتُ بالقلم" والمعنى: فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم، وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً، و "ما" مصدريةً والضميرُ في "به" عائداً على الله تعالى، والتقديرُ: فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به، و "مثل" هنا فيها قولان، أحدُهما: أنَّها زائدةٌ والتقديرُ: بما آمنْتُم به، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن عباس، وذكر البيهقي عن ابن عباس: " لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم [به] فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به} وهذه تُرْوَى قراءةً [عن] أُبَيّ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ:
748 - فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ
وقال بعضهم: هذا من مجازِ الكلام تقولُ: هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك، أي لا تَفْعَلُه أنت، والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نَقَلَه ابنُ عطية، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ "مثل" وزيادتِها، والثاني: أنها ليست بزائدةٍ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ، أي: فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي: فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به، والمعنى: فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء.
و "ما" قولِه: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ: إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ "ما" على أولي العلمِ نحو: {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا} وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ. والثاني: أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك. والضميرُ في "به" فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم. والثاني: أن يعودَ على "ما" إذا قيل: إنَّها بمعنى الذي.
(2/124)
---(1/545)
قوله: {فَقَدِ اهْتَدَواْ} جوابُ الشرط في قوله: "فإنْ آمنوا"، وليس الجوابُ محذوفاً، كهو في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} لأنَّ تكذيبَ الرسلِ ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ.
قوله: {فِي شِقَاقٍ} خبرٌ لقوله: "هم" وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون، ومثلُه: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} ونحوُه: والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ. وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه / أي: جانبِه، قال امرؤ القيس:
749 - إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له * بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ
أي: بجانبٍ. الثاني: أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه. الثالث: أنّضه من قولهم: "شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك" وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم، والفاءُ في قولهِ: "فَسَيَكْفِيكَهُم" تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم. وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي: بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم.
* { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }
(2/125)
---(1/546)
قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}: قرأ الجمهورُ "صبغةَ" بالنصبِ، وقال الطبري: "مَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع" وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ انصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد وهذا اختاره الزمخشري، وقال: "هو الذي ذَكَر سيبويه والقولُ ما قالَتْ حَذامِ" انتهى قولُه. اختُلَفِ حنيئذٍ عن ماذا انتصَبَ هذا المصدرُ؟ فقيل عن قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقيل عن قولِه: {فَقَدِ اهْتَدَواْ}، وقيل: عَنْ قولِه: "فقد اهتَدَوْا". الثاني: أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي: الزَمُوا صبغةَ الله، قال الشيخ: "وهذا ينافِرُه آخرُ الآيةِ وهو قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} إلا أَنْ يُقَدَّر هنا قولٌ، وهو تقديرُ لا حاجةَ إليه ولا دليلَ من الكلامِ عليه". الثالث: أنها بدلٌ من "مِلَّةَ" وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة. الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي: اتِّبِعوا صبغةَ الله، ذكره أبو البقاء مع وجهِ الإِغراءِ، وهو في الحقيقةِ ليس زائداً فإنَّ الإِغراءَ أيضاً هو نصبٌ بإضمارِ فعلٍ.
قال الزمخشري: "وهي - أي الصبغةُ - مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى تطهيرُ الله، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا: آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار: اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ".
(2/126)
---(1/547)
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله. والثاني: أن تكونَ بدلاً مِنْ "مِلَّة" لأنَّ مَنْ رَفَعَ "صِبْغَة" رفع "مِلَّة" كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ.
قولِه: {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي: لا أحدَ، و "أَحْسَنُ" هنا فيها احتملان، أحدُهما: أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ. والثاني: أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ. و "مِنَ الله"، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ. و "صبغةً" نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين. وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ.
قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ {قُولُوااْ آمَنَّا بِاللَّهِ} فهي في محلِّ نصبٍ بالقول، قال الزمخشري: "وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ "صبغة الله" بدلٌ مِنْ "مِلَّةَ" أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه".قال الشيخ: "وتقديرُه في الإِغراءِ: عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله، انتهى". كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها.
* { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ }
(2/127)
---(1/548)
قوله تعالى: {أَتُحَآجُّونَنَا}: الاستفهامُ هنا للإِنكار والتوبيخِ. والجمهورُ: "أتحاجُّوننا" بنونين الأولى للرفعِ والثانيةُ نونُ "نا" وقرأ زيدٌ والحسنُ والأعمشُ بالإدغام، وأجاز بعضُهم حَذْفَ النونِ الأولى، فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ، وأمّا قراءة الإِدغامِ فلاجتماعِ مِثْلَيْن، وسَوَّغَ الإِدغام وجودُ حرفِ المَدِّ والين قبلَه القائمِ مقام الحركةِ، وأما من حَذَفَ فبالحَمْلِ على نونِ الوقايةِ كقراءة: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} وقولِه:
750 - تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً * يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
يريد: فلينني، وهذه الآيةُ مثلُ قولِه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّيا أَعْبُدُ} فإنه قُرِئَتْ بالأوجهِ الثلاثةِ: الفَكِّ والإِدغامِ والحَذْفِ، ولكن في المتواتِر، وهنا لم يُقْرَأْ في المشهورِ كما تقدَّم إلا بالفك. ومَحَلّث هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ قَبْلها. والضميرُ في "قل" يَحْتَمِلُ أن يكونَ للنبي عليه السلام أو لكلِّ مَنْ يَصْلُح للخطابِ، والضميرُ المرفوعُ في "أتحاجُّوننا" لليهودِ والنصارى أو لمشركي العَرَبِ. والمُحَاجَّةُ مُفَاعَلة من حَجَّه يَحُجُّه. وقولُه "في الله" لا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في شأنِ الله أو دينِ الله.
قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه: "ولنا أعمالُنا" ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم.
* { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
(2/128)
---(1/549)
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ}: قرأ حمزة والكسائي وحفص وابن عامر بتاءِ الخطابِ والباقون بالياء، فأمّا قراءةُ الخطابِ فتحتمل "أم" فيها وَجْهين"، أحدُهما: أن تكونَ المتصلةَ، والتعادلُ بين هذه الجملةِ وبين قوله: "أتحاجُّوننا، فالاستفهامُ عن وقوعِ أحدِ هذين الأمْرَيْن: المُحاجَّةِ في اللهِ او ادِّعاءٍ على إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه اليهوديَة والنصرانيةَ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتويبخٍ كما تقدَّم فإنَّ كِلا الأمرين باطلٌ. والثاني: أن تكونَ المنقطعةَ فتتقدَّرَ بـ"بل" والهمزةِ، على ما تقرَّر في المنقطعة على أصحِّ المذاهبِ، والتقدير: بل أتقولون: والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أيضاً فيكونُ قد انتقل عن قولِه: أتحاجُّوننا وأَخَذَ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى، والمعنى على إنكارِ نسبةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ إلى إبرايهمَ ومَنْ ذُكِرَ معه.
(2/129)
---(1/550)
وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ "أم" فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم. وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت: أتقومُ أم يقولم عمروٌ: أيكونُ هذا أم هذا. وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال: "هذا المثالُ غيرُ جيدٍ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والخاطَبُ اثنان غَيْرانِ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ "أم" للألفِ على الحكم المعنوي، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا: أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون" انتهى. وقال الزمخشري: "وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً" قال الشيخ: "ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [خروجٌ] من خطابٍ إلى غَيْبةِ، والضميرُ لناسٍ مخصوصين". وقال أبو البقاء: "أم يقولونَ يُقْرأ بالياء ردَّاً على قوله: "فَسَيَكْفيكُهُم الله" فجَعَلَ هذه الجملةَ متعلقةً بقولِه: "فسيكفيكَهم" وحنيئذٍ لا تكونُ إلا منقطعةً لِمَا عَرَفْتَ أنَّ من شرط المتصلةِ تقدُّمَ همزةِ استفهامٍ أو تسويةٍ مع أن المعنى ليس / على أنَّ الانتقالَ مِن قولِه: "فَسَيَكْفيكهم" إلى قولِه "أم يقولون" حتى يَجْعَلَه ردَّاً عليه وهو بعيدٌ عنه لفظاً ومعنىً.
وقال الشيخ: "الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ "أم" منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم، ألا ترى إلى قولِه: {قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيا إِبْرَاهِيمَ} الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين، بل إحداهما، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً. وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً. و "أو" في قولِه: "هوداً أو نصارى" كهي في قولِه: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} وقد تقدَّم تحقيقُه.
(2/130)
---(1/551)
قوله: {أَمِ اللَّهُ} أم متصلةٌ، والجلاَلةُ عَطْفٌ على "أنتم"، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ: وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ: تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو: أأعلم أنتم أم اللهُ، وتوسُّطُه نحو: أأنتم أعلمُ أم اللهُ، وتأخيرُه نحو: أأنتم أم الله أعلمُ: وقال أبو البقاء: "أم الله" مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، أي: أم الله أعلمُ، و "أم" هنا المتصلةُ أي: أيُّكم أعلم" وهذا الذي قاله فيه نظرٌ، لأنَّه إذا قَدَّر له خبراً صناعياً صار جملةً، وأم المتصلةُ لا تَعْطِفُ الجملةَ بل المفردَ وما في معناه. وليس قولُ أبي البقاء بتفسيرِ معنىً فيُغْتفَرَ له ذلك بل تفسيرُ إعرابٍ، والتفضيلُ في قوله "أعلمُ" على سبيلِ الاستهزاءِ وعلى تقديرِ أن يُظَنَّ بهم عِلْمٌ من الجَهَلَةِ وإلاّض فلا مشاركةَ، ونظيرُه قولُ حسان:
751 - أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ * فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ
وقد عُلِم أنَّ الرسولَ خيرٌ كلُّه.
قوله: {مِنَ اللَّهِ} في "مِنْ" أربعة أوجه، أحدها: أنها متعلِّقةٌ بـ"كَتَم"، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ، لأنَّ "عنده" صفةٌ لشهادة" وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال: و "مِنْ" في قولِه: {شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ} مثلُها في قولِك: "هذه شهادةٌ مني لفلان" هذه شهادةٌ مني لفلان" إذا شَهِدْتَ له، ومثلُه: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في "عنده"، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً، ذَكَره أبو البقاء. الرابع: أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو "عنده" لوقوعِه صفةً، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف.
(2/131)
---(1/552)
قال أبو البقاء: "ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ "مِنْ" بشهادةٍ، لئلا يُفْصَلَ بين الصلةِ والموصولِ بالصفةِ يعني أنَّ "شهادة" مصدرٌ مؤولٌ بحرفٍ مصدري وفعلٍ فلو عَلَّقْتَ "مِنْ" بها لكنْتَ قد فَصَلْتَ بين ما هو في معنى الموصولِ وبين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي وهو الظرفُ الواقعُ صفةً لشهادة. وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: لأ نُسَلِّمُ أنَّ "شهادة" يَنْحَلُّ لموصولٍ وصلتِه، فإنَّ كلَّ مصدرٍ لا يَنْحَلُّ لهما. والثاني: سَلَّمْنا ذلك ولكن لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنَّ الظرفَ صفةٌ بل هو معمولٌ لها، فيكونُ بعضُ الصلةِ لا أجنبياً حتى يَلْزم الفصلُ به بين الموصول وصلِلته، وإنَّما كان طريقُ مَنْع هذا بَغَيْرِ ما ذَكَر، وهو أنَّ المعنى يأبي ذلك.
وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه: كَتَمَ الناسُ شهادةً، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ "من الله" صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله.
(2/132)
---(1/553)
وقال في "ريّ الظمآن": "في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ، والتقديرُ: ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك: "ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة" والمعنى: لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك". قال الشيخ: "وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ: أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور، وأيضاً فيبقى قوله: "مِمَّن كتم" متعلِّقاً إمَّا بأظلم، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ، ويكون إذا ذاك بدلَ عامٍ من خاص وليس بثابتٍ، وإنْ كان بعضُهم زَعَمَ ورودَه، لكنَّ الجمهور تأوَّلوه بوضعِ العامِّ موضعَ الخاص، أو تكونُ "مِنْ" متعلقةً بمحذوف فتكونُ في موضعِ الحال أي: كائناً من الكاتمين. وأمّضا من حيث المدلولُ فإنَّ ثبوتَ الأظلميَّة لمن جُرَّ بـ"مِنْ" يكونُ على تقدير، أي: إنْ كَتَمها فلا أحدَ أظلمُ منه، وهذا كلُّه معنىً لا يَليقُ به تعالى ويُنَزَّه كتابُه عنه".
* { سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ}: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من "السفهاء" والعاملُ فيها "سيقولُ" وهي حالٌ مبيِّنة فإنَّ السَّفَه كما يوصف به الناسُ يُوْصَفُ به غيرُهم من الجمادِ والحيوانِ، وكما يُنْسَبُ القولُ إليهم حقيقةً يُنْسَبُ لغيرهم مجازاً فَرَفَع المجازَ بقولِه: "مِن الناسِ" ذكره ابن عطية وغيرُه.
(2/133)
---(1/554)
قوله: {مَا وَلاَّهُمْ} "ما" مبتدٌ وهي استفهاميةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها، و "عن قِبْلَتِهم" متعلقٌ بـ"وَلاَّهم"، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه "عليها" أي: على توجُّهِهَا أو اعتقادِها، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والاستعلاءُ في قولِه "عليه" مجازٌ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء.
* { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
(2/134)
---(1/555)
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ}: الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ، وهما: إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه بـ"ذلك" غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في "ذلك" على خمسةِ أوجهٍ: أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ: {يَهْدِي مَن يَشَآءُ} والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم الثاني: أنه الجعلُ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ. الثالث: قيل: المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً. قيل: المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الخامس: - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي: مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و "جَعَل" بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، فالضميرُ مفعولٌ أولُ، و "أمةً" مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه. والوسَطُ بالتحريكِ: اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب:
752 - كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ * بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا
ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه، قالَ زهير:
753 - هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ * إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ
وقوله:
754 - وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا
(2/135)
---(1/556)
وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين، فقال: كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ "بَيْنَ" يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون. وقال الراغب: "وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويان القَدْر، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسَطُه صُلْبٌ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو: "وسْط القوم" كذا، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره، المؤنث والمذكرُ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق:
755 - أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه * صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا
رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة، وبفتحِها والضميرُ للجائية.
قوله: "لتكونوا" يجوز في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ لام "كي" فتفيدَ العلة. والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ، وهي وما بعدَها في محلذِ جر، وأتى بـ"شهداء" جمعَ شهيدٍ الذي / يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهودا جمعَيْ شاهد.
(2/136)
---(1/557)
وفي "على" قولان أحدُهما: أنَّها على بابِها، وهو الظاهرُ. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسولُ عليه السلام، وكذلك القولان في "على" الأخيرة، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم. وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ سهادتِهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم، والثاني: أن "شهيداً" أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من "عليكم" فكان قولُه "شهيداً" تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون "عليكم". وهذا الوجهُ قاله الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك.
قوله: {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدثها: أنَّ "القِبلْة" مفعولٌ أولُ، و {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} مفعولٌ ثانٍ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال: {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفةٍ للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ، يريد: وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها، وهي الكعبةُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ".
(2/137)
---(1/558)
الثاني: أنَّ "القِبلةَ" هي المفعولُ الثاني، وإنما قُدِّم، و {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} هو الأول، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [هو المفعولُ الأولُ والملتبٍّسُ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه "القبلةَ" مفعولاً أولَ إلى الوهم. وفيه نظر.
الثالث: أنَّ "القبلة" مفعولٌ أول، و "التي كنتَ" صفتَهَا، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً. ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره: وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته.
الرابع: أن "القبلةَ" مفعولٌ أولُ، و "إلا لِنَعْلَمَ" هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ.
الخامس: أنَّ "القبلةَ" مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ، و {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفةٌ لذلك المحذوفِ، والتقديرُ: وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. وفي قوله "كنت" وجهان أحدهما: أنها زائدةُ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب.
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو: الجلْسة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة. وقال قطرب: "ويقولون: "ليس له قِبْلَةٌ" أي جهةٌ يتوجه إليها". وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ.
(2/138)
---(1/559)
قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله "لنعلم" ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ لرسولَنا فَحَذَفَ، أو أرادَ بذلك تَلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه.
قوله: {مَن يَتَّبِعُ} في "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أنها موصولةٌ، و "يتَّبع" صلتُها، والموصولُ وصلتُه في محلذِ المفعولِ لـ"نعلم" لأأنه يتعدَّى إلى واحدٍ. والثاني: أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و "يتَّبعُ" خبرهُ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِقة للعلم، والعلم على بابِه، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه. وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال: "لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق "نعلم" عن العملِ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ لـ"مِنْ" ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متلِّقةٌ بنَعْلَمَ، وليس المعنى: أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب" انتهى. وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو: عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ. وقرأ الزهري: "إلا ليُعْلَمَ" على البناءِ للمفعولِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ، فإنَّا [لا] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى.
(2/139)
---(1/560)
قوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه، وهذا مجازٌ، وقُرىء "على عَقْبَيْه" بسكون القاف وهي لغةُ تميم.
قوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} "إنْ" هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر، وهو أغلبُ أحوالِها، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى "ما" النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ، والمعنى: ما كانت إلا كبيرةً، نقل ذلك عنهم أبو البقاء، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه.
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ "كبيرةً" "على خبر "كان" واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [عن أبي عمرو] برفعِها، وفيه تأويلان، أحدثهما - وذكره الزمخشري - :أنَّ "كان" زائدةٌ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله:
756 - فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ * وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فإنَّ قولَه "كرام" صفةٌ لجيران، وزادَ بينهما "كانوا" وهي رافعةٌ للضميرِ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل "لنا" خبراً مقدماً، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران. والثاني: أنَّ "كان" غيرُ زائدةٍ، بل يكونُ "كبيرةً" خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّش نصبٍ خبراً لكانت، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً، وهو توجيهٌ ضعيفٌ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك.
(2/140)
---(1/561)
قوله: {إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ} متعلِّقٌ بـ"كبيرة"، وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه، وشرط الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وقال الشيخ: "هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه: وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه ولا شِبْهَه" وقد تقدم جوابُ ذلك.
قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ}{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} قولان أحدثهما: - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ "كان" محذوفٌ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار "أَنْ" وجوباً، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدر مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ. واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً. ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله:
757 - سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو * .....................
(2/141)
---(1/562)
والقولُ الثاني للكفويين: وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ، وقد رَدَّ عليهم أو البقاء فقال: "وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و "أَنْ" بعدها مُرادَةٌ، فيصيرُ التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعةَ إيمانكم، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ "أَنْ" بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا.
واعلم أنَّ قولَك: "وما كان زيدٌ ليقومَ" بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: "ما كان زيدٌ يقومُ"، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ.
وقرأ الضَّحاك: "ليُضَيِّع" بالتشديد، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من "ضاع" القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي: فاحَ فمادةٌ أخرى.
قوله: {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزن: نَدُس، وهي لغةٌ فاشية كقوله:
758 - وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ * يقاتِلُ عَمذَه الرَّؤُفَ الرَّحيما
وقال آخر:
759 - يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً * كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ
(2/142)
---(1/563)
وقرأ الباقون: "لَرَؤُوف" على زنة شَكُور، وقرأ أبو جعفر: "لَرَوُفٌ" من غير همزةٍ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ. والرأفة: أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما: رَئِفٌ على وزن فَخِذ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب. وإنما قُدِّم على "رحيم" لأجلِ الفواصل.
* { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {قَدْ نَرَى}: "قد" هذه قالَ فيها بعضُهم: إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ، وجَعَلَ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر:
760 - لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ * مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
وقال الزمخشري: "قد نرى": ربما نرى، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر:
761 - قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه * كأنَّ أثوابَه مُحَّتْ بفُرْصادِ
قال الشيخ: "وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ، لأنه شَرَحَ "قد نرى" بربما نرى، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه: ثم قال: "ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه لم تُوضَعْ للكثرةِ "قد" مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ".
(2/143)
---(1/564)
قوله: {فِي السَّمَآءِ}: في معلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنه المصدرُ وهو "تقلُّب"، و "في" حينئذ وجهان، أحدثهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ. والثاني: أنَّها بمعنى "إلى" أي: إلى السماء، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثُبَتَ تعدّيه بـ"في"، قال تعالى: {[لاَ يَغُرَّنَّكَ] تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ}. والثاني من القولين: أنه "نرى" وحنيئذ تكونُ "في" بمعنى "مِنْ" أي: قد نَرى مِن السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحَّرُ في جهة على سبيل التشريفِ. والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "وجهِك" ذكرَه أبو البققاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه "وجهك" وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل: كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه.
قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ، و "نُوَلِّي" يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني "قبلةً"، و "ترضاها" الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً، قال الشيخ: "وهذا - يعني "فلنولينك" - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلّثبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها.
(2/144)
---(1/565)
قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: "وَلَّى" يتعدذَى لاثنين أحدُهما "وجهك" والثاني "شطرَ" ويجوز أن ينتصبَ "شطر" على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه، والأولُ أوضحُ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى. والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ويكون بمعنى الجهة والنحو، قال:
762 - ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً * وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ
وقال:
763 - أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي * صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ
وقال:
764 - وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ * هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا
وقال ابن أحمر:
765 - تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ * قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا
وقال:
766 - وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو كِ .............................
وقال:
767 - إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها * وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ
كل ذلك بمعنى: نحو تِلْقاء. ويقال: شَطَرَ: بَعُد ومنه: الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه، يقال: شَطَر شُطوراً، والشَّطيرُ: البعيدُ ومنه منزل شَطِير، وشَطَر إليه أي أقبل. وقال الراغب: "وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار.
(2/145)
---(1/566)
وقوله: {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} في "حيثما" هنا وجهان، أظهرُهما: أنها شرطيةٌ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ "ما" بعدها خلافاً للفراء، بـ"كنتم"، في محلِّ جزم بها، و "فولُّوا" جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ، وهو عاملُ فيها النصبَ نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى} واعلم أنَّ "حيث" من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونثها صارَتْ من عوامل الأفعالِ. قال الشيخ: "وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ، والإِضافةُ موضَّحةُ لِما أُضيف، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ، فإذا وُصِلَتْ بـ"ما" زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ".
والثاني: أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط، والناصبُ له قولُه: "فَوَلُّوا" قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها "ما" وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ. وأصل وَلُّوا: وَلِّيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلثهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا. وقوله: "شَطْرَه" فيه القولان، وهما: إمَّا المفعولُ به وإمَّ الظرفية كما تقدم.
(2/146)
---(1/567)
قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ} يُحْتمل أن تكونَ "أَنَّ" واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ لـ"يَعْلَموْن" عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان. وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه: "فولُّوا". والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله "فَلَنُوَلِّينَّكَ" إلى الغَيْبة.
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي: الحقُّ كائناً مِنْ ربهم. وقرىء: "عمّضا يعملون" بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون / التفاتاً من خطابِهم بقولِه: "وجوهكم - كنتم". وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ، أو للذين على الالفتات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً.
* { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }
(2/147)
---(1/568)
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ}: فيه قولان، أحدُهما قولُ سيبويهِ وهو أنَّ اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و "إنْ" شرطيةٌ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْها ذو خبرٍ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ، و "تَبِعوا" وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً، أي: ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي.
(2/148)
---(1/569)
الثاني: وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن "إنْ" بمعنى "لو"، ولذلك كانَتْ "ما" في الجوابِ، فَجَعَلَ "ما تَبِعوا" جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ بـ"ما" وحدَها، بل لا بُدَّ من الفاءِ، تقول: إن تَزُرْني فما أزورك، ولا يجيز الفراء: "ما أزورك" بغير فاء. وقال ابن عطية: "وجاء جوابُ "لَئِنْ" كجوابِ لو، وهي ضدُّها في أَنْ "لو" تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و "إنْ" تَطْلُب الاستقبالَ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ، لنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه" قال الشيخ: "هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ لـ"إنْ" وقولُه بعدَه: الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه ليسَ لإِنْ، وتعليلُه بقولِ: "لأنَّ أحد الحرفين يَقَعُ موقعَ الآخرِ لا يَصْلُحُ علةً لكونِ "ما تَبِعوا" جواباً للقسمِ، بل لكونِه جواباً لإِنْ، وقوله: "قولَ سيبويه" ليس في كتابِ سيبويه ذلك، إنما فيه أن "ما تَبِعوا" جوابُ القسمِ، ووقعَ فيه الماضي موقعَ المستقبلِ، قال سيبويه: "وقالوا: لَئِنْ فَعَلْتَ ما فَعَلَ يريد معنى ما هو فاعِلٌ وما يَفْعَلَ".
وتلخَّص مِمَّا أنَّ قولَه: "ما تَبِعُوا" فيه قولان، أحدُهما: أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ. والثاني: أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو. وقال أبو البقاء: "ما تَبِعوا" أي: لا يتَّبعوا، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ، ودخلَتْ "ما" حَمْلاً على لفظِ الماضي، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ، وقال الفراء: إنْ هنا بمعنى لو" وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ.
(2/149)
---(1/570)
قوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} "ما" تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً، فعلى الأولِ يكون "أنتَ" مرفوعاً بها، و "بتابع" في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و "بتابعٍ" في محلِّ رفعٍ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم. وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} من وجوهٍ أحدُها: كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ.
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين: إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في اللفظِ، لأنَّ قبلَه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ}. وقُرِىء "بتابعِ قبلتِهم" بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان. واختُلِفَ في هذه الجملةِ: هل المرادُ بها النهيُ أي: لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع. والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران.
(2/150)
---(1/571)
قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} كقولِه: "ولَئِنْ أَتَيْتَ". وقولُه: "إنَّك" جوابُ القسمِ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه، قال الشيخ: "لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [فيه]، لنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً".
و "إذَنْ" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ: أن تكونَ صدراً، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ وألاَّ يكونَ الفعلُ حالاً، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ، ولم تتأخَّرْ لِئَلاَّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي.
(2/151)
---(1/572)
قال الشيخ: "وتحريرُ معنى "إذَنْ" صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ" قال: "والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين، أحدُهما: أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك: أزورُك. فتقول: إذاً أزورَك، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ، وفي هذا الوجِ تكونُ عاملة، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ. الوجه الثاني: أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمِ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه، وذلك، نحو: "إنْ تأتني إذاً آتِكَ"، و "واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ" فلو أُسْقِطَتْ "إذاً" لَفَهُمَ الارتباطُ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو: "أزورك" فتقول: "إذاً أنا أكرمُك"، وجاز توسُّطُها نحو: "أنا إذاً أكرمُك"، وتأخُّرها. وإذا تقرَّر هذا فجاءت "إذاً" في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه". انتهى كلامُه.
واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ، وهي مركبةٌ من همزة وذال ونون، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبوها الكُتَّاب على ذلك، وهذا نهايةُ القولِ فيها. /
(2/152)
---(1/573)
وجاء في هذا المكان {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} وقال قبلَ هذا: {بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ} وفي الرعدَ: {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} فلم يأتِ بـ"من" الجارةِ إلاَّ هنا، واختصَّ موضعاً بـ"الذي"، وموضِعَيْنِ بـ"ما"، فما الحكمةُ في لك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ "الذي" أَخَصُّ، و "ما" أشدَّ إبهاماً، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ، وحيث أتى بلفظِ "ما" أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ، أحدُهما: القِبلةُ، والآخرُ: بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه: {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ}. قال "وأما دخولُ "مِنْ" ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [على] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم، والذين يقال في هذا: إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة.
* { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ}: فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها: أنَّه مرفوع بالابتداءِ، والخبرُ وقوله "يَعْرفونه". الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين آتيناهم. الثالث: النصبُ بإضمار أعني. الرابعُ: الجرُّ على البدلِ من "الظالمين". الخامس: على الصفةِ للظالمين. السادس: النصبُ على البدلِ من {الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} في الآيةِ قبلَها.
(2/153)
---(1/574)
قوله: "يَعْرفونه" فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في "الذين آتيناهم". الثاني: أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان، أحدُهما: المفعولُ الأولُ لآتيناهم، والثاني: المفعولُ الثاني وهو الكتاب، لأنَّ في "يَعْرفُونه" ضميرين يعودان عليهما. والضمير في "يَعْرفونه" فيه أقوالٌ، أحدُهما: أنه يعودُ على الحقِّ الذين هو التحوُّل. الثاني: على القرآن. الثالث: على العِلْم، الرابع: على البيتِ الحرام، الخامس: على النبي صلى الله عليه وسلم وبه بدأ الزمخشري، واختاره الزجاج وغيرُه، قالوا: وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه. قال الشيخ: "بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله: "قولِّ وجهَك" إلى الغيبة".
قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ} الكافُ في محلِّ نَصْبٍ. إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ، التقديرُ: يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم، وهذا مذهبُ سيبويه، وتقدَّم تحقيقُ هذا. و "ما" مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ "يكتمُون الحق" يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ، وقيل: متعلَّقُ العلم هو ما على الكاتمِ من العقابِ، أي: وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق، فتكونُ إذا ذاكَ حالاً مبيِّنةً.
* { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
(2/154)
---(1/575)
قوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للعهدِ، والإِتشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه "يكتمون الحقَّ" أي: هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره. الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الحقُّ من ربك، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ. الثالث: أنه مبتدأٌ والبرُ محذوفٌ تقديرُه: الحقُّ من ربِّك يعرفونه، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من "الحق"، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب: {الحقَّ من ربك} نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم، قاله الزمخشري الثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمار "الزم" ويدلّث عليه الخطابُ بعده [في] قوله: "فلا تكونَنَّ" الثالث: أنه يكونَ منصوباً بـ"يَعْلَمون" قبلَه. وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظارُ موقعَ المضمر أي: وهم يعلمونَه كائناً من ربك، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو:
768 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * ....................
(2/155)
---(1/576)
والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه: نحو {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} دونَ: لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه: "لا تكُنْ ظالماً" نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي: في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف: لا تَظْلِمْ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام.
والمتراءُ: افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ، ومنه المِراء قال:
769 - فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه * إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ
ومارَيْتُه: جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال: تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو: تجاوَروا، واجتوروا. وقال الراغب: "المِرْيَةُ: التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك، والامتراءُ والمُماراةُ: المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ" ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى:
770 - تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِيـ * ــن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون، قال: "ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا: الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [كأنهم] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها".
(2/156)
---(1/577)
* { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}: جمهورُ القراء على تنوين "كل"، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و "وِجْهَةٌ" مبتأُ مؤخرٌ، واختُلِفَ في المضافِ إليه "كل" المحذوفِ فقيل: تقديرُه: ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان، وقيل: ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة لكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ. وفي "وِجْهَة" قولان، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه -: أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذا هي غيرُ مصدرٍ. قال سيبويه "ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ: وِعْدَة، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ: عِدَة، والثاني: أنها مصدرٌ، ويُعْزى للمازني، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذِكْر حَذْفِ الواو من المصادر: "وقد أثبتوا فقال: وِجْهَة في الجِهة"، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ غثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه: وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرة، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت: إنَّ "وِجْهَة" مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه. وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا.
(2/157)
---(1/578)
قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} جملةٌ من مبتدٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة، واختُلِف في "هو" على قولين، أحدَهما: أنه يعودُ على لفظِ "كل" / لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر: "مُوَلاَّها" على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي. ولاثاني: أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي: الله مُوَلِّي القبلةِ إياه، أي ذلك الفريقُ.
وقرأ الجمهورُ: "مُوَلِّيها" على اسمُ فاعل، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ ائمٌ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو "ها" العائدُ على الوجهة، وقيل: على التوليةِ ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ "هو" إلى الفريق، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى، وقرأ بضعُهم: "ولكلِّ وِجْهَةٍ" "بالإِضافة، ويُعزى لابنِ عامر، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها: - وهو قولُ الطبري - : أنها خطأ وهذا ليس بشيء، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ. والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء: أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ، قال الزمخشري: "المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ، كقولِك: لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولزيدٍ أبوه ضاربه.
(2/158)
---(1/579)
قال الشيخ: وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ: لزيدٍ ضَرَبْتُه، ولا: لزيدٍ أنا ضَاربُه، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن، وهما: إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ بللامِ يكون ضعيفاً، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّ لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه:
771 - هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه * والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أنَّ الضميرَ في "يدرسه" للمصدرِ، أي: يدرس الدرسَ لا للقرآن، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه. وأمَّا تمثيلُه بقوله: "لزيدٍ ضَرَبْتُ" فليس نظيرَ الآية لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال، فتقدِّرَ عاملاً في "لكلِّ وِجْهةٍ" يفسِّره "مُولِّيها" لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ، تقول: زيداً مررت به أي: لابست زيداً مررتُ به، ولا يجوزُ: لزيدٍ مررتُ به، قال تعالى: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} وقال:
772 - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا * عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً، وأمَّا تمثيلُه بقولِه: لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي.
(2/159)
---(1/580)
الثالث: أن "لكلَّ وجهةٍ" متعلِّقٌ بقوله: "فاستبقوا الخيراتِ" أي: فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به، كما يُقَدَّمُ المفعولُ، ذكرَه ابنُ عطية، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ "لكلِّ وجهةٍ" في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو "مُوَلٍّ" وهو "ها"، وتكون عائدةً على الطوائفِ، ويكونُ التقديرُ: وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللام للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط، و "مُوَلٍّ" مِمَّا يتعدَّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه، وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل بـ"مُوَلّ" ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقدير: اللهُ "مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة.
قوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} "الخيرات" منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ، التقديرُ: إلى الخيرات، كقول الراعي:
773 - ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ * سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ
أي: إلى سواكم، وذلك لأنّ "استبق": إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه.
(2/160)
---(1/581)
والخَيْرَات جمع: خَيْرة وفيهما احتمالان: أحدُهما: أن تكونَ مخففةً من "خَيِّرَة" بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو: مَيْت في مَيّت. والثاني: أن تكونَ غيرَ مخففةٍ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة، يقال: رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسَّبْقُ: الوصولُ إلى الشيءِ أولاً، وأصلُه التقدُّمُ في السير، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم.
قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} "أين" اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و "ما" مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز، وهي ظرفُ مكانٍ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ، و "تكونوا" مجزومٌ بها على الشرطِ، وهو الناصبُ لها، و "يأتِ" جوابُها، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام.
* { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
قولُه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ}: "مِنْ حيثُ" متعلِّقٌ بقوله: "فولِّ" و "خرجْتَ" في محلِّ جَرٍّ بإضافة "حيث" إليها، وقرأ عبد الله "حيثَ" بالفتح، وقد تقدَّم أنها إحدى اللغات، ولا تكونُ هنا شرطيةً، لعدم زيادةِ "ما"، والهاءُ في قولِه: "وإنَّه لَلْحَقُّ" الكلامُ فيها كالكلامِ عليها فيما تقدَّم. وقرىء "تَعْلَمون" بالياء والتاء، وهما واضحتان كما تقدَّم.
* { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
(2/161)
---(1/582)
قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ}: هذه لامُ كي بعدها "أَنْ" المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ، و "لا" نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ}، و "أَنْ" هنا واجبةُ الإِظهارِ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِ: "فَوَلُّوا وجوهَكم". وقال أبو البقاء: متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك لئلاَّ، ولا حاجةَ إلى ذلك، و "للناس" خبرٌ لـ"يكون" مُقَدَّمٌ على اسمها، وهو "حُجَّةٌ" و "عليكم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً، ولا يتعلَّقُ بـ"حُجَّة" لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه، وهو ممتنعٌ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ، وقد قالَ بعضُهم: "يتعلَّق بحُجَّة" وهو ضعيفٌ. ويجوزُ أن يكونَ "عليكم" خبراً ليكون، ويتعلَّقُ "للناسِ" بـ"يكون" على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه، وذكَّرِ الفعلَ في قوله "يكونَ"؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً.
(2/162)
---(1/583)
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ} قرأ الجمهور "إلاَّ" بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح. فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون / في تأويلها على أربعةِ أقوال أظهرُها: - وهو اختيارُ الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمشخري غيرَه - أنه استثناء متصلٌ، قال الزمخشري: "ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ: ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم، وأَطلْق على قولِهم "حجة" لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة. وقال ابن عطية: "المعنى أنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة، وسمَّها حُجَّة، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم". الثاني: انه استثناءٌ منقطعُ فيُقَدَّر بـ"لكن" عند البصريين وببل عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ: لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ. ومثارُ الخلافِ هو: هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً. الثالث: - وهو قولُ أبي عبيدة - أن "إلاَّ" بمعنى الواو العاطفةِ، وجَعَلَ من ذلك قولَه:
774 - وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه * لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان وقولِ الآخر:
775 - ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ * دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروان
(2/163)
---(1/584)
تقديرُ ذلك عنده: "ولا الذين ظلموا - والفرقدان - ودار مروان" وقد خَطَّأه النحاةُ في ذلك كالزجاج وغيره. الرابع: أنَّ "إلا" بمعنى بَعْدَ، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قولَ الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى}، وقولَه تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} تقديرُه: بعد الموتةِ وبعدَ ما قد سَلَف، وهذا من أفسدِ الأقوالِ وأنْكَرِها وإنما ذكرْتُه لغرضِ التنبيه على ضَعْفِه.
و "الذين" في محلِّ نصب على الاستثناءِ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً. وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في "عليكم"، والتقديرُ: لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ: {إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ} كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك.
وإمَّا قراءةُ ابن عباس فـ"ألا" للاستفتاح، وفي محلِّ "الذين حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه: "فلا تَخْشَوْهم" وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً، كأنه قيل: مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال، أي: لاَ تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم. الثاني: أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةً الفاءِ. الثالث - نقله ابن عطية -: أن يكونُ منصوباً على الإِغراء.
(2/164)
---(1/585)
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وجعل "إلى" حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع، والتقديرُ: لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ "إلا لاذين" بتخفيف "إلا" فاعتقَدَ ذلك فيها، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم". و "منهم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ويحتمل أَنْ تكونَ "مِنْ" للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان.
قوله: {وَلأُتِمَّ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنه معطوفٌ على قوله "لئلا يكونَ" كأن المعنى: "عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ، فيكونُ التعرفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى. الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ، فكأنه قيل: واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم. الثالث: أنه مُتلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه: "ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم. الرابع: وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها، والواوُ زائدة، تقديرُه: واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي. وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ للمضارعِ فينسبكُ منها مصدرٌ مجرورٌ باللامِ، وتقدَّم تحقيقُه، و "عليكم" فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بأُتِمَّ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي، أي: كائنةً عليكم.
* { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }
(2/165)
---(1/586)
قوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا}: في الكافِ قولان، أظهرُهما: أنَّها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ. واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ، أحدُها: أنها متعلقةٌ بقوله: "ولأتِمَّ" تقديرُه: ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم، وما تعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، [ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى]: ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم. الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون، تقديرُه: يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، أي: جَعْلاً مثلَ إرسالِنا. وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ. الرابع: أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو "اذكروني"، قال الزمخشري: "كما ذَكَرْتُكُم بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي: اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال، ثم صار: مثلَ ذكرِ إرسالِنا، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك، قال أبو البقاء: "كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط" يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاء يَعْمَلُ فيما قبلها. [وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله] لاشتغالِه بجوابِه و "اذكروني" قد أُجيب(1/587)
(2/166)
---
بقولِه: "أذكرْكم" فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه، قال "ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو: إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ، فيكونُ "كما" و "فأذكركم" جوابين لأمرِ، والأول أفصحُ وأشهرُ، وتقول: "كما أحسنت إليك فأكرمني" فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له".
وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: "لا نعلم خلافاً في جوزِه" وأمَّا قولُه: "إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ" وجعلُه "كما" جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ، وللاحتجاجِ عليه موضعُ غيرُ هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها". انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةً من ذلك.
الخامس: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من "نعمتي" والتقديرُ: ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً، أي: مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ.
وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها، وهو قولُه: "فاذكروني" أي: اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ، وجَعَلَ بعضُهم منه: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، وقولَ الآخر:
776 - لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ * .....................
ي: لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ.
وفي "ما" المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، و "رسلاً" بدلٌ منه، والتقديرُ: كالذي أرسلناه رسولا، وهذ بعيدٌ جداً، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ "ما" على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث: أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه:
777 - لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ * كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ
(2/167)
---(1/588)
ولا حاجةَ إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاَّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المقتدِّم. و "منكم" في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لـ"رسولاً" وكذلك ما بعدَه من الجمل، ويُحْتمل أن تكونَ اجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله: "منكم"، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على / التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له، وهنا قَدَّم التزكيةَ على التعليمِ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه، وهناك المراد بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها، وقوله: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه.
* { فَاذْكُرُونِيا أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
وقوله تعالى: {وَاشْكُرُواْ لِي}: تقدَّم أنَّ "شكر" يتعدَّى تارةً بنفسِ وتارةً بحرفِ جَرٍّ على حدٍّ سواءٍ على الصحيحِ، وقال بعضُهم: إذا قلت: شكرْتُ لزيدٍ فمعناه شَكَرْتُ لزيدٍ صَنيعَه، فَجَعَلُوه متعدِّياً لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجَرّ، ولذلك فسَّر الزمخشري هذا الموضعَ بقولِه: "واشكُروا لي ما أَنْعَمْتُ به عليكم". وقال ابن عطية: "واشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، و "لي" أفصحُ وأشهرُ مع الشكر، ومعناه نعمتي وأيادِيَّ، وكذلك إذا قُلْتَ: شَكَرْتُك، فالمعنى شَكَرْتُ لك صنيعك وذَكَرْتُه، فَحَذَفَ المضافَ، إذ معنى الشكرِ ذِكْرُ اليدِ وذِكْرُ مُسْدِيها معاً، فما حُذِفَ مِنْ ذلك فهو اختصارٌ لدلالةِ ما بقي على ما حُذِفَ".
(2/168)
---(1/589)
* { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }
قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}: خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ، وكذلك "أحياءٌ"خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: بل هم أحياءٌ، وقد راعى لفظَ "مَنْ" مرةً فأَفْرَدَ في قولِه "يُقْتَلُ"، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} واللامُ هنا للعِلَّة، ولا تكونُ للتبليغ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا. والجملةُ من قولِه: "هم أمواتٌ" في محلِّ نصب بالقول لأنها محكيَّة به، وأما {بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ} فيتحمل وجهين، أحدهما ألاَّ يكونَ له محلّق مِنَ الإِعرابِ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ، ويُرَجِّحُه قولُه: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم. والثاني: أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه، بل قولوا هم أحياء، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى، وحُذِفَ مفعولُ "يشعرون" "لِفَهْمِ المعنى أي: بحياتِهم.
* { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}: هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ. وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وما فيه من الخلاف.
(2/169)
---(1/590)
قوله: "بشيءٍ" متعلِّقٌ بقولِه: "لَنَبْلُوَنَّكَ" والباءُ معناها الإِلصاقُ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ "شيء" ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد. وقرأ الضحاك بن مزاحم "بأشياء" على الجمعِ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه: وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا، وقولُه "من الخوف" في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قوله: {وَنَقْصٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على "شيء" والمعنى: بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ، والثاني: أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ، أي: وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ.
قوله: {مِّنَ الأَمَوَالِ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص، وهو يتعدَّى إلى واحد، وقد حُذِفَ، أي: ونقصِ شيء مِنْ كذا. الثاني: أن يكونَ في محلَّ جر صفةً لذلك المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ، والتقديرُ: ونقصً شيئاً كائناً من كذا، ذكره أبو البقاء، ويكونُ معنى "مِنْ" على هذين الوجهين التبعيضَ. الرابع: أن يكونَ في محلّ جَرٍ صفةً لـ"نَقْص"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً، أي: نقصٍ كائنٍ من كذا، وتكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. الخامس: أن تكونَ "مِنْ" زائدةً عند الأخفش، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ.
* { الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
(2/170)
---(1/591)
قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين، وهو الأصحُّ. الثاني: أن يكونَ منصوباً على المدحِ. الثالث: أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدٍ محذوفٍ، أي: هم الذين، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ. الرابعُ: أن يكونَ مبتدأ، والجملةُ الشرطيةُ من "إذا" وجوابِها صلته، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه: {أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ}.
* { أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
قوله تعالى: {أُولَائِكَ}: مبتدأٌ، و "صلواتٌ" مبتدأٌ ثانٍ، و "عليهم" خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ خبرُ قولِه "أولئك"، ويجوزُ أَنْ تكونَ "صلوات" فاعلاً بقوله: "عليهم". قال أبو البقاء: "لأنه قد قَوِيَ بوقوعِهِ خبراً. والجملةُ من قولِه: "أولئك" وما بعدَه خبرُ "الذين" على أحِد الأوجه المتقدِّمِة، أو لا محلَّ لها على غيرِه من الأوجه، و "قالوا" هو العاملُ في "إذا" لأنه جوابُها، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك، وتقدَّم أنها هل تقتضي التكرارَ أم لا؟
(2/171)
---(1/592)
قوله: {إِنَّا للَّهِ} "إنَّ واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والأصل: إنَّنا بثلاث نوناتٍ، فَحُذِفَتِ الأخيرةُ من إنَّ لا الأولى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طَرَفٌ والأطرافُ أَوْلَى بالحَذْفِ، لا يُقال: "إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانَتْ مخففةً، والمخففةُ لا تعملُ على الأفصح فكانَ ينبغي أن تُلْغَى فينفصلَ الضميرُ المرفوعُ حينئذٍ غذ لا عمل لها فيه ، فدلَّ عَدَمُ ذلك على أنَّ المحذوفَ النونُ الأولى" لأنَّ هذا الحَذْفَ حَذْفَ حَذْفٌ لتوالي الأمثالِ لا ذاك الحَذْفُ المعهود في "إنَّ" و "أصابَتْهم مصيبةٌ" من التجانسِ المغاير، إذ إحدى كلمتي المادةِ اسمٌ والأخرى فِعْلٌ، ومثلُه: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ}{وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قوله: {وَرَحْمَةٌ} عَطْفٌ على الصلاة وإن كانَتْ بمعناها، فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ لاختلافِ اللفظين كقولِه:
778 - وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ * وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
779 - أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ * وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
قولُه: {مِّن رَّبِّهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لصلوات، و "مِنْ" للابتداءِ، فهو في محلِّ رفعٍ أي: صلواتٌ كائنةٌ من ربهم. والثاني: أن يتعلَّقَ بما تَضَمَنَّه قولُه "عليهم" من الفعل إذا جَعَلْناه رافعاً لصلوات رَفْعَ الفاعلِ، فعلى الأولِ يكونُ قد حَذَفَ الصفةَ بعد "رحمة" أي: ورحمةٌ منه، وعلى الثاني لا يَحْتاج إلى ذلك. وقولُه {وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} نظيرُ: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
* { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }
(2/172)
---(1/593)
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا}: "الصَّفا" اسمُها، و {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} خبرُها. قال أبو البقاء: "وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ، تقديرُه: "طوافُ الصفات، أو سَعْيُ الصفا". وألفُ الصَّفا عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً، قالوا: صَفَوان، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ، وهو الخُلُوصُ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل: الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو: صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا: صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ، وأصْفاء، والأصل: صُفُوو وَصْفاو، فَقُلِبَتِ الواوان في "صُفُوو" ياءَين، والواوُ في أصفاء همزةً ككساء وبابه. والمَرْوَةُ: الحِجارة الصِّغارُ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل: الصُلبة، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف، وقيل البيض وقيل: السُّود، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين. والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم، وجمعها: مَرْوٌ، كقوله:
780 - وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ * عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ
والشعائر: جمع شَعيرَة وهي العلامةُ، وقيل: جمع شِعارة، والرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ، والأجود "شعائِر" بالهزةِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب./
قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} "مَنْ" شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، و "حَجَّ" في محلِّ جَزْمٍ، و "البيتَ" نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ، والجوابُ قولُه: "فلا جَناحَ". والحَجُّ لغةً: القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى، قال:
781 - لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ * في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ
والاعتمارُ: الزيارةُ، وقيل: مطلقُ القصدِ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان.
(2/173)
---(1/594)
وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} الظاهرُ أنَّ "عليه" خبرُ "لا"، و "أَنْ يَطَّوَّفَ" أصلُه: في أَنْ يَطَّوَّفَ، فَحُذِف حرفُ الجر، فيجيء في محلِّها القولان، النصبُ أو الجرُّ. والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه "بهما". وأجاز بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها: أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه "فلا جُناحَ" على أن يكونَ خبرُ "لا" محذوفاً، وقدَّره أبو البقاء: "فَلاَ جُنَاحَ في الحج" ويُبْتدَأ بقولِه: {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} فيكونُ "عليه" خبراً مقدماً و "أَنْ يطَّوَّفَ" في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ، قال أبو البقاء هنا: "والجيدُ أن يكونَ "عليه" في هذا الوجهِ خبراً، و "أَنْ يَطَّوَّفَ" مبتدأَ".
ومنها: أن يكونَ {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} من بابِ الإِغراءِ، فيكونَ "أَنْ يَطَّوَّفَ" في محلِّ نصبٍ كقولك، عليك زيداً، أي: الزَمْه، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ، حكى سيبويه: "عليه رجلاً لَيْسَني"، قال: وهو شاذ. ومنها: أَنَّ "أَنْ يطَّوَّفَ" في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لـ"لا" والتقديرُ: فلا جُناحَ الطوافُ بهما. ومنها: "أَنْ يطَّوَّفَ" في محلِّ نصيب على الحالِ من الهاءِ في "عليه"، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ، والتقديرُ: فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما. وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ.
وقراءةُ الجمهور "أَنْ يَطَّوَّفَ" بغير لا. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب: "أَنْ لا يَطَّوَّفَ" قالوا: وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله. وفي هذه القراءةِ احتمالان، أحدُهما: أنَّها زائدة كهي في قولِه: {أَلاَّ تَسْجُدَ} وقوله:
782 - وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا * لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
(2/174)
---(1/595)
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين. والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ}، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً.
وقرأ الجنهورُ: "يَطَّوَّفَ" بتشديد الطاءِ والواوِ، والأصلُ: يَتَطَوَّف، وماضيه كان أصله: "تَطَوَّفَ"، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه: يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ.
وقرأ أبو السَّمَّال: "يَطُوف" مخففاً، من طاف يَطُوف وهي سهلة. وقرأ ابن عباس: "يَطَّاف" بتشديد الطاء مع الألف وأصله: يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه: أطْتضوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً، ووَقَعَتْ تاءٌ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا: أطَّلَب يَطَّلِبُ، والأصل: اطْتَلَب يَطْتَلِبُ، فصار: اطَّاف وجاء مضارعُه عليه: يَطَّاف. هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ فيها الطاءُ الأولى. وقال ابن عطية: "فجاء يَطْتَاف أُدْغِمَت التاءُ - بعد الإِسكانِ - في الطاءِ على مَذْهَبِ مَنْ أَجازَ إدغامَ الثاني في الأولِ كما جاءَ في "مُدَّكِر"، ومَنْ لم يُجِزْ ذلك قال: قُلَبَتِ التاءُ طاءٍ ثم أُدْغِمت الطاءُ في الطاء، وفي هذا نظرٌ لأنَّ الأصليَّ أُدْغِم في الزائد وذلك ضعيفٌ".
(2/175)
---(1/596)
وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين، أحدثهما: كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني. والثاني: أنه قال كما جاء في "مُدَّكِر" لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال: مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال، والأصلُ: اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم: اعتاد اعتياداً، والأصل: اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك.
قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قرأ حمزةُ والكسائي "تَطَوعَّ" هنا وفي الآية الآتية بعدها: يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً، وقرأه الباقون: "تَطَوَّع" فعلاً ماضياً. فأمَّا على قراءتهما فتكونُ "مَنْ" شرطيةً ليس إلاَّ، لعملِها الجزمَ. وأصل يَطَّوَّع. يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في "يطّوّف" وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه. وقلُه: "فإنَّ الله" جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي: فإنَّ الله شاكرٌ له. وقال أبو البقاء: "وإذا جَعَلْتَ "مَنْ" شرطاً لم يكنْ في الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ لأنَّ ضميرَ "مَنْ" في تطوَّع" وهذا يخالِفُ ما قَدَّمْتُ لك نَقْلَه عن النحويين من انه إذا كان أداةُ الشرطِ اسماً لَزِمَ أن يكونَ في الجوابِ ضميرٌ يعودُ عليهِ وتقدَّم تحقيقُ ذلك.
(2/176)
---(1/597)
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً و "تَطَوَّعَ" صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و "فإنَّ الله" خبرُه، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي: شاكرٌ له، وانتصابُ "خيراً" على أحدِ أوجهِ: إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: تَطَوَّع بخيرٍ، فلمَّا حُذِفَ الحرُ انتصَبَ نحو قولِه:
783 - تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا * .....................
وهو غيرُ مقيسٍ. الثاني: أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: تطُّوعاً خيراً. والثالثُ: أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ، أو على تضمينِ "تَطَوَّعَ"، فعلاً يتعدَّى، أي: مَنْ فَعَلَ [خيراً متطوِّعاً به]. وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجهين، أحدُهما: الجزمُ على القولِ بكونِ "مَنْ" شرطيةً والثاني: الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً.
* { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ }
(2/177)
---(1/598)
قوله تعالى: {مَآ أَنزَلْنَا}: مفعول يكتمون، و "أَنْزلنا" صلتُه وعائدُه محذوفٌ، أي أنزلناه. و "من البيناتِ" يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها حالٌ من مال الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً من البينات. الثاني: أَنْ يتلعَّقَ بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدذَ الفعلُ إلى ضميرٍ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ، والعاملُ فيه "أنزلنا" لأنه عاملٌ في صاحبها.
قوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين. والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على "ما" الموصولةِ. وقرأ الجمهور "بَيَّنَّاه"، وقرأ طلحة بن مصرف "بَيَّنه" على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ. و "الناس" متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه.
وقوله: {فِي الْكِتَابِ} يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بقوله: "بَيَّنَّاه". والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في "بَيَّنَّاه" أي: بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب.
(2/178)
---(1/599)
قوله: {أُولَائِكَ يَلعَنُهُمُ} يجوز في "أولئك" وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً و "يلعنُهم" خبرُه والجملةُ خبرُ "إنَّ الذين" / . والثاني: أن يكونَ بدلاً من "الذين" و "يَلْعَنُهم" الخبرُ لأنَّ قولَه: "ويَلْعَنُهم اللاعنون" يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو "يلعنهم الله" وأَنْ يكونَ مستنفاً. وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دالالةً على التجدُّد والحُدوث، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله "يَلْعَنُهم اللهُ" التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال: نلعنهم لقوله: "أنزلنا" ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ.
* { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }
قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، والمستثنى منه هو الضميرُ في "يلعنهم". والثاني: أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعَنوا قبل أن يتوبوا، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء.
قوله: {وَمَاتُوا} هذه واوُ الحال، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا: إنَّ حذفَها شاذ.
(2/179)
---(1/600)
وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ} "أولئك" مبتدأ، و "عليهم لعنة اللهِ" مبتدأً وخبرٌ، خبرٌ عن أولئك، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن "إنَّ". ويجوزُ في "لَعنةُ"، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن "أولئك" وتقدَّم تحريرُه في {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} قوله: {وَالْمَلاائِكَةِ} الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله. وقرأ الحسن بالرفع: {وَالْمَلاائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ إليه فموضعُه رفعُ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ، والتقدير: أَنْ لَعَنَهم، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ، فَعَطَفَ "الملائكةُ" على هذا التقدير، قال الشيخ: "وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ، هذا إذا سَلَّمْنا أن "لعنة" تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج، ألا ترى أنَّ قولَه: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ليس المعنى على تقديرِ: أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث" ونقلَ عن سيبويه أن قولَك: "هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً" بنصب "عمراً" أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال: "المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح".
(2/180)
---(1/601)
ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه، الأولُ: أَنْ تكونَ "الملائكةُ" مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي: وتَلْعَنُهم الملائكة، كما نَصَبَ سيبويه "عمراً" في قولك: "ضاربُ زيدٍ وعمراً" بفعلٍ محذوفٍ. الثاني: أن تكونَ الملائكةُ عطفاً على "لعنة" بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ: ولَعْنَةُ الملائكةِ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه. الثالث: أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره: والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم". وهذه أوجهٌ متكلفة، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر:
784 - ..................... * مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ
برفع "الفُضُلَ" وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ. و "أجمعين" من ألفاظِ التأكيدجِ المعنوي بمنزلة "كل".
* { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ }
قوله تعالى: {خَالِدِينَ}: حالٌ من الضمير في "عليهم"، قوله "لا يُخَفَّفُ" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً. الثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير في "خالدين" فيكونَ حالان متداخلان. الثالث: أن يكونَ حالاً ثانيةً من الضميرِ في "عليهم"، وذلك عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ. وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجه بناءً منه على مذهبِه في ذلك.
* { وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ }
(2/181)
---(1/602)
قوله تعالى: {وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ}: خبرٌ المبتدأ، و "واحدٌ" صفةٌ، وهو الخبرُ في الحقيقةِ لأنه محطُّ الفائدةِ، ألا ترى أنه لو اقْتُصِر على ما قبلَه لم يُفِدْ وهذا يُشْبِهُ الحال الموطِّئةَ نحو: مررتُ بزيد رجلاً صالحاً، فرجلاً حالٌ وليست مقصودةً، إنما المقصودُ وَصْفُها.
قوله: {إِلاَّ هُوَ} رفعُ "هو" على أنَّه بدلٌ من اسم "لا" على المحلِّ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ "لا" وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجوزُ أن يكونَ "هو" خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي: لا إله لنا، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ "لا" المبنيَّ معها امسُها عاملةٌ في الخبر، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ "هو" خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ.
(2/182)
---(1/603)
واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ "غله" قال: "لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ: "لا رجلَ لا زيدَ"، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من "اله" ولا مِنْ "رجل" في قولك" لا رجلَ إلا زيدٌ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا: "لا رجلَ إلا زيدٌ" فالتقدير: لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من "رجل"، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [لا]، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم "لا" لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه". وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا: هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ، وإنما كان يُشْكِلُ لو أجازوا إبدالَه من اسمِ "لا" على اللفظِ وهم لم يُجِيزوا ذلك لعدمِ إمكانِ تكريرِ العاملِ، ولذلك مَنَعوا وجهَ البدلِ في قولِهم {لا إله إلا اللهَ} وجعلوه انتصابً على الاستثناء، وأجازوه في قولك: "لا رجلَ في الدارِ إلا صاحباً لك" لأنه يمكنُ فيه تكريرُ العاملِ.
(2/183)
---(1/604)
قوله: {الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} فيه أربعة أوجه، أحدها: أن يكونَ بدلاً من "هو" بدلَ ظاهرٍ من مضمر، إلاَّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ، ويمكن. الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد / ولا سيما عند مَنْ يجعلُ "الرحمنُ" علماً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الرحمنُ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ بـ"هو" مرتين. الثالث: أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه: "وإلهُكم" أَخْبر عنه بقولِه: "إله واحد"، وبقولِه: {لا إله إلا هو"، وبقولِه: "الرحمن الرحيم"، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً، الرابع: أن يكونَ صفةً لقولِه: "هو" وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ، فاشترطَ في وصفِ الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين: أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ مدحٍ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب. ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً لـ"هو" هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ.
* { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
(2/184)
---(1/605)
قوله تعالى: {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: "الليل" قيل: هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال: ليلة وليل كتمرة وتمر، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل، بل الليالي جمع لَيْلة، وهو جمعٌ غريب، ولذلك قالوا: هو جَمْع ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر:
785 - في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ
ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل، والكيكة: البيضة. وأمّا النهار فقال الراغب: "هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس"، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار، وقال ثعلب والنضر بن شميل: "هو من طُولع الشمس" زاد النضر "ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار". وقال الزجاجِ: "أولُ النهار دُورُ الشمسِ" ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة، وقيل: "لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال:
786 - لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ * ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع، ومنه: "النهار" لاتساعِ ضوئِه عند قوله {مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف، ومنه: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، وقال زهير:
787 - بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً * وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ
وقال آخر:
788 - ولها بالماطِرُون إذا * أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ * سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا
(2/185)
---(1/606)
وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} وهذا أصحُّ القولين، وقيل: النورُ سابِقُ الظلمةِ ويبني على هذا الخلافِ فائدةٌ: وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها، فيكونُ اليومُ تابعاً لها. وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الصل فإنه تابع لليلةِ بعدَه، وعلى الثاني جاءَ على الأصل.
قوله: {وَالْفُلْكِ} عطفٌ على "خَلْقِ" المجرورِ بـ"في" لا على "السمواتِ" المجرورةِ بالإِضافة، والفُلْك [يكون واحداً كقولِه : {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وجمعاً] كقوله: {فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} فإذا أُريد، الجَمعُ ففيه أقوالٌ، أحدُها: قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ - "أنه جمعُ تكسير" فإنْ قيل: جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في "حُمُر" و "نُدُب" وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل. وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين الواحدِ والجمع نحو: "جُنُب" و "شُلُل" أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا: "فُلْكان" عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه: ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال، لأنهم قالوا في التنثيةِ هِجانان ودِلاصان.
الثاني: مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب. الثالث: أنه جضمْع فَلأَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً.
(2/186)(1/607)
---
وإذا أُفْرِدَ "فُلْك" فهو مذكرٌ قال تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} قالوا: - ومنهم أبو البقاء -: ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي} فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ. وأصلُه: من الدوران ومنه: "فَلَك السماء" لدورَانِ النجومِ فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَل، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها. وجاءَ بصلةِ "التي" فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ، وقوله "في البحر" توكيدٌ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه، فهو كقولِه: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قوله: "بما يَنْفَعُ" في "ما" قولان" أحدُهما: أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وعلى هذا الباءُ للحال أي: تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ. الثاني: أنها حرفيةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي: تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها.
قوله: {مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ}: مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي: أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدَها: أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه. والثاني: أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالثُ: أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه: "من السماء" بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ.
(2/187)
---(1/608)
فإنْ قيل: كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ، لا تقول: أخذت من الدراهم من الدنانير. وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ "مِنْ" الثانية" للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوزُ ذلك [فيه] كما تقدَّم. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ "مِنْ" الأولى بمحذوفٍ على أنها حال: إمّا من الموسولةِ نفسِه وهو "ما" أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي: وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء.
قوله: {فَأَحْيَا بِهِ} عَطَفَ "أحيا" على "أنزل" الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات. و "به" متعلق "بأحيا، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة، وكلُّ هذا مجازٌ، فإنه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في "به" يعودُ على الموصول./
قوله: {وَبَثَّ فِيهَا} يجوزُ في "بَثَّ" وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على "أنزل" داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه "فَأَحْيا" عطفٌ على "أنزل" فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد، وكأنه قيل: "وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا. هذا نصُّ الزمخشري. والثاني: أنه عطفٌ على "أحيا".
(2/188)
---(1/609)
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ "فيها" يعودُ على الأرض، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: وبث به فيها، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ: أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ، وَنْ يتعيَّنَ للربطِ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي، قال: "وهو جائز شائع في كلامهم، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه، وأنشدَ شاهداً عليه:
789 - ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ * وهواه أطاع يَسْتويانِ
أي: والذي أطاع، وقوله:
790 - أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ
أي: ومَنْ ينصرُه.
وقوله:
791 - فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ * بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ
أي: ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى: {وَقُولُوااْ آمَنَّا بِالَّذِيا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي: وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيا أَنَزلَ مِن قَبْلُ}. ثم قال الشيخ: "وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ" - يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال: "وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ:
792 - وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها * وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ
أي: عَلْقم عليه، وقوله:
793 - لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني * إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه
أيك أَصْعَدْتِني به.
(2/189)
---(1/610)
قوله: {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} يجوز في "كل" ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها: أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ "مِنْ" تبعيضيةً. الثاني: أن تكون "مِنْ" زائدةً على مذهب الأخفش، و "كلَّ دابة" مفعول به. لـ"بَثَّ" أيضاً والثالث: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ "بَثَّ" المحذوفِ إذا قلنا إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه: وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي "مِنْ" حينئذ وجهان؛ أحدهما: أن تكونَ للبيان. والثاني: أن تكونَ للتبعيض.
وقال أبو البقاء: "ومفعولُ "بَثَّ" محذوفٌ" تقديرُه: وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ"، وظاهرُ هذا أنَّ {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته.
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريق، قال:
794 - .................... * وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ
ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا: "نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه" بالوجهين. والدابَّةُ: اسم لكلِّ حيوانٍ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة:
795 - كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ * صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ
وبقول الأعشى:
796 - ..................... * دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ
وبقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ}، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير.
(2/190)
---(1/611)
قوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} "تصريف" مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: وتصريفِ الرياحِ السحابَ، فإنها تسوقُ السحابَ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ، والفاعلُ محذوفٌ أي: وتصريفِ اللهِ الريحَ. والرياحُ: جمعُ ريح جمعَ تكسير، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ: رِوْح، لأنه من راح يروح، وإنما قُلِبَتْ في "ريح" لسيكونها وانكسار ما قبلها، وفي "رياح" لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ، وهو إبدالٌ مطردٌ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا: أَرْواح قال:
797 - أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ * فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثلُه:
798 - لَبَيْبٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه * أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال "الأرياح" في شعرِه، فقال له أبو حاتم: "إن الأرياح لا تجوزُ" فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح. فقال أبو حاتم: هذا خلافُ ذلك، فقال: صَدَقْتَ ورَجَعَ. قال الشيخ: "وفي محفوظي قديماً أنَّ "الأرياح" جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، والأصلُ: أَعْواد لأنه من عاد يَعُود، لكنه لمّضا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ". قلت: ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رثوح، كما قالوا: التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ.
(2/191)
---(1/612)
قال ابنُ عطية: "وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ، وفي الحديث: "الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً" لنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب". انتهى وهذا الي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها. وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاُ؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ.
وقرأ هنا "الريح" بالإِفراد حمزةُ والكسائي، والباقون بالجمع، فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها: جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك، وإفرادُها على إرادة الجنس.
والسحابُ: اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ، سُمِّي بذلك لانسحابِه، كما قيل له: حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو، ذكر ذلك أبو علي، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفٍ الواحدِ المذكَّر في قوله: "المُسَخَّر" كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله: {سَحَاباً ثِقَالاً}، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان: التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى.
والتسخيرُ: التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ. وقال الراغب: "هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه".
(2/192)
---(1/613)
قوله: {بَيْنَ السَّمَآءِ} في "بين" قولان، أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: "المُسخَّرِ"؛ فيكونُ ظرفاً للستخير. والثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه.
وقوله: {لِّقَوْمٍ} في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه "يَعْقِلون" الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ.
* { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوااْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }
قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ}: "مَنْ" في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه، ويجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكون موصولةً. الثاني: أن تكونَ موصوفةً، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ، أي: فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في "يتَّخذ" حَمْلاً على لفظِ "مَنْ".
(2/193)
---(1/614)
قوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} متعلِّقٌ بيتَّخذ. والمرادُ بدون هنا: غَيْر، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى "غير" مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت: "اتخذتُ من دونِك صديقاً" أصلُه: اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً، فهو ظرفٌ مجازيٌّ. وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونض غيراً لأنه ليس إياه، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ. و "يتَّخِذُ" يَفْتَعِلُ من الأخْذِ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو: أَنْداداً". وقد تقدَّم الكالمُ على "أنداداً أيضاً واشتقاقه.
قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"مَنْ" في أحدِ وجهَيْها، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في "يتَّخِذُ". والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم، والمرادُ بهم الأصنامُ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيره، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في "يَتَّخِد"، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في "يتَّخِذُ"، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم.
(2/194)
---(1/615)
قوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ. والحُبُّ: إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً: أصبْتُ حبة قلبِه نحو: كَبِدْتُه. وأَحْبَبْتُه: جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال: أَحْبَبْتُه فهو محبوب، ومُحَبّ قليلٌ كقوله:
799 - ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه * مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعفَّ وشَذَّ كسرُه، ومحبوب أكثر من مُحَبْ، ومُحِبّ أكثر من حابّ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه، وقال:
800 - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ * وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ
والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبة والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين: حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ.
وقال ابن عطية: "حُبّ" مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه: كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ". انتهى، وقوله "للفاعل المضمر" يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو: "كُمْ" أو "هِمْ"، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه.
(2/195)
---(1/616)
وقال الزمخشري: "كحُبِّ اللهِ: كتعظيمِ اللهِ، والخُضوعُ له، أي: كما يُحَبُّ اللهُ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ". انتهى. أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ: أعني الجوازَ مطلقاً. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ. والثالث: التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو: عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في "حُبّ" أن يُبْنى للمفعولِ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن" برفعِ "ذو" عطفاً على محلّ "الأبتر" لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي: أن يُقْتَلَ الأبترُ. ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا.
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم، وقال: "ليس بشيء"، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ}، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين، أي: يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ". وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ.
وقرأ أبو رجاء: "يَحُبُّونهم" من "حَبَّ" ثلاثياً، و "أَحَبَّ" أكثرُ، وفي المثل: "مَنْ حَبَّ طَبَّ".
(2/196)
---(1/617)
قولُه: {أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} المفضلُ عليه محذوفٌ، وهم المتخذون الأنداد، أي: أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم، وقال أبو البقاء: "ما يتعلَّقُ به "أشدّ" محذوفٌ تقديرُه: "أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ" والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم. ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره. وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَلِ التفضيل من مادة الحب لأن "حُبَّ" مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه. فأمَّا قولُهم: "ما أحبَّه إلي" فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين. و "حباً" تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه: حُبُّهم للهِ أشَدُّ.
(2/197)
---(1/618)
قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ} جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة: قرأ ابنُ عامر ونافع: "ولو ترى" بتاءِ الخطابِ، و "أن القوة" و "أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر: "إذ يُرَوْن" بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون: "ولو يرى" بياء الغيبة، "أنَّ القوة" و "أنَّ الله" بفتحِهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر: "ولو تَرَى" بالخطاب، "إن القوة" و "إن الله" بكسرهما، وقرأت طائفةٌ: "ولو يرى" بياء الغيبة، "إن القوة" و إن الله" بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه: "أن القوة" ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه: "وأنَّ الله شديدُ العذابِ" / وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمَّا مَنْ قَدَّدره قبل "أنَّ القوةَ" فيكونُ "أنَّ القوةَ" معمولاً لذلك الجوابِ. وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ: لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً، والمرادُ بهذا الخطابِ: إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ. وعلى قراءةِ الكسرِ في "إنّ" يكونُ التقديرُ: لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم، أو يكونُ التقديرُ: لاستعظَمت حالَهم، وإنما كُسِرَتْ "إنَّ" لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان، فقولك: أنه مكرِمٌ للضِّيفان" عِلَّةٌ لقولِك "أَحْسَنَ إليك".
(2/198)
---(1/619)
وقال ابنُ عطية: "تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً" وناقشه الشيخ فقال: "كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف "إذ" وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ "لو" غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي "لو"، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك: "يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه" فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد" انتهى. وتقديرُه على قراءةِ "يرى" بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل "يرى" "الذين ظلموا"، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة.
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة "ترى" بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ "أنَّ" على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو: "أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ"، أو تكونُ جملةً معترضةً بين "لو" وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ "ولو يرى" بالغيبة إن كان فاعلُ "يرى" ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه "الذين" كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ "أنَّ" على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ "الذين ظلموا"، والرؤيةُ نا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ "أنَّ" مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدس.
(2/199)
---(1/620)
وأمَّا قراءةُ "يرى لاذين" بالغَيبة وكسرِ "إنَّ" و "إنَّ" فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه "الذين": لقالوا: ويكونُ مفعولُ "يرى" محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ "لو" شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً. قال المرؤ القيس:
801 - وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه * سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
وقال النابغة:
802 - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً * أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ
ودَخَلَتْ "إذ" وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر، وتصحيحاً لوقوعِه، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ}، وكما قال الأشتر:
803 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى * ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً * لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
فأوقع "بَقَّيْتُ" و "انحَرَفْتُ" - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه: "إنْ لم أشُنَّ". وقيل: أَوْقَعَ "إذ" موقع "إذا وقيل: زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ.
(2/200)
---(1/621)
وقراءةُ ابنِ عامر "يُرَوْنَ العذاب" مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني وهو "العذابُ"، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.
وقال الراغبُ: "قوله": "أنَّ القوة" بدلٌ من "الذين" قال: "وهو ضعيفٌ" قال الشيخ: "ويصيرُ المعنى: ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا". وقال في "المنتخب": "قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء"، قال: "لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم" وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان.
قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً، لأنَّ تقديره: "أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً"، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها، و "أنَّ" لا تعملُ في الحال، وهو مُشْكلٌ، فإنَّهم أجازوا في "ليت" أن تعمل في الحال، وكذا "كأنَّ" لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في "أنَّ" لِما فيها من معنى التأكيد. و "جميع" في الأصل: فَعِيل من الجَمْعِ، وكأنه اسمُ جمعٍ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد، قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ}، وتارةً بالجمعِ، قال تعالى: {جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، ويَنْتَصِبُ حالاً، ويؤكد به بمعنى "كل"، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ "كل"، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان، تقول: "جاء القومُ جميعُهم" لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين "جاؤوا معاً".
* { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }
(2/201)
---(1/622)
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ}: في "إذْ" ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بدلٌ من "إذ يَرَوْن". الثاني: أنها منصوبةٌ بقولِه "شديدُ العذاب" الثالث: - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ الذكر مقدراً. و "تَبَرَّأ" في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. والتبرُّؤُ: الخلوصُ والانفصال، ومنه: بَرِئْتُ من الدَّيْ، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه: {إِلَى بَارِئِكُمْ}. والجمهورُ على تقديم "اتُّبِعوا" مبنياً للمفعول على "اتَّبعوا" مبنياً للفاعل. وقرأ مجاهد بالعكس، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ.
قوله: {وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} في هذه الجملة وجهانِ: أنها عطفٌ على ما قبلها، فتكونُ دالةً في حَيِّز الظرف، تقديرُه: "إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا، وإذْ رَأَوا". والثاني: أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ، و "قد" معها مضمرةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ: "تَبَرَّأ" أي: تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ.
قوله: {وَتَقَطَّعَتْ} يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ "تَقَطَّعَتْ" على "تَبَرَّأ"، ويكون قوله: "ورأوا" حالاً، وهذا اختيار الزمخشري، أو عَطَفَتْ على "رأوا"؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين، أو حالٌ للضميرِ في "رَأوا"؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا "ورأوا" حالاً.
والباءُ في "بهم" فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: "خَرَج بثيابه". الثاني: أن تكونَ للتعديةِ، أي: قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ: تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ "أي: فَرَّقَتْهم. الثالث: أن تكون للسببية، أي: تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة. الرابع: أن تكونَ بمعنى "عن"، أي: تَقَطَّعت عنهم.
(2/202)
---(1/623)
والأسبابُ: الوَصْلاتُ بينهم، وهي مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلذِ ما يُتَوصَّل به إلى شيء: عيناً كان أو معنىً، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ، قال زهير:
804 - ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه * ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ: البديع هو الترصيعُ / ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ، وهو هنا في موضعَيْن، أحدُهما {اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ: من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني: {وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} وهو كثيرٌ في القرآنِ {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}
* { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }
قوله تعالى {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}: منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته "لو"، ولذلك أُجيب بجواب "ليت" الذي في قوله: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز"، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه: لتبرَّأنا ونحوُ ذلك. وقيل: "لو" في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره، وليس فيها معنى التمني، والفعلُ منصوبٌ بـ"أَنْ" مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو "كَرَّة" والتقديرُ: لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله:
805 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني * ........................
(2/203)
---(1/624)
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: "فنتبرأ" منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه: لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ" فَحَلَّ "كرة" إلى قولِ "أَنْ نَرْجِعَ" لأنه بمعناه وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه، ويتركون الاسمَ على حالِه، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو: "لو لا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك" فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ. والقائل بأنّ "لو" التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر:
806 - فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ * فَتُخْبَر بالذَّائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه:
807 - بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً * وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ" أنَّ" تُفْتَحُ بعد "لو" كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه:
808 - يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ * حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي: أنَّ النحاة قالوا: "كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي"، [و] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال: وإلا في جوابِ التمني بـ"لو"، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار "أَنْ" بعدَ الفاء الواقعةِ واجباً له، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ. قال الشيخ: "والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت، والاجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت "لو" فرع الفرع، فَضَعُفَ ذلك فيها.
(2/204)
---(1/625)
قوله: "كما" الكافُ موضعُها نصبٌ: إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أي: تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي: نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ. وقال ابنُ عطية: "الكافُ في قوله "كما" في موضعِ نصبٍ على النعت: إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه: متبرئين كما". قال الشيخ: "وأمّاً قولُه "لحال تقديرُه متبرئين كما" فغيرُ واضحٍ، لأنَّ "ما" مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ" قال: "وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً، وهي خلافُ الأصلِ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه".
قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ} في هذه الكافِ قولان، أحدُهما: أنَّ موضعَها نصبٌ: إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ، أي: يُريهم رؤيةً كذلك، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا. والثاني: أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء. قال الشيخ: "وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل". والإِشارةُ بذلك إلى إراءَئِهم تلك الأهوال، والتقدير: مثلَ إراءتهم الأأهاول يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ، وقيل: الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ.
(2/205)
---(1/626)
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ بصريةً، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة، أولُهُما الضميرُ والثاني "أعمالَهم" و "حسراتٍ" على هذا حالٌ من "أعمالهم". والثاني: أن تكون قلبية، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها "حسرات" و "عليهم" يجوزُ فيه وجهان: أن يتعلَّق بـ"حسراتٍ" لأنَّ "يَحْسَر" يُعَدَّى بعلى، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تفريطهم. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ.
والكَرَّةُ: العَوْدَةُ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً، قال:
809 - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي * أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها
والحسرةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ، واشتقاقُها: إمَّا من قولِهم: بعيرٌ حَسِير، أي: منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ.
* { ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
(2/206)
---(1/627)
قولُه تعالى: {مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}: "حلالاً" فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَن يكونَ مفعولاً بـ"كُلوا"، و "مِنْ" على هذا فيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تتعلَّق بكُلوا، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ. والثاني: أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من "حلالاً" وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً، ويكونُ معنى "مِنْ" التبعيض. الثاني: أن يكونَ انتصابُ "حلالاً" على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديرُه: شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي، واستبعدَه ابنُ عطية، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ، والذي يَظْهَرُ في بَعْدِه أنَّ "حلالاً" ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ. الثالث: أَنْ ينتصِبَ "حلالاً" على أنه حالٌ من "ما" بمعنى الذي، أي: كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً. الرابع: أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعولُ "كُلوا" محذوفاً، و "ما في الأرض" صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ، ذكره أبو البقاء، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألاَّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون "مِنْ" مزيدةً على الأخفش تقديرُه: كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً. الخامس: أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على "ما" قاله ابنُ عطية، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً.
(2/207)
---(1/628)
و "طيباً" فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ صفةً لحلالاً، أمّضا على القول بأنَّ "مِنْ" للابتداءِ متعلِّقة بـ"كُلوا" فهو واضحُ، وأمّا على القولِ بأنّ "مِما في الأرض" حالٌ من "حلالاً"، فقال أبو البقاء: "ولكنَّ موضعَها بعد الجارِّ والمجرور، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ" وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع، تقول: "جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً" بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ: "جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ" كان في جوازه نظرٌ. الثاني: أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أيك أكلاً طيباً. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ في "كُلوا" تقديرُه: مستطيبين، قاله ابنُ عطية، قال الشيخُ: "وهذا فاسدٌ في اللفظ / والمعنى، أمّا اللفظُ فلأنَّ "الطيِّب" اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال: طيبين، وليس "طيب" مصدراً فيقال: إنما لم يُجْمَع لذلك. وأما المعنى فإنَّ "طيباً" مغايرٌ لمعنى "مستطيبين" لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ، تقول: طاب لزيدٍ الطعامُ، ولا تقولُ: "طابَ زيدٌ الطعام" بمعنى استطابه".
والحَلالُ: المأذونُ فيه، ضدُّ الحرام الممنوع منه. [يُقال:] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ، وهو القاسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ، ويقال: حَلال وحِلُّ، كحرام وحَرَم، وهو في الأصل مصدرٌ، ويقالُ: "حلٌِ بِلٌّ" على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ. وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها، وقرىء، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} بالوجهين.
(2/208)
---(1/629)
قوله: {خُطُواتِ} قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص: خُطُوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاءِ، وقرأ أبو السَّمَّال "خُطَوات" يفتحها، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ "خَطَوات" بفتح الخاء والطاء، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز.
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ "فَعْلَة" الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب -: السكونُ وهو الأصلُ، والإِتباع، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً. وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح: أنَّ المفتوحَ مصدرٌ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء.
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان، أحدُهما: - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ، و "خُطُؤات" جمع "خِطْأَة" إِنْ سُمِعَ، وإلاَّ فتقديراً، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ. والثاني: أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه.
قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ} قال أبو البقاء: "إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ بحالِه، وهو أبلغُ من الفتح، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ: لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا، ومثلُه:
810 - لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك * .........................
(2/209)
---(1/630)
كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ" انتهى. يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ "إنَّ" المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ: قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ.
* { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّواءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ}: عطفٌ على قولِه "بالسوءِ" تقديرُه: "وبأنْ تقولوا" فيحتملُ موضعُها الجرَ والنصبَ بحسب قولي الخليلِ وسيبويه. و "الفحشاء" مصدرٌ من الفُحْش، كالبأساء من البأْسِ. والفُحْشُ قُبْحُ المنظر، قال امرؤ القيس:
811 - وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ * إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
وتُوُسِّع فيه حتى صارَ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مستقبَحٍ معنىً كان أو عيناً.
* { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }
(2/210)
---(1/631)
قولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}: الضميرُ في "لهم" فيه أربعةُ أقوال، أحدُها: أنه يعود على "مَنْ" في قولِهِ: {مَن يَتَّخِذُ} وهذا بعيدٌ. الثاني: أنه يعودُ على العرب الكفَّار لأنَّ هذا حالُهم. الثالث: أنه يعودُ على اليهودِ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافِهِم. الرابعُ: أنه يعودُ على الناسِ في قولِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، قاله الطبري، وهو ظاهرٌ، إلاَّ أَنَّ ذلك يكونُ من بابِ الالتفات من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، وحكمتُه أنهم أُبْرِزوا في صورةِ الغائبِ الذي يُتَعَجَّبُ مِنْ فَعْلِه، حيث دُعِيَ إلى شريعةِ اللَّهِ والنورِ والهدى فأجابَ باتِّباع شريعةِ أبيه.
قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ} بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه: لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ: "اتَّبِعُوا" لفسادِهِ. وقال أبو البقاء: "بل" هنا للإِضرابِ عن الأول، أي: لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ، وعلى هذا فيقالُ: كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قولِه "أم يقولونَ افتراه، بل هو الحق" فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ} كان إضرابَ انتقالٍ، وإن اعتبرْتَ "افتراه" وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ.
(2/211)
---(1/632)
قوله: {أَلْفَيْنَا} في "ألفى" هنا قولان، أحدُهما: أنها متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى "وَجَدَ" التي بمعنى أصابَ، فعلى هذا يكونُ "عليه" متعلِّقاً بقولِهِ "أَلْفينَا". والثاني: أنها متعدِّية إلى اثنين، أولُهما "آباءَنا" والثاني: "عليه"؛ فَقُدِّمَ على الأولِ. وقال أبو البقاء: "هي محتملةٌ للأمرين، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين" قال أبو البقاءك "ولامُ أَلْفَيْنَا واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً" يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى.
(2/212)
---(1/633)
قوله: {أَوَلَوْ} الهمزةُ للإِنكار، وأمّضا الواو ففيها قولان، أحدُهما: - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ: هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري، ولذلك قَدَّرَه هنا: أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال: "والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ بـ"لو" في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ، فإذا قال: "اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك" فالمعنى: وإنْ أَحسَنَ إليكَ، وكذلك: "أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ" "رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ" المعنى فيهما: "وإنْ"، وتجيء "ولو" هنا تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسبُ ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعلُ، ولتدلُّ على أن المرادَ بذلك وجودُ الفعلِ في كل حالٍ، حتى في هذه الحالِ التي لا تناسبُ الفعلَ، ولذلك لا يجوزُ: "اضربْ زيداً ولو أساء إليكَ" ولا: "أَعْطُوا السائل ولو كان محتاجاً، فإذا تقرَّر هذا فالواوُ في "ولو" في الأمثلةِ التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدرةٍ، والمعطوف على الحالِ حالٌ، فَصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حاليةً على حالٍ مقدرةٍ، وصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حالية على حالٍ مقدرةٍ، وصَحَّ أَنْ يُقال إنها للعطف من حيث ذلك العطفُ، والمعنى - والله أعلمُ - أنها إنكارُ اتِّباعِ آبائِهِم في كلِّ حالٍ حتى في الحالة التي تناسِبُ أنْ يَتَّبِعُوهُمْ فيها وهي تَلَبُّسهم بعدمِ العَقْلِ والهدايةِ، ولذلك لا يجوزُ حذف هذه الواوِ الداخلةِ على "لو" إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإنْ(1/634)
(2/213)
---
كانتِ الجملةُ الحاليةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحالِ، لأنَّ مجيئَها عارية من هذه الواو مؤذنٌ بتقييدِ الجملةِ السابقةِ بهذه الحال. فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ، حتى هذه الحالُ، فهما معنيانِ مختلفانِ، ولذلك ظهر الفرقُ بين: "أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك" وبين "أكْرمْ زيداً ولو جَفضاك" انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ / وجوابُ "لو" محذوفٌ تقديرُه: لاتَّبعوهم، وقدَّره أبو البقاء: "أفكانوا يَتَّبِعونهم" وهو تفسيرُ معنىً، لأن "لو" لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام.
قوله: {شَيْئاً} فيه وجهان، أحدثهما: أنه مفعولٌ به، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى: لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ. والثاني: أن ينتصبَ على المصدريةِ، أي: لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ. وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ.
* { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}: اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلاَّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ.
وقد اختلفُوا في ذلك: فمنهم مَنْ قال: معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ. ومنهم مَنْ قالَ: هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به. ومنهم مَنْ قال: هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به. فهذه أربعةُ أقوالٍ.
(2/214)
---(1/635)
فعلى القولِ الأولِ: يكون التقديرُ: "وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً". وقيلَ: يكون التقديرُ: ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم لهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ.
قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - "إلاَّ أَنَّ قولَه {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً". قال الشيخ: "ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ، والصنَمُ لا يسمع، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ" قال: "ونحن نقول: التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ لا في خصوصياتِ المدعوِّ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيميةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به".
(2/215)
---(1/636)
وقيل في هذا القولِ: - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ "يسمع" ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ، ويكونُ العائدُ على "ما" الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى، تقديرُه: بما لا يَسْمَعُ منه، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم. وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ "يَسْمَعُ" ضميراً يعود على "ما" الموصولةِ، وهو المنعوقُ به. وقيل: المرادُ بالذين كفروا المتبعون لا التابعون، والمعنى: مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم. فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ "مثل" مبتدأً و "كمثلِ" خبرَه، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ.
وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل: معناه: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذين يَنْعِقُ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني. وقيل التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ، وقال قائلُ هذا: كما تقولون: "دَخَلَ الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي". وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ.
(2/216)
---(1/637)
وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ: وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول. قال الزمشخري: "ويجوز أن يُرادَ بـ"ما لا يَسْمَعُ" الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ" وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ "ما" على العقلاءِ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه "ما".
وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه: "مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به" واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبوي، فقائلٌ: هو تفسير معنىً، وقيل: تفسيرُ إعرابٍ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان: حَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ، وقد أثبت نظيرَه في الأول، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما رواءها. وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ الصناعي: وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذين يَنْعِقُ بالمنعوقِ به. وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر، وابن خروف والشلوبين، قالوا: العربُ تستحسنُ هذا، وهو من بديعِ كلامِها، ومثلُه قولُه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} تقديرُهُ: وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، فَحذَف "تَدْخُلْ" لدلالة "تَخْرُجْ" وَحَذَفَ "وَأَخْرِجْهَا" لدلالةِ: "وَأَدْخِلْ"، قالوا: ومثلُهُ قولُه:
(2/217)
---(1/638)
812 - وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ * كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان، إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديرَه: إني إذا ذكرتُكِ عَزاني انتفاضٌ ثم أفترُ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه.
وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام المشبَّهِ به، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ. قال الراغب: "فلما شَبَّه قصةَ الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدّضم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به".
والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ "مثلُ الذين" مبتدأٌ، و "كمثل الذي" خبرُه: غمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: مَثَلُ داعي الذينَ، أو من الثاني: أي: كمثلِ بهائِمِ الذي، أو على حَذْفَيْنِ: حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله. وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ.
والنَّعِيقُ: دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم، قال:
813 - فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما * مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا
(2/218)
---(1/639)
يقال: نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها، والمصدرُ: النَّعيقُ والنُّعاقُ ولنَّعْقُ، وأمّا "نَعَقَ الغرابُ" فبالمعجمة، وقيل: بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ /.
قوله: {إِلاَّ دُعَآءً} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ "يَسْمَعُ" ولم يأخُذْ مفعولَه. وزعم بعضُهم أنَّ "إلاَّ" زائدةٌ، فليسَ مكن الاستثناء في شيء. وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ "إلاَّ" في قولِهِ:
814 - حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً * على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا
فقد ردَّ الناسُ عليه، ولم يقبلوا قوله. وفي البيت كلامٌ تقدَّم.
وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً: وهو قولهُ: {لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء، وكأنَّه قيل: لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً، وإنما المعنى: لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ، فكأنه قيل: ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ. وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ.
وهنا سؤالٌ آخرُ: وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ. ذكر ذلك عليُّ بن عيسى.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
(2/219)
---(1/640)
قولُه تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ}: مفعولُ "كُلوا" محذوفٌ، أي: كُلوا رزقَكم. وفي "مِنْ" حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ بـ"كلوا". والثاني: أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ، أي: كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم. ويجوزُ في رأيِ الأخفش أن تكونَ "مِنْ" زائدةً في المفعولِ به، أي: كلوا طيباتِ ما رزقناكم. و "إنْ كُنْتُمْ" شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ، أي: فاشكروا له. وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى "إذ" ضعيفٌ. و "إياه" مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ، وانفصالُهُ واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلا في ضرورةٍ كقولِهِ:
815 - إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا
وفي قولِهِ: {وَاشْكُرُواْ للَّهِ} التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال: "واشكرونا".
* { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ}: الجمهُور قرؤوا "حَرَّم" مشدَّد مبنياً للفاعِلِ، "الميتة" نصباً، على أنَّ "ما" كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ، وفاعلُ "حَرَّم" ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى. و "الميتةَ" مفعولٌ به. وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها. وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ، وهو أن تكونَ "ما" موصولةً، و "حَرَّمَ" صلتها، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، تقديرُهُ: حَرَّمه، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ "إنَّ" و "الميتةُ" خبرُها.
(2/220)
---(1/641)
وقرأ أبو جعفر: "حُرَّم" مبنياً للمفعولِ، فتحتملُ "ما" في هذه القراءةِ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ "ما" مهيِّئَةً، و "الميتةُ" مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعولُ "حَرَّمَ" القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنُ يعود على "ما" الموصولةِ، و "الميتةُ" خبرُ "إنَّ".
وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي: "حَرُمَ" بضمِّ الراء مخففةً، و "الميتةُ" رفعاً" و "ما" تحتملُ الوجهين أيضاً، فتكونُ مهيئةً، و "الميتةُ" فاعلٌ بحَرُم، أو موصولةً، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على "ما"، وهي اسمُ "إنَّ"، و "الميتةُ" خبرُها.
والجمهورُ على تخفيفِ "المَيْتَة" في جميع القرآنِ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ "المَيْت" مخفَّفٌ من "الميِّت" وأن أصلَه: مَيْوِت، وهما لغتان، وسيتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} في آلِ عمران. ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن "المَيْت" بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ. وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ، ثم قال: "ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}. وأمَّا قولُه:
816 - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ * فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ
[فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء].
وأصل "مَيِّتة": مَيْوِتَة، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها، وقال الكوفيون: أصلُه: مَوِيت، ووزنُه فَعيل.
(2/221)
---(1/642)
واللحمُ معروفٌ، وجمعه لُحوم ولُحْمان، يُقال: لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم، أي: غَلُظَ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم: اشتقاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ، أي: أَطعَمَهم اللحمَ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ.
والخنزير حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِ قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليلي كغِرْبيب. والثاني: أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي: ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر. وقيل: الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ، يقال: هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ.
قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، ومَحَلُّها: إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على "الميِّتة"، والرفعُ: إمَّا على خبر إنَّ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدّضم من القراءاتِ. و "أُهِلَّ" مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في "به"، والضميرُ يعودُ على "ما"، والباءُ بمعنى "في". ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في ذَبْحِه، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ. والإِهلالُ: مصدرُ أَهَلَّ أي: صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه: الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه، واستهَلَّ الصبيُّ. قال ابن أحمر:
817 - يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها * كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ
قال النابغة:
818 - أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها * بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ
وقال:
819 - تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ * وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ
قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} في "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، فعلى الأولِ يكونُ "اضطُرَّ" في محلِّ جَزْم بها.
(2/222)
---(1/643)
وقوله: {فَلاا إِثْمَ} جوابُ الشرطِ، والفاءُ فيه لامةٌ. وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه: "اضطُّرَّ" من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبياً للموصولِ بالشرطِ. ومحلُّ {فَلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني.
والجمهورُ على "اضْطُرَّ" بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل: "اضْطُرِرَ" بكسرِ الراءِ الأولى، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها. وقرأ ابن محيصن: "اطُّرَّ" بإدغام الضادِ في الطاء. وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون "مَنْ" على أصلِ التقاءِ الساكنين، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث. وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ}{قُلِ ادْعُواْ} قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ. إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في "أو" و "قل" فضمَّهما، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو: {مَحْظُوراً انظُرْ}، واختُلف عنه في: {بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ}، واختُلف عنه في: {خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ}، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى.
(2/223)
---(1/644)
قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} نصبٌ على الحالِ، واختُلِفَ في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في "اضطُرَّ"، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفس بعد قولِه: "اضطُرَّ"، قالا: تقديرُه: فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ، كأنهما قصدا بذلك أنه يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ. قال الشيخ "ولا يتعيَّن ما قالاه، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه: {غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ} بل هو الظاهرُ والأَولى، لأنَّ في تقديره قبل "غيرَ باغ" فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: "غيرَ باغ".
و "عادٍ" اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه، والأصلُ: عادِوٌ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو. وهذا هو الصحيحُ، وفيه قولٌ ثانٍ: أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ: عادِو، فأُعِلَّ بما تقدَّم، ووزنُه: فالِع، كقولهم: شاكٍ في شائِك من الشوكة، وهارٍ والأصل هائر، لأنه من هار يَهُور، قال أبو البقاء: "ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ "غير" جاز" يعني فكان يقال: ولا عادياً.
(2/224)
---(1/645)
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو: {فَمَنِ اضْطُرَّ}، فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم. وضابطُ محلِّ اختلافهم: كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً، نحو: "فَمَنِ اضطُرَّ" {فَمَنِ اضطُرَّ}{أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً}{وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}{قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ}{أَنِ اعْبُدُواْ}{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ}: وفُهِم من قولي "كلمتين" الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو: {إِنِ الْحُكْمُ} فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة. ومِنْ قولي: "ضمةً لازمةً" الاحترازُ من نحو: {أَنِ امْشُواْ} فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع.
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما: وهما: "قُل ادْعُوا" "أو انْقُصْ منه"، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو: "محظوراً نظر"، واختلف عنه في لفظتين: {خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ}، {بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين.
* { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: {مِنَ الْكِتَابِ}: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه العائدُ على الموصولِ، تقديرُه: أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ، فالعاملُ فيه "أَنْزَلَ"، والثاني: أنه الموصولُ نفسه، فالعاملُ في الحالِ "يكتمون".
(2/225)
---(1/646)
قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} الضميرُ في "به" يُحْتَمَلُ أن يعودَ على "ما" الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه: "يكتمون" وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل.
قوله: {إِلاَّ النَّارَ} استثناءٌ مفرغٌ؛لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه، وهذا من مجاز الكلام، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم: "أكل فلانٌ الدمَ" يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ، قال:
820 - فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً * لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ * رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقال:
821 - أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ * بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال:
822 - يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا * ...........................
يريد: ثمن إكاف.
وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} يجوزُ فيه ثلاةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: "يأكلون" فهو ظرفٌ له. قال أبو البقاء: "وفيه حَذْلإُ مضافٍ أي طريق بطونهم، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير. والثاني: لأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النارِ. قال أبو البقاء: "والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك، والتقدير، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال: "وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً، و "في بطونِهم" حالاً من أو صفةً له، أي: في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ "إلا النار" منصوباً على الاستثناءِ التام، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ. إلا أنه قال بعد ذلك "وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ. والثالث: أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول "كُلوا" محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه.
(2/226)
---(1/647)
* { أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }
قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ}: في "ما" هذه خمسةُ أقوالٍ، أحدها: - وهو قولُ سيبويه والجمهور - أنها نكرةٌ تامةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ، وأنَّ معناها التعجب، فإذا قلت: ما أحسنَ زيداً، فمعناه: شيءٌ صَيَّر زيداً حسناً. والثاني: - وإليه ذهب الفراء - أنَّها استفهاميةٌ صَحِبها معنى التعجب، نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ}. والثالث: - ويُعْزَى للأخفش - أنها موصولةٌ. والرابعُ: - ويُعْزَى له أيضاً - أنها نكرةٌ موصوفةٌ. وهي على الأقوالِ الأربعةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وخبرُها محذوفاً، فإنَّ الجملةَ الفعليةُ بعدها، وعلى قولَيْ الأخفش يكون الخبرُ محذوفاً، فإنَّ الجملةَ بعدها إمَّا صلةٌ أو صفةٌ. وكذلك اختلفوا في "أَفْعل" الواقع بعدَها أهو اسمٌ - وهو قولُ الكوفيين - أم فعلٌ؟ وهو الصحيحُ. ويترتبُ على هذا الخلافِ خلافٌ في نَصْبِ الاسمِ بعدَه: هل هو مفعولٌ به أو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به. ولهذا المذاهبِ دلائلُ واعتراضاتُ وأجوبةٌ ليس هذا موضوعَها.
والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى. ومعنى "على النار" [أي] على عَمَل أهلِ النارِ، وهذا من مجازِ الكلام.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أي: فما أصبرَهم اللهُ على النار، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ.
* { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
(2/227)
---(1/648)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ}: اختلفوا في محلِّ "ذلك من الإِعراب. فقيل: رفعٌ، وقيل: نصبٌ. والقائلون بأنه رفعٌ اختلفوا على ثلاثةِ أقوال، أحدُهما: أنه فاعلٌ بفعل محذوفٍ، أي: وَجَبَ لهم ذلك. والثاني: أنَّ "ذلك" مبتدأٌ، و "بأنَّ الله" خبرُه، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أَنْزَل اللهُ في القرآنِ من استحقاقِ عذابِ الكافر. والثالث: أنه خبرُ والمبتدأ محذوفٌ، أي الأمرُ ذلك، والإِشارةُ إلى العذابِ، ومَنْ قاله بأنه نصبٌ قدَّره. فَعَلْنا ذلك، والباءُ متعلقةٌ بذلك المحذوفِ ومعناها السببيةٌ.
* { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
(2/228)
---(1/649)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ}: قرأ الجمهور برفع "البر"، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه. فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ "ليس"، و "أن تُوَلُّوا" خبرها في تأويلِ مصدرٍ، أي: ليس البرُّ توليتكم. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه. وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ، و "أن تُوَلُّوا" اسمها في تأويلِ مصدرٍ. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ، وغيرُ الاعرافِ الخبرَ. وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال: لأنها تُشْبه "ما" الحجازية، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر:
823 - سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم * وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر:
824 - أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ * وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله: "بأن تُوَلُّوا" بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ "ليس" كثيراً.
وقوله: {قِبَلَ} منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله "تُوَلُّوا"، وحقيقةُ قولك: "زيدٌ قِبَلك": أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى "عند" نحو: "قِبَل زيدٍ دَيْنٌ" أي: عندَه دَيْنٌ.
(2/229)
---(1/650)
قوله: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدثها: أنَّ "البِرَّ" اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة "فَطِن"، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن. الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: "ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن". الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَهُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: "ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف" ولا يناسِبُ "ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف". الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُعلى الشخصِ مبالغةً نحو: "رجلٌ عَدْلٌ". ويثحكى عن المبردِ: "لو كنتُ مِمّضن يقرأُ لقرأتُ: ",لكنَّ البَرَّ" بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن "البَرَّ" اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل. الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: "رجل عَدْل" أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: "أقائماً وقد قعد الناس" في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل "بِرَّاً" كـ"سِرّ"، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
(2/230)
---(1/651)
وجَعَلَ الفراء "مَنْ آمَنَ" واقعاً موقِعَ "الإِيمان" فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: "ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله". قال: "والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
825 - لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى * ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ، والمعنى: لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى.
وقرأ نافع وابن عامر: "ولكنْ البِرُّ" هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع "البرُّ"، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ}، وقرىء: "ولكنَّ البارَّ" باللف وهي تقوِّي أنَّ "البِرَّ" بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وَوَحَّد "الكتابَ" لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدُ لها بالصحةِ.
قوله: {عَلَى حُبِّهِ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، العاملُ في "آتى"، أي: آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه. والحبُّ مصدرٌّ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ. أظهرُها: أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه. الثاني: أنه يعودُ على الإِتياء المفهومِ من قوله: "آتى" أي: على حُبِّ الإِيتاء، وهذا بعيدٌ من حيث المعنى. أمّا من حيث اللفظُ. فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل. وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير:
(2/231)
---(1/652)
826 - تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً * كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ
والثالث: أن يعودَ على الله تعالى، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ / المُؤتي. وقيل: هو ضمير المؤتَوْن. أي: حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه، وليس بذلك. و "ذي القربى" على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه. الرابع: أن يعودَ على "مَنْ آمن"، وهو المُؤْتِي للمال، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً، أي: "حُبِّه المال"، وأن يكونَ "ذوي القربى"، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله.
قال ابن عطية: "ويجيء قولُه: "على حُبِّه" اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ". قال الشيخ: "فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها، وهذا مفردٌ وله محلٌّ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين، وهما "المال" و "ذوي" فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ".
قوله: {ذَوِي} فيه وجهان، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى، وهل هو الأولُ و "المالَ" هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني:أنه منصوبٌ بـ"حُبِّه" على أنَّ الضميرَ يعودُ على "مَنْ آمن" كما تقدَّم.
قوله: {وَالْيَتَامَى} ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على "ذوي". وقال بعضُهم: "هو عطفٌ على "القُرْبى"، أي: آتى ذوي اليتامى، أي: أولياءَهم، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ" ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء، يقال: "أتيتُ السلطانُ الخراجَ" وإنما أعطيتُ أعوانَهُ.
(2/232)
---(1/653)
و "ابن السبيل" اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [به] الجمعُ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ.
قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} متعلِّقٌ بآتى. وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ ضَمَّنَ "آتى" معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ، كأنه قال: وَضَع المالَ في الرقاب. والثاني: أن يكونَ مفعولُ "آتى" الثاني محذوفاً، أي: آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون. وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها.
قوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} عَطْفٌ على صلةِ "مَنْ" وهي: آمن وآتى، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم.
قوله: {وَالْمُوفُونَ} في رفعه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على "مَنْ آمن"، أي: ولكنَّ البِرَّ المؤمنون والموفون. والثاني: أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم المُوفون. وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ "الصابرين" على المدحِ بإضمارِ فعلٍ، وهو في المعنى عَطْفٌ على "مَنْ آمن"، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ. قال الفارسي: "وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ.
(2/233)
---(1/654)
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على "ذيو القربى" أي: وآتى المالَ الصابرين؟ قيل: لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكونَ "الموفون" عطفاً على الضمير المستتر في "آمَنَ"، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في "الصابرين" وجهان، أحدُهما: النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم، والثاني: العطفُ على "ذوي القربى"، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها.
وقوله: {إِذَا عَاهَدُواْ} "إذا" منصوبٌ بالموفُون، أي: الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ: "والصابرون"، وحكى الزمخشري قراءَة: "والموفين" و "الصابرين".
قال الراغب: وإنما لم يَقُلْ: "وأوفى" كما قال "وأقام" لامرين، أحدُهما: اللفظُ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ. والثاني: أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمّضا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد" وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ.
و "حين البأسِ" منصوبٌ بالصابرين، أي: الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ.
(2/234)
---(1/655)
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان، أحدُهما: - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ، وألفُهما للتأنيث، والثاني: أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال: بَئِس يَبْأَس إذا افتقر. قال الشاعر:
827 - ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً * يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً، بَؤُسَ الرجلُ أي: شَجُع.
قوله: {وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} مبتدأٌ وخبرٌ، وأتى بخبر "أولئك" الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً.
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
(2/235)
---(1/656)
قوله تعالى: {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}: أي: بسببِ القتلى، و "في" تكون للسببية كقوله عليه السلام: "إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة" أي: بسببها. و "فَعْلَى" يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى} قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} مبتدأٌ وخبرٌ، والتقديرُ: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتولٌ بالحُرِّ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفتَ لدلالةِ الكلامِ عليه، فإن الباءَ فيه للسبب، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت: الحُرَّ كائنٌ بالحر، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً، أي: قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر. وأجاز الشيخ أن يكونَ "الحُرُّ" مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر، يَدُلُّ عليه قولُه: {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر، وفيه بَعْدٌ.
والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً، نحو: قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه، لأنه اتباعُ دمِ المقتول.
والحُرُّ وصفٌ، و "فُعْل" الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس، قالوا: حُرّ وأحرار، ومُرّ وأمرار، والمؤنثة حُرَّة، وجمعها على "حرائِر" محفوظُ أيضاً، يقال: حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً.
(2/236)
---(1/657)
قوله: {فَمَنْ عُفِيَ} يجوزُ في "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء. وعلى الأول يكونُ "عُفِي" في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه: "فاتِّباع" على الأول، ومحلُّها وما بعدها الجزءُ، وجائزةٌ في الثاني، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر. والظاهرُ أنَّ "مَنْ" هو القاتلُ، والضميرُ في "له" و "أخيه" عائدٌ على "مَنْ و "شيءٌ" هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، والمرادُ به المصدرُ، وبُني "عُفِي" للمفعولِ وإن كان قاصراً، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}. والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه. وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ بـ"عن"، تقول: عَفَوْتُ عن زيد، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ، تقول: عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ، والآيةُ من هذا الباب / أي: فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ. وقيل "مِنْ" هو وليُّ الدمِ. أي: مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ بـ"شيء" حينئذٍ ذلك المستحِقُّ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ، ويُراد بالشيء الديةُ و "عُفِي" بمعنى يُسِّر على هذين القَولين، وقيل: بمعنى تُرِكَ.
(2/237)
---(1/658)
وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر "عُفِيَ" بمعنى "تُرِكَ" قال: فإنْ قلت: هَلاَّ فَسَّرْت "عُفي" بمعنى "تُركَ" حتى يكونَ "شيء" في معنى المفعول به. قلت: لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ، ولكن "أعفاه" ومنه: "وَأَعْفوا اللَّحى" فإنْ قلت: قد ثَبَتَ قولُهم: عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ. قلت: عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها، وترى كثيراً مِمَّن يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها.
قال الشيخ: "إذا ثَبَتَ أنَّ "عَفَا" بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ "عَفَا" لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به، فقد يتعادَلُ الوجهان: أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و "عفا" المتعدِّي بمعنى "مَحَا" لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً" فإن قيل: تُضَمِّنُ "عَفَا" معنى "تَرك" فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ. وقيل: إن "عُفِيَ" بمعنى فَضِلَ، والمعنى: فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات، مِنْ قَوْلِهِم: عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ. وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها.
(2/238)
---(1/659)
قوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} في رَفْع "اتباع" ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية: فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ، وَقَدَّره الزمخشري: فالأمرُ اتِّباع. قال ابنُ عطية: "وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. قال الشيخ "ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أثبَتُ وأكدُ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا، كما قالوا في قوله: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} الثاني: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: فليكن اتِّباعُ. قال الشيخ: "هو ضعيفٌ إذ "كان" لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد "إنْ" - الشرطية و "لو" لدليلٍ يَدُلُّ عليه".
الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه، أي: فعليه اتِّباع، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه، أي: فاتِّباع بالمعروفِ عليه.
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ. الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله "اتِّباع" فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ: فعليه اتِّباعُه عادلاً، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار.
قوله: {وَأَدَآءٌ} في رفعِهِ أربعة أوجهٍ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه "فاتِّباعٌ" لأنه معطوفٌ عليه. والرابعُ: أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه، وهو "بإحسان" وهو بعيدٌ. و "إليه" في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ "بأداء" ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: وأداءٌ كائنٌ إليه.
(2/239)
---(1/660)
و "بإحسانٍ" فيه أربعةُ أوجه: الثلاثةُ المقولةُ في "بالمعروف"، والرابعُ: أن يكونَ خبرَ "الأداء" كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ "أداء". والهاءُ في "إليه" تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنَّ "عَفَا" يَسْتَلْزِمُ عافياً، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما، ومنه: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس، لأنَّ في ذِكْرِ "العشيّ" دلالةً عليها، ومثله:
828 - فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما * دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ
لك الرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى * وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ
فالضميرُ في "فوقهُنَّ" للإِبل، لدلالةِ لفظِ "الحادي" عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما.
قوله: {ذالِكَ تَخْفِيفٌ} الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و "من ربكم" في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و "رَحمة" صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي: ورحمةٌ من ربكم.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} يجوز في "مَنْ" الوجهان الجائزان في قولِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} من كونِها شرطية وموصولةً، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا.
قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} يجوزُ أنْ يَكُونَ "لكم" الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه "لكم"، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من "حياةٌ"، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ "في القصاص" هو الخبرَ، و "لكم" متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا.
وقرأ أبو الجوزاء "في القَصَص" والمرادُ به القرآنُ. قال ابن عطية: "ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص، أيك إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل".
(2/240)
---(1/661)
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه "القصيص" لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث:"نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ" أي تَجْصيصِها.
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: "القتلُ أَوْفَى للقتل" ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل. وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ. ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ "أَنْفَى" و أَوْفَى" و "أكفُّ" أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف. والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس. ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه. ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} قوله: {ياأُولِي الأَلْبَابِ} منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ. واعلم أن "أولي" اسمٌ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو "ذو" من غير لفظِه. ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِ رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه. وقد تقدَّم في قولِه: {ذَوِي الْقُرْبَى} ويقابِلُه في المؤنث: أُولات: وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا: لِيُفَرِّقوا بين "أُولي كذا" في النصبِ والجر وبين "إلى" التي هي حرفُ جر، ثم حُمِل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين "أولئك" اسمَ إشارةٍ و "إليك" جاراً ومجروراً وقد تقدَّم. وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت: جاء(1/662)
(2/241)
---
أُلون ورأيت إلين، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ: ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ.
والألبابُ جمعُ "لُبٍّ" وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ / وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلالَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم.
* { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ}: "كُتِبَ" مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار. وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ "الوصيةُ" أي: كُتِب عليكم الوصيةُ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين، أحدُهُما: كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِب هو أي: الإِيصاء.
والثالث: أنه الجارُّ والمجرورُ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين. و "عليكم" في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين.
(2/242)
---(1/663)
قوله: {إِذَا حَضَرَ} العاملُ في "إذا" "كُتِب" على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ "الوصية" لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ غلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه، وهو أبو الحسن، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك، فيكون التقديرُ: كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت.
وقال ابن عطية: "ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ "كُتِب" هو العامل في "إذا"، والمعنى: توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل، و "الوصيةُ" مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب. وجوابُ الشرطَيْنِ "إنْ" و "إذا" مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب". قال الشيخ: "وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في "إذا" كُتِبَ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ "إذا" ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ، وهذا يناقِضُ قوله: "وجوابُ "إذا" و "إنْ" محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِ فيكونُ "كُتب" ليس أحدَهما، فإنْ قيل: قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ "كُتب" هو الجوابَ، ولكنه تقدَّم، وهو عاملٌ في "إذا" فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ. فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ".
ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في "إذا" الإِيصاء المفهوم من لفظ "الوصية" وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في "كُتِب" كما تقدَّم. قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ: "ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في "إذا" وترتفع "الوصيةُ"، بالابتداء، وفيه جوابُ الشرطين على [نحو] ما أنشده سيبويه:
(2/243)
---(1/664)
829 - مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه * ........................
ويكون رفعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ". وناقشه الشيخ من وجوهٍ، أحدُها: أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ "إذا" معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جاوبٌ كما تقدَّم تحريرُه؟ والثاني: أنَّ هذا الإِيصاء: إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ أنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألاَّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ. الثالث: قولُه "جوابُ الشرطين" والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه. الرابعُ: جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد:
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها * والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
وإنشادُه "مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه" يجوز أن يكونَ روايةً، إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يثجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً، لا في ضرورة ولا غيرها، ويَرْوِيه: "مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره"، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه.
(2/244)
---(1/665)
ويجوزُ أَنْ تكونَ "إذا" شرطيةً، فيكونَ جوابُها وجوابُ "إنْ" محذوفَيْن. وتحقيقُه: أنَّ جواب "إنْ" مقدَّرٌ، تقديرُه: "كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص"، فقولُه "فَلْيُوصِ" جوابٌ لإِنْ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ "إذا" فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله. وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول: إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول، وحُذف جوابُ الثاني، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى "كُتِبَ" ماضي المعنى، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى: يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً.
قوله: "الوصيةُ" فيه ثلاثةُ اوجهٍ، [أحدها:] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه "للوالدَيْن". والثاني: أنه مفعولُ "كُتِب" وقد تقدّضم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوخجٌ بنقلِ سيبويه.
قوله: {الْوَصِيَّةُ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بنفسِ "الوصية"، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية، أي: حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر.
(2/245)
---(1/666)
قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، وذلك المصدرُ المحذوفُ: إمَّا مصدرُ "كُتِب" أو مصدرُ "أَوْصى" أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً. الثاني: أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف: [إِمَّا] مصدرُ "كُتِب" أو "أَوْصَى" كما تقدَّم. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة، فيكونُ عاملُه محذوفاً، أي: حَقَّ ذلك حقاً، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وقال الشيخ: "وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية، لأنَّ ظاهرَ قولِه :"على المتقين" أن يتعلَّق بـ"حقاً" أو يكونَ في موضعِ الصفة له، وكِلا التقديرين لا يجوزُ. أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وأمَّا الثاني فلأن [الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد]، وهذا لاَ يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ "على المتقين" متلِّقٌ به. وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال: / "وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك: ضرباً زيداً، أي: اضرِبْ" إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ، فهذا يَرِدُ عليه.
وقال بعضُ المُعْرِبين: "إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى "المتقين" كأنه قيل: على المتقين حقاً، كقوله: {أُوْلاائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}. وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن.
قال الشيخ: "والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى "كُتب" لأنَّ معنى "كَتَبَ الوصيةَ" أي: حَقَّتْ وَوَجَبَتْ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو: قَعَدْتُ جلوساً.
* { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(2/246)
---(1/667)
قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ}: "مَنْ" يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وموصولةً، والفاءُ: إمّا واجبةٌ إن كانَتْ شرطاً، وإمّا جائزٌ إنْ كانت مصولةً، بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإِيصاءُ. أو تعودُ على نفس الإِيصاءِ بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإِيصاءُ. أو تعود على نفس الإِيصاء المدلولِ عليه بالوصِيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبارَ التذكير في المؤنثِ قليلٌ وإن كان مجازياً، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: هند خرجَتْ والشمسُ طلَعَتْ، ولا يجوزُ: الشمسُ طَلَع، كما لا يَجُوزُ: "هند خرج" إلاَّ في ضرورةٍ. وقيل: تعودُ على الأمرِ والفَرْضِ الذي أَمَرَ به اللهُ وفَرَضه. وكذلك الضميرُ في "سَمِعَه" والضميرُ في "إثمُه" يعودُ على الإِيصاء المُبَدَّلِ، أو التبديلِ المفهوم من قولِه: "بَدَّله".
وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ: "فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله".
وقيل: الضميرُ في "بَدَّله" يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ. فهذه ستةُ أقوالٍ.
و "ما" في قولِه: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بعد: سماعِه، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي. فالهاءُ في "سَمِعَه" على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في "سَمِعَه" على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في "بَدَّله"، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله.
* { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(2/247)
---(1/668)
قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ}: يجوزُ فيها الوجهان الجائزان في "مَنْ" قبلَها. والفاءُ في "فلا إثم" هي جوابُ الشرطِ أو الداخلةُ في الخبر. و "مِنْ موصٍ" يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ متعلقةً بخاف على انها لابتداءِ الغاية. الثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من "جَنَفَاً"، قُدِّمَتْ عليه، لأنها كانَتْ في الأصل صفةً له، فلمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. ونظيره: "أخَذْتُ من زيد مالاً" إن شِئت عَلَّقْتُ "مِنْ زيد" بـ"أَخَذْتُ"، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من "مالاً" لأنه صفته في الأصلِ، الثالث: أن تكونَ لبيان جنسِ الجانفين: وتتعلَّقُ أيضاً بخاف. فعلى القولين الأولين لا يكونَ الجانِفُ من الموصِين بل غيرُهم، وعلى الثالث يكونُ من الموصين.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي: "مُوَصٍّ" بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها. وهما من أوصى ووصَّى، وقد تقدَّم أنهما لغتان، إلاَّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} مضعَّفاً، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن: "أوصى" بالهمزة، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك "ووصَّى" بالتضعيف أن يقرآ هنا "مُوَصٍّ" بالتضعيف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا "مُوصٍ" مخففاً على قياس قراءتهما هناك و "أَوْصَى" على أَفْعَل. وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا: "ووصَّى" هناك بالتعضيف فقرؤوا هنا "مُوَصٍّ" بالتضعيفِ على القياس.
والخَوْفُ هنا بمعنى الخِْيَة وهو الأصلُ، وقيل: بمعنى العِلْم وهو مجازٌ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ. ومِنْ مجيء الخوف بمعنى العِلْم قولُه تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}، وقولُ أبي مِحْجن الثقفي:
(2/248)(1/669)
---
830 - إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ * تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها
ولاتَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني * أخَافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقُها
والجَنَفُ لأهلِ اللغةِ فيه قولان أحدُهما: المَيْلُ، قال الأعشى:
831 - تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي * وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا
وقال آخر:
832 - هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا * وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ
وقيل: هو الجَوْرُ. قال:
833 - إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ * ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ
يقال: جَنِفَ بكسر النون يَجْنَفُ بفتحها فهو جَنِفٌ وجانِفٌ، وأَجْنَفَ جاء بالجَنَفِ كَألاَم جاء بما يُلام عليه.
والضميرُ في "بينهم" عائد على الموصي والورثةِ، أو على الموصَى لهم، أو على الورثةِ والمُوصى لهم. والظاهرُ عودُه على المَوصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظُ "المُوصى". وهو نظيرُ {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ} [في] أن الضمير يعودُ للعافي لاستلزام "عفا" له، ومثلُه ما أنشد الفراء:
834 - وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً * أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليتِني
فالضمير في "أيُّهما" يعودُ على الخيرِ والشرِّ، وإنْ لم يَجْرِ ذِكْرُ الشِّر لدلالةِ ضِدِّه عيله، والضميرُ في "عليه" وفي "خاف" وفي "أصلح" يعود على "مَنْ".
* { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(2/249)
---(1/670)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: "الصيامُ" مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي.
والصيام: مصدرُ صام يصوم صوماً، والأصلُ: صِواماً، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيرا، في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا: غار غُووراً، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ /، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال: الغُؤُور. والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً، ومنه: صامَتِ الريحُ: أمسكَتْ عن الهبوبِ، والفرسُ: أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ، [وقال]:
835 - خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ * تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما
وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً} أي: سكوتاً لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}. وصامَ النهارُ أي: اشتدَّ حَرَّه، قال:
836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ * ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ
كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ. ومَصَامُ النجومِ: إمساكُها عن السيرِ، قال المرؤ القيس:
837 - كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها * بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
(2/250)
---(1/671)
قوله: {كَمَا كُتِبَ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ. الثاني: أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي: كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ. و "ما" على هذين الوجهينِ مصدريةٌ. الثالث: أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام، أي: صوماً مثلَ ما كُتِبَ. فـ"ما" على هذا الوجه بمعنى الذي، أي: صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم. و "صوماً" هنا مصدر مؤكِّد في المعنى، لأنَّ الصيامَ بمعنى: أنْ تصُومُوا صوماً، قاله أبو البقاء، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى {بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}. وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - "وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ، هذا إن كانت "ما" مصدريةً، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ".
الرابع: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "الصيام"، وتكونُ "ما" موصولةً، أي: مُشْبهاً الذي كُتِبَ. والعاملُ فيها "كُتِبَ" لأنه عاملٌ في صاحبِها. الخامس: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك "بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ" كأنه يعني أنَّ "أل" فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِ{َ لفظة مرةً ومعناه أخرى، قالوا: "أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض" ومنه:
838 - ولقد َمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي * فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
(2/251)
---(1/672)
[وقولُه تعالى:] {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه: {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه: {خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} قوله {أَيَّاماً} في نصبِه أربعةُ أوجه، أظهرُها: أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه: صوموا أياماً، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين: إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً.
الثاني: أنه منصوبٌ بالصيام، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه، ونَظَّرهُ بقولِكَ: "نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ"، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي، وهو قولُه : "كما كُتِبَ" لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه. فإنْ قِيل: يُجْعَل "كما كُتِبَ" صفةً للصيام، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً. قيل: يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ، وهو ممتنعٌ.
الثالث: أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّرب الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام، كما قد قال به بعضُهم، وإنْ كان ضعيفاً، فيكونُ التقديرُ: "الصيام صوماً كما كُتِبَ" فجاز أن يَعْمل في "أياماً" "الصيامُ" لأنه إذ ذاك عاملٌ في "صوماً" الذي هو موصوفٌ بـ"كما كُتِبَ" فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ.
الرابع: أن ينتصِبَ بكُتب: إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء. قال الشيخ: "وكِلا القولينِ خطأٌ: أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام. وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ، وقد تقدَّم أنه خطأ.
(2/252)
---(1/673)
و "معدوداتٍ" صفةٌ، وجَمءعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا، وقولِه "جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ".
قوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان. و "أو" هنا للتنويع، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ، فلم يَقُلْ: "أو مسافراً" إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ.
قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الجمهورُ على رفعِ "فَعِدَّةٌ"، وفيه وجوهٌ أحدُها، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ: إمَّا قبلَه تقديرُهُ: عليه عِدَّةٌ، أو بعدَه أي: فَعِدَّةٌ أمثلُ به. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ عِدَّةٌ. الثالث: أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ، أي: فتجزيه عِدَّةٌ. وقرىء: "فَعِدَّةً" نصباً بفعلٍ محذوف، تقديره: فَلْيَصُمْ عِدَّةً. وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال: "ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً". ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: "فَصَوْمُ عدَّة" ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره: فأفْطَرَ فعدةٌ، ونظيرُه: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} أي: فَضَرَبَ فانفلقَ. و "عدةٌ" بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح. ونَكَّر قوله "فَعِدَّةٌ" ولم يَقُل "فَعِدَّتُها" اتِّكالاً على المعنى. و "من أيامٍ" في محلذِ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة.
قوله: {أُخَرَ} صفةٌ لأيَّامٍ. و "أُخَرُ" على ضَرْبَيْن، ضربٍ: جَمْعُ "أخرى" تأنيثِ "آخَر" الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ. وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة، تأنيث: "آخِر" المقابِل لأوَّل، ومنه قولُه تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ}. فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ: الوصفُ والعَدْلُ.
(2/253)
---(1/674)
واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ، فقال الجمهورُ: إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ، وذلك أن "أُخَر" جمع أُخْرى، وأُخْرَى تأنيث "آخَر" وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات: إمَّا مع أل وإمَّا مع "مِنْ" وإمَّا مع الإِضافة. لكنَّ "مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير، ولا إضافة / في اللفظِ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ، وهذا كما قالوا في "سَحَر" إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ إلاَّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ. ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك: "مررت بنسوة أُخَرَ" على وزن فُعَل أن يكونَ "بنسوة آخَرَ" على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديِ مِنْ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع. ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا.
وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ. والفرقُ بين "أُخْرَى" التي للتفضيل و "أُخرى" التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى "غير" ومعنى تَيْكُ معنى متأخرة، ولكونِ الأولى بمعنى "غير" لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو: "مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ" ولا يجوزُ: اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس. وأمَّا قوله:
839 - صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها * ليلى وصَلَّى على جارتِها الأُخَرِ
فإنه جعل ابنتَها جارةً لها، ولولا ذلك لم يَجُزْ. ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في "شرح التسهيل" فَلْيُلتفت إليه.
(2/254)
---(1/675)
وإنَّما وُصِفَت الأيام بـ"أُخَر" من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث، فَمِن الأولِ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها، وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل: عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ.
قوله: {يُطِيقُونَهُ} الجمهورُ على "يُطِيقُونه" من أطاق يُطِيق، مثل أَقامَ يُقيم. وقَرَأَ حُميد: "يُطْوِقُونه" من أَطْوقَ، كقولهم: أَطْوَلَ في أَطال، وأَغْوَلَ في أَغال، وهذا تصحيحٌ شاذ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو: أَجْوَدَ بمعنى أجاد، ومِنْ ذوات الياء: أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت، وأَغْيَلَتِ المرأة، وأَطْيَبَت، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو: "أَغْيَمَت" و "أطْوَل" إلا أبو زيد.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: "يُطَوَّقونه" مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع. وقرأت عائشة وابن دينار: "يَطَّوَّقُونَه" بتشديد الطاء واواو من أَطْوَقَ، وأصلُه تَطَوَّق، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه: {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وقرأ عكرمة وطائفةٌ: "يَطَّيَّقونُه" بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً. وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول.
(2/255)
---(1/676)
وقد رَدَّ بعضً الناسِ هذه القراءةَ. وقال ابن عطية: "تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ" وإنما قالوا بِبُطْلاَنِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليس باطلةً ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنُ: وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من تَفَيْعَل، والأصلُ: تَطَيْوَق من الطَّوْقِ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران، والحَوْر، والأصلُ: تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ، فاجتمعت الياءُ والوُ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ، فكان الأصلُ: يَتَطَيْوَقُونه، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ، فَمَنْ قَرَأَه "يَطَّيَّقونه" بفتح الياءِ بناه للفاعل، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول. وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ، أي: يتكلَّفون إطاقَتَه، وذلك مجازق من الطَّوْقِ الذي هو القِلاَدَةُ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم.
وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ "لا" محذوفةٌ قبلَ "يُطِيقُونَه" وأنَّ التقديرَ: "لا يُطيقونه" ونَظَّره بقولِهِ:
840 - فخالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً * من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ
وقوله:
841 - آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً * يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله:
842 - فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً * ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي
المعنى: لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ. وهذا ليس بشيء، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ، وأمَّا الأبياء المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي.
والهاءُ في "يُطِيقُونَه" للصومِ، وقيل: للفِداءِ، قاله الفراء.
(2/256)
---(1/677)
و "فِدْيَةٌ" مبتدأٌ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه. والجماعةُ على تنوينِ "فِدْيَة" ورفع "طعام" وتوحيدِ "مسكين" وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ: "مساكين" جمعاً، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة "فدية" إلى "طعام مساكين" جمعاً. فالقراءةُ الأولى يكونُ "طعام" بدلاً من "فِدْية" بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هي طعام. وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه، والمقصودُ به البيانُ كقولِك. خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه. وقال بعضهم: "يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ، قال: "لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ" وهذا فاسدٌ، لأنَّه: إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء، أو يريدَ به المفعولَ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ، وليسَتْ مُرادةً هنا، والذي بمعنى المعفولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ، لا تقولُ: ضِراب بمعنى مَضْروب، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله، لا تقول: "مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه" وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال: أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟
(2/257)
---(1/678)
وإنَّما أُفْرِدَت "فِدْية" لوجهين، أحدُهما: أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث. والثاني: أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ /، وهذا في قراءةِ "مساكين" بالجمع. ومَنْ جمع "مساكين" فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين. ونظيرهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وتَبَيَّن مِنْ إفراد "المساكين" أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ. والطعامُ: المرادُ به الإِطعامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء: "لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً، لأنه يصير تقديرُه: فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين، فهو من باب تسميةِ الشيءِ، بما يَؤُول غليه، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه".
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فَلْيُلْتفت إليه. والضميرُ في قولِهِ: "فهو" ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ: "فَمَنْ تَطَوَّع" أي: فالتطوعُ خيرٌ له و "له" في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: خيرٌ كائنٌ له.
(2/258)
---(1/679)
قوله: {وَأَن تَصُومُواْ} في تأويل مصدرٍ مروفوعٌ بالابتداء تقديرُه: "صومكم" و "خَيْرٌ" خبرُه. ومثلُه: {وَأَن تَعْفُوااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ، تقديرُه: فالصومُ خيرٌ لكم. وحُذِفَ مفعولُ العلم: إمَّا اقتصاراً، أي: إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً أي: تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه، أفَضْلَ ما عِلِمْتُم.
* { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيا أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ}: فيه قراءتان، المشهورةُ الرفعُ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان، الأولُ: أنه قولُه {الَّذِيا أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ، والقولُ الثاني: أنه قولُه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} وليس كذلك، لأنَّ قولِهِ: {الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ} يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان. فإنْ قيل: أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ؟ قيل: تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله:
(2/259)
---(1/680)
843 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * ..........................
وهذا الإِعراب - أعني كون "شهر رمضان" مبتدأ - على قولِنا: إن الأيامَ المعدوداتِ هي رمضان، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان.
أحدُهما: أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ الفرا: ذلكم شهرُ رمضانَ، وقدَّره الأخفش: المكتوبُ شهرُ، والثاني: أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ "الصيام" أي: كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدُ جداً لوجهين، أحدُهما: كثرةُ الفصلِ بين الدبلِ والمُبْدَلِ منه. والثاني: أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله: {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}، وقول الأعشى:
844 - لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه * تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ. ويمكن أن يوجَّهَ قولَه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ: صيامُ شهر رمضان، وحينئذٍ يكونُ من بابِ "بدلِ" الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة. ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله "أياماً معدوداتٍ" في قراءةِ مَنْ رَفَع "أياماً"، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ.
(2/260)
---(1/681)
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب، وفيه أوجهٌ، أجودُها، النصبُ بإضمار فعلٍ أي: صُوموا شهرَ رمضانَ. الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني -: أن يكونَ بدلاً من قولِهِ "أياماً معدوداتٍ"، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ، إلا ن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ. الثالثَ: نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي. الرابع: أَنْ ينتصِبُ بقولِهِ: "وَأَنْ تصوموا" حكاه ابن عطية، وجَوَّزَهُ الزمخشري، وغَلَّطَهما الشيخُ: "بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي، لأنَّ الخبرَ وهو "خيرٌ" أجنبي من الموصولِ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ، و "شهر" على رأيهم من تمامِ صلة "أَنْ" فامتنع ما قالوه. وليس لقائلٍ أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ". الخامسُ: أنه منصوبٌ بـ"تَعْملون" على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُهُ: تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ.
وأَدْغم أبو عمر راء "شهر" في راء "رمضان"، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما، وقولُ ابن عطية: "وذلك لا تقتضيه الأصولُ" غيرث مقبولٍ منه، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس.
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان، أشهرهُما: أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ. والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه.
قال:
845 - .................... * والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
سُمِّي بذلك لبيانِهِ، قال ذو الرُّمَّة:
846 - ................... * يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ
(2/261)
---(1/682)