التفسِّيرُ ورجَالُهُ
لفضيلة الشيخ
مُحمَّد الفَاضِل بن عاشوُر
عضو مجمع البحوث الإسلامية
ومفتي الجمهورية التونسية الأسبق
ـ رحمه الله ـ
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
حول الكتاب
الحمد لله رب العالمين ، خالق الأولين والآخرين ، قيوم السماوات والأراضين ، لا إله إلا هو الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد النبي الأمين ، وعلى إخوانه من الرسل والنبيين ، وعلى خلفاءه الراشدين المهديين ، وعلى آله الطاهرين ، وعلى صحبه الطيبين أجمعين ، وعلى التابعين المرضيين وتابعيهم المكرمين ، وعلى العلماء العاملين والشهداء والصالحين ؛ صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين...
وبعد..
فهذا كتاب " التفسير ورجاله " للشيخ محمد الفاضل بن عاشور ــ رحمه الله ــ ، وهو كتاب قيم ومفيد ونفيس وفريد على ما عليه من ملاحظات ــ وإن كان أغلب تلك الملاحظات لا يتعلق بالفن الذي اختص الكتاب بالكلام عنه ـــ دقت أو جلت ، إلا أني بالفعل ــ والإنصاف جميل ــ لما قرأت هذا الكتاب أعجبت حقاً بطريقته الميسرة لإيصال المعلومة إلى ذهن القارئ ، وبالأسلوب الرائع في الانتقال من عصر إلى عصر ومن مصر إلى مصر ، وأحببت اللغة العربية وعلومها حباً جماً ، ورجوت من الله أن يهبني بياناً مثل بيان الشيخ الفاضل ــ أو أفضل إن شاء الله ــ ، وذلك للأسلوب الراقي والبديع الذي ألف به الشيخ الفاضل كتابه ، والذي يجعلك تستمتع وأنت تقرأ الكتاب ، وتتمنى أن تزيد فصوله حتى لا تنتهي منه ، كما أن الكتاب يحوي فوائد علمية ــ قد لا تتعلق بعلم التفسير ــ كثيرة وهامة ، فالكتاب مفيد أدبياً وعلمياً.والكتاب بالرغم من إيجازه إلا أنه ألم بمساحة عريضة واسعة من تاريخ التفسير.(1/1)
ويلاحظ القارئ الكريم أني لم أقل أن الشيخ ألم بتاريخ التفسير كله وإنما قلت أنه ألم بمساحة عريضة واسعة من تاريخ التفسير ، وذلك لأن الشيخ ــ رحمه الله ــ لم يتعرض في كتابه إلى دراسة مجموعة من التفاسير الهامة ــ على اختلاف مناهجها ــ التي اشتهرت أو كان لها أثراً بارزاً في تاريخ هذا العلم الشريف (علم التفسير) ، مثل:
ــ تفسير البغوي المسمى " معالم التنزيل ".
ــ تفسير ابن الجوزي المسمى " زاد المسير في علم التفسير ".
ــ تفسير القرطبي المسمى " الجامع لأحكام القرآن وما تضمنه من السنة وآي الفرقان ".
ــ تفسير ابن كثير المسمى " تفسير القرآن العظيم ".
ــ تفسير الجلالين المحلي والسيوطي.
إلى غير ذلك من التفاسير سواء كانت تفاسير مسندة أو تُعنى بجمع ما أسند من التفسير مثل: تفسير ابن أبي حاتم أو الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ، أو كانت تفاسير تُعنى بآيات الأحكام مثل: أحكام القرآن لابن العربي أو للجصاص ، أو التفاسير المتأخرة مثل: تفسير الشوكاني المسمى " فتح القدير " أو تفسير صديق حسن خان المسمى " فتح البيان " أو تفسير القاسمي المسمى " محاسن التأويل " ، وغير ذلك من تفاسير للنسفي والخازن والفيروزآبادي والثعلبي والسمعاني والواحدي ــ وله أكثر من تفسير ــ وغيرهم.
ولكن يعتذر عن الشيخ في عدم إيراده ما ذُكر من تفاسير وما لم يُذكر بأمور:
أولها: أن هناك من التفاسير ما لم يكن قد طبع حتى وفاة الشيخ ــ رحمه الله ــ ، أو لعله طبع بالمشرق في حياة الشيخ ولم تقع يده عليه أو طبع بعد أن انتهى الشيخ من كتابه.(1/2)
ثانيها: لعل الشيخ رأى أن ذكر بعض التفاسير يغني عن ذكر البعض الأخر ، وهذا قوي جداً ، حيث أن الناظر في الكتاب يلاحظ أنه استوعب أو كاد ، المناهج المختلفة في التفسير ، فالظن أن الشيخ رأى أنه باقتصاره على تلك الثلة من المفسرين سيحيط بمختلف المناهج التفسيرية ، فلا داعي لذكر غيرهم ، كما يلاحظ أن أصحاب التفاسير المختارة من أزمنة مختلفة ، والواضح أن الشيخ أراد أن يمر على التفسير عبر عصور الإسلام ، فاختار لكل عصر مفسراً واحداً يمثله ــ في رأي الشيخ ــ ، وبالتالي أعرض عن ذكر كثير من المفسرين.
ثالثها: أن الكتاب جاء موجز ، فلو تعرض الشيخ لذكر ما سبق من تفاسير لضخُم حجم الكتاب ، والظن أن الشيخ كان يقصد إلى الإيجاز.
رابعها: لعله كان للشيخ منهجاً وخطة في اختيار التفاسير محل البحث مما جعله يسقط بعض التفاسير ، فالناظر في التفاسير التي اختارها الشيخ يجد أن أغلبها لم يقتصر على علم التفسير فقط ، بل تعداه إلى علوم أخرى ، فلعل الشيخ كان يقصد إلى التفاسير التي جمعت بين أكثر من علم ، كما يُلاحظ أيضاً أن التفاسير المختارة إما أنها كانت ذائعة الصيت في زمنها ، وتجاوزت شهرتها بلدها ، وكثُر من أهل العلم مدحها كتفسير الطبري أو قدحها كتفسير الزمخشري ، وإما أنها لم تكن معروفة فأراد الشيخ أن يُعرف بها كتفسير يحيى بن سلام وتفسير ابن عرفة ؛ والله أعلم.
وأياً كان السبب في عدم ذكر كثير من التفاسير في الكتاب ، فالكتاب ــ حقاً ــ يستحق القراءة المتعمقة المتأنية ، فبالرغم من سهولة وصول المعلومة إلى الذهن إلا أنك تجد أن الفقرة الواحدة قد تمدك بأكثر من معلومة ، وتفجر في داخلك أكثر من فكرة ، فلهذا أقول أن الكتاب يستحق دراسة ، وفوق ذلك فهو كتاب يستحق التقدير أدبياً وعلمياً ، كما يستحقه مؤلفه الشيخ الفاضل ، الذي أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر له ويرحمه ويتجاوز عن سيئاته إنه هو الغفور الرحيم.(1/3)
وقد ذكرت أن هناك ملاحظات على الكتاب ، تلك الملاحظات منها ما أمره يسير ، ومنها ما هو خطير يستلزم التنبيه عليه بل والتحذير منه ، وفي ما هو آت أعرض للقارئ الكريم ما خطر منها:
أولاً: ورد في كلام الشيخ ــ رحمه الله ــ في ص29 ما نصه:
"فإن من الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال وفرقت بينه وبين المذهب السني السلفي ، أصل المعتزلة في تأويل متشابه القرآن الذي كان يمسك عن تأويله مذهب أهل السنة.
وذلك لا جرم فاتح للمعتزلة مسلكاً في تقليب أوجه دلالة القرآن على ما يحتملونه له من المعاني غير مفتوح لغيرهم ممن لا يؤولون ممسكين ومفوضين".
(والمقصود بالمتشابه هنا هو صفات الله ــ تبارك وتعالى ــ حيث أن تأويلها من قبل المعتزلة هو الذي أثار عليهم أهل السنة)
ومن هذا الكلام نرى أن الشيخ وصف أهل السنة بأنهم مفوضين ، وهذا الوصف بهذا الإطلاق لايصح ، لأن أهل السنة يفوضون الكيف ولا يفوضون المعنى لعلمهم به.
ثانياً: أن الشيخ ــ رحمه الله ــ يذكر لفظ أهل السنة أو ما شابهه ، وما يريد به إلا الأشاعرة ، وهذا قد يكون مستساغاً ومقبولاً في بعض الأحيان من الشيخ إذا ما كان الأشاعرة في مقابلة المعتزلة أو الروافض ، أما أن يكون مطلقاً فلا يصح ، ولذلك تجد الشيخ يجمع بين السنة والكلام! أو بين أهل السنة والمتكلمين! ، جمعاً يجعلهما في سلك واحد ، ومن أمثلة ما سبق:
ــ قول الشيخ في ص32: "منذ بدأ أهل السنة يجاذبون المعتزلة أعنة البحث والنظر ، ويداولونهم ميادين الكلام والتأويل ، في أوائل القرن الرابع".
ـــ قول الشيخ في ص32: "حتى إذا استقر الكلام السني على قواعد العقيدة الأشعرية في النصف الثاني من القرن الرابع".
ـــ قول الشيخ في ص38: "فلما نشأت الطريقة السنية الكلامية وهي طريقة الأشعري".(1/4)
ــ قول الشيخ في ص41: "فإن انكسار حدة المعتزلة في القرن الرابع ، بظهور الإمام الأشعري ، وتضعضع حكمتهم المختلطة بانتصار الحكمة الصافية الناصعة الممحصة ، التي أقام الأشعري قواعدها ، وظهور التفاسير العلمية على ذلك المنهج السني".
ـــ قول الشيخ في معرض كلامه على تفسير البيضاوي في ص53: "وكان انبناؤه على أساس الحكمة السنية الأشعرية".
ثالثاً: يحذر من كلام الشيخ ــ رحمه الله ــ عن التصوف ، خاصة في الفصل الخاص بالكلام عن الآلوسي وتفسيره ، وخاصة قوله في معرض كلامه عن الخلافة العثمانية وعنايتها بالتصوف في ص63: "واعتنت بإبراز الطرق التي ترجع أسانيدها إلى الخليفة الأول سيدنا أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ـــ احتياطاً في سد ذريعة استثمار الشيعة للطرق التي يرجع سندها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ". (وهما منها براء).
رابعاً: يحذر من كلام الشيخ عن الفلسفة ــ والتي سماها أو سُميت من قبله: الحكمة! ــ ، وأذكر على ذلك مثالاً واحداً ، حيث قال الشيخ ــ رحمه الله ــ في ص41: "فلم ينبلج فجر القرن السادس إلا وللثقافة الإسلامية هيكل واضح المعالم راسخ القواعد ، تتراص فيه المعارف الحكمية والمعارف الدينية ، وتشد فيه الفلسفة الشريعة على أنها خادمة لها ، كما هو مذهب الأشعري ، لا على أنها مسيطرة عليها كما كان مذهب المعتزلة وأعان على ذلك جودة فهم الحكمة وحسن تنقيتها منذ تدفقت ينابيعها الصافية في كتب أبي علي بن سينا التي كان إشعاعها في مطلع فجر القرن الخامس". (فصارت حكمة ابن سينا ذات ينابيع صافية!).(1/5)
ويعلم الله ــ تبارك وتعالى ــ أني ما ذكرت ما سبق من ملاحظات ، تشنيعاً على الشيخ ، أو انتقاصاً من فضله وعلمه ، وإنما ذكرتها تبرأة للذمة ، ونصيحة للإخوة ، وحتى لايقع بعضهم في ما وقع فيه البعض من تعلق بكتب الكلام والفلسفة بسبب الأسلوب البليغ للشيخ في الكلام عنها وعن مؤلفيها وقد قال النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما ــ : " إن من البيان لسحرا ".
وقد قمت بنسخ الكتاب عن الطبعة التي صدرت هدية من مجلة الأزهر في شهري جمادى الآخرة ورجب لسنة 1425هـ ، حيث صدرت هذه الطبعة على جزئين: الجزء الأول يختتم بختام الحديث عن الإمام الرازي وتفسيره ، والجزء الثاني يفتتح بالحديث عن تفسير الإمام البيضاوي.
وقد صُدّرت هذه الطبعة ببحث عن الشيخ الفاضل قام بإعداده الدكتور محمد رجب البيومي ، وقد قمت بنسخ هذا البحث كذلك.
وعسى أن يكون هذا الكتاب سبباً لاهتمام طلبة العلم بعلوم التفسير واللغة العربية ، وشحذاً للهمم في ارتقاء درجاتها والصبر عليها ، أسأل الله ذلك.
وختاماً أسأل الله ــ عز وجل ــ أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يرزقنا الإخلاص في العلم والقول والعمل ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يوفقنا للعلم والعمل بكتابه وسنة رسوله محمد ــ صلى الله عليه وسلم ـــ على منهاج النبوة ، وأن يهدي المسلمين أجمعين ، وأن ينصر الإسلام ويعز أهله ، ويهزم الكفر ويذل أهله ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الناسخ
??????? ?????? ?????????????? ???????????
محمد الفاضل بن عاشور
بحاثة ذو رسالة ، وكاتب ذو بيان
دراسة علمية بقلم الأستاذ الدكتور
محمد رجب البيومي
عضو مجمع البحوث الإسلامية
ورئيس تحرير مجلة الأزهر(1/6)
ما قرأت أثراً من آثار العلامة الأديب البحاثة الشيخ مجمد الفاضل عاشور إلا بلغ من نفسي أرفع منازل الإعجاب ، حتى خفت أن أكون مغالياً ، ولكني أرجع إلى القراءة معاوداً فأرى تدفقاً في المعنى ، وعلواً في الصياغة ، وغوصاً في التفكير ، فأرجع إلى موضغ الإكبار في نفسي فأجده صحيحاً لا غبار عليه.
والحق أن تجربتي معه في قراءة تآليفه الممتعة هي التي غرست في النفس هذا الإعجاب الأصيل ، فقد أتيح لي أن أكتب كتابين عن تفسير كتاب الله هما كتاب (خطوات التفسير البياني) وكتاب (التفسير القرآني) ، ورجعت إلى عدة مؤلفات معاصرة وقديمة تتصل بالتفسير ، ومن بينها كتاب (التفسير ورجاله) فراعني أن هذا الكتاب على إيجازه يغني عن الكثير من المطولات من ناحية ما تتضمن من الحقائق التاريخية الممتدة على توالي العصور ، ولكنه من الناحية الأسلوبية تفكيراً وتعبيراً وتأصيلاً لا يرتفع إلى مستواه أسلوب سابق أو لاحق إلا ما كان من أمر عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز).(1/7)
وقد أعدت قراءة الكتاب مرات عديدة وأنا في كل قراءة أشعر كأني أقرأ مقالة إبداعية لا بحثاً علمياً ، وليس معنى ذلك أن قلم الأديب قد جار على حقيقة العالم ، ولكن معناه أن الرجل الكبير قد ارتفع بالأسلوب التأليفي ارتفاعاً بلغ القمة التي تعز على النظراء والأمثال ، وقد جلى من الحقائق ما لم يتيسر لغيره لأنه قرأ من تفاسير المغاربة المخطوطة ما لم نجده لدينا في الشرق ، فأضاف حقائق كانت حلقاتها مفقودة من قبل ، وكان إذا افتتح موضوعاً من أبواب الكتاب لا يدخل في صميمه دون أن يمهد له بمقدمة مستوعبة تربط الغابر بالقابل ارتباطاً يتجلى فيه عمق الغوص وسعة النظر ، حتى لأجزم بأثر ابن خلدون في تكوينه العلمي ، إذ استفاد من طريقة تناوله ما لم يتح إلا لذوي العمق والاستبصار ، ولكي أمتع القارئ ببعض ما أعنيه فإني أنقل له بعض ما فتح به الأستاذ حديثه عن (تفسير أبي السعود) ببعض التصرف اليسير ، حيث قال:
"عندما كان التفسير بالمغرب ـ وتونس خاصة ـ يسير على منهج الإملاء والجمع والتحليل ، كان التفسير ببلاد الشرق الأوسط في إيران وما وراء النهر راكباً بحر التقرير والبحث والتفكيك مغرقاً فيه ، سابحاً بين أمواج متلاطمة من المباحث والأنظار تترامى على عبريه ،وكان ربان السفينة الذي أمسك بخيزرانتها ، ووضع قطب التحقيق والتمحيص نصب عينيه هو العلامة سعد الدين التفتازاني ، ثم أخلافه على طريقته التحقيقية الذين ملكوا قيادة الفكر الإسلامي باسمه خمسة قرون [ وذكر الشيخ نبذاً عنهم ].(1/8)
ثم قال: وكان لهذا الخضم الهائج ببلاد الشرق الأوسط موجة امتدت إلى آسيا الصغرى وبلاد الروم منذ أواخر القرن التاسع بسبب ما أحدث قيام السلطة العثمانية من صلات بين الممالك الإسلامية ، وما كونت الفتوح العثمانية من صلات ، وبذلك أصبح لخصائص المنهج العلمي في التأليف والتدريس امتداد إلى بلاد السلطنة العثمانية بالأناضول وبالروميلي أثمر رجالاً التحقوا بركب العلامة التفتازاني واشتركوا مع أخلافه في بحوثهم القلمية والتدريسية ، حول الكتب الجامعة لتقارير المحققين ، ومنها تفسير الكشاف وتفسير البيضاوي ، فاتسع بذلك مجال البحث حول التفسيرين وأثمر بحوثاً شاقة مضنية متشعبة ، فتطلع العلماء إلى وضع تفسير جديد يجمع بين الكشاف والبيضاوي ، ويريح من عناء تسليط الكلام على هذا وذلك ، فكان الذي انتدب لتحقيق هذه الرغبة شيخ الإسلام أبو السعود".
هذا كلام لم يتجاوز في كتاب (التفسير ورجاله) صفحتين ، ولكنه ألم بتاريخ أربعة قرون من البحث التقريري المتغلغل في شروح مدرسة التفتازاني في إحكام دقيق لا غاية لدقته ، وقد كنت أود أن أستشهد بنقول أخرى من هذا الطراز تبين روعة البحاثة وضلاعته ، وبعد مرماه على إيجاز قوله ولكن مكان القول شحيح.(1/9)
وقد عرفت مصر الفاضل حين تكررت زيارته العلمية لها في مناسبات عدة ، إذ كان عضواً بارزاً في مجمعي اللغة العربية والبحوث الإسلامية ، فكانت مؤتمرات المجمعين السنوية تشهده متحدثاً ومناقشاً ، فهو يعد للموسم بحثاً يشغل الأذهان إعداداً دقيقاً تظهر فيه شخصيته العلمية ، وقد يتناول بحثاً في موضوع أعده زميل آخر ، فيقرأ البحثان في جلسات المؤتمر ويلحظ السامعون امتيازاً ملحوظاً لبحث الفاضل ، لأنه فوق اهتمامه بخطة البحث من حيث المقدمة الجيدة والعرض الدقيق والخاتمة الملخصة ، يأتي بمعلومات جديدة من كتب مغربية مخطوطة لم يطلع عليها علماء الشرق ، فيلفت الأنظار إلى كنوز غائبة كانت في حكم المفقودة ، ويدور النقاش عقب المحاضرة حول ما اهتدى إليه المحاضر من حقائق علمية ، وينبري الأستاذ الفاضل للرد متواضعاً ، وقد قال في مرات كثيرة بعد أن سمع الثناء الحافل على ما قدم ، إنه كان يرجو التصويب من أساتذته الكبار ، وهو تواضع علمي يتسم به من يعرفون أن العلم بحر لا ساحل له.(1/10)
وهنا أشير إلى بحث فقهي أصولي لغوي قُدّم إلى مجمع اللغة العربية في إحدى دوراته الشتوية ، تحت عنوان (المصطلح في الفقه المالكي) حيث أنه شد الأنظار إلى حقائقه الدقيقة ، إذ أبرز أن رجال القانون الوضعي من أساتذة كليات الحقوق في البلاد العربية قد وجدوا الطريق سهلاً أمامهم في ترجمة مواد القانون حين قرأوا المصطلح الفقهي في كتب المذاهب بعامة والمذهب المالكي بخاصة ، وذكر أن مصطلحات الموطأ للإمام مالك بن أنس كانت أول مصادر هذه الترجمات ، حيث تداولها المالكيون من بعده ، وزادوا عليها كثيراً كثيراً ، وكان الباحث موفقاً حين عرض إلى النهج التأليفي في الفقه بين المشرق والمغرب ، حيث اعتمد فقهاء المشرق على الاختصار المركز ، على حين لجأ فقهاء المغرب إلى البسط الكاشف ، وضرب الأمثلة لذلك بما هو معروف من كتب الفريقين ، إلى أن قال (1) :
"ومن هنا ندرك كيف استطاع الفقه المالكي عندما أتى عليه دور الاحتكاك بالقوانين الوضعية ، والمدارك الحقوقية الأجنبية أن يجد من متانة مصطلحه ما حماه من أن يفسد التعبير الدخيل جوهره النقي ، وأن يجد من ثروته ما تفضل به على المعاني القانونية فجاءت أصيلة محكمة خالية من التقعر والالتواء".
وقد كثر التعقيب المادح لهذا البحث بعد الفراغ من إلقائه ، ومما قاله (2) العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري حينئذ: "ولا ريب أن ما تفضل به الأستاذ الجليل محمد الفاضل بن عاشور كان بحثاً انفرد به ، إذ لا يستطيع أحد أن يطرقه ما لم يكن متخصصاً فيه ، وقد تعمق سيادته في هذا البحث إلى أعمق أغواره فأحسن غاية الإحسان".
والأستاذ الفاضل لم يكن متخصصاً في الفقه المالكي وحده كما أشار الأستاذ الأثري ، لأن الفقه أحد مواد ثقافته المتشعبة ، ونصيبه منها نصيب التفسير والحديث وعلوم اللغة العربية بفروعها المختلفة ، وذلك فضل الله.
__________
(1) 1 البحوث والمحاضرات للدورة الرابعة والثلاثين ، ص92.
(2) 1 المصدر السابق ، ص93.(1/11)
ومن حسن الحظ أن الشيخ الفاضل قد أملى ترجمة موجزة لحياته المباركة ، حيث سأله سائل عن جهاده العلمي مشفوعاً بخطواته العملية في طريق الحياة ، فبعد أن حدد تاريخ ميلاده في أكتوبر سنة 1909م ، قال إنه ابتدأ القراءة وهو ابن ست سنين ، فتعلم الهجاء بكتب مصرية ، وابتدأ حفظ القرآن الكريم ، ثم منذ التاسعة بدأ يحفظ متون الآجرومية والألفية والعاصمية والرسالة.وتعلم اللغة الفرنسية على يد معلمين خصوصيين بالمنزل مع دراسات في مبادئ القراءات والتوحيد والنحو أهلته إلى اجتياز امتحان القبول بالزيتونة ، فالتحق بالسنة الثانية مباشرة ، واختزل سنوات التعليم حين أكب على دراسة العلوم المقررة من تلقاء نفسه فتقدم لامتحان التطويع ونجح نجاحاً أهله للدراسات العليا بالجامعة ، ثم للانتساب إلى كلية الآداب بجامعة الجزائر ، فأحرز شهادتها سنة 1932م وبذلك انتقل من التعلم إلى التعليم فصار مدرساً.
هذه خطوات الرجل في مرحلة الدراسة ، والمشاهد لنتاجه الحافل يدرك أنه لم يكن ليقتصر على المواد الدراسية في الزيتونة وكلية الآداب ، بل كان بتوجيه والده الكبير وبهمة نفسه الطامحة يقرأ كل ما يقع تحت يده من آثار النابغين من أعلام العصر ، وتلك حقيقة لا شك فيها ، لأن إسهامه العلمي بعد تخرجه مباشرة بثقافة حية ذات رصيد فخم ، لا يتهيأ لطالب يعكف على الدروس المدرسية فحسب ، بل لطالب يرى المدرسة والكلية إحدى الوسائل الثقافية فقط.
وكانت الموسوعية الشاملة التي اتصف بها والده الكبير الشيخ الطاهر موضع احتذائه ، إذ امتد بفكره إلى التراث الإسلامي الفسيح ينهل من ينابيعه الكثيرة ، فأمده بدسم حافل في معارفه ، وليست المسألة مسألة معارف فحسب ، فكم من الناس من وعى من المعارف أكثر مما وعى الفاضل ، ولكنه لم يتعمق ما قرأ ، ولم يقف موقف الناقد فيما يأخذ ويدع.(1/12)
والذي يقرأ آثار الفاضل يدرك أنه شغف بأعلام الإسلام في القديم والحديث شغفاً ملك عليه تفكيره ، فقد وعى من سيرهم ما دفعه إلى قراءة مؤلفاتهم الكثيرة ، وكان يحس بشغف يدفعه إلى مواصلة البحث التاريخي لأنه يجد في سير العلماء والمعاصرين مداداً لكيانه الفكري ، وسلوكه الاجتماعي.
وإذا كان نتاجه في التراجم يتجه غالباً إلى علماء المغرب بمعناه المتسع أكثر مما يتجه إلى علماء المشرق ، فليس معنى ذلك أنه لم يدرس آثار المشارقة ولم يلم بكنوزهم الحافلة ، فإن هذه الآثار تلوح ثمارها الناضجة في نتاجه الفكري ، ومفهومه الإصلاحي ، ولكنه رأى أن تاريخ المغاربة لم يحظ بالذيوع على الوجه المأمول ، وأن عوامل كثيرة حالت دون ذلك ، فرأى من واجبه أن يسد الثغرة الواضحة في هذا التاريخ ، وجعل يرصد زعماء المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى عصره الراهن ليختار من الشخصيات العلمية والسياسية ما يقدم القدوة المماثلة للنشء المبهور بأعلام من الغرب وجدوا الدعاية المتكررة في الصحف والإذاعة حتى كادوا يكونون عند بعض الأغرار كل شئ في دنيا الثقافة المعاصرة ، والفاضل قد وعى الكثير من ثقافة الغرب ، ودرس الفرنسية دراسة مكنته من الوقوف على المؤلفات في أصولها الغربية لا في ترجماتها العربية وحدها ، وقد انتفع بها انتفاعاً ظهر في طريقة تناوله للأبحاث.
وأذكر أن بعض النقاد قد أخذ عليه أنه في تراجم المعاصرين قد عرض كل المحاسن وتناسى ما وجه إلى الشخصيات من بعض النقود وإلى بعض الآثار العلمية من سقطات ، وهذا حق ، لأن الفاضل أراد أن يقدم للمغاربة نماذج مشرفة تدفع الناشئة إلى الاحتذاء ، وهو في ذلك لم يطمس لآلئ الحق حين امتدح ، بل ذكر الحيثيات الداعية إلى التقدير ، وحال منهجه التربوي دون سرد بعض المآخذ التي لا يخلو منها بشر في سلوكه أو نتاجه العلمي ، لأن الكمال لله وحده.(1/13)
والفرق واضح بين الباحث المعلم والباحث الأكاديمي ، فالأول يوقد المشاعر ، ويرتفع بالأحاسيس دون جناية على الحقائق ، والثاني يقيم الميزان بالحق ، وليس الفاضل هو الوحيد في البحث التاريخي ، فله زملاء يشاركونه هذا المنحى في البحث ، والقارئ سيلم بما كتب الفاضل ، وما كتب زملاؤه ، فإذا وجد بعض النقص عند كاتب كمله وأتمه عند كاتب آخر.
وأحب أن أقرر حقيقة مهمة هي أن العَلم من أعلام التاريخ لم يصبح علماً يترجم له إلا بما جمع من فضائل علمية أو خلقية أو نضالية ، ولولا ذلك ما احتفلت الأقلام برصد خطواته ، وتتبع آثاره ، فإذا عرفت الصورة العامة في ترجمة له ، دون تفصيل في الجزئيات ، فقد أخذ مكانه المناسب ، والهدم لذات الهدم مما يسقط الهمم ويخمد الجذوات ، ونحن نعرف مؤرخاً كالسخاوي في الضوء اللامع قد تتبع الهنات ، وتسقط العثرات ، فهل حال ذلك دون تقدير من خصهم بالنقد والتجريح ، كما نعرف من المؤرخين من بالغ في الثناء ، وأطنب في المديح ، فهل منع ذلك أن يبحث الدارس في ترجمة أخرى عن نقدات صائبة وجهت لهذا الممدوح الكبير؟!(1/14)
وكان من توفيق الشيخ الفاضل أن يجمع في ثقافته بين عدة اجتهادات ، فهو من كبار علماء الزيتونة يعرف شيوخها معرفة الدارس الفاحص ، ويقرأ الكتب المقررة بها قراءة الخبير المتمرس ، فهو من هذه الناحية خير من يؤلف التراجم الصادقة عن العلماء ، إذ هم معشره وذووه ، كما أنه من ناحية ثانية أديب متمكن يقرأ المأثور من البيان ويحتذيه ويعرف أعلام عصره من المنشئين والمبدعين معرفة الناقد المتابع ، ثم هو ينظر إلى سياسة وطنه نظرة الدارس للتيارات الصاخبة في المحيط الداخلي بتونس ، والخارجي فيما حول تونس ، ويعرف زعماء السياسة معرفة واعية ، لأن منهم أصدقاء والده وزائري بيته الكريم ، فهو بذلك كله إذا كتب تاريخ الرجال في عصره لم ينحجر قلمه في طبقة معينة كما فعل من اكتفوا بتراجم مبتورة عن العلماء ، ولكنه امتد إلى الأفق الفسيح ، فعرف أن تاريخ العالم الفقيه لا يغني عن تاريخ الأديب المبدع ، كما لا يغني هذا ولا ذاك عن تاريخ السياسي الملابس للأحداث.
ولذلك تحدث عن هؤلاء جميعاً فيما كتبه بمجلات (الثريا) و(المجلة الزيتونية) ، ثم جمع بعد ذلك في كتب مستقلة ، أوفاها كتاب (تراجم الأعلام) ، وقد جمع بعد وفاته تخليداً لذكره ، جمعه الأديب المرموق الأستاذ (الحبيب شيبوب) ، ولم يشأ أن يذكر في الكتاب تنويهاً بعمله ولكن عارفي فضله أذاعوا ذلك وسجلوه.
وإذا كان التاريخ المعاصر لتونس قد مر بأطوار مختلفة في القرنين الماضي والحاضر ، فقد آثر الشيخ الفاضل أن يكتب تاريخ هذا البلد المناضل ، من خلال مناضليه ، وبين وجهة نظره الصائبة حين قال في مقدمة كتابه (أركان النهضة الأدبية بتونس) (1) :
__________
(1) 1 مقدمة كتاب (أركان النهضة الأدبية بتونس) ، ص3.(1/15)
"هذه مقالات توجهت بها إلى مراحل النهضة الفكرية في تونس ، وفواصل أطوارها في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر.معتمداً إظهار كل طور من هذه الأطوار بخصائصه ومقوماته ، في حياة علم من أعلام المعرفة أو الفكر أو القلم جعلته بمؤثرات حياته وتأثراتها وظروفها مجلى الاتجاهات العلمية أو الفكرية أو الأدبية التي تميز بها هذا الطور ، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى تحقيق ما أردت من ذلك فهديت الشاردين ونبهت العارفين إلى نواحي ينبغي إبرازها من تاريخنا الحديث على المنهج الذي رأيت أنه الكفيل بتحرير تاريخنا القومي على وجهه".
وإذا كان هذا الكتاب قد اختص بأعلام النهضة الفكرية أدباً وعلماً فحسب ، فإن كتاب (تراجم الأعلام) قد جمع إليهم رجال السياسة لتكتمل أضلاع المثلث دون نقص ، وقد عرفت أن بعض الفضلاء من أمثال الأستاذين أحمد بن أبي الضياف ومحمد السنوسي وغيرهما قد كتبوا نبذاً شتى عن بعض الأعلام ، لكن صنيع الشيخ الفاضل قد جاوز الإيجاز إلى الإطناب في كثير من المواقف ، كما تتضمن تحليلاً كاشفاً يفصح عن الأسباب الداعية ، والنتائج المحتومة ، وهذا مما تكلف له الكثير من العناء ، وقد كرر بعض التراجم في كتابيه هذين ، وكأنه رأى أن يضيف الجديد إلى القديم حين عاود الكتابة ، أو رأى أن شخصية كخير الدين ، وسالم أبي حاجب ، ومحمد السنوسي ، تحتاج إلى مواصلة البحث ومعاودته ، وحسناً فعل ، ومما يشدني في هذه التراجم الزاهية افتتاحياتها التي تصور جواً فكرياً خاصاً بالمتحدث عنه ، فتلفت القارئ إلى أن شيئاً هاماً سيقال ، فهو مثلاً يفتتح حديثه عن الشيخ محمد السنوسي بقوله (1) :
__________
(1) 1 أركان النهضة الأدبية بتونس ، ص48.(1/16)
"ارتبطت حركة الإصلاح التونسية بحركات الإصلاح الإقليمية التي ظهرت في العالم الإسلامي ، حركة مدحت باشا في تركيا ، وحركة السيد جمال الدين في الهند وأفغانستان ، وحركة رياض باشا في مصر ، فلما استبان لنظر القائمين بتلك الحركات أن المشاكل التي تهدف حركات الإصلاحات المحلية إلى حلها إنما تولدت عن أصل عريق يمتد إلى أسباب الانحطاط الإسلامي التي كان جمال الدين أول من كشف عنها في رسالة الرد على الدهريين ، استقرت الآراء على أن عللاً نشأت عن أسباب عامة ، وتولدت من عوامل عالمية لا تختص بقطر دون قطر من بلاد العالم الإسلامي ، فلا يمكن أن تعالج بصفة محلية دون أن تمتد وسائل العلاج إلى المحل المشترك الذي انبعثت منه جراثيم الداء إلى كل عضو من أعضاء الهيكل الإسلامي".
ومضى الفاضل في تحليله ليربط اتجاه المتحدث عنه بهذا المحيط العام ، متحدثاً عن أفاعيل السياسة وكيد الاستعمار ، ليبرز النتاج الفكري للسنوسي في إطاره الصائب بحيث كان (1) (المثال الكامل لتطور الأدب العربي بتونس ، في جميع نواحيه).
ولا أدري لماذا وقفت عند ذكر (مصطفى رياض باشا المصري) مقارناً بجمال الدين ومدحت باشا وهو منهما بمكان بعيد ، بل ربما كان على النقيض منهما في كثير من أحواله! لعلها هفوة قلم!
على أن أبرع ما امتاز به قلم الشيخ الفاضل هو هذه الموازنات بين المتحدث عنهم ، فهو يقرن فاضلاً بفاضل من هؤلاء ليبرز كيف اختلف الاتجاه مع صدق العمل ، وتزيد هذه المقارنة قوة واكتمالاً حين تكون بين صديقين حميمين يتفقان في الود وصدق العمل ، ويختلفان في الاتجاه ، فهو مثلاً يقارن بين الشيخ أحمد الورتاني والشيخ سالم بو حاجب ، فيقول عن الورتاني (2) :
__________
(1) 2 أركان النهضة الأدبية ، ص31. ...
(2) 3 تراجم الأعلام ، ص63.(1/17)
"كان قرينه في كل وجهة من وجهاته ، وإن كان في ميله النفسي مخالفاً لطريقة الأستاذ سالم ، فلم يكن يؤثر البحث ، ويتجرأ على الابتكار ، بل كان يؤثر الضبط والتدقيق والتحصيل والإحاطة ، وهو ميل أعانه على تنميته ما وهب من قوة الحافظة ، واتساع الذاكرة ، حتى أصبح في العلوم النقلية مشاراً إليه بالبنان".
وأروع ما وقفت عليه في كتاب (تراجم الأعلام) موقف تربوي رائع للشيخ الإمام عمر بن الشيخ ، لو كان لأحد أساطين التربية في أوروبا وأمريكا لسارت به الركبان ، وتعد مفخرة المفاخر في نزاهة البحث ، وإخلاص النية ، وصدق التواضع ، فقد عمد الشيخ عمر إلى تدريس كتاب علمي من أصعب كتب علم الكلام وهو كتاب (المواقف) بشرح السيد ، فانقطع له الشيخ انقطاعاً تاماً ليصل إلى حقائقه الخافية في أسلوبها الغامض ــ شأن الكثرة من كتب الأعاجم ـ وكان مما ارتآه الشيخ أن يعقد في منزله ليلة الدرس الأسبوعي مجلساً يضم نبهاء الطلاب في حلقته ، فيقرأ عليهم درس الغد ليبدي كل طالب رأيه في المقرر المطلوب ويدور النقاش في حرية حتى يهتدي الشيخ إلى معارف طلابه ثم يودعونه ، فيظل ساهراً يطالع الدرس ، معتمداً الوقوف على الخوافي التي عزت على الكشف في اجتماع الطلاب ، ويجتهد في أن يجد حلاً لكل معضلة ، وفي الصباح يلتقي بطلابه فيقرأ الدرس من جديد ، ويتحدث بما اهتدى إليه بعد أن خرجوا من مجلسه! وقد ظل درس المواقف عشرين عاماً متصلة يلقيه الشيخ في جامع الزيتونة.
وحين زار الشيخ (محمد عبده) تونس سنة 1300هـ زار الشيخ وجلس في ساحة الدرس مع الطلاب ، وأثنى على الشيخ بما هو أهل له.
فمن من الأساتذة يرى أن يشرك طلابه معه في الفهم على هذا النحو المتصل؟ ومن منهم لا يأنف أن يقول هذه عبارة غامضة لم أهتد إلى معناها ، وسأواصل البحث؟!.(1/18)
هذا وما ذكره الشيخ الفاضل عن هذا الموقف ، ذكره أستاذنا محمد الخضر حسين في ترجمة أستاذه عمر بن الشيخ ، وقد تلاقى الشيخان في بعض التراجم الخاصة بكبار التونسيين ، ومن بينهم عمر بن الشيخ ، ومحمد العزيز بوعتور ، وأحمد الورتاني ، ومحمد بن الخوجه ، وذلك فيما كتبه الخضر في كتابه (تونس وجامع الزيتونة) والخضر أستاذ الفاضل ، وصديق والده الحميم ، وأسلوبه في كتابه يميل إلى الإيجاز لا الإطناب.
وقد وجدت الفاضل يتحدث مطيلاً عن الشاعر الرائد المصلح (محمود قابادو) في مطلع كتابه (أركان النهضة الأدبية بتونس) (1) فيعده شاعراً بليغاً طويل النفس يغوص على حقائق الوجود التي لم يكن غيره يحوم عليها ، فيبرزها في أروع القوالب البيانية وأبدعها ، ثم لا يذكر له بيتاً واحداً مما قال! أما الأستاذ الخضر فقد احتفل بشعر الرجل ، واستشهد بأكثر من ستين بيتاً من شعره من مناسبات شتى وذلك في مقالة (نظرة في أدب الشيخ محمود قابادو التونسي) فوفاه حقه ، وبحث الشيخ الفاضل في حاجة إلى الاستشهاد ليقدم للقارئ ما يقنعه ويرضيه.
وإذا شاهدنا بعض الاقتضاب في الحديث عن نفر من المترجمين ، فهذا شئ مألوف لدى الدارسين ، لأن الباحث لا يجد المصدر الوافي في كل ما يتجه إليه بالحديث ، فقد يعرف مكانة علم من الأعلام ، ولا يجد من أخباره أو آثاره ما يشفي غلته ، ويعز عليه أن يتركه دون كلمة عابرة ، فيأتي بما لديه على قصوره ، وقد أحسن بذلك لأنه يفتح الطريق لباحث تال يرى أن يتابع البحث ليضيف الجديد.
__________
(1) 1 أركان النهضة ، ص7.(1/19)
فإذا تركت حديث المعاصرين إلى الغابرين في نتاج الشيخ الفاضل ، فإننا نجد وقته المتوزع بين أعمال شتى من تدريس وفتيا وقضاء ورحلة وعضوية في المجامع المختلفة ، قد حال دون أمنية كبيرة لديه هي أن يؤرخ للثقافة الإسلامية في المغرب جميعه منذ أشرق نور الإسلام حتى اليوم ، وهو جهد لابد أن يفرغ له متخصصون لا متخصص واحد ، ومن للفاضل ــ على سعة مقدرته ــ بالوقت الذي يسمح له أن يكتب موسوعة تسير على منهجه في الغوص والاستشفاف والشمول ، إخاله فكر في ذلك فرأى الأمر مع تعدد صولاته لا يتفق له في مجتمعه الذي يشهده كل يوم أستاذاً وخطيباً ومحاضراً ، فانتهى في تاريخ السابقين إلى ما انتهى إليه في تاريخ العصر الحديث وهو أن يختار من كل حقبة ماضية علماً يمثلها ، ولست أرجم بالغيب في ذلك ، بل إني أرجع إلى ما نص عليه في مقدمة كتابه (أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي) حيث قال:
"ومن هنا أصبحت معرفة علماء الدين والوقوف على تراجمهم وتبين أفكارهم وآثارهم ، أمراً لا يستطيع أن يتجاوزه من يدرس عصور التاريخ الإسلامي ، فهم الذين تنبع منهم الأفكار الموجهة إلى تحصيل مدارك الدين نظرياً وعملياً على الصور التي يلقونها إلى الشعوب".
ثم قال: "ولقد حاولنا في المقالات الخمس عشرة التي نقدمها في هذا السفر الصغير إبراز خمس عشرة حقبة من حقب التاريخ ، مجلوة كل حقبة منها في المنبع الفكري الديني الذي يعتبر مصدرها وموردها".(1/20)
ومن هنا تتالت فصول الكتاب متحدثة عن عقبة بن نافع ، والفقهاء العشرة ، وأهل الرباط ، وعلي بن زياد ، وأبي عثمان الحداد ، وابن أبي زيد القيرواني ، وأبي الوليد الباجي ، والقاضي عياض ، وابن عرفة ، وأبي إسحاق الشاطبي ، والمقري الكبير ، وأبي بكر بن عاصم ، وابن مرزوق ، وابن ناجي ، وفي هؤلاء من ذاعت شهرته وكتبت عنه البحوث بإفاضة كالقاضي عياض ، وأبي إسحاق الشاطبي ، وأبي الوليد الباجي ، ومن لا تزال جهوده العلمية في حاجة إلى بسط ، أما عقبة بن نافع فقد ابتدئ به لأنه قائد النور المشرق على هذه البلاد ، وإذا كان قد حمل الإسلام إلى أفريقية فقد حمل النصر والهداية معاً.
وإذا كنت ذا إلمام بسيرة أكثر هؤلاء ، فإني لم أكن أعلم شيئاً عن القاضي أبي القاسم ابن ناجي وقد تحدث عنه الفاضل في بضع صفحات حديثاً يمس الخصائص الفقهية التي برزت في نتاجه العلمي ، وقد بدأ الكلام كعادته بمقدمة جامعة عن البيئة التي أنجبت ابن ناجي ، فتحدث عن مأساة القيروان حين داهمتها سلائل الهلاليين فأحالوها إلى أنقاض ، ولكن رحمة الله أنقذت جامعها الأعظم ، جامع عقبة ، ليظل منارة للضوء عبادة وعلماً ، ومن هذا الجامع بزغ النور من جديد ، فأنجب كوكبة من الفقهاء والقضاة على رأسهم أبو القاسم ابن ناجي ، وقد تابع الفاضل أدوار حياته في إيجاز يعمد إلى توضيح الخطوط الأصلية ذات اللون الفاعل في نسيجه العلمي ، حيث مارس القضاء والفتوى ليجد من ظروف المجتمع ما يدفعه إلى النظر في قضايا كثيرة تعتمد على الفقه المالكي وهي في حاجة إلى توجيه جديد ، يقول الفاضل (1) :
__________
(1) 1 أعلام الفكر الإسلامي ، ص105.(1/21)
"لقد شد ساعده ممارسته الطويلة للقضاء ، وخبرته باختلاف مقتضيات الترجيح والاختيار والتصرف ، بسبب اختلاف البلدان ، وتباين عوائدها وملائماتها ، فكانت دروسه الفقهية بياناً للأحكام بأصولها وعللها ، وتقريراً لما فيها من مختلف الأنظار والتخاريج ، وفحصاً لما يجد بها من أحوال مكانية وزمانية لا تتحقق فيها المصلحة المقصودة من الحكم إلا بالأخذ بوجهة نظر معينة ، أو توليد وجهة نظر جديدة ، وبذلك كانت دروس فقهه عمدة العمل القضائي في أفريقية ، ووجهت الفقه في فاس وتلمسان ومازونة وباجه وقسنطينة ، كما وجهته في تونس نحو الاعتناء بالعمل ضبطاً ونظراً ، مما أحدث في المذهب المالكي طوراً جديداً امتاز بكثير من المبادئ والتفصيل في الإجراءات والأحكام الموضوعية ، وكانت كتب ابن ناجي هي الأصل في هذا التوجيه".
أقول كم كان يلذ للقارئ أن يتابع (الفاضل) حديثه فيأتي ببعض الأمثلة لهذا التطور في الفقه المالكي ، وهذه السهولة المستحدثة في الإجراءات والأحكام الموضوعية ، ليجد ما يشفي ظمأه العقلي ، ولكن منهج الفاضل في الحديث عن عدة أئمة في حيز محدود حال دون ذلك وأمثاله! وبقي الأمر محتاجاً إلى مؤلفين محدثين يقرأون ما كتب الفاضل عن هؤلاء الكبار ويوسعونه إيضاحاً واستشهاداً وتفصيلاً ، بل يوسعونه نقداً إذا وجدوا مجالاً للنقد ، وقد طبعت كتب كثيرة لهؤلاء الأعلام فقدمت الأرضية الصلبة التي يجب أن يقف عليها الباحثون ، ولم يكن لدى الفاضل صبر والده الطاهر ، لأن الوالد كان لا يعجله شئ عن امتداد التحقيق ، أترى الشيخ الفاضل قد أحس في أعماقه أن الأجل قريب ، وأنه يحب أن يضع الثمار في عدة حقول.ليأتي من يتعهدها بالري والتسميد والإنماء؟ وقد مر الوقت دون أن نجد هذا الآتي المرجو؟ ومن يدري فقد يجئ!(1/22)
لقد قرأت بعض ما قيل عن الشيخ الفاضل بعد رحيله ، وأكثره يتجه وجهة الإنصاف لعالم مثقف مجاهد ، ولكن بعض المتحدثين ذهب إلى أن روح المحاضرة تغلب على آثاره العلمية ، وعد ذلك موضع نقد! وأنا أقول لهذا الناقد الفاضل: أليست الدروس العلمية في جامعات الشرق والغرب كلها محاضرات؟ وهل تبتعد المحاضرة عن العلم ، وهي تقرب مسائله ، وتوضح أبوابه ، وتفصل قضاياه! قد يكون الروح الأدبي في أسلوب الفاضل مدعاة نقد متعسف لدى من لا يعرفون كيف يكتبون ، ويسوؤهم أن يعترفوا بذلك فيتجهون إلى نقد من يعرفون ، وهم يتمنون في قرارة أنفسهم أن يرزقهم الله بعض ما فتح به على هؤلاء النابهين الفصحاء! ولكن الله يختص بفضله من يشاء!
ولا يجوز لي أن أقصر الحديث على الناحية العلمية للشيخ ، وأترك القول عن جهاده الملح الدائب في إصلاح التعلم الديني بتونس خاصة وبالمغرب العربي عامة ، فقد بذل في ذلك الجهود رحلة وكتابة ومحاضرة ما أثمر خير الثمر ، منذ شبابه الغض ، حين أسهم في مؤتمر طلبة شمال أفريقية المنعقد بقاعة الخلدونية سنة 1931م ، وكان عمره لا يزيد عن الثانية والعشرين ، وقد انتخب عضواً في لجنة التعليم العربي ، وألقى بحثاً شافياً عن الوضع العلمي السائد في الشمال الإفريقي ، وانتقد طريقة المتون والشروح والحواشي والتقارير السائدة لدى بعض المعاهد العلمية إذ ذاك ، داعياً إلى نهج طريق في التأليف والتدريس ، وهي دعوة الشيخ محمد عبده من قبل في مصر.(1/23)
كما ألح على وجوب الاهتمام بالثقافة العامة والعلوم الحديثة جوار ما يدرسه الطلاب من علوم الشريعة واللسان ، والطريف في اجتماع هذه اللجنة ، أن الفاضل ــ رحمه الله ــ دعا إلى ضرورة (قلب) نظام التعليم ، فاعترض بعض الفضلاء على كلمة (القلب) لأنها تحدث معنى الثورة ، ويرى أن تكون العبارة (تبديل نظام التعليم) ، ولكن الفاضل أصر على استعمال لفظ القلب ليؤدي مدلوله الصحيح ، لأن لفظ التبديل يتضمن شيئاً من المداهنة التي لا يجوز أن تقف في سبيل الإصلاح ، ووافق المؤتمرون على اختيار الفاضل.
وتابع الفاضل ، ضرورة إنشاء المؤتمرات الخاصة بعلاج الأسلوب التعليمي ، فكان عضواً في المؤتمر الذي انعقد سنة 1933م برياسة الطالب (أبي القاسم الشابي) شاعر العرب جميعاً لا تونس وحدها ، وانتهى إلى قرارات إصلاحية كانت موضع عناية المسئولين ، وقد وجدت طريق التنفيذ بعد سنوات ، وطبيعي أن يخص الفاضل جامع الزيتونة باقتراحاته الصائبة ، ونتج عن ذلك أن عقد المدرسون الزيتونيون مؤتمراً بالخلدونية سنة 1944م ، انبثقت عنه عدة لجان فرعية ، وأبدت من الاقتراحات ما كان موضع التنفيذ العاجل ، لقوة الحركة الإصلاحية التي نادت بهذه الاقتراحات ، وفي كتاب الحركة الأدبية والفكرية في تونس تفصيل جيد لهذه الخطوات الميمونة ، ذات الأثر البعيد.
أما أثر الرجل في الإفتاء والجامعات والمجامع والمؤتمرات الاستشراقية فواضح فيما تُدُووِلَ من آثاره ، وقد أسس معهد الحقوق العربي ، ومعهد البحوث الإسلامية وألقى بهما من المحاضرات ما استنفد قدراً كبيراً من وقته وجهده ، لذلك كانت وفاته العاجلة مصدر أسى شامل في الدوائر العلمية في شتى ربوع الإسلام.(1/24)
وأذكر أن الصحف المصرية قد نعته في الصفحة الأولى إلى جوار صورته الكريمة ، وكذلك فعلت صحف العالم العربي ، وقامت له حفلات التأبين بالمجامع العلمية ، حيث لقي ربه في 20 / 7 / 1970م ، مشيعاً بالدموع والآهات..وتلقى والده الشيخ الإمام آلاف البرقيات المواسية ، وليتها كانت تفيد.
*****
التفسير ورجاله
نشأة التفسير
نزل الوحي الإلهي ، على سيدنا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ :
{ ????????????? ???????????? } (الزمر : 28)
{ ????????? ?????????? ???????? } (الشعراء : 195)
{ ????????? ?????????? ????????????? ???????????? ???????????? ????????? ???????????? ??? ????????? ??????????? } (فصلت : 3 ، 4)
{ ??????????????????? ????????????? ????????????????? ?????????? ???????????????? ???? } (ص : 29)
{ ???????????? ?????? ???????? ?????????? ??????????? ?????????? ????? ???????? ???????????? ???????????????? ??????? ?????? ??????? }
(الزمر : 23)
فأمر الله بتلاوة القرآن وتدبره ، والاستماع والإنصات إليه.
ونبه على أنه القول الفصل ، والحجة البينة ، والذكر الحكيم الهدى والحق ، والتذكرة والفرقان ، ونزهه عن الريب والعوج ، والاختلاف والهزل:
{ ???? ??????????? ???????????? ???? ??????? ?????????? ????? ???? ??????????} (فصلت : 42)
وإن كلاماً هذه منزلته وتلك غايته تقع به الحجة ، وتقوم به البينة ، وتعم به البشارة والنذارة ؛ لا جرم أنه في أحكامه وبيانه ، وعربية لسانه ، واضح التراكيب ، بالغ المعاني ، ناطق بالحق ، قيم التعبير:
{ ???????????? ?????????? ??????? ??????? ???????? ??? } (ق : 8)(1/25)
فكان المستمعون إليه عند نزوله ، سواء من هو حجة له ، من المؤمنين الصادقين ، ومن هو حجة عليه ، من الكافرين الجاحدين ، يفهمونه ويحيطون بمعانيه إفراداً وتركيباً فيتلقون دعوته ، ويدركون مواعظه ، ويعون تحديه بالإعجاز بين مذعنين ، يقولون: آمنا به ، ومعاندين ، يلحدون في آياته ، ويمعنون في معارضته كيداً ولياً بألسنتهم ، وطعناً في الدين.
فما كان منهم من تعذر عليه فهمه ، ولا من خفيت عليه مقاصده ومعانيه ، بل كان وضوح معانيه ، ويسر فهمه ، هو الأصل فيما قام حوله من صراع بين مؤمن يجد فيه شفاء نفسه ، وانشراح صدره ، وكافر ينقبض لقوارع آياته فلا يزال يدفعها بالإعراض والمعارضة ، والدفاع والمقارعة ، وكان ذلك هو الأصل أيضاً في تكوّن الأمة المحمدية ، وتولد التاريخ الإسلامي.
ألقيت الآيات الأولى على قوم ، ما كان فيهم مقتنع بأنه حق ، آت من الله ، فلم تزل آياته تتابع ، فيطمئن إلى صدقها الفرد ثم الفرد ، والجماعة ثم الجماعة ، حتى انسلخت عن عداد المكذبين المرتابين جمهرة من المطمئنين المصدقين ، هم الذين هاجروا وآووا ونصروا ، والذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، لإعلاء كلمة الله فكانت دعوة القرآن هي العامل في تكوين تلك الأحداث التي تولد منها التاريخ الإسلامي.وما كان مثل ذلك الواقع ليتكون إلا من كلام مفهوم ، ودعوة درك معناها الذي جاد بنفسه في سبيل نصرتها أو من لقى الحتف في موقف معارضتها.(1/26)
والذين جاءوا من بعدهم وجدوا هذا الأمر مستقراً على أساسه ،فلم يسعهم إلا أن يطمئنوا مسلمين إلى أن القرآن كلام ذو معاني تدل عليه تراكيبه اللفظية ، وعلى ذلك انعقد إجماع الأمة الإسلامية على أن كل لفظ في القرآن له معناه الإفرادي ، وكل كلام له معناه التركيبي ، وأنه لم يرد في القرآن ما لا معنى له ، ولم يرد فيه نصوص لها معاني لا تفهم إلا بالتوقيف عليها من طرف شخص معين ، بل إن كل ما فيه يدل على معاني ظاهرة ، دلالته عليها بحسب الوضع اللغوي العربي ، وقوانين التركيب العربي.
حتى الطائفة الإسلامية التي شذت في أواخر القرن الأول حيث قالت: إن في القرآن ما لم نفهمه ، وهي الطائفة التي عرفت باسم " الحشوية " ، إنما أرادت ألفاظاً لها معانيها ، لكنها لم تفهم ، ومع ذلك فإن الإجماع دحض تلك المقالة وتولى علماء الكلام وعلماء الأصول بيان ما بنيت عليه من إخلال ، وكذلك الذين نزعوا إلى النحلة الباطنية ، فعطلوا دلالة التراكيب ، وأنكروا أن تكون المعاني مستفادة منها بطريق الوضع اللغوي ، والتأليف النحوي والبلاغي ، فجنحوا إلى الإشارات بإبراز الأعداد ، وأسرار الحروف ، وزعموا ذلك علماً خفياً يُتلقى ممن عنده بطريق الوراثة أو الوصاية أو الهبة ، قد اعتبروا معطلين لمعنى الدين ، منكرين لحقيقته ، ملحدين عنه إلى الكفر: لما تقتضيه تلك المقالة من إنكار التبليغ ، والنزول بالتعاليم الشرعية إلى منزلة العدم ، ومدرجة الإباحية ، والزج بالحكمة الدينية في المنهج السلبي ، الذي تذرعت به السفسطة اللاأدرية (1) إلى نقض مباني الفلسفة العقلية.
فالقرآن العظيم ، عندنا معاشر المسلمين ، كلام دال على معانيه ، دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي ، فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً أصلياً ، ولكن الحاجة إلى تفسير القرآن إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين:
__________
(1) 1 اللاأدرية: مذهب فلسفي يوناني قديم مأخوذ من لا أدري.(1/27)
السبب الأول: هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جداً: قدره أكثر من عشرين عاماً ، فكان ينزل منجماً على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء ، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر ، على ترتيب معروف يختلف عن ترتيبه التعبدي ، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظوراً فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع ، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
وترتيب التلاوة ، أو الترتيب التعبدي ، كان منظوراً فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض ، وذلك يرجع إلى ركن آخر من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، وكلا الترتيبين راجع إلى الوحي ، وكلاهما وقع به التحدي الإعجازي.إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة.
والترتيب الآخر ، وهو ترتيب التلاوة التعبدي ، باق لأنه في ذات الكلام ، يدركه كل واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة ، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات ، من الجيل الذي كان معاصراً لنزول القرآن ، ممن كانت لهم تلك الملابسات دلائل وقرائن على ما أريد من المعاني التي استفادوها من التراكيب القرآنية.
فكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجاً إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والدوال ، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وبذلك طلبوا الرجوع إلى المعارف المنقولة عن تواريخ نزول الآيات ، ومحالها ، والمناسبات التي جاءت فيها للاستعانة بذلك على استيضاح المعاني المقصودة من التركيب استعانة فقط ، لأن للتراكيب دلالاتها الذاتية ، التي لا تحددها ، ولا تتحكم في تكييفها ، تلك المناسبات وإن كانت معينة على استجلائها.(1/28)
وذلك ما يرجع إلى الأخبار المتعلقة بكل جزء من أجزاء القرآن: بتعيين تاريخه ، ومحله ، وتصوير الحادثة التي اتصلت به ، وهي المعارف التي تسمى " أسباب النزول " وما هي إلا مناسبات ، لا أسباب حقيقية.وإن سميت أسباباً على طريق التسامح والتجوز ، فإن العلماء متفقون على أن ما يدل عليه الكلام القرأني ، هو الذي يؤخذ به ، على ما في دلالته من شمول واتساع ، لا يضيق منهما مراعاة الملابسات الظرفية التي اتصلت بتاريخ نزوله وهو معنى قول علماء أصول الفقه: " إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ".
فمن هذه الجهة أصبحت لفهم القرآن حاجة إلى علوم أثرية نقلية هي من علوم الرواية (1) لا من علوم الدراية (2) ، تتصل بعلم الحديث وعلم السيرة ، وترجع إلى ضبط تواريخ النزول ، وعلاقات تلك التواريخ بمواقف من حياة النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ ، ومواقعها من نسبة بعضها لبعض بالتقدم والتأخر ، ومواقعها من تفاصيل الأحوال العامة والخاصة التي اتصلت بها.
فكان ذلك عنصراً أثرياً نقلياً يرتبط بأخبار السنة والسيرة هو أحد عنصري التفسير الذي نشأت الحاجة إليه من السبب الأول من السببين.
__________
(1) 1 علوم الرواية في مصطلح الحديث: هي المادة المتصلة بألفاظ الحديث.
(2) 2 وعلوم الدراية: هي المادة المتصلة بأحوال الرواة.(1/29)
وأما السبب الثاني: فهو أن دلالات القرآن الأصلية ، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب ، تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محل إجمال أو محل إبهام ،إذ يكون التركيب صالحاً على الترديد لمعان متباينة يتصور فيها معناه الأصلي ولا يتبين المراد منها ، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها ، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصها ، أو أحد لوازمها ، على الطرائق البيانية المعهودة في اللغة العربية وغيرها ، فينشأ عن ذلك إجمال ، فيطلب بياناً ، أو إبهام يتطلب تعييناً كما يقع ذلك في الكلام بصفة عامة ، ولما كان الذين اتصلوا أولاً بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلّغ ـــ صلى الله عليه وسلم ــ في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها فتلقوا عندما أفادهم فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــ لتتضح لهم تلك المعاني كما اتضحت لمن قبلهم ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالخبر المأثور ممن ليس إلا عنده العلم المعصوم الذي يوضح ذلك وهو النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فتكون بذلك عنصر ثان من عناصر التفسير هو وإن كان أقل عدد مواقع من العنصر الأول لأنه يختص بأمور معينة محصورة ، ولا يعم جميع أجزاء القرآن إلا أنه أكثر تأكداً من العنصر الأول لأن العنصر الأول يعين على فهم لم يكن متوقفاً عليه ، وأما هذا العنصر الثاني فإن تحقيق محامل الألفاظ على المقاصد التابعة لمعاني الكلام الأصلية يتوقف عليه توقفاً مطلقاً.
وعلى ما بين هذين العنصرين الأثريين من عناصر التفسير من تفاوت واختلاف فإنهما قد اتحدا في تكوين مادة مشتركة يعتمد عليها في تفسير القرآن ، هي مادة نقلية إخبارية تستوي عامة عناصرها في الاندراج تحت عنوان جامع هو: التفسير بالمأثور.
***
التفسير بالمأثور(1/30)
توفرت الدواعي على تطلب الأخبار الراجعة إلى التفسير المأثور في العصر النبوي ، وزادت توفراً في عصر الصحابة بعد وفاة النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ . وكان ذلك أولاً مندرجاً ضمن الأخبار التي يتناقلها الصحابة بعضهم لبعض ؛ على ما وردت به الوصايا الكريمة من قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ : (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب).وقوله: (احفظوه وأخبروه من ورائكم).وقوله: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما وعاها).
فلما جاء العصر الثاني خضعت النقول المتعلقة بالأخبار التفسيرية للناموس العام للأحاديث والأخبار النبوية: من احتمال الاختلاف والخلط ، والمجازفة والوضع ؛ أو الثبات ، والإتقان ، والتحري ، والتصحيح ، فشملته قواعد النقد التي وضعت للأخبار بصفة عامة ، وترتبت في منازل المحدثين ، وتعين المتهمون بالوضع والموسومون بالضعف وتمحصت الأحاديث بتأييد بعضها ببعض ، ورد بعضها لبعض وطرحت الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة ، للصحيح المشهور ، الذي نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة.
وتحت ذلك التيار الباهر ، من أنوار النقد والتمحيص ، برزت الوجوه المنضرة النيرة التي تحققت فيها الدعوة النبوية: وجوه الممتازين بإتقان الرواية وضبط الأخبار ، وتصحيح الأحاديث ، فأصبحوا مرجوعاً إليهم في طلب المعارف التفسيرية مشاراً إليهم بذلك ، يتواصى بهم الطالبون ، وتضرب إليهم أكباد الإبل في طلب العلم.
فكما عرف رجال بصدق الحديث وإتقانه في عامة السنن والسير ، وعرف رجال بالاجتهاد والفقه ، فرُجع إلى هؤلاء وهؤلاء فيما تميزوا بإتقانه من أمر الأثر ، أو من أمر النظر ، فقد امتاز رجال آخرون بأنهم أثبات الأخبار ، وحجج الآثار ، في تلك الشعبة المستقلة من الحديث ، الممتازة بغاياتها المرتبطة بفهم القرآن ، وهي شعبة الأخبار التفسيرية أو التفسير بالمأثور ، في ما يرجع إلى فرعي أسباب النزول ومبهمات القرآن.(1/31)
قد تولى حافظ الإسلام العظيم جلال الدين السيوطي حصر الممتازين في عصر الصحابة بدقة المعرفة في تفسير القرآن ، كما تولى حصر الممتازين بالاجتهاد للرجوع إليهم في الفتوى فذكر في كتاب " الإتقان ": أن أعلم الصحابة بالتفسير ، وأتمهم امتيازاً من البقية بطول الباع في الإعراب عن معاني القرآن ، بصورة مسلم لهم فيها من بقية معاصريهم من الصحابة إنما هم الخلفاء الأربعة: أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ــ رضي الله عنهم ــ ثم عبد الله بن مسعود ، والزبير بن العوام ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله ابن عباس ــ رضي الله عنهم ــ . وقد كان لسبق وفاة التسعة الأولين من هؤلاء العشرة ، وقلة اختلاطهم بالناشئة الغالبة في عصر التابعين ، ما رفع منزلة آخر العشرة وأصغرهم ، وأبرز مقامه في جيل لم يجد الناس فيه مفزعاً للحديث في التفسير أتم اضطلاعاً به منه ، ونعني به حبر الأمة ، وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس فإنه لم يبق عند منتصف القرن الأول من الهجرة ، من بين الصحابة وغيرهم ، إلا مذعن لابن عباس ، مسلم له مقدرته الموفقة ، وموهبته العجيبة وعلمه الواسع في تفسير القرآن.
وقد اتصل تفسير القرآن ، عند ابن عباس ، بعناصر زائدة على العنصرين اللذين قدمناهما في الحديث الماضي: وهما عنصر أسباب النزول ، وعنصر مبهم القرآن.(1/32)
فكان ابن عباس يضيف إليهما عنصراً لغوياً: في فهم معنى المفرد ، أو فهم سر التركيب ، ويتخذ مادة لذلك من الشعر الجاهلي.فكان كثيراً ما يقول عندما يُسأل عن معنى من تراكيب القرآن فيقرره: أما سمعتم الشاعر يقول كذا ، وينشد البيت كما أثبت ذلك ابن سعد في"الطبقات" ، ونقل عنه الطبري أنه قال: إذا تعاجم شئ من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ، وكثيراً ما كان يفسر الكلمات ببيان أنها معرّبة عن لغة أخرى ، ويرجع بها إلى اللغة التي عُربت منها ، فيبين معناها فيها ، وقد وردت أقوال كثيرة عنه في ذلك في صحيح البخاري.
وعنصر آخر أضافه ابن عباس ، على ما نُقل عنه في المصادر المعتمدة ، إلى تفسير القرآن: هو عنصر الأخبار التي لم تجئ في حديث النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــ مما يرجع إلى بيان مبهمات القرآن: وذلك ما كان يرجع فيه إلى مصادر المعرفة المتوفرة لديهم يومئذ من التاريخ العام وأخبار الأمم ، لا سيما الأمتين الكتابيتين: اليهود ، والنصارى.(1/33)
ومن الظاهر أن هذين العنصرين ، وإن وجدا في بعض كلام ابن عباس ، لا يصح اعتبارهما من التفسير بالمأثور ، لأن مرجعهما إلى الفهم وإلى المعرفة العامة مما يجوز أن يكون محل خلاف مقبول من طرف من يفهم فهماً غير الفهم الذي ارتضاه ابن عباس ، اعتماداً على شاهد غير الذي اعتمد عليه ، أو جنوحاً إلى تخريج للتركيب على غير ما خرجه عليه ؛ أو يكون محل خلاف معتبر أيضاً من طرف من عنده معرفة أمر من التواريخ أو أخبار الكتب السماوية القديمة يختلف عما عند ابن عباس ، ويمكن توسيع المفاد القرآني به على خلاف ما رأى ابن عباس في توسيع المفاد القرآني بما لديه من المعرفة ، ومن هنالك بدأ التفسير بالمأثور ، يختلف بلون آخر من التفسير: يقبل اختلاف الأفهام ، واختلاف التقادير ، واختلاف الاجتهاد في استنباط المعنى ، تبعاً لاختلاف ما يرجع إليه الاستنباط: من فهم لغوي ، أو معرفة تاريخية لم تؤثر في السنة النبوية.
وكما كان التفسير بالمأثور يرد هذا المورد الممزوج بغير المأثور عند ابن عباس ، كان يرد كذلك عند غيره من الصحابة المختصين بالتفسير ، وقد تفرقوا بين المدينة والكوفة والبصرة والشام ، فاستقر كل واحد أو جماعة منهم في واحد من هذه المراكز كما استقر ابن عباس في مكة.
ولكن المنقول من ذلك عن ابن عباس كان أوسع دائرة ، وأتم رواجاً ، بسبب ما امتاز به ابن عباس من الاعتبارات التي أسلفناها.
وقد تكون بين يدي ابن عباس في مكة ، وتخرج عليه ، رجال من التابعين اختصوا برواية التفسير عن ابن عباس ، كان نظر علماء الحديث إليهم ، كنظرهم إلى غيرهم من المحدثين ورواة الأخبار ، مختلف التقدير.(1/34)
فكما وجد في أصحاب ابن عباس رجال مشهورون بالصدق والثقة والإتقان ، يعتمد المحدثون إلى أخبارهم ، ويسندون عنهم: مثل مجاهد ، وعكرمة ، وطاووس ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، وهم الذين خرج عنهم الإمام البخاري ما وجد في صحيحه من التفسير مسنداً إلى ابن عباس ، فقد وجد في أصحاب ابن عباس أيضاً من كان منهم رجال الحديث على أشد الحذر ، وأثبتوا أن في كل ما رووا نظراً: مثل الضحاك ، وعطية بن سعيد ، والسدي الذي يروي عنه محمد بن السائب الكلبي وقد ضرب بهما المثل في ضعف الحديث ، حتى إنهم قالوا: إن أوثق سلاسل الإسناد هي: مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر وتسمى " سلسلة الذهب " ، وأن أوهى السلاسل هي: الكلبي عن السدي عن ابن عباس وتسمى " سلسلة الخزف ".
وليس المراد بذلك ، كما هو واضح ، أن الضعف من ابن عباس ، ولكنه من الراوي عنه المفتري عليه وكما ثبت هذا التقدير المختلف لأصحاب ابن عباس ، ثبت لأصحاب غيره من الصحابة ، المشهورين بالرواية عنهم: من الحجازيين والعراقيين والشاميين ونظراً إلى اشتهار ابن عباس في التفسير شهرته التي وصفنا ، فإن الوضاعين والمنتحلين والمجازفين فتنوا بالكذب عنه ، وإسناد الأكاذيب إليه ، وحاشاه ، وذلك شأن الانتحال في إرجاع كل منتحل إلى المشتهر في الباب الذي وقع الانتحال فيه ، وبذلك أصبح السقيم فيما ينسب إلى ابن عباس غالباً على الصحيح ، حتى ذكر علماء الحديث ، نقلاً عن الإمام الشافعي ، أنه لم يثبت على ابن عباس في التفسير إلا نحو مائة حديث.
وبذلك ينبغي الاعتماد على أن تلك الكتب المشهورة ــ وقد طبع بعضها ــ المشتملة على تفسير كثير مسند إلى ابن عباس هي مصادر غير موثوق بها للتفسير عند العلماء ، وأن التفسير الموثوق بنسبته إلى ابن عباس هو ما مر بغرابيل النقد ، فانتهى إلى الكتب الموثوق بها مثل صحيحي البخاري ومسلم وبقية الصحاح.(1/35)
ونظراً إلى هذا الاختلاط الذي طرأ على التفسير بالمأثور ، في ما ورد عن ابن عباس وما ورد عن غيره ، فإن علماء الحديث في أواخر القرن الأول لم يزالوا يتابعون هذه الأحاديث التي يُقذف بها بين العوام كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
وذلك ببيان الصحيح من السقيم ، والتنبيه على الراوي الموثوق به والراوي المقدوح فيه ، فصارت تلك الأحاديث الرائجة بطريق النقل الشفهي في النصف الثاني من القرن الأول ، متبعة بتعاليق نقدية تتصل بها ، هي التي علق بها عليها رجال النقد من أئمة الحديث.
فلما استهل القرن الثاني وبدأت العلوم الإسلامية في دور التدوين انبرى أحد الأئمة الثقاة من رجال الحديث:
وهو عبد الملك بن جريج ، المتوفى في سنة 149هـ إلى جمع تلك الأخبار ، في كتاب ، فكان أول من ألف في التفسير ، وهو ، على ثقته المشهود بها عند ابن سعد ومن بعده من علماء الرجال ، لم يتحر آثار تلك النقود ، ولكنه أورد الأقوال في تفسير القرآن على علاتها ، فعقب كل خبر بما قيل فيه من تجريح أو تعديل ، فدخل علم التفسير بذلك إلى حيّز التدوين الكتابي ، على ما كان عليه من اختلاط بين الصحيح والسقيم على قابلية كل منهما التمييز عن الآخر ، بما سبق من النقود منذ القرن الأول ، فاحتاج هذا الوضع إلى دراسة نقدية لتلك النصوص وتخريج جديد لها بأسانيدها مع الإلمام بالنواحي الثلاث التي أصبحت أخبار التفسير راجعة إليها: وهي الأثرية ، واللغوية ، والعلمية ، بحيث أصبح لكل ناحية من تلك النواحي الثلاث أثر في نقد الناحية الأخرى وتعديل ميلها ، وتلك هي الخطة التي انتهجتها كتب التفسير ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثاني.
*****
يحيى بن سلام
كانت أول التفاسير ظهوراً في النصف الثاني من القرن الثاني بعد كتاب عبد الملك بن جريج ، التفاسير المتوخية طريقة جمع الأقوال ، بحسب ما انتهى إلى مؤلفيها من طرق الإسناد.(1/36)
وقد اقتضى ذلك لا محالة اشتمال الكتاب الواحد ، في الآية الواحدة على أخبار متخالفة ، وآثار متفاوتة الدرجات من حيث مظنة الثبوت لقوة الأسانيد وضعفها.فتطلب ذلك رجوعاً إلى تلك الأخبار بالنقد والتمحيص ، ليوضع منها ما يوضع على بساط الطرح والتزييف ، ويثبت منها ما يثبت على مدرجة الاعتماد والتحصيل.
لا سيما وقد انتهى الكثير منها إلى المؤلفين متبعاً بتعاليق نقدية اتصلت بها ، وصارت ذيولاً لها ، منذ أن كانت متناقلة بالطريق الشفهي ، قبل أن تدخل حيز التدوين.
فأصبح موقف المؤلفين حيال تلك الأخبار ، مثل موقف مصنفي السنّة من مختلف الحديث ، وموقف الفقهاء من متعارض فتاوى فقهاء الصحابة والتابعين ، موقفاً يستدعي إدخال عناصر جديدة من المعارف المتصلة بتوضيح البحث ، ثم إدخال عنصر شخصي من النقد والتقدير ، والإسقاط والتحصيل ، أو الجمع والتأويل ، ينتهي إلى حكم موضوعي فاصل بحسب اجتهاد المؤلف ، وتقديره ، تتخذ له تلك الأخبار المتخالفة أسانيد ومقومات للاستنتاج كما يتخذ مجموع البينات المتعارضة مع ما يتصل بها من وسائل الإثبات سنداً لقضاء القاضي.
كانت أهم العناصر المرجوع إليها ، بالإضافة إلى عنصر الروايات الواردة ، عنصرين يتصلان مباشرة باللفظ القرآني هما: عنصر القراءة وعنصر الإعراب.أما القراءة فهي عبارة عن الصورة التي جاء عليها ضبط مفرد من ألفاظ القرآن بحسب ما سمع منه ونقل بالتواتر مما يرجع إلى تحقيق ذات الحرف ، أو ما يرجع إلى شكل النطق به أو ما يرجع إلى حركته.فما يرجع إلى تحقيق ذات الحرف هو أمر مستند إلى رواية القرآن كما تلاه النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـــ على رءوس الأشهاد تحدياً تارة ، وتعبداً تارة ، وتلقيناً تارة أخرى.(1/37)
وذلك أمر في الكثرة الغالبة لا مجال للاختلاف فيه إلا ما ورد من اختلاف يسير ، قريب أمره ، يرجع إلى اختلاف الناقلين في حكاية ما سمعوا من اللفظ بإثبات حرف مد ، أو اختزاله ، مثل: قيماً وقياماً ، ومثل فآذنوا وفأذنوا ، أو تعويض حرف بغيره مما يتقارب ويشتبه مثل: يعملون وتعملون ، وإبراهيم وإبراهام ، ويخادعون ويخدعون ، وما يرجع إلى شكل النطق بالحرف راجع إلى اختلاف طرق النطق بحسب اختلاف اللهجات مثل الاختلاف بين الإمالة والفتح وبين قطع الهمزة وتسهيلها وبين الإظهار والإدغام والاختلاف بين ضم الميم في ضمير الجماعة للمتخاطبين والغائبين وإسكانها مثل: عليهم وعليهمو ، وذلك كله راجع إلى الجواز الأصلي في نطق تلك الحروف ، تبعاً لاختلاف اللهجات ، وأما الصورة الثالثة وهي: اختلاف حركة الحرف فإن منها ما يرجع إلى غير آخر الكلمة وذلك أيضاً داخل في محل جواز الأصل بحسب ضبط الكلمة بوجهين في وضعها ، القدُس والقدْس أو بحسب جواز الوجهين في حركة الحرف تبعاً لقواعد التعريف مثل: يحسَبون ويحسِبون ، ومنها ما يرجع إلى آخر الكلمة ، والاختلاف فيه راجع إلى الاختلاف في إعراب التركيب بناء على تقدير موقع اللفظ المختلف فيه من بناء عموم الجملة مثل: الاختلاف في قوله تعالى:
{ ????????????? ??????? ??? ?????????? ??????????? } (البقرة : 37) و" فتلقى آدمَ من ربه كلماتُ ".(1/38)
بهذا التفصيل يظهر أن لعنصر القراءة في بعض نواحيه اتصالاً قوياً بالتفسير ، وإن كان من بعض نواحيه الأخرى بعيداً كل البعد عن غرض التفسير أو هو أجنبي عنه بالكلية ، وأن الأقوى اتصالاً بالتفسير هو ما يرجع إلى اختلاف حركة الإعراب بناء على ما بين الإعراب والمعنى من ارتباط الفرع بالأصل ، ولذلك كان علم التفسير وعلم القراءات متمايزين ، كل منهما عن الآخر: برجوع التفسير إلى الدراية ، ورجوع القراءات إلى الرواية ، وإن كانا متصلين من وجه بما للرواية من أثر في تحقيق الدراية والعكس.
كان المفسرون الأولون مأخوذين بلزوم الالتفات إلى القراءات والاعتماد عليها ، حتى إن رجحان قراءة من القراءتين يرجح أحد المعنيين المفروضين في تفسير الآية ، وأن رجحان أحد المعنيين قد يرجح أيضاً إحدى القراءتين على الأخرى ، فكان عنصر القراءة الذي دخل في تفاسير القرن الثاني استمداداً لقضايا منقولة من علم القراءات استخدمت في إيضاح المعاني وتقريرها.
وأما العنصر الآخر ، وهو عنصر الإعراب ، فإن التراكيب القرآنية لما كانت عربية ؛ كان فهم معانيها وتحصيل فوائدها متوقفاً على استيعاب المعنى التي تفيده الألفاظ بالتركيب ، تبعاً لقانون تأليف الجملة العربية ، ولما كانت الطبائع السليمة والسلائق الصافية هي المرجع في استفادة المعاني من تراكيبها ، لما كانت الأمة العربية بعيدة عن الاختلاط ، وملكتها اللغوية متينة ثابتة ، فلم تكن هناك قواعد مقررة ، ولا قوانين مدونة ، لأن الملكات والسلائق مغنية عنها.(1/39)
فلما تحضرت الأمصار ، وتفننت الحضارة ، تغيرت الملكات وقصرت السلائق ودخلت اللغة في دور الملكة الصناعية التي تُستفاد بالتعليم ، وتستند إلى القوانين والقواعد ، منذ ظهر علم النحو بالبصرة منتصف القرن الأول ، إلى أن ازدهر بالبصرة أيضاً ووضعت فيه هناك التآليف ، أول عصر التدوين ، في أوائل القرن الثاني ، فكان النحو في وضعه المفنن المقعد مادة ضرورية للتفسير يعتمد عليه في تحليل التركيب القرآني ، وبيان مواقع المفردات بعضها من بعض ، وما استقر فيها من روابط الإعراب.
فلجأ المفسرون في القرن الثاني ، إلى آثار البصريين الأولين ، من عيسى بن عمر ، والخليل ابن أحمد ، ويونس بن حبيب ، واستفادوا منها ما مهد لهم طريق الإعراب عن أوجه التراكيب ومكن لهم من ضبط مواقع الألفاظ بقوانين الإعراب ، ليدققوا المعنى المستفاد من خلال التركيب ، ومواقع مفرداته.
فكان ذلك عنصراً ثانياً أدخلوه على ما انتهى إليهم من أخبار التفسير بالمأثور التي دونت في القرن الأول.
وذلك هو الذي قوى من سواعدهم ليقتلعوا شيئاً كثيراً مما علق بالتفسير بالمأثور من آثار الأخبار الواهية ، أو الدعاوي التي لا بينات لها ، فوضعوا الأيدي على مكان الزوائد التي يتوهم الناس أنها مأخوذة من القرآن وليس في القرآن ما يقتضيها ، ولا ما يقتضي خلافها ، في إيضاح مبهماته.(1/40)
وإنه لما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام: أن الذين يشيرون إلى هذه الطريقة وخصائصها من الكاتبين حديثاً في تاريخ التفسير ، يبادرون إلى ضرب المثل بتفسير محمد بن جرير الطبري ، فيقطعون بذلك سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني ، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث ، وصاحبه توفى في أوائل القرن الرابع ، والحال أن الحلقة التي يتم بها اتصال السلسلة وضاعت عن الكاتبين المحدثين قي تاريخ التفسير: من المستشرقين وغير المستشرقين ، هي حلقة أفريقية تونسية ، بالوقوف عليها يتضح كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج ، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري ، ويتضح لمن كان الطبري مديناً له بذلك المنهج الأثري النظري الذي درج عليه في تفسيره العظيم.
إنما نعني بهذا تفسيراً جليلاً من صميم آثار القرن الثاني ، وهو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق ، ألف بالقيروان وروي فيها ، وبقيت نسخته الوحيدة بين تونس والقيروان ، وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير النقدي ، أو الأثري النظري التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري واشتهر بها.(1/41)
ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمي البصري الأفريقي المتوفى سنة 200هـ ، وهو تفسير يقع في ثلاثين جزءاً من التجزئة القديمة أي في ثلاث مجلدات ضخمة ، مبني على إيراد الأخبار مسندة ، ثم تعقبها بالنقد والاختيار فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحاً إسنادها بقوله: "حدثنا" يأتي بحكمه الاختياري مفتتحاً بقوله: "قال يحيى" ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوي ، والتخريج الإعرابي ويندرج من اختيار المعنى إلى اختيار القراءة التي تتماشى وإياه ، مشيراً إلى اختياراته في القراءة بما يقتضي أن له رواية أو طريقاً لا يبعد أن تكون راجعة إلى قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري ، لأن يحيى بن سلام بصري النشأة ، وإلى طريقه المختار في القراءة يشير في تفسيره بقوله: "والذي في مصحفنا".
وقد نص ابن الجزري على أن هذا الكتاب سمع من مؤلفه بإفريقية ، وشهد بأنه كتاب ليس لأحد من المتقدمين مثله وكذلك نقل عن إمام القراءات أبي عمرو الداني أنه قال: "ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن سلام".وذلك ينطق بسبقه إلى طريقة ، وابتكاره منهجاً.وقد تلقى هذا التفسير عن مؤلفه فقيه أفريقي هو أبو داود العطار المتوفى سنة 244هـ.
وتوجد من هذا التفسير ببلادنا التونسية نسخة عظيمة القدر موزعة الأجزاء ، نسخت منذ ألف عام تقريباً ، منها: مجلد يشتمل على سبعة أجزاء بالمكتبة العبدلية بجامع الزيتونة الأعظم ، وآخر يشتمل على عشرة أجزاء بمكتبة جامع القيروان ، ومن مجموعها يتكون نحو الثلثين من جملة الكتاب.ويوجد جزء آخر لعله يتمم بعض نقص النسخة من المقتنيات الخاصة لبعض العلماء الأفاضل.
ولعل فذاذة هذه النسخة التونسية هو الذي يعتذر به للذين أهملوا شأن ابن سلام في مراحل التفسير وإن كان التعريف بها حاصلاً منذ أكثر من خمسين سنة ، في الجزء الأول من الفهرس التفصيلي للمكتبة العبدلية ، وقد أخذت عنها صور لمعهد المخطوطات العربية وكثير من دور الكتب في المشرق والمغرب.(1/42)
*****
الطبري
إذا اعتبرنا يحيى بن سلام مؤسس طريقة التفسير الأثري النظري ـــ وإنه لكذلك ــ فإن محمداً ابن جرير الطبري هو ربيب تلك الطريقة ، وثمرة ذلك الغراس.
كان التفسير عندما انتهى إلى الطبري ، في أوائل القرن الثالث نهراً مزبداً ، ذا ركام ورواسب ، قد انصب إلى بحر خضم عباب فامتزج بمائه وتشرب من عناصره ، وصفا إليه من زبده وتطهر لديه من ركامه ورواسبه.
ذلك هو المثل المضروب حقاً لِما كان للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المولود سنة 224هـ والمتوفى سنة 310هـ من الأثر في تطور فن التفسير في القرن الثالث.
فلقد كان رجلاً عجيباً: في جمعه نواحي متباعدة من فنون العلم وبلوغه فيها جميعاً درجة متساوية من الإمامة: فهو من الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب في الفقه ، وهو من أئمة الحديث أهل الرواية الواسعة والضبط المتقن: روى عن العراقيين والشاميين والمصريين ، وشارك البخاري في كثير من شيوخه وهو من رجال التاريخ والمعرفة الواسعة المفننة بالأحداث والرجال.وقد ألف كتابه المشهور في التاريخ ويعتبر مرجع المراجع ، وبه عُد إمام المؤرخين غير منازع ، إلى عظيم خلقه ، وجميل تقواه ، ومتين بيانه ، وبديع شعره ، حتى قال الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: "جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره".
فكان جديراً بالتفسير حين تناوله الطبري ، بتلك المشاركة الواسعة ، وذلك التفنن العجيب ، أن يبلغ أوجه وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته ، وبرزت بها خصائصه مسيطرة على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في التفسير.
ولقد أدرك هذه المزية ، وشهد له بها ، القدماء والمحدثون فسارت نسخه العربية ، ونقل إلى اللغة الفارسية في القرن الرابع ثم اعتنى به علماء المشرقيات اعتناءاً زائداً في منتصف القرن الماضي.(1/43)
فعظم إعجاب الدارسين بالمنهج العلمي الذي درج عليه في تحقيق دلالات القرآن والإفصاح عن معانيه بصورة محكمة مبينة متينة الأسس واضحة المعالم بحيث يتتبع مطالعة ألفاظ القرآن: كلمة كلمة ، وآية آية ، فيجد من بيان الطبري ما يلقي على كل ما يمر به من ذلك أنواراً تحصل له المعاني ، وتبسط أمامه طرائق استفادتها وتوقفه على تفرع المسالك التي طرقها مستفيدوها من قبل وعلى ما يتسلط على ذلك من النقود والأحكام الفاصلة ، فكان التفسير على يده قد اصطبغ صبغة جديدة بحق ، لعلها هي التي سمحت له أن يختار ، للدلالة على صنيعه ، كلمة ما كان يختارها متعاطو التفسير من قبله وهي كلمة " التأويل ".فسمى تفسيره باسم " جامع البيان عن تأويل القرآن " والتزم كلمة التأويل في ترجمة كل فصل من فصوله من المقدمات الواسعة المبسوطة إلى كلامه في تأويل الاستعاذة ثم تأويل البسملة ، إلى فيوض بياناته على الآيات معنوناً كلاً منها على طريقة ملتزمة مطردة بقوله: "القول في تأويل قوله تعالى كذا".(1/44)
وأن الذي ينظر نظر المقارنة بين تفسير الطبري والتفاسير التي جاءت بعده: من ابن عطية والزمخشري إلى الفخر الرازي والبيضاوي إلى الذين ساروا على خطاهم ، واغترفوا من بحارهم: من ابن عرفة إلى أبي السعود ، أو الذين تحرروا عن اتباعهم ، متوخين الابتكار في الأسلوب ، والاستقلال في الفهم من ابن تيمية وابن القيم ، إلى محمد عبده ورشيد رضا ، ليجد من وحدة الأساليب وتقارب الطرائق على مر تلك الألف سنة وزيادة بين الطبري والذين جاءوا من بعده ، ما لا يوجد في أي من الفنون ، بين أوضاع القرن الثالث وأوضاع القرون المتعاقبة من السادس إلى الرابع عشر ، فلو أخذنا كتاباً من كتب النحو في القرن الثالث ، مثل كتب المبرد وثعلب أو من كتب الفقه في القرن الثالث أيضاً ، مثل كتب الخصاف وابن المواز وابن سريج ، وقارناها إلى كتاب من الكتب المتداولة في النحو أو الفقه مما ألف في القرن السابع مثل كتب ابن مالك أو كتب النسفي وابن الحاجب والنووي بل ما ألف بعد ذلك من مثل كتب الصبان والحصكفي والدردير ، لأنتجت تلك المقارنة: أن بين الكتابين القديم والحديث اختلافاً في الطريقة واللغة والبيان ، يتنكر به كل منهما لصاحبه ، وبخلاف ذلك نجد عندما نقارن بين تفسير الطبري وواحد من التفاسير المتداولة التي ذكرناها تقارباً يتضح به ما بين هذا وذاك من نسب قريب.(1/45)
فإن الطبري عندما ينتصب للقول في تأويل الآية يسردها ثم يقول: "يعني تعالى بذلك" ويفصح ببيانه عن المعنى المراد معتمداً ربط السياق والعود بمراجع الكلام إلى معاقدها الواردة في مواضع أخرى من القرآن العظيم ، ومتمسكاً بما يدور عليه المعنى من دلالة المفردات اللغوية على المعاني التي هي مستعملة فيها ، ببيان المعنى الأصلي للمفرد ، والمعنى المنقول إليه ، مع بيان مناسبة النقل ، والاستشهاد بالشعر العربي ، على ما يثبت استعمال اللفظ في المعنى الذي حمله عليه ، ويكون في ذلك جازماً غير متردد ، مستقلاً غير مقلد ثم ينتقل إلى دعم ما ذهب إليه بما ينقل عن المتكلمين في التفسير من قبله ، فيُعنون بقوله: "ذكر من قال بذلك" ، ويورد الأسانيد مسلسلة عن شيوخه: ابن المثنى أو أبي ركيب أو محمد بن بشار أو يونس بن عبد الأعلى أو غيرهم إلى ذوي القول في التفسير بالمأثور من الصحابة أو من موثقي التابعين: مثل مجاهد والحسن البصري ، أو ممن دونهم مثل السُدي أو وهب بن منبه ، فإذا كان المتفق عليه من بين تلك الأخبار شيئاً واحداً يؤيد المعنى الذي ابتدأ بتقريره ، اكتفى بذلك ، وربما جعل ابتداء سوق الأسانيد قوله: "وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل" ، وإذا كان المعنى غير متفق عليه يقول: "وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل" ، فأورد الأسانيد عنهم ، وإذا كان الأمر راجعاً إلى اختلاف في تعيين فهم لا يتوقف على تعيينه المعنى أشار إلى الخلاف في ذلك بعد تقرير المعنى الذي لا يختلف باختلاف تقدير المعنيين ، ففصل الأقوال وأورد على كل قول منها ما يثبت عزوه من الأسانيد ، ثم يعقب ذلك كله ببيان أن ليس له غناء في فهم معنى الكلام ، ولا تأثير في اختلاف تقديره.
ففي قوله تعالى:
{ ???????? ???????????? ???????????? ?????????????? ???????????? ????? ??????????????? } (البقرة : 232)(1/46)
الآية ، ابتدأ بتصوير الحكم الذي نزلت به الآية ، ثم قال: اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه الآية فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار المزني.ثم قال: "ذكر من قال ذلك" ، وأورد على التتابع أحد عشر حديثاً ، ثم قال: "وقال آخرون: كان ذلك الرجل جابر بن عبد الله الأنصاري.ذكر من قال ذلك" وأورد حديثاً واحداً ثم قال: "وقال آخرون: نزلت دلالة على نهي الرجل عن مضارة وليته.ذكر من قال ذلك" وأورد ستة أحاديث ، ثم عقب جميع ذلك بقوله: "قال أبو جعفر والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار أو في أمر جابر بن عبد الله وأي ذلك كان فالآية عن ما ذكرت".
وهو في كثير من صور انتقاده للأحاديث المسندة قوي الاعتماد على الفقه وملائمة الأمصار من الأقوال ، فكثير ما يرُد حديثاً في تأويل آية بأنه خلاف ما تقرر عند الفقهاء من الحكم.
كما أنه في صور أخرى قوي الاستناد إلى ما بين النحويين من كلام في تخريج التراكيب.وما تجاذبوه من نظر في تأويل شواهدها ، وكثيراً ما يجعل التخريج النحوي الراجح توجيهاً للقراءة وبياناً لأولويتها ويستخرج من رجحان القراءة وتوجيهها اختيار المعنى أو الحكم الذي يأخذ به ، تبعاً لاختيار القراءة واختيار الوجه النحوي الذي خرجت عليه ، فيقول: "وأولى القراءتين بالصواب في ذلك" وربما يؤكد جزمه بالاختيار فيقول: "والقراءة التي لا أختار غيرها".(1/47)
وبهذه الطريقة أصبح تفسير ابن جرير الطبري تفسيراً علمياً يغلب فيه جانب الأنظار ، غلبة واضحة ، على جانب الآثار ، حتى أنه لو اقتُصر فيه على مجرد عزو الأقوال المتخالفة لأربابها ، وجُرد عن طويل الأسانيد ومكررها لبقي وافياً تمام الوفاء بما يقصد له من كشف عن دقائق المعاني القرآنية وما يستخرج منها من الحِكم والأحكام ، على اختلاف المذاهب والآراء ، وما يتصل بها من استعمالات اللغة ومسائل العربية ، ولازداد شبيهه بالتفاسير العلمية التي جاءت من بعد قوة ووضوحاً ، فلذلك يصح أن تعتبره تحولاً في منهج التفسير ذا أثر بعيد ، قطع به التفسير ما كان يربطه إلى علم الحديث من تبعية ملتزمة بل إنه جعل العنصر الذي كان علم الحديث يسيطر به على التفسير أقل عناصر التفسير أهمية وذلك هو عنصر تفسير المبهمات ومعرفة أسباب النزول ، وجعل العنصر الذي لا غنى للتفسير فيه عن النقل ، وهو عنصر بيان الأحكام معتمداً على فتاوى الفقهاء معتضداً بمعاقد الإجماع.(1/48)
وإن الذين يعتبرون تفسير الطبري تفسيراً أثرياً ، أو من صنف التفسير بالمأثور ، إنما يقتصرون على النظر إلى ظاهره بما فيه من كثرة الحديث والإسناد ، ولا يتدبرون في طريقته وغايته التي يصرح بها من إيراد تلك الأسانيد المصنفة المرتبة الممحصة.والعجب كل العجب من ابن خلدون حين راجت عليه هذه الشبهة ، فعده من مدوني الآثار المنقولة مثل الواقدي والثعالبي ، وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن تفسير الطبري ، كان منذ قرون ، مفقوداً أو في حكم المفقود ، حتى أن صاحب كشف الظنون لم يقف عليه ، إلى أن طلعت على الناس منذ نحو من ستين سنة طبعته الأولى ، ففتح للمعارف التفسيري كنز نفيس ، من التراث الخالد ، ثم علا قدره ، وغلت قيمته ، بالإبراز العلمي المتقن الذي طلع به حديثاً من بيت العلم والفضل إذ تعاون على إخراجه العالمان الجليلان الأخوان الكريمان ابنا الشيخ محمد شاكر وهما الأديب الضليع والعالم الورع الشيخ محمود والفقيه القاضي المحدث الثبت الشيخ أحمد ــ رحمه الله ــ فجاء في حسن عرضه ، ودقة ضبطه ، وترتيب مفاصله ، وتحقيق معانيه ، وتخريج أحاديثه واستيعاب فهارسه آية للسائلين.
*****
من البخاري
إلى المعتزلة(1/49)
لئن كان الطبري قد نزع علم التفسير نزعاً خرج به عن دائرة علم الحديث ، فإن معاصري الطبري من المحدثين لم يهزهم عنف ذلك الانتزاع ولا اقتنعوا بما أثبت المنهج التفسيري الجديد من اختلاف بين طريقتهم وطريقة المفسرين: أهل الدراية والمنهج العلمي فتمسك أولئك المحدثون بطريقتهم النقلية البحتة ، وازوروا (1) ازوراراً تاماً عن طريقة البحث والتأويل ، ولم يأل الآثار الراجعة إلى التفسير رواية وضبطاً وتقييداً ، يجرونها مجرى الآثار السنية في النقد والتمحيص.وكون بُعد المفسرين بمنهجهم العلمي عن الطريقة الأثرية حركة رد فعل هائل في وسط رجال الحديث وأهل الأثر ، حصل منها تدافع بين الطائفتين مثل أو قريباً من الذي حدث في ميدان أصول الدين ، أو الذي حدث في ميدان الفقه ، فأصبح أهل الأثر يعرّضون بأهل التأويل أو أهل التفسير بالرأي ، كما يعرض أهل السنة السلفيون بالمتكلمين ، أو يعرض الفقهاء أصحاب الحديث بأهل القياس ، ويسمونهم أهل الرأي أيضاً.
وفي ذلك التدافع الشريف العنيف بين الطائفتين ظهر بين أهل الأثر من أراد أن يقوي حصون التفسير بالمأثور ، ويمتن أسسه ويدفع عنه عوامل التداعي والوهن ، حتى يتمكن من الثبات في وجه الهجمة الهائلة ، ويستقر على الرجة العنيفة ، فرأوا أنه لا يكون تمتين أسس التفسير بالمأثور وتقوية حصونه إلا بالسمو به عن مجاري الحديث الجزاف ، وصونه من مداخل المزاعم الواهية.
__________
(1) 1 اتجه اتجاهاً آخر.(1/50)
فقد كثرت وكثرت أسباب الانتحال والوضع في التفسير ، وشاع التساهل فيه أي شيوع ، فاعتبر كل مذكور مأثوراً حتى أصبحوا يتخذوا من أسمار القصاصين ، وأخبار اليهود والنصارى ، وتواريخ العجم ، ما يحدثون به على أنه تفسير للقرآن بالأثر ، فاستخف الناس بتلك الأخبار وزيفوها ، واستخفوا تبعاً لذلك بهذا المنهج من التفسير وأعرضوا عنه ، وعند ذلك تحرك أهل الغيرة على الرواية لتطهير تفسيرهم من تلك الأوضار ، وابتدأوا برده إلى علم الحديث وربطه به ربطاً محكماً خضع به إلى كل ما سلط على علم الحديث من مقياس للنقد ، وقاعدة للتمحيص ليروا بذلك أنه إذا كان التفسير بالأثر تعرض إلى استخفاف وازدراء ، فليس الذنب في ذلك إلا ذنب الذين تعاطوه من غير بينة وتلقوا رائجه بدون استعداد لتمييز صحيحه من سقيمه.
وإن إتقان صناعة الحديث والتبرز في إسنادها هما الكفيلان بإيقاف المتلقنين للتفسير على ما هو صحيح منه ، وليس في وسع المفسر أن يرده ، ولا أن يعدل عنه ، وما هو سقيم ما كان ينبغي اعتباره ولا الالتفات إليه ، فضلاً عن التقيد به والبناء عليه والتزامه.
وليرجع هؤلاء المحدثون إلى التفسير بالمأثور حرمته ، وليتوجهوا ، إلى الطريقة العلمية الجديدة التي انصرف الناس إليها عن التفسير بالمأثور ، يكشفون ما اشتملت عليه من عيب ، ويشهرون بما انطوت عليه من نقص واختلاف ، فعمدوا إلى الأخبار الصحيحة التي لا خدش في أسانيدها ، وتتبعوا بها مواقع التفسير العلمي ، أو التفسير بالرأي ، حيثما وجدوا اختلافاً عن تلك الأحاديث ، أو نَبوة أحصوها وأذاعوها وعيروا أهلها بمصادقة صحيح الآثار ، واستعمال الرأي في ما لا مجال له فيه من قواطع الدين كما فعل أهل الأثر من الفقهاء بمقالات أهل الرأي منهم ، لما خالفت الثابت المروي ، فِعل الإمام محمد بن إدريس الشافعي بأهل العراق وأهل الحجاز في كتابه الذي سماه (اختلاف الحديث).(1/51)
كذلك انشق التفسير على نفسه ، وأصبح أهله شعبتين: تتمسك إحداهما بالتفسير بالمأثور وتتحرر الأخرى من التزامه ، حتى تتركه وتطعن فيه ، وكان من الضروري لجبر هذا الصدع أن يخرج من أهل الأثر من ينصف أهل النظر في ما حملوا على التفسير بالمأثور من إفراط في الثقة بالنقلة وجزاف في سوق الأحاديث ، فقيض الله لهذا العمل إمام أهل الحديث وأميرهم: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
وقد كان البخاري على وجه التقريب معاصراً للطبري ، ورأينا في حديثنا الماضي أنهما اشتركا في كثير من الشيوخ ، فجعل البخاري أساس عمله في التفسير: اللغة بتحقيق معاني الألفاظ المحتاجة إلى بيان ، وضبط مراجع اشتقاقها ، ومواقع استعمالها ، وتحري ما هو مأثور عن الصحابة ، أو مرفوع للنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ : من قول في معاني الآيات يجعله معلقاً على الثبوت من طرق ثبوت الحديث عنده ، بشروطه الضيقة الدقيقة في المتن والإسناد.فإن ورد بذلك الطريق التزمه وحدث به بأسانيده ، وإلا أبقاه على تعليقه غير ملتزم الأخذ به ، كما فعل ذلك بالنسبة إلى أخبار السنة ، وإن كان عمله هذا في أخبار التفسير أوسع.
وقد ألف على هذا المنهج تأليفاً مستقلاً سماه (التفسير الكبير) لم يصل إلينا ، ولا إلى أهل القرون التي مرت قبلنا ، وقد ذكره صاحب كشف الظنون ، وأسند ذكره إلى صاحب البخاري الإمام محمد بن يوسف الفربري.(1/52)
ولكن الذي وصل إلينا من عمل الإمام البخاري في التفسير: هو ما اشتمل عليه جامعه الصحيح ، فقد أورد فيه شيئاً كثيراً من أخبار التفسير ، حتى كانت الأحاديث المرفوعة إلى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـــ من ذلك ، بين معلق وموصول ، أكثر من ألف حديث ، منها ما أخرجه في كتاب خاص معقود لذلك ، من كتب جامعه الصحيح: هو كتاب التفسير ، الذي رتبه على سور القرآن مترجماً لكل سورة بترجمة ، وهو يعادل في مقداره عُشر الجامع الصحيح ، ومنها ما تفرق بين الكتب الأخرى من كتب الأحكام وغيرها بمناسبة ما يدخل في مواضيعها من الآيات.
وقد مكن الإمام البخاري بصنيعه هذا ، لشيعتين من أهل التفسير: شيعة الآثار ، وشيعة الأنظار ، بسبب تقارب ، ومهد لهم طريق تراجع ، إذ حصر الأحاديث المعتد بها في التفسير ، فحكم على ما وراءها بالطرح وعدم الاعتداد ، وزاد فأوقف على ما حصره من ذلك على ما هو صحيح الرفع فوصله ، وعلى ما هو ليس بذلك فأبقاه معلقاً ، وهو الكثير الغالب من تلك الآثار ، وبذلك اتسع مجال النظر والتأويل على نسبة ما ضاق من مجال الأثر والنقل.
ولقد مكن هذا الوضع لكثير من أهل الطريقة العلمية أن يتذرعوا إلى الحط من شأن الطريقة الأثرية ، بنقد أعلامها بأنفسهم ، لما هو شائع بين الناس من ضعيف الأسانيد وسقيمها.
فهذا المتكلم الشهير إبراهيم النظام يقول فيما ينقل عنه الجاحظ: "لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم العامة وأجابوا في كل مسألة ، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس ، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم ، وليكن عندكم عكرمة ، والكلبي ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل بن سليمان ، وأبو بكر الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم".
ولا شك في أن للأصول التي تكون عليها المذهب الكلامي القديم مذهب المعتزلة ، تأثيراً قوياً في دفع التفسير العلمي في وجهته قدماً يصادم به التفسير بالمأثور وينال منه.(1/53)
فإن من الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال وفرقت بينه وبين المذهب السني السلفي ، أصل المعتزلة في تأويل متشابه القرآن الذي كان يمسك عن تأويله مذهب أهل السنة.
وذلك لا جرم فاتح للمعتزلة مسلكاً في تقليب أوجه دلالة القرآن على ما يحتملونه له من المعاني غير مفتوح لغيرهم ممن لا يؤولون ممسكين ومفوضين.
ومن هنا جاء الارتباط الظاهر بين نشأة التفسير النظري ، وبلوغه أشده ، وبين مذهب الاعتزال.
فما كان الموغلون في التفسير العلمي ، من معاصري الطبري وأتباعه ، إلا من المعتزلة ، من أبي مسلم الأصفهاني ، وأبي علي الجبائي في القرن الرابع ، إلى الشريف المرتضى في القرن الخامس ، ولقد أعان ما توفر للكثيرين منهم من رسوخ القدم في علم العربية ، بكونهم بصريين ، وطول الباع في العلوم الحكمية بكونهم متكلمين ، على أن يبلغوا في ما قصدوا إليه من التأويل وتخريج أوجه المحامل مبلغاً عجيباً.
ولكن نزعة من العصبية الغالية قد أوغلت بهم في مسالك التعسف كلما كانت المحامل الواضحة ، التي يستدعيها السياق ويقتضيها التركيب ، مخالفة لمذاهبهم الكلامية في المعاني الاعتقادية ، ونزعة من الغرور الذميم أركبتهم مركب ادعاء: أن آلة التأويل وقف عليهم ، لا يحسن غيرهم أن يتعاطاها ، بما اشتهر من براعة الشريف المرتضى التي شهدت بها مجالسه المشهورة أو أماليه.
فكانت هبة السُنيين في القرن الرابع حين استشعروا أن الآلات العلمية التي كان المعتزلة يختصون بها ليست وقفاً عليهم ، ولا هي كفيلة بنصرة مذهبهم نصرة مطلقة كما يتوهمون ، أو يوهمون ، عاملاً في أن يتعاطوا مناهج التأويل والبحث والنظر ، وأن يبرزوا معاني القرآن محللة مفصلة مثل ما أبرزها المعتزلة ، أو خيراً وأتقن مما أبرزوها ، بدون أن يكون ذلك مستتبعاً نصرة الاعتزال ، وتصحيح مذاهبه ، بل إن في المحامل الصحيحة والمباحث الرشيقة دفعاً لما كانوا به يصولون.(1/54)
فعلى هذه الهبة السنية أشرق فجر التفسير في مستهل القرن السادس خطاً نورانياً رفعه عالياً في أفق الفكر الإسلامي الزمخشري وابن عطية.
*****
من عبد القاهر
إلى الزمخشري
وابن عطية
منذ بدأ أهل السنة يجاذبون المعتزلة أعنة البحث والنظر ، ويداولونهم ميادين الكلام والتأويل ، في أوائل القرن الرابع ، بدأ سلطان المعتزلة على التفسير العلمي يتضعضع ، ونفوذهم على مسالك التأويل يتقلص.
وزاد ذلك السلطان تضعضعاً ، وذلك النفوذ تقلصاً ، بانتزاع أهل السنة زمام فن آخر ما يتصل بتفسير القرآن ، من جهة ثانية ، اتصالاً قد يكون أوثق من اتصال علم الكلام به من الجهة الأولى ونعني بهذا العلم: علم البلاغة.
فإنه لم يكد لواء النبوغ في تقرير نكت البلاغة القرآنية يعقد على مجالس الشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ حتى أنجم في أفق أهل السنة فتى شافعي أشعري ، من عباقرة علماء العربية هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471هـ ، تمرس بكتب أبي علي الفارسي ، وتخرج على طريقته في النحو ، فألف شرحين على كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي ، وألف كتاب " العوامل المائة " في النحو ، ثم التفت إلى ما وراء النحو: من أسرار العربية المتجلية في تأليف الجمل على اعتبارات خصوصية ، تتفاوت في الحسن والقبول بحسب ما تزيد أو تنقص من الوفاء بمتممات المعاني ، بعد اشتراكها في الوفاء بأصولها.وذلك ما كان الأدباء مستغرقين في التنويه به واستقصاء مُثُله من لدن عبد الله بن المقفع إلى بشر بن المعتمر إلى سهل بن محمد السجستاني ، ثم إلى الجاحظ وابن المعتز ، فكانوا غير مستقرين على تمييز هذا الفن باسم قار مصطلح عليه يعنون على ماهيته بدقة ، فربما سماه بعضهم "البيان" وسماه آخرون "البديع" وسمته طائفة ثالثة "صناعة الشعر" و"صناعة الكتابة" وكثيراً ما تواردوا ، قصداً أو عرضاً على تسميته "بلاغة".(1/55)
واتصلت بهذا الفن ، على ما هو عليه من نقص في وضوح الجوهر ، نظرية إعجاز القرأن ، فقد استقرت عند المعتزلة من القرن الثالث على أنها أمر إيجابي يرجع إلى ناحية من رقعة فن التعبير فيه ، فجعلها الجاحظ في الإيجاز ، وجعلها الواسطي في النظم وجعلها الرماني في البديع ، وأصبحت بذلك مسائل البلاغة من آلات الكشف عن نظرية إعجاز القرآن ، فافتتن في استعمالها المتكلمون الأولون: وهم المعتزلة ، حتى إذا استقر الكلام السني على قواعد العقيدة الأشعرية في النصف الثاني من القرن الرابع ، عدل سريعاً إلى تقرير نظرية الإعجاز على نحو ما كان يقررها عليه المعتزلة ، مستعملاً الآلات التي سبق أن استعملها المعتزلة في ذلك ، فكان الذي ربط بين فن البلاغة وبين نظرية الإعجاز." إعجاز القرآن " ولكنه لم يتمكن من ضبط جوهر البلاغة ضبطاً يخرجها عن المجال النقدي الذوقي ، إلى المجال العلمي المنهجي وإن أشاد بما بين البلاغة على ما يدركه الناس من معناها ، وبين إعجاز القرآن من ارتباط محكم يجعل البلاغة مرجع الوجه الثالث من أوجه الإعجاز عنده وهو أهمها.
وتلك الثلاثة هي: الإعجاز الغيبي ، والإعجاز العلمي ، والإعجاز البلاغي ، وقد حاول القاضي أبو بكر الباقلاني ، على ذلك ، أن يفصل ما أجمله العلماء في إعجاز القرآن ببلاغته ، فحدد الأقسام ، ووسع دائرة النظر ، ودار ولف بين فنون الكلام وأساليبه ، وقارن الآيات بالفقر والأبيات ، ولكنه لم يستطع أن يفصح عن معنى البلاغة وحقائق أبوابها ، بما يوضح المنهج لإدراك إعجاز القرآن من جهتها.(1/56)
فجاء عبد القاهر الجرجاني يتم ما وقف عنده أبو بكر الباقلاني وأخرج عبد القاهر لذلك كتابه العجيب: " دلائل الإعجاز " ، بين فيه جهات الحسن البلاغي وعلله ، ويضبطها في قوالب محكمة من التعبير ، فجاء عمله عملاً أساسياً منهجياً ، كشف به عن معنى الإعجاز البلاغي بصورة مبدئية نظرية تسمو على تتبع الجزئيات ، وترديد المقارنات والموازنات.
وقد أفصح عن مزية عمله هذا أي إفصاح حين قال في الفصل الأول من كتابه: "لم أزل منذ خدمت العلم أنظر في ما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة ، والبيان والبراعة ، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها ، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيحاء ، والإشارة في خفاء ، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب ، وموضوع الدفين ليبحث عنه فيخرج" ثم قال:
"وجملة ما أردت أن أبينه لك أنه لابد لكل كلام تستحسنه ، ولفظ تستجيده ، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة ، وعلة معقولة ، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل ، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل".
وقد أتى في كتابه فصلاً من بيان المعاني وضبط مراجع اختلاف طرق التعبير عنها وبيان الصورة البلاغية في إفادة المعنى بالتركيب ما قوم به هيكل فن المعاني ، وجعل كتابه كما أراده من اسمه "دلائل" على أوجه الإعجاز ، يهتدي بها الناظر ، لا استقصاء ، لما يمكن استقصاؤه من أوجه الإعجاز بالتفصيل.(1/57)
فانفتح بهذا الوضع الجليل باب كان مغلقاً في أوجه متعاطي التفسير ، وهو بيان الوجه البلاغي المعجز من كل تركيب قرآني ، وجعل ذلك الوجه ملاك المعنى المستفاد من التركيب ، بحيث إن احتمالات المعاني تتفاوت قوة وضعفاً على نسبة ما تتلاقى مع السر البلاغي المتمثل في التركيب ، أو تتجافى عنه ، وذلك ما نادى به الشيخ عبد القاهر بنفسه حيث قال: "وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة ، ومعانٍ شريفة ، ورأيت له أثراً في الدين عظيماً ، وفائدة جسيمة ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل ، وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل..ويربأ بك عن أن تكون عالماً في ظاهر مقلد ، ومستبيناً في صورة شاك".
تزاحم على ولوج هذا الباب الذي فتح في النصف الثاني من القرن الخامس جوادان سابقان من جياد حلبة التفسير العلمي: أحدهما من شرقي آسيا ، والآخر من غربي أوروبا ، تعاصرا وسارا في ذلك الطريق فرسي رهان ، هما: العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، والإمام والقاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي الأندلسي.
ولد الزمخشري سنة 467هـ أي في حياة الشيخ عبد القاهر وعلى مقربة من وطنه وتوفى سنة 538هـ.
وولد عبد الحق بن عطية سنة 481هـ وتوفى سنة 542هـ على ما حققه ابن بشكوال.
فكانا متعاصرين ، يفرق بينهما في الولادة أربعة عشر عاماً يكبر بها الزمخشري ابن عطية ، ويفرق بينهما في الوفاة أربع سنين فقط ، سبق بها الزمخشري أيضاً ، وكان أطول عمراً من صاحبه.(1/58)
وقد ثبت ضبط التاريخ الذي ألف فيه الزمخشري تفسيره وهو سنة 528هـ كما نص على ذلك هو نفسه في نهاية الكتاب ، ولم يثبت نص على تاريخ تأليف ابن عطية تفسيره ، ولكن الذي يستفاد من مقارنة العمرين أن تفسير الزمخشري ألف وسن ابن عطية ستة وأربعون عاماً ، وهو مكتمل الأشد ، تام التكون العلمي ، شهير المنزلة ، فلا يمكن أن يفرض أنه تخرج بالزمخشري ، أو بني على تفسيره ، لا سيما إذا لاحظنا ما أثبته ابن الآبار في ترجمة ابن عطية: أنه كان ، في آخر دولة المرابطين ، كثير الخروج للغزو في جيوشهم.وذلك يرجح أن يكون تأليف تفسيره قبل هذا الدور الأخير من دولة المرابطين ، الذي هو الدور الأخير من حياة ابن عطية ، إذ كان تاريخ وفاته سنة 542هـ عين تاريخ انتهاء دولة المرابطين بالأندلس ، وقد أفاد ابن الآبار أيضاً بشأن تفسير ابن عطية: أن الناس كتبوه كثيراً ، وسمعوه منه ، وأخذوه عنه ، وذلك يقتضي مدة طويلة من حياته مضت بعد تأليف التفسير حصلت فيها كثرة الرواة بتتابع الطبقات ، فلذلك لا نفترض أن أحد هذين المفسرين اعتمد على تفسير الآخر واغترف منه بل نجزم بأنهما اعتمدا على أصول مشتركة واغترفا من منابع متحدة ، وذلك ما يسمح لنا بأن نضم أحد التفسيرين إلى الآخر على معنى المقارنة والموازنة بين أثرين مستقلين متحدين في الموضوع والمنهج والعصر.
***
الكشاف(1/59)
لعل ذلك المثل السائر الذي فاضت به الحكمة الفطرية " رب أخ لك لم تلده أمك " لم ينطبق يوماً على متآخيين متناصرين ، على بُعد الأواصر ، وتباين العناصر ، كما انطبق على ما بين اللغة العربية ذاتها ، وبين حبيبها وربيبها: فخر "خوارزم" جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمحشري ، فلقد نشأ متيماً بالعربية ، متفانياً فيها ، منقطعاً لروايتها وتحقيقها وخدمة علومها ، مفضلاً لها ، مناصراً لخصائصها ومعارفها ، ومحارباً للمستنقصين قدرها من الشعوبييبن ، معتزاً بما نال من المعرفة فيها ، وشرُف به من الانتساب إليها.
ولقد افتن في تآليفه العجيبة بالتنويه بالعربية وفضلها ، وعجيب أمرها وبارع محلها ، وأتى من ذلك من خطبة كتابه العظيم في النحو ــ كتاب المفصل ــ بلهجة قاصفة على الصادفين (1) عن العربية ، المتطلعين إلى تفضيل غيرها عليها ، والزهد عن علومها ، المحاولين اتخاذ لغة غيرها أداة لآدابهم ومعارفهم وأفكارهم ، ولقد أبدع الزمخسري في العربية: علماً وذوقاً ، ورواية ، وإنشاء ، فخلف ثروة عظيمة في الأوضاع اللغوية ، مثل " أساس البلاغة " الذي وضعه معجماً على قاعدة التفريق في كل مادة بين استعمالاتها في المعاني الحقيقية الأصلية واستعمالاتها في المعاني المجازية وهي غاية لم تصعد إليها همة غيره من قبله ولا من بعده.
وكتاب " الفائق " في تفسير غريب الحديث ، وهو معجم للاستعمالات اللفظية العربية الواردة في الأحاديث النبوية فتح به باباً واسعاً في لغة الحديث.
وكتاب " المستقصى " في الأمثال.
ومن الأوضاع النحوية مثل كتاب " المفصل " الشهير الذكر الطائر الصيت ، الذي عكف الناس على شرحه ودراسته أكثر من ثمانية قرون ، فلم يجدوا به بديلاً ، وكتاب " الأنموذج " وكتاب " المفرد والمؤلف " و" شرح شواهد كتاب سيبويه ".
__________
(1) 1 غير الراغبين.(1/60)
والآثار الأدبية البارعة من عيون السجع ، وفصوص الحكم مثل " المقامات " و" ربيع الأبرار " و" الكلم النوابغ " إلى شعره الكثير البديع الذي جمعه في ديوان ، فهذا التكون الأدبي الراسخ ، والمعرفة العربية الواسعة ، مع مقامه في العلوم الإسلامية ، إذ كان إماماً من أئمة المتكلمين على الطريقة الاعتزالية ، وفقيهاً من كبار الفقهاء على المذهب الحنفي ، وعلى ما سار من ذكره ، واشتهر من أمره ، بعد أن شاعت كتبه وقدرها العارفون حق قدرها ، أقبل أبو القاسم الزمخشري على تفسير القرآن في أواخر سنة 525هـ وقد عرف الناس مقامه فلقبوه بـ" العلامة " ، وكان قد سافر من بلاده "خوارزم" ، في شرقي آسيا الوسطى فاستقر بمكة المكرمة بعد أن أقام بها أولاً ثم فارقها إلى خوارزم ، ولذلك لقب " جار الله " فأقام هنالك بمكة في عودته بمدرسة اختص بها واشتهرت به كائنة تجاه الكعبة المشرفة ، عند باب "أجياد" من أبواب المسجد الحرام ، وهنالك انقطع لتفسير القرآن تفسيراً على الطريقة العلمية: مبناه تحليل التركيب ، وبيان خصائصه ، واعتبار إعجازه على المنهج الذي مهده الشيخ عبد القاهر في " دلائل الإعجاز " وأسلفنا الكلام عليه في الحديث الماضي.(1/61)
وكان مقام الزمخشري من أهل طائفته المعتزلة ، مع ما هو معروف به من شدة التعصب ، يجعل مرجعهم إليه في تفسير ما يدق فهم معناه من القرآن العظيم ، مدفوعاً بما يمتاز به ذلك العصر بالنسبة إلى المعتزلة من اعتزاز موروث: بأنهم أهل البلاغة ورجال التأويل.يشوبه إشفاق عظيم من الشعور ، فإن هذا الاختصاص قد نوزعوا فيه ، أو أنه افتك من أيديهم ، فكانوا يرجعون إلى الزمخشري معتزين به منتهين إليه فيبرز لهم ، كما قال وصدق في ذلك: "الحقائق من الحجب" فيزيدهم ذلك اعتزازاً وإكباراً ويفيضون في الثناء عليه والإلحاح في وضعه تفسيراً للقرآن جامعاً يعتمدون عليه في نصرة عقيدتهم بتخريج الآيات على مقتضى الطريقة البلاغية التي كانت أزمتها بأيديهم ، فكم ألح إخوانه عليه في وضع تفسير شامل ، وكم تشفعوا إليه بعظماء فرقته ، وعلماء أهل نحلته ، وكان ذلك ، كما يعرف من تاريخ أوائل القرن السادس ، عند ابتداء تراجع أمر المعتزلة ، وسلوك فرقتهم سبيل الانقراض ، وإلى هذا يشير الزمخشري نفسه عندما يذكر في تفسيره: أن الإلحاح كثر عليه وهو بخوارزم ، ولما توجه تلقاء مكة المكرمة واجتاز بلاد الشرق العجمي والشرق العربي لم يزل يلقى في كل بلد "من فيه مسكة من أهلها ، وقليل ما هم" متعطشين إلى إنجاز ذلك التفسير ، ونزل بمكة في مقام إكرام واحترام من أميرها الشريف علي بن حمزة بن وهاس فزاد إلحاحاً عليه ، ودفعاً به إلى إنجاز ما تعطش أصحابه إلى إنجازه ، فألف لهم تفسيره الذي سماه: " الكشاف على حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل "..واعتمد في تصنيفه على ما يشعر به مكتملاً في نفسه من المعارف والملكات ، المعتمدة على التكوين الأدبي اللغوي الصحيح.وأن المطالع لما تضمن إشارته إلى ذلك من كلامه في خطبة الكشاف ليكاد يهزه كلامه من عطفيه حتى يتمايل لتمايله معجباً كما قال أبو الطيب:
إن أكن معجباً لعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد(1/62)
فهو يقول بعد التنويه بدقائق العلوم وعواليها: "ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، من غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها ، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه ، وإجالة النظر فيه ، كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب " نظم القرآن " ، لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق ، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما: علم المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ، بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ ، جامعاً بين أمرين: تحقيق وحفظ ، كثير المطالعات ، طويل المراجعات ، قد رجع زماناً ورجع إليه ، ورد ورد عليه ، فارساً في علم الإعراب ، مقدماً في حملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ، يقظان النفس ، دراكاً للمنحة ، وإن لطف شأنها ، منتبهاً على الرمزة ، وإن خفي مكانها ، متصرفاً ، ذا دربة بأساليب النظم والنثر ، مرتاضاً ، غير رابض بتلقيح بنات الفكر ، قد عرف كيف يرتب الكلام ويؤلف ، وكيف ينظم ويرصف ، طالما دفع إلى مضايقة ، ووقع في مداحضة ومزالقة" ، وقد أتى في تفسيره حقاً ، من مظاهر البراعة ، وآيات العلم الواسع ، والذوق الراسخ ، والقلم المتمرس ، ما زاده إعجاباً به بعد انتهائه إذ قال في وصفه بيتيه البديعين:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد
وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته
فالجهل كالداء والكشاف كالشافي(1/63)
فأصبح كتابه عمدة الناس على اختلافهم: بين مشايع له ، ومخالف ، وعلى وفرة مخالفيه ، وانقطاع مشايعيه ، يرجعون إليه على أنه نسيج وحده في طريقته البلاغية الإعجازية ، وفي غوصه على دقائق المعاني وحسن إبرازه على طريقة علمية سائغة بتحليل التركيب وإبراز خصائصه واعتباراته.
على ما يكثر صاحب الكشاف من عنف على مخالفيه وما يتناولهم به خصوصاً أهل السنة والجماعة.من قدح ، وشتم ، وسب ، وتجهيل ، فإن ما جبل عليه أهل السنة ، وقامت عليه طريقتهم العلمية: من الإنصاف ، قد حملهم على الإغضاء عن تلك الهفوات المخجلة ، والعورات الفاضحة ، فإنهم أقبلوا على دراسته وشرحه ، وبنوا عليه عامة بحوثهم في القرآن ، لا يخلو تفسير أو تأليف في موضوع قرآني من رجوع إليه ، واعتماد عليه.فابتدأوا أولاً بإعمال معيار الإنصاف ، حيث كتب العلامة المصري: ناصر الدين ابن المنير المالكي الإسكندري كتابه: " الانتصاف " فبين ما في الكشاف من دعاوى اعتقادية ، وما سلك في سبيلها من تخريج الكلام تعسفاً أو التزاماً لما لا يلزم.
ودخل تفسير الكشاف مباشرة في صميم أصول الثقافة الإسلامية الأشعرية ، وعلا نجمه في القرن الثامن ، بإقبال أعلام من المدرسة الأعجمية الأشعرية مثل: شرف الدين الطيبي ، والقطب الشيرازي ، وسعد الدين التفتازاني ، عليه ، فأصبح من يومئذ ركناً ركيناً في هيكل التخرج الإسلامي.
وهكذا انقرض المذهب الاعتزالي ، واندرج الزمخشري وأهل فرقته في البائدين ، واحتل الكتاب مكانه الذي هو أهل له مشاعاً بين أهل القرآن ، فكان ، في خلود جوهره وزوال عوارضه كما قال الله تعالى:
{ ?????????? ??????????? ??????????? ????????? ?????????? ??? ???????? ????????? ??????????? ? ??????????? } (الرعد : 17)
*****
بين الزمخشري
وابن عطية(1/64)
لقد سما تفسير ابن عطية إلى إلى مساواة تفسير الزمخشري مصافاً ومكاتفاً ، فإنهما زيادة على اتفاقهما في المعاصرة قد اتفقا في المنهج العلمي الأدبي ، وتشابها بتشابه صاحبيهما في تأسس ثقافتهما العامة على أساس الأدب واللغة.
ولكنهما وراء هذا الاتفاق يختلفان من أوجه عدة ينبغي الالتفات إليها لإحكام المقارنة بين التفسيرين العظيمين ، فكما اختلفا في أن تفسير ابن عطية من آثار الشباب وتفسير الزمخشري من آثار الشيخوخة ، فإنهما اختلفا اختلافاً واضحاً هو أقوى أثراً في العمل العلمي وهو اختلاف يرجع إلى ثلاث جهات:
أولاها: أن ابن عطية مغربي والزمخشري مشرقي.
وثانيتها: من حيث أن ابن عطية مالكي والزمخشري حنفي.
وثالثتها: من حيث أن ابن عطية سني والزمخشري معتزلي.
ولكل من هذه الجهات أثرها في ميزة من الميزات ، التي اختلف بها كل من التفسيرين عن الآخر بالإضافة إلى فارق السن ، وإلى فارق العربية والعجمة.
فمن حيث أن ابن عطية مغربي ، تمكن من الرجوع إلى مصادر ما كانت في متناول صاحب الكشاف ، أهمها تفسير مغربي أفريقي جعله ابن عطية مبنى تفسيره ، وأكثر دوران ذكره في أثناء كلامه ، ولم يرد في كلام الزمخشري أي تعريج عليه ، وذلك هو تفسير المهدوي المسمى " التفصيل الجامع لعلوم التنزيل " فقد ذكره ابن عطية في خطبة تفسيره ووصفه بأنه متقن التأليف ، وأشار إلى الانتقاد على أسلوبه في عدم تتبع الألفاظ ، وأن أسلوبه مفرق للنظر مشعب للفكر.
وذلك يتبين مما ذكره صاحب كشف الظنون عن تفسير المهدوي: أنه فسر الآيات ثم ذكر القراءات ثم الإعراب.(1/65)
والمهدوي هذا من رجال القرنين الرابع والخامس ، أصله تونسي من المهدية ، تخرج بالقيروان على أبي الحسن القابسي ، ثم رحل إلى الأندلس وتوفى بدانية ، يوجد من تفسيره الآن جزآن بالمكتبة الظاهرية بدمشق ، ويوجد جزء بخزانة جامع الزيتونة الأعظم يقدر أنه منه ، ولكنه لم تقع مقابلته مع جزئي الظاهرية.فهذا مثال ظاهر ، لما اختلف بين ابن عطية والزمخشري من المصادر.
وما سوى ذلك فمصادر مشتركة من تفاسير مشرقية وصلت إلى المغرب مثل تفسير الزجاج ، وتفسير أبي جعفر النحاس ، وتفاسير مغربية وصلت إلى المشرق مثل تفسير مكي بن أبي طالب.
ومن الجهة الثانية ، وهي اختلاف ابن عطية بكونه مالكياً عن كون الزمخشري حنفياً.فإن ذلك أظهر بين التفسيرين في استنباط الأحكام والاستدلال لها ما بين المذهبين المدني والعراقي من اختلاف في الفقه وفي مداركه ، وبين الطائفة الناشئة على ذلك من اختلاف في المادة الفقهية ، واختلاف في المنهج الاجتهادي ، على ما يتبع ذلك من اختلاف المصادر والمراجع عند كل من الطائفتين عنها عند الأخرى.(1/66)
وأما الجهة الثالثة: وهي أهم الجهات كلها: أعني جهة الاختلاف بالسنية والاعتزال ، فإنها ترتبط بما كنا مهدناه من أن اختلاف ما بين السنيين السلفيين ، والمعتزلة المتكلمين ، في القرنين الثاني والثالث ، في تأويل متشابه القرآن ، قد جعل من الطريقة العلمية الأدبية في التفسير عوناً للمعتزلة على الفوز بالنصر في تلك المجادلات الكلامية ، فلما نشأت الطريقة السنية الكلامية وهي طريقة الأشعري نازع السنيون المعتزلة ما كانوا مختصين به من التفسير البلاغي حتى انتزعه من أيديهم قهر الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، فأصبحت للأشاعرة طريقتهم التفسيرية البلاغية المتوجهة إلى مناقضة ما كان تاه فيه من المسالك مفسرو المعتزلة وتمحيص تخاريجهم ، ومناقشة أساليبهم ، فأصبحت تفاسيرهم بحوثاً تقويمية نقدية ، تمكنوا بها من جولة ظاهرة استكان لها المعتزلة في القرن الخامس ، فتطاول الأشاعرة بانتصار علومهم ، واستكانة خصومهم.
فلذلك كان تفسير الزمخشري في المواطن الكثيرة التي يختلف فيها وجه تخريج الآية عند المعتزلة عنه عند السنيين التزاماً دفاعياً ، وكان تفسير ابن عطية في تلك المواطن نقدياً هجومياً ، فكان يمثل صولة الغالب العتيد على المنهزم المتراجع ، ولقد قوي هذا في تفسير ابن عطية بما أضيف إليه من عاملي قوة بيانية يرجعان إلى شبابه وعروبته.فإن الشباب أفاده قريحة متقدة ونظرة حادة يتناول بهما موضوعه في قوة وسرعة ومتانة إلمام فيأتي بيانه محبوكاً منسجماً.
والعروبة أفادته طبعاً أصيلاً ، وسليقة صافية ففاض بيانه قوياً هتافاً سائغاً سلساً.ولما اختلف عنه الزمخشري بالشيخوخة والعجمة فإن أسلوبه البياني قد جاء متثاقلاً مفككاً ، ومواضعه متفاوتة ، وتعبيره ثقيلاً كزاً ، ترهقه كلفة الصناعة ، مع نبوة الطبع.(1/67)
ولذلك فلا بدع أن يوصف تفسير ابن عطية بأنه " محرر " لا سيما وقد دفع الشبه ، وخلص الحقائق ، فحرر ما هو محتاج إلى التحرير.وقد نوه بذلك في مقدمته ، وشاعت عند الناس تسميته " المحرر الوجيز " وعلى ذلك بنى صاحب كشف الظنون تعريفه به ، وإن كان مؤلفه لم يشر إلى تسميته.وهو " وجيز " بالنسبة إلى التفاسير التي سبقته.أما بالنسبة إلى تفسير الزمخشري ، فابن عطية أطرد نفساً ، وأكثر جمعاً وتفنناً ، فهو وجيز باعتبار طريقة عرضه المباحث ، لا باعتبار مقدار جملته ، فالزمخشري أقل جمعاً ، وإن كان أعمق غوصاً في تحليل الكلام ، ومن هنا نشأ ذلك الحكم المشهور ، المبني على دقيق المقارنة بين التفسيرين: وهو ما شاع عند العلماء ، منذ قرون ، وأورده صاحب كشف الظنون مورد القول المأثور ، والأمر المشهور ، من أن "ابن عطية أجمع وأخلص ، والزمخشري ألخص وأغوص".
*****
الإمام الرازي
إن الغلو الذي تورط فيه المعتزلة ، حين أفرطوا في اعتماد الحكمة اليونانية والاعتداد بها ، فعاملوها معاملة المعارف اليقينية ، وأخذوها أخذ الحقائق القارة ، مع أنها ليست إلا نظريات افتراضية ، وأحكاماً متغيرة ، ومذاهب متباينة متناقضة ، وقد كان غلواً له أثر سئ في حياة الثقافة الإسلامية في القرنين الثاني والثالث.فقد كان غلو المعتزلة في الاعتداد بحكمة القدماء ، حاملاً لحملة السنة ، وفقهاء الشريعة على أن يزوروا عن تلك الحكمة وعن أهلها وأن يجنبوا القرآن والدين ما استطاعوا ، المساس بها وبهم ، فانحاز الدين جانباً ، وانحازت الحكمة جانباً آخر.
وتقابلت العصبية ، وثبت الدين مكانه والحكمة مكانها فلم يكن ذلك سامحاً للعلوم الحكمية بأن تتطور وتتقدم ، ولا للمعارف الدينية بأن تتفتق وتتوسع.(1/68)
وعظم عند كل فريق من أهل المعارف الدينية حرصه على صيانة أمانته ، وإشفاقه عليها ، فابتعد حتى عن الأقربين إليه من أهل المعارف الدينية الأخرى ، فكان ذلك الانقسام الفكري الهائل الذي ساد القرن الثاني والقرن الثالث: ففصل الفقهاء عن المحدثين ، بل فصل من الفقهاء أهل الأثر عن أهل النظر ، وفصل الفقهاء والمحدثين معاً عن الصوفية ، حتى أصبح اتصال الحكمة بالدين في مجال علم الكلام منظوراً إليه عند الفقهاء والمحدثين والصوفية نظرهم إلى الهجمة الغازية للدين ، والوثبة العادية عليه.
ولما كان سبق المعتزلة إلى تعاطي التفسير على الطريقة البلاغية الإعجازية ، قد صبغ ، إلى حد ما ، منهج التفسير العلمي بصبغة الاعتزال ، وأقام الفارق بين التفسير العلمي والتفسير الأثري.
فإن انكسار حدة المعتزلة في القرن الرابع ، بظهور الإمام الأشعري ، وتضعضع حكمتهم المختلطة بانتصار الحكمة الصافية الناصعة الممحصة ، التي أقام الأشعري قواعدها ، وظهور التفاسير العلمية على ذلك المنهج السني ، كل ذلك قد هدأ من روع الفكر الإسلامي ، وألف قلوب النافرين من أهل الفقه والحديث والتصوف فبدأ ظنهم يحسن بالحكمة وأهلها.
وبدأت روح الخوف والإشفاق تضعف فيهم ، واطمأن أهل كل فن إلى ما بين يدي أهل الفن الآخر من خبرة فتمازجت العلوم تمازجاً عضوياً.
وأصبح كل منها عنصراً مقوماً لوحدة ذلك الكيف الفكري ، الجديد باجتماع خصائصه الروحية والعقلية والمادية ، أعني الثقافة الإسلامية.(1/69)
فبرز في القرن الرابع ، والقرن الخامس ، علماء جمعوا بين الفقه والكلام ، من المالكية والشافعية ، مثل القاضي أبي بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين ، والإمام المازري ، وحجة الإسلام الغزالي.وتأثر الفقه من ذلك إلى مدى بعيد جداً ، بالأوضاع الكلامية.وبرزت أصول الفقه على صورتها البادية في كتاب " التقريب والإرشاد " للباقلاني ، وكتاب " البرهان " لإمام الحرمين فكانت نقطة الاتصال بين التعاليم الشرعية والمباحث الحكمية.
وامتاز القرن الخامس بتلاقي الطرفين المتباعدين: وهما الحديث والكلام ، إذ ظهر في القرن الخامس محدثون متكلمون منهم أعلام ازدان بهم المغرب العربي: مثل الإمام المازري ، والقاضي أبي بكر بن العربي والقاضي عياض.
فلم ينبلج فجر القرن السادس إلا وللثقافة الإسلامية هيكل واضح المعالم راسخ القواعد ، تتراص فيه المعارف الحكمية والمعارف الدينية ، وتشد فيه الفلسفة الشريعة على أنها خادمة لها ، كما هو مذهب الأشعري ، لا على أنها مسيطرة عليها كما كان مذهب المعتزلة وأعان على ذلك جودة فهم الحكمة وحسن تنقيتها منذ تدفقت ينابيعها الصافية في كتب أبي علي بن سينا التي كان إشعاعها في مطلع فجر القرن الخامس.
كان هذا التسلسل العجيب للأحداث ، وهذه الحركة من الدفع والرد ، التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون ، تأخذ في خضمها ، على السواء ، العرب والأعاجم ، قد كانت تهيئة لأن يطلع في منتصف القرن السادس كوكب عربي في الأفق الأعجمي ، يكون قطب الاهتداء الذي توجهت به الحركة الثقافية الإسلامية وجهتها الواضحة المطردة ، وبلغت به الحكمة القرآنية أوجها الأعلى في أفلاك الحكمة الإنسانية العامة.
أليس هو الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الخطيب الرازي المولود سنة 543هـ والمتوفى في سنة 606هـ .(1/70)
وهو عربي قرشي من سلالة سيدنا أبي بكر الصديق ، نشأ في البلاد الأعجمية وعاش فيها.استقرت أسرته أولاً بطبرستان ، وكان مولده في مدينة الري ، وهي العاصمة الكبرى يومئذ ، لبلاد العراق العجمي شرقي سلسلة الجبال الإيرانية الكبرى.
وقد بادت الآن ، وتوجد خرائبها على مقربة من مدينة طهران عاصمة إيران.
وينسب إلى مدينة الري كثير من مشاهير العلماء في فنون الثقافة الإسلامية ، وصيغة النسب إليها (الرازي على خلاف القياس).
ولذلك كثيراً ما يخطئ بعض الكاتبين فيحسبون كلمة الرازي لقباً لشخص واحد ، فربما اختلط عليهم أبو بكر الرازي الفقيه الحنفي ، المعروف بالجصاص ، بأبي بكر بن زكريا الرازي عالم الطب والكيمياء ، وبمترجمنا الإمام فخر الرازي.
تنقل الإمام فخر الدين في البلاد الأعجمية من الري إلى خراسان ، إلى خيوة وبخارى ، وعامة بلاد ما وراء النهر ودخل البلاد العربية: العراق والشام ، كما استفدنا ذلك من تفسيره وإن لم ينص عليه أحد من مترجميه.
وكان أكثر استقراره وتدريسه بخوارزم وهي مدينة خيوة شرقي بحيرة قزوين ، ثم استوطن مدينة هراة من البلاد الأفغانية وكانت وفاته فيها.
واكتمل حظه من مواد الثقافة الإسلامية فنشأ محلقاً في أفقها بجناحين: من اللغة العربية واللغة الفارسية ، إذ أجادهما وتمرس بآدابهما ، واكتملت ملكته البيانية فيهما ، قال ابن خلكان: "له اليد البيضاء في الوعظ باللسانين العربي والفارسي".(1/71)
كان تخرجه في أول أمره بعلوم الحكمة اليونانية ، ثم ضم إليها علوم الكلام ، والأصول ، والفقه على مذهب الشافعي ، وعلوم العربية ، فأصبح علماً مفرداً في الجمع والمزج بين الفنون ، وسهولة هضم بعضها ببعض ، وبذلك علت سمعته وعظم صيته وتمكن من سلوك طريقة في التأليف والبحث والعرض ، انفرد بها ، وأفاد منها كل فن من خصائص الفن الآخر ، فأصبحت طريقته المنهج الثقافي التعليمي الذي عم أقطار الإسلام ، وسرى في لغات الثقافة الإسلامية كلها ، على توالي العصور.ومن هنالك أصبح معروفاً بلقب (الإمام) إذا أطلق عند المتكلمين والأصوليين انصرف إليه.
وعلى تلك الطريقة البديعة صدرت كتبه الكثيرة الجليلة المفننة في التفسير ، والكلام ، والأصول ، والفقه ، والنحو ، والأدب ، والفلسفة ، والطب ، والهندسة ، والفلك.
فكان بدروسه ومواعظه ، ومناظراته ، وكتبه مظهراً لرقي الثقافة الإسلامية ومتانة أسسها ، وحجة قاطعة على انتصار المبادئ الإسلامية في كل ناحية من نواحي المعرفة ، اعتز الناس في حياته شرقاً وغرباً بعجيب عبقريته وشدت إليه الرحلة ، وتفنن في مديحه الشعراء ، واختص من بينهم بذلك شاعر الشام والرحالة شرف الدين بن عنين ، وقد كان من تلاميذه بمدرسة خوارزم ، وهو الذي يقول في رثائه:
ماتت به بدع تمادى عمرها
دهراً وكان ظلامها لا ينجلي
وعلا به الإسلام أرفع هضبة
ورسا سواء في الحضيض الأسفل
وقد جعل الإمام الرازي غايته من تلك المنزلة العلمية العليا ، المتساوية الدرجات بين موارد الثقافة والمعرفة: أن يضع القرآن العظيم موضع الدراسة والبحث والتحليل على منهج يرى تفوق الحكمة القرآنية على سائر الطرائق الفلسفية ، وانفرادها بهداية العقول البشرية إلى غايات الحكمة ، من طريق العصمة.(1/72)
وقد كتب في وصيته التي أملاها عند احتضاره: "لقد اختبرت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله ، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات ، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك الحقائق العميقة ، والمناهج الخفية".
وعلى هذا الأساس من إبراز حكمة القرآن والبرهان على سموها وأمن مسلكها أقام فخر الدين الرازي تفسيره الكبير.
***
تفسير الإمام الرازي
آمن فخر الدين الرازي بفكرة أشهر بها قلبه وهام بها لبه ، وهي أن الحكمة القرآنية أسمى وأسلم من جميع الطرائق الكلامية ، والمذاهب الفلسفية فانطلق يقرر فكرته للناس ، وينادي بها على روؤس الأشهاد.متحدياً أهل المعارف الطبيعية والفنون الفلسفية ، بأن الذي اندرج في القرآن العظيم من علومهم وفنونهم ، هو أعلى وأصلح مما يخوضون فيه ، ويتهافتون عليه.(1/73)
وكانت الطريقة المثلى في نظره ، لإدراك ما في القرآن من أسرار حكيمة ، وبث ما تضمنه من مطالب فلسفية وعلوم طبيعية ، إنما هي طريقته الكلامية المختارة المتبعة لمنهج الغزالي ، وإمام الحرمين ، والباقلاني ، وأبي إسحاق الإسفرايني ، والإمام أبي الحسن الأشعري ، فلذلك كان يرى: أن الطريقة الأخرى ، وهي طريقة المعتزلة ، هي التي عطلت القرآن عن أن تفيض على الناس غيوثه الحكيمة وأن المعتزلة لما آمنوا بالحكمة اليونانية ، حجبوا عن الوصول إلى أسرار القرآن ، فأصبح مبلغهم في تفسيره ، تحقيق أعاريبه ، وتحليل تراكيبه ، وبيان ما اشتمل عليه: من بديع النكت ، وبليغ الأساليب ، على نحو أبرز عليه الزمخشري تفسيره الكشاف ، وقبله أبو إسحاق الزجاج ثم الشريف المرتضى ، فاستقر حكمه أخيراً على أنه: ما دام المعتزلة مستحوزين على طريقة التفسير النظري ، وما دام أسلوبهم مسيطراً عليه ، فإن القرآن لا يزال محجوباً عن أفكار أهل المدارك الحكيمة ، تحول بينهم وبين لبه بحوث في القشور النحوية ، وتقارير للقوالب البلاغية ، هنالك ناشد نفسه ، وناشد الناس ، أن يغوصوا على منابع القرآن ليفجروا منها سيولاً فياضة يستطيعون أن يغترفوا منها حكمة صافية: هي روح الهداية التي جاء القرآن ينير بها العقول ، ويشرح لها الصدور.(1/74)
ولاقت هذه الدعوة استغراباً وإنكاراً ، فأصبحت نظريته محل بحث ، ومجال أخذ ورد ، بينه وبين معاصريه من المتبعين والمخالفين.وانتصب الإمام الرازي يبرهن على نظريته ويستدل لها ، ويضرب عليها الأمثال ، حتى جرى في بعض دروسه يوماً مثال مضروب على ما حيل بين الناس وبين عوالي الحكمة القرآنية ، فادعى أن سورة الفاتحة وحدها يمكن أن يستنبط من فرائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة ، فزاد الناس استغراباً لتلك الدعوة ، ولجاجاً في معارضتها وحملوا ذلك كما يقول هو بلفظه: "على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني ، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني" فاضطره ذلك إلى أن يبرز في معرض التطبيق ، ما كان يقرره في حيز النظر.وأقدم على تصنيف كتاب في تفسير سورة الفاتحة: استهله بمقدمات ذات خطط منهجية تنتهي إلى إثبات أنه لا عجب في أن تستنبط تلك المسائل الكثيرة ، من الألفاظ القليلة فأخذ مثلاً قوله تعالى: { ????? ??????????????? } وبين أن الوجود ليس محصوراً في العالم الذي ضبطت أحواله المخارف الإنسانية ، لأن الخلاء الذي لا نهاية له خارج هذا العالم ، صالح لأن يشتمل على الآلاف من العوالم الأخرى وأن يحصل في كل واحد من تلك العوالم ، مثل ما حصل في عالمنا هذا وأعظم وأجسم من ذلك وأنشد قول أبي العلاء المعري:
يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هين على اللّه ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر(1/75)
وإن الإنسان لو ترك تلك العوالم واقتصر على أن يحيط علمه من هذا العالم فقط ، بعجائب المعادن ، واقتصر على عجائب أحوال النبات ، وعجائب أقسام الحيوانات لنفذ عمره في أقل القليل من هذه المطالب ، فلا ينتهي إلى غورها ، مع أن ذلك كله بعض قليل مما يندرج تحت قوله: { ????? ??????????????? } وانتهى من هذه البراهين التمهيدية إلى أن سورة الفاتحة مشتملة على مباحث لا نهاية لها ، وأن القول بأن تلك المباحث عشرة آلاف ليس إلا تقريباً للأفهام من السامعين ، لأنها فوق ذلك بكثير.
وبعد تأصيل تلك القواعد المبدئية ، تناول سورة الفاتحة ، مبتدئاً بتفسير الاستعاذة والبسملة.ومتتبعاً السورة بالتحليل وتقليب الأوجه ، وبيان معاقد المعاني وطرق استنباطها ، حتى أخرج في تفسير سورة الفاتحة وحدها كتاباً جليلاً.
وبالانتهاء من هذا الكتاب المخصوص بسورة الفاتحة شرع في تأليف كتاب آخر في تفسير سورة البقرة ، على تلك الطريقة نفسها ، ثم اطرد ينتقل من سورة إلى سورة على ترتيب المصحف الشريف جاعلاً تفسير كل سورة كتاباً مستقلاً ، وسائراً في تفسير السور كلها على المنهج الذي وضعه في تفسير سورة الفاتحة ، وكأنه استغنى بالمقدمات التي مهد بها لتفسير سورة الفاتحة عن العود إلى بيان منهجه فكان يتناول كل سورة افتراعاً ، مبتدئاً ببيان الفوائد المستنبطة من أول كلام فيها.غير أنه في أثناء سورة الأعراف ، لما بين تفسير قوله تعالى:
{ ?????????? ??????????? ??????????? ????????????? ????????? ???????????? ???????????? ????????????? ????????????? ?????????????? }
(الأعراف : 54)(1/76)
لما تكلم على حركة الأفلاك وصورها ومدى حركات الكواكب الثابتة واستشعر استغراب المطالع جلب تلك المسائل المغرقة في علم الهيئة والفلك ، فوقع له أن عاد إلى التنويه بمنهجه ، والتعريض بأصحاب التفاسير الآخرين ، بكلام لو وضع في أول الكتاب لكان أبلغ مقدمة له ، ببيان منهجه وغايته ، حيث قال: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى ، وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم ، وذلك على خلاف المعتاد.فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته".
وقرر ذلك بوجوه: اعتماداً على أن الله تعالى ملأ كتابه الحكيم بمثل تلك الاستدلالات الكونية ، وبين في ذلك من عجائب الخلقة ، ومدح المتفكرين فيها وأن الناس في ذلك التفكير على درجتين: منهم من يكتفي بالاستدلال الإجمالي ، ومنهم من يسمو إلى الاستدلال التفصيلي ، وأن لكثرة الدلائل وتواليها أثراً في تقوية اليقين ، وإزالة الشبهات.وختم هذا البيان بقوله: "فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار ، لا لتكثير النحو الغريب ، والاشتقاقات الخالية عن الفوائد ، والحكايات الفاسدة.نسأل الله العون والعصمة".
وببيان هذا المنهج ، الذي سار عليه الإمام الرازي ، يتضح أن إعجاز القرآن كما كان غير محصور في وجه إعجازه البلاغي ، وإنه يتجلى في أوجه أخرى غيره: منها الإعجاز العلمي والإعجاز الغيبي ، على ما صرح به القاضي عياض في الشفاء ، وعلى ما أشار إليه من قبل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه " إعجاز القرآن " ، وأنه إذا كان تفسير الزمخشري قد تكفل ببيان وجه الإعجاز البلاغي ، فإن معظم ما يرجع إلى الوجهين الآخرين من الإعجاز لم يتكفل به إلا تفسير الرازي ، وذلك ما تعم به حجة إعجاز القرآن جميع أهل العقول والمعارف ، من العرب وغيرهم ، وينادي به برهان إعجاز القرآن في عموم اللغات.(1/77)
وإذا كان بعض الناس لم يزل في شك من القيمة السامية لهذا التفسير ، فإن كلمة قديمة لاكتها الألسن ، قد كانت من أعظم أسباب هذا الشك.وذلك ما راج في مجالس العلماء ، قديماً وحديثاً ، من أن "تفسير الرازي قد اشتمل على كل علم إلا التفسير".
فإنها كلمة صدرت عن غير رواية ولا تحقق ، وانبنت على مقارنة سطحية بما أشار إليه فخر الدين نفسه: من تلك الطريقة المألوفة التي التزمت في التفسير من قبله وهي طريقة تحليل التركيب والغوص على مناحي الاستنباط منه.وإنها لا محالة طريقة جليلة لا غنى عنها لطالب التفسير على وجهه الأكمل.ولكنها ليست هي كل التفسير ، بل نستطيع أن نقول: إنها تدخل في مقدمات التفسير لا في نتائجه.وقد نوهنا ، فيما مضى ، بتفسير الكشاف تنويهاً عظيماً.ولكن ذلك لا يحملنا على أن نتعصب لطريقة الكشاف على ما فيها من إتقان وإبداع ،حتى نغض من منزلة تفسير الفخر الرازي ، كما يطمح في الغض منها كثير من المتعصبين لتفسير الكشاف.ولعل الإمام الرازي ، قد اعتبر الناحية اللفظية من تفسير القرآن آخذة حظها وزيادة ، في التفاسير الأخرى ، فجاء يولي عنايته الغاية المقصودة من ورائها ، التي وقفت دونها همم المفسرين.لا سيما وقد وضع كتابه كما بينا ، لغرض إقناعي معين.(1/78)
على أن الفخر الرازي لم يكن في ما أورد من مسائل العلوم جالياً إياها على وجه الاستكثار والاستطراد ، وإنما هو سائر في ذلك على طريقة قويمة ، تسير على اعتبار أن المطلوب الأول ، إنما هو معنى الآية ، إذ يأخذ في بيان مفادها الأصلي ، موقفاً على محل استخراجه من التركيب بحسب قوانين العربية ، ونكت بلاغتها ، مقتصداً في ذلك غير مسرف ، ثم يذهب في تربية ذلك المعنى وتوسيعه ، مذهب الإبانة والتفصيل ، مجتهداً في ربط أوصال الكلام ، وإحكام تسلسل المعاني ، والتنبيه على تولد بعضها من بعض ، حتى تنتهي بذاتها إلى المساس بمطالب حكمية ، ومسائل علمية ، يسوقها حينئذ على أنها حلق متممة سلسلة المعنى المرتبط بأصل المفاد القرآني ، على أحكم وجه من الربط.
فإذا كان الدارس المتخصص المكين في علوم العربية يهمه أن يتوسع في تحليل التركيب يسلك من ذلك إلى التوسع في تحرير المعاني ، فإن تفسير الزمخشري ، وتفسير الرازي ، يتكاملان لديه.
أما صاحب المنزلة الثقافية المطلقة ، من غير المتخصصين في علوم العربية ، فإن مفزعه لا يكون إلا إلى الرازي وحده ، وله في فخر الدين غنية.
***
تصحيح نسبة التفسير
إلى الإمام الرازي
كانت الأيام تعقد الجسر الواصل بين حد القرن السادس والقرن السابع ، وفي هذه الأيام انتصب الإمام فخر الدين الرازي يخرج للناس تفسيره العظيم.وقد جاءت نصوص هذا التفسير بذاتها ، مشتملة على ضبط التواريخ التي تم فيها تفسير سورة من القرآن العظيم ، كما كنا بينا من أن هذا التفسير مجزأ في أصله على السور على معنى أن تفسير كل سورة كتاب قائم بذاته.(1/79)
ولكن هذا العمل لم يشمل باطراد عامة السور ، فبعضها ختم ببيان الزمان ، وبعض آخر اشتمل على بيان الزمان والمكان معاً ، بل جاء في ختم بعضها تفصيل ظروف خاصة كانت تحيط بحياة المؤلف وأن الذي جاء مضبوطاً من ذلك ليمتد من سنة 595هـ إلى سنة 601هـ فهو لم يؤرخ ختام سورة الفاتحة ولا ختام سورة البقرة ، وإلى ما أرخ ختام سورة آل عمران إذ جاء في آخر الكلام عليها ما نصه: "تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة" ومضى في سور عشر بعدها سائراً على هذه السنة ، فقال في آخر الكلام على سورة النساء: "قال المصنف: فرغت من تفسير السورة يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وخمسمائة" ثم تخلفت العادة في آخر سورة الأنعام وآخر سورة الأعراف ، وعادت في آخر سورة الأنفال باحتفال أكبر إذ جاء في ختامها: "تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه يوم الأحد في رمضان سنة إحدى وستمائة في قرية يقال لها " بغدان " ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان وكيد أهل البغي والخذلان إنه الملك الديان وصلاته وسلامه على حبيب الرحمان محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان" ، واستمرت هذه العادة متتابعة غير منقطعة في السور التي جاءت بعد ، ففي آخر سورة التوبة: "تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر وفرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين".(1/80)
وكذلك سورة يونس وسورة هود وسورة يوسف وسورة الرعد وسورة إبراهيم وسورة الحجر ، وبانتهاء سورة الحجر انقطعت تلك العادة فلم يرد في آخر سورة بعدها ، من سورة النحل إلى سورة الناس تاريخ الانتهاء من سورة منها ، وكان آخر تلك التواريخ شهر رمضان سنة 601هـ أي قبل وفاة الإمام الرازي بخمس سنين.ويظهر من صريح التواريخ التي ثبتت فيما ثبتت فيه من السور أنه لم يكن متبعاً في تفسير السور ، سابقها ولاحقها ، ترتيبها في المصحف ، إذ كان تاريخ الانتهاء من سورة الأنفال وسورة التوبة رمضان سنة 601هـ وتاريخ الانتهاء من سورة يونس وهود بعدها شهر رجب ، وتاريخ الانتهاء من سورة يوسف والرعد وإبراهيم ، وهي متأخرة ، شهر شعبان ، وقد اختصت الأربع السور الوسطى منها وهي يونس وهود ويوسف والرعد ببث المؤلف عظيم أحزانه لحدث جلل نزل به وهو وفاة ولده.
وأول ما ابتدأ هذا البث في ختم سورة يونس إذ قال: "يقول جامع الكتاب: ختمت تفسير هذه السورة يوم السبت من شهر الله الأصم رجب سنة إحدى وستمائة وكنت ضيق الصدر كثير الحزن بسبب وفاة الولد الصالح محمد أفاض الله على روحه وجسده أنوار المغفرة والرحمة وأنا ألتمس من كل من يقرأ هذا الكتاب وينتفع به من المسلمين ، أن يخص ذلك المسكين بالدعاء والرحمة والغفران والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين".
فلم يزل يردد بثه وحزنه لذلك المصاب مسترحماً مستغفراً في أثناء السور وفي خواتمها منشداً الأشعار في رثائه ملحاً في سؤال المطالعين الدعاء للوالد والولد.
وكذلك شأنه في غير موضع من تفسيره يذكر من أحواله في مناظراته ورحلاته ويشير إلى خصائصه ، من اسمه واسم ابيه وظروف حياته ، ما يطور شيئاً كثيراً من سيرته ولا يبقي شكاً في أن صاحب ذلك التفسير هو الإمام محمد بن عمر الرازي ، فقد سمى نفسه في أثناء سورة الأعراف عند قوله تعالى:
{(1/81)
???????? ???????????? ????? ?????????? ????????????? ?????????? ????? ????????????? } (الأعراف : 130)
فقال: "قال محمد الرازي" وذكر اسم والده عمر في مباحث البسملة مسنداً عنه حديثاً بكلام للإمام أبي القاسم القشيري ، قائلاً: "سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر يقول سمعت الخ.."
وذكر رحلته إلى خوارزم ومناظرة جرت له هنالك ، في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى:
{ ??????? ????????? ????? ???? ??????? ??? ???????? ???? ?????????? } (آل عمران : 61)
قال: "اتفق لي حين كنت بخوارزم أن أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث" ، وساق جدله في مسألة ألوهية المسيح ، واستدل على بطلان ذلك بأوجه قال في ختام تقريرها: "وعند ذلك انقطع النصراني ولم يبق له كلام" وقال في تفسير تلك الآية نفسها: "كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم..".
هذه كلها شواهد على ما بين هذا التفسير وبين حياة الإمام الرازي من ارتباط ، فهو محمد بن عمر الرازي عاش في الري ، ورحل إلى خوارزم وناظر أهل الفرق وأهل الأديان ، وكان حياً في التواريخ التي وردت في التفسير وهي ما بين سنة 595هـ وسنة 601هـ بحيث لو فرضنا أن باحثاً من ذوي الأهلية وقع بين يديه هذا الكتاب ولم يأته منسوباً إلى مؤلف لتوصل من دراسته وفحصه إلى معرفة مؤلفه ، فجزم بنسبته إلى الإمام الرازي ، ولذلك لم يكن من العلماء ، أمام هذه الشواهد ، إلا جازم بأن الكتاب من وضع الإمام الرازي.(1/82)
زيادة على ما اشتمل عليه: من طرائق في البحث والبيان ، إلى مذاهب عرفت بنسبتها إلى الرازي ، وبسطت في كتبه الحكمية والكلامية والأصولية ، ومن ولع بتتبع تفاسير ومناقشتها من آثار العصابة التي لم يزل الرازي يتتبع مقالاتها ويهتم بمناقشة مذاهبها: وتلك هي تفاسير المعتزلة التي وضعت من تفسيرنا المبحوث فيه موضع الاعتناء بالنقل والتتبع والتمحيص: مثل تفسير الزجاج ، وتفسير الزمخشري ، وتفسير القاضي عبد الجبار ، وتفسير القاضي أبي مسلم الأصفهاني.
وزيادة على ما اشتمل عليه من أقوال وتنويه برجال عرف الإمام الرازي بما تقتضيه نسبته منهم من اعتماد عليهم وتنويه بهم ، وبخاصة إمام الحرمين والغزالي من المتكلمين ، وأبي علي بن سيناء من الحكماء.
ولقد ناقش مرة الغزالي في نزع نزعه غريب عن طريقته ، فصوب القول في ذاته ، واستبعد حمل الآية عليه في قوله تعالى:
{ ?????????? ????? ????????? ??????????? ????? ???????????? } (الأنعام : 76)
من سورة الأنعام وابتدأ حكاية القول مداعباً حجة الإسلام بقوله: "تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية".وكان يعرض بأن الغزالي وقع في منهج الحكماء الذي عابه عليهم ، وما أشبه ذلك بمداعبات القاضي أبي بكر بن العربي لأستاذه وحبيبه الإمام الغزالي في ما سلك فيه مسالك لا تتفق مع المبادئ التي دعا إليها وشنع على المخالفين فيها.
وإن وراء هذه الشواهد كلها لقوادح بعثت ولم تزل تبعث كثيراً من العلماء على الإمساك دون الجزم بأن التفسير بأكمله من تحرير الإمام الرازي ، والوقوف من هذه القضية موقف الاختيار.
وإن تلك القواح لتتلخص في نظرنا في ما اشتمل عليه الكتاب في مواضع ، من إسناد الكلام إلى الإمام الرازي إسناد ناقل عنه.
فقد تكرر أن ورد في التفسير "قال الإمام" أو "قال المصنف".(1/83)
ووقع قرن ذلك في مواضع بتنويه وتحلية من شأنها أن تصدر من غير المتكلم عن نفسه ، ففي آية الصدقات من سورة التوبة: "قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه ، هذه الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي..." وفي قوله تعالى:
{ ?????????????? ?????????????????? ?????????????????? ????????????????? ???? ????? ?????? } (التوبة : 31)
أيضاً: "قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه..." وأمر هذا القادح هين إذ يجوز أن يكون إدراجاً في صلب كلامه وهو شائع بكثرة في الكتب يقع من طرف الرواة ومن طرف الناسخين ، مع جواز أن يكون المنوه به في المثال الأخير غير الإمام الرازي ، وأن يكون الرازي حاكياً ذلك الكلام عن بعض شيوخه مثل البغوي.
لو لم تكن هنالك مثُل أدخل من تلك المعاني في معنى القادح: مثل ما ورد في سورة الواقعة في قوله تعالى:
{ ????????? ????? ????????? ???????????? } (الواقعة : 24)
من عبارة بالغة الغرابة وهي قوله: "المسألة الأولى أصولية ذكرها الإمام فخر الدين ــ رحمه الله ــ في مواضع كثيرة ونحن نذكر بعضها" ثم قال: "وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين ــ رحمه الله ــ بأجوبة كثيرة وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه".(1/84)
وجمعاً بين الأدلة الناشئة من اعتبار الشواهد والناشئة من اعتبار القوادح مال كثير من المحققين إلى تتبع المواقع التي بدت فيها القوادح ، فوجدوها منحصرة في أماكن متأخرة في الترتيب عن التي ظهرت فيها الشواهد ، فجزموا بأن أول الكتاب من وضع الرازي وأن آخره من إكمال غيره واعتضدوا لذلك بأن الأقربين إلى عصر الرازي من مترجميه ذكروا أنه لم يكمله وفي مقدمتهم ابن خلكان وقد عين صاحب كشف الظنون اثنين ذكر أن أحدهما صنف تكملة له ، وذكر أن الآخر أكمل نقصه ، ويظهر أن التكملة كتاب مستقل ولكن إكمال النقص هو الأجدر بأن يحمل على ما اتصل بوضع الرازي ، وذلك ما نسبه صاحب كشف الظنون إلى القاضي شهاب الدين الخوبي الدمشقي المتوفى سنة 639هـ وهو قريب عهد من الإمام الرازي ، ولايبعد أنه من تلاميذه ، والذي يبدو في نظرنا فيصلاً بين ذلك كله: أن الرازي لما انتصب في آخر حياته لتصنيف التفسير تمكن من إخراج شئ منه في تحريره النهائي وبقي شئ في الأمالي والمسودات بيد بعض تلاميذه ، فأقبل على تصنيفه وتحريره ، وألحق في ذلك الفرع بالأصل. فالكتاب بروحه هو للرازي كله وبتحريره هو من وضعه في الأول ووضع تلميذه الخوبي في الآخر.على أن تحقيق محل الفصل بين التحريرين أمر لا دليل عليه ولا سبيل إلى تحقيقه بالقطع ، لا سيما وبين أيدينا أدلة على أن تفسير الرازي قد كان ذكره شائعاً ونصه مفقوداً في أوائل القرن الثامن ببلاد العجم كما ورد ذلك في كلام للإمام شرف الدين الطيبي في حاشيته على الكشاف نقلاً عن والده ومن ذلك يستقرب أن مطلع النص التحريري للكتاب إنما كان من الشام ، موطن الشهاب الخوبي بحيث لم ينتشر في أقصى بلاد العجم إلا في القرن الثامن.
*****
تفسير البيضاوي(1/85)
كان فخر الدين الرازي ، بتفسيره الكبير: " مفاتيح الغيب " فاتحاً كبيراً: تهجم بمداركه القوية على مجال علم التفسير فوجده مجالاً لطائفتين من أهل الثقافة الإسلامية ، منحصراً تحت سيطرتهم ، هما: طائفة المحدثين ، وطائفة الأدباء ، يتجاذبونه بينهم ، متنازعين تارة ، ومتقاسمين أخرى ، فشن غارته ، على المحدثين وعلى الأدباء جميعاً ، وانتزع الميدان منهم انتزاعاً وغلاباً فساد عليه وحازه متصرفاً فيه ثم استحقه وأورثه أخلافه من بعده: رجال الأصلين: أصول الدين ، وأصول الفقه.
فاصطبغ علم التفسير من هذا الاستحقاق بصبغته الجديدة ، في مطلع القرن السابع ، إذ تقرر ثبوته لأهل الحكمة الدينية وارتفع عنه امتلاك أهل الحديث وأهل العربية ، وبذلك اتجهت كتب التفسير وجهة جديدة ، وضعت العلم في نصاب غير الذي كان موضوعاً فيه ومكنت منه أيدياً لم تكن هي المتعاطية له من قبل فنشأ له من اختلاف النصاب ، واختلاف المتعاطين ، وضع اختلف به عن وضعه السابق اختلافاً بيناً ، وتطلب هذا الوضع معارض ومجالي يتمثل فيها الكيان الجديد الذي ثبت للتفسير في وضعه الجديد.
فكانت تلك المعارض والمجالي هي التفاسير التي ابتدأ ظهورها متسلسلة متواصلة ، في أثناء القرن السابع ، وأبى الله إلا أن يكون مطلعها من ذلك الأفق الزاهي بكواكب التفاسير ، على الوضع السابق ، وهو الأفق المشرقي الأعجمي ، إذ كان ابتداء مطلعها هنا من مدينة تبريز في الشمال الغربي للبلاد الإيرانية على يد القاضي ناصر الدين البيضاوي.
كان البيضاوي ناشئاً على تلك الطريقة الفقهية الشافعية ، المخططة على الجمع بين عناصر الثقافة الإسلامية ، تخطيطاً أصله الجمع بين أصول الدين وأصول الفقه ، وضم علوم العربية والأدب إلى علوم الشريعة والحكمة.(1/86)
أصله من شيراز ، في جنوبي إيران ، وبها كانت نشأته العلمية الأولى ، وبها تخرج في الفقه والأصول والأدب والمنطق والحكمة ، على الأسلوب الأعجمي الذي يجمع بين العلوم المختلفة بالترقي في درجاتها المتقابلة ، وتحقيق بعضها ببعض تحقيقاً يهدف إلى تكوين الملكة العامة ، المتصرفة بالتحصيل ، والتحليل والاستنتاج والبحث في العلوم ، على نسبة واحدة ، وتحرير قوالبها التعبيرية ، على منهج متحد ، وأسلوب مطرد.
فدرج البيضاوي وراء الغزالي ، والإمام الرازي ، والأرموي ، وأخرج على طريقتهم ، وفي ظل ما سبق من تآليفهم ، تآليفه المشهورة السائرة وهي: " الغاية القصوى في دراية الفتوى " مختصر معتمد في فروع الفقه الشافعي ، اعتنى به فقهاء الشافعية ، وكثرت شروحهم عليه.
وكتاب " طوالع الأنوار " في علم الكلام وهو مشهور شهرة ذائعة ، وكتاب " الصباح " في الكلام أيضاً مشهور مشروح ، وكتاب " المنهاج " في أصول الفقه ، واسمه: " منهاج الوصول إلى علم الأصول " وهو عظيم الشهرة ، واسع الرواج ، كتب عليه كثيراً من عصر تأليفه إلى القرن الحاضر ، ولم يزل عمدة الدراسة في أصول الفقه منذ القرن الثامن إلى اليوم.وشرح البيضاوي كتاب " مصابيح السنة " شرحاً ذكره السبكي في طبقات الشافعية.(1/87)
ولما كان تفسير القرآن ثمرة طول المراس لمختلف مواد الثقافة الإسلامية.ومؤسساً بالخصوص على الضلاعة في أصول الدين وأصول الفقه ، على ما بناه الإمام فخر الدين الرازي ، فإن القاضي البيضاوي قد أقبل على تفسير القرآن في الحقبة الأخيرة من حياته: حقبة الاستقرار في تبريز ، بعد الانتقال إليها من شيراز وهي الحقبة المتصلة بموته ، وقد كانت وفاته في تبريز سنة 685هـ فإذا لاحظنا ــ بالاعتماد على ما أفاده السبكي في طبقاته ، ومشى عليه صاحب كشف الظنون ــ أن انتقال البيضاوي إلى تبريز كان بعد أن تقلد منصب قاضي القضاة في شيراز ثم صرف عنه ، فإن هذا يقتضي أن الانتقال إلى تبريز قد كان حوالي سنة 650هـ ، وبذلك يكون تأليف تفسير البيضاوي في النصف الثاني من القرن السابع بمدينة شيراز.
وقد اعتمد البيضاوي في دراسته القرآن العظيم لتحرير تفسيره على التفسيرين العظيمين: وهما تفسير الكشاف للزمخشري ، والتفسير الكبير للفخر الرازي ، فجعل اعتماده في بيان الألفاظ والتراكيب وتحليل المباني لاستخراج نكت المعاني على تفسير الكشاف ، واعتمد في إبراز روح الحكمة القرآنية وعرض نظرياتها من نواحي الفلسفة وأصول الدين وأصول الفقه على المرجع في ذلك وهو تفسير الإمام الرازي.
وقد رأينا أن البيضاوي كان يتوخى اتباع الإمام الرازي ويتوخى مسالكه في عامة تأليفه ، واعتمد في تحرير المعاني الذوقية ، واستجلاء نكت الإشارات إلى دقائق المعارف على تفسير الراغب الأصفهاني ، من مشاهير المفسرين من أهل السنة في القرن الرابع ، وهو كتاب " مفردات القرآن " المطبوع المشهور وإن كان المؤلف واحداً.(1/88)
وحلل البيضاوي في تفسيره ما جمع من أفكار المتقدمين وبحثها ونقدها واستخرج منها أحكاماً ، واستظهارات شخصية ، وأبدع في كثير من الأحكام والاستظهارات ، ما استقل به وانفرد بتحقيقه ، وربما جمع الأوجه المتعددة والاحتمالات المختلفة ، فرتبها بحسب الرجحان وأشار إلى ما هو المعتمد منها ، وما هو ضعيف أو مردود ، وسبك تلك الأنظار البعيدة ، والتحارير العالىة سبكاً دقيقاً رقيقاً ، بناء على تنقيح العبارات وضبطها وتهذيبها واختصارها الاختصار المحكم ، القابل للبسط والإيضاح ، على ما هي الطريقة المختارة المسلوكة يومئذ في تحرير العلوم ، وهي المشتهرة عند العلماء بـ" الطريقة الأعجمية ".
ومن هنالك أصبح تفسير البيضاوي: بمحتواه ، ومنهجه ، وأسلوبه ، أثراً سامي القيمة أسدى به القاضي يداً بيضاء للباحثين والدارسين ، إذ قرب منهم المستعصى ، وجمع لهم المتفرق ، وضبط لهم تحرير غير المحرر ، وسمى كتابه هذا " أنوار التنزيل وأسرار التأويل ".
فأحله الناس منذ بروزه واشتهاره ، في النصف الثاني من القرن السابع ، محل الاعتماد والإقبال ، وعكفوا عليه عكوفهم على المرجع الأصلي للتفسير ، إذ امتاز بالجمع بين التفسيرين المتكاملين اللذين لا يستغني الدارس المتقن ، والباحث المستبحر ، بأحدهما عن الآخر ، وهما: الكشاف ، وتفسير الرازي ، بما أفاد بالنسبة إلى الكشاف من ضبط مقاصده البيانية على مصطلح واضح مألوف ، ثم من تخليصه من النزعات المذهبية الاعتزالية التي ينزع الزمخشري إليها وإن كان قد ساير صاحب الكشاف في أمور عدها المعلقون عليه عداً لمآخذ لكونه جرى فيها على خلاف الأصول الأشعرية ، ولم يخلص فيها كلام الكشاف من نزعته الاعتزالية.
أما بالنسبة للإمام الرازي فقد أفاد فيوضه المتدفقة المسهبة ضبطاً واختصاراً وتحصيلاً ، في ما له في مواضع من نبوة أو قصور عبارة ، أفاده دقة وتحقيقاً ، وتعبيراً رشيقاً.(1/89)
وبذلك فإن تفسير البيضاوي ، على ما يبدو عليه من اختصار ، وما يتبادر لمتناوله بادئ الرأي من بساطة ، قد أصبح كتاباً عميق الغور ، صعب المراس ، ثري المطاوي ، محتاجاً تقريره إلى الرجوع إلى مواده ، وبخاصة أصليه العظيمين: تفسير الزمخشري وتفسير الرازي ، فأصبح تدريسه ميداناً للملكات الراسخة ، ومجالاً لقوة العوارض ، ونفوذ الأنظار ، وسمو البيان ، وتتابعت العناية به لذلك: تدريساً ، وتخريجاً ، وتأليفاً ، فزيادة على الكتب التي ترجع إليه أصالة من الحواشي والتعاليق ، التي لا تكاد تدخل تحت حصر ، فإنه ما من مفسر للقرآن في القرن السابع وما بعده ، إلا وتفسير البيضاوي في طليعة مراجعه.
***
قيمة تفسير البيضاوي
اعتبر تفسير البيضاوي ، مبلغ المنهج العلمي في تفسير القرآن ، إلى ذروته.
فكان بروزه عندما اكتمل نمو الثقافة الإسلامية ، وتفتقت فيها أفانين المعرفة ، وتفتحت أزهارها.
وكان انبناؤه على أساس الحكمة السنية الأشعرية ، التي ثبت أصلها ، ورسخت دعائمها ، بما بوأ لها الباقلاني ، والإسفرايني ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والمازري ، وابن العربي ، وعياض ، والإمام الرازي: من منزلة مكينة تساقطت دونها منازل المناهج الكلامية المخالفة ، حتى اندرجت تحت التراب.
وكان المنهج المتبع في تصنيف البيضاوي ، والأسلوب المحتذى في تحريره: هما المنهج والأسلوب اللذين جرى عليهما مصطلح التآليف العلمية في عامة الفنون ، من أول القرن السابع: من حيث الاختصار ، ودقة التعبير ، والتزام المصطلح العلمي ، والإشارة إلى ما يتفرع عن التعبير من معان يُكتفى بحضورها في الذهن عن ذكرها ، ثم تؤخذ مباني لما يأتي به التعبير بعدها..
فأصبح من مجموع هذه الخصائص لتفسير البيضاوي ميزة واضحة ، مزجت بين طريقته ومألوف الطباع ، ومتعلق الميول يومئذ: من طرائق شاعت في التأليف ، وبنيت عليها المناهج الدراسية.(1/90)
وبذلك عظم صيت الكتاب ، وطار ذكره ، وأقبل الناس عليه ، إذ وجدوا فيه الضالة المنشودة من التفسير العلمي على الطريقة التحليلية اللفظية ، التي عظمت بها من قبل شهرة تفسير الكشاف ، لا سيما والبيضاوي قد مشى مع تفسير الكشاف في ما يحب الناس منه ، وخلص أو كاد ، مما ينفرهم من الكشاف ويباعد بينه وبينهم على نحو قول الأحوص:
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسماً إليك مع الصدود لأميل
وإنه لما يلاحظ في هذا الصدد: أن تفسير الكشاف لم يعظم رواجه ، ويتعلق به علماء السنة هذا التعلق المزيج من الحب والحذر ، إلا في ذلك القرن السابع ، إذ انصرف الكاتبون إلى التعليق عليه بالتنبيه على مواقع الأنظار الاعتزالية منه ، وتمييزها ، وردها ، إذ ظهر من هؤلاء في النصف الثاني من القرن السابع ، معاصرون للبيضاوي أو متقدمون عليه بقليل ، أمثال ابن المنير الإسكندري صاحب " الانتصاف ".فكان بروز البيضاوي بتفسيره ملخصاً من الكشاف ، زائداً عليه ، مبرأ من سقطاته ، برداً وسلاماً على تلك القلوب التي كانت تهفو إلى الكشاف وتتهيبه.
وبذلك أصبح تفسير البيضاوي ، منذ اشتهاره ورواجه ، مروجاً للكشاف ، مدخلاً إياه في معاهد وبيئات علمية لم يكن يتصل بها من قبل.
لأن الدارسين للبيضاوي قد تعلقوا ، في سبيل إتقان دراسته ، والوفاء بحق البيان لإشاراته ، والكشف عن مرامي عباراته ، إلى الوقوف على كلام صاحب الكشاف وتتبعه وتحليله ، فأصبحت دراسة البيضاوي دراسة للكشاف بواسطة.وبذلك لم تتوفر حواشي الكشاف إلا في القرن الثامن وما بعده ، ولم تطلع غالباً إلا من الآفاق العلمية التي كانت مستنيرة بالبيضاوي وتأليفه.(1/91)
بحيث أصبحت الأنظار متجاذبة ، والبحوث متبادلة ، باطراد ، بين حواشي الكشاف وحواشي البيضاوي كأن محرريها مجتمعون في مجلس واحد ، على نحو ما يُرى من مباحث جدلية بين حواشي ابن التمجيد ، والعصام ، وسعدي ، وعبد الحكيم السيالكوتي على البيضاوي.مع حواشي الطيبي والقطبين: الرازي والشيرازي ، والسعد التفتازاني والسيد الجرجاني على الكشاف.
حتى إن كلام الواحدة من تلك الحواشي ، على الكشاف كانت أو على البيضاوي ، لا يكاد يتضح معناه إلا بالوقوف على كلام الأخرى من حواشي البيضاوي أو حواشي الكشاف كذلك.(1/92)
وما هذا المعنى من النماذج إلا أثر تلك الدروس الحافلة لتفسير البيضاوي التي استوعب فرسان ميادينها ما حول الكتابين: تفسير البيضاوي والكشاف فعرضوها في معرض التقرير الحكيم ، ثم ناقشوها بالنقد والمقارنة والمعارضة ، حتى اتصل ما بين بعضها وبعض في تلك المجالات التقريرية العالية ، اتصالاً كون بينها لحمة نظرية ، فجعلها عناصر وحدة موضوعية متكاملة ، وبذلك كان كل جيل من أجيال العلماء ينقضي يترك وراءه من تلك البحوث الصعبة أوقاراً على ظهور الجيل الناشئ يزيد بها تدريس البيضاوي على متعاطيه مشقة وصعوبة ، حتى أصبح تدريسه منتهى مبلغ الهمم العالية ، وميزان الملكات والمواهب ، فوضع في أعلى الهيكل الهرمي لمواد التخرج في العلوم الإسلامية ، وعمت منزلته تلك أقطار الإسلام في المشارق والمغارب ، فتأصلت منزلته أولاً في الشرق الأوسط ، والشرق الأقصى ، وانتظم في المناهج الدراسية ببلاد فارس ، وبلاد الأفغان ، والأقطار الهندية ، ثم كان في جملة ما تسرب من الملتزمات التعليمية من البلاد الفارسية إلى آسيا الصغرى وعموم الممالك العثمانية واشتهر بمصر من قبل الفتح العثماني إذ كان من الكاتبين عليه من العلماء المصريين ، في أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر ، القاضي زكريا الأنصاري ، والإمام السيوطي ، وعظم شأنه في القرن العاشر بانتظام أهم معاهد العلم في البلاد العربية في تاج الخلافة العثمانية ، وخاصة الجامع الأزهر ، وجامع الزيتونة.
وبذلك تقاربت مناهج التعليم ، بين البلاد الإسلامية كلها ، على الطريقة الأعجمية ، فأصبح تفسير البيضاوي ملتزم التدريس من أقاصي الهند إلى المغرب الأقصى ، وزاد اعتزازاً بالحاشيتين الشهيرتين اللتين كتبتا عليه:(1/93)
إحداهما بلاهور عاصمة بلاد البنجاب من الباكستان الغربية وهي: حاشية المحقق عبد الحكيم السيالكوتي ، التي سارت مثلاً في التحقيق ، والتحليل ، وصواب النظر ، ورشاقة العبارة ، والإغراق في الإشارة حتى اعتبرت عنقاء الدارسين وآبدة الناظرين.
والحاشية الثانية من حواشي القرن الحادي عشر: هي حاشية العلامة المصري ، الأزهري النشأة ، شهاب الدين الخفاجي ، التي سماها: " عناية القاضي وكفاية الراضي " وهي تامة ، بخلاف حاشية عبد الحكيم ، وواسعة ، كثيرة المباحث والفوائد ، وسعت دائرة تفسير البيضاوي علماً ، أكثر مما وسعتها نقداً وبحثاً.
وإن الذي عد في كتاب كشف الظنون فقط ، من الحواشي والتعاليق على تفسير البيضاوي ، ليقرب عده من خمسين ، فضلاً عما لم يذكر فيه مما كتب بعد ، مثل الحاشيتين الهامتين: حاشية عبد الحكيم وحاشية الخفاجي.
على أن القاضي البيضاوي لم يسلم من أمر وقع فيه قبله صاحب الكشاف ، وتهاون بأمره العلماء بعد القرن الثامن: وهو عدم التحري في درجة الأحاديث التي يوردها ، معرضاً بما عليها من النقد والتزييف ، وما يتصل بها من مباحث التجريح والتعديل ، وذلك أمر أخذ عليه بحق وإن حاول صاحب كشف الظنون تخفيف أمره عليه ، فإن الشهاب الخفاجي لم يزل يعلق على حديث مما أورده البيضاوي بأنه موضوع ، وخاصة أحاديث فضائل السور ، وقد ألف المحدث الشامي الشيخ عبد الرءوف المناوي كتاباً في تخريج تلك الأحاديث: سماه " الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي " فكان شأن البيضاوي شأن غيره من أعاظم العلماء الذين تهاونوا بذلك ، فأخذ عليهم أخذاً لم ينجهم منه تأويل المتأولين.واعتذار المعتذرين.
*****
تفسير ابن عرفة
في حين اصطبغت الدراسة في الشرق الإسلامي بصبغة البحث الشكلي ، والتحليل اللفظي واتجهت إلى صياغة التأليف والتحرير ، فولت وجهها شطرها ، واتخذت مناهج المؤلفين وعباراتهم مواضيع للبحث ومواد للتقرير.(1/94)
وتكيفت صناعة التأليف بما اقتضته تلك المناهج ، حتى شاع فيها الاختصار ، والتزمت دقة التحرير ، وصار الكتاب الواحد غير صالح للاستقلال بذاته في الدراسة حتى يرجع به إلى أصوله التي منها استقى ، ليتبين كيف اندرجت المعاني المشروحة المبسوطة في تلك القوالب المختصرة المكتفية بالإشارة عن العبارة.
في ذلك الحين كانت بلاد المغرب العربي ، متمسكة في التدريس بطريقة البحث الموضوعي والتحليل العنصري متجهة في التأليف وجهة الشرح والبسط غير آبهة لطريقة البحث اللفظي ولا ملتفتة في التأليف إلى المختصرات التي قامت فيها الإشارات مقام العبارات فكانت الدروس التي حفلت بها المدارس بطرابلس ، وتونس ، وقسنطينة ، وبجاية ، وتلمسان ، ومراكش ، وفاس ، وسلا ، ومالقة ، وغرناطة ، في القرن الثامن ، دروساً تختلف في منهجها ومادتها وأسلوبها عن الدروس التي كانت تذخر بها في ذلك القرن الثامن نفسه مدارس البلاد الشرقية ، وخاصة المدارس الأعجمية بأصبهان ، وشيراز ، وكرمان ، وهراة ، وكابل ، وسمرقند ، وبخارى ، وسرخس ، واستراباد ، أو المدارس الهندية في لاهور ، وسيالكوت ولكنو ، ودلهي وحيدر آباد ، وبلكرام وقيزوج ، أو المدارس الحديثة الظهور يومئذ في البلاد الرامية العثمانية من أدرنة وتفغنيسا ، وكوتاهية وقونية وأنقرة وقسطمولي وسيواس.
فكان منهج التدريس الشرقي شرحاً للكتب وتقريراً وتعليقاً.
وكان منهج التدريس المغربي دراسة للعلوم وبحثاً وإملاء ، وكانت بلاد الشرق العربي ملتقى لهذين المنهجين يتناظران بها حول الجامع الأزهر الشريف متجهاً أحدهما إلى الضفة الشرقية لوادي النيل ومتجهاً الآخر إلى الضفة الغربية له.(1/95)
فلا عجب إذا رأينا تفسير البيضاوي يشتهر ويسمو ، ويجر وراء اشتهاره وانتشاره انتشاراً جديداً لتفسير الكشاف ، أن نرى منهج دراسة التفسير في البلاد المغربية وخاصة بتونس منهجاً غير متكيف بما ينسجم مع الخصائص التي أشاعت تفسير البيضاوي ونفخت في شهرته ودفعت إلى الإقبال عليه.
فنجد دراسة التفسير بتونس سائرة على منهج الإملاء لا على منهج التقرير وذلك منهج غير الذي وضع عليه تفسير البيضاوي ومثله من الكتب المحررة بالاختصار.
ونجد العامل الذي رجح عند الدارسين الشرقيين تفسير الكشاف باعتباره مادة لدراسة البيضاوي حتى اشتهر كشاف الزمخشري شهرة غطى بها على ما عداه من كتب التفسير عاملاً غير متوفر في مدارس تونس وغيرها من المدارس المغربيات ، وهي التي كانت تجد كلها القدوة العظمى والمثل الأسمى في إمام التفسير والشريعة وفنون الحكمة الإسلامية الشيخ أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمي المتوفى بتونس سنة 803هـ .
فقد كان الناس في ذلك القرن الثامن الذي ملأه صيت ابن عرفة يشدون الرحلة من البلاد الأندلسية والبلاد الليبية وما بينهما من الأقطار الضاربة إلى البلاد السودانية وراء الصحراء الكبرى ليتتلمذوا لابن عرفة بتونس ويتخرجوا عليه.
وكان ابن عرفة من منتصف القرن الثامن منتصباً لتدريس التفسير إلى نهاية القرن ونهاية حياته هو.
فكان ابن عرفة طيلة نصف قرن أو أكثر غير منقطع عن درس التفسير كلما انهى ختمة منه أعاد ختمة جديدة.وكانت أفواج الطلبة المتخرجة بين يديه في ذلك الدرس أجيالاً متعاقبة متتالية كلما تخرجت منها طبقة ، فانتشرت تبث العلم في أرجاء البلاد المغربية أقبلت طبقة بعدها ترتوي كما ارتوت سابقتها من ذلك المنهل الفياض الذي لايجف نبعه ولا ينقطع معينه.(1/96)
وكان ابن عرفة يسلك مسلك الجمع والتحليل والإملاء فتُتلى الآية أو الآيات بين يديه ثم يأخذ معناها بتحليل التركيب وإيراد كلام أئمة اللغة أو النحو على معاني المفردات ومفاد التراكيب منشداً على ذلك الشواهد ومورداً الأمثال والأحاديث.ويهتم بالتخريج والتأويل حتى تتضح دلالة الآية مستقيمة على المعنى الذي يتعلق به ويرد ما عسى أن يكون قد وقع من تخريج بعيد أو تأويل غير مقبول بتطبيق القواعد اللغوية والنكت البلاغية أو بإثارة ما يتعلق بالمفاد من مباحث أصولية ترجع إلى أصول الدين أو أصول الفقه ، جاعلاً عمدته في هذه المباحث تفسير ابن عطية غير معرض عن تفسير الكشاف ، فيعتبر كلام ابن عطية حاصلاً بين أيدي مستمعيه ليسايره أو يرده.ويورد كلام الزمخشري كلما تعلق قصده بإيراده لنقل أو استدلال أو دحض ، ويكثر إيراد الآراء والمذاهب عن العلماء في كل مسألة بحسبها من أئمة المذاهب أو المتكلمين أو رجال الأصول لا سيما أصحابه الأدنون في طريقته النظرية مثل: عز الدين بن عبد السلام ، والإمام الرازي والقاضي عياض ، والقاضي ابن العربي والإمام المازري.وكان يفتح المجال في إلقائه للبحث والسؤال.وكثيراً ما يعتبر سؤال واحد من طلبته مثاراً لبيان عنصر من عناصر الموضوع ما كان ملتفتاً إلى إثارته قبل ذلك السؤال ، وهو شديد الاهتمام بأن ينتزع من الآيات ما هو من سياقها أو ليس منه بما يرجع إلى الأحكام التكليفية من مسائل الأصول ومسائل الفقه وإيراد ما يتعلق بذلك من الأنظار ومناقشتها.
وعلى هذه الطريقة ، تكون من درس ابن عرفة تفسير نفيس: حي المباحث ، مستقل الأنظار ، متين المباني ، غزير الفوائد.(1/97)
ولم يتول الشيخ ابن عرفة بنفسه كتابة هذا التفسير المتضمن خلاصة دروسه القيمة ، ولكن طلبته من الأجيال المتعاقبة هم الذين اضطلعوا بذلك فقيدوا أمالي شيخهم وفوائده حتى خرجت تفسيراً ينسب إليه وإن لم يكن من تحرير قلمه فلذلك يسند إليه الكلام بطريق النقل ويرمز إلى اسمه بحرف العين ، وأشهر الذين عرفوا بتدوين هذا التفسير هم ثلاثة من أكابر أصحابه تونسي وجزائري ومغربي.أما التونسي فهو أكبر أصحاب ابن عرفة وأخصهم به وهو الشيخ محمد الأبي ، وأما الجزائري فهو الشيخ أحمد البسيلي ، وأما المغربي فهو الشيخ أبو القاسم السلاوي.وتوجد في الخزائن المغربية والشرقية نسخ من تفسير ابن عرفة يختلف المدرجون لها في الفهارس في نسبتها إلى مؤلفيها من الثلاثة الأبي والبسيلي والسلاوي.وقد أفاد الشيخ أحمد بابا في ذيل الديباج أن أوفى تلك التقييدات إنما هو تقييد البسيلي ، وأنه قد خرج من تونس إلى السودان في قصة ، ومن السودان انتشرت نسخه ، كما أفاد أن ما كتبه البسيلي ذو صورتين وافية ومختصرة وأن ما كتبه السلاوي كذلك.(1/98)
وأما النسخ المعروفة عندنا بتونس في الخزائن العامة والخاصة فهي إما من تقييد الأبي ، وإما من تقييد السلاوي لأنه يفيد أن كاتبه حضر ختمات عديدة من التفسير على ابن عرفة منها ختمة سنة 757هـ .وهذا يؤيد أنه من أقدم أصحابه.وكلا الشيخين الأبي والسلاوي من أكابر أصحاب ابن عرفة بخلاف البسيلي الذي لم يحضر درس ابن عرفة إلا في آخر حياة الشيخ سنة 785هـ كما في ذيل الديباج ، وحيث اشترك الأبي والسلاوي في علو الطبقة فلم يفد ذكر ختمة سنة 757هـ ترجيح نسبته لأحدهما ، واشتركا أيضاً في أن لكل منهما شرحاً على صحيح مسلم يسمى إكمال الإكمال.فلم يفد ما ورد في أثناء التفسير من إحالة كاتبه على شرح مسلم أن الكاتب هو الأبي أو السلاوي ، وبذلك يبقي الاحتمالان في نسبة التأليف قائمين لا يظهر ــ لحد الآن ـــ إن كانت نسخ تفسير ابن عرفة الموجودة مخطوطاتها بتونس هي من تحرير الأبي أو من تحرير السلاوي إلى أن تضاف إلى هذا المبحث عناصر جديدة قد تأتينا بها نسخ أخرى من تفسير ابن عرفة تطلع علينا من الشرق أو من الغرب.
*****
تفسير أبي السعود
عندما كان التفسير بالمغرب ـ وتونس خاصة ـ يسير على منهج الإملاء والجمع والتحليل ، في القرن الثامن والقرن التاسع ، ويجلى فيه الإمام ابن عرفة وأصحابه ، كان التفسير ببلاد الشرق الأوسط ، في إيران وما وراء النهر ، راكباً بحر التقرير والبحث والتفكيك ، مغرقاً فيه ، سابحاً بين أمواج متلاطمة من المباحث والأنظار ، تترامى على عبريه ، وقد قام على أحدهما تفسير الكشاف ، وقام على العبر الآخر تفسير البيضاوي .(1/99)
وكان ربان السفينة الذي أمسك بخيزرانتها ووضع قطب التحقيق والتمحيص نصب عينيه ، العلامة سعد الدين التفتازاني ثم أخلافه على طريقته التحقيقية الذين ملكوا قيادة الفكر الإسلامي باسمه خمسة قرون من السيد الشريف الجرجاني ، والعصام ، وأبي القاسم الليثي ، وميرزاجان ، والحفيد التفتازاني: أحمد بن محمد بن محمد بن مسعود شيخ الإسلام بهراة ، ومن سلك طريقتهم من بعدهم ، فارتبط البيضاوي والكشاف بسلسلة الكتب التي كانت تتلاقى حولها أقلام هؤلاء وأفكارهم: مثل الرسالة الشمسية ، والمفتاح وتلخيصه ، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب الأصلي ، والعقائد النسفية ، والمواقف.
وكان لهذا الخضم الهائج ببلاد الشرق الأوسط: موجة امتدت إلى آسيا الصغرى وبلاد الروم منذ أواخر القرن التاسع ، بسبب ما أحدث قيام السلطة العثمانية من صلات بين الممالك الإسلامية ، وما كونت الفتوح العثمانية ، في بيئة العلم بالبلاد الأعجمية الإيرانية من تحلق بكرسي آل عثمان المستند إلى قواعد العقيدة السنية ، ومناهجها العلمية تعلقاً دفع عن بيئة العلوم السنية ما كان يكبتها ويرهقها ويذلها تحت عروش الشيعة الروافض لا سيما بعد الحروب الطاحنة التي دارت بين الصفويين والعثمانيين بالعراق وبلاد العجم ، على عهد الشاه إسماعيل والسلطانين سليم وسليمان ، وما تبع ذلك من الفتن الداخلية بين الشيعة والسنيين.(1/100)
فبذلك أصبح لخصائص المنهج الأعجمي في التأليف والتدريس امتداد إلى بلاد السلطنة العثمانية بالأناضول وبالروميلي أثمر رجالاً التحقوا بركب العلامة سعد الدين التفتازاني واشتركوا مع أخلافه في بحوثهم القلمية والتدريسية حول تلك الكتب الجامعة لتقارير المحققين وحواشيهم ، ومنها تفسير الكشاف ، وتفسير البيضاوي ، فاتسع بذلك مجال البحث حول التفسيرين ، والتزمت طريقة تتبع أحدهما بالآخر فأثمرت بحوثاً وتقريرات شاقة مضنية شعر الدارسون من جرائها بأنه قد كان بتعدد هذين الرأسين أثر في تشعيب المباحث وتوفير المعاناة لإقامة منهج التقرير لتفسير البيضاوي بالرجوع إلى تفسير الكشاف وإلى ما تزايد حولها ، على مر العصور ، من مباحث متشعبة.
ولما كانت نزعة الجمع والتلخيص والمحاكمة قد شاعت بين العلماء العثمانيين الذين كادت أن تغمرهم أمواج البحوث الزاحفة عليهم من البلاد الفارسية ،فإن التطلع إلى وضع تفسير جديد يجمع بين الكشاف والبيضاوي ويريح من عناء تسليط كلام ذلك على هذا وتلخيص المهم من المباحث المعلقة عليها قد أصبح تطلعاً شائعاً في بيئة العلم العثمانية الفتية.
فكان الذي انتدب على تحقيق هذه الرغبة ، والاستجابة لذلك التطلع ، هو العلامة شيخ الإسلام أبو السعود العمادي المتوفى أواخر القرن العاشر سنة 982هـ.
كان أبو السعود عالماً كاتباً أديباً فائق العبقرية في اللغات الثلاث: العربية والفارسية والتركية ، وكانت منزلته العلمية قد علت واشتهرت ، ثم كانت مناصب الرئاسة العلمية ، في التدريس والقضاء ومشيخة الإسلام ، قد أشاعت اسمه وأعلت حرمته وقررت منزلته.(1/101)
وكان ما عرف طلبة العلم منه عن كثب في دروسه الحافلة البديعة وتحاريره ، وما نقد الأدباء من رسائله وقصائده ، قد مكن مقامه العلمي في قلوب أهل العلم وفتح له أبواب الحظوة والكرامة في رحاب الباب العالي على عهد السلطان سليمان الأول المعروف بسليمان القانوني ، حظوة دخل عليها فزاد فيها وزكاها السلطان سليم الثاني ، فاتح تونس.
ولقد اضطلع شيخ الإسلام أبو السعود عهداً طويلاً بالتدريس في برصى ، وقسطنطينية ، وعواصم أخرى من البلادالتركية ، ولم ينقطع عن التدريس حتى في ولايته قضاء العسكر وتنقله مع السلطان سليمان في فتوحه العظمى بآسيا وأوروبا ، فقد كان عند منازلته مع الجيش ــ بقيادة السلطان سليمان القانوني ــ قلعة بلغراد يدرس لبعض ملازميه من الطلبة سورة الفتح بتفسير الكشاف ، ويملي عليه حاشيته ، وكانت عناية أبي السعود بالتدريس والتقرير ، على الطريقة الأعجمية ، تحبب إليه أن يخرج تفسيراً متناسباً مع خصائص تلك الطريقة التدريسية مثل تفسير البيضاوي ، يكون قد رد على البيضاوي ما تركه من مباحث الكشاف ، وأضاف إليه نتائج البحوث الجديدة التي تعلقت بهما ، وخلاصة الآراء المبتكرة التي تبدو له في مواضع من التفسير ، فأخرج على هذا المنوال تفسيره الذي سار ذكره وعظمت شهرته وهو التفسير الذي سماه " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب العظيم ".
وقد غلب اشتهاره بالإضافة إلى اسم مؤلفه فعرف غالباً تفسير أبي السعود.(1/102)
وقد تولى المفسر أبو السعود شرح خطته ومنهجه في ذلك التفسير فذكر أنه اشتغل طويلاً بالتفسيرين العظيمين: تفسير الزمخشري وتفسير البيضاوي ، مطالعة وممارسة وانتصاباً للتدريس والتقرير ، وأنه طالما فكر في أن ينظمهما في سلك واحد ، ويرتبهما على ترتيب أنيق ، وأن يضيف إليهما جواهر حقائق ، وزواهر دقائق ، مما ظفر به في الكتب أو ما سمح به فكره ، وإن ما توافر عليه من الأشغال قد كان يحول بينه وبين تحقيق تلك الأمنية حتى تقدمت به السن فهناك عزم على إملاء ما كان يصبو إليه في أوقات مختزلة من بين الأشغال ، وبأفكار موزعة بما يشغل البال.
ونحن إذا وضعنا تفسير أبي السعود في الصعيد الذي أراد مؤلفه أن يضعه فيه يتبين لنا أنه كان موفقاً معاناً على تحقيق الغرض الذي يقصد إليه من السير مع الكشاف والبيضاوي سيراً جامعاً لهما ، متعقباً لمباحثهما: بتحرير محكم ، وبيان دقيق ، وسبك متين.
فلذلك تلقفه الناس منذ بروزه بالاعتناء ، ونظروا إليه بالإعجاب ، فشاعت نسخته الخطية شرقاً وغرباً وأصبح مقاسماً للبيضاوي عناية الناس به ، وملأ برامج التعليم في معاهد البلاد الإسلامية قاطبة بعد أن نظمت العظمة العثمانية تلك البلاد في سلك واحد ، اتسق به سير التعليم الإسلامي في المشرق والمغرب منذ القرن العاشر إلى قرننا الحاضر (1) .
وكانت شهرة أبي السعود في العصور القريبة من عصره ، وجدة الوضع الذي أخرجه في التفسير ، يزيدان في إقبال الناس عليه واعتنائهم به.فكانت كل بلد من البلاد العربية تستقر فيها تقاليد الدراسة على المناهج الأعجمية ، بعد الفتح العثماني ، يشيع فيها تفسير أبي السعود.
فلم يكد يستهل القرن الحادي عشر حتى كانت خزائن الكتب عامرة بنسخ هذا التفسير ، ومجالس الدرس حافلة به ، وكان العلماء من العرب والعجم قد اعتنوا بتدريسه والتعليق عليه.
__________
(1) 1 صدر هذا الكتاب سنة 1390هـ ، الموافق سنة 1970م.(1/103)
ففي تونس شاعت نسخه ، حتى لا تخلو خزانة من الخزائن العامة ، المنشأة في الدولتين المرادية والحسينية ، من نسخة أو نسخ موجود الكثير منها إلى اليوم في مخطوطات المكتبة العبدلية.
وقد اعتنى بتدريسه والكتابة عليه من علماء تونس ، في القرن الحادي عشر والثاني عشر ، العلامة الشيخ محمد زيتونة المنستيري ، والعلامة الشيخ محمود مقديش الصفاقسي.واشتهر درس الشيخ زيتونة شهرة واسعة ، إذ كان قد تنقل بين تونس والأسكندرية والقاهرة والحرمين الشريفين ، وحرر حاشية واسعة مفننة ، متقنة المباحث ، ابتدأ بإملائها بتونس قبل سفره إلى المشرق ، وواصل تحريرها وهو مقيم بمكة المكرمة ثم لما عاد إلى تونس حررها وسبكها وبيضها بإملائه.
فكانت أثراً قيماً من آثار النشاط في العلم ، والرقي في انتاجه ، بالبلاد التونسية في ذلك العصر ، وبرهاناً على ما تكون للبلاد التونسية في العهد العثماني من ارتباط لمناهجها بالمناهج الأعجمية ، زال به ما كان بين المشرق والمغرب من الاختلاف.
*****
الآلوسي
ظهور الشهاب الآلوسي
كان القرن التاسع ، قرن ابتداء تقارب المناهج في البلاد الإسلامية في التدريس والتأليف.وكان لقيام الخلافة العثمانية ، وإقامتها جسر التواصل بين المشرق والمغرب ، تأثير في ذلك أي تأثير.
ومنذ ازدهرت الحضارة العثمانية ، بطابعها ذي الصورة الجامعة في عاصمة الخلافة ، بل عاصمة الانبعاث مدينة قسطنطينية العظمى ، حصل في تلك المدينة من توافر المنشطات ، واجتماع الكتب ، وتلاقي العلماء ، وتلاقح الطرائق ، فأكد الصلة التي انعقدت بين المناهج ، وزكى الأثر الحاصل من زوال الفوارق: تأكيداً وتزكية ملآ حافتي البسفور ، بين مرمرة وقرن الذهب ، ثم فاض على البلاد التي ارتبطت سياسياً ، وتعلقت روحياً بالسلطنة العثمانية ، من أواسط آسيا إلى المغرب الأقصى.(1/104)
وكان لهذه الجامعة الفكرية الروحية ، جناحان يعودان عليها بما في خوافي كل منهما من خصائص ، لم تتم لتلك الوحدة مزاجها العجيب إلا بتلاقي تلك الحقائق واكتنائها في قلب الوحدة النابض ، ثم فيضانها على هيكل الوحدة بأجمعه.
وما هذان الجناحان إلا البلاد الإفريقية: تونس ، والجزائر ، والبلاد العراقية: من أعلى مجرى الرافدين إلى مصبهما.
فإن كل واحدة من هاتين الوحدتين الإقليميتين تقع في طرف السلطنة العثمانية: فتونس والجزائر في الطرف الغربي ، متصلة بسلطنة المغرب الأقصى ، والعراق في الطرف الشرقي متصلة بسلطنة إيران.
وفي كل من هذين الإقليمين المتطرفين بقايا في خصائص الدراسة ، وطوابع الثقافة ، نشأت لكل من الإقليمين من وضع خاص به ، كان يربط بينه وبين أقاليم أخرى تجاوره بالجنب ، ثم جاءت صلته بالسلطنة العثمانية انفصالاً له عن تلك الإقاليم التي كان مندمجاً في وحدتها السياسية ، ومصطبغاً بخصائصها الثقافية.
فأصبحت تلك البقايا من الخصائص مدداً يمد به كل من الإقليمين دار الخلافة العلية ، فيتكيف ذلك المدد هنالك بالوضع الجديد الذي وضعت عليه عناصر الثقافة ، ويتلاقى هنالك بما لم يكن تلاقى به من قبل من خصائص أقاليم أخرى ، ولا سيما الإقليم الذي يقابله من الطرف الآخر: الإفريقي أو العراقي.(1/105)
فإذا كانت الواردات الممتدة إلى الآستانة ، من البلاد الأفريقية تحمل ما فيها من بقايا المناهج المغربية والأندلسية ، وخصائص طريقة ابن عرفة وابن مرزوق وابن ناجي ، وما تتأثر بمماسته من ولائد البحث والدراسة في المغرب الأقصى ، بما كان يفصله عن السلطة العثمانية من فواصل ، ويحفظ له من ميزات تبدو في القرن العاشر ، والحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر ، في آثار الزقاق ، والفشتالي ، وعبد القادر الفاسي ، وبناني ، والناودي ، فإن الواردات الممتدة إلى الآستانة من البلاد العراقية كانت ضعيفة متقطعة غير غزيرة ولا مسترسلة ، بسبب الوضع الذي استمرت العراق تعانيه منذ الهجمة المغولية في أواسط القرن السابع من الخلاء والخراب والفتن الداخلية الماحقة.
إلا أن تلك الواردات العراقية على ما كانت عليه من الضعف الذاتي ، فإن لها في نظر العثمانيين أهمية إضافية باعتبار ما تتصل به من أمداد أخرى كانت البيئة العلمية العثمانية حريصة على أن تغترف منها ، وباعتبار ما تماسه من أقطار كانت البيئة العلمية العثمانية حريصة على أن تصل بفتوحها إليه ، فإن العناصر السنية التي تقطن شمالي العراق ، وخاصة من الأكراد ، كانت ذات تطلع إلى التعلق بالسيادة العثمانية من شأن العثمانية أن يهتموا بصلته وتقويته وبث روحه في البلاد العراقية كلها.(1/106)
كما أن العناصر الشيعية الإمامية التي قوي شأنها عند اندماج الذاتية العراقية في سلطنة شواهين إيران الصفويين ، فغذت غذاءً روحياً قوياً معاقلها الثقافية بالمزارات الشيعية في النجف وكربلاء وكاظمية بغداد ، قد كان يهم البيئة الثقافية العثمانية ، بعد أن انفصلت البلاد العراقية عن سلطنة إيران ، واتصلت بسلطنة آل عثمان ، أن تأخذ من تلك المعاقل الثقافية الشيعية بعض ما لها من مغذيات ومقومات ، فتجعلها مادة للثقافة الحية في قسطنطينية العظمى ، وأن تدعم هيكل الثقافة في العراق بما يعطيه قوة الثبات في وجه تلك المعاهد الشيعية ذات النزعة الخطيرة على السيادة العثمانية وروحها الثقافية.
وذلك بإمداد كل عرق من عروق السنة في أرض الرافدين بما يثبته ويمده ويمكنه من نبع غريسته وزكائها.
فاتجهت السيادة العثمانية بالطبع إلى مزارات خلعت عليها من ضخامة التشييد ، وأناقة التعمير ، ما وسع نطاق إشعاعها بما تنطوي عليه من المعاني السنية المنسجمة مع روح الثقافة العثمانية.وذلك في مثل ضريح الإمام أبي حنيفة ، وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني.
وكما أسندت الخلافة العثمانية بسلطانها المناهج السنية في العقيدة والفقه ، أسندت تلك المناهج أيضاً في التصوف ، فعملت على إشاعة التصوف المتجافي عن الباطنية والشيعية ، المتماشية مع ظواهر الشريعة ، المقر للعمل والاشتغال الدنيوي وتعاطي أسباب الرزق ، واعتنت بإبراز الطرق التي ترجع أسانيدها إلى الخليفة الأول سيدنا أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ـــ احتياطاً في سد ذريعة استثمار الشيعة للطرق التي يرجع سندها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ .(1/107)
وبذلك انبعثت في البلاد العراقية ، بعد استقرار الحكم العثماني بيئة علمية تكتسي بهذه الصبغة ، تأصلت ورسخت على توالي الأجيال ، وقويت بالاستناد إلى مناطق داخلية في البلاد العثمانية: مثل بلاد الشام ، ومناطق خارجية: مثل البيئات السنية في البلاد الأعجمية ، بإيران وأفغانستان والهند ، فعادت بذلك مدينة بغداد إلى أهميتها الثقافية ، وقامت الدروس ، وعمرت المجالس وشاعت الطريقة التدريسية التي انبثت في القرن الحادي عشر بأطراف العالم الإسلامي ، وازدهرت في القرن الثاني عشر.ارتكزت تلك البيئة الناشئة على العقيدة الأشعرية والمذهب الحنفي على نحو ما ألف بينهما العلامة سعد الدين التفتازاني وعلى مزج السنة بالتصوف على نحو ما سلك الجنيد والغزالي والجيلي والشاذلي وبهاء الدين النقشبند.(1/108)
وكان لهذه الطرق الصوفية السنية ، ممتزجة بالعلوم الشرعية ، ومقاومة للنزعات الرافضية والباطنية ، شان عظيم في إقامة تلك البيئة وإسنادها ، يقرب روحها من المدارك العلمية ، ويبقي على إثارة من التوجيه الروحاني الذي توغل في نفوس الشعوب الإسلامية شرقاً وغرباً ، توغلاً مهد قديماً لانتصار الدعوات الشيعية ، فأريد منه في الوضع العثماني الجديد أن يقصر على ذاته ، إن لم يكن ممهداً لانتصار الثقافة العثمانية ، فلا أقل من أن يكون غير محارب لها ، كما كان لاشتهار البيوتات التي قامت على خدمة العلم ، أو خدمة الطريقة ، أو الجمع بينهما ، بالانتماء إلى النسب النبوي الطاهر ، شأن عظيم أيضاً في منازعة القوى الدينية المناهضة للسلطنة العثمانية ، حمل العثمانيين على مزيد الاهتمام بتلك الأسر الشريفة ، والتنويه بمقامها ، فكما برز بذلك في الشام آل حمزة وآل عابدين ، برز في العراق آل الكيلاني القادريون ، ثم آل الآلوسي ، ومن بين الأسرتين برز في أوائل القرن الثالث عشر نابغ ذو مقام في العلوم الإسلامية ، وذو أثر في تفسير القرآن العظيم ، وهو شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي.
***
مقام الآلوسي
في العلم والطريقة
نشأ العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله الآلوسي ببغداد ، وقد عرفت الأمن والاستقرار ، بعد طول العهد بهما ، فتكونت فيها بيئة علمية سنية إلى جنب البيئة العلمية الشيعية ، التي كانت قد ازدهرت من قبل ، بما وجدت في حمى الحكم الصفوي الإيراني من مقام منعة وجلال.
فنشأت هذه البيئة السنية الجديدة تواجه البيئة المتمكنة في العراق من قبلها ، مواجهة قوية عنيفة بما تمكن للبيئة الناشئة من عوامل القوة والحصانة في ظل الحكم التركي العثماني ، إذ انتظم فيها المذهب الحنفي مع العقيدة الأشعرية والطريقة الصوفية.(1/109)
وربما كان هذا العنصر الثالث.وهو عنصر الطريقة الصوفية أقوى تلك العناصر نفوذاً فعلياً في إشاعة حرمة البيئة السنية بين الجمهور ، ورفع منزلتها في النظر العام.حتى تكونت بذلك لعلماء السنة منزلة نفوذ روحي يضارع ما لعلماء الشيعة عند عامتهم: من اعتبارات روحانية لم يكن علماء السنة من قبل ، يعرفونها..بل كانوا ينكرونها ، ومن صميم تلك البيئة الناشئة ظهر مترجمنا الآلوسي متغذياً ، من جميع عناصرها ، بصورة لا يقل فيها جانب العنصر الصوفي عن العنصرين الآخرين ، بل ربما يكون فائقاً عليهما.
ولد العلامة الآلوسي سنة 1217هـ بين أب كان من مدرسي العلوم ببغداد ، وكان أكبرهم ورئيسهم ، وهو السيد عبد الله بن محمود الحسيني ، ينتسب إلى الفرع الرضوي الموسوي من فرع النسب الحسيني الكريم ، وأم من سلالة علمية يتصل نسبها من جهة الأم بالأشراف القادريين الحسنيين ، هي ابنة الشيخ حسن العشاري ، وكان أجداد مترجمنا ، من آل الآلوسي ، قد انتقلوا إلى بغداد منذ أكثر من قرنين آتين من الشمال الغربي للعراق ، فاستقروا في بغداد بمنزلة الحرمة والكرامة ، وساهموا بنصيب وافر في تكوين تلك البيئة العلميةالتي نشأ منها الشهاب الآلوسي.
فتخرج صاحبنا بأعلام تلك البيئة العلمية البغدادية: من أمثال والده ، والشيخ على السويدي ، وغيرهما من علماء الحنفية والشافعية.
وكان أسلافه من آل الآلوسي شافعية المذهب ، فتفقه في مذهب أسلافه ، ونزع في كثير من المسائل إلى الأخذ بالمذهب الحنفي ، ورسخت قدمه فيه ، حتى أصبح من فقهائه ، واختص بالانتساب إلى المذهب الحنفي لما ولي منصب إفتاء الحنفية سنة 1284هـ ببغداد ، وإن كانت نزعته الحقيقية نزعة استقلالية اجتهادية ، يجنح فيها إلى السمو عن درجة التقليد ، وينفر من وصمة التعصب المذهبي ، كما أثبت ذلك ولده في ترجمته ، وكما هو لائح من تحريره ، ومن مباحث تفسيره.(1/110)
ولقد ظهر نبوغه العلمي في حسن الجمع بين عناصر المعرفة ، وحب الاضطلاع بهضمها وتحريرها ، وقوة العارضة في البحث ، وطول الباع في البيان والتقرير ، على ما هو منهج التخرج العلمي في ذلك العصر ، وانقطع لخدمة العلم وتدريسه في كثير من المدارس والمساجد ببغداد منذ ريعان شبابه.
وكان لنزعة الصوفية على تربيته النفسية وتكوينه الفكري أثر بعيد ، وكان قد صادف أوائل عهد النشأة العلمية للشهاب الآلوسي ظهور حركة صوفية في بغداد بعيدة المدى في أطراف العالم الإسلامي ، أساسية التأثير فيما كنا بصدده من بيان شأن العنصر الصوفي في تقويم البيئة العلمية السنية ، وشأن السلطنة العثمانية في إنشاء تلك البيئة والاستناد إليها.
وذلك أن المجتمع الكردي في شمال البلاد العراقية كان قد دفع إلى بغداد في سنة 1226هـ رجلاً مكتمل الشباب سنياً شافعياً ، تام الملكة العلمية ، ضليعاً في الحكمة ، سالكاً مسلك الزهد والتجرد منقطعاً للتعبد ، مضطلعاً بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر.
كان قد ساح سياحة واسعة بالحرمين الشريفين ، والبلاد الشامية وبلاد إيران ، وأفغانستان.
ثم انتهى إلى القارة الهندية وانتسب هنالك إلى طريقة صوفية ، كان لها في القرن الحادي عشر ثم القرن الثاني عشر في الهند شأن عظيم ، وهي الطريقة النقشبندية التي انتشرت انتشاراً واسعاً هناك بأثر الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بـ" مجدد الألف الثاني " والذي من أجل شهرته تلك أصبحت الطريقة النقشبندية المنسوبة إليه تعرف بالطريقة المجددية ، وتمتاز الأسر المنتسبة إليه في الهند وأفغانستان بلقب " المجددي ".
أقام الشيخ الكردي الوافد على بغداد في الزاوية القادرية خمسة أشهر اشتهر فيها ذكره ، وملأ اسمه المعاهد والمنازل.(1/111)
وسرعان ما دخل في عداد الحرمات المقدسة لدى كثير من الأسر البغدادية ورجع إلى موطنه بشمالي العراق فقامت في وجهه الثورات والاتهامات ، فعاد إلى بغداد بعد سنتين عودة نال فيها الانتصار الحاسم بتأييد العلماء إياه وإسناد الوالي التركي سعيد باشا ذلك التأييد.
كان هذا الرجل الذي حرك الأحداث الفكرية والاعتقادية والسياسية والاجتماعية: هو الشيخ خالد الكردي المجددي النقشبندي ، صاحب المكانة العلمية وروائع الآثار القلمية في اللغتين العربية والفارسية ، وهو الذي انتقل فيما بعد إلى الشام ، واستقر بدمشق إلى أن توفى سنة 1242هـ ودفن بقبته المشهورة في حارة الأكراد بأعلى مدينة دمشق في سفح جبل قاسون.
وكانت الحركة التي أحدثها ظهور الشيخ خالد هذا ذات أثر في الحياة الفكرية بالعراق والشام ، نشرت ، بين القطرين ، الطريقة النقشبندية ، ووحدت بين القطرين فيها ، وظاهرت بين مواقف المشهورين من أبناء البيوتات العلمية في القطرين في تأييد الشيخ خالد ، والذب عنه ، ودفاع التهم الموجهة إليه.
فقد راجت في البلاد ، إذ ذاك ، رسالة حكم فيها بالضلال والزندقة على الشيخ خالد ، فقام أعلام من أئمة العلماء السنيين بالدفاع عنه: منهم ، مفتي دمشق الشيخ حسين المرادي ، ومنهم الفقيه الحنفي الذائع الصيت الشيخ محمد أمين بن عابدين الذي حرر رسالة حافلة سماها: " سل الصارم الهندي لنصرة مولانا خالد النقشبندي ".
أما صاحبنا الشيخ محمود الآلوسي فإن حركة الشيخ خالد النقشبندي كانت ذات تأثير قوي عليه في أثره العلمي وفي ظروف حياته.
كان الشهاب الآلوسي في طليعة من الشباب لما دخل الشيخ خالد الكردي إلى بغداد ، ولا يبعد أن يكون سرى إليه ذكره من قبل ذلك لمكان علاقة البيت الآلوسي ببلاد كردستان.(1/112)
وإن الآلوسي ليحدثنا عن سبق معرفته بمقام الشيخ خالد واتباعه طريقته من أول عمره بقوله "ارتضعت ضرع طريقته بعيد الفطام واحتسبت حمي محبته قبل أن تعثو مني العظام" ويقول فيه معرباً عن عظيم مقامه في نظره: "هو الحائز للحكمتين العلمية والعملية ، الفائز بالرئاستين الظاهرية والباطنية ، فلا ترى مكرمة إلا ومصيرها إليه ، ولا منقبة إلا ورواقها ممدود وهي مقصورة عليه" وينشد فيه مبدعاً:
فلي فيه أستاذ ولي فيه مرشد
ولي فيه قطب ذو اتصال ولي ولي
فقد كان ظهور الشيخ خالد الكردي ، وانتصار هؤلاء العلماء له ، والتفافهم حوله ، في العهد الذي دخلت فيه السلطة العثمانية على يد محمود الثاني دور إنجاز الإصلاحات والتنظيمات ، والخروج عن سلطان التقاليد والعوائد ، فكان اعتداد السلطان محمود في إنجاز عمله العظيم بأصحاب القيم السامية في العلوم الإسلامية ، من أبناء الأقاليم العثمانية العربية ، وأبناء البلاد الأناضولية والرومية الراسخي القدم حقاً في العلوم المتمكنين من اللغة العربية.
فكانت تلك العصابة من العلماء المستنيرين الذين اعتبروا سند الحركة الإصلاحية المحمودية ، وتقوى ساعد السلطان بمناصرتهم مثل شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت في تركيا ، وهو قطب تلك الدائرة ، وشيخ الإسلام إبراهيم الرياحي في تونس ، والشيخ خالد الكردي ، والشيخ ابن عابدين في الشام ، والشيخ الآلوسي في العراق ، وكانت النسبة الطرقية لهؤلاء ترفع من قيمة منزلتهم العلمية.
فكانت بذلك للشيخ خالد النقشبندي منزلة مرعية في نظر الدولة اقتضت أن يختص من أجلها بمزيد الرعاية أنصاره من العلماء مثل صاحبنا الآلوسي ، الذي تكونت له مع الخلافة العثمانية في عهد السلطان محمود الثاني صلة أكيدة ، يرعى كل من الطرفين حرمتها ويقابل رعاية الطرف الآخر لها بأحسن منها.
***
الآلوسي وتأليفه للتفسير(1/113)
ظهر الشهاب الآلوسي في أفق العناية البالغة التي كانت توليها الخلافة العثمانية رجال للعلم من السنيين في البلاد العثمانية قاطبة ومنها البلاد العربية التي يحكمها العثمانيون حكماً مباشراً: الشام والعراق.
وكانت لفتة السلطان محمود الثاني إلى البيئة العلمية السنية بالعراق ، لفتة مستمد للعون ، طالب للتأييد ، في سبيل عمله الذي يهدف إلى قلب نظم السلطة العثمانية ، رأساً على عقب.
فكان شهابنا محمود ، باعتبار ما اجتمع له من أسباب البروز وعوامل التقدم في تلك البيئة أكمل محل تبدت عليه مظاهر العناية أو خلعت عليه حلل الامتيازات.
ففي عهد السلطان محمود ولي الشيخ الآلوسي خطة مفتي الحنفية ببغداد ، وبذلك انتظم في عقد من أهل الرئاسة العلمية الدينية بالأقطار العثمانية ، ذلك العقد الذي كان واسطته شيخ الإسلام بعاصمة الخلافة: الشيخ أحمد عارف حكمت.(1/114)
وبذلك المحل الذي ناله من عناية عاصمة الخلافة ، طار صيت الآلوسي ، وعظمت شهرته ونال من عظمة الشهرة ما هو تابع لها من التفات الناس إليه ، واشتغالهم به وتتبعهم لآثاره ، بين قادح ومادح ، وكانت حركة السلطان محمود الكبرى في القضاء على الانكشارية والقوانين العسكرية القديمة ، وإدخال التنظيمات ، وتغيير الزي واستحداث الوسائل الجديدة للتعليم وقوانين الحكم والإدارة وتقاليد السلطنة ، من شأنها أن تثير في وجهه مصاعب يذللها ، كلياً أو نسبياً ، تأييد تلك العصابة العلمية وتزكيتهم لعمله ، وإن تعرض أولئك العلماء لما يتعرض إليه الناطقون بكلمة الحق المحايدة في وجه الأفكار الساذجة ، والميول المنحرفة من الغمز واللمز ، وكذلك كان شأن الشيخ الآلوسي مع السلطان محمود.فإن السلطان قد تظاهرت عليه عوامل الغضب الشعبي ، واتجهت الدعايات المسيرة بتلك العوامل إلى أن تظهر صنيعه مروقاً من الدين وعبثاً بحرماته ، لا سيما بما أحدثته سياسته الجديدة من قطيعة بالغة بينه وبين الطريقة البكطاشية التي كانت أعظم سند روحاني للدولة العثمانية ، منذ خمسة قرون ، فكان ما حصل له من تأييد الشيخ الآلوسي على اشتهاره ، وعلو منزلته ، ونفوذ كلمته ، أمراً ذا أثر عظيم في إسناد الدولة والفت في عضد خصومها.
وذلك ما حمل السلطان على أن يظهر تقدير المنة ، وشكر الجميل ، بما رفع من منزلة رسمية للآلوسي في تقليده خطة الإفتاء ، ثم تقليده نيشان الافتخار العثماني ، لما أنشأه تذكاراً للتطور الإصلاحي الجديد ، وتنويهاً برجاله ، وذلك أيضاً ما استهدف به الآلوسي لتيار من النقد والكيد والدس ، كثر تبرمه به ، وشكواه منه في كتبه.(1/115)
وكان مقام الآلوسي ، في القطر العراقي ، من شأنه أن يمكن أصحاب الخصومات الفكرية والاعتقادية معه من سلاح يشهرونه عليه ، مما أصبح يروج حوله من أقاويل: أحدثها أو حركها ما بينه وبين السلطنة من تساند ، وما خصومه الفكريون إلا رجال البيئة العلمية المقابلة لبيئته ، أعني البيئة الشيعية التي لا تقل حدة في مخاصمتها للدولة عن شدة خصامها مع الآلوسي.
ولقد كان علماء الشيعة يعتزون بظاهرة تفرق بينهم وبين علماء السنة في القرن الماضي: وهي أن أئمة الشيعة موضوعون بمقام من التقدير يضاهي مقام أئمة الدين الماضيين.
فلم يكونوا يتقاصرون عن إظهار بحوثهم في العلم ، واجتهاداتهم في الدين ، ولا يحجمون عن وضع التآليف ، وإبراز الآثار العلمية ، بخلاف ما وقر في نفوس علماء السنة من تقاصر أمام مقامات السابقين ، واكتفاء بالعكوف على مخلفاتهم من التصانيف يدرسونها ويشرحونها ويعلقون عليها ، وكان مجال التنافس العلمي والتنازع المذهبي بين السنيين والشيعة الإمامية ، مفتوحاً لأن يرمي هؤلاء أولئك بالقصور عن رتبتهم ، مستدلين بكثرة تآليفهم وسمعتها وتوافرها ، ومن شأن ذلك أن يحفز أهل الهمم ، ولا سيما الذين كانوا يصلون منها نيران تلك المعارك الفكرية الحامية الوطيس ، وخاصة ببلاد العراق ، مثل الشهاب الآلوسي ، إلى أن يبرزوا من الآثار ما يكون ناطقاً بعلو كعبهم في العلم ، وطول باعهم فيه بما يرى على ما يرميهم به منافسوهم من قصور أو تقصير.
وفي ذلك ما يبين لنا بعض الحوافز التي حركت الشيخ محمود الآلوسي إلى الإقبال على وضع تفسير جديد ، كما في ذلك أيضاً ما يبين لنا سر العناية والاهتمام اللذين لقيهما ذلك العمل الجليل من سلاطين آل عثمان المعاصرين له: الغازي محمود الثاني ، وابنه الغازي عبد المجيد الأول ، فإننا إذا نظرنا إلى التفاسير التي كانت تروج في العالم الإسلامي في ذلك القرن وجدناها ثلاثة أصناف:(1/116)
الصنف الأول منها: التفاسير العلمية السنية ، مثل تفسير البيضاوي وتفسير أبي السعود ، وهي مصوغة في قالب التحرير المدقق ، الذي يتطلب بيان المراجع ، وبسط المقاصد ، بطريقة تجعل الدروس الطويلة ، مركزة على الكلمات القليلة ، وتبرزالبحوث والتقارير في صورة التعاليق والحواشي.
الصنف الثاني من التفاسير التي كانت رائجة في عصر الآلوسي: التفاسير العلمية الشيعية ، وهي على منهج التفاسير إلا أن أسلوبها مبني على الإفاضة والبسط والإفصاح مثل تفسير الطوسي وتفسير القمي وتفسير الطبرسي ، وهي في أسلوبها أقرب إلى أسلوب الفخر الرازي ، ومع ما اشتملت عليه ، من إيضاح علمي وبحث نظري ، فإنها قد اشتملت على ما لا تقره المذاهب غير الشيعية وخاصة ما يرجع إلى المحامل الباطنية لمعاني الآيات.
والصنف الثالث ، من التفاسير الرائجة قبل تفسير الآلوسي: صنف التفاسير الصوفية التي تعتمد على أذواق غير متقيدة بالطرائق العلمية ، ولا محكمة الاستخراج على قواعد اللغة وعلومها ، وأكثرها تداولاً يومئذ بين أيدي الناس أحدثها ظهوراً ، وأقربها إلى مسايرة الطريقة العلمية: وهو تفسير العالم التركي الشيخ إسماعيل حقي من أهل القرن الثاني عشر.
فكان الملاحظ: أن الصنف الأول من هذه الأصناف الثلاثة ، وهو صنف التفاسير العلمية السنية ، لم يكن له مرجع كاف واف يقوم بنفسه متكفلاً ببسط البحوث والأنظار ، وإبراز المعاني ، وتحليل مآخذها ، إلا بالجمع بين الأصول وحواشيها ، وضم الحديث من ذلك إلى القديم.(1/117)
فكانت تلك الثغرة هي التي تلفت نظر من يريد أن يبدي في تفسير القرآن شيئاً جديداً ذا بال كما أراد الآلوسي لا سيما وأن الأذواق ، في ذلك العصر ، قد كانت متشربة روح المناهج الصوفية ، والأفكار العلمية كانت قد تقبلت شيئاً كثيراً من منازع الصوفية وأنظارهم ، فراقت بذلك التفاسير المشتملة على المحامل الباطنية والمنازع الذوقية بما جعل تفاسير الصنف الثاني ، وهي التفاسير الشيعية ، والصنف الثالث وهي التفاسير الصوفية تجد لها من كيفيات النفوس والأفكار مساغاً لا تجده تفاسير الصنف الأول ، وهي التفاسير العلمية السنية ، على ما فيها من صعوبة تحول بين الناس وبين مطالعتها بغير دراسة وجهد.
ابتدأ الآلوسي تفسيره في أخريات أيام السلطان محمود ناشطاً في ذلك بما كان يحوطه من عناية السلطان ، فجعل ما أنجزه من ذلك هدية للسلطان ، وقدم إليه فعلاً نسخة لما أتم تبييضه ، وقد حكى الآلوسي عن نفسه أنه لما توفى السلطان محمود انقطع عن تأليف التفسير استشعاراً لانقطاع عوامل التنشيط والتأييد حتى تبين له أن السلطان عبد المجيد قد خلف من سلف ، واعتذر به الدهر عما اقترف ، عاود التفسير ، ورجع إلى إكماله.(1/118)
ويظهر من ذلك ومما يشكوه دائماً من هموم الزمان أن المضايقات اشتدت به في مباشرة وظيفة الإفتاء ، لا سيما بعد وفاة السلطان محمود ، حتى تمكن من فرصة استقال فيها منصب الإفتاء مع أمن البقاء على الحظوة والكرامة لدى السلطنة العلية ، فتخلى عن الوظيفة وانصرف إلى إتمام الكتاب ، تحوطه العناية والتنشيط من لدن السلطان عبد المجيد ، كما كانت تحوطه من لدن والده ، وكان ذلك بعد سفره إلى استنبول ، واجتماعه شخصياً بالسلطان عبد المجيد سنة 1263هـ وبعد ذلك الاجتماع بأربع سنين كان الآلوسي قد أتم تفسيره كلياً في تسعة أجزاء ، ورفع بنفسه الجزئين الأخيرين فسافر بهما سنة 1267هـ إلى الآستانة ، في صحبة والي العراق عبد الكريم باشا ، فكان دخوله إلى العاصمة حدثاً ذا شأن جليل ، نفخت به الرعاية العثمانية في شهرة ذلك التفسير ومؤلفه ، فلم يعد إلى بغداد لسنة 1269هـ إلا وقد أصبح تفسيره طائر الذكر في البلاد الإسلامية ، وتعاليق الإكبار والإعجاب ملحقة به في المشارق والمغارب ، ولم تكد أصداء هذه الشهرة ترجع إلى بغداد حتى كان قد توفى رحمه الله في ذي القعدة سنة 1270هـ .
***
تفسير روح المعاني للآلوسي(1/119)
لما انتصب الشهاب الآلوسي في منتصف القرن الماضي ببغداد ، يصنف تفسيره الواسع الجامع ، كان على ملتقى تيارات فكرية متباينة المنابع مختلفة المجاري ، فالمذهب الجعفري بأصوله وطرائقه البليغة في الانقطاع ، العريقة في الانكماش ، يتعلق بأهداف التشيع المتغالي ويعكف علماؤه ، في الكاظمية والنجف وكربلاء ، متواصلين مع سائر علماء الشيعة في الأقطار الإسلامية ، على دراسات علمية عميقة تتناول تفسير القرآن العظيم بمباحث العلوم اللغوية والعقلية ، وتعرب بما يأخذ الألباب من الإعراب عن نكت ذوقية ولطائف بيانية وبديعية تتلاقى مع أصولهم ، ولا تتلاقى مع المناهج الكلامية الأخرى والحكمة العقلية والطبيعية الممتزجة بعلم الكلام السني كانت في درجة سموها التي انتهت إليها في القرنين الثامن والتاسع على يد العضد والقطب الشيرازي والسعد والسيد والعصام ثم سمت من بعد على يد علماء الدولة العثمانية مثل الخيالي وابن كمال باشا ، أو متأخري علماء الهند مثل الشيخ عبد الحكيم السيالكوتي.(1/120)
والفقه كان قد تأثر بانتشار المذهب الحنفي وما مارس فقهاؤه في البلاد الإسلامية قاطبة من تحقيق مناط الأحكام وبحث الصور واختلافها مما لا عهد به لفقهائه الماضين على نحو ما ظهر في كتاب الفتاوى الهندية على عهد السلطان أورنك زيب ، وفي كتب فقهاء الشام العظام مثل خير الدين الرملي ، وابن عابدين ، وعلم التصوف كان قد ساد وجند عقول العامة والخاصة ، حتى لم يبق لغيره معه من مجال ، وعلوم اللغة العربية كانت سائرة على المنهج التحليلي ، الذي عليه أعاظم الأعاجم وعلماء الروم مثل: رضي الدين الاسترابادي ، والجاربردي ، وديكوز وقد استندت كلها إلى هضبة علم البلاغة ، التي سمت قيمتها بسعد الدين التفتازاني ، وارتوت من مجاري الأدب العربي الصميم ، على نحو ما مزج بين علوم العربية وآدابها البغدادي في كتاب " خزانة الأدب " وما أحكم التفتازاني من صلة بين نكت البلاغة وروائع شعر المعري تبعاً لطريقة شارح ديوان المعري حسين الخوارزمي المشهور بـ (صدر الأفاضل).
والأدب الفارسي ، من جهته كان قد سما بالحكمة الصوفية ، وتفتق بمراس رجاله اللغة العربية ، وفنونها العلمية والأدبية ، ففاض في شعر جلال الدين الرومي ، وحافظ الشيرازي ، وسعدي ، وجامي ونشأت اللغة التركية والعثمانية وآدابها في حجر الأدب الفارسي ، فكانت اللغة الفارسية قوام تعليم اللغة التركية ولسان العلوم والآداب فيها.
وكان صاحبنا الآلوسي قد ورد كل نهر من تلك الأنهار المتلاقية ، وتشرب من كل نبع منها حتى تضلع.(1/121)
فكان مراسه للأساليب الشيعية في البحث والتفسير ، وانفراده بمجاراتهم في مراقيهم العلمية واضحاً في كتابه المسمى " الأجوبة العراقية " الذي تناول مسائل من معضلات المباحث العالية في الحكمة والرياضيات ، وكان رجال من علماء الشيعة بإيران قد وجهوا بها إلى العراق على معنى الإلجاء والتعجيز لأهل البيئة العلمية السنية ، فلم يكن لها إلا الشهاب الآلوسي كفيلاً بالرد والنقد والتمحيص ، وأما الحكمة فكان الآلوسي قد بلغ فيها شأوها الأقصى بتخرجه على الشيخ خالد الكردي ، وهو الذي جمع مفترق المعارف الحكمية من المشرقين.
وأما الفقه فقد كانت مشاركة الآلوسي فيه بين المذهبين الشافعي والحنفي صقلاً لملكته العالية في تطبيق الفروع على الأصول والرجوع بالأحكام إلى مداركها ومسايرة الأئمة المجتهدين في أنظارهم للمقاصد والمعاني مسايرة تخلص بها من حضيض التعصب المذهبي إلى أوج التحقيق والإنصاف ، وأما التصوف فكان اتصاله شخصياً بالطريقة النقشبندية ، وولاؤه للسهروردية والخلوتية ، ومنازعته للكشفية عاملاً على رسوخ قدمه في الفن لا سيما وأن اختصاصه بالشيخ خالد النقشبندي وتخرجه عليه في طريقته قد سما به إلى صف البارزين من أهل المعارف والأذواق.
وفي العربية وآدابها كان قد تمرس بكتب النحو والبلاغة تمرساً ربطه بدواوين الأدب التي تدفع إليها كتب البلاغة ، فتمكن من طريقة المقارنة بين النصوص الأدبية في المعاني والتراكيب ، مقارنة يتخذ بها من بعض تلك النصوص على بعضها شواهد زيادة على أن تضلعه بها في الآداب الفارسية قد وسع آفاق نظره في المعاني ، والنكت ، وزاده ولوعاً بدقائق المعاني النفسية على المنهج الصوفي ، الذي هو مبنى الشعر الفارسي.(1/122)
فبهذه الثروة الواسعة من المعارف ، وبالأسلوب الجامع بينها في الدراسة على الطريقة العثمانية الجديدة ، التي كانت قوام البيئة العلمية في بغداد ، تقدم الشيخ محمود الآلوسي لتحرير تفسيره الذي جاء في تسع مجلدات ضخمة تتألف من أكثر من خمسة آلاف صفحة مطبوعة من القالب الكبير.
فسلك فيه مسلك التفسير اللغوي: يهتم أولاً ببيان موقع المفرد ، أو المركب من جملة الكلام ، معتمداً على قواعد الإعراب واستعمالات البلاغة ومعتصماً بانسجام المعاني وتسلسل الأغراض.
ويخطط بذلك منهجه لاستخراج المعنى المراد ، معتمداً على الشواهد ، إلا انه يغرق إغراقاً قد يسرف فيه في مسائل الاشتقاق والإعراب حتى يتجاوز محل البيان إلى القواعد والمباحث ، من البحث اللغوي ينتقل إلى المفاد معتمداً على الأحاديث وأسباب النزول متحرياً في ذلك أكثر من الزمخشري والبيضاوي فلا يزال يتجنب الأخبار الواهية ويحرص على الإسناد المعتد به ، وربما بنى بحوثه مع صاحب الكشاف على الاستناد إلى نقد الأسانيد.
وفي تحصل المفاد القرآني يحرص على إيراد الأنظار الأصلية والفرعية ، فيناقش الاستدلالات ويتعقب الأقوال ويعتمد على مقابلة الرأي بالرأي ، ممسكاً في الغالب بما في تفسير الطبرسي من محامل غير سنية ليناقشها بقواعد الأصول ومقتضيات التراكيب البلاغية ، وآخذاً على الإمام فخر الرازي تمسكه بنصرة مذهب الشافعي ، فيناقش كلامه بما للفقهاء والأصوليين من الحنفية في تلك المسائل من أنظار في رد حجج الشافعية ومناقضتها أو متجنباً طريقة الرازي في ترجيح مذهب الأشعري ، آخذاً بترجيح مذهب السلف.(1/123)
وهو في كل هذه المباحث يجري في مجال واسع من الأنظار والمعارف حتى أنه كثيراً ما ينشد الشعر الفارسي من مثنوي جلال الدين الرومي ، أو من ديوان المولى جامي وكثيراً ما يخوض المباحث الفلسفية أو الرياضية أو الطبيعية لمناقضة المذاهب غير الإسلامية ، معتمداً في ذلك على أحدث ما انتهت إليه المعارف في بيئته ، ونازعاً في ذلك المنازع العجيبة في الاستدلال ، حتى أنه استند إلى حدثان اكتشاف أمريكا في تفسير قوله تعالى ، في سورة الإسراء:
{ ????? ??????? ???????????? ??????? ?????????? ???????? } (الإسراء : 15)
فبعد أن قرر نظرية نجاة أهل الفترة ممن لم تبلغهم رسالة الرسل ، وما عليه المتقدمون من أن ذلك لا يكاد يوجد قال: "وقيل بوجوده في أمريكا ، وهي المسماة بيبي دنيا قبل أن يضفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كريستوفر المشهور بـ " كولومبوس " ، فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلاً".
ولقد استطاع الآلوسي أن يقيم حداً فاصلاً بين معرفته العلمية والصوفية ، ومنهجيه الظاهري والباطني بعدوله عن طريقة الشيخ إسماعيل حقي في حمل النصوص القرآنية على معاني التصوف حتى تنبو بذلك أحياناً عن دلالتها اللغوية ، ومحاملها الشرعية فاعتبر الآلوسي معاني الآيات هي التي تقتضيها دلالة ألفاظها وتراكيبها ومستبطناتها للمعاني الحُكمية والحكمية التي تتناسب مع تلك الدلالات.(1/124)
ولكنه جعل بعد الفراغ من تفسير كل طائفة من الآيات ، فصلاً خاصاً بما ذكره الصوفية في تلك الآيات من المعاني الذوقية ، ومشى في ذلك على الأصل الذي قرره في القواعد التي افتتح بها تفسيره: وهي أن المعاني الصوفية أشارت إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، وبذلك تحاشى الادعاء بأن المعاني الصوفية هي المقصود الأصلي ، حتى يكون المعنى الظاهر غير مراد ، وحكم على ذلك بأنه اعتقاد الباطنية الملاحدة ، وتجنب أن يجعل تلك المعاني الصوفية تفسيراً ، ناظراً إلى ما كان موجهاً على الشيخ إسماعيل حقي من الانتقاد وجعل الفصل بين هذا وذاك تنبيهاً على أن المعاني التي يصفها بأنها من باب الإشارة ليست هي مفاد التراكيب ولكنها مستفادات اختص بها الذين توصلوا إليها بطريق السلوك الصوفي على معنى أنها تستخرج زيادة على المعاني الأصلية من طريق خاص بها.
ومع ذلك فإن هذا الاحتياط لم ينفعه لأنه في إيراد إشارات ، متجنباً استفادتها من دلالة اللفظ قد فتح خرقاً جديداً يقتضي أن هنالك طريقاً لاستفادة المراد غير مقتضى الألفاظ ، وهو خروج عن قاعدة أهل السنة: في أن الاتهام ليس من أسباب المعرفة.وإذا كانت تلك المعاني مقصودة فكأن غيرها حائل دونها ، وبذلك صح له أن يسمي الفقهاء والعلماء في كثير من المقامات بأهل الحجاب ، وذلك هو ما أثار على تفسير الآلوسي الطامة الكبرى من العلماء المتمسكين بالمبادئ الأصلية ، المدركين ما في تلك الخروق من الأخطار ، وقد كان أستاذنا الأعظم شيخ الإسلام سيدي محمد بن يوسف قدس الله روحه شديد النكير عليه ، عظيم التحذير منه ، لا يكاد يتسامح لأحد طلبته بالرجوع إليه ، بله الاعتماد عليه ، لهذا المعنى من التفسير بالإشارة زيادة على ما للآلوسي من نزعة خاصة في الاستدلال الفقهي لم يكن شيخنا ابن يوسف ــ رحمه الله ــ ميالاً إليها.(1/125)
والحق أن تفسير الآلوسي لو جرد عن قسم التفسير بالإشارة لكان أليق بمقامه العلمي السامي ، ولكن من نظر إلى التيارات التي تلاقت في تكوينه وتكوين البيئة العلمية التي أنجبته ، التمس له عذراً ، وأيقن بأن تعلق الأفكار بتلك المناهج من التفسير لم يكن يحتمل إلغاءها لأنها تستقل حينئذ بتوجيه الناس ، ولذلك أوردها إلى جنب التحقيقات العلمية الكفيلة بردها أو حجزها عند وضع يقصرها على حدها.
*****
نهضة الإسلام
مضى القرن الثالث عشر ، بما فيه من طلائع التطور في الأوضاع ، وعوامل التنبيه للأفكار ، والتقليب في العوائد والطباع.
وأقبل القرن الرابع عشر ، على الشرق الإسلامي ، كما قال حافظ إبراهيم: "يسير على قدمين ، من ليل ونهار ، ويطير بجناحين من كهرباء وبخار" ، فأيقظ مقدمه النفوس من سباتها ، إيقاظاً مزعجاً ، وهز الأفكار هزاً عنيفاً.ثم أوقفها أمامه خائرة غير تامة الانتصاب ، مضطربة مرتعشة ، من جراء الإيقاظ المزعج ، والهز العنيف اللذين أدخلهما عليها.
فتح الشرق عينيه على الوجود الذي واجهه من جديد بعد نومته العميقة.ونظر إلى الدنيا ، التي كان قد أعرض عنها وذهل عن مراقبتها ، برهة قصيرة فيما يحسب ، فإذا هي غير الدنيا التي كان عرفها قبل إعراضه وذهوله ، وإذا هو كالرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه:
{ ?????? ???? ??????????? ?????? ?????????? ?????????? ????? ??????? ???????? } (البقرة : 259)(1/126)
كانت أواخر القرن الثالث عشر ، مقدمة لهذا الانزعاج ، بما لاح فيها على الرجل النائم ، أو قل: الرجل المريض ، من انتفاضات واهتزازات وتقلبات ذات اليمين وذات الشمال ، هي محاولات التجديد الديني التي تجاوبت بين الحركة الوهابية بنجد ، وحركة السلطان سليمان العلوي بالمغرب الأقصى ، ومحاولات الإصلاح العملي: في نظام الجيش ، والمالية ، والإدارة ، والقضاء ، المحاولات التي تسلسلت من عهد السلطان سليم الثالث ثم عهد السلطان محمود الثاني ، في تركيا ، ومحمد علي في مصر ، إلى عهد السلطان عبد المجيد وفرمان الكلخانة والإصلاحات الخيرية.وما كانت تلك الانتفاضات والتقلبات ، إلا أثراً للآلام الملحة المضنية ، التي كانت تأكل أحشاء ذلك الجسد الهامد ، وتجافي جنبيه عن مضجعه.
فلقد كان للعالم الإسلامي قرن واقف منه بالمرصاد ، يسير أمره معه على ناموس التقابل الذي يقول فيه أبو العلاء:
يجني تزايد هذا من تناقض ذا
والليل إن طال غال اليوم بالقصر(1/127)
فقد كان الزمان في حقيقة الأمر قد استدار ، منذ قرون ، دورة قضت حركتها بأن تبتدئ شمس المعارف الضاحية على الشرق تميل إلى مغربها في الأفق الأوروبي ، منذ كان ابن خلدون يستقبل القرن التاسع بنظرة مشفقة من عواقب ذلك الدوران حين يقول: "واعتبر بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة ، لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة ، كيف زخرت فيها بحار العلم ، وتفننوا في اصطلاحات التعليم ، وأصناف العلوم ، واستنباط المسائل والفنون ، حتى أربوا على المتقدمين ، وفاتوا المتأخرين.ولما تناقض عمرانها وانذعر سكانها ، انطوى ذلك البساط بما عليه جملة ، وفقد العلم بها والتعليم" ثم يقول ، في خشية وإشفاق: "وما أدري ما فعل الله بالمشرق" ثم بعد أن يعلل نفسه بالبقية الباقية من أثارة العلوم في أقصى الشرق الإسلامي ، قائلاً: "ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة ، وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبح من العلوم العقلية" وبعد أن يباهي بسعد الدين التفتازاني ينظر إلى أوروبا مستعظماً ما بدأ يظهر فيها من نهضة للعلم لم تكن من قبل ، فيقول: "كذلك بلغنا لهذا العهد ، أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق ، وأن رسومها هناك متجددة ، ومجالس تعليمها متعددة ، ودواوينها جامعة متوفرة ، وطلبتها متكثرة ، والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار".(1/128)
كان هذا النظر البعيد ، والتوقع العجيب ، قبل أن تطلع على الناس ، أنوار العصر الحديث باكتشاف إبرة القطب ، وبارود المدفع ، وظهور الطباعة ، وصناعة الورق ، وقبل اكتشاف أمريكا ، وقبل رحلات الرواد الأولين للطرق البحرية الرابطة بين الغرب والشرق ، وقبل أن تستحكم النهضة الأوروبية ، وتلد ما ولدت في الأفكار والآداب والفنون ، وفي العقيدة الدينية ، وقبل أن تقطع مناهج التفكير والبحث الأشواط التي قطعتها إلى نهاية القرن السابع عشر بحكمة بيكون وديكارت ، واكتشافات نيوتن فما الظن بما حدث بعد كل هذه الأطوار ، وما نجم عنها ، من انبثاق المعارف ، وبروز الاكتشافات ، التي جعلت الإنسان ، في ذاته ، وفي وضعه من العالم ، في القرن التاسع عشر مسيحياً ، الثالث عشر هجرياً ، قد اختلف اختلافاً بيناً عن الإنسان وعن وضعه من العالم في كل ما سبق من قرون منذ ابتداء الإنسانية ، فمدى الإدراك الحسي قد اختلف عما كان عليه باكتشاف للنظارة والمجهر ، فضلاً عن آفاق الإدراك العقلي التي تغيرت بالاكتشافات الرياضية ، والمعارف الكونية.والأرض بذاتها قد اختلفت عند الإنسان القديم في شكلها وحركتها وأقطارها ونسب الماء فيها من اليابس والطاقة الإنسانية قد تغيرت بما تمكن له من الآلات المسيرة بقوة البخار والمدلول التناسبي بين الزمان والمكان قد انقلب بحكم ما تمكن للإنسان من سرعة المواصلات الجديدة في البر والبحر ، بوسيلة المراكب البخارية ، فأصبحت حدود الأبعاد متجاوزة لما عهد من نهاياتها من قبل وتطلبها للظرف الزماني الذي تقطع فيه أقل بكثير من تطلبها القديم.(1/129)
وارتبط بهذا الوضع الجديد ما تولد للإنسان في حياته الخاصة من مدارك وأذواق تطلع بها إلى ضروب من زهرة الحياة ، على غير ما كان يتطلع إليه من قبل ، وما تولد في حياته العامة من ربط علاقته بالأفراد وبالمجاميع ، ما غير قهراً صورة نظم الحكم ونظم المعاملات ، فقضى بتبدل دساتير الدول وقوانينها ، ظهرت آثار ذلك كله فيما تمكن للأمم التي استقرت فيها تلك المعارف وتولدت عنها ولائدها: من الاكتشافات وزهرة الحياة وسلامة نظام الحكم ، وانتظام حالة الفرد والمجتمع ، فإذا هي كما يقول حافظ: "فالتقت دولة العجب ، بدولة الأدب ، واجتمعت بدائع الاختراع ، ببدائع اليراع ، واخضل ظل هاتين الدولتين ، وامتد من المغربين إلى المشرقين ، وأضحى الناس بين نعيم الحرية ونعيم المدنية".
وإذا أثر ذلك: أن الذين فزعوا من نومهم مذعورين ، وهم أبناء الشرق الإسلامي ، لما نظروا إلى هذا العالم الإنساني الذي فاز بسعادته الدنيوية أيقنوا أن ما كان يقض مضاجعهم من آلام لم يكن ناشئاً إلا من الصولة التي صال عليهم بها قرنهم الغربي ، فأقبلوا يعدون أنفسهم لأن يفوزوا بما فاز به ، ويتلمسون قواقع الأدواء منهم وانتهى بذلك دور الانتفاضات التي ختم بها القرن الثالث عشر ، ومثل تفسير الآلوسي منها شيئاً ضئيلاً ، على نحو ما يمثل أثر فكري انتفاضات لا يحكمها العزم ، ولا يمليها الوعي ، وأقبلوا على حركات تمليها العزائم الواعية ، وتتقدم الجهود الفكرية لتسييرها في فروع الحياة الإسلامية عامة منطلقة بسيرها ذلك من أصل الحياة وقوامها وهو التفكير الديني المؤسس على القرآن وتفسيره.
***
الإصلاح الديني(1/130)
كان ذلك الهول المزعج ، الذي نزل بالعالم الإسلامي من جراء الأحداث المرعبة التي أصابته فنبهته إلى نسبة مقامه ، في تأخره وانحلاله في مقام العالم الأوروبي ، في تقدمه وحزمه ، هولاً ، قد ضيق من صدره الذي كان منشرحاً للإسلام ، تضييقاً أحرجه وأضناه ، ومس مساً مؤلماً دامياً ، موقع العقيدة الدينية من قلبه ، إذ أصبح يشعر بأن حقيقته القومية الإسلامية قد بدأت تبتعد عنه ، مندرجة في الماضي المنقرض ، وأنه بقي في حاضره غريباً عن كل شئ غربة لاتقف عند حد ما قال أبو الطيب:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أبلغ في وحشة الاغتراب ، أعني غربة الرجل في وطنه ، التي يقول فيها أبو العلاء:
أولو الفضل في أوطانهم غرباء
تشذ وتنأى عنهم الغرباء
ثم إلى حالة من الغربة فوق ذلك كله: هي غربة الإنسان بنفسه عن نفسه ، حيث يحس بأنه واقف من صروف أحداثه وتقلبات زمانه ، موقفاً يجعله شاهداً في الغائبين ، وغائباً معدوداً في الشاهدين حيث يكون بحسه مع الأحداث مخالطاً لها ، ويكون لبه وجوهر نفسه قد تخلفا عنه ، لأنهما لم يستطيعا لتلك الأحداث الثقيلة المنكرة ، خلطة ومراساً ، فيكون في وقت واحد هو ليس هو ، ويشهد الأحداث شهوداً حسياً في ذهول إدراكي إذ تمتد يده إلى أمور لا يطمئن إليها قلبه ، ويرى بصره قريباً ، ما يوده فؤاده بعيداً ، فتضطرب في نفسه الأحاسيس ، وتتدافع العوامل وهو تارة يبتعد عن حضوره النفسي متعلقاً بجريان الأحداث الماثلة من حوله ، وتارة أخرى يغيب عن حضوره الشبحي طائراً إلى مسبح نفسه في آفاق الحقائق المجردة ولسان حاله ينشد:
ردوا على جفني النوم الذي سلبا
ونبئوني بعقلي أين ذهبا
فلا يزيد عليه يوم على ذلك إلا وحيرته زائدة ، واضطرابه مرتبك به ، وألمه بالغ مبلغ ما قال ابن الفارض:
عمره واصطباره في انتقاص
وجواه ووجده في ازدياد
في قرى مصر جسمه والأصيحا
ب شاما والقلب في أجياد(1/131)
ذلك هو حال العالم الإسلامي في التنافر بين مثله العليا وبين واقعه المحسوس ، أواخر القرن الهجري الماضي ، يؤمن في نفسه بعظمة وعزة لا يجد لهما في الأمر الواقع مظهراً ، ويقدر قرنه الأوروبي بمنزلة الدون فيجده في الواقع قد سما فوق تلك المنزلة بمراحل ويهجر من شرائعه وعوائده وآدابه ما يجب عنده أن لا يهجر ، ويتلبس من شرائع غيره وعوائده وآدابه بما لا يجوز في نظره أن يتلبس به ، فإذا الفوضى العقلية تنتشر حوله وتسود عليه ، وإذا أمواج الأهواء السياسية تتقاذفه ، وإذا هو مسلوب الإرادة ، مسلوب اللب ، يفعل الشئ ولا يقبل أن يقال أنه فعله ، ويستحل العمل ولا يرضى على من يقول له: إنه حلال ، وكان من طبع تلك الجهالة الأليمة ، أن تنتهي بالمجتمع الذي نزلت به إلى إحدى نتيجتين:
إما الانسلاخ التام عن مثله ومبادئه الاعتقادية ، بتعوده شيئاً فشيئاً ، ما هو جار عليه من واقع ناب عن تلك المثل والمبادئ ، وإما عزم جديد يدفعه إلى أن يجمع نفسه النافرة ، إلى نفسه الحاضرة ويتناول ما هو أمامه بجأش رابط ، وفكر ثاقب ، حينما يستطيع أن يجد في مثله العليا ومبادئه الاعتقادية مساغاً لتلك الأحداث التي هو خائض غمارها من حيث يدري ولا يدري.
ولكن الذي كان يحول بينه وبين ذلك العزم الجديد: أن المثل العليا ، والمبادئ التي استمدها من تعاليم الإسلام ، كانت غير متفتحة لأن يجد فيها مساغاً للأحداث الداهمة عليه ، فإن تلك المبادئ الإسلامية السمحة التي آخت بين العقل والدين ، ومكنت للأحكام الشرعية محل انطباقها ، دائر مع دوران المعاني والمصالح ، واختلاف الظروف الزمنية والمكانية ، كانت مع ذلك قد حملت من البدع ، وسئ التأويل وقصور الأنظار ، ما لا قبل لها باحتماله فقصرت المعاني عن غاياتها ، وانكمشت مرامي الدين عن أنظار العلم والحكمة ، وزادها ظلام عصور الجهالة وقرون الانحلال تضاؤلاً وانكماشاً.(1/132)
فلما هب المجتمع الإسلامي من نومته ، على فجر النهضة في أواخر القرن الماضي ، وجد الأحكام الإسلامية والحكم القرآنية محصورة وراء سور مضروب عليها ، من البدع والعوائد ، لا تستطيع أن تتعداه إلى المحيط الواسع ، والحقل الخصب ، إلا إذا اقتدت بنور التفكير الديني يهديها إلى طريق تخلص به من سور البدع المحيط بها حتى تتحرك حرة طليقة ، ويرى الوجود صورتها النقية مجردة عما كان يرين عليها في محبسها وراء سد البدع والعادات.
وفيما كان العالم الإسلامي يتطلع من حيرته إلى حكمة تخرج له الحقائق الدينية نقية من وراء أسوار البدع ، ويتصور هذا العمل المنتظر في صورة ربما كان يتصورها اقتباساً من مثل لها مرت به في القرون الغابرة من آثار الطرطوشي ، والشاطبي ، وابن الحاج ، وابن تيمية ، وابن القيم ، والشوكاني ، والرهوني ، والسنوسي ، وابن عبد الوهاب.(1/133)
كانت محاولات أخرى منصبة إليه من الغرب ومن الشرق تتجه إلى قطع أمله من تجديد كيانه الإسلامي ، إذ تبرز له الحقائق الدينية وراء ذلك السور ، ولن تستطيع أن تجد فيه منفذاً للخلاص ، وتروج في نظره عظمة الحضارة الأوروبية ، وضرورة إقباله عليها ، موسوسة وراء ذلك بأن للإسلام شأنه الزائل ، ولتلك الحضارة يومها الماثل ، ومغرية له من طريق هذا الوسواس بالتعلق بمبادئ تخيل إليه أنها المنسجمة مع روح تلك الحضارة ، هي مبادئ الفلسفات المادية المعطلة التي كانت تتمثل في الدعوات الإلحادية الآتية من الغرب بآراء ديدرو وفولتير وداروين أو بالمذاهب الاجتماعية والإباحية التي كانت تطلع في أوروبا تحت عنوان التقدم والتحرير ، وتتمثل في الدعوات الدهرية الهدامة ، التي بدأت تظهر في الشرق الأوسط مجددة الطريقة الدهرية القديمة في مذهب النتشري (1) الذي طلع قرنه في الهند ، أو مجددة الدعوات الباطنية في المذهب البابي الذي تولدت دعوته في إيران ، فكانت هذه التيارات الصاخبة التي انصبت إلى موقف العالم الإسلامي ، في حيرته أمام ولائد النهضة الغربية ، التي غزته في عقر داره ، من شأنها أن تدفع به إلى اضطراب تتزعزع له أقدامه حتى يهوي منفصلاً عن كيانه الديني ، انفصالاً باتاً ليذهب مغموراً مجروراً في سبيل النهضة الغربية إلى حيث يفقد كيانه القومي ويستطيع أن يستبدله باستعارة كيان غيره.
__________
(1) 1 كلمة انجليزية بمعنى " الطبيعة ".(1/134)
فكان الذي تحقق فيه أمل العالم الإسلامي ، في بروز دعوة دينية هادية ، تكفل إظهار الحقائق المحمدية من وراء سياج البدع ، وترد غائلة هذه التيارات العادية التي كانت توشك أن تودي به ، هو رجل من أرومة العرب المستعجمين ، ينتمي إلى النسب الحسيني الطاهر ، نشأ بين نخوة النسب وحكمة العلم وخبرة السياسة واستكمال جهازه العلمي في العربية والفارسية من علوم لسانية وأدبية ودينية وعقلية ، فبلغ فيها المنتهى على ما هو شأن أهل القطر الذي نشأ فيه ، وهو بلاد أفغانستان ، وما كان هذا الرجل إلا السيد جمال الدين الأفغاني.
***
جمال الدين الأفغاني
إذن ظهور جمال الدين الأفغاني من القطر الذي ظهر فيه في وسط آسيا قد كان مصدق التوقع الذي كان توقعه العلامة ولي الدين ابن خلدون ، من أن "بضائع العلوم الحكمية لم تزل متوفرة في عراق العجم وما بعده ، وأنهم على ثبج من العلوم الحكمية".
فقد نشأ السيد جمال الدين الأفغاني على دراسة حكمية عميقة سامية خالط بها ابن سينا ، والغزالي ، وابن رشد ، والإمام الرازي ، وابن خلدون ، وامتزج فيها مع السهروردي والكاتبي والقطبين: الرازي ، والشيرازي ، والعضد ، والدواني ، والميبدي ، والسعد ، والسيد.
وكانت سنة تلك الدراسات الحكمية الراقية الجامعة مرنة لم تنقطع عن عموم البلاد الأعجمية: من إيران إلى الهند ، كما انقطعت من البلاد الإسلامية العربية ، حيث هجرت تلك الكتب ونبذت أساليبها ظهرياً واتخذت مباحثها ومسائلها نسياً منسياً.(1/135)
وكان موقع بلاد أفغانستان حيث شب السيد جمال الدين واكتمل ، قاضياً بأن يتمكن لناشئة العلم فيها من التعلق بطريقة الماضين من رجالها: مثل الفخر الرازي ، والتفتازاني ، والاتصال بنبغاء الحكمة الإسلامية في الأقطار المجاورة لها في الهند وما وراء النهر ، وإيران ، حاضريهم وغابريهم ما يوجه بالناشئة الأفغانية إلى الإقبال على نهج الحكمة الإسلامية الذي عمرت به بيئتهم على حين هجره الكثيرون ، لا سيما وأن مجاورة القارة الهندية وشديد الاتصال بها ، مع ما يحمي أفغانستان من أن تنالها يد الحكم الاستعماري ، التي قبضت على الهند ، قد كان من شأنه أن يفتح للحكيم الأفغاني ، الحديد البصر الواسع النظر ، آفاقاً من المعرفة الذهنية والخبرة الشهودية قلما تتاح لغيره من أبناء الأقطار الشرقية الأخرى.
فالاستعمار البريطاني في صورته الطاغية الهادئة بعد القضاء النهائي على آخر رمق من إمبراطورية المغل ، في حرب السبهي قد كان عبرة لاستيلاء القلة على الكثرة ، ومنال الدخيل من الأصيل ، من شأنها أن تبعث في نفس من يرقبها عن كثب ، اعتبارات ومقايسات وأنظاراً في الأسباب والمسببات تفتتح له في إدراك ما أظهر الله من آية ، وما أخفى من سر ، في شأن هذه الأمة العجيبة التي تقلبت بها الأحوال بعد سلطان مبسوط ، وصفات فاضلة وعمران مستبحر وعزة قعساء إلى ما تعانيه من مذلات وإهانات وترزء به من خراب في البلاد أو فناء في الأرواح.
والحياة التي كان يحياها الإنكليز في الهند ، في المدن الخاصة بهم بضواحي العواصم الهندية الكبرى ، قد كانت مثلاً غريباً في نظام الأسرة وحياة الجماعة وسيطرة الحكمة والرشد على كل مظهر من مظاهر السلوك.(1/136)
والآلات التي نصبها المحاكون في المراسي والبراري مع من يحكمها ويسيرها: من رجال العلوم الرياضية ، كانت برهاناً على أن لتلك العلوم عند هؤلاء الدخلاء مبلغاً وراء الذي تركناها عليه ، نحن معاشر الأصيلين ، لما رفعنا أيدينا عن الاكتشاف والبحث في العلوم الرياضية ، وجففنا أقلامنا من التأليف فيها.
كل هذه الدواعي للنظر والنواحي من التأمل كانت مبذولة للسيد جمال الدين الأفغاني في البلاد الهندية لما سافر إليها شاباً سنة 1271هـ ، وهو ابن ثمانية عشر عاماً قد استكمل تخرجه في العلوم العالية ببلاد أفغانستان ، فأقام في الهند نحواً من سنتين يستكمل العلم بتعاطي الرياضيات على الطريقة الأوروبية الجديدة ، ويستكمل العقل بالتأمل في تلك الاعتبارات الحكيمة الاجتماعية التي ينطق بها وضع الحياة في القارة الهندية ولا سيما وضع الحياة الإسلامية من هموم المجتمع الهندي ، وواصل سيره من الهند في سفرة طويلة كثيرة المراحل عبر الأقطار حتى انتهى إلى الحرمين الشريفين فحج في حجة سنة 1273هـ ورجع إلى وطنه الأفغاني ، وقد ملأ وطابه خبرة بأحوال الأقطار وتجارب الأمم.(1/137)
وأقبل في أفغانستان على الحياة السياسية فاشترك في الحكم ، وزاد خبرة بما عرف من ممارسته وتقلباته ، حتى انتهى إلى منصب أكبر المسئولين عن الحكم في إمارة أفغانستان على عهد أميرها محمد أعظم خان ، إذ أصبح وزيره الأكبر في كابل ، فوقف على دخائل الدسائس الاستعمارية ، وشهد من خراب الذمم وخيانة الأمانات ما زاده إدراكاً لحقائق الأدواء التي نزلت بالعالم الإسلامي من فساده الداخلي الذي جر إليه التسلط الخارجي ، وبعد أن خاض تلك التجارب وتولى تلك الدولة خرج السيد جمال الدين سنة 1285هـ قاصداً الهند مرة أخرى ، فلم يسمح له بطول المقام فيها ، وقصد منها مصر فلم يقم فيها أكثر من أربعين يوماً ، تردد فيها على الجامع الأزهر واختلط بكثير من طلبة العلم ورواد الأدب ، وسافر من مصر إلى الآستانة فظهر فيها علمه وفضله ، وهي قلب العالم الإسلامي ، وقابله فيها من الأذى والدس ما لم يسلم منه ذو قيمة من الوافدين على العاصمة العثمانية ، وأرغم على الخروج من الآستانة سنة 1288هـ فعاد إلى مصر ، وأقام فيها هذه المرة ثماني سنين ، كانت هي طور بروز حكمته ومعرفته ، والإصداع بدعوته في الإصلاح الديني ، بما لها من أثر جديد في توجيه تفسير القرآن.
فقد كان عمله طيلة الثمان سنين التي أقامها بمصر ، بعث ما كان مهجوراً من مواد الثقافة الإسلامية وطرائقها بتدريس الكلام والحكمة والرياضيات وتحريك مثارات المباحث ، وفتح مسالك النظر وتهيئة فرصة التقرير والتحرير وصقل ملكاتها بالنقد والمران ، كانت حياته مدة إقامته بمصر حياة حكيم صوفي زاهد متواضع ، أقام كما يقيم الوافدون من عامة العجم في " خان الخليلي " وبدأ يتصل بطلبة الأزهر ويشيع ذكره بينهم فيغشون بيته ويجاذبونه أطراف الحديث فيجدون عنده رأياً وعلماً ومقدرة ما كانوا يفرضون توفر نصيب منها لأكبر من يشار إليه يومئذ بالعلم.(1/138)
وكان ينبههم إلى ما في الإعراض عن الدراسات الحكمية من علمية وصوفية من نقص في العالم الإسلامي يجعل نتاجه العلمي ضئيلاً منقوصاً ، ونظره إلى الحقائق العلمية سطحياً غير نافذ ، حتى حبب إليهم شعورهم بهذا النقص السعي في تلافيه ، فرغبوا إليه أن يدرس لهم طائفة من الكتب ، فأقبل يقرئهم من عوالي كتب الكلام والأصول: العقائد النسفية بشرح التفتازاني والعقائد العضدية بشرح الدواني والتوضيح لصدر الشريعة بحاشية التفتازاني التلويح ، ومن كتب المنطق: شرح القطب الرازي على الرسالة الشمسية والمطالع للأرموي ، ومن كتب الحكمة العليا والتصوف: الإشارات لابن سينا وحكمة الإشراق للسهروردي والرسالة الزوراء للدواني ، ومن كتب الهيئة والرياضيات: كتب الجغميني ، والطوسي ، مع التوسع في كل ذلك ، بإيراد الآراء الجديدة والاكتشافات ومناقشة المذاهب والمقالات بما سما بطلبته إلى أوج الحكمة الحق وكشف لهم عما كانوا فيه من منازل التقاصر والقصور وعما عليه الوضع العلمي في أوطانهم من موقف الجمود.
وكان في مقدمة المنتسبين إليه والآخذين عنه من هو عضده في عمله والقائم على حكمته ومذهبه الإصلاحي من بعد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.(1/139)
وأنهى السيد جمال الدين هذه الإقامة الطيبة الخصبة في مصر ، باتجاه إلى الاشتراك في السياسة لا يهمنا أمره ، ولا نحكم عليه الآن بصواب أو خطأ في أصله ومنهجه ، إلا أننا نذكر أن ذلك كان سبباً آخر جد في مصر سنة 1296هـ ، فلم يكن خروجه منها رزءاً بالغاً على خطته الإصلاحية العلمية ، لأن بذرته كانت قد أخرجت شطأها ، والشعلة التي كانت ملتهبة في فكره وروحه كانت قد أضاءت مقاييسها في أفكار وصدور ، وعلاوة على أن خروجه من مصر قد ألقى به إلى الهند مرة ثالثة ، فزاد تعمقاً في اختبار المذاهب ووقف بقلمه لمقاومة الدعوة الإلحادية الدهرية إذ كتب هنالك رسالة باللغة الفارسية ، كانت دستور المنهج الإصلاحي الديني الذي سارت عليه من بعده الدراسات الدينية والقرآنية في مجلة المنار وآثار الشيخ محمد عبده.
هذه الرسالة هي التي حرر ترجمتها فيما بعد الشيخ محمد عبده ، بعنوان "الرد على الدهريين" وهي التي بسط فيها جمال الدين رأيه في الحكم على الفلسفة الطبيعية المعطلة ، وفساد مذاهبها وسوء نتائجها في الأخلاق والنظم الاجتماعية ، مقارناً ذلك بما للدين من أثر في تكوين الخصال النفسية الطيبة وحماية النظم الاجتماعية الصالحة.
وقارن فيها أطوار تواريخ الأمم بما أنالت من سعادة في التدين وما أصابها من شر بالتورط في المذاهب الإلحادية.
وجعل محور تلك المقارنة التاريخ الإسلامي فحمل كل ما أصاب المسلمين في أفكارهم واخلاقهم على الدعوات الباطنية والانحرافات الاعتقادية.
وانتهى إلى أن الدين هو سبب السعادة التامة ، وأن دين الإسلام قد فاق في تلك المزية بما لايساويه فيه دين ولايقاربه ، بما هذب من العقول ، وما طهر من الطبائع ، وانتهى إلى نقطة سلبية استفهامية هي منطلق العمل الإيجابي الناشئ بعد من حكمته.(1/140)
وهي قوله: فإن قال قائل: إن كانت الديانة الإسلامية على ما بينت فما بال المسلمين على ما نرى من الحال السيئة والشأن المخزي.فجوابه: أن المسلمين كانوا كما كانوا وبلغوا بدينهم ما بلغوا والعالم يشهد بفضلهم ، واكتفي الان من القول بهذا النص الشريف:
{ ?????? ?????? ??? ???????????? ??? ????????? ??????? ?????????????? ??? ???????????????? } (الرعد : 11)
*****
الشيخ محمد عبده
وتفسير المنار
هذا حكيمنا الأفغاني لم يكد يلقي على العالم الإسلامي من حكمته السامية ، التي أفاضها من مقامه من الهند في بلاد الدكن بمدينة حيدر آباد ، خلاصة نظره في المقارنة بين ماضي المسلمين الزاهر ، وحاضرهم العاثر ، ما جعل مداره على النص القرآني الشريف:
{ ?????? ?????? ??? ???????????? ??? ????????? ??????? ?????????????? ??? ???????????????? } (الرعد : 11)
حتى استمسك جمال الدين بالعروة الوثقى من ذلك التنبيه القرآني البليغ ، فأقبل يبحث عن طريق يسلكه المسلمون ليتمكنوا من رد حالتهم من السئ إلى الحسن كما غيروا ما بأنفسهم من الحسن إلى السئ ، فلم ينته به الفكر إلا إلى إيجاد حركة إسلامية جامعة تعمل على إيقاظ أفكار المسلمين إلى إعادة الحكم الإسلامي والهداية الدينية ، إلى ما كانا عليه في العصر الأول: من الطهر والعدل والكمال ، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه ، وبيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجباً للسقوط والضعف ، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات ، والاحتراس من غوائل ما هو آت.(1/141)
وعلى غرار هذه القواعد نسج السيد جمال الدين خطة عمله الإصلاحي الذي شمر للاضطلاع به عند استهلال هذا القرن الرابع عشر ، لما فارق البلاد الهندية أواخر سنة 1300 هجرية ، وسنة 1883 ميلادية فمر على مصر من قناة السويس ، وكتب من هنالك يستنجد بأخص أبنائه ، وأخلص أصفيائه: الشيخ محمد عبده ، ليتداركه بقوة جنانه وبيانه ، ويلتحق به إلى أوروبا لينجزا معاً ما فكر فيه من أمر.
وكانت يد الجبروت ، التي خرجت بالسيد جمال الدين من الهند ، قد خرجت قبله ، من حيث لا يعلم هو ، بصديقه وتلميذه من مصر منفياً ، فأقام في بيروت.
جمعت رياح الأحداث بين الرجلين في باريس ، أوائل السنة الموالية ، فامتزجت الروح بالروح ، وتجسمت الفكرة القلم ، وأقبل جمال الدين بعقله ، ومحمد عبده بقلمه ، يخطان منهج الخلاص في جريدة " العروة الوثقى " ، مؤلفين بين مراحله العرضية في معالجة الأحداث الجارية يومئذ في العالم الإسلامي ، وبين مقاماته الجوهرية في معالجة الانحرافات: الاعتقادية ، والخلقية ، والاجتماعية ، التي نزلت بالعالم الإسلامي ، وبيان براءة الإسلام منها ، وإن عود الإسلام إلى حالة عزه متوقف على تقويم تلك الانحرافات.
وتجسدت بذلك عناصر الفكرة الإصلاحية جلية لصاحبيها ، قبل أن تتجسد لمن عداهما من الناس ، واتخذت فكرة جمال الدين الأفغاني من بلاغة قلم تلميذه ، ونفوذ بيانه ، معارض برزت فيها صورها صافية ناصعة ، وقد تخلصت مما كان رائناً عليها من انقباض طبعه ، وتشاؤم نزعته وانحلت عنها عقدة العجمة التي كانت ترسف في قيودها ، فأصبح الرجلان متكاملين ، وتمازجا وتفاعلا حتى صارا مثنيين ، فإذا كل منهما هو الآخر بعينه.(1/142)
وضرب الدهر بينهما بضرباته ، فافترقا من باريس ، وسار أحدهما مشرقاً والآخر مغرباً: إذ ذهب السيد الأفغاني إلى الروسيا وألمانيا ، ثم رجع إلى إيران ، ثم عاد إلى لندرة ، ومنها انتقل إلى الآستانة التي توفى بها في شوال سنة 1314هـ مارس سنة 1897م.وأما الشيخ محمد عبده فرجع من باريس إلى تونس ، ثم انتقل من تونس إلى بيروت ، ثم عاد إلى مصر سنة 1306هـ.
فإذا كان الحكيمان قد أصبحا عبارة عن صورتين متطابقتين ، فإن الصورة التي نتتبع فيها ما كان لتلك الحكمة من أثر في تفسير القرآن إنما هي الصورة الشرقية العربية: ونعني بها صورة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
كان الشيخ محمد بن عبده خير الله من الريف المصري ، من قرية في منطقة شبراخيت تسمى " محلة نصر " لم يبتدئ بتعلم القراءة والكتابة إلا وهو ابن عشر سنين.ثم بعد أن حفظ القرآن العظيم وجوده ، تقاذفته مناهج التعليم المتبعة يومئذ بين اطمئنان ونفور ، حتى أخذته يد إرشاد صوفي طاهر هذبت نفسه ، وحببت إليه العلم فنال منه طرفاً بالمعهد الأحمدي في طنطا ، ثم التحق بالجامع الأزهر بالقاهرة سنة 1282هـ وداوم على الدراسة إلى أن اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني أول سنة 1287هـ فلازمه ثماني سنين ملازمة كانت هي عامل تكونه الحقيقي ، وتخرجه على المناهج الحكمية النظرية: التي أحياها وساقه إليها السيد جمال الدين.
فلم يكن الشيخ محمد عبده في الحقيقة إلا أثراً من آثار السيد الأفغاني ، لم ينفذ إلى لباب المعارف إلا بتوجيهه ، ولم يتذوق روح حكمتها إلا بنفحاته ، فلا عجب أن يكون بما أتيح له من رفقته ، وما تأتى له: من تشرب أفكاره ، وهضمها ، والتصرف فيها تصرف الإيضاح والضبط والتركيب والتحرير ، صورة منه ، تشرب روحه ، وتنفس حكمته ، وأسس مباني عمله على القواعد التي وضعها الجمال بيده.
وعلى ذلك كانت الحكمة التي تعلقت بها حكمة جمال الدين الأفغاني: وهي آية:
{(1/143)
?????? ?????? ??? ???????????? ??? ????????? ??????? ?????????????? ??? ???????????????? } (الرعد : 11)
نفس السبب الذي تعلق به الأستاذ الإمام محمد عبده في معارج حكمته وكانت خيبة التجربة التي ابتدآها في باريس: وهي تجربة إرجاع المسلمين إلى السيرة الأولى عن طريق الإصلاح السياسي ، خيبة محدثة في نفس الشيخ محمد عبده عبرة ودرساً لم يصداه عن متابعة طريق الوصول إلى التغيير المقصود بل زاداه تصميماً على إدراك الغاية ، واقتناعاً بأن الذي وضعت عليه اليد في باريس ليس مكمن الداء الأصلي ، ولا محل العلاج المطلوب بالتغيير.
وإنه إذا كان بالمسلمين فساد في الوضع السياسي ، أفليس في هدى القرآن ، الذي هدى من كان قبلهم ممن هم أجهل منهم وأضل ، ما هو كفيل بإصلاح ذلك الفساد ، فما بال الأولين اهتدوا بهدى الكتاب المبين فأصلحوا ما بهم من فاسد ، وقوموا ما بهم من منحرف وهؤلاء الآخرون عجزوا عن إصلاح فسادهم ، وعلاج دائهم ، مع أن الدواء الذي عالج أوائلهم بالأمس موجود بين يديهم اليوم ، فكانوا كالذي يتجرع الغصص من آلامه ، والدواء في بيته ، وهو لا يتناوله.
كان القرآن حينئذ ، على ما رآه الشيخ محمد عبده ، الدواء الشافي للمسلمين مما هم فيه ، ولكنهم لا يتناولونه ، فأين اليد التي تقرب من هذا المريض دواءه ، وتناوله إياه.لا جرم أنها لن تكون إلا يد التعليم الصحيح للإسلام ، والتفسير الحكيم للقرآن.
دخل شيخنا محمد عبده على هذا اليقين إلى بيروت ، فصادفها تغلي بحركة إصلاحية إسلامية ، كان قد ألهبها فيها المصلح التركي ، أبو الأحرار: مدحت باشا وقد كان والياً عليها ، وأزكى لهيب تلك الحركة حرص المسلمين على مجاراة المسيحيين في نهضتهم التعليمية ، التي مهد مسالكها في وجوههم ما كانوا متحللين منه مما بقي يربط المسلمين بالدولة العثمانية من روابط.(1/144)
فأقبل الناس بتلك الدواعي على الشيخ محمد عبده ، عند حلوله في بيروت ، إقبالاً عرف به قدر ما امتاز به من المواهب ، فأصبح منها بالمنزلة التي كان عليها السيد جمال الدين بمصر ، عندما أقام بها إقامته الطويلة ، إلا أن مقام الشيخ محمد عبده كان أوضح ، والاحتراز منه كان أقل.
وهنالك ابتدأ ينتهج النهج الذي رآه الموصل إلى تحقيق حالة إسعاد المسلمين والإسلام ، وهو منهج تقرير العقيدة الدينية وتفسير القرآن تقريراً وتفسيراً يتجردان عما ربط به كل منهما: من الطرائق الملتزمة ، والأنظار غير المسلمة.
فابتدأ في الجامع العمري ببيروت يعقد مجلساً للتفسير ، ثلاث ليال في الأسبوع ، لا يتبع فيه الطريقة الملتزمة يومئذ من الاعتماد على كتاب يقرر كلامه ويدور البحث حول مسائله وعباراته ، ولكنه كان يقرأ الآية من القرآن ويفيض في شرح معانيها ، واستخراج أسرار حكمتها ، على طريقة لم يسبق إليها ، ويلتفت على نور تلك الحكمة القرآنية ، إلى أحوال المسلمين وأوضاعهم مبيناً فسادها بالمقارنة ، ومستمداً من الهدى القرآني ما يوضح ضررها ، ويشير إلى ما يدفع خطرها.
وبذلك أبرز للعيان صورة من العلم الديني اختلفت عن الصورة المألوفة عندهم التي عكف الناس عليها منذ قرون.واطرد سيره على ذلك المنهج في ما ألقى في بيروت من دروس أهمها درس العقيدة الذي كان يلقيه بالمدرسة السلطانية ، والذي كانت خلاصته ما برز في وضع عجيب يعتبر ابتداء مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي.وهو (رسالة التوحيد).(1/145)
ثم تتابع سيره على تلك الخطة نفسها لما عاد إلى مصر سنة 1306هـ وحاول إصلاح مناهج التعليم الإسلامي على صورة تحقق ذلك المثل الذي ضربه في دروسه ببيروت ، لا سيما محاولته الأولى في إصلاح الأزهر: لما توصل إلى جعل إدارته بيد مجلس كان هو عضواً دائماً فيه ، وإسناد مشيخته إلى الشيخ حسونة النواوي ، الذي يراه أمثل أهل الأزهر في ذلك الدور ، عوضاً عن الشيخ محمد الإنبابي وكان ذلك سنة 1312هـ فمضت له نحو خمس سنين يعمل على الخروج بالأزهر مما كان عليه من أوضاع متخلخلة في الإدارة والنظام والتعليم ، لم ينته به في ذلك إلى الغاية التي رجاها ، إذ انفصل عن مجلس إدارة الأزهر باستقالة اضطر إليها.
فعدل إلى طريق التكوين الفكري لمن يعي معاني الإصلاح الديني التي سعى إليها بمعاودة درس تفسير القرآن العظيم بالجامع الأزهر أوائل سنة 1317هـ فاستمر على ذلك الدرس ست سنين بطريقته العجيبة وكان تلميذه السيد محمد رشيد رضا يلخص تلك الدروس ، وينشرها في مجلته الإسلامية الكبرى: مجلة المنار ، ولذلك اشتهر التفسير باسم (تفسير المنار).
***
تفسير المنار(1/146)
إن التفسير المسمى بـ" تفسير المنار " يقوم في حقيقة أمره على ثلاثة رجال: أولهم السيد جمال الدين الأفغاني الذي انقدحت عن فكره نظرية وجوب إصلاح المجتمع الإسلامي ، برجوع المسلمين إلى منبع الدين وتلقيه من هنالك صافياً مبرأ عما اتصل به من الشوائب ، والرجل الثاني ، من الثلاثة الذين قام على كاهلهم تفسير المنار ، هو الشيخ محمد عبده الذي باشر فعلاً تفسير القرآن العظيم على طريقة تطبيق النظرية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني ، وكان ذلك في الدروس التي قام بها الشيخ محمد عبده في بيروت ، بين سنة 1301هـ وسنة 1303هـ ثم الدروس التي قام بها في مصر في الست سنين الأخيرة من حياته: ما بين سنة 1317هـ وسنة 1323هـ وتناولت من أول القرآن العظيم إلى نهاية الآية السادسة والعشرين بعد المائة من السورة الرابعة ، سورة النساء: وهي قوله تعالى:
{ ??????? ?????? ??????? ?????? ?????????? } (النساء : 126)
والرجل الثالث الذي تمت به سلسلة الثلاثة الذين يصح أن ينسب إليهم تفسير المنار هو أبو عذرته حقاً ، وأعني به الشيخ محمد رشيد رضا ، الذي كان الداعي للشيخ محمد عبده إلى أن يواصل ، في مصر بجهد ذي بال ، ما كان ابتدأ به في بيروت بجهد ضعيف ، ثم كان هو المتولي لتقييد ما يمليه الشيخ محمد عبده وتلخيصه ، ثم لنشره تباعاً في مجلته: مجلة المنار التي اشتهر التفسير باسمها ، ثم كان الشيخ رشيد أخيراً هو المكمل للتفسير: بما يدرجه من عمله وبيانه أثناء تلخيص ما قرره الشيخ محمد عبده ، وبما وصل به الكتاب من حيث انتهى الشيخ محمد عبده من تتمة التفسير استقلالاً بما كمل به المجلد الخامس وتتابعت عليه بقية المجلدات حتى المجلد الثاني عشر.
فإذا كان هناك من بين الثلاثة: جمال الدين ، وعبده ورشيد رضا من هو أحق بأن ينسب إليه تأليف هذا التفسير من الآخرين فلن يكون ذلك غير المؤلف الحقيقي له فعلياً: وهو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا.(1/147)
على أن الميزة الحقيقية لذلك التفسير في منهجه البديع ، وفي ما اشتمل عليه من أمور اشتهر بها ، ورجع بسببها إليه ، إنما تثبت خاصة لملقي تلك الدروس وهو الشيخ محمد عبده.
كان الشيخ محمد عبده ينظر إلى حقائق الدين الإسلامي على نحو يختلف اختلافاً واضحاً عما كان ينظر به إليها أكثر معاصريه من علماء الإسلام ، وكانت أصول نظرته تلك قائمة في نفسه يسير عليها ، لكنها غير بارزة المعالم للناس ، كما كانت المناهج الاجتهادية التي سار عليها أئمة المذاهب قبل تدوين أصول الفقه.فكان اتصال الشيخ رشيد به ، فرصة لتفتق تلك المبادئ ، واتضاح تلك الأصول ، بالدور العظيم الذي قامت به مجلة المنار في خدمة الدعوة الإصلاحية.
نشأ الشيخ محمد رشيد رضا في البلاد الشامية ، ببلدة القلمون ، على مقربة من مدينة طرابلس ، من الجمهورية اللبنانية وتكون على المناهج التي يتكون عليها علماء الشام ـ غير الأزهريين ـ من إيثار الجانب المنقول ، من جانبي الثقافة الإسلامية ، على الجانب المعقول منها ، والجنوح إلى طريقة التوسع في المقاصد ، من العلوم الدينية ، عن طريقة التعمق في الوسائل والآلات ، مع التزام خطة من السلوك الصوفي ، والانطباع بأثر من المعارف الذوقية ، ترسخ به أقدام العلماء الشاميين في مقام التربية ، ويشع نفوذهم الروحي ، في مدنهم وقراهم ، بما لا ترسخ به أقدام العلماء في غير البلاد الشامية ، ولا يشع لهم نفوذ روحي على من حولهم.(1/148)
وإن في تلك النشأة السلفية الصوفية لما يوقظ الآخذين بها من أهل العلم إلى نوع من المراقبة الفردية والاجتماعية: يقيمهم على نهج تغيير المنكر ، والنهي عن الفساد ، والدعوة إلى إصلاح حال المسلمين ، وتجديد معالم الدين الإسلامي ، وفي ذلك ما يشرح صدور هؤلاء العلماء المتصوفين للدعوات الإصلاحية ، في مبادئها ، ما لا تنشرح به صدور غيرهم من العلماء ، وإن كانوا أرسخ قدماً منهم في العلم ، وأبعد صيتاً فيه وكذلك كان السيد رشيد رضا في نشأته الصوفية ، وطريقته النقشبندية ، شديد الانقباض مما حوله ، سريعاً إلى الانتقاد على الناس في ما هم مقيمون عليه من العوائد التي لا تقرها أحكام الدين وآدابه.
واتصل الشيخ رشيد في نشأته تلك بعلم من أعلام النهضة الفكرية الإسلامية ، هو الشيخ حسين الجسر ، وكان من أهل اليقظة والعمل ، مارس الحياة الاجتماعية ، واشتغل بالصحافة ، وقارن بين ما عليه المسلمون من التأخر والضعف ، وما عليه غيرهم من التقدم والقوة ، فأدرك وجوب الدفع بالعالم الإسلامي إلى الأخذ بوسائل من العلم والعمل غير التي كان عاكفاً عليها.فكان هذا الأستاذ في البلاد الشامية ، كما وصفه تلميذه السيد رشيد ، "الوحيد في الجمع بين العلوم الإسلامية ، ومعرفة حالة العصر المدنية".وبه توجه تلميذه ، في تغيير المنكر ، وجهة جديدة اصبحت تقصد إلى إرشاد المسلمين إلى المدنية ، والمحافظة على ملكهم ، ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات.
وكان الشيخ حسين الجسر على صلة بحركة العروة الوثقى: تأتيه أعداد الجريدة من باريس بانتظام ، وكان يقول: إن جريدة " العروة الوثقى " ستحدث انقلاباً عظيماً في العالم الإسلامي.
فبالشيخ حسين الجسر ، أيضاً ، اتصل رشيد رضا بـ" العروة الوثقى " ، وبتأثيره مال إليها ، ومن عنده جمع كل ما صدر منها.(1/149)
واستنسخ الجميع وقرأه المرة بعد المرة ، حتى انتقل بذلك ــ كما يقول عن نفسه ــ إلى طريق جديد في فهم الدين الإسلامي ، أصبح به داعية للمذهب الإصلاحي الذي شرحته فصول " العروة الوثقى " ، حريصاً على آثار السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ، مناضلاً دونهما ، مدافعاً عنهما.
وكان قد عرف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده معرفة عرضية ، لما زار الشيخ عبده مدينة طرابلس ، أيام إقامته في بيروت ، لكنه لم يتلق عنه ولم يتتلمذ له ، حتى عاد الأستاذ الإمام إلى مصر وبقي الشيخ رشيد في طرابلس الشام ، يتمم دراسته ، إلى أن استكمل تخرجه.واتصل أثناء ذلك بالأستاذ الإمام مرة أخرى ، لما قدم من مصر إلى لبنان مصطافاً ، فلم يكن ذلك يزيده إلا هياماً بالأستاذ الإمام ، والسيد جمال الدين وتفانياً في نصرتهما ، وتصميماً في العزم على الهجرة إليهما.
وتوفى السيد جمال الدين سنة 1314هـ /1896م قبل أن يتاح للسيد رشيد الاتصال به ، فأجمع الرأي على "الهجرة" إلى مصر ، للاتصال بوارث علمه وحكمته الأستاذ الإمام ، وتم له أمر الهجرة ، فنزل مصر في 8 رجب سنة 1315هـ ــ 3 يناير سنة 1898م.
واتصل بالأستاذ الإمام ، يهب نفسه لخدمة مبادئه وترويج دعوته وكان منذ رحل عن الشام عاقداً النية على إصدار جريدة ، أو مجلة تخدم الدعوة ، وتحررها ، وتنشرها ، وتصل بين ما انقطع بانقطاع جريدة " العروة الوثقى " ، وكان أصدقاؤه بالشام يعرفون ذلك منه وينتظرون تحققه من وراء "هجرته" إلى مصر ، فسرعان ما اتصل بالأستاذ الإمام حتى تم بينهما الاتفاق على إصدار المجلة ، وكان الأستاذ الإمام هو الذي اختار لها اسم المنار.(1/150)
وبصدور المنار سنة 1315هـ بدأت تبرز أفكار الأستاذ الإمام في مجالات نظرية مشروحة موصلة ، وبانتشار المنار بدأت تلك المبادئ تشيع وتنتشر ، بحيث أن إمامة الشيخ محمد عبده لم تتأسس في الحقيقة إلا على صدور مجلة المنار.فيها نشرت تقاريره ، ومقالاته وفتاويه ومواقفه في الدفاع عن الإسلام ، وفيها رد على الكائدين له ومقاوميه ، وفيها مجد اسمه ، وأعليت سمعته ، وفيها تلقب بالأستاذ الإمام ، وفيها وهو أهم شئ ، في موضوعنا ، نشر تفسيره ، ولها كتب وبقلم منشئها حرر.
كان درس التفسير سائراً على منهج الاعتناء بحاجة العصر وعدم التقيد بما هو موجود في كتب التفسير ، وتدارك ما خلت منه من مرامي الحكمة الإسلامية الجديرة بالإبراز والتقرير.
وكان صاحب المنار هو الذي طلب ذلك الدرس ، وألح في طلبه وابتدأ وأعاد حتى أقنع الأستاذ الإمام بإقرائه.
وكان يكتب في أثناء الإلقاء مذكرات مقتضبة ، ثم يعود إلى تبييضها وإعدادها بما في ذاكرته من الدرس.
ولم يشرع في نشر الخلاصات التي يكتبها إلا بعد عام من الشروع في الدرس.فقد ابتدأ الأستاذ الإمام الدرس في المحرم سنة 1317هـ وابتدأ نشر الدروس في المنار في المحرم سنة 1318هـ.وكان الشيخ عبده يطلع على ما سينشر ، بعد التصفيف في المطبعة وقبل الإخراج فربما ينقح فيه بزيادة قليلة ، أو حذف كلمة أو كلمات.
على أن صاحب المنار لم يكن يتحرى حكاية أو تلخيصاً لما يقوله الأستاذ الإمام ، بل كان يكتب ما يجده في نفسه من إدراك لمعنى الآية بما ثار في فكره ، أو انساق إليه علمه مما يوضح معنى الآية ، ويحتفل لإيراد ما اختص ببيانه الأستاذ من المعاني المبتكرة المستجدة ، فيعزو ذلك إليه صراحة.
وكان الأستاذ الإمام يطلع على ذلك كله ويقره لما كان حياً.(1/151)
ومنذ أن توفى الأستاذ الإمام ، واستمرت مجلة المنار تنشر دروس التفسير التي كان ألقاها في حياته ، أصبح التحرير واضحاً في التفرقة بين ما هو منقول عنه وبين ما هو من بيان الكاتب.
ثم لما انتهى النشر إلى حيث أدركت الوفاة الأستاذ الإمام ، استقل الشيخ رشيد بأعباء التفسير وحده فأكمل منه إلى نهاية الجزء الثاني عند قوله تعالى:
{ ???????? ?????? ??? ??????? ?????? ?????????????????? } (يوسف : 52)
فكان ما كتبه الشيخ رشيد ، مستقلاً ، أكثر من سبعة أجزاء ، وما كتبه ، اعتماداً على أستاذه واستمداداً منه ، أقل من خمسة أجزاء فكان حظه في المجموع أغلب ، وكان بانتساب هذا التفسير إليه أحق.
نعم إن روح التفسير اختلفت في بعض عناصرها ، بين ما كان يكتب منه في حياة الأستاذ الإمام ، وما كتب بعده مما استقل به الشيخ رشيد.
وذلك الاختلاف يبدو جلياً في العنصر الذي يعبر عنه الشيخ رشيد بـ (الأثري).
فقد رأينا أن التكون الأصلي للشيخ رشيد كان نقلياً أثرياً ، على طريقة المتقدمين ، مختلفاً في ذلك عن التكون الأصلي للسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده ، إذ كان تكونهما بحثياً نظرياً ، على طريقة المتأخرين.
فلم يكن الأستاذ يحفل بالناحية الأثرية ، ولا يولي اهتماماً للأخبار وطرق تخريجها ، ولا يعتمد في تفسير الآيات على الأخبار المتصلة بها.(1/152)
وكان الشيخ رشيد ، بما امتزج بالأستاذ الإمام روحياً وفكرياً ، قد تأثر بهذا المنهج ، وساير الأستاذ الإمام عليه فيما اقتبسه من الدروس التي ألقاها الأستاذ الإمام وكان ببيانه مفتتح البحث فيها وممهد المداخل إليها ، حتى صرح في المقدمة بأن: "أكثر ما روي في التفسير بالمأثور حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية" ولكن لما استقل الشيخ رشيد بمعاناة العمل من مبدئه ، وأصبح معتمداً على المصادر التي كان الأستاذ الإمام يأخذ منها ويترك حسب منهجه العلمي ، بدأ هواه الأول للعلوم النقلية الأثرية يعاوده ، ويأخذ به ، فمال إليها ، وتتبع رجالها: الأولين مثل الطبري ، والآخرين مثل ابن كثير فبدت على التفسير مسحة أثرية ما كانت بادية على أجزائه الخمسة الأولى ، على ما يؤلف بين اللاحق والسابق من حيث القصد والأسلوب ، فيما عدا هذا العنصر الأثري.
وقد أثبت الشيخ رشيد بنفسه هذا المعنى في المقدمة ، ولكن مع ما اختلف بين الطرفين في المنهج العلمي ، فإن الغاية بقيت متحدة ، والروح بقيت متحدة كذلك ، بحيث إن (تفسير المنار) في جملته يعتبر تفسيراً ذا منهج مطرد ، وأفكار متناسقة ، وهذا المنهج المطرد قد يقع الاتجاه إليه من مسالك البحوث الأصلية النظرية ، أحياناً ، وقد يقع الاتجاه إليه من مسالك النقول الأثرية تارات أخرى.
فإذا وصلت هذه المسالك أو تلك بمحرر التفسير إلى المنهج المخطط للسير ، التزمه واستقام عليه ، حتى يصل منه إلى نتائج البحث المتلاقية في غاياتها وروحها ، مع ما كان انتهى إليه من نتائج في بحوث أخرى عند آيات أخرى على ذلك المنهج نفسه ، فبرزت من مجموع ذلك الوحدة التي جعلت من تفسير المنار مداد روح النهضة الإسلامية الحديثة وقوام التفكير الإسلامي المجدد ، في هذا القرن الرابع عشر.
*****
***
الفهرس
الموضوع الصفحة
حول الكتاب _____________________________________________ 1(1/153)
محمد الفاضل بن عاشور،بحاثة ذو رسالة وكاتب ذو بيان _______________ 4
التفسير ورجاله ___________________________________________ 12
نشأة التفسير ______________________________________________ 13
التفسير بالمأثور ____________________________________________ 16
يحيى بن سلام _____________________________________________ 19
الطبري __________________________________________________ 23
من البخاري إلى المعتزلة _____________________________________ 27
من عبد القاهر إلى الزمخشري وابن عطية ________________________ 31
الكشاف _________________________________________________ 34
بين الزمخشري وابن عطية ____________________________________ 37
الإمام الرازي ______________________________________________ 40
تفسير الإمام الرازي _________________________________________ 44
تصحيح نسبة التفسير إلى الإمام الرازي ___________________________ 47
تفسير البيضاوي ____________________________________________ 50
قيمة تفسير البيضاوي ________________________________________ 53
تفسير ابن عرفة ____________________________________________ 55
تفسير أبي السعود __________________________________________ 58
الآلوسي _________________________________________________ 61
ظهور الشهاب الآلوسي ______________________________________ 62
مقام الآلوسي في العلم والطريقة ______________________________ 64
الآلوسي وتأليفه للتفسير ______________________________________ 67
تفسير روح المعاني للآلوسي __________________________________ 70
نهضة الإسلام ____________________________________________ 73
الإصلاح الديني _____________________________________________ 76
جمال الدين الأفغاني ________________________________________ 78(1/154)
الشيخ محمد عبده وتفسير المنار ________________________________ 82
تفسير المنار _______________________________________________ 86
الفهرس _________________________________________________ 90(1/155)