الاعجاز البلاغي
في قصة يوسف عليه السلام
تأليف : علي الطاهر عبد السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
صدق الله العظيم
يوسف111
الإهداء
إلى أخي محمد .
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير المرسلين .
الحمد لله رب العالمين ، وبه نستعين .
أَلِفَ العربُ لغتهم قديماً ؛ فكانت مناط تفكيرهم ، ومصدر إلهامهم وإبداعهم ؛ فكان الشعراء الذين بقي شعرهم خالداً ، وكان ذلك واضحاً في بلاغتهم ولغتهم التي ما فتئت تباهي اللغات فصاحةً وبلاغة وجمال أسلوب ، تجلى في شعر المعلقات والخطب والأمثال ، كل ذلك جعل من العرب أمة فصيحة تعتمد في كلامها على الإيجاز ، واللمحة الدالة التي تعد الإيماءة والإشارة من أجلى مظاهرها حتى أتى القرآن الكريم بأسلوبه المعجز ، المحكم الذي خاطب العقول على رهافتها حساً ووجداناً ؛ فالقرآن بحق مائدة سماوية ربانية ضمت صنوفاً من المعارف والعلوم التي لا ينقطع مددها ولا عددها ولا إمدادها غزارةً وفيوضاً تسيل غدقاً ؛ لأنها من لدن عزيز حكيم .
للإعجاز مظاهر شتى ، وصنوف فرائد ذات روض أنف ، لا يقطعها من يتصدى لها إلا بزاد معرفي ، نما وترعرع نمو أفنان بواسق في روض مربع ، تعهدهما الساقي رعايةً وسقاءً بلطف بديع ؛ لتعطي نَوْراً وروحاً وريحاناً في وقت ربيع .(1/1)
قد يسألني سائل عن الإعجاز فأحتار بهتةً لكوني في رياضه غير مجتاز ، فلا أستطيع الحكم على معارف ومدارك دون أن أكون لخفاياها مُدارِك ،وفي حلبة سباقه مشارك ، وكم أزداد حيرةً واضطراباً عندما أجد في نفسي صعاباً تثنيني عن الفهم ، وتفحمني جواباً ، كل ذالك جعلني أحث الخطى ؛ كي أكون حاضراً ساعة العطا، وأن أوفق في إزالة الغطا عن عملٍ كم وددت أن أكون له ذاكراً ، ويصبح فيه الطرف فاكراً ؛ إذ بفيضه أكون لرب الكون شاكرا، إنه عمل فياض ، وبالخير والعلم مراوض ، وكيف لا يكون ذلك وهو كشف وبحثٌ لما للحسن من رياض .
هذا العمل للأستاذ علي الطاهر عبد السلام الذي كان له فضل سبق الفرائد ؛ إذ كان حول إعجازٍ لذتْ وطابت فيه الموائد ، ورضي به كل طريف وتالد .
ما أحوجنا إلى إماطة اللثام عن جمال عروسٍ بصنوف المحاسن تبرقعت ؛ فكان جديراً بالأستاذ " علي " أن يميط عن إعجاز القرآن في سورة سيدنا يوسف المحاسن ، هذه الصورة التي تضم صنوف الإعجاز ففيها الإعجاز النفسي من أحلام تحتاج إلى تعبير ، ومظاهر نفسية واقتصادية غلب عليها حسن التدبير ؛ فأتت هذه الدراسة وإليها تصبو البصائر ، بما ضمته من كنوز وذخائر ، وكانت دليلاً لمن هو تائه ، أو عاثر ، وحضرت بها مبهمات النفوس والخواطر ، كل ذلك لا يدرك شأوه إلا من أوتي من العلم والإيمان قمراً منيراً ، جعله في البحث عن مواضع الإعجاز جديراً ، وكل ذلك كان للأستاذ "علي " الذي تضامت فيه صنوف العلم واللغة والخلق ؛ فكان هذا الكتاب مدلولاً وعنواناً للصفة الأريحية التي اتصف بها .
إنني أعتصر ألماً لشعوري بالقصور في فهم هذا الكتاب الذي أقولها بصدق : إنه أعلى درجة من كوني أدرك خفايا أسراره ، لكن الذي بعث في نفسي سلواً ، ويزيد لي إلى فهم مظاهر أوصافه علواً هو الجهد الذي أحاول إظهاره ، إنه جهد المقل .(1/2)
آمل أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله الكريم ، وأن يعين به المتذوقين لحلاوة القرآن والباحثين ، وأن يكون أجراً موفوراً ليوم الدين ، آمين .
د/ الصادق إبراهيم البصير
جامعة سبها – كلية الأداب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكملهم،القائل:"وأوتيتُ جوامعَ الكلم"(1)،فلم ينطق بالضاد أفصح ولا أبلغ منه،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
فإن القرآن الكريم أوسع من أن يضيقَ بأبحاث الباحثين ؛ فعلومه فاقت الحد والعد ، وما هذا العمل المتواضع إلا مساهمةً صغيرةً وخدمةً لكتاب الله عز وجل وعلومه ، وما الإعجاز إلا واحداً من هذه العلوم التي شغلت العقول ؛ فشُحِذَت الهمم لبيانها وإظهار معالمها وخفاياها ، حتى حُملَ بعضُ العلماء على القول بوجوب الاشتغال بالإعجاز درساً وإبانةً ؛ فقد قال أبو بكر الباقلاني : فهو أحق بكثيرٍ مما صنفوا فيه من القول في الجزء والطفرة ودقيق الكلام في الأغراض وكثير من بديع الإعراب وغامض النحو فالحاجة إلى هذا أمسُّ والاشتغال به أوجب " (2) .
وهذه قصة يوسف عليه السلام شغلت العلماء والفقهاء والأدباء والباحثين ، فتحدثَ فيها من يُسِّرَ له ذلك ، فقامت عليها دراسات عدة ، متناولةً إياها من وجوه وزوايا مختلفة ، بعضها من الناحية الاقتصادية وبعضها من ناحية الشرح والتفصيل وبعضها من ناحية الدروس والعبر ، وغيرها من الناحية
الاجتماعية والنفسية ، وبعضها دراسة أدبية وغير ذلك ، غير أنني لم أقع على دراسة تناولتها من ناحية الإعجاز البلاغي إلا ما تناثر من دررٍ في حنايا كتب المتقدمين ، وما أظنني أتيت بجديد في عالم الإعجاز ، إلا أنني عملت على جمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه أحمد
2- إعجاز القرآن : الباقلاني . تحقيق أحمد صقر، مصر ، دار المعارف ، 1954 ، ص5(1/3)
وتبويب ما تناثر من تلك الدرر ، راجياً من الله تعالى التوفيق في ذلك ، فجعلت الكتاب في ثلاثة فصول .
أما الفصل الأول فكان بعنوان : الإعجاز القرآني ، تناولت فيه الإعجاز من الناحية اللغوية ، ومن ثم حقيقة الإعجاز القرآني ، واختلاف العلماء في الاستدلال على وجوه الإعجاز ، بعد ذلك تطرقت إلى وجوه الإعجاز القرآني ، وللعلماء الأفاضل آراء متفرقة في وجوه الإعجاز ذكرتها ، وعرضت صوراً من الإعجاز القرآني ، وصولاً إلى الإعجاز العلمي في القرآن الذي شغل بال الباحثين ،خاصة بعد ظهور الاكتشافات العلمية الحديثة .
أما الفصل الثاني فأتى بعنوان : القصص القرآني ، فأتيت على المعنى اللغوي للقصص ، وعرجت على جماليات وحقيقة القصص القرآني ، ومن ثم مقاصد وأغراض القصص القرآني ، وبما أن قصة يوسف عليه السلام قد وردت فيما سبق القرآن من الكتب السماوية فإنني جعلت لذلك جانباً في الكتاب ؛ فأجريت مقارنة في السرد القصصي بين القرآن الكريم والعهد القديم " التوراة " ، وتمت الإشارة إلى بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام ، بعد ذلك تتبعت أثر قصة يوسف في الأدب والشعر ، عارضاً نماذج من ذلك التأثر ، ومن ثَمَّ الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام ، ثم مستويات قصة يوسف ، بعد ذلك الشخصيات المكونة لقصة يوسف عليه السلام .(1/4)
أما الفصل الثالث فتحلى بعنوان : صور الإعجاز في قصة يوسف ، تناولت في جله الإعجاز البلاغي من استعارات وتشبيهات ومجاز وحذف وما إلى ذلك من ضروب البلاغة التي أعجزت أمراء البيان وبلغاء العرب وفصحاءهم ، ومن غريب نظمه ودقته لم يأت القرآن موافقاً لسان العرب فقط ، بل أتى بعضٌ منه على ما يوافق الأوزان العروضية ، أما من حيث ربط القرآن بأوزان الشعر فإني لا أرى أن ذلك تنزيلاً من قدر القرآن ووضعه موضع الشعر، فالقرآن الكريم أرفع من أن يكون كذلك ، ولكن العروض يعد علماً من علوم العربية ، والقرآن عربي ، وإنما تحدى القرآنُ العربَ في لغتهم وعلومها ، فلست أرى بأساً في هذا ما لم يمس القرآن بشيء مما لا يليق به ؛ تنزيها له ولمكانته ؛ فذكرت ما وقعت عليه العين من الآيات التي وافقت في حروفها ـ الساكنات والمتحركات ـ أوزان الشعر العربي ، وبعد ذلك تطرقت إلى التكرار، وهو ما تكرر من ألفاظ بالقصة ، وليس معنى التكرار أنه زائد ، فربما وردت اللفظة أو الآية مرات عدة بالسورة ولكن لكلٍ منها موضعها وسببها وفائدتها التي جاءت لأجلها .
هذا ما استطعت انجازه في عملي المتواضع هذا ، فإن وفقت فما توفيقي إلا بالله ، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ، وأستغفر الله على ما بدر من جهلٍ أو نسيانٍ، أو رأيٍ بغير محله ، راجياً من الله القدير أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي ، والله ولي التوفيق . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
علي الطاهر عبد السلام
31/7/2005م
الفصل الأول : الأعجاز القرآني
الإعجاز لغةً
الإعجاز القرآني
اختلاف العلماء في الاستدلال على وجوه الإعجاز
وجوه الإعجاز القرآني
آراء متفرقة في وجوه الإعجاز
صور الإعجاز القرآني
الإعجاز العلمي للقرآن
الإعجاز لغة .(1/5)
يحسن قبل الولوج لعالم الإعجاز وخفاياه أن نبدأ مع القارئ الكريم من ناحية اللغة ؛ أي المعنى اللغوي للإعجاز ، فقد جاء في الصحاح أن العَجُزُ: مؤخَّر الشيء ، يؤنَّث ويذكَّر. وهو للرجل والمرأة جميعاً، والجمع " أعجاز".
والعَجيزَةُ، للمرأة خاصة. والعَجْزُ: الضعف، تقول: عَجَزْتُ عن كذا أعْجِزُ بالكسر عَجْزاً ومَعْجِزَةً ومَعْجَزَةً ومَعْجِزاً ومَعْجَزاً بالفتح أيضاً على القياس، وفي الحديث : "لا تَلِثُّوا بدارِ مَعْجَزَةٍ"، أي لا تقيموا ببلدة تَعجِزون فيها عن الاكتساب والتعيُّش ، وعَجَزَت المرأة تَعْجُزُ بالضم عجوزاً، أي صرت عَجوزاً. وعَجِزَتْ بالكسر تَعْجَزُ عَجَزاً عُجْزاً بالضم: عظمت عَجيزتُها ، قال ثعلب: سمعت ابن الأعرابيّ يقول: " لا يقال عَجِزَ الرجل بالكسر إلا إذا عَظم عَجُزُهُ " ، وأعْجَزَهُ الشيء: أي فاته ، وعجَّزت المرأة تعجيزاً أي صارت عجوزاً ، وورد في الكتاب لسيبويه شعراً :
…لقد رأيت عجبا مذ أمسا …عجائزاً مثل السعالي خمسا
والعجائز جمع عجوز ولا تقل عجوزة . (1)
والتَعجيزُ: التثبيط، وكذلك إذا نسبتَه إلى العَجْزِ ، والمُعجِزَة: هي مفرد مُعجِزات كمعجزات الأنبياء(2). أما لسان العرب فقد جاء به أن العَجْزُ: نقيض الحَزْم، يقال : عَجَز عن الأَمر يَعْجِزُ وعَجِزَ عَجْزاً فيهما ، ورجل عَجِزٌ وعَجُزٌ: عاجِزٌ ، ويقال: أَعْجَزْتُ فلاناً إذا أَلفَيْتَه عاجِزاً ، والمَعْجِزَةُ والمَعْجَزَة: العَجْزُ. قال سيبويه: هو المَعْجِزُ والمَعْجَزُ، بالكسر على النادر والفتح على القياس لأَنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الكتاب : سيبويه : تحقيق عبد السلام هارون ، مصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، دط ، 1973، الجزء الثالث ص 285
2 - الصحاح : إسماعيل بن حماد الجوهري ، مادة عجز(1/6)
مصدر، والعَجْزُ: الضعف، تقول: عَجَزْتُ عن كذا أَعْجِز، وفي القرآن : ? فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ? (1)وفي حديث عمر: ولا تُلِثُّوا بدار مَعْجِزَة ؛ أَي لا تقيموا ببلدة تَعْجِزُون فيها عن الاكتساب والتعيش، والمَعْجِزَةُ بفتح الجيم وكسرها، مفعلة من العَجْز: أي عدم القدرة، وفي الحديث: (( كلُّ شيءٍ بِقَدَرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ ))، وقيل: أَراد بالعَجْز ترك ما يُحبُّ فعله بالتَّسويف وهو عامّ في أُمور الدنيا والدين (2) .
وفي أساس البلاغة يقول الزمخشري : وعَجَزَ فلانٌ عن العمل إذا كبر. وقال الأخطل:
وأطفأت عني نار نعمان بعدما أعد لأمر عاجز وتجرّدا
أي لأمر شديد يعجز صاحبه ، أراد النعمان بن بشير الأنصاريّ (3) .
وقال المتنبي :
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وقال أيضاً :
وَإِذا لَم يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَجزِ أَن تَكونَ جَبانا
والعَجْز أصلُه التَّأَخُّر عن الشيءِ وحُصولُه عند عَجُزِ الأمر أي مُؤخّره ، وصار في العُرْف اسماً للقُصور عن فِعلِ الشيءِ وهو ضِدُّ القُدْرة ، ويقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة 31
2- لسان العرب : ابن منظور ،القاهرة ، دار الحديث ،دط ،2003م مادة عجز
3- أساس البلاغة:جار الله أبو القاسم الزمخشري.بيروت،دار صادر دط ، دت ، مادة عجز
عَجَزَ عن الأمرِ وعَجِزَ، يَعْجِز ويَعْجَز عَجْزَاً وعُجوزاً وعَجَزاناً، فهو عاجزٌ، من قومٍ عَواجِز، قال الصَّاغانِيّ: وهُذَيْل وَحْدَها تَجْمَع العاجِز من الرجال عَواجِز، وهو نادر .(1/7)
وقد أَكثَر الأُدباء من جَمع المعاني الخاصة بمادة عجز ؛ فقد نظمت قصائدَ كثيرة منها قصيدةٌ للشيخ يوسف بن عِمْرانَ الحَلَبيّ يَمدَحُ قاضِياً ، جمع فيها معاني مختلفة لمادة عجز، وإن كان يظهر في بعض تراكيبها تَكَلُّفُ إلا أنها جمعت فأوعت ، نوردها لتبيان عبقرية العرب في النظم ، وسعة اللغة العربية ، والقصيدة هي :
لِحاظٌ دونها غُولُ العَجُوزِ … وشَكَّتْ ضِعْفَ أَضعافِ العَجُوزِ
(الأُولى المنية)
(الثانية الإبرة)
لِحاظُ رَشاً لها أَشْراكُ جَفْنٍ … فكَم قَنَصَت مِثالي من عَجُوزِ
(الأَسَد)
وكَم أَصْمَتْ ولم تعرِف مُحِبّاً … كما الكُسَعِيُّ في رَمْيِ العَجُوزِ
(الخمر)
وكمْ فتَكَتْ بقلبي ناظِراه … كما فتكَتْ بشاةٍ من عَجُوزِ
(الذئب)
وكم أَطفَى لَمَاهُ العَذْبُ قَلْباً…… أَضَرَّ به اللَّهيبُ من العَجُوزِ
(حِمار الوَحْش)
وكم خَبَلٍ شَفَاهُ اللهُ منه … كذا جِلْدُ العَجُوزِ شِفَا العَجُوزِ
(الأَوَّل الضَّبُع)
(الثاني الكَلَب)
إذا ما زارَ نَمَّ عليه عَرْفٌ … وقد تَحْلُو الحَبائِبُ بالعَجُوزِ
(النَّميمة)
رَشَفْت من المَراشِف منه ظَلْماً… أَلَذَّ جَنىً وأَحْلَى من عَجُوزِ
(نوع من التَّمر)
وجَدْتُ الثَّغْرَ عندَ الصُّبْحِ منه شَذاهُ دُونَه نَشْرُ العَجُوزِ
(المسك)
أَجُرُّ ذُيولَ كِبْرٍ إنْ سَقانِي براحَتِهِ العَجُوزَ على العَجُوزِ
(الأَول الخمر) و (الثاني المَلك)
برُوحِي مَنْ أُتاجِرُ في هَواه … فَأُدْعَى بينَ قَومِي بالعَجُوزِ
(التَّاجِر)
مُقِيمٌ لَمْ أَحُلْ في الحَيِّ عنه … إذا غَيري دَعَوْه بالعَجُوزِ
(المُسافِر)
جَرَى حُبِّيه مجرى الروح منّي … كجَرْيِ الماءِ في رُطَبِ العَجُوز
(النَّخْلَة)
وأَخرَسَ حُبّه منّي لِسانِي…… وقد أَلْقَى المَفاصِلَ في العَجُوزِ
(الرَّعشة)
وصَيَّرَنِي الهَوَى من فَرْطِ سُقْمِي…… شَبيهَ السِّلْكِ في سَمِّ العَجُوز
(الإبرة)(1/8)
عَذُولِي لا تَلُمْنِي في هَواه…… فلستُ بسامِعٍ نَبْحَ العَجُوزِ
(الكلب)
تَرُومُ سُلُوَّهُ منِّي بجهْدٍ… … سُلُوِّي دُونَه شَيْبُ العَجُوزِ
(الغُراب)
كلامُكَ باردٌ من غَير مَعنىً… … يُحَاكِي بَرْدَ أَيّام العَجُوز
(الأَيّام السبعة)
يَطوفُ القلْبُ حَولَ ضِياهُ حُبّاً…… كما قد طافَ حَجٌّ بالعَجُوزِ
(الكعبة شرَّفها الله تعالى)
لهُ من فوقِ رُمْحِ القَدِّ صُدْغٌ…… نَضيرٌ مثلُ خافقَةِ العَجُوزِ
(الراية)
وخَصْرٌ لم يزَلْ يُدعى سَقيماً…… وعن حَملِ الرَّوادِفِ بالعَجوز
(مبالغة في العاجز)
بلَحْظِي قد وَزَنْت البُوصَ منه…… كما البيضاءُ تُوزَنُ بالعَجُوز
(الصنْجة)
كأَنَّ عِذارَهُ والخَدَّ منه…… عَجُوزٌ قد تَوارَتْ من عَجُوزِ
(الأَوَّل: الشّمس) و (الثاني: دارَة الشَّمس)
فهذا جَنَّتي لاشَكّ فيه…… وهذا نارُه نارُ العَجُوزِ
(جهنَّم)
تَراهُ فوقَ وَرْدِ الخَدِّ منه… عَجُوزاً قد حَكَى شَكْلَ العَجُوز
(الأَوَّل: المسك) و (الثاني: العقرب)
على كُلِّ القُلوبِ لهُ عَجُوزٌ… كذا الأَحباب تَحْلُو بالعَجُوزِ
(التحكم)
دُمُوعِي في هَواهُ كنِيلِ مِصْرٍ وأَنفاسِي كأَنْفاسِ العَجُوز
(النَّار)
يَهُزُّ من القَوامِ اللَّدْنِ رُمْحاً ومن جَفْنَيْه يَسْطُو بالعَجُوزِ
(السيف)
ويَكْسِرُ جَفْنَه إنْ رامَ حَرْباً كّذاكَ السَّهمُ يفْعَلُ في العَجُوز
(الحرب)
رَمَى عن قوسِ حاجِبِه فُؤادِي بنَبْلٍ دُونها نَبْلُ العَجُوزِ
(الكنانة)
أَيا ظَبْياً له الأَحْشا كِناسٌ ومَرْعَىً لا النَّضيرُ من العَجُوزِ
(النَّبات)
تُعَذِّبُني بأَنواع التَّجافِي ومِثلِي لا يُجَازَى بالعَجُوز
(المعاقبة)
فقُرْبُكَ دُونَ وَصْلِكَ لي مُضِرٌّ كذا أَكلُ العَجُوز بلا عَجُوزِ
(الأَوَّل: النَّبْت) و (الثَّاني: السَّمْن)
وهَيْفا من بناتِ الرُّومِ رُودٍ بعَرْفِ وِصالِها مَحْضُ العَجُوزِ
(العافية)(1/9)
تَضُرُّ بها المَناطِق إنْ تَثَنَّتْ ويُوهِي جِسْمَها مَسُّ العَجُوزِ
(الثَّوب)
عُتُوّاً في الهَوَى قَذَفَت فُؤادِي فمَنْ شامَ العَجُوزَ من العَجُوزِ
(الأَوَّل: النَّار)
(الثاني: السِّنور)
وتُصْمِي القَلْبَ إنْ طَرَفَتْ بطَرْفٍ بلا وَتَرٍ وسَهْمٍ من عَجُوزِ
(القوس)
كأَنَّ الشُّهْبَ في الزَّرْقا دِلاصٌ وبَدْرُ سَمائِها نَفسُ العَجُوزِ
(التُّرْس)
وشَمْسُ الأُفْقِ طَلْعَةُ مَنْ أَرانا عَطاءَ البَحْرِ منه في العَجُوز
(الكَفّ)
تَوَدّ يَسَارَه سُحْبُ الغَوادِي وفَيْضُ يَمِينِه فَيْضُ العَجُوزِ
(البحر)
أَجلُّ قُضاةِ أَهلِ الأَرضِ فَضْلاً وأَقْلاهُمْ إلى حُبِّ العَجُوزِ
(الدُّنيا)
كمال الدِّين لَيْثٌ في اقْتِناصِ الْ مَحامِد والسِّوَى دونَ العَجُوزِ
(الثعلب)
إذا ضَنَّ الغَمامُ على عُفاةٍ سَقاهُمْ كَفُّه مَحْضَ العَجُوزِ
(الذهب)
وكَمْ وضَعَ العَجُوزَ على عَجُوزٍ وكم هَيّا عَجُوزاً في عَجُوزِ
(الأَوَّل القِدر)
(الثاني المنصب الذي. توضع عليه)
(الثالث الناقة)
(الرابع الصفحة)
وكَمْ أَرْوَى عُفاةً من نَداهُ وأَشْبَعَ مَنْ شَكا فَرْطَ العَجُوزِ
(الجوع)
إذا ما لاطَمَتْ أَمْواجُ بَحْرٍ فلم تَرْوَ الظُّماةُ من العَجُوز
(الركيَّة وهي البئر)
أَهالي كلّ مِصْرٍ عنه تثْنِي كذا كُلُّ الأَهالي من عَجُوزِ
(القرية)
مَدَى الأَيّامِ مُبْتَسِماً تَراهُ وقد يَهَبُ العَجُوزَ من العَجُوزِ
(الأَوَّل الألف) و (الثاني البقر)
تَرَدَّى بالتُّقَى طِفلاً وكَهْلاً وشَيْخاً من هَواهُ في العَجُوزِ
(الآخرة)
وطابَ ثَناؤُهُ أَصلاً وفَرْعاً كما قد طابَ عَرْفٌ من عَجُوزِ
(المسك)
إذا ضَلَّتْ أُناسٌ عن هُداها فيَهْدِيها إلى أَهْدَى عَجُوزِ
(الطريق)
ويَقْظانَ الفُؤادِ تَراهُ دَهْراً إذا أَخَذَ السِّوَى فَرْطُ العَجُوزِ
(السَّنَة)
وأَعظَمَ ماجِدٍ لُوِيَت عليه ال خَناصِرُ بالفضائل في العَجُوزِ
(الشمس)(1/10)
أَيا مَولىً سَما في الفضلِ حتّى تَمَنَّتْ مثلَه شُهُبُ العَجُوزِ
(السماء)
إذا طاشَتْ حُلومُ ذَوِي عُقولٍ فحِلْمُكَ دُونَه طَوْدُ العَجُوزِ
(الأَرض)
فكَمْ قد جاءَ مُمْتَحِنٌ إليكُم فأُرْغمَ منه مُرتَفِعُ العَجُوزِ
(الأَنف)
إلى كَرَمٍ فإنْ سابَقْتَ قَوْماً سَبقْتَهمُ على أَجْرَى عَجُوزِ
(الفرس)
ففَضْلُكَ ليسَ يُحْصِيه مَديحٌ كما لم يُحْصَ أَعْدادُ العَجُوزِ
(الرمل)
مكانَتُكُم على هامِ الثُّرَيّا ومَنْ يَقلاكَ راضٍ بالعجوز
( الصومعة)
رَكِبْتَ إلى المَعالي طِرْفَ عَزْمٍ حَماهُ الله من شَيْنِ العَجُوزِ
( العرج) (1)
نخرج من ذلك كله بأن العجز هو عدم القدرة على الفعل ، وما يخص القرآن هو العجز عن الإتيان بمثله ، ومسايرة نظمه وتراكيبه ، ومجاراة أسلوبه البديع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تاج العروس من جواهرالقاموس : السيد محمد مرتضى الزبيدي ، بيروت ، دار صادر ، دط ، 1966م مادة عجز
الإعجاز القرآني :
يعدُّ القرآن الكريمُ بالإجماع معجزة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الكبرى ، وإن كان قد أُيِّد بمعجزات كثيرةٍ ؛ غير أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة ، وأحوال خاصة ، أما القرآن الكريم فهو للناس عامة ، وفي كل وقت وحين ، فعن أبي هريرة قال : قال الني صلى الله عليه وسلم :
? ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أُتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ? (1) .(1/11)
وقد حمل القرآن دعوة التحدي إلى الناس عامة ، وإلى العرب خاصةً وقت نزول القرآن الكريم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أو بعشر سورٍ مثله مفتريات ، أو بسورة من مثله ، فقال عز وجل : ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ? (2) وقد تحداهم بأن يأتوا بعشر سورٍ فقال تعالى : ?أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? (3) ، أما من حيث التحدي بالإتيان بسورة من مثله فقد قال عز وجل : ?وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?(4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه البخاري
2- الإسراء 88
3- هود 13
4- البقرة 23-24(1/12)
ولم تقف دعوة التحدي عند العربِ خاصة،أو غيرهم، بل تعدت إلى الثقلين " الإنس والجن "عامةً ، وذلك في قوله تعالى : ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا? (1) وقد نتج عن هذا التحدي عجز العرب وغيرهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، أو بعشر سورٍ مثله ، أو بسورة مثله ، وعلى الرغم من تسليم العرب بالعجز في حينه فإن الوقوف على الجهة التي كان فيها الإعجاز القرآني أمراً لم تلتق عنده الآراء ، ولم يكن محل اتفاق بين العلماء والباحثين والناظرين في وجوه الإعجاز في كل مكان وزمان ، فثمة آراء في الجهة أو الجهات التي كان بها القرآن معجزاً ، وليس ذلك شأن معجزات سائر الأنبياء ؛ إذ كل معجزة كانت تنادي بوضوح معلنةً صفتها التي أعجزت بها ، وتشير بصراحة إلى الجهة التي جاء منها الإعجاز، فيعلم الناس حينذك ماذا في المعجزة من دلائل الإعجاز،وما فيها من القوة الظاهرة والقاهرة التي لا يتسنى لهم القيام بها (2) . ويرى المتدبر في قصة موسى عليه السلام أن معجزة يده تتمثل في أنها مثل أيدي الناس ، لحم ودم وعظم وعصب ، لا تختلف مطلقاً عن أيدي البشر ، إلا أن هنالك قدرة لا تُرى ، هي قوة الله عز وجل التي تمد موسىعليه السلام بهذه المعجزات ، وليست يده ، والأمر نفسه في عصاه ؛ إذ هي في حد ذاتها مجرد عصا ، مثل أي عصا أخرى ، لا تخرج عن صفات العصي ، ولكنها في يده تفعل الأعاجيب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإسراء 88
2- القرآن العظيم هدايته وإعجازه : محمد الصادق عرجون ، القاهرة : مكتبة الكليات الأزهرية ،1966م ص153(1/13)
كذلك النبي عيسى عليه السلام ، يهتف بالميت فيحيا ، ويشير إلى الأكمه أو الأبرص فيشفى ، وليس في صورة الذي يهتف به شيء مخالف لباقي الأصوات المعروفة للناس ، بل هي مجرد كلمات تُنطق من فمه عليه السلام ؛ فإذا هي حياة ، وإذا هي روح تسري في ميت فتحييه ؛ إذن هناك قوة قادرة قاهرة لا تُرى قد جعلت لهذه الكلمة وتلك الإشارة هذا الشأن والأمر العجيب المعجز . أما القرآن الكريم فشأنه غير هذا الشأن ، وأمره على خلاف هذا الأمر؛فهو كلمات وألفاظ وعبارات،لا تختلف عما ألفه الناس مما يجري على ألسنتهم من كلام هو مما كان يدور على ألسنة العرب،ومما يصاغ منه نثرُهم ونظمهم من خطب وحكم وشعر ورجز ، فقد قال الله تعالى: ? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ? (1) وقال جل جلاله أيضاً:? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?(2).وقال تعالى أيضاً:? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا? (3) ، وقال:? قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ?(4)،ثم إن هذه الكلمات التي عرفت بالقرآن والتي تحدى بها الرسول الكريم العرب جميعاً،ثم الإنس والجن قاطبة،هذه الكلمات لها ما كان لكلمة عيسى عليه السلام حين كان ينطق بها؛ فتجد معجزةً قاهرةً يشهدها الناس ويرونها رأي العين ،
ولها ما لعصا موسى عليه السلام من تغير وتحولٍ (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشعراء 193-195
2- يوسف 2
3- طه113
4- الزمر 28
5- الإعجاز في دراسات السابقين :عبد الكريم الخطيب . بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، 1975م ، ص 146(1/14)
إن القرآن الكريم ليس له تلك المخلوقات العجيبة والمجسدة ليومهن ، وليست بالمعجزات التي تخرج في وقتها فيكون عمرها عمر ذلك الوقت ، ومن ثم لا يُعرف لها مكان ولا وجود ، فأين كلمات عيسى عليه السلام التي يحي بها الموتى ، وأين عصا موسى عليه السلام وأين يده ، لقد أدتا دورهما في الحياة ثم لم يعد لهما وجود ؛ فكلمات القرآن لم تخلق شيئاً من تلك الصور المعجزة ، شأنهن شأن الكلام المألوف الذي يجري على ألسنة الناس ، ولقد جعلهن الله يجرين على الألسنة إلى يوم القيامة ، لا تتغير صورهن ولا تتبدل بل يظللن هكذا ؛ كلامٌ مما يتواصل به الناس ، ويتعاملون به ، وينظمون أشعارهم ويؤلفون خطبهم ، كما كان شأن هذا الكلام قبل أن ينزل القرآن على نبينا الكريم عليه أفضل صلاة المصلين(1) .
غير أن هذا الكلام المألوف المعروف على ألسنة العرب حين ضمه القرآن إليه ، وجاءت آياته منه ، وجاءت عليه أحكامه وقصصه وجدله ومواعظه وزواجره قد أصبح منذ ذلك الوقت معجزة قاهرة ، تتحدى الناس جيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة ، قال تعالى:? فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ? (2)،ومع أن اللغة لغتهم والحديث حديثهم والألفاظ هي نفسها التي يتلفظون بها،إلا أنه قد عجز أكثرهم بلاغة،وأفصحهم لساناً؛فلم يأتوا بآية واحدة (3). ولكن أين المعجزة في هذا الكلام ؟ وما الذي يبدو للناس منها ؟ وكيف يضع الناس أيديهم على المعجزة ، ويرفعون أبصارهم إليها ؟ ، لا تُرى
بالعين ولا تُلمس باليد ، ولم يخرج من هذا الكلام ما يراه الناس بأعينهم ، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإعجاز في دراسات السابقين :عبد الكريم الخطيب ، ص146
2- الطور 34
3- مناهل العرفان من علوم القرآن: محمد عبد العظيم الزرقاني،القاهرة،المطبعة الفنية،دت ص128(1/15)
يلمسوه بأيديهم، بل على الناس أن يسمعوا لهذا الكلام ، ويتدبروا آياته ، وعندئذٍ يرون ببصائرهم لا أبصارهم كل آية معجزة قاهرة،تخضع لها الرقاب ، وتُذهل بها العقول ،قال الله تعالى : ? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ? (1)، فما بين هذا التدبر من قوله تعالى" ليدبروا" وبين التذكر من قوله تعالى " وليتذكر " معجزة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وإعجاز القرآن ؛ فالعقل يدعو للكشف عن الحق الذي جاء به القرآن ، وعن الإعجاز الذي ضمته آياته وكلماته قال الله تعالى : ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ?(2) ، وقال جل جلاله : ? وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ? (3) .
إنها آيات معجزات وما يتعرف عليها ويعقلها ، ويتعرف على موطن الإعجاز بها إلا العالمون ، الذين يلقون أسماعهم إليها ويفتحون قلوبهم وعقولهم للحق الذي فيها ، والنور الذي معها (4) ، إن القرآن الكريم لا يتفاوت ولا يتباين عجيب نظمه وبديع تأليفه على تعدد وجوهه ، من ذكر قصصٍ وحكم وأحكام ووعيد وأخلاق كريمة وغير ذلك ، خلافاً لهذا نجد كلام البليغ والشاعر المفلق يختلف على حسب هذه الأمور ، فمن الشعراء من يجيد المدح
دون الهجاء ، ومنهم من يجيد الشعر الغزلي ولا يجيد الفخر والحماسة وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب (5) ، وينطبق هذا الكلام على الخطب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة ص 29
2- يوسف 2
3- العنكبوت 43
4- الإعجاز في دراسات السابقين:عبد الكريم الخطيب ، ص147
5- الأغاني: أبو فرج الأصفهاني ، القاهرة ، دار الكتب المؤسسة المصرية العامة ،1963م الجزء التاسع " أخبار الأعشى ونسبه"(1/16)
والحكمة ؛ ولذلك يضرب المثل لامرىء القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، والرسائل وما إلى ذلك من أنواع الأدب والإبداع اللغوي ، ونلاحظ من هذا المنطلق الفرق والتفاوت في شعر شخصية ما على حسب النوع أو الاتجاه أو الموضوع الذي يتحدث فيه ، ومتى نظرت إلى القرآن وأمعنت في درره وتأملت في نظمه وجدت أن جميع ما يتناوله القرآن لا تفاوت فيه ، مع كونه عالي القيمة والبلاغة والفصاحة ، ونجد إذا ما تمعنا في القرآن أنه قد عالج أمور الحياة في منتهى الفصاحة ، واستخدم لذلك ضروب التأكيد ، وأنواع التشبيه ، والتمثيل وأصناف الاستعارة ، وغير ذلك من فنون البلاغة التي بهرت متحدثي العربية على مر العصور(1) ، فالقرآن معجزٌ كله من ناحية مبناه ومعناه ، ومن الأسرار الدقيقة في القرآن تأثيره في القلوب ، وسلطانه في النفوس ، وسحره للعقول ؛ لما له من حلاوة تقع في الألباب في روعةٍ ومهابةٍ ، قال تعالى : ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? (2) ، ومن حيث نظرت إلى القرآن تجد به الإعجاز ، وهذا في حد ذاته إعجازٌ ؛ إذ لا يقتصر الإعجاز على من يتكلم العربية ، ويعرف مكامن البلاغة ، من استعارة وتشبيه ومجاز وغير ذلك ، بل أعجز القرآنُ الطبَ والتاريخَ والفلكَ ، وما إلى ذلك من علومٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- روح الدين الإسلامي : عفيف بد الفتاح طبارة ، دار العلم للملايين ، 1984م ، ص 41
2- الزمر 23
وفنونٍ ، غير أن هذا التباين لم يترك للعلماء فسحة للإجماع على المعجز في القرآن ، والوقوف مجتمعين على دلائل الإعجاز فيه .(1/17)
وهذا ما سنقف عليه موضحين - إن شاء الله - أوجه الإعجاز القرآني عند علمائنا الأجلاء رحمهم الله .
اختلاف العلماء في الاستدلال على وجوه الإعجاز القرآني.
تتنافس العربُ أيام الجاهليةِ في نظم القصيد والرجز ، وفي الخطب المنثورة ، ورُويتْ عنهم أمثال وأحاديث ، وكان ما يفيض من قرائح شعرائها وخطبائها في المفاخرات والمنافرات والمهادنات من دواعي الإعجاب والاغتباط ، وما كان لكل عربي أن يتفتق لسانه بقول الجيد من الشعر أو النثر ؛ فقد يمر جيل أو جيلان ولا يظهر في القبيلة شاعرٌ أو خطيبٌ يعلي صوتَها وصيتها ، ويعدد مآثرها، ويرهب بسلطانِ بلاغتِهِ عدوَّها ؛ فالبلاغة والبيان والفصاحة أمور لابد منها للقبيلة ؛ مما أدى إلى ظهور فنون القول لدى العرب ونبوغهم فيها (1). وعلى الرغم من هذا فإن العرب أذعنوا للقرآن ، وأقروا بإعجازه وشهدوا على أنفسهم بالعجز عن مطاولته في أقصر سورة .
كلامٌ معجزٌ ، ليس ثمة شك في ذلك ؛ إذ قامت الشواهدُ والأدلةُ الواضحةُ و القاطعةُ المتصلةُ أبد الدهر على وقوع الإعجازِ بهذا الكلامِ (2)، ولا يعلم الأعجمي أنه معجز إلا إذا علم عجز العرب عنه ؛ إذ هو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لايحتاجها من كان من أهل اللغة وفصاحتها وبلاغتها نفسها ـ أي العربي - ، فإذا عرف عجز أهل اللغة والفصاحة والبلاغة حل محلهم وجرى مجراهم في إقرارهم بالإعجاز فيه ، وبالتدرج في مستويات النطق والفصاحة لا يخفى علينا أن المتوسط من أهل اللغة واللسان لا يعرف من إعجاز القرآن ما يعرفه غيره ممن له تَمَكُّنٌ في هذه الصنعة ، فربما حل في هذا الموضع
محل الأعجمي في أنه لا يقف على إعجاز القرآن حتى يعرف عجز المتناهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أمراء البيان:محمد كرد علي،بيروت،دار الأمانة،مطابع دار الكتاب ط 3 1969 ص 1
2- القرآن العظيم هدايته وإعجازه : محمد الصادق عرجون ، ص157(1/18)
في الصنعة والفصاحة عنه ، وكذلك لا يعرف المتناهي والمُجِيدُ في الشعر وحده ، أو من بلغ الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدها من غور هذا الشأن ـ أي إعجاز القرآن ـ ما يعرفه من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام وطرق البراعة ، فلا يقف المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها على الإعجاز دون تحققه من عجز البارع في هذه العلوم كلها عنه ، فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه ، ووقع في نفسه ما يدهشه ويذهل عقله (1) ، ويطرح السؤال نفسه :من أين لهذا الكلام الإعجاز؟ ، ومن أي جهة يُبحثُ عن دلائل الإعجاز فيه ؟ هل من جهة ألفاظه ؟ وكيف ؟ وألفاظه التي نُظم منها هي نفسها الألفاظ المتداولة المعروفة للعرب ، والتي نظموا منها شعرهم ، وصاغوا منها حكمهم وأمثالهم وخطبهم ، هل من جهة تركيب عباراته وجمله ؟ وكيف ؟ والقرآن لم يخرج عن قواعد اللغة العربية ، ولم يبعد عن أساليب القول التي تواضع عليها العرب وتعاملوا بها ، هل من جهة معانيه التي احتوتها آياتُه وألفاظُه وسورُه ؟ كيف ؟ والمعاني التي دارت حولها آيات القرآن كانت معروفة عند العرب في جملتها ، وخاصة الأخلاقيات منها ، وإن لم يستقيموا عليها أو على كثيرٍ من مفاهيمها ، وإنك أخي القارئ أينما قلبت وجوه الرأي في الكلام العربي وأساليبه لن تجد القرآن الكريم خارجاً على وجه واحدٍ منها خروجاً غير مألوف ؛ بحيث يعد وجهاً جديداً مفرداً جاء به القرآن يُرى منه وجهُ الإعجاز الذي لا يقدر الناس
على مثله رؤيةً واضحةً محددةً (2) ، ومع هذا فالقرآن معجز ، ومع هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إعجاز القرآن : : أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني ،القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الرابعة ، 1964 ، ص25
2- الإعجاز في دراسات السابقين :عبد الكريم الخطيب ، ص 149(1/19)
الإعجاز أيضاً صار الكشف عن وجه الإعجاز والتعرف على دلائله مطلباً عزيزاً ، انصرفت إليه همم الباحثين والدارسين من المسلمين وغيرهم ؛ ليقعوا على السر الذي من أجله كان القرآن بهذه المكانة العالية ، والتي لا ينالها أحد ولا يطمع فيها بشر ، مع أنه كلام من الكلام المعروف المألوف .
وجوه الإعجاز القرآني
احتدمت شدةُ النزاعِ على أوجهِ الإعجاز القرآني بين علماء المسلمين، وأياً ما قالوا فيها فالذي لا ريب فيه هو أن الإعجاز البلاغي لم يكن قط موضع جدلٍ أو خلافٍ ، وإنما الاختلاف بين المسلمين في عدِّه وجه الإعجاز الوحيد ، أو القول معه بوجوه أخرى (1)، وعلى الرغم من هذا الاختلاف بين العلماء إلا أنهم مقرون بأن القرآن الكريم له بلاغة وفصاحة غريبة ومعجزة ، فما انفرد به القرآن وباين به سائر الكلام أنه لا يَخْلَقُ على كثرة الرد ، وطول التكرار ، ولا تُملُّ منه الإعادة ، وكلما نظرت إليه وجدته غضاً طرياً ، وجديداً منمقاً ، ووجدت في نفسك له نشاطاً مستأنفاً ، وحساً موفوراً ، وهذا أمرٌ يذهل فكرَ العاقلِ ، ويملأ صدرَ المفكرِ بما يرى من إعجاز النظم وبلاغته ، وبالهمس والجهر والقلقلة والصفير والغنة والمد ونحوها ، على اختلاف ذلك في الآيات ، بسطاً وإيجازاً وابتداءاً ورداً وإفراداً وتكراراً (2)، ومما به أيضاً الجمع بين صفتي الجزالة والعذوبة ، وهما كالمتضادين ، لا يجتمعان غالباً في كلام البشر ، ومع هذا نجد تبايناً فرعياً وليس أصلياً ، أي ليس في الجوهر؛ فتنوعت آراؤهم حول الإعجاز ، وأرجعوا إعجازه إلى نواحٍ متعددة في معناه ومبناه ؛ فقال بعضهم بالصرفة ، وعنوا بها أن الله تعالى صرف الهمم عن معارضته ، وشاعت نسبة هذا القول إلى المعتزلة ، ونُقلَ فيه كلامُ عددٍ من متقدمي شيوخهم ، ومنهم أبو إسحاق النظام ، وعباد بن سليمان (3) ، ووجوه
حججهم بالصرفة أنه إذا جاز عقلاً عدم تعذر المعارضة ثم عجز بلغاء(1/20)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دلائل النبوة ومعجزات الرسول : عبد الحليم محمود ، دار الشعب ،1984م ، ص142
2- علوم القرآن : عدنان زرزور ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1981م ، ص 107
3- مناهل العرفان من علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني ، ص 72
العرب عن معارضته وانقطعوا دونه فذلك برهان على المعجزة ؛ لأن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجاري العادات ، صار كسائر المعجزات ، ويبدو أن مثل هذا الاحتجاج للنبوة بصرف الهمم عن معارضة القرآن قد أوقع في شبهةٍ وهي أن الإعجاز البلاغي غير معتبرٍ عند من لم ينظروا إليه ، وذلك ما التَفَتَ إليه أعلام المعتزلة نفسهم ، فساروا إلى تقرير وجه الإعجاز البلاغي ؛ أي إعجاز نظمه وفصاحته ، وتجردوا للاحتجاج به (1) ، ومنهم الجاحظ الذي ألف كتابه " نظم القرآن " احتجاجاً لإعجاز هذا النظم ، ومخالفاً فيه آراء من اكتفوا فيه بالقول بالصرفة ، غير أن المسألة قد عولجت في مجال الجدل النظري ، وإن آلت بالمعتزلة أنفسهم بعد الجيل الأول من شيوخهم إلى اعتبار الصرفة وجهاًً من وجوه الإعجاز ، لا يعطل النظر في وجهة إعجازه البلاغي ، والذين ذكروا الإعجاز بالصرفة من غير المعتزلة استيعاباً لمذهب المتكلمين في الإعجاز لم يلبثوا أن خصوا إعجازه البلاغي بالعناية والاهتمام والدرس (2).
وثمة جماعة من العلماء جعلوا إعجازه منصباً في أن معانيه تجري في مناسبة الوضع وأحكام النظم ، ولا يعدم المفكرُ وجهاً صحيحاً من القول في ربط كل كلمة بأختها ، وكل آية بضريبتها ، وكل سورة بما يليها ، وهذا ضرب من العلوم أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ، وقد قال إن لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط (3) ، وقال آخرون : إن إعجازه
يكمن في معانيه وقيمه ومثله وأحكامه ، قال تعالى : ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/21)
1- علوم القرآن : عدنان زرزور ،ص 110
2-الإيضاح في علوم البلاغة:الخطيب القزويني،بيروت،دار الكتاب اللبناني،دط،دت،ص43
3- دلائل النبوة ومعجزات الرسول : عبد الحليم محمود ، ص145
الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ? (1)، وقال أيضاً : ? وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? (2)، ووجهة أن يأتي مثلها من أي بشرٍ أميٍّ ، من قومٍ أميين ، في زمان ومكانٍ هيهات أن يشارفا ذلك الأفق القرآني كما سماه بعضهم ، هو الذي فرض إعجازه على العرب من مستهل الدعوة والوحي ، وأن قضية التحدي واجهت المشركين في العهد المكي ، وحُسمت بآية البقرة أول السور المدنيات ، قبل أن يتم التشريع والأحكام بتمام الوحي في آخر العهد المدني ، وهم وإن لم ينصوا على التفاتهم لهذا الملحوظ فقد عبر عنه مسلكهم حين اكتفوا بأن عدوا القيم والأحكام من وجوه الإعجاز، ثم تفرغوا للنظرفي الإعجاز البلاغي، ولم يفصلوا بين القيم والمثل القرآنية وبين النظم البليغ المعجز؛ فإذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ، والمعنى وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر؛ فالبراعة أظهر والفصاحة أتم (3) .
وقيل : إن إعجازه يكمن في ذكر الأحداث قبل أن تقع ، وإخباره عن أمور مطوية في مضمر الغيب ، ثم حدثت تماماً كما أنبأ عنها ، وهذا أحد وجوه الأشاعرة ، ولم يختلف معهم أحد في صدق ما أخبر عنه القرآن قبل أن يحدث،حتى أصحاب الصرفة من المعتزلة قالوا به ؛ فقد قال شيخهم النظام مقرراً أن الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من إخبار عن الغيوب، وكذلك
أهل السنة ، أقروا ذلك لكنه عندهم ليس الوجه العام الذي يتحقق في كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف 54
2- الزمر 27-28
3- إعجاز القرآن : للباقلاني ص63(1/22)
سورة فتقع فيه المعجزة .وذهب غير هؤلاء إلى أن إعجازه يقع في ذكر الأمم السابقة ، وأخبار الماضي الغابر؛ فقد اشتمل القرآن على ما حدث من وقائع عظيمات الأمور، ومهمات السير ، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه صلى الله عليه وسلم ، ولم يستطع من ذكر هذا الإعجاز أن يفصله عن البيان القرآني ، وقد علموا أن التوراة والإنجيل فيهما كثير من أخبار الأمم السابقة ، ولعلهما أكثر تفصيلاً ، ولم يقل أحدٌ أن الكتب السماوية كانت معجزات رسلها وآيات نبوتهم ، ولم يرد أن موسى أو عيسى عليهما السلام تحدى كلٌ منهما قومه بأن يأتوا بسفر ٍ أو إصحاحٍ مثل التوراة والإنجيل (1). وقيل الإعجاز البلاغي ، وهو أكثر ما ذهب إليه علماء أهل النظر ؛ فقد سيطر على مباحث المتكلمين في الإعجاز ، ونجد أن المتكلمين بهذا الإعجاز لم يغفلوا عن أن للقرآن وجوه أعجازٍ أخرى ، وقد ألف في هذا المنهج جل علماء اللغة والبلاغة المتقدمين ، وجرى المتأخرون على أن يجمعوا ما قال السلف من وجوهه .
ولعل جل العلماء قد أيقنوا أن وجه الإعجاز يتجسد في وحدة النظم ، و في اتساق عباراته وأحكام نظمه ، واتحاد طريقته في الإبداع والقوة ، وكأنما وضع جملةً واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين ، ومرد ذلك إلى روح التركيب ، وجوانب الكلام الإلهي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مناهل العرفان من علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني ، ص 130
آراء متفرقة في وجوه الإعجاز
عرضنا فيما سبق وجوه الإعجاز القرآني ، وقد قيل فيه الكثير ، وتضاربت الآراء حيناً وتوافقت حيناً آخر ، وفيما يلي نعرض بشيءٍ من الاختصار آراء متفرقة للعلماء والأدباء والفقهاء لزيادة الإيضاح لوجوه الإعجاز القرآني كما يراها علماؤنا الأجلاء .
الجاحظ (1)(1/23)
يثبت الإعجاز ويوجزه في النظم والأسلوب ، ويرجعه إلى بلاغته الساحرة وخصائصه البيانية الرائعة ،ونظمه العجيب ، وفصاحته الباهرة ، فالقرآن في الذروة من البلاغة وقي القمة من الإعجاز ، ولم يقدر على معارضته أحد ، وسجل عليهم العجز ، واعترف أمراء البلاغة منهم ببلاغته وإعجازه (2).
أبو حيان التوحيدي . (3)
إن المتتبع آراء أبي حيان في الإعجاز يجد أنه يشير إلى ما وصل إليه العلماء حتى عصره (4) ، يقول رحمه الله : سئل بندار الفارس عن موضع الإعجاز من القرآن فقال : هذه المسألة فيها حيف على المعنى ؛ وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان ؟ بل متى ما أشرت إلى جملته فقد أشرت وعرفت حقيقته ، ودللت على ذاته ، كذلك القرآن لشرفه وعلو مكانته لا يشار إلى شيء منه ، وكان ذلك الشيء آيةً في نفسه ، ومعجزةً لحامله وهدىً لقائله ، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه
وأسراره في كتابه ؛ فلذلك حارت العقول وتاهت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أبو عثمان عمر بن بحر بن محبوب ، توفي سنة 255للهجرة
2-الإيضاح في علوم البلاغة : الخطيب القزويني ،ص43
3- وهو علي بن محمد بن العباس توفي سنة360 وقيل 380 للهجرة .
4- أبو حيان التوحيدي رأيه في الإعجاز وأثره في الأدب والنقد : محمد عبد الغني الشيخ ، الدار العربية للكتاب، 1983 ، ص 1/250
البصائر عنده ، ومع أن هذا ليس بكلام التوحيدي إلا أنه راضٍ عنه ومقرٌ له ، ورأيه أن القرآن معجزة بحد ذاته ؛ فلا يمكن أن يقال أين المعجزة فيه أو منه .
وقد رأى بعض أهل الرأي أن ذلك مغالطة ونقطة تحسب على التوحيدي ؛ إذ ما المانع أن يعرف الناس وجه الإعجاز في المعجزة ، بل إذا عُرِفَ كان الإعجاز أقوى وأقنع للنفس والعقل (1) .
الراغب الأصفهاني(2)(1/24)
يقول في تقريره : الإعجاز متعلق بنفسه ، إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو يتعلق بمعناه ، أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى ؛ فإن ألفاظه ألفاظهم،قال تعالى : ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ? (3)، وقال تعالى أيضاً :? كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ? (4)، وقال جل في علاه : ? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ?(5)،وقال أيضاً:? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ? (6)، وقال سبحانه:? وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإعجاز في دراسات السابقين : عبد الكريم الخطيب ، ص386
2- هو أبو القاسم محمد المعروف بالراغب الأصفهاني توفي سنة 396 للهجرة
3-يوسف 2
4-فصلت 3
5- الشعراء 193-195
6- طه 113
عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ?(1)ولا بمعانيه ؛ فإن كثيراً منها موجودٌ في الكتب السماوية السابقة للقرآن، ? وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ? (2) .
وملخص القول أن الأصفهاني يجعل الإعجاز في نظمه على تلك الصورة التي جاء بها، والتي تبدو أكثر ما تكون في بنائه على آيات مختتمة بفواصل ذات نظمٍ خاص تختتم بها الآيات ، وتترابط وتتوازن (3).
4- الباقلاني . (4)
لخص جملة وجوه الإعجاز القرآني في ثلاثة نقاط :
* ما في القرآن من أخبارٍ عن الغيب مما لا يقدرعليه البشر،ولا سبيل لهم إليه.
* وما فيه من أخبار الأمم القديمة ، مع أمية الرسول الكريم .(1/25)
* وعجيب تأليفه ، وتناهيه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه ، وقد شرح وجوه الإعجاز في نظم القرآن ، وتحدث عن التحدي والإعجاز، وكل ما يتصل بهذا الباب في كتابه المعروف " إعجاز القرآن الكريم " الذي قال فيه ابن العربي : لم يؤلف كتابٌ مثله .
5- الجرجاني . (5)
سارالجرجاني على نهج الجاحظ ، ودافع عن إعجاز القرآن ، ورد على رأي من يرى أن الإعجاز سببه الصرفة ، ورفض أن يكون الإعجاز في الكلمة
المفردة أو في معاني الكلمة المفردة أيضاً ، ورفض أيضاً أن يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأحقاف 12
2- الشعراء 196
3- مناهج بلاغية: أحمد مطلوب ، الكويت ، وكالة المطبوعات ، 1973م ص 44
4- هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القسم القاضي أبو بكر الباقلاني توفي403 للهجرة
5- هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني ، توفي سنة 471 للهجرة
الإعجاز هو الجريان والسهولة وعذوبة الألفاظ وخفتها على الألسنة ، وقد رفض كذلك أن يكون الأصل في الإعجاز هو الإستعارة،أو الفواصل، أو الإيجاز أو المجاز،ورد الإعجاز إلى النظم وحده؛ولذلك وقف كتابه " دلائل الإعجاز في علم المعاني " على شرح نظرية النظم التي هي الأصل في الإعجاز(1)، فالإعجاز عنده راجع إلى خصائص النظم العربي ودقائقه ، وما تجد في القرآن من باهر الفضل العجيب ومن الوصف،حتى أعجز الخلق كافة ، وحتى لم يجر لسان ولم يبق بيان ؛ فيقول عبد القاهر: أعجزتهم مزايا ظهرت في نظمه،ومواقعها،ومضرب كل مثل،ومساق كل خبر،وبهرهم أنهم تأملوه سورةً سورةً،وعشراًعشراً وآيةً آيةً فلم يجدوا في الجميع كلمةً ينبوا مكانها ، بل وجدوا اتساقاً بها ؛ فأعجز الجمهور(2) .
6 - السكاكي . (3)(1/26)
يقول في كتابه مفتاح العلوم : اعلم أن الإعجاز يدرك ولا يوصف، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ،وكما يدرك طيب النغم العارض للصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذي النظرة السليمة (4).
ويتجلى مما يقوله السكاكي عن إعجاز القرآن أن ليس الإعجاز الذي رآه الناس من أمر القرآن إلا إجلالاً يحيط بهم ، أو روعة تملكهم ، وما كان لكلامٍ أن يصور حقيقة الروعة ، أو يمسك مواقع الجلال ، ويتجلى منه محاسن
البيان إلا هذا الذي بين أيدينا من كلام الله، إنها معانٍ تدرك ولا تستشعر ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دلائل الإعجاز في علم المعاني:عبد القاهر الجرجاني:شرح وتعليق:د.محمد عبد المنعم خفاجي:حققه وضبطه وعلق عليه:محمد رضوان مهنا،المنصورة،مكتبة الإيمان ،دط ،دت،ص29
2- القرآن معجزة العصور:محمد عبد المنعم خفاجي،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م،ص149
3- هو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد علي السكاكي توفي سنة 567 للهجرة
4- القرآن الكريم هدايته وإعجازه : محمد الصادق عرجون ، ص 57
توصف ؛ولهذا فإن الناس من القرآن على منازل ودرجات وحظوظ ؛ كلٌ ينال منه على قدر ما عنده من استعداد للتجاوب العقلي و الروحي والنفسي معه ، إنه كما يقول عليه الصلاة والسلام :
? مأدبة الله ينال كل منها ما تصل إليه يده، وتمتد إليه عيناه، وتشتهيه نفسه ?
7ـ الرازي . (1)(1/27)
يقول : إن وجه الإعجاز في القرآن الفصاحة وغرابة الأسلوب ، والسلامة من جميع العيوب ، وهذا تعميم وإطلاق للحكم ؛ إذ يدخل مع القرآن غيره من كل كلام بليغ ، فما هي حدود الفصاحة التي إذا تجاوزها الكلام وعلا عليها كان معجزاً ؟ وما هي مواطن الحسن في غرابة الأسلوب حتى تنتهي به إلى الإعجاز ؟ فهل كل أسلوب غريب يكون بليغاً ، ومن ثم معجزاً ؟ وقد تكون غرابة الأسلوب داعية إلى سقوطه ، كما تكون وجوه البيان لوناً منفرداً من البلاغة. وهل تكفي السلامة من العيوب ليكون الكلام على درجة من البلاغة توصله إلى درجة الإعجاز ؟ ولعل الرازي هو خير من يقوم لهذا المقام ويحسن القول فيه .
8 ـ الزركشي (2) .
يرى أن الإعجاز له عدة وجوه ، وليس وجهاً واحداً ، منها الروعة التي له على قلوب سامعيه وأسماعهم ، ومنها أنه لا يزال غضاً طرياً في أسماع السامعين وعلى ألسنتهم ، ويقول : إنها في جملتها أوصاف للأحوال
النفسية التي يجدها الناس حين يسمعون إلى القرآن أو يقرؤنه (3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي ، توفي سنة 606 للهجرة .
2- هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفي سنة 794 للهجرة
3- الإعجاز في دراسات السابقين ، ص 358
9 ـ الجهد بن درهم (1) .
يقول : إن فصاحة القرآن غير معجزة ، وجاء بعده النظام فقال: إن سبب الإعجاز في القرآن هو الصرفة وهو يرى أن القرآن لا يرتفع من الناحية الفنية والبيانية عن طاقة البشر وقدرتهم لولا صرف الله الهمم أن يأتوا بمثله ، ويروى عنه رأي آخر وهو أن الإعجاز إنما كان من ناحية إخبار القرآن بأنباء الغيب الماضية والمستقبلة (2) .
10- القاضي عياض (3) .
له كتاب اسمه"الشفاء"عن إعجاز القرآن الكريم ، وأرجعه إلى أربعة أوجه :
أ- حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة .(1/28)
ب- صورة نظمه العجيب،والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب
ومناهج نظمها ونثرها .
ج- ما انطوى عليه من أخبار الغيبيات .
د- ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة(4).
ومن العلماء من يذكر وجوهاً للإعجاز تتمثل في جدة القرآن على التلاوة ، وجمعه للعلوم ولمعارف لم يحط بها علماء الأمم ، وما به من أخبار الأمم السابقة ،ومشاكلة بعض آياته بعضاً، وحسن ائتلاف أنواعها ،والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة لأخرى ، والخروج من بابٍ لغيره ،وما تضمنه من المزايا الظاهرة ، والبدائع الرائعة في الفواتيح والخواتيم في كل سورة ، وهي
مبادئ الآيات وفواصلها (5). وأرجعه الزملكاني إلى تأليفه الخاص، وقال ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو مؤدب مروان الحمار ، ويقال له مروان الجعدي
2- الإعجاز في دراسات السابقين ، ص 362
3- هو القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمر اليحصبي السبتي، ت911 للهجرة
4- القرآن معجزة العصور : محمد عبد المنعم خفاجي ، ص 149
5- مناهج بلاغية : أحمد مطلوب ، ص 47
حزم في مناهج البلغاء : ووجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرار الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمراراً لا يقدر عليه أحد من البشر .
وقال الإمام الخطابي : ذهب الأكثرون من العلماء إلى أن وجه الإعجاز في القرآن من وجهة البلاغة ، وصعب عليهم تفصيلها ، وأصغوا فيه إلى حكم الذوق ، ثم قال حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشكيلاً من نظمه . وأما معانيه فكل ذي لبٍ شهد له بالتقدم في أبواب الرقي إلى أعلى درجاته (1) .
إن الإعجاز القرآني كما مر بنا فيما مضى ليس بالموضوع اليسير الذي تسهل الإحاطة به ، والإلمام بزمام نواحيه ؛ فقد أعجز القرآن حتى من أراد أن يكشف سر الإعجاز فيه .(1/29)
ويتجلى الإعجاز القرآني من خلال قصيدة البردة للبوصيري التي يصف فيها معجزة الرسول الكريم ، وهي آيات القرآن الكريم وصفاً يضع أيدينا على أوجه الإعجاز فيه فكأنه أراد أن يوجز الاعجاز ويقدمه شعراً ، فإذا ما تتبعت الأبيات وجدت أن كل بيت يضم وجهاً من وجوه الاعجاز التي قال بها العلماء الأجلاء رحمهم الله ، ورحم الله البوصيري إذ يقول :
دَعْنِي وَوَصْفِي آياتٍ لهُ ظَهَرَتْ
ظُهورَ نارِ القِرَى لَيْلاً عَلَى عَلَمِ
فالدُّرُّ يَزدادُ حُسْناً وَهْوَ مَنْتَظِمٌ
وَليسَ يَنْقُصُ قَدْراً غيرَ مَنْتَظِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإعجاز في دراسات السابقين ، ص 155
فما تَطَاوَلُ آمالُ المَدِيحِ إلى
ما فيهِ مِنْ كَرَمِ الأخلاقِ والشِّيَمِ
آياتُ حَقٍّ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثَةٌ
قَدِيمَةٌ صِفَةُ المَوصوفِ بالقِدَمِ
لَمْ تَقْتَرِنْ بِزمانٍ وَهْيَ تُخْبِرُنا
عَنِ المعادِ وعَنْ عادٍ وعَنْ إرَمِ
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ
مِنَ النَّبِيِّينَ إذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
مُحَكَّماتٌ فما تُبْقِينَ مِنْ شُبَهٍ
لذِي شِقاقٍ وما تَبْغِينَ مِنْ حَكَمِ
ما حُورِبَتْ قَطُّ إلاَّ عادَ مِنْ حَرَبٍ
أَعُدَى الأعادي إليها مُلْقِيَ السَّلَمِ
رَدَّتْ بَلاغَتُها دَعْوَى مُعارِضِها
رَدَّ الغَيُورِ يَدَ الجَاني عَنِ الحُرَمِ
لها مَعانٍ كَمَوْجِ البَحْرِ في مَدَدٍ
وفَوْقَ جَوْهَرِهِ فِي الحُسْنِ والقِيَمِ
فما تُعَدُّ وَلا تُحْصى عَجَائِبُها
ولا تُسامُ عَلَى الإكثارِ بالسَّأَمِ
قَرَّتْ بها عَيْنُ قارِيها فَقُلْتُ لهُ
لقد ظَفِرتَ بِحَبْلِ اللهِ فاعْتَصِمِ
إنْ تَتْلُها خِيفَةً مِنْ حَرِّ نارِ لَظىً
أَطْفَأْتَ نارَ لَظىً مِنْ وِرْدِها الشَّبِمِ
كَأَنَّها الحَوْضُ تَبْيَضُّ الوجوهُ به
مِنَ العُصاةِ وقد جاءُوهُ كَالحُمَمِ
وَكَالصَِراطِ وكالمِيزانِ مَعْدِلَةً(1/30)
فالقِسْطُ مِنْ غَيرها في الناسِ لَمْ يَقُمِ
لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنْكِرُها
تَجاهُلاً وهْوَ عَيْنُ الحاذِقِ الفَهِمِ
قد تُنْكِرُ العيْنُ ضَوْءَ الشِّمْسِ من رَمَدٍ
ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماءِ من سَقَمٍ
صور الإعجاز القرآني .
بعد أن تجولنا وألقينا نظرة على آراء علمائنا الأجلاء الأفاضل في مفهوم الإعجاز نستخلص من فحوى كلامهم الصور التي يتجلى فيها الإعجاز القرآني وهو كما سيأتي :-
1 ـ بلاغة القرآن النادرة :
وهي التي لا يحيط بها وصفٌ ولا يستطيع أن يكشف خصائصها باحثٌ ، ويكفيك أن علوم البلاغة والنقد والإعجاز قد وُضِعَتْ للكشف عن مظاهر هذه البلاغة وأسرارها ، ثم هي إلى الآن وبعد مضي القرون من الزمان لا تزال في أول الغاية ، على أن بلاغة القرآن أرفع مدى من البحث عن استعاراته وأمثاله وحكمته وإيجازه ومجازه ؛ فهي تشمل كل خصائص الفن الأدبي والبيان في القرآن الكريم .
2 ـ عظمة تصويره للحياة الإنسانية :
وذلك في ماضيها وحاضرها ومستقبلها للنفس البشرية في سلمها وحربها ، ولهوها وجدها وألمها وأملها ، وكفرها وإيمانها وللمثل العليا في الحياة المهذبة الكريمة ، والتي يعمل لها الإنسان وتسعى لها الإنسانية (1) .
3 ـ سمو الروح في القرآن .
إن القرآن الكريم ليس كتاب قصص أو تسلية أو أدب أو حكمة أو فلسفة أو تاريخ ، إنما هو خلاصة لكل ما في الحياة من ثقافة وحقائق ، ويزيد على ذلك منهج حياة روحية اجتماعية وبشرية كاملة صحيحة سليمة ،
وهو جدير بأن يقال أنه كتاب الإنسانية كافة (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- علوم القرآن : عدنان زرزور ، ص 47
2- روح الدين الإسلامي: عفيف عبد الفتاح طبارة ، ص 95
4 ـ روعة القرآن وجدته :
ويتمثل هذا في أخذه بالأفئدة والأسماع والمشاعر والعواطف والنفوس .
5 ـ عرضه للصورة البارعة :
وهي التي تأخذ بالألباب وتستهوي الأفئدة فتتحول إلى مشهد رائع أولوحة خالدة .(1/31)
6- جودة سبك القرآن وإحكام سرده :
ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر، مع طول نفسه وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد ، ودليل ذلك أنك إذا ما تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسماً كاملا ، تربطُ الأعصابُ والجلودُ والأغشية بين أجزائه ، ولمحت فيه معنىً عاماً يبعث الحياة والحس ، في تشابك وتساند بين أعضائه ؛ فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة ، في حين أن كلماته كثيرة متنوعة متخالفة ؛ فبين كلمات جملة السورة الواحدة من التناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب ، وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة مترابطة الأجزاء متعانقة الآيات،وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوياً،حسن السمت قال جل جلاله:?قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ?(1) فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار ، وتذهل العقول والأفكار ، في حين أنها مؤلفة من حلقات ، لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ، ذات أجزاء ، ولكل جزءٍ موضعٌ خاص من الحلقة ، ولكل حلقةٍ وضعٌ خاصٌ من السبيكة ،
لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر 28
المتفرقة وحدة بديعة متآلفة ، تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ،ثم بين كل حلقة وحلقة ، ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها .
7 ـ جلالة أثره الأدبي :
وذلك في لغة العرب وأدبهم ، وفي حياة المسلمين والعالم ، ولا زالت العقول والأفئدة تنهل من قصصه ؛ مستفيدة من البلاغة التي لا تضاهى (1) .
8 ـ خلوده على مر الأيام:
وليس على مر الأيام فقط ، بل على مر الأيام والأمكنة والعصور ، وعجز الناس عن معارضته مع أنه تحدى ، ولا يزال يتحدى الناس كافة ، وعلى ما يشتمل عليه تاريخ العلم من أفذاذ المفكرين والأدباء والبلغاء .(1/32)
9 ـ وضوح أسلوبه وجماله وجزالته وعذوبته :
وأيّ أسلوب ذلك الذي جاء به القرآن ، وأي جزالة وعذوبة للإلفاظ تلك التي أسرت ألباب أمراء البيان (2) .
10 ـ شرف معانيه :
أي شرف معانيه المتجسدة في أرفع ما تعرفه الإنسانية من المعاني التي من شأنها أن تحفظ للإنسان إنسانيته ، وسمو حِكَمِهِ التي ما إن تعهدها إنسان بالالتزام صار أحكم الناس ، وجلال دعوته ، وأي دعوة أجل من الدعوة لله وللخير ، وصدق حجته ، وهذه الحجة مرتكزة على الحق ، ومبنية على الحقيقة الإلهية ، وعلو تصويره الذي لم يبلغ مداه أكثر الناس بلاغةً .
11- عظم أغراضه ومقاصده ومناحيه ، وعبقرية غاياته ورسائله وتوجيه البشرية كافة إلى حياة جديدة ، فيها الأمل والسعادة والسلام والخير المطلق
والحق والعدالة والحرية والمساواة بين الناس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مناهل العرفان من علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني ،2/226
2- القرآن معجزة العصور : محمد عبد المنعم خفاجي ،ص 156
12- موافقة آياته للاكتشافات العلمية ، وتصديقه لها مما يدل على معجزة غريبة ، وهي صلاحيته لكل زمان ومكان وعصرٍ وأوان (1). وهذا مبحثٌ كبير وقيل فيه الكثير .
ولا يفوتنا في معرض وجوه الإعجاز وصوره أن نورد صوراً من وجوه الإعجاز العلمي ، إذ هو تفسير بعض آيات القرآن تفسيراً علمياً ، وقرنها بظواهر طبيعية ، واختراعات علمية ، ونتائج لأبحاث ودراسات طويلة ، فقد تم تكريس العلم في دراسة وتفسير آيات القرآن ودلالاته العلمية ، ولم يهمل المتكلمون في هذا الوجه من وجوه الإعجاز إعجاز القرآن البلاغي ، مقرين أنه الأصل في تحليل العلوم وتأويل بعض الآيات .
وإليك أخي القارئ بعض الحقائق الإعجازية في هذا الوجه من الإعجاز .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- علوم القرآن : عدنان زرزور ، ص55(1/33)
الإعجاز العلمي للقرآن .
صور من الإعجاز العلمي للقرآن .
1- إحساس الجلد .
كان المفهوم السائد لدا الناس أن جسم الإنسان حساس كله ، حتى تقدم علم التشريح فجاء بحقيقةٍ مفادها : أن ليس كل الجسم يحس الإحساس نفسه؛ أي يتألم ؛ بل الجلد فقط ، بدليل أنه لو جئت بإبرة وأدخلتها في جسمك فإنك لا تشعر بها إلا عند مروها بالجلد فقط ؛ أي لا تحس بها بعد أن تصل إلى اللحم وهي تخترقه ، وبعد التشريح ، وبالنظر بالمجهر وجدوا أن الأعصاب تتركز في الجلد ، ووجدوا أن أعصاب الإحساس متعددة ؛ منها ما يحس بالحرارة ، ومنها ما يحس بالبرودة ، ومنها ما يحس بالضغط ؛ ووجدوا أن أعصاب البرودة والحرارة لا توجد إلا في الجلد فقط (1) ؛ ولذا قال الله تعالى :
? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ? (2) .
2- توازن الأرض .
أثبت العلم الحديث أن وجود الجبال على سطح الأرض موزعٌ بحكمة ودقة بحيثُ يعمل على التوازن ؛ كي لا تميد الأرض وتضطرب ، فكأن عمل الجبال هو نفسه عمل الأوتاد التي تحفظ للخيمة استقرارها وتوازنها ، ودور الجبال في توازن القشرة الأرضية واضح،خاصة تلك الجبال التي يسميها الجيولوجيون بالسلاسل الجبلية الإلتوائية،وهي منتشرة في كل القارات، ويقول العلماء في تفسيرهم لدور الجبال:إن الجبال لها امتدادات عظيمة الشأن تحت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- العلم طريق الإيمان : للشيخ عبد المجيد الزنداني
2- النساء 56(1/34)
القشرة الأرضية ، وبواسطة بعض الأجهزة الحديثة مثل " السقموجراف "وجدوا أن القشرة الأرضية ذات سمك يصل إلى مابين ( 30- 60 ) كيلو مترا ، وثبت أن كل جبلٍ له جذور يثبت القشرة الأرضية العلوية الصلبة في الطبقة اللزجة التي تحتها كالوتد ، وهذه الصورة نقلها القرآن ، قال تعالى : ? وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ? (1) ، فالجبال تعمل كمسَّاكات للقارات من الصخور السائلة التي توجد تحت القشرة الأرضية الصلبة ، ولولا جذور هذه الجبال لطفت القشرة إلى الخارج وانعدم توازن الأرض وثباتها أما في قوله تعالى :
? وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ? (2) فإن العلماء يرون أن الجبال الالتوائية ألقيت فعلاً من أعلى ؛ من قمم الجبال القديمة بعد أن نحتتها عوامل التعرية ونقلتها ورسبتها في البحار التي نقلتها بدورها بواسطة الرياح لتستقر مرتفعة عن سطح البحر ، وقد التوت ونشأت منها السلاسل الإلتوائية ، وأكد العلماء أن عوامل التعرية هي التي نحتت الجبال القديمة ، ونقلتها إلى أحواض البحار الداخلية القديمة ، حيث تراكمت الرواسب ملايين السنين، ثم انضغطت على شكل جبال إلتوائية حديثة التكوين ،
قال تعالى:? وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?(3)،وقال جل جلاله أيضاً:? خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ?(4)؛فانظر أيها القارئ إلى ما حوى القرآن من
لفتات علمية يقف العقل البشري عندها (5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- النبأ 7 2- النحل 15
3- النحل 15 4- لقمان 10(1/35)
5-موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:عبد الرحيم مارديني،دمشق،دارالمحبة،بيروت،دار آية ، ط1 ،2004م ،ص 93.
3 – أغشية الجنين .
قال تعالى : ? خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ? (1) .
جاء في العلم الحديث ـ علم الأجنة ـ أن الجنين له ثلاثة أغشية ، وقد سماها الحق تبارك وتعالى " ظلمات ثلاث " ، فلماذا سميت ظلمات ولم تسمى غير ذلك ؟؛يجيب العلم الحديث: لأنها أغشية صماء،لا ينفذ منها الماء ولا الضوء ولا الحرارة ، وتُعرف هذه الأغشية باسم الغشاء المنباري وغشاء الخوربون والغشاء اللفائفي ، ولا تظهر هذه الأغشية إلا بالتشريح الدقيق ، وتظهر وكأنها غشاء واحد بالعين المجردة (2) .
4 - المياه الجوفية .
تساءل الإنسان عن مصدر المياه الجوفية ، وقد أشار الله عز وجل إلى المياه الجوفية وكيف تتكون في باطن الأرض ، قال تعالى : ?وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ?(3) والآن وبعد قرون من نزول القرآن أفادت النظريات الحديثة أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ، وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هنالك ، وقد كان العلماء إلى وقت قريب يظنون أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية، وقد أقر القرآن الكريم هذه الحقيقةـ أي حقيقة أن المياه الجوفية تتكون من المياه السطحيةـ منذ قرون فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر 6
2- موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم : عبد الرحيم مارديني ، ص273
3- المؤمنون 18(1/36)
تعالى:?فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ? " الآية"
5 – المياه الحلوة والمالحة .
إن البرزخ أو الحاجز بين البحار الذي حير العلماء أشار له القرآن الكريم ، قال تعالى:? وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ?(1)،وقال تعالى:? مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ? (2) .
جعل الله بين البحرين حاجزا من طبيعتهما ، فيلتقي البحران ـ الفرات العذب والمالح ـ ولا يختلطان ولا يمتزجان ، فمجاري الأنهار التي تصب في المحيطات غالباً ما تكون أعلى من سطح المحيطات أو البحار ، ولا يقع العكس إلا شذوذاً ، حيث ثبت علمياً أن مياه الأنهار التي تصب في المحيطات كثافتها أقل من كثافة المياه الملحية ؛ فتظل سابحة فوق المياه المالحة ولا تختلط بها،وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر وهو أضخم وأغزر على النهر، ومثال ذلك أن نهر الأمازون الذي يصب في المحيط تندفع مياهه إلى 200 ميل في المحيط محافظة على عذوبتها طول هذه المسافة .
وفي الخليج العربي ثمة عيون من الماء العذب تفيض داخل مياه الخليج المالحة . (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفرقان 53
2- الرحمن 19-20
3- موسوعة الاعجاز العلمي : عبد الرحيم مارديني ، ص 167-169
الفصل الثاني : القصص القرآني
المعنى اللغوي للقصص
جماليات وحقيقة القصص القرأني
مقاصد وأغراض القصص القرآني
مقارنة السرد القصصي بين القرآن الكريم والعهد القديم " التوراة "
بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام
أثر قصة يوسف في الأدب والشعر
الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام
مستويات قصة يوسف .
شخصيات قصة يوسف .
المعنى اللغوي للقصص .(1/37)
حين ننظر إلى المعنى اللغوي للقصة نجد أن أصل اشتقاقها يتلاقى مع أصل التسمية للقصص القرآني ؛ فالقصة مشتقة من القصص وهو تتبع الأثر واقتفائه ،قال الله تعالى:? وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ?(1) ومن هذا قولهم:"قص الأثر"؛ أي نظر إليه واقتفى آثاره وشواهده قال الشاعر : قُلتَ في عينيهِ أفئدةٌ……تُنَحِّي ما قص من أثره
يقال : قصصتُ أثره واقتصصته وتقصصته ، وخرجت في أثر فلان قصصاً ، قال عز وجل : ? قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا? (2)، ومنه :
قص عليه الرؤيا والحديث ، قال تعالى في سورة يوسف:?قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?(3) ؛ فالقص للأثر أشبه بما يعرف الآن بتصوير البصمات ، أو رفع الآثار وتصويرها ؛ ليستدل على ما وراءها من أحداث مضت ، والقصة في القرآن هي تتبع أحداثٍ ماضيةٍ واقعةٍ ، يعرض فيها ما يمكن عرضه ، ومن هنا جاءت تسمية الأخبار التي جاء بها القرآن قصصاً مما يدخل في المعنى العام لكلمة خبر أو نبأ ؛ فقد استعمل القرآن الخبر والنبأ بمعنى التحدث عن الماضي ، وإن كان قد فرق بينهما في المجال الذي استعملا فيه ، ومن هذه التفرقة نتبين دقة ألفظ القرآن الكريم ؛ جرياً على ما قام عليه نظمه من دقة وإحكام وإعجاز ؛ فقد استعمل النبأ عن الأحداث البعيدة زماناً أو مكاناً في حين استعمل الخبر في الكشف عن الوقائع قريبة العهد والوقوع، أو التي
لا تزال مشاهدتها قائمة للعيان (4) ؛ قال تعالى : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القصص 11 2 - الكهف64
3- يوسف 5
4- القصص القرآني : عبد الكريم خطيب ، دار الفكر العربي ، ص 44(1/38)
بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى? (1) ، نجد أن القصص القرآني من قبيل الأنباء أو الأخبار التي بعد الزمن بها، واندثرت أو كادت تندثر؛ ولهذا سماها القرآن " أنباء الغيب "، وعندما نمضي بالنظر في القصص القرآني نرى أنه يجيء بمادته من الماضي البعيد، دون أن يكون فيه شيء من واقع الحال أو من متوقعات المستقبل (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف 13
2- الفن القصصي : محمد أحمد خلف الله ، مكتبة النهضة ، ص 78
جماليات وحقيقة القصص القرآني .
إن القصص القرآني بوصفه أعظم المصادر وأوثقها في أيدي العرب
لمنهج متميز في قص القصص باللغة العربية ، تكفي للكشف عن الفارق الهائل بين القصص القرآني وقصص الشعوب واللغات الأخرى من الأساطير والروايات والمسرحيات ، بلغ هذا الفارق حد مابين الجد والهزل وما بين الحق والكذب (1) ، فالفارق شاسع وفي جميع المجالات و المقاصد والأغراض
ويتضح أن الغاية أن يكون ذلك القصص نفسه هادياً للمؤمنين إلى الطريق
الصحيح ، والصراط المستقيم . فالله تعالى يقول:? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ? (2) ، ثم(1/39)
يقص الله تعالى قصة يوسف وأخوته ؛ فالقصص الحسن هنا ليس الرواية المتخيلة من الواقع وليست الرواية المصنوعة بمحاكات الواقع ، إنما هي التاريخ والخبر وحقيقة ما كان ، إنه مشاهد التاريخ في حركةٍ وصورٍ وأصواتٍ ، ونجد أن البطل الحقيقي في القصص القرآني ليس هذا الإنسان بذاته الذي تدور به أو من حوله أحداث الخبر ؛ فالبطل هو القانون التاريخي المرتبط بعقيدة الإنسان وأخلاقه وسلوكه ، والبطل هو هذا القانون الذي تظهر نتائجه في أقوال وأفعال الإنسان المؤمن أو الكافر في الجماعة التي يعبر عنها أو التي يعارضها ؛ فالبطل مثلاً ليس يعقوب عليه السلام وأولاده ، إنما هو "الهداية" في يعقوب عليه السلام و" الحسد " في أولاده ، والبطل أيضاً ليس يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ؛ بل هو " الطهارة والأمانة " في يوسف عليه السلام، و"الشهوة" في امرأة العزيز، وهكذا في مختلف المواقف يكون الإنسان
بهداية الإيمان أو بضلالة الكفر رمزاً لقانون يحكم(3)،وعلى ما مضى يتضح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح:أحمد موسى سالم،بيروت،دارالجيل،دت ص211
2- يوسف 3
3- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح : أحمد موسى سالم ، ص 212
أن الإنسان في قصص القرآن لم يكن شيئاً مذكوراً من أجل استعراض آلاف الاحتمالات المتخيلة لقوته أو لضعفه ؛ بل هو إنسان مذكور داخل جماعته يحمل قيماً ومبادئ ، ونرى أن الأسوة لغيره ، وهو القدوة لمن يقتدي به ؛ لأنه أعطى قانون البرهان العقلي (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف في القرآن : أحمد ماهر ، الإسكندرية ، 1971م ، ص95
مقاصد وأغراض القصص القرآني .
ليس ثمة حجة لإنكار أن في القصص القرآني توجيهات دينية لكل ما جاء به(1/40)
الإسلام من مبادئ وعقائد،ولكل ما أنكره الإسلام من خلق وعادات وآراء زائفة وعقائد وعادات باطلة،لكن مع كل هذا لا نستطيع عد هذه الأمور أغراضاً حين ندرس أغراض القصص القرآني؛ذلك أن هذه الأمور كانت تأتي بين طيات هذه القصص وثناياها،وهي في هذا الوضع أو من هذا الجانب تشبه تماماً تلك الآراء والصور المنثورة التي تأتي أثناء العرض القصصي في كل قصة(1).
الغرض هنا هو القصد الذي نزلت من أجله القصة القرآنية،وهو الذي من أجله بنيت على صورة خاصة وعرضت بأسلوب خاص،وإلى جانب هذه الأغراض نجد الوظيفة التي تؤديها القصة في المجتمع وتخدم بها الحياة والأحياء،وهي وظيفة تؤديها جميع الفنون من موسيقى ومسرح ونحت وتصوير،هذه الوظيفة نستطيع عدها غرضاً عاماً للقصة أدته في المجتمع العربي على اختلاف ألوانه،وعلى ما فيه من مؤيدين ومعارضين(2)،ونورد فيما يلي أهم وأظهر هذه المقاصد .
1- أولها وأهمها من جهة نظر القرآن نفسه تخفيف الضغط على النبي صلى الله عليه وسلم؛فهذا الضغط كان قوياً وعنيفاً،وكانت أسبابه واضحة جلية؛من كيدٍ للنبي والقرآن والدعوة للإسلام، وهذا أثر بطريقة مباشرة في نفس النبي،
ودفعه إلى أن يضيق صدراً؛فقد قال الله تعالى:? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِمَا يَقُولُونَ?(3)، وقال أيضاً: ? قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ?(4)، لقد كان لما يقوله الكفار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القرآن الكريم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين : محمد الصادق عرجون ، ص 37
2- القرآن نظرة عصرية جديدة : : عبد المنعم الجداوي ،القاهرة ، دت، ص60
3- الحجر97
4- الأنعام 33(1/41)
أثر بالغٌ في نفس النبي ونفس أتباعه وقد قال الله تعالى : ? فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ?(1)فإن كنت"يا محمد صلى الله عليه وسلم"? في شك مما أنزلنا إليك?من القصص فرضاً? فاسأل الذين يقرؤون الكتاب?أي التوراة ?من قبلك?فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه،وقد قال قتادة بن دعامة بلغنا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:? لا أشك ولا أسأل?،إن هذا الضغط لم يقف عند حده ؛ بل تجاوز ذلك إلى ما هو أبعد مدى ، قال الله تعالى : ? فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ ?(2)،وقال أيضاً:? فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? (3)، ونجد أن القرآن صرح بهذا الغرض وذلك في قوله تعالى :? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ? (4) .
نتبين من هذه الآية أن الغرض هو التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وموعظة وذكرى للمؤمنين (5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 94
2- القلم 48-49
3- هود 12
4- هود 120
5- بحوث في قصص القرآن : عبد الحافظ عبد ربه ، دار الكتاب اللبناني ، ص 89(1/42)
2 - توجيه العواطف القوية الصادقة نحو عقائد الدين الإسلامي ومبادئه ، ونحو التضحية بالنفس والنفيس في سبيل كل ما هو حق ، وكل ما هو خير ، وكل ما هو جميل ، ولعل هذه العواطف هي التي تدفع إلى النشاط للدعوة ، كما تجعل الإنسان يستعذب الألم ويتحمل الأذى في سبيلها ، ومن هنا يكون التوجيه نحو القيم الجديدة والإيمان بها ، ثم الدفاع عنها ، والعمل على حثِّ الناس على الإيمان بها إيماناً لا تزعزعه الحوادث ، وأيضاً تكوين عواطف قوية وصادقة ضد ما هو قبيح وذميم من الأشياء والعادات والأعمال .
ومن أهم الأمور التي وجه القرآن العواطف نحوها مشكلات البعث والوحدانية،وبشرية الرسل،وتأييد بعضهم بالمعجزات(1)،وإثبات الوحي والرسالة،وبيان أن الدين كله من عند الله،من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمدٍ صلى الله عليه وسلم،وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة،والله واحد رب الجميع (2)
أما الأشياء التي وجه القرآن العواطف ضدها فهي كثيرةٌ ومتنوعة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر :
أ – بخس الناس أشياءهم ، وتطفيف المكيال والميزان ، والزنا والربا ، والسرقة والنميمة .
ب – " إبليس " - لعنه الله - فقصة إبليس مع آدم قصة بليغة وهي إحدى نماذج القصص القرآني .
3- الإيحاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول حقاً ، وتأييده بما اصطفاه الله من الرسالة ، من التحدي بالغيب ، والإعجاز بمعرفة تفاصيلٍ لا يطلع عليها أحدٌ إلا علام الغيوب ولهذا ناحيتان :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفن القصصي في القرآن ، ص 200
2- روح الدين الإسلامي ،ص 159
أ – بلوغ قمة التوحيد والإيمان والتسليم والتوكل على الله اعتزازاً به .
مما يحقق الأسوة الصالحة والقدوة الطيبة ؛ لتملأ النفس المطمئنة بالعزة بالله واللجوء إلى حماه .(1/43)
ب – تعليم الأدب في الحوار والرقة والتلطف والعطف ليتعلم الداخلون في الإسلام تلك القيم ، ويعيشونها (1) .
ومن ناحية أحرى تصديق الأنبياء السابقين ، وتخليد مآثرهم ، وبيان نعمة الله تعالى عليهم كقصص سليمان وداوود وأيوب وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم ؛إذ وردت حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام برزت فيها النعمة من الله في مواقف شتى .
4- بيان قدرة الله على الخوارق ، وبيان عاقبة الاستقامة والصلاح ، وعاقبة الانحراف والإفساد ، وبيان الحكمة الإنسانية العاجلة ، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة كقصة موسى عليه السلام والخضر(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دروس وعظات وعبر في قصة يوسف عليه السلام : عبد الرحمن عبد القادر المعلمي ، الإسكندرية ، دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ، دار القمة لتوزيع الكتاب ، الطبعة الأولى ، 2003 ، ص 6
2- علوم القرآن : عدنان زرزور ، ص 161
مقارنة السرد القصصي بين القرآن الكريم والعهد القديم .
قال تعالى:? فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ?(1).(1/44)
إن الأخبار التي جاء بها القرآن قد وردت في الكتب السابقة له ؛ ولبيان الفارق بين أسلوب القرآن عن غيره من الكتب نورد مشهداً من العهد القديم " التوراة " ، وهذا المشهد هو امتحان ليوسف عليه السلام في بيت العزيز كما عرضه القرآن بأدق تفاصيله وأحداثه ، وبالكلمات المطهرة داخل مشهد فيه امرأة وملك كريم .قال الله تعالى : ? وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? (2) . هذا المشهد بعينه تقدمه التوراة بأيدي الأحبار كما يلي جياشاً بنبضات الإثارة وخافتاً في مفهوم العبرة ، فقد جاء في التوراة : " وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت : اضطجع معي ، فأبى وقال لامرأة سيده : هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت ، وكل ماله دفعه إلى يدي ، ليس هو في هذا البيت أعظم مني ولم يمسك شيئاً عني غيرك ؛ لأنك امرأته ؛ فكيف أصنع هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ، وكان إذا كلمت يوسف يوماً فيوم أنه لا يسمح لها أن يضطجع بجانبها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 94
2- يوسف 23-25(1/45)
ليكون معها ، ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت ؛ فأمسكته بثوبه وقالت اضطجع معي ، فترك ثوبه في يدها وهرب إلى الخارج ، ثم إنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلةً : انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني يداعينا ، دخل إليَّ ليضطجع معي فصرخت بصوتٍ عظيم " (1) .
في ضوء هذه المقارنة في مشهد من المشاهد المشتركة بين القرآن الكريم والتوراة التي تّدَخَّلَ في نصوصها الأحبار ؛ فيتبين ويتضح لنا أن الابتكار في القصة ليس في خلق موضوع جديد لم يسبق إليه ؛ فقد يكون مألوفاً لدى الناس أو لدى طائفة منهم ؛ ولكن بما يشيع فيه الفن من آيات إبداعه ، ويسكب فيه من روحه، وقد كان الفرق جلياً واضحاً سواء في المدخل إلى هذه القصة أو في أسلوب عرض الأحداث ، أو في الأحداث نفسها .
إن القرآن يضع القصة في إطار ديني ، تنفذ معه أشعة روحية إلى النفوس ببيان العبرة الأخلاقية والتربوية التي من أجلها أنزل الله القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح ص 236
بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام .
إن قصة يوسف عليه السلام في القرآن هي قصة الشخصية والأحداث معاً؛ فهي لا تسجل واقعاً فحسب،بل تنتصر للقيم الإنسانية الجديرة بالخلود،إنا تنتصر للإيمان وللصبر وللعفاف وللأمانة وللإخلاص والطهر،وقد قام بالأدوار فيها شخصيات متباينة في السن،وفي المكانة الاجتماعية،ولكلٍ منها طابعها الخاص وفق التربية والتجارب التي مرت بكل منها؛كالبراءة والحكمة والحسد والعلم (1)(1/46)
إن المتمعن في هذه القصة من القرآن يتلمس شحنات نفسية من أبطال القصة ، ومن بعض كلماتها وإشاراتها ؛ فكلمة " الصبر " مثلاً تجدها حاضرة دائماً على لسان يعقوب عليه السلام ، والاستعاذة من الظلم على لسان يوسف عليه السلام ، وتوكيد الإيمان على لسان أخوته ، ولو نظرنا من منظورِ علم النفس لوجدنا سلوكاً متبايناً من شخصياتها ، كالتبرير والإسقاط والكذب والغيرة والقلق والإحساس بالذنب ، ونحو ذلك من الحيل النفسية اللاشعورية التي يلجأ لها الإنسان في معاملاته النفسية ، والتي يسميها علم النفس " آليات عقلية " ، يغالب بها المرء إحباطه وقلقه وتوتره الناشئ عن فشله،وهو يحاول تحقيق رغباته(2).فأخوة يوسف عليه السلام ضلوا ضحايا الكبت الذي عاشوه؛كي يخفوا رغبتهم في التخلص من أخيهم يوسف؛حتى يخلو لهم حب أبيهم،ولكنهم يفشلون في إخفاء وكبت هذه الرغبة؛بل كثيراً ما تبدو فيما يصدر عنهم من تصرفات ومواقف وكلمات ضد يوسف؛مما جعل يعقوب عليه
السلام يشك في حسن نواياهم عندما دعوا يوسف إلى أن يلعب معهم؛فقال لهم :
?قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ?(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف في القرآن ص 123
2- سيكلوجية القصة في القرآن : التهامي نقرة ، تونس ، الدار التونسية للتوزيع ، الطبعة الثانية ، 1987 ، ص 516
3- يوسف 13(1/47)
وكان من نتيجة هذا الكبت ومعاناته أن انحرفوا بتفكيرهم،فكل ما يهمهم تحقيقه هو أن يحُولوا بين يوسف وأبيه؛فكان اتفاقهم على قتله،وتلطيخ قميصه بالدم، وادعاء أن الذئب أكله لمَّا ذهبوا يتسابقون وتركوه عند متاعهم،غير أن التلفيق كان واضحاً؛لأن القميص لم يكن ممزقاً بآثار أسنان الذئب؛مما جعل يعقوب عليه السلام لا يصدقهم؛ولهذا كان دائماً يدعوهم إلى أن يتقصوا آثار أخيهم،ولو أنه صدَّقَهم في دعواهم لما أصر على أن يقتفوا آثاره،وقد وقعوا في حالة التبرير كما يفعل المذنب؛إذ يعمد إلى تفسير سلوكه؛ليبين لنفسه وللناس أن لسلوكه هذا أسباباً معقولةً،فهم يقولون:? قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ? (1) .
أما الإسقاط فهو حيلة يسقط بها المرء نقائصه وعيوبه على الآخرين ، ويهمه بالدرجة الأولى أن يلصقها بمن يظنه منافساً له مباشرةً ، كالصديق الذي يغدر بصديقه ثم يتهمه بالغدر .
إذا كان هذا هو مفهوم الإسقاط في علم النفس فإن القرآن روى ذلك عن أخوة يوسف، وذلك حينما دس يوسف عليه السلام صواع الملك في متاع أخيه،وألقى القبض عليه بتهمة السرقة ليستبقيه دون أن يكشف لهم عن شخصيته فقالوا :
? قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ?(2). وفي السورة آيات أخرى نستخلص من خلالها أدق النظريات التي جاء بها علم النفس الحديث (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 17
2- يوسف 72
3- القرآن نظرة عصرية جديدة . ص 221
أثر قصة يوسف في الأدب والشعر .(1/48)
كانت قصة يوسف مطمح أنظار الكتاب والشعراء قديماً وحديثاً ، ومنبعاً يستوحون منه خيالاتهم وإبداعاتهم ؛ وقد قال تعالى : ? لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ? (1) ؛ فهذه زوجة شاعر لم تصدق دموع زوجها حين رأته يبكي ؛ فشبهتها بقميص يوسف لما جاء به أخوته وعليه دم كذب ، وهذه إحدى دلالات القميص في القصة فقالت :
جفونك والدموع تجول فيها ……وقلبك ليس بالقلب الكئيبِ
نظير قميص يوسف يوم جاءوا……على لباته بدمٍ كذوبِ
وقال أبو الطيب المتنبي:
يَحِطَّ كُلَّ طَويلِ الرُمحِ حامِلُهُ مِن سَرجِ كُلِّ طَويلِ الباعِ يَعبوبِ
كَأَنَّ كُلَّ سُؤالٍ في مَسامِعِهِ قَميصُ يوسُفَ في أَجفانِ يَعقوبِ
وقال آخر يمجد صاحبته ويندب حظه فيقول :
لها علم لقمان وسورة يوسف …ولي حزن يعقوب وقصة آدم
فلا تقتلوها إن قتلت بها جوىً …بلى فاسألوها كيف حل لها دمي
ويقول ابن الفارض :
وأرغَمَ أنفَ البَين لُطْفُ اشتِمالِها عليَّ بما يُرْبي على كُلّ مُنيَة
بها مثلمَا أمسَيتُ أصْبحتُ مُغرَماً وما أصْبحتْ فيه من الحسنِ أمست
فلوْ منحتْ كلّ الورى بعضَ حُسنها خَلا يوسُفٍ ما فاتَهُم بمَزِيَّة
وقال ابن عبد ربه الأندلسي وفي حديثه إشارة إلى الحسن اليوسفي الذي اكتحلت به الأبصار:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 7
يا مَن عليهِ رداءُ البأسِ والجودِ من جودِ كفكَ يجري الماءُ في العودِ
لمَّا تطلعتَ في يومِ الخميسِ لنا والناسُ حولك في عيدٍ بلا عيدِ
وبادرتْ نحوكَ الأبصارُ واكتحلتْ بحسنِ يوسُفَ في محرابِ داودِ
وهذا العباس بن الأحنف يستشهد بإحدى دلالات قميص يوسف وهي البراءة مما اتهمته به امرأة العزيز، فقال :
رَماني فَلَمّا أَقصَدَتني سِهامُهُ بَكى لي وَشامَ الباقِياتِ مِنَ النَبلِ
وَقَد زَعَمَت يُمنٌ بِأَنّي أَرَدتُها عَلى نَفسِها تَبّاً لِذَلِكَ مِن فِعلِ(1/49)
سَلوا عَن قَميصي مِثلَ شاهِدِ يوسُفٍ فَإِنَّ قَميصي لَم يَكُن قُدَّ مِن قُبلِ
وقال ابن عبد ربه الاندلسي :
بَكيتُ حَتَّى لم أَدَعْ عَبرَةً إِذْ حَملوا الهودَجَ فَوقَ القَلوصْ
بُكاءَ يَعقوبٍ على يُوسُفٍ حَتَّى شَفَى غُلَّتَهُ بالقَميصْ
وقال ابن النقيب :
كأنَّه وهو في كفي أقلبه قميصُ يوسفَ في أجفان يعقوب
ويقول ابن راشد الحمامي :
لِلّهِ وَردٌ ناضِرٌ في سَوسَن غَضٌّ حَيا اِستِحيائِهِ يَحمِيهِ
عَن سِحرِ هارُوتٍ يُحدِّثُ لَحظُهُ وَجَمالُهُ عَن يُوسُفٍ يَروِيه
وقال ابن سالم الهمداني :
وَلَكِنَّهُ مُذ لاحَ لامَ عذارِهِ تَجَنّى فَلا يَلوي عَلى مَن تَعَذّرا
شَراني بِبَخسٍ وَهُوَ في الحُسنِ يُوسُفٌ وَما بِاعَني إِلّا بِأَرخَصِ ما اِشتَرى
فَيُمسي إِذا ما أظَلَمَ اللَيلُ ظالِمي وَيَهجُر إِن صامَ النَهارُ وَهَجّرا
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد استحضر قمة الحسن التي ليوسف ، وكذلك استحضر الحدث الذي وقع عند خروج يوسف عليه السلام على نسوة المدينة اللاتي قطعن أيديهن ، يقول شوقي :
الحسنُ حلفت بيوسفه …والصورة أنك مفردُهُ
إذ ودَّتْ كلُّ مقطِّعةٍ …يدها لو تُبْعَث تشهدُهُ
وقال ابراهيم الأحدب :
يا من بيوسف سموه فتاه على أهل الصبابة واستعلى على البشر
ما فيك من يوسف المشهور من صفة سوى القميص الذي قد قد من دبر
وقال ابن الوردي :
أقسمتُ لو شاهدتَهُ يختالُ تحتَ المصحفِ
لحسبتَ صورةَ يوسفٍ تمشي بسورةِ يوسفِ
ويزخر الأدب العربي بنتاجٍ وافرٍ يستلهم من القصة أدواته وخيالاته ومداده ؛ ذلك لما للقصة من أثر واضح في نفوس الأدباء .
الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف في القرآن .(1/50)
إن من المعروف عن سمات القصص القرآني ظاهرة التكرار ؛ وهو أن تتكرر القصة في أكثر من موضع من القرآن ، كما في قصة موسى عليه السلام ، وقصة نوح عليه السلام وغيرهم من الأنبياء ، ولكن نجد أن قصة يوسف عليه السلام لم تتكرر في أي موضع من القرآن ؛ فقد جاءت في موضع واحد ، وهنا يطرح السؤال نفسه:ماالحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام،وسوقها مساقاً واحداً في موضع واحد دون غيرها من القصص؟،والحكمة في عدم تكرارها كما يراها بعض علمائنا الأجلاء تتجلى فيما يلي: فيها من تشبيب لنسوة بيوسف عليه السلام ، وتضمنها أخباراً عن حال امرأة ونسوة افتتن بأروع الناس جمالاً ، وأرفعهم منالاً ، فناسب عدم تكرار ما فيها من الإغضاء والستر عن ذلك ؛ ولأنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ؛ فإن مآلها إلى الوبال كقصة نوح وهود وقوم صالح عليهم السلام وغيرهم ؛ فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمات القصص.
وفي عدم تكرارها إشارة إلى عجز العرب ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبياء (1) ، وثمة أمر آخر وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم ، فقد روي الواحدي والطبري يزيد أحدهماعلى الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أُنزل القرآن فتلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه زماناً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني . بيروت ، دار القرآن الكريم ، ص 52(1/51)
فقالوا - أي المسلمون بمكة - يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله ? الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ?(1) فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة وترويح النفوس بها،والإحاطة بطرفيها،استخلاصاً لعبرها ودلالاتها .
وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء عليهم السلام إنما تكررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم وآذوهم ؛ والمواقف التي يعيشها النبي تستدعي ذلك التكرير ؛ ذلك لتكرير تكذيب الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما كذبوا أنزلت قصةٌ منذرةٌ بحلول العذاب كما حل على المكذبين ؛ ولهذا قال تعالى:? قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ?(2)وقال أيضاً :? أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ?(3)وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك (4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 1-3
2- الأنفال 38
3- الأنعام 6
4- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي ، القاهرة ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الثالثة ، 1952 م ، 2/185
مستويات قصة يوسف .(1/52)
تعد قصة يوسف من القصص الطوال ، وقد تشكلت بنيتها من خلال عدة أمور تشابكت فيما بينها مكونةً قصة من أروع القصص وأحسنها . قال تعالى : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ? (1) .
وتختلف هذه الأمور وتتباين فيما بينها فبعضها يخص البناء الزماني ، وبعضها البناء المكاني ، وبعضها بناء الشخصيات ، تتكاثف هذه الأبنية ويظهر من خلالها مستويات عدة،نتناول في هذا البسط ثلاثة مستويات هي :
" مستوى الرؤيا ، مستوى الرمز ، مستوى الحيل "
أولاً : مستوى الرؤيا .
وهو المستوى الأول الذي بدأت به القصة عموماً ، قال تعالى : ? إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ? (2) . وينقسم مستوى الرؤيا إلى أربع مراحل :
المرحلة الأولى : رؤيا يوسف عليه السلام :
وهي التي قصها على أبيه حيث قال : ? إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ?(3) ، وقد ظهر لأبيه منها أنه سوف ينزله الله منزلاً مباركا ، وسوف يؤتيه الحكمة ويجعله نبياً ، فخشي عليه من أخوته فأمره أن لا يحدث بها أخوته ، خوف أن يكيدوا له ويؤذوه . وتمثل هذه الرؤيا مساراً سارت على خطوطه أحداث القصة ، على مختلف أماكنها وأزمانها ؛ لتلتقي في نهايتها بالتأويل ، فقد جعلها الله حقاً . قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 3 2- يوسف 4
3- يوسف 4(1/53)
تعالى : ? وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ?(1) .
المرحلة الثانية : رؤيا فتى السجن الأول .
حين دخل عليه السلام السجن صاحَبَ ذلك أن دخل معه فتيان ، ورأى كلٌ منهما رؤيا . قال تعالى:? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ?(2)؛فعبرعليه السلام رؤيا الفتى بأنه سيسقي ربه خمراً ، وربه أي" سيده " قال تعالى:? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا? (3)
واستعملت هذه اللفظة لأنه معروف في اللغة أن يقال للسيد رب(4).قال الأعشى :
أَذلَلتَ نَفسَكَ بَعدَ تَكرِمَةٍ لَها أَو كُنتَ ذا عَوَزٍ وَمُنتَظِرٍ غَدا
أَم غابَ رَبُّكَ فَاِعتَرَتكَ خَصاصَةٌ فَلَعَلَّ رَبُّكَ أَن يَعودَ مُؤَيَّدا
رَبّي كَريمٌ لا يُكَدِّرُ نِعمَةً وَإِذا يُناشَدُ بِالمَهارِقِ أَنشَدا
المرحلة الثالثة : رؤيا فتى السجن الثاني .
هو الفتى الآخر الذي دخل معه السجن وقص عليه رؤياه التي كان تعبيرها له وقع كبير على النفس البشرية ، قال تعالى :
? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 100
2- يوسف 36
3- يوسف 41
4- الجامع لأحكام القرآن : القرطبي ،ت أحمد عبد العليم البردوني، القاهرة ، دار الشعب ،الطبعة الثانية ، 9/194(1/54)
الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ? (1) ولو نظرنا إلى القصة من جهة الدعوة لله نرى أنه عليه السلام لم يترك فرصةً إلا واستغلها في الدعوة لله عز وجل ، فنراه وهو في سجنه يدعو لله ، فعندما طُلبَ منه تعبير الرؤيا لم يعبرها لهم مباشرةً ، ونستطيع أن نتلمس إصغاءهم إليه ، واستفادته من هذا الإصغاءفي الدعوة.قال تعالى:? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ? (2) .(1/55)
المرحلة الرابعة : رؤيا الملك :
رأى الملك رؤيا سعى لتعبيرها قال تعالى : ? وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 41
2- يوسف 36-41
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ? (1) .
ومن خلال رؤيا يوسف عليه السلام ، ورؤيا الفتيين بالسجن ، ورؤيا الملك تتجلى صور مرئية ، من الكواكب الساجدة والشمس والقمر ، إلى الخمر المعصورة ، إلى الخبز المحمول ، إلى الطيور الآكلة من رأس الفتى ، إلى البقرات التي تأكل مثيلاتها الهزيلات والسنابل الخضر واليابسات ، فكل هذه الصور تكاد تراها بعينيك رأي العين ؛ ذلك راجع لقوة التعبير البلاغي الذي تمتاز به القصة ، ويمتاز به النظم القرآني .
فشخصيات القصة " يوسف ، ويعقوب ، وأخوته ، والملك ، وفتيا السجن" هي صور مختلفة للجنس البشري ،تتباين وتختلف في مستويات متباينة ، سواء كانت هذه المستويات اجتماعية أو دينية أو ثقافية أو طبقية ، تتفاعل فيما بينها متممةً البناء والشكل النهائي للقصة .
ويظهر المكان كعنصر متغير في ثنايا القصة والرؤى التي تتضمنها ؛ فالمكان في الرؤيا الأولى هو الكون الذي سجدت فيه الكواكب والشمس والقمر.
أما في الرؤيا الثانية فالمكان هو الوظيفة اليومية ، والرؤيا الثالثة مكانها الحياة اليومية لخباز من خلال حمله للخبز على رأسه والسير به ، أما الرؤيا الرابعة فمكانها هو الدولة ؛ فالسنابل والبقر تمثلان رمز الثروة الوطنية ؛ أي مصدر الرزق والحياة . ويتطور الزمن في القصة من خلال نمو يوسف عليه السلام والمحيطين به ؛ يوسف طفلاً،ويوسف شاباً ، ثم بلوغه الرشد قال تعالى :(1/56)
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 43 2- يوسف 22
ويتفاعل الحدث من خلال تفجر عناصر الحياة التي تتضمنها الرؤيا من خلال دلالاتها المتعددة ، فالرؤيا هي التي تحرك الشخصيات والمواقف ؛ فرؤيا يوسف عليه السلام أيقظت هواجس يعقوب وخوفه على يوسف عليه السلام ؛ فدفعته لتحذيره من أخوته ، هذا التحذير والخوف مبعثه شعوره بما يكنه له أخوته من كيد وحسد ، وبالتالي تغذي حسد الأخوة فلجأوا إلى تغييب يوسف عليه السلام .
أما الساقي فتأويل يوسف رؤياه له أنجاه من السجن ، ومن التهمة التي أُلصقت به ومهَّد تأويله لرؤيا الملك ؛ لعودته إلى العائلة ، وكشف المؤامرة الأولى ، ومن ثم تحققت الرؤيا الأولى .
ثانياً : مستوى الحيلة .
ثمة أربع حيل تنتمي إلى مراحل القصة المتعاقبة المكونة لبنيتها ، غير أنها تختلف من حيث دوافعها السلبية أو الإيجابية ، وهي كالتالي :
أ - حيلة أخوة يوسف :
ويتمثل موضوعها في التغييب الكامل لوجود يوسف عليه السلام ، سواء الوجود المادي أو الاجتماعي , والدافع لها كما مر بنا هو حب الأب ليوسف ، قال تعالى :? إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ?(1) ، وبدأت الحيلة باستدراج يوسف عليه السلام وهو " العزل" بعد أخذ الإذن من أبيه ، قال تعالى : ? قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?(2) وقد استعملوا" الكذب "على أبيهم ، ثم نفذوا الحيلة برميه في البئر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/57)
1- يوسف 8 2- يوسف 11-12
ب – حيلة امرأة العزيز الأولى :
والدافع إليها هو حبها له وشغفها به ، قال تعالى : ? وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? (1) .
ج – حيلة امرأة العزيز الثانية :
وهي حيلتها على نساء المدينة ، ودافعها هو الاقتصاص من تلك النسوة
اللاتي أطلقن الشائعات في المدينة حولها،قال تعالى:? وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ?(2)، واحتالت عليهن بأن أعدت لهن متكأً،وأعطت كل واحدةٍ منهن سكيناً،وأمرتْه بالخروج؛فلما رأينه قطعن أيديهن بلا شعور،وقلن"ماهذا بشراً"،وهذا ما تصبو امرأة العزيز إليه؛لتسويغ فعلتها،فقالت لهن:إن هذا هو الذي لمتنني فيه ، فكشفت عن سبب موقفها من يوسف؛مغيبةً مكانته"كابن"،ومظهرة مكانته"كرجل"، قال تعالى:? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? (3).
د – حيلة يوسف عليه السلام :
وهي حيلة إيجابية،مفادها وموضوعها إعادة الحق إلى نصابه،وتحقيق العدالة والمستهدف من هذه الحيلة هم أخوة يوسف عليه السلام؛فقد استدرجهم وطلب
منهم أن يأتوا بأخٍ لهم من أبيهم،ولما أتوا به جعل برحله صواع الملك،متهماً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 23
2- يوسف 30
3- يوسف 31(1/58)
إياهم بالسرقة ، قال تعالى : ? فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ? (1) ؛ لوصوله إلى الهدف الذي هو اجتماع الأسرة والتمام الشمل ، بعد كشف حيلتهم الأولى ، قال تعالى : ? وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ? (2) .
ثالثاً : مستوى الرمز :
شكل القميص رمزاً دلالياً بعيد الدلالة ، فقد شكل نقاط تحولٍ بالقصة كاملة ، وتكرر في ثلاث قصصٍ جزئية من قصة يوسف ، من رؤياه الأولى إلى تحققها بسجود أبويه له . وسوف نتتبع المواقف التي ظهر بها القميص .
الأول : في المؤامرة التي حاكها أخوته ضده وهي رميه بالجب ، وعودتهم إلى أبيهم يحملون قميصه ، وعليه دمٌ كذبٌ ، فالقميص الملطخ بالدم هو كل ما تبقى من يوسف الغائب ، لذا حمل في هذا الموقف " رمز الغياب "؛ وربما حمل دلالة الاحتيال والكذب ؛ فقد استخدم هذا القميص الملطخ بالدم الكذب في الدلالة على الكذب ؛ فجاء في الشعر العربي :
جفونك والدموع تجول فيها ……وقلبك ليس بالقلب الكئيبِ
نظير قميص يوسف يوم جاءوا……على لباته بدمٍ كذوبِ
الثاني:وذلك حينما حاولت امرأة العزيزالدفاع عن نفسها،وصرف التهمة عنها بادعائها أن يوسف هو المُدانُ،بإرادته السوء بها؛ولثبوتِ البراءةِ شهدَ شاهدٌ من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 70 2- يوسف 100(1/59)
أهلها ، بأن قميصه إذا قُدَّ من أمام فهي صادقة ، وهو كاذب ، وإن كان قميصه قُدَّ من خلفٍ فإنه صادق وهي كاذبة . قال تعالى : ? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ? (1) ، فصار هذا القميص هو القاعدة الأساسية التي بني عليها الحكم .
الثالث : حين عادوا بقميص يوسف إلى يعقوب عليهما السلام ؛ فقد حل القميص محل يوسف ، فالقميص هو الذي يرد البصر إلى يعقوب عليه السلام . فهو من خلال هذا القميص يشم ريح يوسف ، قال تعالى : ? اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 26-27
2- يوسف 93-96
شخصيات قصة يوسف عليه السلام .
تتكون القصة من عدة جزئيات من القصص المكونة للبناء التام لقصة يوسف عليه السلام ، وهذه الجزئيات التي تشكلها شخصيات القصة بها أنماطاً مختلفةمن النفس البشرية ،على مختلف الرتب والطبقات الاجتماعية والحياة الدينية ، والنزعات المختلفة ، فكل الشخصيات الأخرى مأسورة بفكرة معينة أو بحالة نفسية منفردة .
ا - يوسف عليه السلام .
إن شخصية يوسف عليه السلام هي الشخصية المحورية بالقصة ، وهي التي تدور حولها كل القصص المكونة لقصته عليه السلام .(1/60)
ب – يعقوب عليه السلام .
هو ذلك الإنسان الحكيم الذي يمتلك بعد النظر ويستطيع أن يقرأ أو يستشعر ما سيحدث قال تعالى:? قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? (1) ، فحالته النفسية التي تتسم بالخوف على يوسف من أن يكيد له أخوته دعته لتحذيره منهم ، وأن يكتم رؤياه عنهم ؛ قال تعالى : ? قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? (2) .
ج - أخوة يوسف عليه السلام .
هم أخوة أخذت الغيرة منهم مأخذاً كبيراً ، فغمر الحسد قلوبهم ، فعملوا على تغييب أخيهم بالكيد له ورميه بالجب .
د – امرأة العزيز .
امرأة افتتنت،همها إشباع رغباتها،وفي النهاية تعود وتشهد لصالحه بعد سجنه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 96
2- يوسف 5
هـ - الملك .
تتحكم به فكرة الصراع ، والاهتمام بشؤون دولته ؛ لذا ظهرت في رؤياه السنابل والبقرات التي هي رمز للاقتصاد .
و – السيارة " البدو"
هم مجموعة من البدو،حصلوا على غنيمة وأرادوا بيعها للحصول على المال .
ز – الفتيان .
هما صاحباه في السجن ، وهما يمثلان الحياة اليومية ، فأحدهما بائعٌ للخبز ، والآخر عاصرٌ للخمر .
ح – النسوة .
هن نسوة بالمدينة يثرن الإشاعات على امرأة العزيز .
ط – الشاهد .
وهو الشاهد الذي أشار إلى القميص وموضع قدِّه ، من القبل أم الدبر .
ونعود لشخصية يوسف عليه السلام ؛ فهي الشخصية المحورية ، فقد كان دوره تحرير الإنسان من الفكرة المسيطرة عليه ، وهو يقف في وجه الحسد ودوافعه ، ويواجه الدعوة لإشباع الشهوات خارج النظام الأخلاقي والاجتماعي ، وهو يوجه الملك إلى نظامٍ اقتصادي بديع ، وعمل على الدعوة له عز وجل ، ودعا لتحرير الإنسان من نوازعه الذاتية الضيقة (1) .(1/61)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر القرآن والشعر : دلال عباس . بيروت ، دار المواسم للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، 2000م ص 125-130
الفصل الثالث
صور الإعجاز في قصة يوسف
الإعجاز البلاغي .
القرآن الكريم والأوزان العروضية
موافقة بعض الآيات لأوزان الشعر العربي
التكرار في قصة يوسف
الإعجاز القرآني ليس من السهولة بمكانٍ بحيث يكون من اليسير تتبعه والإلمام بجوانبه ونواحيه وأوجهه ، غير أن الدارس في القرآن يضع نصب عينيه الحديث الشريف الذي جاء فيه : ? مأدبة الله ينال كل منها ما تصل إليه يده ، وتمتد إليه عيناه ، وتشتهيه نفسه ? ؛ لذا أفردت هذا الفصل لبيان ما وقعت عليه الأعين من صورٍ ومظاهرَ للإعجاز القرآني على مختلفِ أوجهه وأضربه ، وسوف نمر مع القارئ الكريم على آيات سورة يوسف مستخلصين منها ما تَجَلَّى لنا من إعجاز ، وأكثر ما يغلب من أوجه الإعجاز هو الإعجاز البلاغي ؛ فيجدر بنا ويحسن أن نتناول الإعجاز البلاغي بشيءٍ من التوضيح الذي يضفي الروعة على الفهم .
الإعجاز البلاغي :
يعد الإعجاز البلاغي وجهاً من الوجوه البارزة الواضحة للإعجاز القرآني بصفةٍ عامةٍ ، وهو يصلح لأن يلازمه على مر الزمن ، والإعجاز هو خرق العادة وعدم الاستطاعة مع المعرفة بما يعجز به ، وبما أن القرآن معجز ، وهو كلام يتكلم به العرب ـ أي لغتهم ـ فالمعجز هو أن يأتي المعنى بطريقة هي أبلغ من غيرها من الطرق ، وبمعنى آخر فالإعجاز القرآني صفة عالية في الكلام ، خارقة ، تفوق غيرها من الدرجات ، ومرتبة عالية لا ترقى إليها المراتب ، بينها وما بين غيرها ما بين الخالق والمخلوق ، فقد قال النبي الكريم : فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .(1/62)
وقد أدرك العرب بفطرتهم هذا الفضل ، وأقروا بمكانته ، وأحسوا إحساساً سطرته كلمات الوليد بن المغيرة ، وهو خصم معاند لديد ، حيث قال : " والله إن لقوله حلاوة ، وأن أصله لعذق ، وأن فرعه لجناة ... " ، من هذا وغيره نجد أن للقرآن تأثيراً في النفس ؛ ذلك لجلال عظمته ، ومن التأثير في النفس يأتي الإعجاز البلاغي ، غير أنه ثمة إشكال على العلماء المختصين به ، وكذلك على متذوقيه ، فصاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة الفائقة في وصفها سائر البلاغات ، والتي اختص بها القرآن ، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر الكلام الموصوف بالبلاغة قالوا :" إنه لا يمكن تصويره ، ولا تحديده بأمرٍ ظاهرٍ ، نعلم مباينة القرآن عن غيره من الكلام ، وإنما يعرفه العالمون به ضرباً من المعرفة لا يمكن تحديده ، وقد شبه أثر البلاغة القرآنية بما يحسه الإنسان من استقامة الوزن ، أو الملاحة ، أو طيب النغم العارض للصوت وقال السكاكي:" اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما "(1) .
ولو نظرنا إلى لفظة " بليغ " نجد أنها وردت بهذا اللفظ في سورة النساء قال تعالى:? أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا?(2) فقد تكلم فيها الزمخشري فقال:"بليغاً أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم،مؤثراً في قلوبهم،يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً" (3) ، أما أمر النبي المكرم صلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الاتقان في علوم القرآن : السيوطي ، 2/319
2- النساء 63(1/63)
3- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : أبو القاسم جار الله الزمخشري . شرحه وضبطه وراجعه يوسف الحمادي ، مصر ، مكتبة مصر ،دط ، دت ، 1/459
عليه وسلم فإنه يتجاوز حد البلاغ ؛ أي يتعدى معنى الوصول إليهم بالقول ؛ و أُمر أن يكون قوله مؤثراً في أنفسهم ، وذهب الفخر الرازي فيما يخص قوله : " بليغاً " إلى قولين ، أحدهما : أن القول البليغ صفة للوعظ ، فأمر جل جلاله بالوعظ ، ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ ، وهو أن يكون كلاماً بليغاً طويلاً حسن الألفاظ ، حسن المعاني ، مشتملاً على الترغيب والترهيب ، فإن الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب ، وإذا كان مختصراً ركيك التلفظ لم يؤثر في القلوب (1).
وهذا ما يؤيد أن التأثير في النفس وتحفيزها بإطلاق المشاعر والأحاسيس ، هو معنى البلاغة وليس التوصيل المجرد للمعنى (2).
ولا يمكن الوصول إلى هذا التأثير النفسي إلا إذا كان الكلام يتسم بالبيان ، وما يتبعه من دقة الألفاظ ، وروعتها، وجزالتها ، والتناسق والتناغم فيما بينها ، والاستعارات ، والكناية ، والمجاز بأنواعه وما إلى ذلك من ضروب البلاغة وفنون القول .
والمتتبع لآيات القرآن والمتمعن فيها يجد الكثير من الآيات التي تشع منها البلاغة ، ويقع في القلوب منها روعة الأثر ، ويتجلى الإعجاز البلاغي من خلالها ، وهذه قصة يوسف عليه السلام ملأى بالصور البلاغية المعجزة ، سنمر على آياتها مستخرجين ما تقع عليه أعيننا ، وما وفقنا الله إليه من صورٍ بلاغيةٍ وغيرها ، راجين من الله السداد والتوفيق بإذنه تعالى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التفسير الكبير : فخر الدين الرازي ، ت عبد الرحمن محمد ، مصر ، المطبعة البهية المصرية ، 1938م 10/159(1/64)
2- الأسلوب في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم : محمد كريم الكواز ، ليبيا ، جمعية الدعوة الإسلامية ، دار الكتب الوطنية ، الطبعة الأولى ، ص22-25
الآية ( 1 ) قال تعالى : ? الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ?
يوجد من الناحية البلاغية في هذه الآية إشارة إلى البعيد وذلك في قوله : ? تلك آيات ? وهذه الإشارة إنما جاءت لبعد المنزلة وعلو المرتبة في الكمال والشأن .
الآية ( 3- 4 ) قال تعالى : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ?
نلحظ في هذه الآية من الناحية البلاغية فناً جميلاً وهو ما يعرف
بـ " براعة التخلص" وهو امتزاج آخر ما يقدم الكاتب أو الشاعر على المدح من نسيب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح ،وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت واحد ، وبعبارة أخرى : هو امتزاج ما يقدمه الكاتب بأول ما استهل به الكلام ؛ فعلى الكاتب أو الشاعر أن ينتقل انتقالة مرهفة ؛ لكي لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في المعنى الثاني ، وهذا الباب من البلاغة قديم ، وهو من أجل أبواب المحاسن .(1/65)
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه وجه من وجوه الإعجاز، وهو دقيق في عين من لا يحسن استجلاء مظاهر الجمال ، خفي يخفى على غير الحذاق من ذوي النقد، وهو في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، ومنه هذه الآية التي بين أيدينا : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ? فإنه سبحانه وتعالى أشار بقوله: أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه النكتة من باب الوحي (1) ومثل الإنتقالة اللطيفة هذه نرى طرفة ابن العبد ينتقل انتقالةً طريفة في معلقته ؛ فقد كان يصف " خولة " وصفاً جميلاً رائعاً ، وما إن استرسل في وصفها حتى خلص إلى وصف الناقة ، وانتقل انتقالة لطيفة لا تشعر بها ؛ إذ هو لم يضع فاصلة بين وصفه الناقة ووصفه خولة ؛ وذلك في قوله : (2)
وَتَبسِمُ عَن أَلمى كَأَنَّ مُنَوِّراً تَخَلَّلَ حُرَّ الرَملِ دِعصٌ لَهُ نَدي
سَقَتهُ إِياةُ الشَمسِ إِلّا لِثاتِهِ أُسِفَّ وَلَم تَكدِم عَلَيهِ بِإِثمِدِ
وَوَجهٌ كَأَنَّ الشَمسَ حَلَّت رِدائَها عَلَيهِ نَقِيُّ اللَونِ لَم يَتَخَدَّدِ
وَإِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
أَمونٍ كَأَلواحِ الأَرانِ نَصَأتُها عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ
جَماليَّةٍ وَجناءَ تَردي كَأَنَّها سَفَنَّجَةٌ تَبري لِأَزعَرَ أَربَدِ
فالإنتقالة عند قوله : " وَإِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ" حيث خلص لوصف الناقة بطريقة سهلة سلسة لا تثير اضطراباً عند السامع . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/66)
1- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر : عبد العظيم بن عبد الواحد بن أبي الإصبع العدواني . تحقيق :حنفي محمد شرف ، مصر ، الطبعة - 1، 1936
2- المعلقات العشر وأخبار شعرائها : أحمد الأمين الشنقيطي . القاهرة ، المكتبة الأزهرية للتراث ، ص58
أما قوله تعالى : ? أَحْسَنَ الْقَصَصِ ? فهو صفة هذه القصة ؛ فإن المتأمل في هذه القصة يجد أن كل قضية فيها قد ختمت بخير، وكل ضيق انتهى إلى فرج ، وكل شدة آلت إلى رخاء ؛ فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن ، وخروجه ملكاً ، وظفر إخوته به أولاً ، وظفره بهم آخراً ، وتطلعه إلى أخيه بنيامين ، واجتماعه به ، وعمى أبيه ، ورد بصره،وفراقه له ، ولأخيه ، واجتماعه بهما ، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً لرؤياه من قبل ، وأيضاً لما تتضمنه من العبر والنكت والحكم والعجائب (1) وقال الكرامي : سميت أحسن القصص لاشتمالها على ذكر حاسد ومحسود ، ومالك ومملوك ، وشاهد ومشهود ، وعاشق ومعشوق ، وحبس وإطلاق ، وسجن وخلاص ، وخصب وجدب ، وغيرها مما يعجز عن بيانها طوق الخلق(2) ، ونلحظ أيضاً أن قوله : ? رَأَيْتُهُمْ ? في قوله : ? رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ? أنها ليست تكراراً ، وإنما هي كلام مستأنف ، على تقدير سؤالٍ وقع جواباً له ، كأن يعقوب عليه السلام قال له وذلك حين قال يوسف عليه السلام : " إني رأيت أحد عشر كوكباً " فكأنما قال له : " وكيف رأيتهما ؟" : أي ما هي حالهما عند رؤيتك لهما ؟ ؛ فقال : ? رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ? ، إضافة إلى هذا توجد استعارة مكنية في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجدول في إعراب القرآن صرفه وبيانه : محمود صافي ، دمشق ، دار الرشيد، 6/357
2- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي 2/431(1/67)
قوله : ? رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ? ؛ حيث شبه المذكورات بقومٍ عقلاء ساجدين ، فأخذت حكمهم ؛ لأنها لما وصفت بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجري عليها حكمهم ، كأنها عاقلة ، وهو كثير شائع في كلام العرب ، فعند ملابسة الشيءِ الشيءَ من بعض الوجوه فيعطى حكماً من أحكامه ؛ إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة (1).
ولو رجعنا لبداية القصة نجد أنها افتتحت بثلاث آيات ؛ لتؤكد قضايا ثلاث :
* تفرد القرآن الكريم بالسمة البيانية .
* تمثل معانيه في شكل لسانيٍّ مفهوم ومقنع للعقل .
* الإعلان عن القصة بصيغةٍ مثيرة ومشوقة ؛ فهي أحسن القصص(2).
ومن جانب آخر فإن أكثر ما اجتمع في كتاب الله من الحروف المتحركة ثمانية وذلك في موضعين الأول : قوله تعالى : ? إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا? فبين ياء رأيت وواو كوكباً ثمانية أحرف كلهن متحرك والثانى قوله :? حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي? على قراءة من حرك الياء في قوله"لي" و" أبي" (3) .
الآية ( 8 ) قال تعالى : ? إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? .
إن الحروف في القرآن مصرفة تصريفاً محكماً،وموضوعة في السياق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : أبو القاسم جار الله الزمخشري . شرحه وضبطه وراجعه يوسف الحمادي ، مصر ، مكتبة مصر ،دط ، دت ،2/445 و صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني . بيروت ، دار القرآن الكريم ، ص45
2- قصة يوسف عليه السلام في القرآن دراسة أدبية : محمد رشدي عبيد ، الرياض ، مكتبة العبيكان ، الطبعة الأولى ، 2003م ، ص 26
3- البرهان في علوم القرآن :الزركشي ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ،بيروت ، دار المعرفة ، الطعة الثانية ،1972م 1/254(1/68)
القصصي لتقوم بدورٍ مضاعفٍ مركبٍ ، ولتؤدي دورها الإيقاعي والموسيقي ، كما تُجلي مضمون المعنى المراد ، ففي هذه الآية جيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده ؛ أي أن كثرة حبه عليه السلام لهما أمر ثابت لا شبهة فيه (1).
الآية (9) قال تعالى : ? اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ? .
في هذه الآية كناية تشير إلى خلوص المحبة والتفرد بها ، ومرادهم بقتل يوسف أن يخلو لهم وجه أبيهم ، وتحصل سلامة المحبة لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها ، فذلك من قوله : ? يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ?
الآية (14) قال تعالى: ? قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?
يظهر من قوله تعالى : ? إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ? المجاز عن الضعف والعجز والعلاقة هي السببية (2).
الآية ( 18 ) قال تعالى : ? وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ?
في هذه الآية ورد وصفٌ بالمصدر وذلك في قوله : ? بِدَمٍ كَذِبٍ ? مبالغةً كأنه نفس الكذب وعينه ، كما يقال للكذاب : هذا الكذب بعينه . والزور بذاته ،
ونحوه من قول عمر بن ربيعة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: الألوسي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 12/189
2- البرهان في علوم القرآن ، الزركشي ،ص116
فهن به جودٌ ……وانتم به بخلُ
فقد أتى بالمصدر على سبيل المبالغة .
الآية ( 22) قال تعالى :
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ?(1/69)
ننظر أخي القارئ إلى وضع الكلمات في مواضعها ودقة القرآن في الإتيان بمفردة معينة ، ننظر إلى هذه الآية وإلى آية من سورة القصص ، نجد ألفاظهما نفس الألفاظ ؛ غير أن آية القصص قد زادت عن هذه الآية بكلمة وهي " واستوى " قال تعالى : ? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? (1) ذلك أن يوسف عليه السلام أوحى إليه وهو في البئر ، وموسى عليه السلام أوحى إليه بعد أربعين سنة ، وقوله " واستوى "إشارة إلى تلك الزيادة ، فانظر كيف أن لكل كلمة مدلولاً لا يمكن تمام المعنى إلا بها .
الآيات (23-29) قال تعالى :
? وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القصص 14
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ?(1/70)
أثارت هذه الآيات المتكلمين والمفسرين والعلماء واللغويين والأدباء ، وكل من ذهب يفسر كما يرى هو ، غير أن ما يهمنا هنا هو الناحية الإعجازية والبلاغية ؛ ففي قوله تعالى : ? وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ? يظهر جلياً الغرض المسوق له الكلام ؛ فإيراد الموصول دون امرأة العزيز أظهر في تقرير المراودة ؛ فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ؛ ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام وجوده بقربها ، واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة ، وقوله : ? وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ? أي غلقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف لما أرادت منه وراودته عليه بابا بعد باب (1) ، وقد وردت لفظة " وغلَّقت " بتضعيف اللام وذلك إشارة إلى حرصها وشدة رغبتها في أن تقوم بمرادها ، ويتجلى في الآية عِظَم السبك وجلال المعنى إذ يأتي في حنايا هذه الآية ومن خلالها بالعظات البالغة ، ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة وذلك في قوله تعالى : ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ
رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? ، فتأمل أيها القارئ في هذه الآية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ، بيروت ، دار المعرفة ، 1989م ، 12/178(1/71)
كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث ، مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفاً بين جندِ الرحمن وجند الشيطان ، ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان ، وهكذا تجد القرآن كله مزيجاً حلواً سائغاً ، يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ، ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ، ويوجه العقول والعواطف معاً ، جنباً إلى جنبٍ ؛ لهداية وخير الإنسان،ولا يوجد هذا بكلام البشر ؛ فكلامهم إن وفَّى بحق العقل بخس العاطفة حقها،وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه،وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر؛نتج عن هذا تقسيم الأساليب البشرية إلى نوعين:"أسلوب علمي" و" أسلوب أدبي"؛ فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب ، وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم ، وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس ، وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ؛ ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة ؛ وإن تكافأتا في شخص واحدٍ فإنهما لا تعملان دفعة واحدة ، بل على سبيل المناوبة ؛ فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد عاطفة ، وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية،تكون ثمرة للتفكير ، ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور،أما إن تأتي كل جملة من الجمل جامعة للغايتين معا فذلك أمر يستحيل الوصول إليه،وكيف يتسنى ذلك للإنسان وهو لم يوهب القوتين متكافئتين،ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا في
آن واحد متقارنتين، قال تعالى:?مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ?(1)،أما
القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام؛لأنه تنزيل من القادر الذي لا
يشغله شأن عن شأن (2). أما في قوله تعالى : ? لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? فقد قال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/72)
1- الأحزاب 4
2- مناهل العرفان ، 2/226-227
العلماء إن فيه تقديماً وتأخيراً ،والتقديرهو"ولقد همت به،ولولا أن رأى برهان ربه هم بها " ، ورد عليه بعضهم بأنه حسن ؛ غير أن في تأويله قلقاً ، ولا يضطر إلى هذا التأويل إلا على قول من قال بأن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر ، أما من يقول بأن الصغائر يمكن وقوعها فإنه لا يضطر إلى هذا التأويل(1).وفي قوله تعالى:? هِيَ رَاوَدَتْنِي? فإن"هي"ضمير باتفاق،وليس هو للغائب ؛ بل لمن هو حاضر،فالضمير المفسر للغائب إما أن يصرح به أو يستغنى بحضور مدلوله حساً أو علماً ، والحس كما في قوله تعالى:?هِيَ رَاوَدَتْنِي? ومثله في قصة موسى عليه السلام في مدين،قال تعالى:
? فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا
سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ? (2) وذلك كما ذكر ابن مالك وتعقبه بأنه ليس كما مثل به؛لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما؛فضميرهي راودتني عائد على الأهل في قوله:? مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا ? ولما كنَّتْ امرأة العزيزعن نفسها ولم تقل"بي"بدلاً من"بأهلك" كَنَّى هو عليه السلام بـ"هي راودتني"، ولم يخاطبها بـ" أنتِ راودتني"،وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب الذي يليقُ بالأنبياء عليهم السلام؛فأبرز الاسم في صورة ضمير الغيبة؛تأدباً مع العزيز، وحياءاً منه (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان:ابن قيم الزوجية،بيروت،مكتبة الهلال، ص127
2- القصص 25-26(1/73)
3- درة التنزيل وغرة التأويل : : الخطيب الإسكافي ، برواية ابن أبي الفرج الادرستاني ، بيروت ، دار الآفاق ،الطبعة الثانية ، 1977م ، ص 239
الآية (30-31) قال تعالى:? وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ? .
لننظر أيها القارئ الكريم إلى دقة ألفاظ القرآن حيث قال:? قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ?؛ أي شغاف قلبها ، والشغف هو غلاف القلب على هيئة كيس ، جاء في الصحاح أن الشَغاف: غلافُ القلب، وهو جلدةٌ دونَه كالحجاب. يقال: شَغَفَه الحُبُّ، أي بلغ شَغافَه (1) ، قال النابغة:
وقد حالَ هَمٌّ دون ذلك والِجٌ وُلوجَ الشَغافِ تبتغيه الأصابعُ
يعني أصابعَ الأطباء.ولو صرفنا النظر إلى قوله تعالى:? مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? نلاحظ أنهن شبهن يوسف عليه السلام بالملَكِ،من دون ذكر الأداة، وهذا تشبيه بليغ ، والتشبيه البليغ هو أن يحذف وجه الشبه وأداة التشبيه ،ويبقى المشبه والمشبه به فقط ، ومثله قولنا : " محمد أسد " فالمراد : " محمد كالأسد في الشجاعة " ؛ فحذفت أداة التشبيه " كـ " ، وحذف وجه الشبه وهو " الشجاعة " وبقي المشبه والمشبه به ، والأمر كذلك فمرادهن قول : " هو مثل الملَك في الحسن والجمال . " ، والمقصود هو إثبات الحسن ؛ لأنه تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصحاح : اسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر، مادة " ش.غ .ف "(1/74)
جعل في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملَك ، كما جعل في الطبائع أن لا شيء أقبح من الشياطين ، قال تعالى :
?إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ? (1) فقد شبه الله تعالى طلعها برؤوس الشياطين ؛ تبشيعاً لها وتكريهاً لذكرها، وإنما شبهها برؤوس الشياطين ـ وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين ـ لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر (2) ، أما من حيث الحسن فقد تقرر أن لا شيء أحسن من الملَكِ ؛ فلما أرادت النسوة وصف يوسف بالحسن شبهنه بالملَكِ ، غير أن الأسلوب القرآني شاء أن يتجاوز المألوف من تشبيهات العرب لكل ما راعهم حسنه من البشر بالجن، قال أبو العلاء المعري : وقد كانَ أربابُ الفَصاحَةِ كُلّما رأوا حَسَناً عَدّوهُ من صَنعةِ الجنِّ ، وقال العباس بن الأحنف :
شَمسٌ مُمَثَّلَةٌ في خَلقِ جارِيَةٍ
كَأَنَّما كَشحُها طَيُّ الطَواميرِ
لَيسَت مِنَ الإِنسِ إِلّا في مُناسَبَةٍ
………وَلا مِنَ الجِنِّ إِلا في التَصاويرِ
فالجِسمُ مِن لُؤلُؤٍ وَالشَعرُ مِن ظُلَمٍ
وَالنَشرُ مِن مِسكَةٍ وَالوَجهُ مِن نورِ
كَأَنَّها حينَ تَمشي في وَصائِفِها
تَخطو عَلى البَيضِ أَو خُضرِ القَواريرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصافات 64-65
2- تفسير ابن كثير : اسماعيل بن عمر بن كثير . بيروت . دار الفكر ، 4/11
وقد أدخل القرآن فناً آخر لا يبدو للناظر للوهلة الأولى ، وهو فن عرفوه بأنه سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة منه تجاهلاً منه ، وقد يقصد به الذم أو التعجب أو التوبيخ أو التقرير ويسمى هذا الفن " تجاهل العارف " وسماه السكاكي: " سوق المعلوم مساق غيره لنكتة كالتوبيخ أو المبالغة في المدح أو الذم ".(1/75)
أما في قوله تعالى : ? وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ? والمتكأ هو ما يتكأ عليه من النمارق والوسائد ، قيل المراد هو نفس الطعام ؛ يقال : " اتكأنا عند فلن ؛ أي أكلنا " ، ومن ذلك أيضاً قول جميل بثينة :
فَتَأَطَّرنَ ثُمَّ قُلنَ لَها أَكرِميهِ حُيِّيتِ في نُزُلِه
فَظَلِلنا بِنِعمَةٍ وَاِتَّكَأنا وَشَرِبنا الحَلالَ مِن قُلَلِه
فقد عبر بالهيئة التي يكون فيها الأكل المترف مجازاً ، وقيل هو باب الكناية
الآية (32) قال تعالى : ? قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ?
نلاحظ أخي القارئ في هذه الآية الحذف في قوله:? فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ? والتقدير:في حبه، ودليله قوله تعالى: ? قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ? ؛ ولأن يوسف لا يصح ظرفا " للوم " ولا يُلام أحد في الحب ؛ لأنه أمر قهري لا اختياري ، لا يلام عليه إلا من حيث تعاطي أسبابه،أما المراودة فهي حاصلة باكتسابها ؛
فهي قادرة على دفعها فيأتي اللوم عليها (1) .
الآية ( 36 ) قال تعالى : ? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ? .(1/76)
يظهر جلياً في هذه الآية " المجاز المرسل " ، والمجاز المرسل هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له علاقة ملابسة ومناسبة غير المشابهة (2)؛ ففي قوله تعالى : ? إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ? ؛ أي عنباً ، والعلاقة ما يؤول إليه ؛ فقد سمي العنب خمراً ؛ لأنه يؤول إلى الخمر ؛ لكونه المقصود من العصير ، وقيل الخمر هو العنب حقيقةً بلغة عمان . كما أَنَّ الخمرَ العِنَبُ أَيضاً في بَعْضِ اللُّغَات الأخرى (3) قال الراعي النُمَيري في العِنَب التي هيَ الخَمْرُ:
… ونَازَعني بها إِخْوَانُ صِدْقٍ شِوَاءَ الطَّيْرِ والعنَبَ الحَقِينَا
ولتوضيح الرؤية فإن هذا يسمى إطلاق اسم المتوهم على المحقق (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإتقان في علوم القرآن 2/157
2- علوم البلاغة البيان المعاني البديع : أحمد محمد المراغي ، المكتبة المحمودية ،دت ص 76
3- تاج العروس ، مادة (ع.ن.ب).
4- الفوائد المشوقة : ابن قيم الجوزية ، ص 50
الآية ( 41) قال تعالى : ? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ?
يتجلى أخي القارئ في هذه الآية من الناحية البلاغية الحذف ، وهو حذف الفاعل وإقامة المفعول مقامه ، مع بناء الفعل للمجهول ، وقد جاء بفائدة التعظيم في قوله : ? قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ? (1) .
الآية ( 42 ) قال تعالى : ? وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ?(1/77)
إن المتأمل بهذه الآية يظهر له البيان القرآني ، ففي قوله : ? وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ? فإن "ظن" هنا بمعنى "أيقن" وذلك في قول أكثر المفسرين ، وفسَّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين ، قال : إنما ظن يوسف نجاته لأن العابر يظن ظناَ ، وربك يخلق ما يشاء ، والأول أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحيٍ ، وإنما يكون ظنا في حكم الناس ، وأما في حق الأنبياء فإن حكمهم حق كيفما وقع(2) .
أما من حيث الصيغ الصرفية في قوله تعالى : ?ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ? فإنه استعمل صيغة المضارع في " ناج " مبالغة في الدلالة على تحقق النجاة حسبما يفيده قوله تعالى : ? قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ? وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال للذي ظنه ناجيا منهما من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر عند الملك ، وربما انصرف العقل إلى فهم أن الظان هو الناجي والصحيح أن الظان هو يوسف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفوائد المشوقة ص35 2- تفسير القرطبي 9/194
عليه السلام ؛ لأن التوصية المذكورة لا تشير إلى ظن الناجي بل إلى ظن يوسف (1) ،وهو كما مر بنا سابقاً بمعنى اليقين ومثيله في قوله تعالى : ? إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ ? (2)
الآية ( 43) قال تعالى :
? وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ?(1/78)
يأسر القرآن الكريم ببديع نظمه ودقة ألفاظه المتمعنين في دقائقه ، ففي الآية هذه نجد أن الصيغ قد أفادت معاني متعددة ، وتعدت مدلولاتها فقد قال الملك : ? إِنِّي أَرَى ? ؛ أي رأيت فقد جاءت بصيغة المضارع ؛ لحكاية الحال الماضية ، ونرى مثل ذلك في قوله : ? يَأْكُلُهُنَّ ? ؛ أي " أكلهن " ، كذلك وردت صيغة المضارع لاستحضار الصورة ، والجملة حال من البقرات أو صفة لها ، ولننظر إلى قوله : ? سَبْعٌ عِجَافٌ ? ؛ أي سبع بقرات عجاف ، لم يقل : " سبعُ عجافٍ " بالإضافة ؛ لأن التمييز موضوع لبيان الجنس ، والصفة ليست بصالحة لذلك ؛ فلا يقال : " ثلاثةُ ضخامٍ " و"أربعةُ غلاظٍ " ، ولربما قال قائل: " ثلاثةُ فرسانٍ " و" خمسةُ ركبانٍ " فإن ذلك راجعٌ لجريان "الفارس" و " الراكب " مجرى الأسماء (3). أما في قوله :
? يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ? فإنه تشريف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير أبي السعود : محمد بن محمد العمادي أبي السعود ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ،4/ 280
2- الحاقة 20
3- تفسير أبي السعود 4/280(1/79)
لهم وتفخيم أمر رؤياه حيث قال : ? يَا أَيُّهَا الْمَلأُ ? أما قوله : ? تَعْبُرُونَ ? فمعناه : تعلمون عبارة جنس الرؤيا علماً مستمراً ، وهي الانتقال من الصور الخيالية المشاهدة في المنام ، إلى ما هي صور وأمثلة لها ، من الأمور الآفاقية أو الأنفسية الواقعة في الخارج ، " وتعبرون " من العبور وهو المجاوزة ، تقول : عبرت النهر إذا قطعته ، والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار ، واللام للبيان ، أو لتقوية العامل المؤخر لمراعاة الفواصل وهو " تعبرون " ، أو لتضمين تعبرون معنى فعل متعدٍ باللام كأنه قيل : " إن كنتم تنتدبون لعبارتها " ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان ، كما يقال : " فلان لهذا الأمر" إذا كان مستقلا به متمكنا منه (1).
والمتأمل في قوله تعالى : ? إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ? يتراءى له فهمٌ مفاده
أن قوله : "إن كنتم للرؤيا تعبرون " إنما هو تدليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها ؛ ذلك أنه أتى بـ " إن " التي تفيد الشك (2).
الآية ( 44 ) قال تعالى : ? قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ? لاتخلو آية أيها القارئ من كتاب الله من نكتٍ بلاغية تعجز أمراء البيان ، فبين أيدينا تعبيرغاية في الدقة وهو قوله تعالى : ? أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ? فيه مبالغة ، فقد جمعوا " الضغث " وقالوا : " أضغاث أحلام " ؛ أي تخاليطها ، والضغث : في الأصل ما جُمع من أخلاط النبات وحُزِم ، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ، ووساوس الشيطان ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير أبي السعود 4/281
2- الفوائد المشوقة ص35(1/80)
وتريها في المنام، و" الأحلام " جمع حلم وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها ، أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تَؤُولُ إليها ، وعن أبي قتادة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث ثلاث مرات ويتعوذ من شرها فإنها لا تضره " (1) .
وقد أوردوا الأحلام على صيغة الجمع،على الرغم من أنها رؤيا واحدة؛ وذلك مبالغة في وصفها بالبطلان،كما في قولهم:"فلان يركب الخيل ويلبس العمائم"،وذلك لمن لا يملك إلا فرساً واحداً وعمامة فردة،أو لتضمنها أشياء مختلفة من البقرات السبع السمان والسبع العجاف،والسنابل السبع الخضر والأُخر اليابسات،فتأمل أيها القارئ الكريم حسن موضع الأضغاث مع السنابل، فما أروع وأرفع شأن هذا القرآن ببديع نظمه المتناهي في الدقة والبلاغة (2).
وثمة أمر آخر بهذه الآية وهو ضربٌ من ضروبِ محاسن الكلام يعرف بـ" نفي الشيء بإيجابه"ويعدُّ هذا الباب من المبالغة،وليس بها مختصاً،إلا أنه من محاسن الكلام،فإذا تأملته وجدت باطنه نفياً،وظاهره إيجاباً،ومنه قول امرىء القيس: عَلى لاحِبٍ لا يَهتَدي بِمَنارِهِ إِذا سافَهُ العَودُ النُباطِيُّ جَرجَرا
فقوله : "لا يُهتدى بمناره" لم يرد أن له مناراً لا يهتدى به، ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار، ومن ذلك أيضاً قول زهير :
بأرض خلاء لا يسد وصيدها عَلَيَّ، ومعروفي بها غير منكر
فأثبت لها في اللفظ وصيداً، وإنما مراده أن ليس لها وصيد فيسد عليَّ .
ففي قوله تعالى:? قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ?أُرِيدَ نفيُ الأحلام الباطلة خاصة،كأنهم قالوا:"لا تأويل للأحلام الباطلة فنكون بها عالمين ، فتامل هذا أيها القارئ (3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه البخاري
2- تفسير أبي السعود 4/281
3- الفوائد المشوقة ص 35(1/81)
الآية ( 46 ) قال تعالى : ? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ? .
القرآن الكريم مليء بالأساليب البلاغية التي تنبئ عن مدى الرقي في طرح المواضيع ، وعن ما بها من بلاغة نادرة ، ولنتتبع عبارات هذه الآية الكريمة ، فنجد أن الذي نجا وتذكر بعد مدة قد دخل على يوسف ، فقال : " يا يوسف " ووصفه بالمبالغة في الصدق بقوله : " الصديق " حسبما شاهده وذاق أحواله وجربها ؛ لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره ؛ فهو من باب " براعة الاستهلال " ، وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود ، ومثاله في الشعر قول أبي تمام يهنئ المعتصم بالله بفتح عمورية ، وكان أهل التنجيم زعموا أنها لا تُفتحُ في ذلكَ الوقت:
السَيفُ أَصدَقُ إِنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ
وانظر أيها القارئ إلى الرقة وعذوبة الأسلوب في مناداته،وكيف أن عدم ذكر أداة النداء قد أشعرت بسموِ عاطفةٍ ونبلِ خلقٍ.ناهيك عن وصفه بالصديق، قال:? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ? .
وحيث عاين علو رتبته عليه السلام في الفضل عبر عن ذلك بـ " الإفتاء " ولم يقل كما قال هو وصاحبه في السجن : " نبئنا بتأويله " ولننظر إلى الدقة في نقل الصورة وطرحه لمبتغاه فقال : ? أَفْتِنَا ? مع أنه المستفتي وحده ؛ وذلك إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره .
الآية (47) قال تعالى : ? قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ? .(1/82)
أما قوله : ? دَأَبًا ? فهي من : " دأب في العمل إذا جد فيه وتعب " وانتصابه على الحالية من فاعل تزرعون؛ أي"دائبين"أو" تدأبون دأباً" على أنه مصدر مؤكد لفعلٍ هو الحال، أوَّلَ عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسان بسنين مجدبة فأخذهم بأنهم يواظبون سبع سنين على الزراع ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها (1).
وقد أشار إليهم بأمرٍ فيه النفع لهم ، ويدل على علمه عليه السلام ، وهو إشارة إلى أنه يمتلك حسن التدبير والقيادة ، وأنه ذو رأي سديد في الشؤون الاقتصادية،والأمر الذي أشاربه عليهم هو قوله:?فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ? فقد أمرهم أن يذروه في سنبله ، ولا يفصلوا الحَبَّ عن السنابل،وفي هذه الآية يظهر الإعجاز العلمي جلياً ؛ حيث إن العلم الحديث وصل إلى نتيجة مفادها أن الحبوب إذا تركت في سنابلها فإن ذلك وقاية طبيعية لها من التسوس،وهذه الحقيقة مثبتة في القرآن الكريم منذ نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولو أردنا أن نتحدث عن النظام الاقتصادي البديع الذي اتخذه يوسف عليه السلام لما وسعنا هذا الكتاب ، فهو استطاع أن يقيم نظاماً اقتصادياً ، استطاع من خلاله أن يخرج الدولة من أشد محنها الاقتصادية ، مما أذهل الاقتصاديين اليوم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير أبي السعود 4/282.
الآية ( 50 ) قال تعالى : ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ?(1/83)
نجد في قوله تعالى : ? فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? براعة في الطلب،على الرغم من أن الشيء المراد السؤال عنه واحد إلا أن الصيغ تختلف،وإن تشابهت الصيغ فإن لكل صيغةٍ دلالةً معينةً ؛ فيوسف عليه السلام عندما قال:? فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ ? تحرى أن يوقع في نفس الملك الاهتمام بطلبه ، فلم يسأله أن يستقصي ويفتش عن ذلك الأمر،بل سأله ما بال النسوة؛ حثاً منه للملك على الجد في التفتيش؛ليتبين براءته وتتضح نزاهته؛إذ السؤال مما يهيج الإنسان على الاهتمام في البحث للتقصي عما توجه إليه،وأما الطلبُ فمما قد يتسامح ويتساهل فيه ولا يبالي به (1).
الآية ( 51 ) قال تعالى : ? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? .
في قولهن:?مِن سُوءٍ ?مبالغة في نفي السوء عنه وذلك بتنكير لفظة"سوء"، وبزيادة"من"،بهذا يقع في النفس بعده أو بالأحرى انتفاء السوء عنه عليه السلام
الآية( 53 -54 ) قال تعالى:?وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير أبي السعود 4/284
لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? .(1/84)
أما في قوله تعالى:? وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي ? فإنه من كلام امرأة العزيز كما أورده ابن كثير،وقد قيل:إنه من كلام يوسف عليه السلام، وقد رُدَّ على هذا القول بأن يوسف عليه السلام لم يكن حاضراً الموقف(1)؛لأن العزيز قال فيما بعد:"احضروه"،قال تعالى:? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ?،ونلحظ سرعة الاستجابة وذلك بتقدير:"فَأَتَوْا به"وذلك بعد قوله:?ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا?أي"فلما أتَوْا به"فحذفت للإيذان بسرعة الإتيان به فكأنه لم يكن بين الأمر بإحضاره والخطاب معه زمان،ويعود الضمير البارز في قوله:"كلمه" للملك؛أي"فلما كلمه يوسف إثر ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد قال:?إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? أي ذو مكانة ومنزلة رفيعة(2).
الآية ( 57 ) قال تعالى : ? وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ?
جاء في الآية:? وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ ? والمقصود أجرهم في الآخرة،ونلاحظ أن العلاقة هنا علاقة إضافة وهي للملابسة،وهو النعيم المقيم،الذي لا نفاد له، أما في قوله:?خَيْرٌ ? فإن مراده:"خير لهم"وإنما وضع موضعه الموصول فقيل:?لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير ابن كثير 2/483
2- تفسير أبي السعود 4/286
الإيمان والثبات على التقوى المستفاد من جمع صيغتي"الماضي"و"المستقبل" (1).(1/85)
الآية ( 59) قال تعالى : ? وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ? نلاحظ اختلاف الصيغ والفائدة التي جاءت بها كل صيغة من الصيغ ففي قوله : ? أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ?أي أُتِمُّهُ لكم،قد وردت صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز؛وذلك للدلالة على أن تلك عادة له مستمرة، أما قوله تعالى : ? وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ? فجملة حالية مفادها:" أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم " وذلك ترغيب لهم كي يرجعوا إليه (2) .
الآية ( 70 ) قال تعالى:?فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ?.في هذه الآية يتبادر للذهن سؤال وهو:هل العير تعقل لكي نسألها؟،إن المراد هنا ليس العير ذاتها؛بل أصحاب العير،وهذا ضرب من ضروب البلاغة يسمى"المجاز المرسل"(3)،ومثل ذلك ما أورده أبو داود في سننه من قول الرسول الكريم: ? يا خيل الله اركبي ?
الآية ( 73 ) قال تعالى :
? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ? إن النسيج القرآني إذا ما نظرنا إليه بعين المتأمل والمدقق فإننا نجده من الدقة بحيث لا
يتسنى أن يُستغنى عن أي لفظة منه أو حرف ، وتزخر العربية بأنواع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير أبي السعود 4/287
2- تفسير أبي السعود 4/288 و تفسير ابن كثير2/484
3- الكشاف : أبو القاسم جار الله الزمخشري ، 2/484(1/86)
متعددة من الجمل ، استخدمها القرآن في بنائه ، مثل الجملة الحالية والجملة الاعتراضية،والجملة الخبرية وما إلى ذلك من أنواع الجمل التي تخدم المعنى،وتزيده رونقاً وحسناً،وتوصل السامع إلى الفهم الدقيق ، وفي هذه الآية الكريمة نجد الجملة الاعتراضية ، والاعتراض يسمى"التفاتاً"وهو أن يؤتى في أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه،ولا يفوت بفواته؛ فيكون فاصلاً بين الكلام والكلامين لنكتة، وقيل هو إرادة وصف شيئين ، الأول منهما قصدا ، والثاني بطريق الانجرار، وله تعلق بالأول بضرب من التأكيد ، وعند النحاة هو : جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد ، يقول ابن هشام في المغني : هي الجملة التي بين شيئين لإفادة الكلام تقوية وتسديداً أو تحسيناً(1). مثال ذلك قول المتنبي:
وَتَحتَقِرُ الدُنيا اِحتِقارَ مُجَرِّبٍ يَرى كُلَّ ما فيها وَحاشاكَ فانِيا
احترز بقوله: " حاشاك " من دخوله في الفناء .
ومنه ما ورد في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى : ? تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ ? فجاءت جملة ? لَقَدْ عَلِمْتُم ? اعتراضية ، والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة (2) .
الآية ( 80 )قال تعالى:?فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ?لقد نزل
القرآن بلغة قومٍ يعدون أمراء البلاغة ، فالفصاحة والمحسنات والشعر وبديع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : ابن هشام .تحقيق ح.الفاخوري ، بيروت ، دارالجيل ، الطبعة الأولى ، 1991م 2/21(1/87)
2- البرهان في علوم القرآن 3/56-57
النظم هو شغلهم الشاغل ، وكما مر بنا سابقاً فإن الأعجمي لا يدرك أن القرآن معجزإلا إذا علم عجز العربي عنه وإقراره ببلاغته ، وروعة نظمه المتناهي في الحسن والدقة ، فقد روي أن أعرابياً سمع هذه الآية فسجد ، فقيل له فيما سجودك ؛ أي ليست الآية محل سجود لتسجد ، فقال : إنما سجدت لبلاغته ، وأشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا .
الآية ( 82 ) قال تعالى : ? وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ?يتكرر المجاز المرسل في هذه الآية الكريمة،فسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها مجازاً في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية ، وحاصل المعنى:"أرسل من تثق به من أهل القرية،واسألهم عن القصة،فعبر بالقرية عن ساكنيها(1).
الآية ( 83-84 ) قال تعالى : ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ? .
ونقف أخي القارئ عند هذه الآية ناظرين إليها من الناحية البلاغية ، ففي قوله:? وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ?استعارة تصريحية؛فقد شبه امتلاء قلبه بالحزن على يوسف بامتلاء القربة بالماء،وشبه صبره في أمره وتركه الشكوى لغير الله برباط ربط على فم القربة حتى لا يخرج منها الماء،وهذا معنى الكظم(2)وقيل في التأسي والصبر:ما أعْطِيَتْ أمّةٌ عند المُصِيبة ما أعْطِيَت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير الطبري 13/37
2- الكشاف: الزمخشري 2/490(1/88)
هذه الأمة من قولها: "إنّا للّه وإنّا إليه رَاجِعُون". ولو أعْطِيها أحدٌ لأعْطيها يَعْقوب حيثُ يقول:"يا أسَفَا عَلَى يوسُف، وابيضتْ عَيْنَاهُ منَ الحُزْن فَهُوَ كَظيم".
الآية (85) قال الله تعالى : ? قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ? .
يظهر في هذه الآية من الناحية البلاغية ما يسمى بـ " ائتلاف اللفظ مع المعنى " وهو أن تكون ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى منسجمة مع بعضها ، ومن ائتلاف اللفظ مع المعنى أن يكون اللفظ جزلاً إذا كان المعنى فخماً، ورقيقاً إذا كان المعنى رشيقاً، وغريباً إذا كان المعنى غريباً ؛ كقول زهير في معلقته :
أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ
فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ
فإن زهيراً لما قصد إلى تركيب البيت الأول من ألفاظ غريبة جعلها مؤتلفة في الغرابة وهي:"أَثافِيَّ "،" سُفعاً"،" مُعَرَّسِ"،"مِرجَلٍ"،"وَنُؤياً"،"كَجِذمِ"،" يَتَثَلَّمِ"،والأثافي هي الحجارة التي يوضع عليها القدر،و"سفعاً"السفعة سواد تخلطه حمرة ، و"معرس"موضع تعريس القوم،و"مرجل"المرجل كل قدرٍ يطبخ فيها من حجارة أو خزف أو حديد أو نحاس،و"النؤي"هو حاجز يرفع حول البيت من التراب لئلا يدخل الماءُ البيتَ من الخارج،و"جذم الحوض"
حرفه أو أصله و"يتثلم" الثلمة هي الخلل في الحائط وغيره(1)،فانظر إلى ملاءمة تلك الألفاظ بعضها بعضاً،فكلها غريب،ولما قصد البيت الثاني ركبه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى : صنعة أبي العباس أحمد بن يحي بن زيد الشيباني ثعلب ، القاهرة ، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية ، الطبعة الثالثة ، 2003ف ص7(1/89)
ألفاظ مستعملة معروفة متجانسة مع بعضها في السهولة والجريان على
الألسنة ، ومن شواهد هذا القسم من الائتلاف من الكتاب العزيز الآية التي بين أيدينا ، فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم ، بالنسبة إلى أخواتها ، فإن " والله " و " بالله " أكثر استعمالاً وأعرف عند العامة من " تالله " ولما أن كان القسم متمثلاً في أغرب صيغه التي في بابه فإن كان وأخواتها أكثر استعمالاً من " تفتأ " وأعرف عند العامة ؛ ولذلك أتى بعدهما بأغرب ألفاظ الهلاك وهي لفظة " حرض " ويقال : نهك فلان مرضاً، حتى أصبح حرضاً، وهو المشرف على الهلاك أحرضه المرض (1) ، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاوز كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة ، أو في الاستعمال ؛ توخياً لحسن الجوار ، ورغبة في ائتلاف اللفظ مع المعنى ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم ؛ فتأمل هذا أخي القارئ (2) .
الآية ( 87 ) قال الله تعالى : ? يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ? .
وتتجلى الاستعارة في هذه الآية في قوله:? وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ?؛ أي لا تقنطوا من فرجه تعالى وتيسيره وتنفيسه ، وأصل معنى " الرَوْح " بالفتح "التنفيس" ، يقال : أراح الله الإنسان إذا تنفس ، ثم استعير للفرج ، وفسر" الروح " بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف ؛ لأن الرحمة سبب الحياة كالروح ، وإضافتها إلى الله لأنها منه سبحانه وتعالى (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أساس البلاغة: الزمخشري ، ص 122
2- البيان العربي : بدوي طبانة ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو ، ص69
3- التصوير البياني : محمد أبو موسى ، القاهرة ، مكتبة وهبة ، ص207(1/90)
الآية ( 92 ) قال الله تعالى : ? قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ?
وتشتمل هذه الآية على الاستعارة أيضاً ، وهي متمثلة في قوله : ? لاَ تَثْرَيبَ ? أي لا تأنيب ولا لوم عليكم، وأصله من"الثرب"وهو الشحم على الجفون وعلى الكرش (1). واستعير للوم ، وباللوم تظهر العيوب كما بإزالة الشحوم يبدو الهزل ، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال (2).
الآية ( 96 ) قال الله تعالى : ? فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?
ليس ثمة حرف في القرآن ليس له فائدة ، أو لا دور له في زيادة المعنى أو تغيره ، ونلحظ في هذه الآية أن الفاء في بدايتها أفادت أن الأمر قد وقع بدون تراخي (3).
الآية ( 99 ) قال الله تعالى : ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ?
ويتضح المجاز المرسل جلياًً في هذه الآية في قوله:? ادْخُلُواْ مِصْرَ? والمعلوم أنهم لا يستوعبون مصر كلها ، وإنما يدخلون جزءاً منها ، فعبر بالكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لسان العرب : ابن منظور ، مادة (ث.ر.ب )
2- معترك الأقران في إعجاز القرآن : السيوطي ، دار الكتب العربية ، ص 155
3- أسرار التكرار في القرآن الكريم : محمود بن حموة بن نصر الكرماني : تحقيق :عبد القادر أحمد عطا ، القاهرة ، دار الاعتصام 1/146
وأراد الجزء ، فعلاقة هذا المجاز الكلية ، ويسمى إطلاق الكل على البعض (1) .(1/91)
الآية ( 101 ) قال الله تعالى : ? رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ? .
يتكرر الحذف في هذه الآية ، وهو حذف حرف النداء من ? فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? وذلك دلالة على التعظيم والتنزيه ، ونلحظ أيضاً براعة المطلب وحسن التوسل .
الآية ( 102 -104 ) قال الله تعالى : ? ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ? .
نجد في هذه الآية من ضروب البلاغة أمرين :
الأول : فن الاحتجاج النظري .
وهو فن جميل لطيف في علم البيان،ويسميه بعضهم"المذهب الكلامي"وهو أن يلزم الخصم حجة تلزم لهذا الاحتجاج،والمعنى أن هذا النبأ غيب،لم تعرفه إلا بالوحي؛لأنك لم تحضر أخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابات الجب، وهم يمكرون به،ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً سمع ذلك فتعلمته منه،وقال بعض المحققين:إن هذا تهكم بمن كذبه،وذلك من حيث إنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إعراب القرآن :7/70
حاضراً بين يدي أولاد يعقوب ، فنفاه بقوله:? وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ? (1)
الثاني : فن الاعتراض .(1/92)
وذلك في قوله:? وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ? وينقسم الاعتراض إلى قسمين : أحدهما لا يأتي في الكلام إلا بفائدة ، وهو جارٍ مجرى التوكيد ، والآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدة ، فإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه ، وإما أن يؤثر في تأليفه نقصاً وفي معناه فساداً ، فالقسم الأول كهذه الآية ، وفائدة الاعتراض على وجهين :
الأول : تصوير حرصه عليه السلام على إيمان قومه ، وهدايتهم ، وتهالكه على ردعهم عن غيهم ، وتجنيبهم مظان الخطأ ، ومواطن الضلال ، وتعرضه للأذى في سبيل هذا الحرص .
الثاني : تصوير لحاجتهم وجحود عقليتهم ، وإصرارهم على الغي الذي هم شارعون فيه ، وبه آخذون (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إعراب القرآن 7/74
2- الاستغناء في الاستثناء: شهاب الدين القرافي . تحقيق : محمد عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، ص444
القرآن الكريم والأوزان العروضية .(1/93)
إن للقرآن الكريم عذوبة لا تضاهى ، وحلاوة لا يوجد مثيلها ، ولم يقدر لبشرٍ ولا جان أن يأتي بمثل رونقه ، فله دقة ألفاظ غاية في الإبداع ، وقد عجز العرب عن مجاراته في أي شيء ، فثبت عليهم العجز في كل مجال من مجالات أدبهم وبلاغتهم ونظمهم ونثرهم وقصصهم وشعرهم،وما إلى ذلك من فنون القول والبلاغة كالتشبيهات والكنايات والمجاز والاستعارات والحذف والجناس والطباق والمقابلة،وقد كلَّتْ عقول العرب وعجزت ألسنتهم ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ولو بسورة ؛ فوقفوا عاجزين أمام جزالة ألفاظه وعذوبتها وبلاغتها الساحرة، وقد وردت آيات كثير من القرآن الكريم مطابقة لأوزان الشعر العربي المعروفة ، وذلك من الناحية العروضية ، أما من حيث ربط القرآن بأوزان الشعر فإني لا أرى أن ذلك تنزيلاً من قدر القرآن ووضعه موضع الشعر، فالقرآن الكريم أرفع من أن يكون كذلك ، ولكن العروض يعد علماً من علوم العربية ، والقرآن عربي ، وإنما تحدى القرآن العرب في لغتهم وعلومها ، فلست أرى بأساً في هذا ما لم يمس القرآن بشيء مما لا يليق به ، وفي هذا الجانب من الكتاب سنورد ما وقعت عليه أعيننا مما وافق الأوزان الشعرية من آيات سورة يوسف عليه السلام .
موافقة بعض الآيات من سورة يوسف لأوزان الشعر العربي .
أوزان الشعر :
بنى الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض على تشبيه بيتِ الشِعر ببيت الشَعر " الخيمة " واستخدم من أدوات بناء الخيمة مصطلحات لبناء البيت الشعري،ومن ثم بناء علم العروض ، وبحور الشعر خمسة عشر بحراً ، وهي :
الطويل ، المديد ، البسيط ، الوافر ، الكامل ، الهزج ، الرجز ، الرمل ، السريع ، المنسرح ، الخفيف ، المضارع ، المقتضب المجتث ، المتقارب ،وأضاف الأخفش(المتدارك.) أو الخبب فأصبحت ستة عشر بحراً أو وزناً عروضياً(1/94)
ويتكون كل بحر من عدد من التفعيلات في شطريه ، وتختلف تلك التفعيلات من بحرٍ لآخر ، وسنمر على البحور التي وافقت آيات سورة يوسف وزنها العروضي .
بحر الرمل :
لم يكن من الأبحر الشائعة في العصور الأولى ، وزحافه الخبن والقصر والإسباغ ، (1) ومفتاحه هو :
رمَلُ الأبحر ترويه التقاة ……فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
وأكثر ما يأتي بقلب فاعلاتن الثالثة إلى " فاعلن " كقول الشاعر :
إن دون المجد سيفاً مصلتاً……مرهف الحدين غضب المضربِ
ويستعمل مجزوءاً أي يأتي على تفعيلتين بدل ثلاث تفعيلات ، كالقصيدة التي استقبل بها أهل المدينة المنورة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
طلع البدر علينا… من ثنيات الوداع
فتفعيلات بحر الرمل هي :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
ووردت الآية الكريم : ? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ? (2) .
والكتابة العروضية لهذه الآية هي :
و ل ق د ر ا / و د ت ه و ع ن / ن ف س ه ي
| | |O | O | O | | O | O | O | | O
فعلا تن فا علا تن فا علن
التفعيلة الأولى : مخبونة
التفعيلة الثانية : سليمة
العروضة : محذوفة
والخبن هو حذف الثاني الساكن،والحذف هوحذف السبب الخفيف من التفعيلة (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- العمدة في محاسن الشعر ونقده : ابن رشيق ، بيروت ، دار الجيل ، ص303
2- يوسف 32
3- موسيقى الشعر : ابراهيم أنيس ص 331 و شرح أهدى سبيل إلى علمي الخليل العروض والقافية : محمود مصطفى ، بيروت ، ص 39
بحر المديد :
ومفتاحه هو :
لمديد الشعر عندي صفات فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
وأصل تفعيلاته هي :
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
ولم يستعمل إلا مجزوءا ؛ أي على ثلاث تفعيلات من كل شطر فيصير
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن.
كقول الشاعر :
كلما قلنا صفا زمنٌ رجعت كالريح تشتعل(1/95)
وقد وردت الآية الكريمة التالية موافقة لهذا الوزن . قال تعالى :
? قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ ? (1)
والكتابة العروضية لهذه الآية :
ق ا ل ي ا ب ش ر ا ي هـ ا ذ ا غ ل ا م
| O | | O | O | O | | O | O | | O
فا علا تن فا علن فا علن
فالتفعيلة الأولى سليمة
والتفعيلة الثانية سليمة
والتفعيلة الثالثة محذوفة . (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 19
2- موسيقى الشعر ، ص31
التكرار في قصة يوسف
ذكر العلم في سورة يوسف :
تزخر سورة يوسف بذكر العلم في آيات كثيرة منها، وإن كان لكل لفظة مدلولها ومعناها إلا أن كثرة ورود العلم تشير إلى المكانة البالغة للعلم وأهله وحضوره داخل فصول القصة ، وقد ورد ذكر العلم على ألسنة متعددة وبصيغ متنوعة في سياق هذه القصة ، فحيناً على لسان يعقوب وحيناً على لسان يوسف وحيناً على لسان أخوته ، ولنتتبع معاً ورود العلم من خلال آيات السورة
الآية ( 6 ) ? وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ? .
ورد ذكر العلم بهذه الآية مرتين : الأولى " ويعلمك " وبه إشارة إلى أن تأويل الرؤى علم ، لا يكون التأويل اعتباطاً ، وقد أوتيه يوسف عليه السلام
الثانية : " عليم " .
الآية ( 21 ) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? .
ورد ذكر العلم مرتين :
الأولى مشابهة صيغة الآية السادسة من حيث تعليمه عليه السلام تأويل الأحاديث ، غير أن الآية السادسة جاءت " ويعلمك " والآية التي بين أيدينا بصيغة " ولنعلمه "(1/96)
الثانية " يعلمون " وجاءت لنفي العلم عن أكثر الناس .
الآية ( 22 ) ? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ?
جاء ذكر العلم في هذه الآية مشابها من حيث المعنى للآيتين السابقتين ، إلا أنه هنا جاء بصيغة الماضي ، وفيما سبق جاء بصيغة المضارع .
الآية ( 34 ) ? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?
ورد هنا صفةً لله عز وجل " العليم "
الآية ( 37 ) ? قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ?
جاء ذكر العلم هنا على لسانه عليه السلام ، راداً الفضل لصاحب الفضل ، ومقراً بأن العلم كله من الله عز وجل .
الآية ( 40 ) ? مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ?
في الآية الكريمة هذه تكرر نفي العلم عن أكثر الناس كما في الآية الحادية والعشرين
الآية ( 44 ) ? قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ?
يتكرر نفي العلم غير أنه في هذه الآية كان النفي عن العلم بتأويل الأحلام ، وهذا على لسان الملأ .
الآية ( 46 ) ? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ?
وفي هذه الآية ورد ذكر العلم على لسان صاحب السجن الذي نجا وادكر بعد مدة .(1/97)
الآية ( 50 ) ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ?
ورد على لسان يوسف عليه السلام .
الآية ( 52 ) ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ?
وفي هذه الآية ورد ذكر العلم على لسان امرأة العزيز بعد أن أظهر الله الحق.
الآية ( 55 ) ? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ?
جاءت في هذه الآية لفظة " عليم " على لسان يوسف في سياق حديثه مع الملك .
الآية ( 68 ) ? وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ?
تكرر لفظ العلم بهذه الآية ثلاث مرات :
الأولى :جاءت مضاف إليه والمراد أن يعقوب عيه السلام كان ذا علم .
الثانية : لما علمناه . فإن ما يقوم به يعقوب إنما على علم وبصيرة ، والله هو الذي أمده بالعلم .
الثالثة : تكرر نفي العلم عن أكثر الناس كما في الآية الحادية والعشرين والآية الأربعين .
الآية( 73 )? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ?
وفي هذا الموضع جاء ذكر العلم على لسان أخوة يوسف .
الآية ( 77 ) ? قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ?
في الآية هذه جاء ذكر العلم ليقر بأن الله أعلم بما يصفون أي أخوة يوسف .(1/98)
الآية ( 80 ) ? فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ ?
أما في هذه الآية فقد جاء ذكر العلم على لسان أحد أخوة يوسف وهو كبيرهم .
الآية ( 81 ) ? ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ?
ورد ذكر العلم على لسان أخوة يوسف في معرض حديثهم مع أبيهم .
الآية ( 83 ) ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ?
تتكرر صفة العلم لله عز وجل كما في الآية السادسة غير أنها جاءت بدون" أل " أما في الأية هذه فقد وردت ب " أل" .
الآية(86 )? قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?
ورد على لسان يعقوب عليه السلام .
الآية ( 89 ) ? قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ?
قالها يوسف عليه السلام عندما كان أخوته حاضرون لديه .
الآية ( 96 ) ? فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?
وقد تكرر ذكر العلم على لسان يعقوب عليه السلام .(1/99)
الآية ( 100) ? وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?
تكررت الصيغة نفسها إذ وردت " العليم الحكيم " في الآية الثالثة والثمانين
الآية ( 101 ) ? رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ?
وجاء في هذه الآية على لسان يوسف عليه السلام وهو يناجي ربه ويدعوه .
ذكر لعل 5 مرات
الآية (2 ) ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?
الآية (46 ) ? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ?
كرر لعل رعاية لفواصل الآي ؛ إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال: ( لعلي أرجع فيعلموا ) بحذف النون .
الآية (62 ) ? وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? وكذلك في هذه الآية لمراعاة الفواصل ، فمقتضى الكلام لعلهم يعرفونها فيرجعوا .
(ذكر تالله ) 4 مرات
الآية(73)? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ?
يمين منهم أنهم ليسوا سارقين .
الآية (85) ? قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ? يمين منهم أنك لو واظبت على الحزن تصير حرضا أو تكون من الهالكين .(1/100)
الآية (91) ? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ?
يمين منهم أن الله فضله عليهم وإنهم كانوا خاطئين .
الآية (95) ?قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ?
يمين من أولاده على أنه لم يزل على محبة يوسف .
(ذكر يوسف عليه السلام ) ذكر 25 مرة
الآية ( 4 ) ? إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ ?
الآية ( 7 ) ? لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ?
الآية ( 8 ) ? إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ?
الآية ( 9 ) ? اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ?
الآية ( 10 ) ? قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ?
الآية ( 11 ) ? قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ?
الآية ( 17 ) ? قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ?
الآية ( 21 ) ? وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ?
الآية ( 29 ) ? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ?
الآية ( 46) ? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ?
الآية ( 51 ) ? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ?
الآية ( 56 ) ? وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ?(1/101)
الآية(58 )? وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?
الآية ( 69 )? وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ?
الآية ( 76 ) ? فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ ?
الآية ( 77 ) ? قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ?
الآية ( 80 ) ? فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ?
الآية ( 84 ) ? وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ?
الآية ( 85 ) ? قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ?
الآية ( 87 ) ? يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ?
الآية (89) ? قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ?
الآية ( 90 ) ? قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ?
الآية (94) ? وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ?
الآية ( 99 ) ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ?
ذكر القميص 6 مرات(1/102)
إن القميص في قصة يوسف لهو محور جوانب متعددة من قصة يوسف وله دلالات وعبر وقد ورد ذكره في القصة ست مرات ، وهي كالتالي :
الآية ( 18 ) ? وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ? وفي هذا الموضع يبين حيلتهم بتلطيخ قميص يوسف بدمٍ كذبٍ .
الآية (25)? وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? والقميص هنا مثل حادثة كانت دليل براءته فيما بعد .
الآية(26)? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ?
الآية(27 )? وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ? وفي الموضعين هذين جاء القميص في معرض التحكيم والنظر في براءة يوسف عليه السلام أو إدانته .
الآية( 28)? فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ?وهنا ظهر الحق،بأن وجدوا أن القميص قد قُدَّ من دبرٍ،فتبين صدق يوسف عليه السلام .
الآية ( 93 ) ? اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ? وذلك عندما طلب من أخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيه، فلما ألقوه على وجهه ارتد إليه بصره ، وهذا مشهد إنساني يحمل عاطفة قوية،عاطفة الأبوة .
ذكر الرؤيا 8 مرات
الآية( 4) ? إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ?(1/103)
الآية(5)? قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?
الآية ( 36 ) ? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ?
الآية(43) ? وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ?
ثنائيات في سورة يوسف
* قوله تعالى : " قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ "
الآية (18 ) ? وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ?
وذلك عندما جاءه أبناؤه حاملين قميص يوسف .
الآية(83)? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?لما رفع إليه خبر ما جرى على بنيامين .
* قوله تعالى : ( معاذ الله ) في هذه السورة في موضعين الأول قوله تعالى : (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) الآية ( 23 ) ذكر حين دعته إلى المواقعة ، والثاني قوله تعالى : (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ )الآية ( 79 ) وذلك حين دُعِي إلى تغيير حكم السرقة .(1/104)
* قوله تعالى : ( قلن حاش لله ) في موضعين أحدهما في حضرة يوسف عليه السلام حين نفين عنه البشرية بزعمهن قال تعالى : ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) الآية 31 والثاني بظهر الغيب حين نَفَيْنَ عنه السوء قال تعالى : (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ) الآية 51 .
* قوله تعالى : ( إنا نراك من المحسنين ) وردت في موضعين ، الأول : من كلام صاحبي السجن ليوسف عليه السلام قال تعالى : (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية 36 والثاني من كلام إخوة يوسف ليوسف قال تعالى : (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية 78
* قوله تعالى : ( يا صاحبي السجن )كذلك وردت في موضعين ، الأول منهما ذكره يوسف حين عدل عن جوابهما إلى دعائهما إلى الإيمان قال تعالى : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الآية 39 . والثاني حين شرع في تعبير الرؤيا لهما قال تعالى:(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ)الآية41
الخاتمة .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله خالق الأكوان وموجدها ، المتفرد بكينونة الوجود والأكوان ، المتعالي والمتصرف بديمومة الدهر والأزمان ، والصلاة والسلام على سيد الأنام ، محمد الهادي وعلى آله وصحبه أتم الصلاة وأزكى السلام .
أما بعد :(1/105)
فهذه رحلةٌ في رحاب القرآن ، وبالتحديد في قصة يوسف عليه السلام قد كُلِّلَتْ بإذن الله و فضله ببعض ما كنا نصبوا إليه من بيان ما بهذه القصة من وجوه الإعجاز وبلاغة ، بدأنا هذا العمل المتواضع بالحديث عن الإعجاز مفهومه وأوجهه واختلاف العلماء على الاستدلال عليه ، وخرجنا بأن أوجه الإعجاز متعددة كما بينها علماؤنا الأجلاء ، فمنها بلاغة القرآن النادرة وعظمة تصويره للحياة الإنسانية ، وسمو الروح في القرآن الكريم ، وجدته ، و عرضه للصورة البارعة ، وجودة سبك القرآن وإحكام سرده ، و جلالة أثره الأدبي ، و خلوده على مر الأيام ، و وضوح أسلوبه وجماله وجزالته وعذوبته ، و شرف معانيه ، وعظم أغراضه ومقاصده ، ومناحيه وموافقة آياته للاكتشافات العلمية ، وتصديقه لها مما يدل على معجزة غريبةٍ جليةٍ ، وهي صلاحيته لكل زمانٍ ومكانٍ وعصرٍ وأوانٍ ، وتحدثنا عن القصص القرآني ومقاصده وأغراضه التي جاء من أجلها ، وجماليات القصص القرآني والدلائل النفسية التي تستقى من قصة يوسف ، كما تناولنا مستويات القصة وشخصياتها ، وخرجنا بأن القصص القرآني في حد ذاته إعجاز قرآني ،(1/106)
في السبك والتناول وعرض الصورة البلاغية ، ومزج الجانب الترويحي مع الجانب الوعظي والإيماني ، وما إلى ذلك من جوانب يتعذر على العقل البشري إبداعها ، وتناولنا الإعجاز البلاغي واستقرينا آيات قصة يوسف مستخرجين ما وفقنا الله من صور الإعجاز البلاغي كالتشبيهات والاستعارات والمجاز بأنواعه وإيجاز وما في مثيل هذا من ضروب البلاغة وعلومها مما أعجز فصحاء العربية وأمراء بيانها ، ثم حاولنا حصر بعض الألفاظ والتراكيب بالقصة وعدد ذكرها ، كما رأينا أن بعض التراكيب شكلت ثنائيات لفظية بالقصة ، وما هذا إلا إعجازا في النظم فاق به القرآن العرب وتحداهم في لغتهم التي يتحدثون بها . وما جهدي المتواضع هذا إلا خدمة لكتابه العزيز ، فالله أرجو أن يثيبني عليه ولا يؤاخذني في السهو والخطأ والتقصير الذي حصل مني ، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى أن أضيف إلى المكتبة العربية لبنة تسهم في تشييد صرح ثقافتنا العربية والإسلامية ، ولله الحمد والمنة ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
علي الطاهر عبد السلام
المصادر والمراجع .
- أبو حيان التوحيدي رأيه في الإعجاز وأثره في الأدب والنقد : محمد عبد الغني الشيخ ، الدار العربية للكتاب، 1983 ،
- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي ، القاهرة ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الثالثة ، 1952 م
- أساس البلاغة: الزمخشري : جار الله أبو القاسم الزمخشري . بيروت ، دار صادر دط ، دت ،
- الاستغناء في الاستثناء: شهاب الدين القرافي : تحقيق محمد عبد القادر عطا ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، 1986م
- أسرار التكرار في القرآن الكريم : محمود بن حموة بن نصر الكرماني : تحقيق :عبد القادر أحمد عطا ، القاهرة ، دار الاعتصام
- الأسلوب في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم : محمد كريم الكواز ، ليبيا ، جمعية الدعوة الإسلامية ، دار الكتب الوطنية ، الطبعة الأولى ،(1/107)
- الإعجاز في دراسات السابقين :عبد الكريم الخطيب . بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، 1975م
- إعجاز القرآن : أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني ،القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الرابعة ، 1964
- الأغاني :أبو فرج لأصفهاني ، القاهرة ، دار الكتب المؤسسة المصرية العامة ،1963م
- أمراء البيان : محمد كرد علي ، بيروت ، دار الأمانة ، مطابع دار الكتاب ط 3 1969
- الإيضاح في علوم البلاغة الخطيب القزويني ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني ،
- بحوث في قصص القرآن : عبد الحافظ عبد ربه ، دار الكتاب اللبناني ،دط ، دت
- البرهان في علوم القرآن : الزركشي ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ،بيروت ، دار المعرفة ، الطعة الثانية ،1972م
- البيان العربي : بدوي طبانة ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو ،
- تاج العروس من جواهرالقاموس السيد محمد مرتضى الزبيدي ، بيروت ، دار صادر ، دط ، 1966م
- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر : عبد العظيم بن عبد الواحد بن أبي الإصبع العدواني . تحقيق :حنفي محمد شرف ، مصر ، الطبعة - 1، 1936
- التصوير البياني : محمد أبو موسى ، القاهرة ، مكتبة وهبة ،
- تفسير ابن كثير : اسماعيل بن عمر بن كثير . بيروت . دار الفكر ،
- تفسير أبي السعود : محمد بن محمد العمادي أبي السعود ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ،
- تفسير الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير ، بيروت ، دار المعرفة ، 1989م
- تفسير الكبير : فخر الدين الرازي ، ت عبد الرحمن محمد ، مصر ، المطبعة البهية المصرية ، 1938م
- الجامع لأحكام القرآن : القرطبي ، أحمد عبد العليم البردوني، القاهرة ، دار الشعب الطبعة الثانية ،
- الجدول في إعراب القرآن صرفه وبيانه : محمود صافي ، دمشق ، دار الرشيد
- درة التنزيل وغرة التأويل : الخطيب الإسكافي ، برواية ابن أبي الفرج الادرستاني ، بيروت ، دار الآفاق ،الطبعة الثانية ، 1977م(1/108)
- دروس وعظات وعبر في قصة يوسف عليه السلام : عبد الرحمن عبد القادر المعلمي ، الإسكندرية ، دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ، دار القمة لتوزيع الكتاب ، الطبعة الأولى ، 2003 ،
- دلائل الإعجاز في علم المعاني : عبد القاهر الجرجاني: شرح وتعليق :د. محمد عبد المنعم خفاجي : حققه وضبطه وعلق عليه :محمد رضوان مهنا ،المنصورة ، مكتبة الإيمان ،دط ،دت ،
- دلائل النبوة ومعجزات الرسول : عبد الحليم محمود ، دار الشعب ،1984م
- روح الدين الإسلامي عفيف بد الفتاح طبارة ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1984م
- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني : الألوسي ،بيروت ، دار إحياء الترث العربي
- سيكلوجية القصة في القرآن : التهامي نقرة ، تونس ، الدار التونسية للتوزيع ، الطبعة الثانية ، 1987
- شرح أهدى سبيل إلى علمي الخليل العروض والقافية : محمود مصطفى ، بيروت ،
- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى : صنعة أبي العباس أحمد بن يحي بن زيد الشيباني ثعلب ، القاهرة ، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية ، 2003ف
- الصحاح : اسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر،
- صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني . بيروت ، دار القرآن الكريم ،
- العلم طريق الإيمان : للشيخ عبد المجيد الزنداني
- علوم البلاغة البيان المعاني البديع : أحمد محمد المراغي ، المكتبة المحمودية ،دت
- علوم القرآن : عدنان زرزور ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1981م
- العمدة في محاسن الشعر ونقده : ابن رشيق ، بيروت ، دار الجيل ،
- الفن القصصي : محمد أحمد خلف الله ، مكتبة النهضة
- الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان : ابن قيم الزوجية ، بيروت ، مكتبة الهلال ،
- القرآن العظيم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين : محمد الصادق عرجون ، القاهرة ، مكتبة الكليات الأزهرية ، 1966م
- القرآن الكريم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين : محمد الصادق عرجون ، مكتبة الكليات الأزهرية(1/109)
- القرآن معجزة العصور: محمد عبد المنعم خفاجي ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1988م
- القرآن نظرة عصرية جديدة : عبد المنعم الجداوي ،القاهرة ، دت
- القرآن والشعر : دلال عباس . بيروت ، دار المواسم للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، 2000م
- قصة يوسف عليه السلام في القرآن دراسة أدبية : محمد رشدي عبيد ، الرياض ، مكتبة العبيكان ، الطبعة الأولى ، 2003م ،
- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح: أحمد موسى سالم ، بيروت ، دار الجيل ، دت
- القصص القرآني : عبد الكريم خطيب ، دار الفكر العربي
- الكتاب : سيبويه : تحقيق عبد السلام هارون ، مصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، دط ، 1973،
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : أبو القاسم جار الله الزمخشري . شرحه وضبطه وراجعه يوسف الحمادي ، مصر ، مكتبة مصر ،دط ، دت ،
- لسان العرب : ابن منظور ،القاهرة ، دار الحديث ،دط ،2003م
- معترك الأقران في إعجاز القرآن : السيوطي ، دار الكتب العربية ،
- المعلقات العشر وأخبار شعرائها : أحمد الأمين الشنقيطي . القاهرة ، المكتبة الأزهرية للتراث ،
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : ابن هشام .تحقيق ح.الفاخوري ، بيروت ، دارالجيل ، الطبعة الأولى ، 1991م
- مناهج بلاغية : أحمد مطلوب ، الكويت ، وكالة المطبوعات ، 1973م
- مناهل العرفان من علوم القرآن محمد عبد العظيم الزرقاني ، القاهرة ، المطبعة الفنية ، دت
- موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم : عبد الرحيم مارديني ، دمشق ، دار المحبة ، بيروت ، دار آية ، الطبعة الأولى ،2004م ،
- موسيقى الشعر : إبراهيم أنيس ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1978م
- يوسف في القرآن: أحمد ماهر ، الإسكندرية ، 1971م
المحتويات
ت ... الموضوع ... الصفحة
1 ... إهداء . . . . . . . . . . . . . . . . ... 2
2 ... تقديم . . . . . . . . . . . . . . . . ... 3(1/110)
3 ... المقدمة . . . . . . . . . . . . . . . . ... 5
4 ... الفصل الأول : الأعجاز القرآني . . . . . . . . . ... 9
5 ... الإعجاز لغة . . . . . . . . . . . . . . ... 10
6 ... الإعجاز القرآني. . . . . . . . . . . . . . ... 19
7 ... اختلاف العلماء في الاستدلال على وجوه الإعجاز القرآني . . ... 26
8 ... وجوه الإعجاز القرآني. . . . . . . . . . . . ... 29
9 ... آراء متفرقة في وجوه الإعجاز. . . . . . . . . ... 33
10 ... صور الإعجاز القرآني . . . . . . . . . . . . ... 42
11 ... الإعجاز العلمي للقرآن . . . . . . . . . . . . ... 46
12 ... صور من الإعجاز العلمي للقرآن . . . . . . . . . ... 46
13 ... إحساس الجلد . . . . . . . . . . . . . . ... 46
14 ... توازن الأرض . . . . . . . . . . . . . . ... 46
15 ... أغشية الجنين . . . . . . . . . . . . . . . ... 48
16 ... المياه الجوفية . . . . . . . . . . . . . . . ... 48
17 ... المياه الحلوة والمالحة . . . . . . . . . . . . . ... 49
18 ... الفصل الثاني : القصص القرآني . . . . . . . . . ... 51
19 ... المعنى اللغوي للقصص . . . . . . . . . . . . ... 52
20 ... جماليات وحقيقة القصص القرآني . . . . . . . . . ... 54
21 ... مقاصد وأغراض القصص القرآني . . . . . . . . . ... 56
22 ... مقارنة السرد القصصي بين القرآن الكريم والعهد القديم . . ... 60
23 ... بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام . . . . ... 62
24 ... أثر قصة يوسف في الأدب والشعر . . . . . . . . . ... 64
25 ... الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف في القرآن . . . . . . ... 67
26 ... مستويات قصة يوسف . . . . . . . . . . . . ... 69
27 ... أولاً : مستوى الرؤيا . . . . . . . . . . . . . ... 69
28 ... المرحلة الأولى : رؤيا يوسف عليه السلام . . . . . . ... 69(1/111)
29 ... المرحلة الثانية : رؤيا فتى السجن الأول . . . . . . . ... 70
30 ... المرحلة الثالثة : رؤيا فتى السجن الثاني . . . . . . . . ... 70
31 ... المرحلة الرابعة : رؤيا الملك . . . . . . . . . . ... 71
32 ... ثانياً : مستوى الحيلة . . . . . . . . . . . . . ... 73
33 ... حيلة أخوة يوسف . . . . . . . . . . . . . ... 73
34 ... حيلة امرأة العزيز الأولى . . . . . . . . . . . ... 74
35 ... حيلة امرأة العزيز الثانية . . . . . . . . . . . ... 74
36 ... حيلة يوسف عليه السلام . . . . . . . . . . . . ... 74
37 ... ثالثاً : مستوى الرمز . . . . . . . . . . . . . ... 75
38 ... شخصيات قصة يوسف . . . . . . . . . . . . ... 77
39 ... الفصل الثالث صور الإعجاز في قصة يوسف . . . . . ... 80
40 ... الإعجاز البلاغي . . . . . . . . . . . . . ... 81
41 ... القرآن الكريم والأوزان العروضية . . . . . . . . ... 113
42 ... موافقة بعض الآيات من سورة يوسف لأوزان الشعر العربي ... 113
43 ... أوزان الشعر . . . . . . . . . . . . . . ... 113
44 ... بحر الرمل . . . . . . . . . . . . . . . ... 115
45 ... بحر المديد . . . . . . . . . . . . . . . ... 116
46 ... التكرار في قصة يوسف. . . . . . . . . . . . ... 117
47 ... ذكر العلم في سورة يوسف . . . . . . . . . . . ... 117
48 ... ذكر لعل . . . . . . . . . . . . . . . . ... 122
49 ... ذكر تالله . . . . . . . . . . . . . . . . ... 122
50 ... ذكر يوسف . . . . . . . . . . . . . . ... 123
51 ... ذكر القميص. . . . . . . . . . . . . . . ... 125
52 ... ذكر الرؤيا . . . . . . . . . . . . . . . ... 126
53 ... ثنائيات في سورة يوسف . . . . . . . . . . . ... 128
54 ... الخاتمة . . . . . . . . . . . . . . . . ... 130
55 ... المصادر والمراجع . . . . . . . . . . . . . ... 133(1/112)
56 ... الفهرس . . . . . . . . . . . . . . . . ... 138(1/113)